تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن
الثعلبي
الجزء الأول
[الجزء الأول] ترجمة الثعلبي (ت 427 هـ- 1035 م) هو أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري، اقترن واشتهر اسمه باسم تفسيره، حتى عرف تفسيره باسم (تفسير الثعلبي) والذي هو في الحقيقة (الكشف والبيان في تفسير القرآن) وبسبب كثرة شيوع الكتاب وانتشاره في البلدان ولسهولة النسبة لمؤلفه سمّي بالأول، وترجم له كثير من أصحاب التراجم والسير في كتبهم، منهم: ابن خلكان في «وفيات الأعيان» (1/ 79- 80) : أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، النيسابوري، المفسّر المشهور، كان أوحد زمانه في علم التفسير، وصنّف (التفسير الكبير) الذي فاق غيره من التفاسير، وقال السمعاني: يقال له: الثعلبي والثعالبي وهو لقب لا نسب، روى عن جماعة، وكان حافظا عالما بارعا في العربية موثّقا، أخذ عنه أبو الحسن الواحدي، وقد جاء عن أبي القاسم القشيري قال: رأيت ربّ العزّة في المنام وهو يخاطبني وأخاطبه، فكان في أثناء ذلك أن قال الربّ جلّ اسمه: أقبل الرجل الصالح، فالتفّت فإذا أحمد الثعلبي مقبل. وذكره عبد الغفار بن إسماعيل الفارسي في (تاريخ نيسابور) وأثنى عليه وقال: وهو صحيح النقل موثوق به، حدّث عن أبي طاهر بن خزيمة، والإمام أبي بكر بن مهران المقرئ، وكان كثير الحديث كثير الشيوخ، توفّى سنة سبع وعشرين وأربعمائة. الصفدي في «الوافي بالوفيات» (7: 307 ترجمة 3299) : أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق النيسابوري الثعلبي صاحب التفسير، كان أوحد زمانه في علم القرآن، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء، وذكر ما تقدم. ياقوت في «معجم الأدباء» (5: 36/ 5) : المفسّر، صاحب الكتاب المشهور بأيدي الناس، المعروف بتفسير الثعلبي، مات- فيما ذكره عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري، ونقلته من حاشية كتاب «الإكمال» لابن ماكولا، في محرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، فقال: أبو إسحاق الثعلبي المفسّر، جليل، خراساني، وذكر وفاته. وذكره عبد الغفّار في السياق فقال: أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي،
ابن كثير في"البداية والنهاية" (12/ 43) :
المقرئ، المفسّر، الواعظ، الأديب، الثقة، الحافظ، صاحب التصانيف الجليلة، من التفسير الحاوي أنواع الفرائد، من المعاني والإشارات، ولكمال أرباب الحقائق، ووجوه الإعراب والقراءات، ثم كتاب العرائس والقصص، وغير ذلك ممّا لا يحتاج إلى ذكره لشهرته، وهو صحيح النقل موثوق به، حدّث عن أبي طاهر بن خزيمة، وأبي بكر بن مهران المقرئ، وأبي بكر بن هانئ، وأبي بكر بن الطرّازي، والمخلدي، والخفاف، وأبي محمد بن الرومي، وطبقتهم. وهو كثير الحديث، كثير الشيوخ- وذكر وفاته كما تقدم-. قال: وسمع منه الواحدي التفسير وأخذه منه، وأثنى عليه، وحدّث عنه بإسناد رفعه إلى عاصم، قال: الرياسة بالحديث رئاسة نذلة، إن أصحّ الشيخ وحفظ وصدق فاحمى، قالوا: هذا شيخ كيّس. وإذا وهم قالوا: شيخ كذّاب. وله كتاب ربيع المذكّرين. ابن كثير في «البداية والنهاية» (12/ 43) : أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي: ويقال الثعلبي أيضا، وهو لقب وليس بنسبة، النيسابوري المفسر المشهور، له التفسير الكبير، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء (عليهم السلام) وغير ذلك، وكان كثير الحديث واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شيء كثير، وذكره عبد الغفار بن إسماعيل الفارسي في تاريخ نيشابور وأثنى عليه وقال: هو صحيح النقل موثوق به، توفّي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقال غيره: توفّي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم منها، ورؤيت له منامات صالحة (رحمه الله) ، وقال السمعاني: ونيسابور كانت مغصبة «1» فأمر سابور الثاني ببنائها مدينة. السبكي في «طبقات الشافعية الكبرى» (4: 58- 59/ ترجمة 267) : أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق النيسابوري الثعلبي: صاحب التفسير، كان أوحد زمانه في علم القرآن، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء (عليهم السلام) ... إلى أن قال: روى عن أبي طاهر محمد بن الفضل بن خزيمة، وأبي محمد المخلدي، وأبي بكر بن هانئ، وأبي بكر بن مهران المقرئ، وجماعة. وعنه أخذ أبو الحسن الواحدي، ثم ذكر رؤيا القشيري ... ، ومن شعر الثعلبي: وإنّي لأدعو الله والأمر ضيّق عليّ فما ينفكّ أن يتفرّجا وربّ فتى سدّت عليه وجوهه أصاب له في دعوة الله مخرجا توفّي في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
ابن العماد الحنبلي في"شذرات الذهب" 2/ 230:
ابن العماد الحنبلي في «شذرات الذهب» 2/ 230: سنة سبع وعشرين وأربعمائة: فيها توفّي أبو إسحاق الثعالبي أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري المفسّر، روى عن أبي محمد المخلدي وطبقته من أصحاب السراج، وكان حافظا واعظا، رأسا في التفسير والعربية، متين الديانة، قاله في العبر، وقال ابن خلكان: كان أوحد زمانه في علم التفسير، وصنّف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء وغير ذلك ... ثم ذكر قول السمعاني. القفطي في إنباه الرواة على أنباه النحاة (1: 154/ ترجمة 59) : أحمد بن محمد بن إبراهيم الأستاذ أبو إسحاق الثعالبي. ويقال: الثعلبي، المقرئ، المفسّر، الواعظ، الأديب، الثقة، الحافظ، صاحب التصانيف الجليلة، العالم بوجوه الإعراب والقراءات، توفّي سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وله (التفسير الكبير) و (العرائس) في قصص الأنبياء، ونحو ذلك. وسمع منه الواحدي التفسير، وأخذ عنه. ثم ذكر ما قاله القشيري. الزركلي في «الأعلام» (1/ 212) : أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق، مفسّر، من أهل نيسابور، له اشتغال بالتاريخ، من كتبه (عرائس المجالس) في قصص الأنبياء، و (الكشف والبيان في تفسير القرآن) يعرف بتفسير الثعلبي. كحالة في «معجم المؤلفين» (2/ 60) : أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري (أبو إسحاق) مفسّر، مقرئ، واعظ، أديب، توفّي لسبع بقين من المحرم، من تصانيفه: «الكشف والبيان عن تفسير القرآن» ، «العرائس في قصص الأنبياء» ، و «ربيع المذكرين» . التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه ألقى مؤلف هذا التفسير ضوءا عليه في مقدمته، وأوضح فيها عن منهجه وطريقته التي سلكها فيه، فذكر أولا اختلافه منذ الصغر إلى العلماء، واجتهاده في الاقتباس من علم التفسير الذي هو أساس الدين ورأس العلوم الشرعية، ومواصلته ظلام الليل بضوء الصباح بعزم أكيد وجهد جهيد، حتى رزقه الله ما عرف به الحق من الباطل، والمفضول من الفاضل، والحديث من القديم، والبدعة من السنّة، والحجة من الشبهة، وظهر له أن المصنفين في تفسير القرآن فرق على طرق مختلفة:
فرقة أهل البدع والأهواء، وعدّ منهم الجبائي والرماني. وفرقة من ألّفوا فأحسنوا، إلّا أنّهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السلف الصالحين، وعدّ منهم أبا بكر القفال. وفرقة اقتصر أصحابها على الرواية والنقل دون الدراية والنقد، وعدّ منهم أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي. وفرقة حذفت الإسناد الذي هو الركن والعماد، ونقلت من الصحف والدفاتر، وحررت على هوى الخواطر، وذكرت الغث والسمين، والواهي والمتين، قال: وليسوا في عداد العلماء، فصنت الكتاب عن ذكرهم. وفرقة حازوا قصب السبق في جودة التصنيف والحذق، غير أنهم طوّلوا في كتبهم بالمعادات، وكثرة الطرق والروايات، وعدّ منهم ابن جرير الطبري. وفرقة جردت التفسير دون الأحكام وبيان الحلال والحرام، والحل عن الغوامض والمشكلات، والرد على أهل الزيغ والشبهات، كمشايخ السلف الماضين، مثل مجاهد والسدي والكلبي. ثم بيّن أنّه لم يعثر في كتب من تقدمه على كتاب جامع مهذب يعتمد عليه، ثم ذكر ما كان من رغبة الناس إليه في إخراج كتاب في تفسير القرآن وإجابته لمطلوبهم، رعاية منه لحقوقهم، وتقربا به إلى الله سبحانه وتعالى ... ثم قال: ثم استخرت الله تعالى في تصنيف كتاب، شامل، مهذّب، ملخّص، مفهوم، منظوم، مستخرج من زهاء مائة كتاب مجموعات مسموعات، سوى ما التقطته من التعليقات والأجزاء المتفرقات، وتلقفته عن أقوام من المشايخ الأثبات، وهم قريب من ثلاثمائة شيخ، نسقته بأبلغ ما قدرت عليه من الإيجاز والترتيب. ثم قال: وخرّجت فيه الكلام على أربعة عشر نحوا: البسائط والمقدمات، والعدد والترتيلات، والقصص والروايات، والوجوه والقراءات، والعلل والاحتجاجات، والعربية واللغات، والإعراب والموازنات، والتفسير والتأويلات، والمعاني والجهات، والغوامض والمشكلات، والأحكام والفقهيات، والحكم والإشارات، والفضائل والكرامات، والأخبار والمتعلقات. أدرجتها في أثناء الكتاب بحذف الأبواب، وسمّيته (كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن) . ثم ذكر في أول الكتاب- كما يأتي- أسانيده إلى من يروي عنهم التفسير من علماء السلف، واكتفى بذلك عن ذكرها في أثناء الكتاب، كما ذكر أسانيده إلى مصنّفات أهل عصره-
وهي كثيرة- وكتب الغريب والمشكل والقراءات، ثم ذكر بابا في فضل القرآن وأهله، وبابا في معنى التفسير والتأويل، ثم شرع في التفسير. والحق أنّ هذا التفسير من التفاسير المعتبرة، حيث فسّره بما جاء عن السلف مع اختصاره للأسانيد، اكتفاء بذكرها في مقدمة الكتاب، وأنّه يعرض للمسائل النحوية ويخوض فيها بتوسّع ظاهر، كما في الآية (90) من سورة البقرة عند ذكر نعم وبئس. كما أنّه يعرض لشرح الكلمات اللغوية وأصولها وتصاريفها، ويستشهد على ما يقول بالشعر العربي، فمثلا عند ما يصل إلى تفسير الآية (171) من سورة البقرة نجده يحلل كلمة (ينعق) تحليلا دقيقا ويصرفها على وجوهها كلها. وهكذا عند تفسير الآية (173) من السورة نفسها يحلل لفظ (البغي) ويتكلم عن أصل المادة بتوسّع. ويتوسع في الكلام عن الأحكام الفقهية عند ما يتناول آية من آيات الأحكام، فتراه يذكر الأقوال والخلافات والأدلة ويتعرض للمسألة من جميع نواحيها. فمثلا عند تفسير الآية (11) من سورة النساء فإنّه يفيض في الكلام عمّا يفعل بتركة الميّت بعد موته، ثم يذكر جملة الورثة والسهام المحددة، ومن فرضه الربع، ومن فرضه الثمن، والثلثان، والثلث، والسدس ... وهكذا، ثم يعرض لنصيب الجدّ والجدّة والجدّات، ثم يقول بعد هذا: فصل في بساط الآية، وفيه يتكلم عن نظام الميراث عند الجاهلية وقبل مبعث الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ونجده عند تفسير الآية (24) من سورة النساء يتوسع في نكاح المتعة ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم بتوسع ظاهر. وعند ذكر الآية (31) من سورة النساء فإنّه يقول: (فصل في أقاويل أهل التأويل في عدد الكبائر، مجموعة من الكتاب والسنّة، مقرونة بالدليل والحجة) ثم يسردها جميعا ويذكر أدلتها على وجه التفصيل. وعند تفسير الآية (43) من سورة النساء فإنّه يعرض أقوال السلف في معنى (اللمس والملامسة) ثم يقول: واختلف الفقهاء في حكم الآية على خمسة مذاهب. ويتوسع على الخصوص في بيان مذهب الشافعي ويسرد أدلته ويذكر تفصيل كيفية الملامسة عنده، كما يعرض لأقوال العلماء في التيمم ومذاهبهم وأدلتهم بتوسع ظاهر عند ما يتكلم عن قوله تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.
وذكر فضائل أهل البيت رضي الله عنهم عند ذكر الآيات النازلة في حقّهم، وبالخصوص الآيات النازلة في حق علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه عن السلف الصالح. وهكذا يتطرق الكتاب إلى نواح علمية متعددة لا يكاد يجدها القارئ في كتاب تفسيري آخر. وكان هذا التفسير ولا زال مصدرا من المصادر الإسلامية التي يرجع إليها حتى عند كثير من المفسرين، وأهل التاريخ والحديث وغيرهم.
علمنا في التفسير
علمنا في التفسير اعتمدنا في تحقيق التفسير (الكشف والبيان) على أربعة نسخ: الأولى من أول القرآن الكريم الى آخره سورة الكهف وهي مصورة عن مكتبة جستربيتي دبلين في إيرلندا الجنوبية تحت رقم (3617) ، وخطها قديم جدا وفيها سقط ومسح كثير. والثانية: نسخة مصورة عن مخطوطة المرعشي في قم تحت رقم (426) من أول سورة الكهف الى آخر القرآن، باستثناء آخر سورة الرحمن وسورة الواقعة وبداية الحديد، وخطها أفضل من الأولى، مع وجود بعض الكلام غير المقروء. والنسخة الثالثة مصورة عن مخطوطة دار الكتب الظاهرية بدمشق الرقم (7881) يعود كتابتها إلى القرن الحادي عشر، وتحتوي على الجزء الثالث وقسم من الجزء الخامس من التفسير، وأخذنا منها نهاية سورة الرحمن وسورة الواقعة وبداية سورة الحديد. ومن هذه النسخ الثلاثة لفّقنا نسخة الأصل واعتمدنا على إخراج هذا الكتاب. والنسخة الرابعة غير كاملة، من آية 18 من سورة الكهف الى آية 69 من سورة المؤمن (غافر) ، مصورة عن مكتبة أصفهان، وهي واضحة الألفاظ وبخط جيد نسبيا، يعود كتابتها إلى سنة 1100 هـ تقريبا، وقد أشرنا إليها في الهامش عند وجود التفاوت بينها وبين النسخة الكاملة الملفقة. وواجهتنا مشكلة لقدم المخطوط، وهي أسماء رجال السند المتشابهة، وحاولنا حلها من كتب الرجال، والتفاسير التي تذكر الأسانيد. مع وجود كلام كبير غير المقروء أو بياض في نسخة الأصل وبعض النسخ الأخرى، حاولنا تكملته من المصادر التي نقل عنها الثعلبي، أو المصادر التي نقلت عنه، كتفسير ابن جرير الطبري وتفسير القرطبي وتفسير ابن كثير، وزاد المسير لابن الجوزي وغيرها من التفاسير، وكالكتب التي تحدثت عن علوم القرآن ككتاب البرهان وأحكام القرآن للجصاص وللنحاس والإحكام لابن حزم. كما وكنا نعرض الحديث الشريف وأقوال الصحابة على كتب الحديث والصحاح والمعاجم لضبط النص وتخريجه. وأما الأشعار فكانت فيها صعوبة واضطراب، من ناحية الوزن والضبط، حاولنا بالاستفادة
من بعض الشعراء لحلّ قسم منها، وحاولنا من بعض التفاسير وكتب اللغة والمعاجم حلّ القسم الآخر. وأما الألفاظ المبهمة فضبطناها وشرحناها من كتب اللغة والتفاسير الأخرى. كما وعرضنا الآيات القرآنية المستشهد بها على المصحف الشريف وخرّجناها منه. (كلمة شكر:) هذا ونشكر كل من ساهم في إنجاز هذا العمل المتواضع أمثال الأخ السيد محمد الموسوي الناصري والمحقق الأخ العزيز الشيخ ماجد العطية، والأخ المحقق الشيخ أبو علي فرج الله، والأخ كريم راضي الواسطي، والأخ الشيخ أبو مسلم الساعدي وغيرهم من الإخوة الأفاضل. ونخصّ بالشكر سماحة السيد محمد رضا الجلالي وسماحة السيد الأبطحي والشيخ محمد باقر المحمودي الذين كانت لهم يد العون في الحصول على بعض صور المخطوط. والحمد لله رب العالمين علي عاشور
مقدمة المصنف
مقدمة المصنف كتاب الكشف والبيان للإمام الهمّام أستاذ الأساتذة أبو إسحاق أحمد المعروف بالإمام الثعلبي. وهذه النسخة الشريفة في غاية الصحة، والإمام المذكور علم في اللغات والأدبيّات والسمعيّات والتصوّف حتى إنّه (قدس سره) كان معاصرا للسلمي صاحب الطبقات وأخذ عنه التصوّف والحديث لأنّه (قدس سره) كان من كبار المحدّثين، كما أنّه من كبار الصوفيّة. وأنا الفقير إلى الله الغني عبد الله بن عثمان بن موسى المعروف بمسنجر زاده ناله الحسنى وزاده بمنّه وكرمه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ أعن وتمّم قال الأستاذ الإمام أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي (رضي الله عنه) : بحمد الله يفتتح الكلام، وبتوفيقه يستنجز المطلب والمرام، ونسأله أن يصلّي على محمد خير الأنام، وعلى آله الكرام وأصحابه نجم الظلام [بحقّ] الملك السلام. أما بعد: فإنّ الله عزّ وجلّ أكرمنا بكريم كتابه وأنعم علينا بعظيم [مطلبه] في القرآن، وجعله مهيمنا على الكتب والأديان، أمر فيه بالحكمة وزجر وأعذر الحجّة وأنذر. ثم لم يرض منا [نسخه] ولا إقامة كلماته دون العمل بمحكماته ولا تلاوته وقراءته دون تدبّر آياته والتفكر في بيناته، وتعلّم حقائقه ومعانيه، وتفهّم دقائقه ومبانيه فقيّض له رجالا موفقين حتّى صنّفوا فيه المصنّفات، وجمعوا علومه المتفرّعات. وإني مذ فارقت المهد إلى أن بلغت الأشدّ اختلفت إلى ثقات الناس، واجتهدت في الاقتباس من هذا العلم الذي من الدين أساس والعلوم الشرعية الرأس. «1» .. الظلام بالضياء
والصباح ... العزم ... «1» .. حتّى رزقني الله تعالى- وله الحمد- من ذلك ما عرفت به الحقّ من الباطل، والمفضول من الفاضل، والصحيح من السقيم، والحديث من القديم، والبدعة من السنة، والحجّة من الشبهة. فألفيت المصنّفين في هذا الباب فرقا على طرق: فرقة منهم أهل البدع والأهواء وفرقة المسالك والآراء مثل البلخي والجبائي والأصفهاني والرماني، وقد أمرنا بمجانبتهم وترك مخالطتهم، ونهينا عن الاقتداء بأقوالهم وأفعالهم فاختاروا ممّن تأخذون دينكم، وفرقة ألّفوا وقد أحسنوا غير أنّهم خلطوا أباطيل المبتدعين بأقاويل السلف الصالحين كما جمع بين ... «2» .. لاسفدوانية مثل أبي بكر القفال وأبي حامد المقري. وهما من الفقهاء الكبار، والعلماء الخيار، ولكن لم يكن التفسير حرفتهم، ولا علم التأويل صنعتهم ولكل عمل رجال، ولكل مقام مقال. وفرقة اقتصروا على الرواة والنقل دون الدراية والنقد مثل الشيخين أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وأبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق الأنماطي. وبياع الدواء محتاج إلى الأطبّاء. وفرقة حرّموا الأسناد الذي هو الركن والعماد، وتملّكوا الصحف والدفاتر وجهدوا على ما هو بين الخواطر، وذكروا الغثّ والسمين، والركيك والمتين، وليسوا في عداد العلماء فصنت الكتاب عن فكرهم، والقراءة والعلم سنة يأخذها الأصاغر عن الأكابر. ولولا الاسناد لقال من شاء ما شاء. وفرقة حازوا قصب السبق في عمدة التصنيف والحذق، غير أنّهم طوّلوا كتبهم بالمعادات، وكثرة الطرق والروايات، وحشوها بما منه بدّ، فقطعوا عنها طمع المسترشد مثل الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وشيخنا أبي محمد عبد الله بن حامد الأصفهاني. وازدحام العلوم مضلّة للفهوم. وفرقة جرّدوا التفسير دون الأحكام، وبيان الحلال من الحرام، والحل عن الغوامض والمشكلات، والرد على أهل الزيغ والشبهات كمشايخ السلف الصالحين، والعلماء القدماء من التابعين وأتباعهم مثل مجاهد ومقاتل، والكلبي والسدّي، ولكل من أهل الحقّ فيه غرض محمود وسعي مشكور. فلما لم أعثر في هذا الشأن على كتاب جامع مهذّب يعتمد في علم القرآن عليه.. «3» ..، ورأيت رغبة الناس عن هذا العلم ظاهرة، وهممهم عن البحث فيه قاصرة، وطباعهم عن النظر في البسائط نافرة، وانضاف إلى ذلك سؤال قوم من المبرزين، والعلماء المحصّلين، والرؤساء
هذه أسماء الكتب التي عليها مباني كتابنا هذا
المحشمين، أردت إسعافهم ... بهم ورعاية معرفتهم فصرنا إلى الله عزّ وجلّ ... لبعض موجبات شكره، فإن شكر العلم نشره، وزكاته إنفاقه [ف] استخرت الله تعالى في تصنيف كتاب شامل كامل، مهذب ملخّص، مفهوم منظوم، مستخرج من [نيف و] مائة كتاب مجرّبات مسموعات، سوى ما التقطته من التطبيقات، والأجزاء المتفرّقات وتلقّفنه عن أقوام من المشايخ، وهم قريب من ثلاثمائة مستمع فسقته بأبلغ ما صرت عليه من ... «1» .. والترتيب، وسعة الإثبات بغاية التنسيق والترتيب وسيبقى لكلّ مؤلّف كتابا في فن قد سيق إليه أن لا يعدم كتابة بعض الخلال التي أنا ذاكرها إمّا استنباط شيء إن كان مقفلا أو جمعه إن كان متفرّقا، أو شرحه إن كان غامضا، أو حسن نظم تأليفه، أو إسقاط شيء وتطويل. وأرجو أن لا يخلو هذا الكتاب عن هذه الخصال التي ذكرتها والله الموفّق لما نويت وقصدت. وخرّجت الكلام فيه على أربعة وعشرين نحوا: البسائط، والمقدّمات، والعدد، والترتيلات، والقصص، والروايات، والوجوه والقراءات، والعلل، والإحتجاجات، والعربية، واللغات، والإعراب، والموازنات، والتفسير، والتأويلات والمعاني، والجهات، والغوامض، والمشكلات، والأحكام، والفقهيات، والإشارات، والفضائل، والكرامات، والأخبار والمتعلقات أدرجتها في أثناء الكتاب، بحذف الأبواب، وسمّيته «كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن» ، والله المستعان، وعليه التكلان. وهذه أسماء الكتب التي عليها مباني كتابنا هذا [أذكرها] «2» لئلّا نحتاج إلى تكرار الأسانيد وبالله التوفيق. [تفاسير القدماء] [تفسير ابن عباس] التفسيران المنصوصان عن ابن عباس (رضي الله عنه) وهو الجفر والنقاب، والإمام والقدوة في علم الكتاب، وهو ترجمان القرآن، وحبر هذه الأمّة وربانيهم [وقد] دعا [له] رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «اللهم علّمه التأويل، وفقّهه في الدين» «3» [1] . فأجاب الله تعالى فيه دعاءه حتى صار علما في العلم (رضي الله عنه) . .. «4» .. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الطيّب، وأبو محمد عبد الله بن حامد، وأبو القاسم الحسن ابن محمد قالوا: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن عبدوس الطرائفي قال: حدّثنا عثمان بن سعيد الدارمي قال: حدّثنا عبد الله بن صالح حدّثه عن علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس (رضي الله عنه) ....
تفسير عكرمة:
أخبرنا الإمام أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب بقراءته عليّ قال: حدّثنا عبد الله بن محمد الثقفي قال: حدّثنا أبو جعفر المزني قال: حدّثنا محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطيّة بن سعد العوفي، قال: حدّثنا عمي الحسين بن الحسن، بن عطيّة بن سعد العوفي، قال: حدّثنا عمي الحسين بن الحسن بن عطيّة العوفي الكوفي عن ابن عباس (رضي الله عنه) . وأخبرنا محمد بن نعيم إجازة قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن كامل ببغداد، قال: حدّثنا محمد بن سعد العوفي، قال: حدثني عمّي، قال: حدثني أبي عن الحسن بن عطيّة عن ابن عباس (رضي الله عنه) . أخبرنا ابن فنجويه بقراءتي عليه في داري سنة ثمان وأربعمائة قال: أخبرنا أبو القاسم سليمان بن محمد بن أحمد الطبراني قال: حدّثنا أبو محمّد عبد الله بن محمد قال: حدّثنا عبد العزيز بن سعيد البرقي عن أبي محمد موسى بن عبد الرّحمن الصنعاني عن عبد الملك بن جريح ابن عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس (رضي الله عنه) . وعن موسى بن عبد الرّحمن عن مقاتل بن سليمان عن الضحّاك عن ابن عباس (رضي الله عنه) . تفسير عكرمة: حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسين النيسابوري لفظا قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الصريمي المروزي قال: حدّثنا أبو العباس أحمد بن جعفر الصيرفي قال: حدّثنا أبو داود سليمان بن معبد المنجي قال: حدثني علي بن الحسين بن وافد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس (رضي الله عنه) . طريق محمد بن الفضل: حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن أيّوب، قال: حدّثنا الحسن بن علي بن زياد قال: حدّثنا عبيد بن يعيش عن محمد بن الفضيل عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح المؤذّن مولى أمّ هانئ عن ابن عباس (رضي الله عنه) . وحدّثنا أبو القاسم الحسين قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب البوشنجي قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن معاذ المروزي، قال: حدّثنا عليّ بن الحسن بن عيسى عن محمد بن فضيل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (رضي الله عنه) . طريق يوسف بن بلال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن أحمد الشعبي المقري بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو الحسن بن محمد الورّاق سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد اللبّاد.
تفسير الكلبي:
إسناد آخر: وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله ابن محمد بن الحسين المعلّم قال: حدّثنا أحمد بن محمد القصّار. وحدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد بن هارون قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن اللبّاد قال: حدّثنا يوسف بن بلال السعدي قال: حدّثنا محمد بن مروان بن السدّي عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (رضي الله عنه) . طريق الحسن: حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر المفسّر لفظا: حدّثنا أبو سعيد نافع ابن محمد بن نافع بمرو الروذ، حدّثنا محمد بن عمران، حدّثنا محمّد بن المغيرة عن عمّار ابن عبد الجبار عن حيّان بن عليّ العبدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (رضي الله عنه) . تفسير الكلبي: أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد الأصفهاني بقراءتي عليه قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان البلخي، حدّثنا حيويه بن محمد حدّثنا صالح بن محمد النهدي من أوّل القرآن إلى سورة المجادلة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى «1» ، ومنها إلى آخر القرآن. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي البلخي قال: حدّثنا القاسم بن عبّاد قال: حدّثنا صالح بن محمد بإسناده سواء عن محمد بن هارون عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (رضي الله عنه) . حدّثنا وأخبرنا علي بن محمد بن سعيد الخطيب كتابة قال: حدّثنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسين السرخسي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، حدّثنا أبو بكر محمد بن علي المفسر المروزي، حدّثنا صالح بن محمد النهدي، وقد زاد فيه صالح أربعة آلاف حديث. تفسير مجاهد: طريق ابن أبي نجيح: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الأصفهاني: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن طه، حدّثنا عبد الله بن زكريا، حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعد الأموي، حدّثنا مسلم بن خالد الزنجي عن أبي نجيح عن مجاهد. قال: وحدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر لفظا: حدّثنا أبو زكريا يحيى بن محمد ابن عبد الله العنبري: حدّثنا محمد بن عبد السلام الورّاق: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي عن ورقاء بن أبي نجيح عن مجاهد.
طريق ابن جريج: أخبرنا القاسم بن أبي بكر المكتب، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد ابن محمّد البغدادي، حدّثنا المأمون بن أحمد، حدّثنا عبد الله بن الرماح عن الحجّاج بن محمد الجزري عن ابن جريج عن مجاهد. طريق ليث: حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو جعفر محمد بن سليمان ابن منصور. نا جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ، نا محمد بن حميد، نا جرير عن ليث عن مجاهد المكّي ... » ... طريق جويبر- وهو الكتاب الكبير المبسوط-: أخبرنا الإمام أبو القاسم الحسن بن محمد ابن جعفر قراءة، أنا أبو بكر جعفر بن محمد الزعفراني، نا إبراهيم بن عبد المؤمن عن محمد بن أبان بن علي بن أبان عن عبد الرّحمن بن جابر ويحيى بن آدم الأحول عن نصر بن مساور ابن أخي مصلح عن جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالي. طريق ابن الحكم: أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد الاصفهاني قال: وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي قال: نا عبد الله بن محمد بن الحسين الشريفي، نا أبو الأزهري، نا وهب بن جرير حدّثني شعبة قال: قرأ عليّ علي بن الحكم عن الضحاك. طريق عبيد: حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد السدوسي لفظا، نا أبو عمر أحمد بن محمّد، بسرخس، نا جعفر بن محمد بن سوار، نا أحمد بن جميل المروزي، نا أبو معاذ عن عبيد بن سليمان الباهلي عن الضحّاك. طريق أبي روق: نا الحسن بن محمد بن جعفر، نا أبو موسى عمران بن موسى بن الحسين، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق المهرجاني، نا يوسف ... «2» ..، أنا عمرو بن طلحة القناد عن أبيه عن أبي روق عن الضحّاك. طريق عطاء بن أبي رباح قال: نا أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري بقراءته عليه، أنا أبو عبد الله أحمد بن ياسين الجرّاح الطبري، وأبو الفرج أحمد بن محمد بن سنان النهاوندي قالا: أخبرنا بكر بن سهل بن إسماعيل الدمياطي، نا عبد الغني بن سعيد الثقفي عن أبي محمد موسى ابن عبد الرّحمن الصنعاني عن ابن جريج عن عطاء عن السدي. تفسير عطاء الخراساني: نا الحسين بن محمد بن الحسن، نا أبو الحسن محمد بن الحسين ابن نجد البغوي، نا أبو نعيم عبد الملك بن محمّد بن عديّ ببخارى، نا العباس بن الوليد بن
تفسير الحسن بن أبي الحسن:
مزيد البيروني، نا محمد بن شعيب بن سابور، أخبرني عطاء بن أبي مسلم الخراساني. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الضبّي فيما أجاز لي روايته عنه، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الله البغدادي، أخبرنا يحيى بن عثمان بن صالح عن يحيى بن بكر عن عبد الله بن لهيعة عن عطاء بن دينار. تفسير الحسن بن أبي الحسن: نا أبو القاسم الحسن بن محمد بن عبد الله المكتّب، نا أبي، نا أبو الحسن بن أحمد بن الصلت المعروف بابن شنبود المقري، نا سعيد بن محمد، نا السهل بن واصل عن أبي صالح عن محمد بن عبيد عن الحسن بن أبي الحسن البصري. طريق خارجة: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن، نا أبي، حدّثنا ابراهيم بن عليّ الذهلي، نا أبو خالد عن أبي صالح اليشكري عن أبي الحجّاج خارجة بن مصعب السرخسي عن سعيد بن عروبة عن قتادة بن دعامة السدوسي، وأخبرنا أبو الحسن علي بن أبي عبيد السرخسي الخطيب فيما كتب إليّ بخط يده: عبد الله بن محمد بن همام، نا أبو جعفر أحمد ابن محمد بن هاشم المروزي، نا المغيث بن بديل ابن أخت خارجة وختنه على ابنته، نا خارجة ابن مصعب، أنا سعيد بن عروبة عن قتادة، وزاد فيه خارجة: جهته مقدار ألف حديث. طريق شيبان: أخبرنا أبو محمد بن عبد الله بن حامد بن محمّد الأصفهاني بقراءتي عليه: أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الهروي: حدّثنا أبو يعقوب إسحاق بن محمد بن ميمون الحربي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد المرو الروذي، نا شيبان بن عبد الرّحمن النحوي عن قتادة. طريق معمر: نا أبو القاسم الحبيبي، أخبرنا أبو زكريا العنبري، نا جعفر بن محمد بن سواد نا محمّد بن نافع عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة. تفسير أبي العالية والربيع: نا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر، نا أبو عمرو أحمد بن محمد بن أبي منصور [السرخسي] بسرخس، نا أبو الحسن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم ابن مزين، نا أبو علي الحسن بن محمد بن موسى الأزدي عن عمار بن الحسن بن بشير الهمذاني عن عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع عن أنس عن أبي العالية الرياحي، أخبرنا عبد الله ابن حامد الوزّان، أخبرنا محمد بن جعفر السختياني، نا أبو العبّاس أحمد بن جعفر بن نصر الرازي، نا أحمد بن عبد الرّحمن، نا عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه. تفسير القرظي: نا الحسن بن محمد بن حبيب، نا أبو العباس محمد بن الحسن الهروي، نا رجاء بن عبد الله، أخبرنا مالك بن سليمان الهروي عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي. تفسير مقاتل بن حيّان: أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان بقراءتي عليه، وأبو عبد الله محمد
تفسير مقاتل بن سليمان:
ابن عبد الله الحافظ قالا: نا أحمد بن محمد بن عبدوس، نا إسماعيل بن قتيبة، وأبو خالد يزيد ابن صالح الفراء نا بكر بن معروف البلخي الأزدي: نا أبو معاذ عن مقاتل بن حيّان. وحدّثنا أبو الحسن محمد بن جعفر لفظا، نا عليّ بن محمد بن أحمد بن دلويه، نا أحمد ابن محمد بن يحيى الدهّان، نا محمد بن يزيد السلمي، نا حمّاد بن قيراط، وإبراهيم بن سليمان، وعمرو بن عبد الله بن رضين عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيّان. تفسير مقاتل بن سليمان: أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد المهرجاني، أخبرنا أبو محمّد عبد الخالق بن محمد بن الحسين الثقفي المعروف بابن أبي روبه من كتابه، نا عبد الله بن ثابت ابن يعقوب المقرئ أبو محمد، نا أبي، نا الهذيل بن حبيب أبو صالح بن بديل عن مقاتل بن سليمان عن ثلاثين رجلا منهم اثنان من التابعين. طريق التغلبي: أخبرنا أبو القاسم الجيلي، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن المأمون، نا أبو ياسين عمّار بن عبد المجيد [ ... ] «1» : نا إسحاق بن إبراهيم التغلبي عن مقاتل بن سليمان. طريق أبي عصمة، نا أبو القاسم الحبيبي، نا عبد الله بن أحمد بن الصدّيق، أخبرنا ابن أبي روبه، نا أحمد بن جميل عن عليّ بن الحسين بن واقد عن أبي عصمة عن مقاتل بن سليمان. طريق السدّي: أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر حدّثنا أبو محمّد عبد الله بن المبارك الشجري، أنا أحمد بن محمد بن نصر اللّباد، نا عمرو بن طلحة القنّاد عن أسباط عن السدي عن مقاتل. أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ فيما أجاز لي لفظا وخطّا: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن العبّاس الخطيب [السوسقاني المروزي، حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم] «2» ابن هلال، نا علي بن الحسن بن شفيق عن الحسين بن واقد. تفسير ابن جريح: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ إجازة، أخبرنا محمد بن خلف الصنعاني، نا علي بن محمّد المبارك الصنعاني، نا زيد «3» بن المبارك الصنعاني عن محمد بن ثور الصنعاني عن ابن جريح. تفسير سفيان: أخبرنا محمد بن حمرويه فيما أذن لي عنه، نا أبو بكر الشافعي، نا إسحاق ابن الحسن الحربي عن أبي حذيفة عن سفيان الثوري.
تفسير وكيع:
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قراءة عليه، أخبرنا محمد بن علي الطوسي أبو الحسن، نا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الديلي، نا أبو عبد الله سعد بن عبد الرّحمن المخزومي، نا سفيان ابن عيينة. تفسير وكيع: أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد بقراءتي عليه، أخبرنا يحيى بن محمد بن عبد الله بن العنبري نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يزيد بن خالد المروزي، نا أبو يعقوب يوسف بن عيسى المروزي مولى بني زهرة، نا وكيع بن الجرّاح. تفسير هشام بن بشير: أخبرنا محمد بن نعيم إجازة، أخبرنا محمد بن بطّة، نا عبد الله بن أحمد بن أسيد الأصفهاني، نا زناد «1» بن أيّوب عن هشام بن بشير. تفسير شبل: أخبرنا محمد بن نعيم إجازة، أخبرنا أبو سعد ... «2» .. بن مصعب الثقفي، نا الحسن بن المثنى، حدّثنا أبو حذيفة عن شبل بن عباد المكي. تفسير ورقاء: أخبرنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله الضبّي، أخبرنا.... «3» .. أبو القاسم بن أحمد بهمدان، أخبرنا إبراهيم بن الهيثم البلوي، نا آدم بن أبي إياس عن ورقاء بن عمر. تفسير زيد بن أسلم: أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن قراءة أخبرنا أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف بن سخبرة أنّ محمد بن جرير الطبريّ حدّثهم: نا يونس بن عبد الأعلى الصدفي، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه. تفسير روح بن عبادة: أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمد بن شعيب البيهقي، وأبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد الأصفهاني بقراءتي عليه، حدّثنا أبو حاتم مكيّ بن عبدان بن محمد التميمي، نا أبو الأزهري الأزهر بن منيع العبدي، نا روح بن عبادة العنسي. وأخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن علي بن زياد السمري، أخبرنا أحمد بن محمد ابن الحسن الشرقي، نا أبو الأزهر روح بن عبادة. تفسير الفراتي: أخبرنا أبو الحسن عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه النيسابوري وعبد الله بن حامد بن محمد بقراءتي عليهما قالا: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين ابن الحسن بن الخليل القطّان، نا أحمد بن يوسف السلمي حمدان، نا محمد بن يوسف الفراتي.
تفسير قبيصة:
تفسير قبيصة: أخبرنا أبو عمرو سعيد بن عبد الله بن سعد بن إسماعيل الحيري، وأبو محمد عبد الله بن حامد الأصفهاني قراءة عليهما قالا: أخبرنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري: نا أبو أحمد محمد بن عبد الوهّاب العبدي، نا أبو عامر قبيصة بن عقبة الكوفي. تفسير سعيد بن منصور: أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، نا أحمد بن نجدة بن العريان، حدّثنا سعيد بن منصور. تفسير النهدي: أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد الوزّان بقراءتي عليه في داره، أخبرنا محمد بن جعفر بن مضر [الميطري] «1» : أخبرنا جعفر بن محمد بن الليث أبو عبد الله الزيادي الجوهري بالبصرة، نا أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي. تفسير ابن وهب: أخبرنا محمد بن نعيم إجازة، أخبرنا محمد بن عبيد، نا عبد الله بن مسلم، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب القرشي. تفسير عبد الحميد: أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن، حدّثنا داود بن سليمان، نا عبد الحميد بن حميد إلى سورة (المطفّفين) ، ومنها إلى آخر القرآن، قال: أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن يوسف، حدّثنا عمر بن محمد ابن نجير، نا عبد الحميد بن حميد الكشي. تفسير محمد بن أيوب: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ إجازة، أخبرنا أبو عبد الله الخازن، نا محمد بن أيّوب الرازي. تفسير ابن كيسان: نا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري لفظا، أخبرنا أبو سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني الأنماري، حدّثنا عبيد الله بن محمد القاضي، حدّثنا الفضل بن عباس بن مهران عن علي بن مسلم الطوسي قال: قرأت على أصحاب عبد الرّحمن بن كيسان أبي بكر الأهتم، ثم عد تفسيره بالتمام. تفسير أبي حمزة الثمالي: نا أبو أحمد محمد بن أحمد بن شاذان الرازي بقراءتي عليه في مرو سنتي ثمان وتسع وثمانين وثلاثمائة فأقرأنيه قال: أخبرنا أبو محمد عبد الرّحمن بن أبي حاتم الرازي، حدّثنا أبو سعيد عبد الله بن سعيد الكندي الأشج، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي بعض الكتاب بقراءتي عليه، فأجاز لي بالباقي لفظا وخطّا، حدّثنا محمد بن خلف ابن حيّان ببغداد، حدّثنا إسحاق بن محمد، حدثني أبي، حدّثنا إبراهيم بن عيسى، حدّثنا علي ابن خليّ عن أبي حمزة الثمالي. تفسير المسيّب: قرأت على الحسين بن محمد بن الحسن بن عبد الله الدينوري بعض
مصنفات [علماء] العصر:
الكتاب وأجاز لي بالباقي لفظا وخطّا، حدّثنا محمد بن علي بن حريز، حدّثنا الحسين بن علوية القطّان، حدّثنا إسماعيل بن عيسى حدّثنا المسيب بن شريك. مصنفات [علماء] العصر: تفسير عبد الله بن حامد: قرأته عليه، تفسير أبي بكر بن فورك: أملاه علينا الى رأس خمسين آية من سورة البقرة في ثلاثة وأربعين جزءا ما حزم دونه (رحمه الله) . تفسير أبي عمرو الفراتي الملقّب بالبستاني: أجاز لي بجميعه لفظا وخطّا. تفسير أبي بكر ابن فورك: أملى علينا صدرا ... «1» .. من أوله الى آخره ثم استأنف ولحق واقتصر على الأسئلة والأجوبة حتى فرغ منه. تفسير أبي القاسم بن حبيب: سمعته غير مرّة. تفسير جبريل: قرأته كلّه على مصنفه. تفسير النبي صلّى الله عليه وسلم: سمعت بعضه من مصنّفه وأجاز لي بالباقي، ... «2» .. قرأته كلّه على مصنّفه، صنّفها جميعا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه [الصيدلاني] . كتاب [ابن المبارك] «3» : أخبرنا أبو حنيفة القزويني: أخبرنا أبو بكر محمد بن يعقوب الاستواني عن أبي محمد عبد الله بن المبارك الدينوري. حقائق التفسير على لسان أهل الإمارة: قرأته كلّه على مصنفه أبي عبد الرّحمن محمد بن الحسن السلمي فأقرّ لي به. كتاب عروة: أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد بن علي، أخبرنا أبو يحيى عمّار بن محمد ابن مسعود، أخبرنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن الخليل، أخبرنا محمد بن هانئ، حدّثنا الحسين بن معين، حدّثنا الهذيل عن مقاتل بن سليمان بكتاب الوجوه، وأخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد الأصفهاني بقراءتي عليه في مجلس واحد، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الحنبلي البغدادي، حدّثنا أبو يعلى محمد بن أحمد بن عبد الله بن مروان الأقطع «4» بملطية: حدّثنا أبو عبد الرّحمن ... «5» .. بن حسان الملطي: حدثني أبو صالح إسحاق بن نجيح عن جدّ السلم بن سامة الجشطيني «6» عن عكرمة عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) .
كتاب مالك بن....:
كتاب مالك بن.. «1» ..: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، حدّثنا عبد الله ابن أحمد بن الصدّيق، أخبرنا عبد الله بن محمد السعدي، أخبرنا المطهر بن الحكم الكرابيسي عن علي بن الحسين بن واقد. كتب المعاني: معاني الفرّاء: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس المزني، وأبو محمد عبد الله بن حامد الوزّان، وأبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر، قالوا: أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان الأموي، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن جهم بن هارون السمري، حدّثنا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء. معاني الكسائي: سمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت أبو بكر أحمد بن محمد بن عبيد الله الطاهري يقول: سمعت علي بن أحمد المدبّر يقول: سمعت أبا عبيد يحدث عن علي بن حمزة الكسائي. معاني عبيد: أخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه هو أبي القاسم الحبيبي علينا قالا: أخبرنا محمد بن محمد بن الحسن، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكّي، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام. معاني الزجاج: قرأت على أبي عثمان سعد بن محمد بن إبراهيم الحيري- وأخبرنا بالجملة-: أخبرنا أبو علي الفسوي وابن مقسم قالا: أخبرنا الزجاج. وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري بها يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن محمد بن مسعود الفسوي بها يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن السدّي الزجّاج. كتاب النظم: قرأ علينا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب بلفظه قال: قرأت على أبي نصر محمد بن محمد بن يوسف بطوس عن الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني. كتاب الغرائب: سمعت أبا القاسم الحسن بن أحمد السدوسي يقول: سمعت أبا محمد عبد الله بن محمد الماداني يقول: سمعت أحمد بن محمد بن المغيرة يقول: سمعت أحمد بن سهل بن يحيى النيسابوري يقول: سمعت سلمة بن رفيع، أخبرنا غسان البصري عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى التيمي. غريب الأخفش: سمعت أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر يقول: سمعت أبا سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني يقول: سمعت علي بن فارس الدينوري يقول: سمعت
باب [علم القرآن] والترتيب فيه:
شمر بن حمدويه والحسن بن سفيان، حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا الفضل بن دكين، حدّثنا بشير بن المهاجرة، حدّثنا عبد الله بن يزيد عن أبيه قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعته يقول: «إنّ القرآن يأتي صاحبه يوم القيامة حين ينفلق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كلّ تاجر من وراء تجارته فإنك اليوم من وراء كل تجارة» «1» [2] . قال: «فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسي والديه حلتين لا يقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها. فهو في صعود ما دام يقرأ هذّا كان أو ترتيلا» «2» [3] . وقال معاذ بن جبل: كنت في سفر مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، حدّثنا بحديث ننتفع به، فقال: «إن أردت عيش السعداء، وميتة الشهداء، والنجاة يوم الحشر، والأمن يوم الخوف والنور يوم الظلمات والظل يوم الحرور، والري يوم العطش والوزن يوم الخفّة والهدى يوم الضلالة، فادرس القرآن فإنه ذكر الرّحمن، وحرز من الشيطان، ورجحان في الميزان» «3» [4] . باب [علم القرآن] والترتيب فيه: حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسين النيسابوري لفظا: حدّثنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم بن عبدان بن حبلة، نا أبو فراس محمد بن جمعة، حدّثنا محمد بن زينون المكّي، حدّثنا حمّاد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرّحمن السلمي قال: حدثني الذين كانوا يقرءوننا عن عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) ، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقرئهم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قال: فتعلّموا القرآن والعلم «4» جميعا «5» . وحدّثنا الحسن بن محمد: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، أخبرنا محمد بن عبد السلام الورّاق، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، حدّثنا جرير عن الأشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: «ما من قرأ القرآن ولم يعلم تفسيره إلّا بمنزلة الأعرابي يقرأ ولا يدري ما هو» . وأخبرنا الحسن بن محمد، حدثني أبي: حدّثنا إبراهيم بن علي الذهلي، حدّثنا يزيد بن
صالح، أخبرنا خارجة عن سعيد عن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: «والله، ما أنزل الله آية إلّا وهو يحب أن نعلم فيم أنزلت، وما معناها» . وقال الحسن: «علم القرآن لم يعلمه إلّا الذكور من الرجال» . وسمعت الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي يقول: سمعت العباس بن حمزة يقول: سمعت ابن أبي الجوزي يقول: حدّثنا أبو نصر سعيد الرملي قال: أتينا الفضيل بن العياض بمكّة، فسألناه أن يملي علينا فقال: «ضيّعتم كتاب الله وطلبتم كلام فضيل وابن عيينة؟! ولو تفرّغتم لكتاب الله تعالى لوجدتم فيه شفاء لما تريدون» . قلنا: قد تعلّمنا القرآن! قال: «إن في تعلم القرآن شغلا لأعماركم وأعمار أولادكم وأولاد أولادكم» «1» . قلنا: كيف؟ قال: «لن تعلموا القرآن حتى تعرفوا إعرابه، ومحكمه ومتشابهه، وحلاله وحرامه، وناسخه ومنسوخه. فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل وابن عيينة، ثم قال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «2» . وروى مؤمل بن إسماعيل عن سفيان الثوري أنه قال: «أفنينا عمرنا في الإيلاء والظهار ونبذنا كتاب الله وراء ظهورنا فماذا نقول لربّنا في المعاد؟» . [لغة] التفسير: سمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر يقول: سمعت أبا بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال يقول: سمعت أبا بكر محمد بن الحسن البريدي يقول: [أمّا التفسير في اللغة فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف، وأصله في اللغة من التفسرة، وهي القليل] «3» من الماء الذي ينظر فيه الأطباء، فكما أن الطبيب بالنظر فيه يكشف عن علة المريض فكذلك المفسّر يكشف عن بيان موطنها وشأن الآية وقصصها، ومعناها والسبب الذي نزلت فيه» . وسمعت الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا سعد محمد بن سعيد الفارسي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن القاسم الأنباري يقول: سمعت أحمد بن محمد [الخارزنجي] يقول: هو من قول العرب: فسرت الفرس إذا ركّضتها مصورة لينطلق حصيرها، وهو يؤول إلى أنّما قد سمعته يقول: سمعت أبا حامد أحمد بن محمد الخارزنجي يقول: من [علوت] «4» من سفر مثل جذب وحيد وبيت الماء وبصق ووسع لفحل الناقة وبغاها. تقول العرب: فسّرت الناقة، إذا سيّرتها حتى زال شعرها، وظهر جلدها. وأنشدوا فيه لبعض الهذليين:
..... «1» ... فيكون معنى التفسير: كشف المنغلق من المراد بلفظه وإطلاق المحتبس عن فهمه. والتأويل: بكون الأول معنى مجمله موافق لما قبلها وما بعدها، وأصله من الأول، وهو من الرجوع، تقول العرب: أوّلته. قال: أي صرفته فانصرف. وسمعت أبا القاسم بن أبي بكر السدوسي يقول: سمعت رافع بن عبد الله يقول: سمعت أبا حبيب زيد بن المهتدي يقول: سمعت الحسن بن محمد بن البصري يقول: «2» ... عن جدّه النضر أنه قال: «أصله من الإيالة، وهي السياسة، تقول العرب: قد ألنا، وإيل علينا، أي سسنا، وساسنا غيرنا، فكأنّ المؤول للكلام [يسوى الكلام ويضع المعنى فيه موضعه] «3» القادر عليه، وواضعه موضعه. وإنما بنوهما على التفعيل لأنه يدلّ على التكثير، وكأنه تتبع سورة بعد سورة وآية بعد آية ، وأمّا الفرق بينهما: قالت العلماء: التفسير: علم نزول الآية وشأنها وقصّتها، والأسباب التي نزلت فيها. فهذا وأضرابه [محظورة] على الناس القول إلّا باستماع الأثر. فأما التأويل فالأمر فيه أسهل لأنه صرف الآية إلى معنى يحتمله، وليس بمحظور على العلماء استنباطه والقول فيه وإنّما يكون مرآتنا الكتاب والسنّة.
تفسير فاتحة الكتاب
تفسير فاتحة الكتاب [أسماؤها] أخبرنا عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمّد بن يحيى، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطّان، وأخبرنا محمد بن أحمد بن عبدوس، أخبرنا محمد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسى، حدّثنا الفضل بن محمد بن المسيّب، حدّثنا خلف بن هشام، حدّثنا محمد بن حسان عن المعافى ابن عمران عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، سبع آيات أوّلهنّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وهي السبع المثاني، وهي أمّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب» «1» [5] . نزولها: واختلفوا في نزولها أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قراءة، أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله المروزي قال: حدّثنا عبد الله بن محمود السعدي، حدّثنا أبو يحيى القصريّ، حدّثنا مروان بن معاوية عن الولاء بن المسيّب عن الفضل بن عمرو عن علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: «نزلت فاتحة الكتاب بمكّة من كنز تحت العرش» «2» . وعلى هذا أكثر العلماء. يدلّ عليه ما أخبرنا الحسن بن محمد بن جعفر، حدّثنا محمد بن محمود، حدّثنا أبو لبابة محمد بن مهدي، حدّثنا أبي عن صدقة بن عبد الرّحمن عن روح بن القاسم [العبري] عن عمر ابن شرحبيل قال: إن أوّل ما نزل من القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسرّ إلى خديجة (رض) وقال: «لقد خشيت أن يكون خالطني شيء» . فقالت: وما ذاك؟ قال: «إني إذا خلوت سمعت النداء فأفرّ» . قال: فانطلق به أبو بكر إلى ورقة بن نوفل، فقال له ورقة: إذا أتاك فاجث له. فأتاه جبريل فقال له: «قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» «3» [6] .
وحدّثنا الحسن بن جعفر، حدّثنا محمد بن محمود، حدّثنا عمرو بن صالح عن ابن عباس، حدّثنا أبي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قام النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. فقالت قريش: دق «1» الله فاك. وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب، حدّثنا أبو زيد، حدّثنا أبو حاتم بن محبوب الشامي، أخبرنا عبد الجبار العلاء عن معن عن منصور عن مجاهد قال: «فاتحة الكتاب أنزلت في المدينة» . وقال الحسن بن الفضل: لكل عالم هفوة، وهذه منكرة من مجاهد لأنه تفرّد بها، والعلماء على خلافه. وصح الخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث أبي بن كعب أنها من: «أوّل ما نزل من القرآن» » [7] وأنها: «السبع المثاني» «3» [8] ، وسورة الحجر مكيّة بلا اختلاف. ومعلوم أن الله تعالى لم يمتنّ عليه بإتيانه السبع المثاني وهو بمكة، ثم أنزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بمكة يصلي عشر [سنوات] «4» بلا فاتحة الكتاب، هذا ممّا لا تقبله العقول. قال الأستاذ: وقلت: قال بعض العلماء وقد لفق بين هذين القولين: أنها مكية ومدنية، نزل بها جبرئيل مرتين مرّة بمكة ومرّة بالمدينة حين حلّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعظيما وتفضيلا لهذه السورة على ما سواها ولذلك سميت مثاني، والله أعلم. أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفرات، أخبرنا أبو موسى عمران بن موسى، حدّثنا جعفر ابن محمد بن سوار، أخبرنا أحمد بن نصر، أخبرنا سعيد بن منصور، حدّثنا سلام عن زيد العمّي عن ابن سيرين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فاتحة الكتاب شفاء من السمّ» «5» [9] . وأخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أيّوب، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن صاحب، حدّثنا المأمون بن أحمد، حدّثنا أحمد بن عبد الله، حدّثنا أبو معاوية الضرير عن أبي مالك الأشجعي عن ابن حمران عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيّا فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيسمعه الله عزّ وجلّ فيرفع عنهم ذلك العذاب أربعين سنة» «6» [10] .
في فضل التسمية:
وحدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني، حدّثنا الحسين بن الفضل، حدّثنا عفان بن مسلم الصفّار عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال: أنزل الله عزّ وجلّ مائة وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصّل، ثم أودع علوم المفصّل فاتحة الكتاب. فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. في فضل التسمية: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن علي، حدّثنا أحمد بن سعيد، حدّثنا جعفر بن محمد بن صالح، وحدّثنا محمد بن القاسم الفارسي، حدّثنا أبو محمّد عبد الله بن أحمد الشيباني، أخبرنا أحمد بن كامل بن خلف، حدّثنا علي بن حماد بن السكن، أخبرنا أحمد بن عبد الله الهروي حسام بن سليمان المخزومي عن أبي مليكة عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلّمون فكلما خلق الدين جدّدوه. أعطوهم ولا تستأجروهم، فتحرجوهم فإن المعلّم إذا قال للصبي: قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقال الصبي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كتب الله براءة للصبي، وبراءة لأبويه وبراءة للمعلّم من النار» «1» [11] . وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل المولى، أخبرنا أبو عليّ الاسفرائيني الحافظ، حدّثنا ابن الحسن البصري، حدّثنا محمد بن مروان أبو جعفر، حدّثنا أبي، حدّثنا عمر بن ذر، عن عطاء عن جابر قال: (لما نزلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الرياح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله بعزته أن لا يسمّى اسمه على شيء إلّا شفاه ولا يسمّى اسمه على شيء إلّا بارك عليه، ومن قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ دخل الجنة) «2» . وأخبرنا الحسن بن محمد بن الحسن، حدّثنا محمد بن محمد بن الحسن، أخبرنا الحسن ابن علي بن نصر، حدّثنا عبد الله بن هاشم، أخبرنا وكيع بن الجراح، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: (من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإنّها تسعة عشر حرفا ليجعل الله له بكل حرف منها جنة من كلّ واحد) «3» [12] .
[سورة الفاتحة (1) : آية 1]
(التفسير وبالله التوفيق) [سورة الفاتحة (1) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) قوله: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اعلم أنّ هذه الباء زائدة، وهي تسمّى باء التضمين أو باء الإلصاق، كقولك: كتبت بالقلم، فالكتابة لاصقة بالقلم. وهي مكسورة أبدا والعلة في ذلك أن الباء حرف ناقص ممال. والإمالة من دلائل الكسر، قال سيبويه: لما لم يكن للباء عمل إلّا الكسر كسرت. وقال المبرّد: العلّة في كسرها ردّها إلى الأصل، ألا ترى أنك إذا أخبرت عن نفسك فإنك قلت: بيبيت، فرددتها إلى الياء والياء أخت الكسرة كما أن الواو أخت الضمة والألف أخت الفتحة، وهي خافضة لما بعدها فلذلك كسرت ميم الاسم. وطوّلت هاهنا وشبهت بالألف واللام لأنهم لم يريدوا أن يفتتحوا كتاب الله إلّا بحرف مفخّم معظّم. قاله القيسي. قال: وكان عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) يقول لكتّابه: (طوّلوا الباء، وأظهروا السين، وفرّجوا بينهما، ودوّروا الميم تعظيما لكلام الله تعالى) . وقال أبو.... «1» .. خالد بن يزيد المرادي: العلّة فيها إسقاط الألف من الاسم، فلما أسقطوا الألف ردّوا طول الألف الى الباء ليكون دالّا على سقوط الألف منها. ألا ترى أنهم لمّا كتبوا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «2» بالألف ردّوا الباء إلى صيغتها، فإنما حذفوا الألف من (اسم) هنا فالكثرة دورها على الألسن عملا بالخفّة، ولمّا لم يكثر أضرابها كثرتها أثبتوا الألف بها. وفي الكلام إضمار واختصار تقديره: قل، أو ابدأ بسم الله. وقال آدم: الاسم فيه صلة، مجازه: «3» بالله الرّحمن الرحيم هو، واحتجوا بقول لبيد: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر «4» إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر «5»
أي ثم السلام عليكما. ومعناه: بالله تكوّنت الموجودات، وبه قامت المخلوقات. وأدخلوا الاسم فيه ليكون فرقا بين المتيمّن والمتيمّن به. فأمّا معنى الاسم، فهو المسمى وحقيقة الموجود، وذات الشيء وعينه ونفسه واسمه، وكلها تفيد معنى واحدا. والدليل على أن الاسم عين المسمّى قوله تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى «1» ، فأخبر أنّ اسمه يحيى، ثمّ نادى الاسم وخاطبه فقال: يا يَحْيى «2» . فيحيى هو الاسم، والإسم هو يحيى. وقوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها «3» وأراد الأشخاص المعبودة لأنهم كانوا يعبدون المسمّيات. وقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «4» ، وتَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ «5» . وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لتضربنّ مضر عباد الله حتّى لا يعبد له اسم» «6» [13] أي حتى لا يعبد هو. ثم يقال: رأينا للتسمية اسم، واستعمالها في التسمية أشهر وأكثر من استعمالها في المسمّى، ولعل الاسم أشهر، وجمعه: أسماء، مثل قنو وأقناء، وحنو وأحناء، فحذفت الواو للاستثقال، ونقلت حركة الواو إلى الميم فأعربت الميم، ونقل سكون الميم إلى السين فسكنت، ثم أدخلت ألف مهموزة لسكون السين لأجل الابتداء يدلّك عليه التصغير والتصريف يقال: سميّ وسميّة لأن كل ما سقط في التصغير والتصريف فهو غير أصلي. واشتقاقه من (سما) (يسمو) ، فكأن المخبر عنه بأنه معدوم ما دام معدوما فهو في درجة يرتفع عنها إذ وجد، ويعلو بدرجة وجوده على درجة عدمه. والإسم الذي هو العبارة والتسمية للمخبر والصفة للمنظر. وأصل الصفة ظهور الشيء وبروزه، والله أعلم. فأمّا ما ورد في تفسيرها بتفصيلها فكثير، ذكرت جلّ أقاويلها في حديث وحكاية. أخبرنا الأستاذ أبو القاسم بن محمد بن الحسن المفسّر، حدّثنا أبو الطيّب محمد بن أحمد ابن حمدون المذكر، أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد، حدّثنا أحمد بن هشام الأنطاكي، حدّثنا الحكم بن نافع عن إسماعيل بن عبّاس عن إسماعيل عن يحيى عن أبي مليكة عن مسعود بن عطيّة العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن عيسى بن
مريم أسلمته أمّه إلى الكتّاب ليتعلّم، فقال له المعلّم: قل «1» باسم الله. قال عيسى: وما باسم الله؟ فقال له المعلّم: ما أدري. قال: الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، والميم: مملكة الله» «2» [14] . وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا إسحاق بن ميثم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو يقول: سمعت أبا عبد الله ختن أبي بكر الوراق يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الورّاق يقول في بِسْمِ اللَّهِ: إنها روضة من رياض الجنة لكل حرف منها تفسير على حدة: فالباء على ستة أوجه: بارئ خلقه من العرش الى الثرى، ببيان قوله: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ «3» . بصير بعباده من العرش الى الثرى، بيانه: إنه على كل شيء بصير «4» . باسط الرزق من العرش الى الثرى، بيانه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ «5» . وباق بعد فناء خلقه من العرش إلى الثرى: بيانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ «6» . باعث الخلق بعد الموت للثواب والعقاب، بيانه: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ «7» . بارّ بالمؤمنين من العرش إلى الثرى، بيانه قوله: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ «8» . والسين على خمسة أوجه: سميع لأصوات خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ «9» . سيّد قد بلغ سؤدده من العرش إلى الثرى، بيانه: اللَّهُ الصَّمَدُ «10» . سريع الحساب مع خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ «11» . سلم خلقه من ظلمه من العرش إلى الثرى، بيانه: السَّلامُ الْمُؤْمِنُ «12» .
غافر ذنوب عباده من العرش إلى الثرى، بيانه: قوله: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ «1» . والميم على اثني عشر وجها: ملك الخلق من العرش إلى الثرى، بيانه: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ» . مالك خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «3» . منّان على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ «4» . مجيد على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ «5» . مؤمّن آمن خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «6» . مهيمن اطّلع على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ «7» . مقتدر على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «8» . مقيت على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً «9» . متكرّم على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «10» . منعم على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً «11» . متفضّل على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ «12» . مصوّر خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه: الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ «13» . وقال أهل الحقائق:.... «14» في بِسْمِ اللَّهِ التيمّن والتبرّك وحثّ الناس على الابتداء في أقوالهم وأفعالهم ب بِسْمِ اللَّهِ لمّا افتتح الله عزّ وجلّ كتابه به ، والله أعلم. اللَّهِ، اعلم أن أصل هذه الكلمة (إله) في قول أهل الكوفة، فأدخلت الألف واللام فيها تفخيما وتعظيما لما كان اسم الله عزّ وجلّ، فصار (الإله) ، فحذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسن، وحوّلت هويتها إلى لام التعظيم فالتقى لامان، فأدغمت الأولى في الثانية، فقالوا (الله) .
وقال أهل البصرة: أصلها (لاه) ، فألحقت بها الألف واللام، فقالوا: (الله) . وأنشدوا: كحلفة من أبي رباح ... يسمعها الآهه الكبار «1» فأخرجه على الأصل. وقال بعضهم: أدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة المحذوفة في (إله) ، فلزمتا الكلمة لزوم تلك الهمزة لو أجريت على الأصل، ولهذا لم يدخل عليه في النداء ما يدخل على الأسماء المعرّفة من حروف التشبيه، فلم يقولوا: يا أيها الله. دفع أقاويل أهل التأويل في هذا الاسم مبنيّة على هذين القولين «2» ... ثمة، واختلفوا فيه فقال الخليل بن أحمد وجماعة: (الله) اسم علم موضوع غير مشتق بوجه، ولو كان مشتقّا من صفة كما لو كان موصوفا بتلك الصفة أو بعضها، قال الله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «3» . (الله) : اسم موضوع لله تعالى لا يشركه فيه أحد، قال الله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا، يعني: أن كل اسم مشترك بينه وبين غيره له على الحقيقة ولغيره على المجاز إلّا هذا الاسم فإنه مختص به لأن فيه معنى الربوبيّة. والمعاني كلها تحته، ألا ترى أنك إذا أسقطت منه الألف بقي لله، وإذا أسقطت من لله اللام الأولى بقي (له) ، وإذا أسقطت من (له) اللام بقي هو. قالوا: وإذا أطلق هذا الاسم على غير الله فإنما يقال بالإضافة كما يقال: لاه كذا أو ينكر فيقال: لله كما قال تعالى إخبارا عن قوم موسى عليه السّلام: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «4» . وأما (الله) ، و (الإله) فمخصوصان لله تعالى. وقال قوم: أصله (لاها) بالسريانية، وذلك أن في آخر أسمائهم مدّة، كقولهم للروح: (روحا) ، وللقدس: (قدسا) ، وللمسيح: (مسيحا) ، وللابن: (ابنا) ، فلما طرحوا المدّة بقي (لاه) ، فعرّبه العرب وأقرّوه. ولا اشتقاق له، وأكثر العلماء على أنه مشتق واختلفوا في اشتقاقه، فقال النضر بن إسماعيل: هو من التألّه، وهو التنسّك والتعبّد، قال رؤبة: لله در الغانيات المدّه ... سبحن واسترجعن من تألهي «5» ويقال: أله إلاهة، كما يقال: عبد عبادة. وقرأ ابن عباس: (ويذرك وإلهتك) أي عبادتك فمعناه عبادتك المعبود الذي تحقّ له العبادة.
وقال قوم هو من (الإله) ، وهو الاعتماد، يقال: ألهت إلى فلان، آله إلها، أي فزعت إليه واعتمدت عليه، قال الشاعر: ألهت إليها والركائب وقّف «1» ومعناه: أن الخلق يفزعون ويتضرعون إليه في الحوادث والحوائج، فهو يألههم، أي يجيرهم، فسمي إلها، كما يقال: إمام للذي يؤتم به، ولحاف ورداء وإزار وكساء للثوب الذي يلتحف به، ويرتدى به «2» ، وهذا معنى قول ابن عباس والضحّاك. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو من (ألهت في الشيء) «3» إذا تحيّرت فيه فلم تهتد إليه، قال زهير: ... «4» .. يأله العين وسطها مخفّفة وقال الأخطل: ونحن قسمنا الأرض نصفين نصفها ... لنا ونرامي أن تكون لنا معا بتسعين ألفا تأله العين وسطها ... متى ترها عين الطرامة تدمعا «5» ومعناه: أن العقول تتحيّر في كنه صفته وعظمته والإحاطة بكيفيته، فهو إله كما قيل للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب «6» . وقال المبرّد: هو من قول العرب: (ألهت إلى فلان) أي سكنت إليه، قال الشاعر: ألهت إليها والحوادث جمّة فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره، قال الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «7» . وسمعت أبا القاسم الحسن: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرحيم القناد يقول: أصله من (الوله) ، وهو ذهاب العقل لفقدان من يعزّ عليك. وأصله (أله) - بالهمزة- فأبدل من الألف واو فقيل الوله، مثل (إشاح، ووشاح) و (وكاف، وإكاف) و (أرّخت الكتاب، وورّخته) و (ووقّتت، وأقّتت) . قال الكميت:
ولهت نفسي الطروب إليهم ... ولها حال دون طعم الطعام «1» فكأنه سمّي بذلك لأن القلوب تولّه لمحبّته وتضطرب وتشتاق عند ذكره. وقيل: معناه: محتجب لأن العرب إذا عرفت شيئا، ثم حجب عن أبصارها سمّته إلها، قال: لاهت العروس تلوه لوها، إذ حجبت. قال الشاعر: لاهت فما عرفت يوما بخارجة ... يا ليتها خرجت حتّى رأيناها «2» والله تعالى هو الظاهر بالربوبيّة [بالدلائل والأعلام] وهو المحتجب من جهة الكيفيّة عن الأوهام. وقيل: معناه المتعالي، يقال: (لاه) أي ارتفع. وقد قيل: من [إلا هتك] ، فهو كما قال الشاعر: تروّحنا من اللعباء قصرا «3» ... وأعجلنا الألاهة أن تؤوبا «4» وقيل: هو مأخوذ من قول العرب: ألهت بالمكان، إذا أقمت فيه، قال الشاعر: ألهنا بدار ما تبين رسومها ... كأن بقاياها وشام على اليد «5» فكأن معناه: الدائم الثابت الباقي. وقال قوم: [ان يقال] «6» ذاته وهي قدرته على الإخضاع. وقال الحارث بن أسد المجلسي، أبو عبد الله البغدادي: الله من (ألههم) أي أحوجهم، فالعباد مولوهون إلى بارئهم أي محتاجون إليه في المنافع والمضارّ، كالواله المضطرّ المغلوب. وقال شهر بن حوشب: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وقال أبو بكر الوراق: هو. وغلّظ بعض بقراءة اللام من قوله: (اللَّهِ) حتى طبقوا اللسان به الحنك لفخامة ذكره، وليصرف عند الابتداء بذكره وهو الرب. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قال قوم: هما بمعنى واحد مثل (ندمان، ونديم) و (سلمان،
وسليم) ، وهوان وهوين. ومعناهما: ذو الرحمة، والرحمة: إرادة الله الخير بأهله، وهي على هذا القول صفة ذات. وقيل: هي ترك عقوبة من يستحق العقوبة، [وفعل] الخير إلى من لم يستحق، وعلى هذا القول صفة فعل، يجمع بينهما للاتّساع، كقول العرب: جاد مجد. قال طرفة: فما لي أراني وابن عمي مالكا ... متى أدن منه ينأ عني ويبعد «1» وقال آخر: وألفى قولها كذبا ومينا» وفرّق الآخرون بينهما فقال: بعضهم الرَّحْمنِ على زنة فعلان، وهو لا يقع إلّا على مبالغة القول. وقولك: رجل غضبان للممتلئ غضبا، وسكران لمن غلب عليه الشراب. فمعنى (الرَّحْمنِ) : الذي وسعت رحمته كل شيء. وقال بعضهم: (الرَّحْمنِ) العاطف على جميع خلقه كافرهم ومؤمنهم، برّهم وفاجرهم بأن خلقهم ورزقهم، قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «3» ، و (الرَّحِيمِ) بالمؤمنين خاصّة بالهداية والتوفيق في الدنيا، والجنة والرؤية في العقبى، قال تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «4» . ف (الرَّحْمنِ) خاصّ اللفظ عامّ المعنى، و (الرَّحِيمِ) عامّ اللفظ خاصّ المعنى. و (الرَّحْمنِ) خاص من حيث إنه لا يجوز أن يسمى به أحد إلّا الله تعالى، عامّ من حيث إنه يشمل الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع والدفع. و (الرَّحِيمِ) عامّ من حيث اشتراك المخلوقين في المسمّى به، خاص من طريق المعنى لأنه يرجع إلى اللطف والتوفيق. وهذا قول جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه) . الرَّحْمنِ اسم خاص بصفة عامة، والرَّحِيمِ اسم عام بصفة خاصة، وقول ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر. وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الدّقاق، حدّثنا الحسن بن محمد بن جابر، حدّثنا عبد الله بن هاشم، أخبرنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال: الرَّحْمنِ بأهل الدنيا، والرَّحِيمِ بأهل الآخرة . وجاء في الدعاء: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وقال الضحّاك: الرَّحْمنِ بأهل السماء حين أسكنهم السماوات، وطوّقهم الطاعات،
وجنّبهم الآفات، وقطع عنهم المطاعم واللذات. والرَّحِيمِ بأهل الأرض حين أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وأعذر إليهم في النصيحة وصرف عنهم البلايا. وقال عكرمة: الرَّحْمنِ برحمة واحدة، والرَّحِيمِ بمائة رحمة وهذا المعنى قد اقتبسه من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي حدّثناه أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري، حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو، حدّثنا أبو هريرة وأحمد بن محمد بن شاردة الكشي، حدّثنا جارود ابن معاذ، أخبرنا عمير بن مروان عن عبد الملك أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وأخّر تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة» «1» [15] . وفي رواية أخرى: «إن الله تعالى قابض هذه إلى تلك فمكملها مائة يوم القيامة، يرحم بها عباده» «2» [16] . وقال ابن المبارك: (الرَّحْمنِ: الذي إذا سئل أعطى، والرَّحِيمِ إذا لم يسأل غضب. يدلّ عليه ما حدّثنا أبو القاسم المفسّر، حدّثنا أبو يوسف رافع بن عبد الله بمرو الروذ، حدّثنا خلف ابن موسى: حدّثنا محمود بن خداش، حدّثنا هارون بن معاوية، حدّثنا أبو الملج وليس الرقّي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من لم يسأل الله يغضب عليه «3» ، نظمه الشاعر فقال: إن الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبنيّ آدم حين يسأل يغضب «4» [17] وسمعت الحسن بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن محمد النسفي يقول: سمعت أبا عبد الله- وهو ختن أبي بكر الوراق- يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الورّاق يقول: (الرَّحْمنِ: بالنعماء وهي ما أعطي وحبا، والرَّحِيمِ بالآلاء وهي ما صرف وزوى) . وقال محمد بن علي المزيدي: الرَّحْمنِ بالانقاذ من النيران، وبيانه قوله تعالى: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها «5» ، والرَّحِيمِ بإدخالهم الجنان، بيانه: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ «6» . وقال المحاسبي: (الرَّحْمنِ: برحمة النفوس، والرَّحِيمِ برحمة القلوب) .
في أن التسمية من الفاتحة أو لا؟
وقال السريّ بن مغلس: (الرَّحْمنِ بكشف الكروب، والرَّحِيمِ بغفران الذنوب) . وقال عبد الله بن الجرّاح: (الرَّحْمنِ ب ... «1» .. الطريق، والرَّحِيمِ بالعصمة والتوفيق) . وقال مطهر بن الوراق: (الرَّحْمنِ بغفران السيّئات وإن كن عظيمات، والرَّحِيمِ بقبول الطاعات وإن كنّ [قليلات] «2» ) . وقال يحيى بن معاذ الرازي: (الرَّحْمنِ بمصالح معاشهم، والرَّحِيمِ بمصالح معادهم) . وقال الحسين بن الفضل: (الرَّحْمنِ الذي يرحم العبد على كشف الضر ودفع الشر، والرَّحِيمِ الذي يرقّ وربما لا يقدر على الكشف) . وقال أبو بكر الوراق أيضا: (الرَّحْمنِ بمن جحده والرَّحِيمِ بمن وحّده، والرَّحْمنِ بمن كفر والرَّحِيمِ بمن شكر، والرَّحْمنِ بمن قال ندّا والرَّحِيمِ بمن قال فردا) . في أن التسمية من الفاتحة أو لا؟ واختلف الناس في أنّ التسمية هل هي من الفاتحة؟ فقال قرّاء المدينة والبصرة وقرّاء الكوفة: إنها افتتاح التيمّن والتبرّك بذكره، وليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور، ولا تجب قراءتها وأن الآية السادسة قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. وهو قول مالك بن أنس والأوزاعي وأبي حنيفة- رحمهم الله- ورووا ذلك عن أبي هريرة. أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن النيسابوري، حدّثنا أبو الحسن محمد بن الحسن الكابلي، أخبرنا علي بن عبد العزيز الحلّي، حدّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي، حدّثنا الحجاج عن أبي سعيد الهذلي عن ... «3» .. عن أبي هريرة قال (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) الآية السادسة ، فزعمت فرقة أنها آية من أمّ القرآن، وفي سائر السور فصل، فليست هاهنا أنها يجب قراءتها. [وقال قوم: إنها آية من فاتحة الكتاب] «4» رووا ذلك عن سعيد بن المسيب، وبه قال قرّاء مكة والكوفة وأكثر قرّاء الحجاز، ولم يعدّوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية. وقال الشافعي والشعبي وهو رأي عبد الله أنها نزلت في الآية الأولى من فاتحة الكتاب،
وهي من كل سورة آية إلّا التوبة. والدليل عليه الكتاب والسنة أمّا الكتاب سمعت أبا عثمان بن أبي بكر الزعفراني يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن موسى يقول: سمعت الحسن بن المفضّل يقول: رأيت الناس..... «1» .. في النمل أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيها من القرآن فوجدتها بخطها ولو أنها مكرّرات في القرآن، فعرفنا أماكنها منه بل حتى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «2» ، فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «3» لما كانا في القرآن كانت مكرّراتهما من القرآن. وبلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب في بدء الأمر على رسم قريش: «باسمك اللهم» حتى نزلت: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها «4» فكتب: بِسْمِ اللَّهِ حتى نزلت: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «5» ، فكتب: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ» ، حتى نزلت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «6» ، فكتب مثلها فلمّا كانت..... هذه.... وحيث أن يكون.. «7» .. منه ثم افتخر النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية، وحقّ له ذلك. حدّثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوراق: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه حدّثنا محمد ابن يحيى بن سهل، حدّثنا آدم بن أبي إياس، حدّثنا سلمة بن الأحمر عن يزيد بن أبي خالد عن عبد الكريم بن أمية عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟» . فقلت: بلى. قال: «بأي شيء تفتتح إذا افتتحت القرآن؟» . قلت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقال: «هي هي» «8» [18] . وفي هذا الحديث دلّ دليل على كون التسمية آية تامّة من الفاتحة وفواتح السور لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين لفظ الآية كلها، والتي في سورة النمل ليست بآية وإنما هي بعض الآية، وبالله التوفيق. وأمّا الأخبار الواردة فيه، فأخبرنا أبو القاسم السدوسي، حدّثنا أبو زكريا يحيى بن محمد ابن عبد الله العنبري، حدّثنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطي حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدّثنا أبو سفيان المعمري عن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: إن الفضل الرقاشي زعم أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ليس من القرآن؟ قال: سبحان الله! ما أجرأ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ علم أن السورة قد ختمت وفتح غيرها.
وحدّثنا الحسن بن محمد: حدّثنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي: حدّثنا أبو محمد إسماعيل ابن عيسى الواسطي: حدّثنا عبد الله بن نافع عن جهم بن عثمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟» [19] قال: أقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال: «قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «1» . وحدّثنا الحسن بن محمد، أخبرنا أبو الحسين. «2» ..، حدّثنا علي بن عبد العزيز، حدّثنا أبو عبيد، حدّثنا عمر بن هارون البلخي عن أبي صالح عن أبي مليكة عن مسلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يعني يقطّعها آية آية حتّى عدّ سبع آيات عدّ الأعراب. أخبرنا أبو الحسن محمّد بن أحمد، حدّثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، حدّثنا محمد ابن جعفر، حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدّثنا الحسين بن عبد الله عن أبيه عن جدّه عن علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وكان يقول: «من ترك قراءتها فقد نقص» . وكان يقول: «هي تمام السبع المثاني والقرآن العظيم» . وأخبرنا الحسين بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، حدّثنا جعفر بن حيّان عن عبد الملك بن جريح عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «3» قال: فاتحة الكتاب. وقيل لابن عباس: أين السابعة؟ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وعدّها في يديه ثم قال: أخرجها لكم، وما أجد فيها أمركم. أخبرنا [محمّد بن الحسين] حدّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم، حدّثنا يزيد بن سنان، حدّثنا أبو بكر الحنفي، حدّثنا نوح بن أبي بلال قال: سمعت المقبري عن أبي هريرة أنه قال: إذا قرأتم أمّ القرآن فلا تبرحوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإنها إحدى آياتها وإنها السبع المثاني. وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، حدّثنا جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ، حدّثنا أحمد بن نصر، حدّثنا آدم بن إياس عن أبي سمعان عن العلا، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله: قسمت الصلاة
بيني وبين عبادي نصفين فإذا قال العبد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال الله: مجّدني عبدي، وإذا قال العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله: فوّض إليّ أمره عبدي، وإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال الله: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل» «1» [20] . وأخبرنا علي بن محمد بن الحسن المقري، أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد القصّار، حدّثنا محمد بن بكر البصري، حدّثنا محمد بن علي الجوهري، حدّثنا. «2» .. حدثني أبو إسماعيل بن يحيى. «3» ..، حدّثنا سفيان الثوري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يحدّث أصحابه إذ دخل رجل يصلّي، وافتتح الصلاة، وتعوّذ، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. فسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة، أما علمت أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من الحمد؟ فمن تركها فقد ترك آية، ومن ترك آية منه فقد قطعت عليه صلاته» «4» . لا تكون الصلاة إلّا بفاتحة الكتاب، ومن ترك آية فقد بطلت صلاته [21] . وأخبرنا أبو الحسين علي بن محمد الجرجاني، حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن هشام، أخبرنا محمد بن يحيى، حدّثنا حكيم بن الحسين، حدّثنا سليمان بن مسلم المكّي عن نافع عن أبي مليكة عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فقد ترك آية من كتاب الله» «5» [22] . وقد عدّها علي عليه السّلام فيما عدّ من أمّ الكتاب. وأما الإجماع، فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الورّاق، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الضبعي، حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا علي بن المديني، حدّثنا عبد الوهّاب بن فليح، عن عبد الله بن ميمون عن عبيد بن رفاعة أن معاوية بن أبي سفيان قدم المدينة فصلّى بالناس صلاة يجهر فيها، ولمّا قرأ أم القرآن ولم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقضى صلاته، ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية: أنسيت! أين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حين استفتحت القرآن؟ فأعادها لهم معاوية فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
الكلام في جزئية البسملة من باقي السور
الكلام في جزئية البسملة من باقي السور هذا في الفاتحة، فأما في غيرها من السور، فأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، أن أبا بكر بن حفص بن عاصم قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة، وقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأم القرآن ولم يقرأ للسورة التي بعدها حتى قضى صلاته، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون من كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فصلى بهم صلاة أخرى وقرأ فيها للسورة التي بعدها. وما. «1» .. النظر بآيات [السور] «2» مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة. والمتشاكلة نحو ما في سورة القمر والرّحمن وأمثالهما، والمتقاربة قيل: في سورة ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ «3» ، وما ضاهاها. ثم نظرنا في قوله: قَبْلِهِمْ، فلم يكن من المتشاكلة ولا من المتقاربة، ووجدنا أواخر آي القرآن على حرفين: ميم ونون أو حرف صحيح قبلها نا مكسورة فأوّلها، أو واو مضموم ما قبلها، أو ألف مفتوح ما قبلها، ووجدنا سبيلهم هو هو مخالف لنظم الكتاب. هذا ولم نر غير مبتدأ آية في كتاب الله..» .. إذ يقول أيضا: إن التسمية لا [تخلو] «5» إما أن تكون مكتوبة للفصل بين السور، أو في آخر السور، أو في أوائلها أو حين نزلت كتبت، وحيث لم تنزل لم تكتب، فلو كتبت للفصل لكتبت. «6» .. وتراخ، ولو كتبت في الابتداء لكتبت في (براءة) ، ولو كتبت في الانتهاء لكتبت في آخر قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «7» . فلمّا أبطلت هذه الوجوه علمنا أنها كتبت حيث نزلت، وحيث لم تنزل لم تكتب. يقول أيضا: إنا وجدناهم كتبوا ما كان غير قرآن من الآي والأخرى، أو خضرة، وكتبوا التسمية بالسواد فعلمنا أنها قرآن، وبالله التوفيق. حكم الجهر بالبسملة في الصلاة ثم الجهر بها في الصلاة سنّة لقول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «8» [فأمر] «9» رسوله أن يقرأ القرآن بالتسمية، وقال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى «10» فأوجب الفلاح لمن صلّى بالتسمية.
وأخبرنا أبو القاسم [الحسن بن محمّد بن جعفر] حدّثنا أبو صخر محمد بن مالك السعدي بمرو، حدّثنا عبد الصمد بن الفضل الآملي، حدّثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي بغوطة [دمشق] «1» قال: صليت خلف المهديّ أمير المؤمنين فجهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقلت: ما هذه القراءة يا أمير المؤمنين؟ [فقال:] حدثني أبي عن أبيه عن عبد الله بن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قلت: أآثرها عنك؟ قال: نعم «2» . وحدّثنا الحسن بن محمد بن زكريا العنبري، حدّثنا محمد بن عبد السلام، حدّثنا إسحاق ابن إبراهيم، أخبرنا خيثمة بن سليمان قال: سمعت ليثا قال: كان عطاء وطاوس ومجاهد يجهرون ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وحدّثنا الحسن بن محمد: حدّثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرّحمن المروزي، حدّثنا الحسن ابن علي بن نصير الطوسي، حدّثنا أبو ميثم سهل بن محمد، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزاعي، عن عمّار بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، أن العبادلة كانوا يستفتحون القراءة ب بسم اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يجهرون بها: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن صفوان. وحدّثنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو نصر منصور بن عبد الله الاصفهاني، حدّثنا أبو القاسم الاسكندراني، حدّثنا أبو جعفر الملطي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه قال: «اجتمع آل محمد على الجهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وعلى أن يقضوا ما فاتهم من صلاة الليل بالنهار، وعلى أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن القول وفي صاحبهما» . وبهذا الإسناد قال: سئل الصادق عن الجهر بالتسمية، فقال: «الحق الجهر به، وهي التي التي ذكر الله عزّ وجلّ: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً «3» » . وحدّثنا الحسن، حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل، حدّثنا الحسين ابن أحمد بن الليث، حدّثنا محمد بن المعلّى المرادي، حدّثنا أبو نعيم عن خالد بن
إياس عن سعيد ابن أبي سعيد المقرئ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتاني جبريل فعلمني الصلاة» «1» [23] ، ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكبّر فجهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وحدّثنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو الطيب محمد بن أحمد بن حمدون، حدّثنا الشرقي، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن أيوب قالا: حدّثنا عقيل عن الزهري قال: من سنّة الصلاة أن تقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في فاتحة الكتاب [فإن] لم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لم يقرأ السورة. وقال: إن أوّل من ترك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عمرو ابن سعيد بن العاص بالمدينة ، واحتجّ من أنّ إتيان التسمية أنها من الفاتحة، والجهر بها في الصلاة بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل النيسابوري القطّان، حدّثنا محمد بن إبراهيم الجرجاني، حدّثنا إبراهيم بن عمّار عن سعيد بن أبي عروبة عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن أنس بن مالك قال: صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن إسماعيل العماريّ، حدّثنا يزيد بن أحمد بن يزيد، حدّثنا أبو عمرو، حدّثنا محمد بن عثمان، حدّثنا سعيد بن بشير، عن قتادة عن أنس، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يجهرون، ويخفون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. فعلم بهذا الحديث أنه لم ينف كون هذه الآية من جملة السورة، لكنه تعرّض لترك الجهر فقط، على أنه أراد بقوله: (لا يجهرون) : أنهم لا يتكلفون في رفع الصوت ولم يرد الإسراء والتخافت أو تركها أصلا. ويدل عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، حدّثنا محمد بن عبد السلام الوراق وعبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن قالا: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا شريك، عن ياسر، عن سالم الأفطس، عن ابن أبي ليلى، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جهر بها صوته، فكان المشركون يهزئون بمكّة ويقولون: يذكر إله اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، ويسمونه الرّحمن، فأنزل الله: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون فيهزؤون، وَلا تُخافِتْ عن أمتك ولا تسمعهم وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «2» . واحتجّوا أيضا بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا بشر
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 إلى 3]
ابن مطر [عن سفيان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة] عن أبيه عن قتادة عن أنس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القراءة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، وإنما عنى بها أنهم كانوا يستفتحون الصلاة بسورة (الحمد) ، فعبّر بهذه الآية عن جميع السورة كما يقول: قرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ و (البقرة) ، أي سورة الْحَمْدُ لِلَّهِ وسورة (البقرة) . «1» .. أي رويناها نحكم على هذين الحديثين وأمثالهما وبالله التوفيق. [سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 3] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ . «2» .. على نفسه، نعيما منه على خلقه. ولفظه خبر ومعناه أمر، تقريره: قولوا: الحمد لله. قال ابن عباس: يعني: الشكر منه، وهو من الحمد.. «3» .. والحمد لله نقيض الذم. وقال ابن الأنباري: هو مقلوب عن المدح كقوله: جبل وجلب، و: بض وضبّ. واختلف العلماء في الفرق بين الحمد والشكر، فقال بعضهم: الحمد: الثناء على الرجل بما فيه من الخصال الحميدة، تقول: حمدت الرجل، إذا أثنيت عليه بكرم أو [حلم] أو شجاعة أو سخاوة، ونحو ذلك. والشكر له: الثناء عليه أو لآله. فالحمد: الثناء عليه بما هو به، والشكر: الثناء عليه بما هو منه. وقد يوضع الحمد موضع الشكر، فيقال: حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرته، ولا يوضع الشكر موضع الحمد، [ف] لا يقال: شكرته على علمه وحلمه. والحمد أعمّ من الشكر لذلك ذكره الله فأمر به، فمعنى الآية: الحمد لله على صفاته العليا وأسمائه الحسنى، وعلى جميع صنعه وإحسانه إلى خلقه. وقيل: الحمد باللسان قولا، قال الله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً «4» ، وقال: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى «5» والشكر بالأركان فعلا، قال الله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «6» . وقيل: الحمد لله على ما حبا وهو النعماء، والشكر على ما زوى وهو اللأواء. وقيل: الحمد لله على النعماء الظاهرة، والشكر على النعماء الباطنة، قال الله تعالى: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً «7» .
في إعراب الحمد لله
وقيل: الحمد ابتداء والشكر «1» .... حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري لفظا، حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي، حدّثنا محمد بن علي الترمذي، حدّثنا عبد الله بن العباس الهاشمي، حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو [بن العاص] قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» «2» [24] . وحدّثنا الحسن بن محمد، أخبرنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه، حدّثنا عبد الله بن محمود السعدي، حدّثنا علي بن حجر، حدّثنا شعيب بن صفوان عن مفضّل بن فضالة عن علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه سئل عن الْحَمْدُ لِلَّهِ قال: كلمة شكر أهل الجنة . في إعراب الْحَمْدُ لِلَّهِ وقد اختلف القرّاء في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فقرأت العامّة بضمّ الدال على الابتداء، وخبره فيما بعده. وقيل: على التقديم والتأخير، أي لله الحمد. وقيل: على الحكاية. وقرأ هارون بن موسى الأعور ورؤبة بن العجاج بنصب الدال على الإضمار، أي أحمد الحمد لأن الحمد مصدر لا يثنّى ولا يجمع. وقرأ الحسن البصري بكسر الدال، أتبع الكسرة الكسرة. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة الشامي بضم الدال واللام، أتبع الضمة الضمّة. رَبِّ الْعالَمِينَ قرأ زيد بن علي: رَبَّ الْعالَمِينَ بالنصب على المدح، وقال أبو سعيد ابن أوس الأنصاري: على معنى أحمد ربّ العالمين. وقرأ الباقون رَبِّ الْعالَمِينَ بكسر الباء، أي خالق الخلق أجمعين ومبدئهم ومالكهم والقائم بأمورهم، والرب بمعنى السيّد، قال الله تعالى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ «3» أي سيّدك، قال الأعشى «4» : واهلكن يوما ربّ كندة وابنه ... وربّ معبين خبت وعرعر «5»
وربّ عمر والرومي من رأس حضية ... وأنزلن بالأسباب رب المشقرة يعني: رئيسها وسيّدها. ويكون بمعنى المالك، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أربّ إبل أنت أم رب غنم؟» «1» [25] . فقال: من كل قد آتاني الله فأكثر وأطنب وقال طرفة: كقنطرة الرومي أقسم ربها ... لتكتنفنّ حتى تشاد بقرمد «2» وقال النابغة: وإن يك ربّ أذواد فحسبي ... أصابوا من لقائك ما أصابوا «3» ويكون بمعنى الصاحب، قال أبو ذؤيب: فدنا له رب الكلاب بكفّه ... بيض رهاب ريشهن مقزع «4» ويكون بمعنى المرعى، يقول: ربّ يربّ ربابة وربوبا، فهو ربّ، مثل برّ وطب، قال الشاعر: يربّ الذي يأتي من العرف إنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمّما «5» ويكون بمعنى المصلح للشيء، قال الشاعر: كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت ... سلاءها في أديم غير مربوب «6» أي غير مصلح. وقال الحسين بن الفضل: الرب: اللبث من غير إثبات أحد، يقال: ربّ بالمكان وأربّ، ولبث وألبث إذا أقام وفي الحديث أنه كان يتعوّذ بالله من فقر ضرب أو قلب قال الشاعر: ربّ بأرض تخطّاها الغنم ... لب بأرض ما تخطاها الغنم «7» وهو الاختيار لأن المتكلمين أجمعوا على أنّ الله لم يزل ربّا وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو بكر محمد بن موسى الواسطي عن الرب، فقال: هو الخالق ابتداء، والمربي غذاء، والغافر انتهاء. ولا يقال للمخلوق: هو الرب، معرّفا بالألف
واللام، وإنما يقال على الإضافة: هو رب كذا لأنه لا يملك الكل غير الله، والألف واللام تدلّان على العموم. وأمّا العالمون فهم جمع عالم، ولا واحد له من لفظه «1» ، كالأنام والرهط والجيش ونحوها. واختلفوا في معناه، حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن، أخبرنا أبو إسحاق بن أسعد بن الحسن بن سفيان عن جدّه عن أبي نصر ليث بن مقاتل عن أبي معاذ الفضل بن خالد عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم عن الربيع بن أنس عن شهر بن حوشب عن أبي بن كعب قال: العالمون هم الملائكة، وهم ثمانية عشر ألف ملكا منهم أربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمشرق، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك بالمغرب، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك بالكهف الثالث من الدنيا، وأربعة آلاف وخمسمائة ملك في الكهف الرابع من الدنيا، مع كل ملك من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلّا الله عزّ وجلّ ومن ورائهم أرض بيضاء كالرخام..» .. مسير الشمس أربعين يوما، طولها لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ مملوءة ملائكة يقال لهم الروحانيون، لهم زجل بالتسبيح والتهليل، لو كشف عن صوت أحدهم لهلك أهل الأرض من هول صوته فهم العالمون، منتهاهم إلى حملة العرش. وقال أبو معاذ [النحوي] : هم بنو آدم. وقال أبو هيثم خالد بن يزيد: هم الجن والإنس لقوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «3» ، وهي رواية عطية العوفي وسعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الحسين بن الفضل: العالمون: الناس، واحتجّ بقوله تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ «4» . وقال العجاج: بخلاف هذا العالم. وقال الفراء وأبو عبيدة: هو عبارة عمن يعقل، وهم أربع أمم: الملائكة، والجن، والإنس، والشياطين، لا يقال للبهائم: عالم. وهو مشتق من العلم، قال الشاعر: ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: هم أهل التنزيه من الخلق. وقال عبد الرّحمن بن زيد ابن أسلم: هم المرتزقون. وقال الخضر بن إسماعيل: هو اسم الجمع الكثير، قال ابن الزبعري:
[سورة الفاتحة (1) : آية 4]
إني وجدتك يا محمد عصمة ... للعالمين من العذاب الكارث «1» وقال أبو عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ابن عباس: كل ذي روح دبّ على وجه الأرض. وقال سفيان بن عيينة: هو جمع للأشياء المختلفة. وقال جعفر بن محمد الصادق: «العالمون: أهل الجنة وأهل النار» . وقال الحسن وقتادة ومجاهد: هو عبارة عن جميع المخلوقات، واحتجوا بقوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا «2» . واشتقاقه على هذا القول من (العلم) و (العلامة) لظهورهم ولظهور أثر الصنعة فيهم ثم اختلفوا في مبلغ العالمين وكيفيتهم، فقال سعيد بن المسيب: لله ألف عالم منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر. وقال الضحاك: فمنهم ثلاثمائة وستون عالما حفاة عراة لا يعرفون من خالقهم، وستون عالما يلبسون الثياب. وقال وهب: لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم منها، وما العمارة في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء. وقال أبو سعيد الخدري: إن لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد. وقال أبو القاسم مقاتل بن حيان: العالمون ثمانون ألف عالم أربعون ألفا في البرّ وأربعون ألفا في البحر. وقال مقاتل بن سليمان: لو فسّرت الْعالَمِينَ، لاحتجت إلى ألف جلد كل جلد ألف ورقة. وقال كعب الأحبار: لا يحصي عدد العالمين إلّا الله، قال الله: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ «3» . [سورة الفاتحة (1) : آية 4] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «4» . اختلف القراء فيه من عشرة أوجه: الوجه الأول: مالِكِ- بالألف وكسر الكاف- على النعت، وهو قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرّحمن بن عوف وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وابن عباس وأبي ذر وأبي هريرة وأنس ومعاوية، ومن التابعين وأتباعهم عمر بن عبد العزيز ومحمد بن شهاب الزهري ومسلمة بن زيد والأسود بن يزيد وأبو عبد الرّحمن السلمي وسعيد بن جبير وأبو رزين وإبراهيم وطلحة بن عوف وعاصم بن أبي النجود و. «5» .. بن عمر
الهمذاني وشيبان ابن عبد الرّحمن وعلي بن صالح بن حي وابن أبي ليلى وعبد الله بن إدريس وعلي بن حمزة الكسائي وخلف بن هشام والحسين بن أبي الحسن البصري من أهل البصرة وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن سيرين وبكر بن عبد الله المزني وقتادة بن دعامة السدوسي ويحيى بن يعمر.. «1» .. وعيسى بن عمر النفعي وسلام بن سليمان أبو المنذر ويعقوب بن أعين الحضرمي وأيوب بن المتوكل وأبو عبيدة و.. «2» .. وسعيد بن مسعدة الأخفش وخالد بن معدان والضحاك بن مزاحم. أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن علي، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب وأخبرنا أبو العباس الأصمّ، أخبرنا ابن عبد الحكم: حدّثنا.. «3» .. بن سويد الحميري عن يونس عن يزيد عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر كانوا يقرءون: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. وأخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، أخبرنا محمد بن محمد بن خلف العطار، حدّثنا المنذر بن المنذر الفارسي، حدّثنا هارون بن حاتم، حدّثنا إسحاق بن منصور الأسدي عن أبي إسحاق.. «4» .. عن مالك بن دينار عن أنس قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وأبا بكر وعمر وعثمان وعليّا يقرءون: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأوّل من قرأها: (ملك يوم الدين) مروان بن الحكم. والوجه الثاني: ملك، بغير ألف وكسر الكاف على التفسير أيضا، وهو قراءة زيد بن ثابت وأبي الدرداء وشعيب بن يزيد والمسور بن المخرمة ومن التابعين وأتباعهم عروة بن الزبير وأبو بكر بن عمر بن حزم ومروان بن الحكم و.. «5» .. وعبد الرّحمن بن هرمز الأعرج وأبان بن عثمان وأبو جعفر يزيد بن المفضل ونسيبة بن نصّاح ونافع بن نعيم ومجاهد وابن كثير وابن محسن وحميد بن معين ويحيى بن وثاب وحمزة بن حبيب ومحمد بن سيرين وعبد الله بن عمر وأبو عمرو بن العلاء وعمرو بن.. «6» .. وعبد الله بن عامر النصيبي. وروي ذلك أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن عثمان وعلي عليه السّلام. أخبرنا ابن حمدويه، أخبرنا أبن أيوب [المنقري] : أخبرنا ابن حامد «7» وابن.. «8» .. قالا: أخبرنا حامد بن محمّد، حدّثنا وأخبرنا ابن عمر، حدّثنا الرفاء، قالوا: حدّثنا علي بن عبد العزيز، حدّثنا أبو عبيد، حدّثنا يحيى بن سعيد القطّان، حدّثنا عبد الملك بن جريج عن عبد الله
الفرق بين ملك ومالك
ابن أبي مليكة عن أمّ سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ. والوجه الثالث: ملك- بجزم اللام- على النعت، وهو رواية الحسن بن عليّ الجعفي وعبد الوارث بن سعيد، وروي عن ابن عمر. والوجه الرابع: أنّ مالكَ- بالألف ونصب الكاف- على النداء، وهي قراءة الأعمش ومحمد بن [السميقع] وعبد الملك قاضي الجند، وروي ذلك عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قال في بعض غزواته: «يا مالك يوم الدين» «1» [26] . والوجه الخامس: ملك- بنصب الكاف من غير ألف- على النداء أيضا، وهي قراءة عطية.. «2» .. والوجه السادس: مالكُ- بالألف ورفع الكاف- على معنى: هو مالك، وهي قراءة عزير العقيلي. والوجه السابع: ملك- برفع الكاف من غير ألف- وهي قراءة أبي حمزة وابن سيرين. والوجه الثامن: مالك، بالإمالة والإضجاع البليغ. روي ذلك عن يحيى بن يعمر. وعن أيوب السختياني بين الإمالة والتفخيم.. «3» .. عن.. «4» .. عن الكلبي. والوجه التاسع: (ملك يوم الدين) على الفعل، وهي قراءة الحسن ويحيى بن يعمر وأبي حمزة وأبي حنيفة. الفرق بين ملك ومالِكِ [أما] الفرق بين مالِكِ وملك فقال قوم: هما لغتان بمعنى واحد، مثل (فرهين) و (فارِهِينَ) و (حذرين) و (حاذرين) و (فَكِهِينَ) و (فاكِهِينَ) .. «5» .. بينهما، فقال أبو عبيدة والأصمعي وأبو سالم والأخفش وأبو الهيثم: مالِكِ أجمع وأوسع وأمدح، ألا ترى أنه يقال: الله مالك الطير والدواب والوحش وكل شيء، ولا يقال: ملك كل شيء، وإنما يقال: مَلِكِ النَّاسِ؟ قالوا: ولا يكون مالك الشيء إلّا هو يملكه ويكون ملك الشيء وهو لا يملكه، كقولهم: ملك العرب والعجم والروم.
وقالوا أيضا: إن (المالك) يجمع الفعل والاسم. وقال بعضهم: في (مالِكِ) .. «1» .. ومالِكِ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات» «2» [27] . وقال أبو عبيد: الذي نختار ملك.. «3» .. مرويا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أثبت. ومن قرأ بها من أهل العلم أكثر. وهي مع هذا في المعنى أصحّ لقوله تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ «4» ، و: الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ «5» ، و: مَلِكِ النَّاسِ «6» ، و: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «7» ، ولم يقل: لمن الملك اليوم؟ والملك مصدر الملك وغيره، وملك يصلح للمالك والمليك، يقال: ملك الشيء يملكه ملكا، فهو مالك ومليك، و: ملكه يملكه ملكا فهو ملك لا غير. وهما بعد الناس، ومعناهما الربّ لأن العرب تقول: رب الدار والعبد والضيعة بمعنى أنه مالكها، ولا يفرّقون بين قولهم: ربّها ومالكها ومن.. «8» .. قال: إن المالك والملك هو القادر على استخراج الأعيان من العدم إلى الوجود، ولا يقدر في الحقيقة على إخراجها إلّا الله المالك، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا ملك إلّا الله» «9» [28] . فأما غيره، فيسمى مالكا وملكا على المجاز. والمراد بذلك: أنه مأذون له في التصرّف فيه. وقال عبد العزيز بن يحيى: المالك يمكن بما يملكه، منفرد به عن أبناء جنسه، تعود منافعه إليه، والمالك الثاني الذي بيده الشيء، ويستولي عليه، ويصرفه فيما يريده. تقول العرب: ملّكك زمام البعير، وملكت العجين إذا شددته، وأملكت المرأة إملاكا، قال الشاعر: وجبرئيل أمين الله أملكها معنى قوله: الدِّينِ وأما معنى قوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فقال ابن عباس والسدي ومقاتل: قاضي يوم الحساب. ودليله قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ «10» ، أي الحساب المستقيم. الضحاك وقتادة: الدِّينِ: الجزاء، يعني: يوم يدين الله العباد بأعمالهم. دليله قوله: أَإِنَّا لَمَدِينُونَ «11» ، أي مجرّبون. قال لبيد:
حصادك يوما ما زرعت وإنما ... يدان الفتى يوما كما هو دائن» وقال عثمان بن زيات: يوم القهر والغلبة، تقول العرب: مدان فدان، أي قهرته فخضع وذلّ. وقال الأعشى: هو دان الرباب إذ كرهوا الدين ... دراكا بغزوة وارتحال ثم دانت بعد الرباب وكانت ... كعذاب عقوبة الأقوال «2» وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الأديب يقول: سمعت أبا المضر محمد بن أحمد ابن منصور يقول: سمعت أبا عمر غلام ثعلب يقول: كان الرجل إذا أطاع ودان إذا عصى، ودان إذا عزّ وكان إذا ذلّ، ودان إذا قهر. وقال الحسن بن الفضل: يوم الإطاعة، قال زهير: لئن حللت بواد في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك «3» أي في طاعة، وكل ما أطيع الله فيه فهو دين. وقال بعضهم: يوم العمل، قال الفراء: دين الرجل خلقه وعمله وعادته، وقال المثقب العبدي: تقول إذا درأت وضيني لها ... أهذا دينه أبدا وديني «4» وقال محمد بن كعب القرضي: مالك يوم لا ينفع فيه إلّا الدين، وهذه من قول الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «5» ، وقوله: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً «6» . وإنما خصّ يوم الدين بكونه مالكا له لأن الأملاك في ذلك اليوم زائلة [فينفرد تعالى بذلك] «7» ، وهي باطلة والأملاك خاصة. وقيل: خص يَوْمِ الدِّينِ بالمالك فيه لأن ملك الدنيا قد اندرج في قوله: رَبِّ الْعالَمِينَ «8» ، فأثبت أنه مالك الآخرة بقوله: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ليعلم أن الملك له في الدارين. وقيل: إنما خصّ يَوْمِ الدِّينِ بالذكر تهويلا وتعظيما لشأنه كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ «9» ، ولا خفاء بهم في كل الأوقات عن الله عزّ وجلّ.
[سورة الفاتحة (1) : آية 5]
[سورة الفاتحة (1) : آية 5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ رجع من الخبر الى الخطاب على التلوين. وقيل فيه إضمار، أي قولوا: إِيَّاكَ. وإيا كلمة ضمير، لكنه لا يكون إلّا في موضع النصب، والكاف في محلّ الخفض بإضافة إيا إليها، وخصّ بالإضافة إلى الضمير لأنه يضاف إلى الاسم المضمر ألا يقول الشاعر: فدعني وإيا خالد ... لأقطعن عري نياطه «1» وحكى الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإياكم. ويستعمل مقدّما على الفعل مثل (إياك أعني) و (إياك أسأل) ، ولا يستعمل مؤخّرا على الفعل إلّا أنّ ... «2» .. به حين الفعل، فيقال: ما عبدت إلّا إياك ونحوها. وقال أبو ميثم سهل ابن محمد: إياك ضمير منفصل، والضمير ثلاثة أقسام: ضمير متّصل نحو الكاف والهاء والياء في قولك: أكرمك، وأكرمني. سمي بذلك لاتصاله بالفعل. وضمير منفصل نحو إياك وإياه وإياي. سمي بذلك لانفصاله عن الفعل. وضمير مستكن، كالضمير في قولك: قعد وقام. سمي بذلك لأنه استكن في الفعل ولم يستبق في اللفظ ويعمّ أن فيه ضمير الفاعل لأن الفعل لا يقوم إلّا بفاعل ظاهر أو مضمر. وقال أبو زيد: إنما هما ياءان: الأولى للنسبة والثانية للنداء، تقديرها: (أي يا) ، فأدغمت وكسرت الهمزة لسكون الياء. وقال أبو عبيد: أصله (أوياك) ، فقلبت الواو ياء فأدغموه، وأصله من (آوى، يؤوي، إيواء) كأن فيه معنى الانقطاع والقصد. وقرأ الفضل الرقاشي (أياك) بفتح الألف وهي لغة. وإنما لم يقل: نعبدك [لأنه] يصحّ في العبارة، وأحسن الإشارة لأنهم إذا قالوا: إياك نعبد، كان نظرهم منه إلى العبادة لا من العبادة إليه. وقوله: نَعْبُدُ أي نوحد ونخلص ونطيع ونخضع، والعبادة رياضة النفس على حمل المشاق في الطاعة. وأصلها الخضوع والانقياد والطاعة والذلة، يقال: طريق معبّد إذا كان مذللا موطوءا بالأقدام. قال طرفة: تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفا وظيفا فوق مور معبّد «3»
[سورة الفاتحة (1) : آية 6]
وبعير معبد إذا كان مطليا بالقطران، قال طرفة: إلى أن تحامتني العشيرة كلّها ... وأفردت إفراد البعير المعبّد «1» وسمّي العبد عبدا لذلّته وانقياده لمولاه. وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: نستوفي ونطلب المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلّها، يقال: استعنته واستعنت به، وقرأ يحيى بن رئاب: (نستعين) بكسر النون. قال الفرّاء: تميم وقيس وأسد وربيعة يكسرون علامات المستقبل إلّا الياء، فيقولون إستعين ونستعين ونحوها، ويفتحون الياء لأنها أخت الكسرة. وقريش وكنانة يفتحونها كلّها وهي الأفصح والأشهر. وإنّما كرّر إِيَّاكَ ليكون أدلّ على الإخلاص والاختصاص والتأكيد لقول الله تعالى خبرا عن موسى: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً «2» ، ولم يقل: كي نسبحك ونذكرك كثيرا. وقال الشاعر: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا «3» ولم يقل بين النهار والليل. وقال الآخر: بين الأشجّ وبين قيس باذخ ... بخ بخ لوالده وللمولود «4» وقال أبو بكر الورّاق: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأنك خلقتنا، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأنك هديتنا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرّحمن الفرّان، وقد سئل عن الآية فقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأنك الصانع، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأن المصنوع لا غنى به عن الصانع، إِيَّاكَ نَعْبُدُ لتدخلنا الجنان، وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لتنقذنا من النيران، إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأنّا عبيد وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأنك كريم مجيد، إِيَّاكَ نَعْبُدُ لأنك المعبود بالحقيقة وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لأننا العباد بالوثيقة. [سورة الفاتحة (1) : آية 6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) اهْدِنَا، قال علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) وأبيّ بن كعب: أرشدتنا فهذا كما يقال للرجل الذي يأكل: كل، والذي يقرأ: اقرأ، وللقائم: قم لي حتّى أعود لك أي دم على ما أنت
الإختلاف في قراءة الصراط
عليه. وقال السدّي ومقاتل: أرشدنا، يقال: هديته للدّين وهديته الى الدين هدى وهداية، قال الحسن بن الفضل: الهدى في القرآن على وجهين: الوجه الأول: هدى دعاء وبيان كقوله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» ، وقوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ «2» ووَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ «3» . الوجه الثاني: هدى توفيق وتسديد كقوله: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ «4» ، وقوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «5» . والصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الطريق الواضح المستوي، قال عامر بن الطفيل: خشونا أرضهم بالخيل حتّى ... تركناهم أذل من الصراط «6» وقال جرير: أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجّ الموارد مستقيم «7» الإختلاف في قراءة الصِّراطَ وفي الصِّراطَ خمس قراءات: بالسين وهو الأصل، سمّي الطريق سراطا لأنّه يسترط المارّة. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن حمدويه، حدّثنا محمود بن آدم، حدّثنا سفيان عن عمر عن ثابت قال: سمعت ابن عباس قرأ السراط بالسين ، وبه قرأ ابن كثير [من] طريق.. «8» .. ويعقوب [من] طريق.. «9» ... وبإشمام السين وهي رواية أبي حمدون عن الكسائي، وبالزاي وهي رواية أبي حمدون عن سليم عن حمزة. وبإشمام الزاي وهي قراءة حمزة في أكثر الروايات والكسائي في رواية نهشل والشيرازي. وبالصاد قراءة الباقين من القرّاء. وكلّها لغات فصيحة صحيحة إلّا إن الاختيار الصاد لموافقة المصحف لأنها كتبت في جميع المصاحف بالصاد. ولأن آخرتها بالطاء لأنهما موافقتان في الاطباق والاستعلاء. واختلف المفسّرون في الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد، وأبو
القاسم الحسن بن محمد النيسابوري قالا: أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني، حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، حدّثنا الحسين بن علي عن حمزة الزيّات عن أبي المختار الطائي عن [ابن] أبي أخ الحرث الأعسر عن الحرث عن علي قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم [يقول] : «الصراط المستقيم كتاب الله عزّ وجلّ» «1» [29] . وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا حامد بن محمد، حدّثنا محمد بن شاذان الجوهري، حدّثنا زكريا بن عديّ عن مقتضي عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال: الصراط المستقيم كتاب الله عزّ وجلّ. وأخبرنا عبد الله، أخبرنا عبد الرّحمن بن محمد، حدّثنا ليث، حدّثنا عقبة بن سليمان، حدّثنا الحسين بن صالح عن أبي عقيل عن جابر قال: الصراط المستقيم الإسلام، وهو أوسع مما بين السماء والأرض [وإنما كان] الصراط المستقيم الإسلام لأن كل دين وطريق [غير] الإسلام فليس بمستقيم. وروى عاصم الأحول عن أبي العالية الرياحي: هو طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحباه «2» . قال عاصم: فذكرت ذلك للحسن فقال: صدق أبو العالية ونصح. وقال بكر بن عبد الله المزني: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام، فسألته عن الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، فقال: سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. وقال سعيد بن جبير: يعني طريق [الحق] . وقال السدّي: أرشدنا إلى دين يدخل صاحبه به الجنة ولا يعذب في النار أبدا، ويكون خروجه من قبره إلى الجنة. وقال محمد بن الحنفية: هو دين [الله] الذي لا يقبل من عباده غيره. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله العايني، حدّثنا أبو الحسين محمد بن عثمان النصيبي ببغداد، حدّثنا أبو القاسم [....] «3» ابن نهار، حدّثنا أبو حفص المستملي، حدّثنا أبي، حدّثنا حامد بن سهل، حدّثنا عبد الله بن محمد العجلي، حدّثنا إبراهيم بن جابر عن مسلم بن حيان عن أبي بريدة في قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال: صراط محمد صلّى الله عليه وسلّم وآله (عليهم السلام) «4» .
[سورة الفاتحة (1) : آية 7]
وقال عبد العزيز بن يحيى: يعني طريق السواد الأعظم. [وقال] أبو بكر الورّاق: يعني صراطا لا تزيغ به الأهواء يمينا وشمالا. وقال محمد بن علي النهدي: يعني طريق الخوف والرجاء. وقال أبو عثمان الداراني: [يعني] طريق العبودية. وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله بهرات يقول: سمعت أبا الحسن عمر بن واصل العنبري يقول: سمعت [سهل] بن عبد الله التستري يقول: طريق السنّة والجماعة لأن البدعة لا تكون مستقيمة. وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر: حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب الأصم: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي: أخبرنا أبو بكر بن عيّاش عن عاصم عن زر عن أبي وائل عن عبد الله قال: خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطّين، خطّا عن يمينه وخطّا عن شماله ثم قال: «هذه السبل، وعلى كلّ سبيل منهما شيطان يدعو إليه، وهذا سبيل الله» [30] «1» ، ثم قرأ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدّثنا معمّر بن سفيان الصغير، حدّثنا يعقوب بن سفيان الكبير، حدّثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدّثنا معاوية بن صالح أن عبد الرّحمن بن جبير بن نصر حدّثه عن أبيه جبير عن نواس بن معاذ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ضرب الله مثلا (صِراطاً مُسْتَقِيماً) وعلى جانبي الصراط ستور مرخاة فيها أبواب مفتّحة وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه بالصراط: الإسلام. والستور حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على الصراط كتاب الله عزّ وجلّ، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم» [31] «3» . [سورة الفاتحة (1) : آية 7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) صِراطَ بدل من الأول الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يعني: طريق الذين أنعمت عليهم بالتوفيق والرعاية، والتوحيد والهداية، وهم الأنبياء والمؤمنون الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» .
قال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى من قبل أن يغيّروا نعم الله عليهم. وقال شهر بن حوشب هم أصحاب الرسول صلّى الله عليه ورضي عنهم وأهل بيته (عليهم السلام) . وقال عكرمة: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالثبات على الإيمان والاستقامة. وقال علي بن الحسين بن داود: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بالشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء. وقال.. «1» .. بن.. «2» ..: بما قد سنّه محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال الحسين بن الفضل: يعني أتممت عليهم النعمة فكم من منعم عليه.. «3» ... وأصل النعمة المبالغة والزيادة، يقال: دققت الدواء فأنعمت دقّه أي بالغت في دقه، ومنه قول العرب النبي صلّى الله عليه وآله «إن أهل الجنة يتراءون الغرفة منها كما يتراءون الكوكب الدرّي الشرقي أو الغربي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» «4» [32] . أي زادا عليه. وقال أبو عمرو: بالغا في الخير. وقرأ الصادق: (صراط من أنعمت عليهم) ، وبه قرأ عمرو بن الزبير وعلي ، حرف اللام يجر ما بعده. وفي عَلَيْهِمْ سبع قراءات: الأولى: عَلَيْهِمْ- بكسر الهاء وجزم الميم- وهي قراءة العامّة. والثانية: عليهُمْ- بضم الهاء وجزم الميم- وهي قراءة الأعمش وحمزة. وروي ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعمر (رضي الله عنه) . والثالثة: عليهُمُ- بضم الهاء والميم وإلحاق الواو- وهي قراءة عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق. والرابعة: عليهمو- بكسر الهاء وضم الميم وإلحاق الواو- وهي قراءة ابن كثير والأعرج. والخامسة: عليهِمِ- بكسر الهاء والميم وإلحاق الياء- وهي قراءة الحسن. والسادسة: عليهِمُ- بكسر الهاء وضم الميم مضمومة مختلسة- وهي رواية عبد الله بن عطاء الخفّاف عن أبي عمرو. والسابعة: عليهِمِ- بكسر الهاء والميم- وهي قراءة عمرو بن حامد.
في معنى الغضب
فمن ضمّ الهاء ردّه إلى الأصل لأنه لو أفرد كان مضموما عند الابتداء به، ومن كسره فلأجل الياء الساكنة. ومن كسر الهاء وجزم الميم فإنه يستثقل الضمّ مع مجاورة الياء الساكنة، والياء أخت الكسرة والخروج من الضم إلى الكسر ثقيل. ومن ضمّ الهاء والميم أتبع فيه الضمّة. ومن كسر الهاء وضمّ الميم فإنه كسر الهاء لأجل الياء وضمّ الميم على الأصل، والاختلاس للاستخفاف، وإلحاق الواو والياء للإتباع والله أعلم. قال الشاعر في الميم المختلسة: والله لولا شعبة من الكرم ... وسطة في الحي من خال وعم «1» لكنت فيهم رجلا بلا قدم غَيْرِ الْمَغْضُوبِ غير: صفة الذين. والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف إلّا إن الذين ليس بمعرفة موقتة ولكنّه بمنزلة قولك: إني لأمرّ بالصادق غير الكاذب، كأنك قلت: من يصدق لا من يكذب. ولا يجوز: مررت بعبد الله غير الظريف. ومعنى كلامه: غير صراط الذين غضبت عَلَيْهِمْ. في معنى الغضب واختلفوا في معنى الغضب من الله عزّ وجلّ، فقال قوم: هو إرادة الانتقام من العصاة. وقيل: هو جنس من العقاب يضادّ والرضا. وقيل: هو ذم العصاة على قبح أفعالهم. ولا يلحق غضب الله تعالى العصاة من المؤمنين بل يلحق الكافرين. وَلَا الضَّالِّينَ عن الهدى. وأصل الضلال الهلاك، يقال ضلّ الماء في اللبن إذا خفي وذهب، و: رجل ضالّ إذا أخطأ الطريق، و: مضلّل إذا لم يتوجّه لخير، قال الشاعر: ألم تسأل فتخبرك الديار ... عن الحي المضلل أين ساروا «2» قال الزجاج وغيره: وإنما جاز أن يعطف ب (لا) على غير لأن غير متضمّن معنى النفي فهو بمعنى لا، مجازه: غير المغضوب عليهم وغير الضالين كما تقول: فلان غير محسن ولا مجمل. فإذا كان (غير) بمعنى سوى لم يجز أن يعطف عليها ب (لا) لأنه لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد. وروى الخليل بن أحمد عن ابن كثير: غَيْرَ الْمَغْضُوبِ نصبا. وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما-: (وغير الضالين) ، وقرأ السختياني (ولأ الضالئين) بالهمزة لالتقاء الساكنين، والله أعلم.
فأما التفسير:
فأما التفسير: فأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، أخبرنا أحمد بن حنبل ومحمد بن دينار قالا: حدّثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سماك قال: سمعت عباد بن حبيش عن عديّ بن حاتم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قال: «اليهود» ، وَلَا الضَّالِّينَ قال: «النصارى» «1» [33] . وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، أخبرنا أبو زكريا العنبري، حدّثنا محمد بن عبد الله الوراق، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر بن عبد الله بن بديل العقيلي عن عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بوادي القرى على فرسه فسأله رجل من القين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء الذين يقاتلونك؟ قال: «المغضوب عليهم» ، وأشار إلى اليهود. فقال: من هؤلاء الطائفة الأخرى؟ فقال: «الضالون» ، وأشار إلى النصارى «2» [34] . وتصديق هذا الحديث حكم الله تعالى بالغضب على اليهود في قوله: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ «3» ، وحكم الضلال على النصارى في قوله: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا «4» . وقال الواقدي: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بالمخالفة والعصيان، وَلَا الضَّالِّينَ عن الدين والإيمان. وقال التستري: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ البدعة، وَلَا الضَّالِّينَ عن السنة. فصل في آمين والسنّة المستحبة أن يقول القارئ بعد فراغه من قراءة فاتحة الكتاب: آمين سواء كان في الصلاة أو غير الصلاة لما أخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدّثنا أبو داود عن سفيان، وأخبرنا عبد الله قال: وأخبرنا عبدوس بن الحسين، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثنا ابن كثير، أخبرنا سفيان عن سلمة عن حجر أبي العنبس الحضرمي عن أبي قايل بن حجر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ: وَلَا الضَّالِّينَ، قال: «آمين» ، ورفع بها صوته «5» [35] .
وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لقّنني جبرائيل عليه السّلام آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب» [36] . وقال «إنّه كالخاتم على الكتاب» «1» وفيه لغتان: أمين بقصر الألف، وأنشد: تباعد منّي فعطل إذ سألته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وآمين بمد الألف وأنشد: يا ربّ لا تسلبني حبّها أبدا ... ويرحم الله عبدا قال آمينا «2» وهو مبني على الفتح مثل أين. واختلفوا في تفسيره فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، أخبرنا أبو العباس محمد ابن إسحاق بن أيوب، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، حدّثنا عبيد بن يعيش عن محمد ابن الفضل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن معنى «آمين» قال: «ربّ افعل» [37] «3» . وقال ابن عباس وقتادة: معناه: كذلك يكون. وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا عبد الله بن حاتم، حدّثنا عبد الله بن نمير، أخبرنا سفيان عن منصور عن هلال بن يساف قال: آمين اسم من أسماء الله تعالى، و [بذلك] «4» قال مجاهد. وقال سهل بن عبد الله: معناه: لا يقدر على هذا أحد سواك. وقال محمد بن علي النهدي: معناه لا تخيّب رجانا. وقال عطية العوفي: آمين كلمة ليست بعربية، إنما هي عبرية أو سريانية ثمّ تكلمت به العرب فصار لغة لها. وقال عبد الرّحمن بن زيد: آمين كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله أحد إلّا الله عزّ وجلّ. وقال أبو بكر الورّاق: آمين قوة للدعاء واستنزال للرحمة. وقال الضحّاك بن مزاحم: آمين أربعة أحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى، وهو خاتم رب العالمين يختم به براءة أهل الجنة وبراءة أهل النار، وهي الجائزة التي منها يجوزون إلى الجنة والنار «5» .
فصل في أسماء هذه السورة
يدلّ عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله، حدّثنا محمد بن علي الحافظ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه، حدّثنا سعيد بن جبير، حدّثنا المؤمل بن عبد الرّحمن بن عياش الثقفي، عن أبي أمية بن يعلى الثقفي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين» [38] «1» . أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون بن الفضل بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وأربعمائة أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين بن الشرقي، حدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرّحمن بن بشر وأحمد بن يوسف قالوا: حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا معمّر عن همّام بن منبّه قال: حدّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: «إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافق إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه» [39] «2» . وحدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمّد بن جعفر، أخبرنا محمّد أبو الحسن محمد بن الحسن بهراة، حدّثنا رجاء بن عبد الله، حدّثنا مالك بن سليم، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج عن عطاء قال: آمين دعاء [وعنه عن] النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما حسدكم اليهود على شيء، كما حسدوكم على آمين، وتسليم بعضكم على بعض» [40] «3» . وقال وهب بن منبه: آمين على أربع أحرف، يخلق الله تعالى من كل حرف ملكا يقول: اللهم اغفر لمن قال: آمين. فصل في أسماء هذه السورة هي عشرة، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى: الأول: فاتحة الكتاب، سمّيت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة، وهي مفتتحة بالآية التي تفتتح بها الأمور تيمّنا وتبرّكا وهي التسمية. وقيل: سمّيت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقال الحسين بن الفضل: لأنها أول سورة نزلت من السماء. والثاني: سورة الحمد، لأن فيها ذكر الحمد، كما قيل: سورة (الأعراف) و (الأنفال) و (التوبة) ونحوها. والثالث: أمّ الكتاب والقرآن سمّيت بذلك لأنها أوّل القرآن والكتب المنزلة، فجميع ما
أودعها من العلوم مجموع في هذه السورة فهي أصل لها كالأم للطفل، وقيل: سمّيت بذلك لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة سميت أم القرى لأنها أشرف البلدان. وقيل: سمّيت بذلك لأنها مقدّمة على سور القرآن، فهي أصل وإمام لما يتلوها من السور، كما أن أم القرى أصل جميع البلدان دحيت الأرض من تحتها. وقيل: سمّيت بذلك لأنها مجمع العلوم والخيرات، كما أن الدماغ يسمى أمّ الرأس لأنها مجمع الحواس والمنافع. وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد المفسّر يقول: سمعت أبا بكر القفّال يقول: سمعت أبا بكر البريدي يقول: الأم في كلام العرب: الراية ينصبها العسكر. قال قيس بن الخطيم: نصبنا أمّنا حتى ابذعرّوا ... وصاروا بعد إلفتهم شلالا فسمّيت أم القرآن لأن مفزع أهل الإيمان إليها كمفزع العسكر إلى الراية. والعرب تسمي الأرض أمّا لأنّ معاد الخلق إليها في حياتهم وبعد مماتهم، قال أمية بن أبي الصلت: والأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها مقابرنا وفيها نولد «1» وأنشدني أبو القاسم قال: أنشدنا أبو الحسين المظفّر محمد بن غالب الهمداني قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبي قال: أنشدني أحمد بن عبيدة: نأوي إلى أمّ لنا تعتصب ... كما ولها أنف عزيز وذنب وحاجب ما إن نواريها الغصب ... من السحاب ترتدي وتنتقب «2» يعني: نصبه كما وصف لها. وسميت الفاتحة أمّا لهذه المعاني. وقال الحسين بن الفضل: سميت بذلك لأنها إمام لجميع القرآن تقرأ في كل [صلاة و] «3» تقدم على كل سورة، كما أن أمّ القرى إمام لأهل الإسلام. وقال ابن كيسان: سميت بذلك لأنها تامة في الفضل. والرابع: السبع المثاني، وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله. والخامس: الوافية، حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري، حدّثنا أبي عن أمّه عن محمد بن نافع السنجري، حدّثنا أبو يزيد محبوب الشامي، حدّثنا عبد الجبار بن العلاء قال: كان يسمي سفيان بن عيينة فاتحة الكتاب: الوافية، وتفسيرها لأنها لا تنصف ولا تحتمل الاجتزاء إلّا أن كل سورة من سور القرآن لو قرئ نصفها في ركعة والنصف الآخر في ركعة كان جائزا، ولو نصفت الفاتحة وقرئت في ركعتين كان غير جائز.
والسادس: الكافية، أخبرنا أبو القاسم السدوسي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن مالك المسوري، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عمران قال: حدّثنا سهيل بن [محمّد] «1» ، حدّثنا عفيف بن سالم قال: سألت عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن قراءة الفاتحة خلف الإمام فقال: عن الكافية تسأل؟ قلت: وما الكافية؟ قال: أما علمت أنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. إياك أن تصلي إلّا بها. وتصديق هذا الحديث ما حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر المفسر، حدّثنا عبد الرّحمن بن عمر ابن مالك الجوهري بمرو، حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن يسار، عن محمد بن عباد الاسكندراني عن أشهب بن عبد العزيز، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّ القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا» «2» [41] . والسابع: الأساس، حدّثنا أبو القاسم الحسين بن محمد المذكر، حدّثنا أبو عمرو بن المعبّر محمد بن الفضل القاضي بمرو، حدّثنا أبو هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي، حدّثنا جارود بن معاد، أخبرنا وكيع قال: إن رجلا أتى الشعبي فشكا إليه وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن. قال: وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب. قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس غير مرّة يقول: إن لكل شيء أساسا وأساس العمارة مكة لأنها منها دحيت الأرض وأساس السماوات غريبا «3» ، وهي السماء السابعة، وأساس الأرض عجيبا، وهي الأرض السابعة السفلى، وأساس الجنان جنة عدن، وهي سرّة الجنان، وعليها أسّست الجنان، وأساس النار جهنم، وهي الدركة السابعة السفلى وعليها أسست الدركات، وأساس الخلق آدم عليه السّلام، وأساس الأنبياء نوح عليه السّلام، وأساس بني إسرائيل يعقوب، وأساس الكتب القرآن، وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى. والثامن: الشفاء، حدّثنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتّب لفظا، حدّثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الرفّاء، أخبرنا محمد بن أيوب الواقدي، حدّثنا أبو عمرو بن العلاء، حدّثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن محمد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فاتحة الكتاب شفاء من كل سمّ» «4» [42] . وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه، حدّثنا أبو الحسين محمّد بن الحسن الصفار الفقيه،
حدّثنا أبو العباس السرّاج، حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا معاوية بن صالح، عن أبي سليمان قال: مرّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواتهم على رجل مقعد متربّع فقرأ بعضهم في أذنه شيئا من القرآن فبرئ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي أمّ القرآن، وهي شفاء من كل داء» «1» [43] . أخبرنا أحمد بن أبيّ الخوجاني، أخبرنا الهيثم بن كليب الشامي، حدّثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا سعيد بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي عن خارجة بن الصلت التميمي، عن عمّه قال: جاء عمي من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمرّوا بحيّ من الأعراب، فقالوا: انّا نراكم قد جئتم من عند هذا الرسول، إنّ عندنا رجلا مجنونا مخبولا، فهل عندكم من دواء أو رقية؟ فقال عمّي: نعم. فجيء به، فجعل عمي يقرأ أمّ القرآن وبزاقه فإذا فرغ منها بزق فجعل ذلك ثلاثة أيام، فكأنّما أهبط من جبال، قال عمي: فأعطوني عليه جعلا، فقلت: لا نأكله حتى نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فسأله، فقال: «كله، فمن الحلّ ترقيه بذلك. لقد أكلت برقية حق» «2» . والتاسع: الصلاة، قد تواترت الأخبار بأن الله تعالى سمّى هذه السورة، وهو ما يعرف انّه لا صلاة إلّا بها. أخبرنا عبد الله بن حامد وأحمد بن يوسف بقراءتي عليهما قالا: أخبرنا مكي بن عبد الله، حدّثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأته على ابن نافع، وحدّثنا مطرف عن مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرّحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله عزّ وجلّ: قسمت الصلاة- يعني هذه السورة- بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي، فإذا قرأ العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقول الله: حمدني عبدي. وإذا قال العبد: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال العبد: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول الله: مجّدني عبدي. وإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال الله: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى آخرها قال: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل «3» [44] . والعاشر: سورة تعلم المسألة لأن الله تعالى علّم فيه عباده آداب السؤال، فبدأ بالثناء ثم الدعاء، وذلك سبب النجاح والفلاح. القول في وجوب قراءة هذه السورة في الصلاة. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر الطبري، حدّثنا بشر بن مطير، حدّثنا
سفيان، حدّثنا العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه أنه سمع أبا هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب «1» فهي خداج- ثلاث مرات- غير تمام» «2» [45] . وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا ابن عباس، حدّثنا عبد الرّحمن بن بشر، حدّثنا ابن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» » [46] . أخبرنا عبد الله، أخبرنا عبدوس بن الحسين، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثنا أبو قبيصة، حدّثنا سفيان عن جعفر بن علي بيّاع الأنماط عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أنادي: «لا صلاة إلّا بقراءة فاتحة الكتاب» «4» [47] . وأخبرنا عبد الله، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، أخبرنا أبو المثنى، حدّثنا مسدّد، حدّثنا عبد الوارث بن حنظلة السدوسي قال: قلت لعكرمة: إنّي ربّما قرأت في المغرب قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وأنّ الناس يعيبون عليّ ذلك، فقال: سبحان الله اقرأ بهما فإنّهما من القرآن، ثمّ قال: حدّثنا ابن عبّاس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلّا بفاتحة الكتاب لم يزد على ذلك غيره. وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، حدّثنا أبو العبّاس الأصمّ، أخبرنا الربيع بن سليمان، حدّثنا الشافعي، حدّثنا سفيان عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» «5» واحتجّ من أجاز الصلاة بغيرها بقوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. وأخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد بقراءتي عليه أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا أبو المثنّى حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عمر قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد فدخل رجل وصلّى ثم جاء فسلّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع فصلّ، فإنك لم تصلّ» حتى فعل ذلك ثلاث مرات. قال الرجل: والذي بعثك بالحق نبيا ما أحسن غير هذا، فعلّمني. قال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ ما تَيَسَّرَ معك مِنَ الْقُرْآنِ ثم اركع» [48] «6» . وهذه اللفظة يحتمل أنه أراد أن كل ما وقع عليه اسم قرآن وجهل إنما يراد سورة بعينها،
ذكر وجوب قراءتها على المأموم كوجوبها على الإمام واختلاف الفقهاء فيه:
فلمّا احتمل الوجهين نظرنا فوجدنا النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى بفاتحة الكتاب وأمر بها [وشدّد على] «1» من تركها، فصار هذا الخبر مجملا، والأخبار التي رويناها مفسرة، والمجمل يدل على المفسر، وهذا كقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «2» ثم لم يجز أحد [ترك الهدي] «3» بل ثبتها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصفة أن لا يكون أعور ولا أعرج ولا معيوبا، فكذلك أراد بقوله عزّ وجلّ وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فسّر بالصفة التي بينها أن تكون سورة الحمد إذا أحسنها، وقدرها إذا لم يحسنها. فبالعلة التي أوجبوا قراءة آية تامة مع قوله: «ما تَيَسَّرَ» له وجه ظاهره العلم، والله أعلم. ذكر وجوب قراءتها على المأموم كوجوبها على الإمام واختلاف الفقهاء فيه: قال مالك بن أنس: يجب عليه قراءتها إذا خافت الإمام، فأمّا إذا جهر فليس عليه [شيء] . وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد: يلزمه القراءة أسرّ الإمام أو جهر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يلزمه القراءة خافت أو جهر. واتّفق المسلمون على أن صلاته [صحيحة] إذا قرأ خلف الإمام «4» . والدليل على وجوب القراءة على المأموم كوجوبها على الإمام ما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا مكي بن عبد الله، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا أبي عن أبي إسحاق، حدّثنا مكحول، وأخبرنا عبد الله، أخبرنا أحمد بن عبد الرّحمن بن سهل، حدّثنا سهل بن عمار، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود ابن الربيع عن عبادة ابن الصامت قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح فثقلت عليه القراءة فلمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صلاته أقبل علينا بوجهه وقال: «إني لأراكم تقرؤون خلفي؟» «5» . قلنا: أجل والله يا رسول الله هذا. قال: «فلا تفعلوا إلّا بأمّ الكتاب فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» «6» [49] . وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وجابر وابن مسعود وعمران بن حصين وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وهشام بن عامر ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وجماعة كبيرة من التابعين وأئمة المسلمين روي عنهم جميعا أنهم رأوا القراءة خلف الإمام واجبة.
ووجه القول القديم ما روى سفيان عن عاصم بن أبي النجود، عن ذكوان، عن أبي هريرة وعائشة أنهما كانا يأمران بالقراءة وراء الإمام إذا لم يجهر. واحتج أبو حنيفة وأصحابه بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا الوليد ابن حمّاد اللؤلؤي: حدّثنا الحسن بن زياد اللؤلؤي: حدّثنا أبو حنيفة عن الحسن عن عبد الله بن شدّاد بن الماد عن جابر بن عبد الله قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى خلف امام فإنّ قراءة الإمام له قراءة» [50] «1» . وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا محمد بن أيوب، أخبرنا أحمد بن يونس، حدّثنا الحسن بن صالح، عن جابر الجعفي، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان له إمام فقراءته له قراءة» [51] «2» . فأمّا حديث عبد الله بن شدّاد فهو مرسل، رواه شعبة وزائدة وابن عينية وأبو عوانة وإسرائيل وقيس وجرير وأبو الأحوص مرسلا، والمرسل لا تقوم به حجّة، والوليد بن حماد والحسن لا يدرى من هما. وأما خبر جابر الجعفي فهو ساقط، قال زائدة: جابر كذاب، وقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر. وقال ابن عينية: كان جابر لا يوقن بالرجعة. وقال شعبة: قال لي جابر: دخلت إلى محمد بن علي فسقاني شربة وحفظت عشرين ألف حديث. ولا خلاف بين أهل النقل في سقوط الاحتجاج بحديثه. وقد روي عن جابر بن عبد الله ما خالف هذه الأخبار، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر ابن إسحاق، حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا محمد بن يحيى، أخبرنا سعد بن عامر، عن شعبة، عن مسعر عن يزيد بن الفقير، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام ، ومحال أن يروي جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قراءة الإمام قراءة المأموم ثم يقرأ خلف الإمام ويأمر به مخالفة للنبي صلّى الله عليه وسلّم. واحتجوا أيضا بما روي عن عاصم بن عبد العزيز عن أبي سهيل عن عوان عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكفيك قراءة الإمام جهر أو لم يجهر» [52] «3» . وهذا الحديث أيضا لا يثبته أهل المعرفة بالحديث لأنه غير متن الحديث، وإنما الخبر الصحيح فيه عن أبي هريرة ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدّثنا العباس ابن محمد الدوري، حدّثنا بشر بن كلب، حدّثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه،
عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج غير تمام» «1» . قال: فقلت له: إذا كان خلف الإمام؟ قال: فأخذ بذراعي وقال: «يا فارسي- أو قال: يا ابن الفارسي- اقرأ بها في نفسك» [53] «2» . واحتجوا أيضا بما روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كانوا يقرءون خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «خلطتم عليّ القرآن» «3» . وهذا الخبر فيه نظر، ولو صحّ لكان المنع من القراءة كما رواه النضر بن شميل. أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لقوم يقرءون القرآن ويجهرون به: «خلطتم عليّ القرآن» [54] «4» ، فليس في نهيه عن القراءة خلف الإمام جهرا ما يمنع عن القراءة سرّا. ونحن لا نجيز الجهر بالقراءة خلف الإمام لما فيه من سوء الأدب والضرر الظاهر. وقد روى يحيى بن عبد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي حازم، عن البياضي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قام أحدكم يصلّي، فإنه يناجي ربّه، فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» [55] «5» . ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن زياد الأشعري قال: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر. وكذلك الجواب عن احتجاجهم بخبر عمران بن الحصين قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر والعصر فلما انصرف قال: أيّكم قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) «6» ، قال رجل: أنا ولم أرد به إلّا الخير. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد عرفت أن بعضكم خالجنيها» [56] «7» . واحتجّوا أيضا بحديث أبي هريرة: فإذا قرأ فأنصتوا، وليس الإنصات بالسكوت فقط إنّما الإنصات أن تحسن استماع الشيء ثم يؤدى كما سمع ، يدل عليه قوله تعالى في قصّة الجن: فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا «8» . وقد يسمى الرجل منصتا وهو قارئ مسبّح إذا لم يكن جاهرا به، ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم
قال: «من أتى الجمعة فأنصت ولم يلغ حتى يصلي الإمام كان له كذا وكذا» [57] «1» . فسمّاه منصتا وإن كان مصلّيا ذاكرا، وقيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما تقول أيضا؟ قال: «أقول اللهمّ اغسلني من خطاياي» فدلّ أنّ الإنصات وهو ترك الجهر بالقراءة دون المخافتة بها، يدل عليه ما أخبرنا به أبو القاسم الحسين، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا أبو الدرداء هاشم بن محمد، حدّثنا عبيد بن السكن، حدّثنا إسماعيل بن عباس، أخبرنا محمد بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى صلاة مكتوبة أو سبحة فليقرأ بأمّ القرآن» «2» . قال: قلت: يا رسول الله، إني ربما أكون وراء الإمام. قال صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ إذا سكت إنما جعل الإمام ليؤتمّ به» [58] «3» . قد رواه الثقات الأثبات عن أبي هريرة مثل الأعرج وهمام بن منبّه وقيس بن أبي حازم وأبي صالح وسعيد المقبري والقاسم بن محمد وأبي سلمة، ولم يذكروا: (وإذا قرأ فأنصتوا) . وأمّا احتجاجهم بقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا «4» ، فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. آخر السورة، وبالله التوفيق.
سورة البقرة
سورة البقرة مدنية: وهي مائتان وست وثمانون آية في العدد الكوفي وهي سند أمير المؤمنين علي عليه السّلام وهي خمسة وعشرون ألف [حرف] وخمسمائة حرف، وستّة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة أخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه، أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا يعقوب ابن سفيان الصغير، حدثنا يعقوب بن سفيان الكبير، حدثنا هشام بن عمّار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا شعيب بن زرين عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، قال: أول سورة نزلت بالمدينة سورة البقرة. فضلها: أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها، أخبرنا دعلج بن أحمد الشجري ببغداد، حدثنا محمد بن أحمد بن هارون، حدثنا خندف عن علي، حدثنا حسّان بن إبراهيم، حدثنا خالد بن شعيب المزني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لكل شيء سناما، وسنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلا لم يدخله شيطان ثلاث ليال، ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيام» «1» [59] . وأخبرنا محمد بن القاسم بن أحمد المرتّب بقراءتي عليه، حدثنا أبو عمرو بن مطرف، حدثنا أبو عبد الله محمد بن المسيب، حدثنا عبد الله بن الحسين، حدثنا يوسف بن الأسباط، حدثنا حسن بن المهاجر عن عبد الله بن يزيد عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلموا البقرة، فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» «2» [60] . أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري، حدثنا أبو أحمد عبد الله بن علي الحافظ، أخبرنا محمد بن يحيى بن مندة، حدثنا أبو مصعب، حدثنا عمران بن طلحة الليثي عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثا ثم تتبعهم يستقرئهم، فجاء إنسان منهم
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 إلى 7]
فقال: «ماذا معك من القرآن؟» حتى أتى على آخرهم، وهو أحدثهم سنّا، فقال: «ما معك من القرآن؟» قال: كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: «اخرجوا وهذا عليكم أمين» ، قالوا: يا رسول الله هو أحدثنا سنّا، قال: «معه سورة البقرة» «1» [61] . (التفسير:) [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) قوله تعالى: الم: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها. قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : في كل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور. وقال علي بن أبي طالب عليه السّلام: إنّ لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي. وفسّره الآخرون، فقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله مقطّعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنّك تقول: الر «2» وتقول: حم «3» وتقول: ن «4» فيكون الرَّحْمنُ، وكذلك سائرها على هذا الوجه، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها. وقال قتادة: هي أسماء القرآن. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي أسماء للسور المفتتحة بها. وقال ابن عباس: هي أقسام أقسم الله بها، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه. وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلّا وهو «5» مفتاح لاسم من أسماء الله عز وجل، وليس منها حرف إلّا وهو في الآية وبلائه» ، وليس منها حرف إلّا في مدّة قوم وآجال آخرين.
وقال عبد العزيز بن يحيى: معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها، فقال: اسمعوها مقطعة، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة، ليعرفوها إذا وردت عليهم، ثم أسمعهم مؤلّفة. وقال أبو روق: إنّها تكتب للكفار، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، وكان المشركون يقولون: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ. فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها، وكانوا يضايقونه ويؤذونه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه، فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم. وقال الأخفش: إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه لا رَيْبَ فِيهِ. وقال النقيب: هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع، كقولك: ولا إنّ زيدا ذهب. وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين. والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ «1» أي صلّوا لا يصلّون، وقوله: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ «2» فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها، وقال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «3» أراد جميع أبدانكم. وقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد، وبالأنف عن الوجه. وقال الشاعر في امرأته: لما رأيت أمرها في خطي ... وفنكت في كذب ولط أخذت منها بقرون شمط ... فلم يزل ضربي بها ومعطي «4»
فعبّر بلفظة «خطي» عن جملة حروف أبجد. ويقول القائل: (أب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها، بل يريد جميعها وقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ، وهو يريد جميع السورة، ونحوها كثير، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم، فقال: إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم، وعليها مباني كلامكم، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة. هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني، فإن قيل: فهل يكون حرفا واحدا عودا للمعنى؟ وهل تجدون في كلام العرب أن يقال: الم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا: نعم، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه. قال الراجز: قلت لها قفي فقالت قاف ... لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف «1» أي قف أنت. وأنشد سيبويه لغيلان: نادوهم ألا ألجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلّهم ألا فا «2» أي لا تركبون فقالوا: ألا فاركبوا. وأنشد قطرب في جارية: قد وعدتني أم عمرو أن تا ... تدهن رأسي وتفليني تا أراد أن تأتي وتمسح «3» وأنشد الزجّاج: بالخير خيرات وإن شرّا فا ... ولا أريد الشرّ إلّا أن تا «4» أراد بقوله (فا) : وإن شرا فشر له، وبقوله: تا إلا أن تشاء. قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد- اثنان- ثلاثة- أربعة.
قال أبو النجم: أقبلت من عند زياد كالخرف ... تخط رجلاي بخط مختلف «1» تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفا من حروف العطف حركتها. وأنشد أبو عبيدة: إذا اجتمعوا على ألف وواو ... وياء هاج بينهم جدال «2» وهذه الحروف تذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة. قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفا من أصل الكلام، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه [.....] «3» فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى، وتمايلت هيبة له، فسجدت فصارت همزة، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها، فصارت ألفا، فتلفظه بها، ثم جعل القلم ينطق حرفا حرفا «4» إلى ثمانية وعشرين حرفا، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة، وجميعها كلّها في أبجد. وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه، ومقدّما على الحروف كلّها، فأمّا قوله عزّ وجلّ: الم فقد اختلف العلماء في تفسيرها. عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: الم قال: أنا الله أعلم. أبو روق عن الضحاك في قوله الم: أنا الله أعلم. مجاهد وقتادة: الم اسم من أسماء القرآن. الربيع بن أنس: (ألف) مفتاح اسم الله، و (لام) مفتاح اسمه لطيف، و (ميم) مفتاح اسمه مجيد. خالد عن عكرمة قال: الم قسم. محمد بن كعب: (الألف) آلاء الله، و (اللام) لطفه، و (الميم) ملكه.
وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (الألف) الله، و (اللام) جبرئيل، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ ، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل: أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال أهل الإشارة: (ألف) : أنا، (لام) : لي، (ميم) : منّي. وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق، وقد سئل عن قوله: الم فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، و (الألف) . ابتداء الحروف، والاستواء: فهو عادل غير جائر، و (الألف) مستو في ذاته، والانفراد: والله فرد والألف فرد، واتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، فهم يحتاجون إليه وله غنى عنهم. وكذلك الألف لا يتصل بحرف، فالحروف متصلة: وهو منقطع عن غيره، والله باين بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألفة، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها. وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه، وهو محل الفهم، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلّا بعلمهم، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه. وأما محل الم من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده. وقيل: الم ابتداء، وذلِكَ ابتداء آخر والْكِتابُ خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول. ذلِكَ: قرأت العامة ذلِكَ بفتح الذال، وكذلك هذه وهاتان، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه، (ذ) للاسم، واللام عماد، والكاف خطاب، وهو إشارة إلى الغائب. والْكِتابُ: بمعنى المكتوب كالحساب والعماد. قال الشاعر: بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة ... أتتك من الحجج تتلى كتابها «1» أو مكتوبها، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال للمخلوق خلق، وللمصور تصوير، وقال: دراهم من ضرب الأمير، أي هي مضروبة، وأصله من الكتب، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض، مأخوذ من قولهم: كتب الخرز، إذا خرزته قسمين، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب. قال ذو المرّجة:
وفراء غرفية أثاي خوارزها ... مشلشل ضيعته فبينها الكتب «1» ويقال: كتبت البغل، إذا حرمت من سفرتها الخلقة، ومنه قيل للجند كتيبة، وجمعها كتائب. قال الشاعر: وكتيبة جاءوا ترفل ... في الحديد لها ذخر واختلفوا في هذا الْكِتابُ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل: هو القرآن، وعلى هذا القول يكون (ذلِكَ) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ «2» أي هذه. وقال خفاف بن ندبه السلمي: إن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيممت مالكا «3» أقول له الرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا «4» يريد [هذا] . وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: معناه ذلِكَ الْكِتابُ الذي أخبرتك أن أوجّه إليك. وقال عطاء بن السائب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي وعدتكم يوم الميثاق. وقال يمان بن رئاب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي ذكرته في التوراة والإنجيل. وقال سعيد بن جبير: هو اللوح المحفوظ. عكرمة: هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة. وقال الفراء: إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الردّ، فلمّا أنزل القرآن قال: هو الكتاب الذي وعدتك. وقال ابن كيسان: تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة «5» كذّب بكلها المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال: ذلِكَ الْكِتابُ يعني ما تقدم البقرة من القرآن. وقيل: ذلِكَ الْكِتابُ الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.
فصل في التقوى
لا رَيْبَ فِيهِ: لا شكّ فيه، إنّه من عند الله. قال: هُدىً: أي هو هدى، وتم الكلام عند قوله فِيهِ، وقيل: «هو» نصب على الحال، أي هاديا تقديره لا ريب في هدايته للمتقين. قال أهل المعاني: ظاهره نفي وباطنه نهي، أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ «1» : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان. فصل في التقوى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: اعلم أنّ التقوى أصله وقى «2» من وقيت، فجعلت الواو تاء، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ. واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جماع التقوى في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... «3» الآية» «4» [62] . قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش. وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى [نفسه] خيرا من أحد. وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خير مني. وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدّثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، وقال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، ونظمه ابن المعتز فقال: خلّ الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى واضع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى لا تحتقرنّ صغيرة ... إنّ الجبال من الحصا «5» وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.
وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟ فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله. وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون يتقي الطمع، ويتقي الغضب. وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم، يعني في الحرم. وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك ما لا يأتمن به حذرا لما به بأس. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: إنّما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس «1» . وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه. وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه، وهو عابس لم يبشّ له، فقلت له في ذلك فقال: بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة، فتسعون لأجلهما، وعشرة للآخر فأحببت أن يكون له التسعون. محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له. السري بن المفلّس: هو الذي يبغض نفسه. الشبلي: هو الذي يبغي ما دون الله. قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد: ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل «2» الثوري: هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها. محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله. القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة. وقال أبو زيد: هو التورّع عن جميع الشبهات. وقال أيضا: المتقي من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله تعالى. الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.
وقال سهل: المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته. وقال: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك. وقيل: هو الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسموات. أبو القاسم (حكيم) : هو حسن الخلق. وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات. وقيل: المتقي من اتّقى متابعة هواه. وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعمة، والتذلل لأحكام القرآن. وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر. وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات، من لا يجاوزها لا ينالها، اختيار الشدة على النعمة، واختيار القول على الفضول، واختيار الذلّ على العزّ، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة. وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلّا إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها. وقيل: التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ، كما تزيّن علانيتك للخلق. وقال أبو الدرداء: يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلّا ما أرادا يقول «1» المرء فائدتي وذخري ... وتقوى الله أفضل ما استفادا «2»
فصل في الإيمان
فصل في الإيمان الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب، ولم يكن العرب يعرفون «1» الإيمان غير التصديق، والنقل في اللغة لم يثبت فيه، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء. إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السّلام وبنيه وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «2» : أي بمصدق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ والدليل عليه أيضا أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [نسبه] «3» إلى القلب فقال: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ «4» ، وقال: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ، وقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «6» ، ونحوها كثير. فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء: كل شمس ضوء، وليس كل ضوء شمسا «7» ، وكل مسك طيب، وليس كل طيب مسكا، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا، إذا لم يكن تصديقا لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، يدل عليه قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «8» من خوف السيف، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان سرا» «9» [63] وأشار إلى صدره «والإسلام علانية» «10» [64] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه» «11» [65] . وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان، فأجاب في الإيمان بالتصديق، وفي الإسلام بشرائع الإيمان، وهو ما روى أبو بريده، وهو يحيى بن معمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألناه عما يقول هو: ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن
شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن ويفتقرون [إلى] «1» العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإسلام أن يشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» ، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدّقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وتؤمن بالقدر خيره وشره» . قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» ، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» ، قال: فأخبرني عن إماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان» ، قال: ثم انطلق، فلبث علينا ثم قال: يا عمر من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه جبرائيل عليه السّلام أتاكم ليعلمكم دينكم» «2» . ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيمانا بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول: رأيت الفرح في وجه فلان، ورأيت علم زيد في تصنيفه وإنّما الفرج والعلم في القلب، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون بابا، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة «3» أن لا إله إلّا الله» [66] «4» . وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» [67] «5» . الحسن بن علي قال: حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» [68] «6» .
وعن علي بن الحسين زين العابدين قال: حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال: حدثنا أبي سيد الأوصياء قال: حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال: «الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول» [72] «1» . وامّا الغيب فهو ما كان مغيّبا عن العيون محصّلا في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب، كما قيل للصائم: صوم، وللزائر: زور، وللعادل: عدل. الربيع بن أبي العالية يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: يؤمنون بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كلّه. عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: بالله، من آمن بالله فقد آمن بالغيب «2» . سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: الغيب: القرآن. وقال الكلبي: بما نزل من القرآن وبما لم يجيء بعد. الضحاك: الغيب لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد: يعني بالوحي، نظيره قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى «3» وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً «4» وقوله: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ «5» . الحسن: يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني: هو ما غاب عنهم من علوم القرآن. وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) انه قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم جالسا فقال: «أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟» قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم، بل غيرهم» . قلنا: يا رسول الله الأنبياء؟ قال: «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم، بل غيرهم» ، قلنا: يا رسول الله فمن هم؟ قال: «أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» [73] «6» . وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عبد الله بن مسعود: نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولم تروه، ثم قال عبد الله: إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه والذي لا اله الّا
هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب، ثمّ قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس، وأقام القوم [سوقهم] «1» ولم يعطلوها قال الشاعر: فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلّى عصاك [كمستديم] «2» أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس، فذكرها بلفظ الواحد، كقوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ «3» أراد الكتب، وأصل الصلاة في اللغة: الدّعاء، ثمّ ضمّت إليها [عبادة] سميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء. وقال أبو حاتم الخارزمي: اشتقاقها من الصّلا وهو النار، فأصله من الرفق وحسن المعاناة للشيء وذلك إنّ الخشبة المعوجّة إذا أرادوا تقويمها [سحنوها بالنار] قوموها [بين خشبتين] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهرا وباطنا ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ولا يعرف] قال الشاعر: فلا تعجّل بأمرك واستدمه ... فما صلّى عصاك كمستديم أي ما قوّم أمرك كالمباني. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم، والرزق عند أهل السنّة: ما صحّ الانتفاع به، فإن كان طعاما فليتغدّى به، وان كان لباسا فلينقى والتوقي، وإن كان مسكنا فللانتفاع به سكنى، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين: حلالا وحراما، فلذلك قلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام، [وأصل الرزق] في اللغة: هو الحظ والبخت. يُنْفِقُونَ يتصدقون، وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد أو عن الملك. يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه «4» ، والنفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ: أي يصدّقون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ: يا محمد يعني القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ: يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والإنجيل وغيرها.
وَبِالْآخِرَةِ أي بالدار الآخرة، وسمّيت آخرة لأنّها تكون بعد الدّنيا ولأنّها أخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون. هُمْ يُوقِنُونَ يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة، ودخل (هُمْ) تأكيدا، يسمّيه الكوفيون عمادا والبصريون فصلا. أُولئِكَ أهل هذه الصفة، وأولاء: اسم مبني على الكسر، ولا واحد له من لفظه، والكاف خطاب، ومحل أُولئِكَ رفع بالابتداء وخبره في قوله: عَلى هُدىً رشد وبيان وصواب. مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ ابتدائان وهُمُ عماد الْمُفْلِحُونَ خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار، وقيل: هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم. وأصل الفلاح في اللغة: البقاء. قال لبيد: نحلّ بلادا كلها حل قبلنا ... ونرجو فلاحا بعد عاد وحمير «1» وقال آخر: لو كان حي مدرك الفلاح ... أدركه ملاعب الرماح أبو براء يدرة المسياح «2» وقال مجاهد: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: يعني مشركي العرب، وقال الضحّاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي: يعني اليهود، وقيل: المنافقون. والكفر: هو الجحود والإنكار. وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر، ومنه قيل للحراث: كافر لأنّه [يستر البذر] ، قال الله تعالى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «3» : يعني الزرّاع، وقيل للبحر: كافر، ولليل: كافر. قال لبيد: حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها «4» في ليلة كفر النجوم غمامها «5»
ومنه: المتكفّر بالسلاح، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه. فيسمى الكافر كافرا لأنه ساتر للحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه. سَواءٌ عَلَيْهِمْ: أي واحد عليهم ومتساوي لديهم، وهو اسم مشتق من التساوي. أَأَنْذَرْتَهُمْ: أخوّفتهم وحذّرتهم. قال أهل المعاني: الإنذار والإعلام مع تحذير، يقال: أنذرتهم فنذروا، أي أعلمتهم فعلموا، وفي المثل: وقد أعذر من أنذر، وفي قوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ وأخواتها أربع قراءات: تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة لأنها ألف الاستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز، وإدخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو. قال الشاعر: تطاولت فاستشرقت قرابته ... فقلن له: أأنت زيد لا بل قمر «1» والأخبار اكتفاء بجواب الاستفهام، وهي قراءة الزهري. أَمْ: حرف عطف على الاستفهام. لَمْ: حرف جزم لا يلي إلّا الفصل لأنّ الجزم مختص بالأفعال. تُنْذِرْهُمْ: تحذرهم لا يُؤْمِنُونَ وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال: خَتَمَ اللَّهُ: أي طبع عَلى قُلُوبِهِمْ والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [والاستيثاق] «2» من أن يدخله شيء آخر. فمعنى الآية: طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبرا ولا تفهمه. يدل عليه قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «3» . وقال بعضهم: معنى الطبع والختم: حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يقال للرجل: ختمت عليك أن لا تفلح أبدا. وَعَلى سَمْعِهِمْ: فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحّده لأنه مصدر، والمصادر
[سورة البقرة (2) : الآيات 8 إلى 16]
لا تثنّى ولا تجمع، وقيل: أراد سمع كل واحد منهم كما يقال: آتني برأس كبشين، أراد برأس كل واحد منهما، قال الشاعر: كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... فإن زمانكم زمن خميص «1» وقال سيبويه: توحيد السمع يدل على الجمع لأنه لا توحيد جمعين كقوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» يعني الأنوار. قال الراعي: بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب «3» وقرأ ابن عبلة: وعلى أسماعهم، وتم الكلام عند قوله وَعَلى سَمْعِهِمْ. ثم قال: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ: أي غطاء وحجاب، فلا يرون الحق، ومنه غاشية السرج، وقرأ المفضل بن محمد الضبي: غِشاوَةً بالنصب كأنّه أضمر له فعلا أو جملة على الختم: أي وختم على أبصارهم غشاوة. يدل عليه قوله تعالى: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً «4» . وقرأ الحسن: غُشاوَةٌ بضم الغين، وقرأ الخدري: غَشاوَةٌ بفتح الغين، وقرأ أصحاب عبد الله: غشوة بفتح الغين من غير ألف. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ: القتل والأسر في الدنيا، والعذاب الأليم في العقبى، والعذاب كلّ ما يعنّي الإنسان ويشقّ عليه، ومنه: عذّبه السواط ما فيها من وجود الألم، وقال الخليل: العذاب ما يمنع الإنسان من مراده، ومنه: الماء العذب لأنه يمنع من العطش، ثم نزلت في المنافقين: عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي، ومعتب بن بشر، وجدّ بن قيس وأصحابهم حين قالوا: تعالوا إلى خلة نسلم بها من محمد وأصحابه ونكون مع ذلك مستمسكين بديننا، فأجمعوا على أن يقرّوا كلمة الإيمان بألسنتهم واعتقدوا خلافها وأكثرهم من اليهود. فقال الله: [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 16] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا: صدّقنا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: أي يوم القيامة «1» . قال الله تعالى: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ والناس: هم جماعة من الحيوان المتميّز بالصورة الإنسانية، وهو جمع إنسان، وإنسان في الأصل إنسيان بالياء، فأسقطوا الياء منه ونقلوا حركته إلى السين فصار إنسانا الا ترى إنّك إذا صغرته رددت الياء إليه فقلت: أنيسيان، واختلف العلماء في تسميته بهذا الاسم: فقال ابن عباس: سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. قال الله تعالى وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ «2» ، وقال الشاعر: وسمّيت إنسانا لأنك ناسي «3» وقال بعض أهل المعاني: سمّي إنسانا لظهوره وقدس البصير إياه من قولك: آنست كذا: أي أبصرت. فقال الله تعالى آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً «4» وقيل: لأنه استأنس به، وقيل: لما خلق الله آدم آنسه بزوجته فسمّي إنسانا. يُخادِعُونَ اللَّهَ: أي يخالفون الله ويكذّبونه، وأصل الخدع في اللغة: الإخفاء، ومنه قيل [للبيت الذي يحيا فيه المتاع] مخدع، والمخادع يظهر خلاف ما يضمر، وقال بعضهم: أصل الخداع في لغة: الفساد، قال الشاعر: أبيض اللون لذيذ طعمه ... طيّب الرّيق إذا الريق خدع «5» أي فسد. فيكون معناه: ليفسدون بما أضمروا بأنفسهم وبما أضمروا في قلوبهم، وقيل معناه: يُخادِعُونَ اللَّهَ بزعمهم وفي ظنّهم، يعني إنهم اجترءوا على الله حتى أنهم ظنّوا أنهم يخادعون، وهذا كقوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «6» يعني بظنّك وعلى زعمك. وقيل: معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع فيما بينهم. وقيل: معناه يخادعون رسوله،
كقوله: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «1» أي أسخطونا، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ «2» أي أولياء الله لأن الله سبحانه لا يؤذى ولا يخادع، فبيّن الله تعالى أنّ من آذى نبيا من أنبيائه ووليا من أوليائه استحق العقوبة كما لو آذى رسوله وخادعه. يدل عليه الخبر المروي: إن الله تعالى يقول: من آذى وليا من أوليائي فقد بارزني بالمحاربة «3» . وقيل: إنّ ذكر الله سبحانه في قوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ تحسين وتزيين لسامع الكلام، والمقصد بالمخادعة للذين آمنوا كقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ «4» . ثم المخادعة على قدر المعاجلة وأكثر المفاضلة إنّما تجيء في الفعل المشترك بين اثنين، كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة، وقد يكون أيضا من واحد كقولك: طارقت النعل، وعاقبت اللصّ، وعافاك الله، قال الله عزّ وجلّ: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «5» وقال: قاتَلَهُمُ اللَّهُ «6» والمخادعة ها هنا عبارة عن الفعل الذي يختص بالواحد في حين الله تعالى لا يكون منه الخداع. وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ويخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم: آمنا، وهم غير مؤمنين، وقال بعضهم: من خداعهم المؤمنين: هو أنّهم كانوا يجالسون المؤمنين ويخالطونهم حتى يأنس بهم المؤمنون ويعدّونهم من أنفسهم فيبثون إليهم أسرارهم فينقلونها إلى أعدائهم. قال الله تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن وبال خداعهم راجع إليهم كأنهم في الحقيقة يخدعون أنفسهم وذلك أنّ الله تعالى لمطلع نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم على أسرارهم ونفاقهم، فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب الشديد في العقبى. قال أهل الإشارة: إنما يخادع من لا يعرف البواطن، فأما من عرف البواطن فإنّ من خادعه فإنما يخدع نفسه. واختلف القرّاء في قوله: وَما يَخْدَعُونَ فقرأ شيبة ونافع وابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمرو بن العلاء: يُخادِعُونَ بالألف جعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد، وقد ذكرنا خبره وتصديقها الحرف الأول، وقوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ لم يختلفوا فيه إلّا ما روي عن أبي حمزة الشامي إنه قرأ: (يخدعون الله) وقرأ الباقون وَما يَخْدَعُونَ على أشهر اللغتين وأضبطهما واختاره أبو عبيد.
وَما يَشْعُرُونَ «1» وما يعلمون إنها كذلك. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ ونفاق، ومنه يقال: فلان يمرض في الوعد إذا لم يصحّحه، وأصل المرض: الضّعف والفتور. فسمّي الشك في الدّين والنفاق [مرض به] يضعف البدن وينقص قواه ولأنه يؤدي إلى الهلاك بالعذاب، كما أن المرض في البدن يؤدي إلى الهلاك والموت. فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً شكّا ونفاقا وهلاكا. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، وهو بمعنى مؤلم كقول عمرو بن معدي كرب: أمن ريحانة الداعي المسيع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع «2» أي المسمع: يعني خيالها. بِما كانُوا يَكْذِبُونَ: (ما) مصدرية، أي بتكذيبهم على الله ورسوله في السرّ. وقرأ أهل الكوفة: بفتح الياء وتخفيف الذال، أي بكذبهم إذ قالوا آمنا وهم غير مؤمنين. وَإِذا: حرف توقيت بمعنى حينئذ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر وفيها معنى الجزاء، قِيلَ: فعل ماض مجهول، وكان في الأصل قول مثل قيل، فاستثقلت الكسرة على الواو فنقلت كسرتها إلى فاء الفعل فانقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، هذه اللغة العالية وعليها العامة وهي اختيار أبي عبيد. وقرأ الكسائي ويعقوب: قيل، وغيض، وحيل، وسيق، وجيء، وشيء وشيت بإشمام الضمّة فيها لتكون دالة على الواو المنقلبة، وفاصلة بين الصّدر والمصدر. لَهُمْ: يعني المنافقين، وقيل: اليهود. قال لهم المؤمنون: لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعصية وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد والقرآن، وقال الضحّاك: تبديل الملّة وتغيير السّنة وتحريف كتاب الله. قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا: كلمة تنبيه إِنَّهُمْ: هُمُ عماد وتأكيد الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ: ما أعدّ لهم من العذاب. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: [قال] «3» المؤمنون لليهود: آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ وهم عبد الله ابن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب.
قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الجهّال. قال الله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ بأنهم كذلك، وقيل: لا يؤدون العلم حقّه، وقال المؤرّخ: السفيه: البهّات الكذّاب المتعمّد لخلاف ما يعلم. قطرب: السفيه: العجول الظلوم يعمل خلاف الحق. واختلف القرّاء في قوله: السُّفَهاءُ أَلا فحقّق بعضهم الهمزتين، وهو مذهب أهل الكوفة ولغة تميم. وأما أبو عمرو وأهل الحجاز فإنّهم همزوا الأولى وليّنوا الثانية طلبا للخفّة، واختار الفرّاء حذف الأولى وهمز الثانية، واحتج بأن ما يستأنف- أي بالهمزة- مما يسكت عليه. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا. قال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن أبيّ بن سلول الخزرجي عظيم المنافقين من رهط سعد بن عبادة، وكان إذا لقى سعدا قال: نعم الدين دين محمد، وكان إذا رجع إلى رؤساء قومه. قالوا: هل نكفر؟ قال: سدّوا أيديكم بدين آبائكم. فأنزل الله هذه الآية. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ محتجا به، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: عبد الله بن أبيّ لأصحابه: أنظروا كيف أدرأ هؤلاء السّفهاء عنكم. فذهب وأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحبا بالصّدّيق سيّد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغار، والباذل نفسه وماله له. ثمّ أخذ بيد عمر فقال: مرحبا بسيّد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثمّ أخذ بيد علي فقال: مرحبا بابن عم رسول الله وختنه سيّد بني هاشم ما خلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال علي: كف لله واتق الله ولا تنافق، فإنّ المنافقين شر خليقة الله، فقال له عبد الله: مهلا أبا الحسن إليّ تقول هذا، والله إنّ إيماننا كإيمانكم وتصدّيقنا كتصديقكم ثمّ افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت. فأثنوا عليه خيرا، وقالوا: لا نزال معك ما عشت، فرجع المسلمون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبروه بذلك، فأنزل الله وَإِذا لَقُوا أي رأوا، يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، كان (لَقُوا) في الأصل (لقيوا) فاستثقلت الضمة على الياء فبسطت على القاف وسكنت الواو والياء ساكنة فحذفت لاجتماعهما. وقرأ محمد بن السميقع: وإذا لاقوا وهما بمعنى واحد. الَّذِينَ آمَنُوا: يعني أبا بكر وأصحابه قالُوا آمَنَّا كأيمانكم. وَإِذا خَلَوْا رجعوا، ويجوز أن تكون من الخلوة، تقول: خلوت به وخلوت إليه، وخلوت معه، كلها بمعنى واحد.
وقال النضر بن شميل: إِلى ها هنا بمعنى (مع) كقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «1» : أي مع نسائكم، وقوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «2» وقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «3» النابغة: ولا تتركنّي بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطليّ به القار أجرب «4» أي مع الناس. وقال آخر: ولوح ذراعين في بركة ... إلى جؤجؤ رهل المنكب «5» أي مع جؤجؤ. إِلى شَياطِينِهِمْ: أي رؤسائهم وكبرائهم وقادتهم وكهنتهم. قال ابن عباس: هم خمسة نفر من اليهود، ولا يكون كاهن إلّا ومعه شيطان تابع له: كعب ابن الأشرف بالمدينة، وأبو بردة في بني أسلم، وعبد الله في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السّوداء بالشام. والشيطان: المتمرد العاصي من الجن والإنس، ومن كل شيء، ومنه قيل: للحيّة النضناض «6» : الشيطان، قال الله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «7» أي الحيات، وتقول العرب: اتّق تلك الدابة فإنّها شيطان. وفي الحديث: «إذا مرّ الرجل بين يدي أحدكم وهو يمتطي فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنّه شيطان» . وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّه نظر الى رجل يتبع حماما طائرا فقال: «شيطان يتبع شيطانا «8» » [74] «9» .
أراد الراعي الخبيث الداعي. ويحكى عن بعضهم إنه قال في تضاعيف كلامه: وكل ذلك حين ركبني شيطان قيل له: وأي الشياطين ركبك؟ قال: الغضب. وقال أبو النجم: إنّي وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر «1» قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي على دينكم وأنصاركم. إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بمحمد وأصحابه. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أي يجازيهم جزاء استهزائهم، فسمّي الجزاء باسم الابتداء إذ كان مثله في الصورة كقوله جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «2» فسمّي جزاء السيئة سيئة. وقال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلنّ أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا «3» وقال آخر: نجازيهم كيل الصواع بما أتوا ... ومن يركب ابن العمّ بالظلم يظلم فسمّى الجزاء ظلما. وقيل: معناه: الله يوبّخهم ويعرضهم ويخطّئ فعلهم لأنّ الاستهزاء والسخرية عند العرب العيب والتجهيل، كما يقال: إنّ فلانا يستهزأ به منذ اليوم، أي يعاب. قال الله إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها «4» أي تعاب، وقال أخبارا عن نوح عليه السّلام: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ «5» . وقال الحسن: معناه: الله يظهر المؤمنين على نفاقهم. وقال ابن عباس: هو أن الله يطلع المؤمنين يوم القيامة وهم في الجنة على المنافقين وهم في النار، فيقولون لهم: أتحبّون أن تدخلوا الجنة، فيقولون: نعم فيفتح لهم باب من الجنة، ويقال لهم: ادخلوا فيسبحون ويتقلبون في النار، فإذا انتهوا إلى الباب سدّ عليهم، وردّوا إلى
النار ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ» إلى قوله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ «2» . الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤمر بناس من الناس إلى الجنة، حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى ما أعدّ الله فيها لأهلها من الكرامة، نودوا: أن اصرفوهم عنها. قال: ويرجعون بحسرة وندامة لم يرجع الخلائق بمثلها. فيقولون: يا ربّنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا كان أهون علينا. فيقول الله جل جلاله: هذه الذي أردت بكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس ولم تجلّوني وكنتم تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما كنتم ترونني من قلوبكم. فاليوم أذيقكم من عذابي مع ما حرمتكم من ثوابي» [75] «3» . وقيل: هو خذلانه إياهم وحرمانهم التوفيق والهداية. وهو قوله فيما بعد: وَيَمُدُّهُمْ يتركهم، ويمهلهم ويطيل لهم، وأصله: الزيادة، ويقال: مدّ النهر، ومدّة: زمن آخر. وقرأ ابن محيصن وشبل: وَيُمِدُّهُمْ بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد لأنّ المد أكثر ما يأتي في الشر والإمداد في الخير. قال الله عزّ وجلّ في المد: وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا «4» ، وقال في الإمداد: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «5» وقال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ «6» ، وقال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «7» . فِي طُغْيانِهِمْ كفرهم وضلالتهم وجهالتهم، وأصل الطغيان: مجاوزة القدر، يقال: ميزان فيه طغيان، أي مجاوزة للقدر في الإستواء. قال الله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ «8» أي جاوز حدّه الذي قدّر له، وقال لفرعون: إِنَّهُ طَغى «9» أي أسرف في الدعوى حينما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «10» . يَعْمَهُونَ يمضون، يترددون في الضلالة متحيرين. يقال: عمه يعمه عمها وعموها، وعمها فهو عمه، وعامه: إذا كان جائرا عن الحق. قال رؤبة: ومهمه أطرافه في مهمه ... أعمى الهدى بالجاهلين العمّه «11»
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى: قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، ومعناه: إنهم استبدلوا الكفر على الإيمان، وإنّما أخرجه بلفظ الشّرى والتجارة توسّعا لأن الشرى والتجارة راجعان إلى الاستبدال والإختيار وذلك أنّ كل واحد من البيعين يختار ما في يدي صاحبه على ما في يديه، وقال الشاعر: أخذت بالجمّة رأسا إزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدّردرا وبالطويل العمر عمرا جيدرا ... كما اشترى المسلم إذ تنصّرا «1» أي اختار النصرانية على الإسلام. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق: اشْتَرَوِا الضَّلالَةَ بكسر الواو لأنّ الجزم يحرّك الى الكسرة العدوى بفتحها حركة إلى أخف الحركات. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ: أي فما ربحوا في تجارتهم. تقول العرب: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، ونام ليلك. أي ربحت وخسرت في بيعك، ونمت في ليلك. قال الله عزّ وجلّ: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «2» ، وقال: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «3» . قال الشاعر: وأعور من نيهان أمّا نهاره ... فأعمى وأمّا ليله فبصير «4» وقال آخر: حارث قد فرّجت عنّي همّي ... فنام ليلي وتجلّى غمّي «5» وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة: (فما ربحت تجاراتهم) بالجمع. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ: من الضلالة، وقال: مصيبين في تجاراتهم. قال سفيان الثوري: كلكم تاجر فلينظر امرؤ ما تجارته؟ قال الله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وقال: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «6» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 17 إلى 20]
[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) مَثَلُهُمْ شبههم. كَمَثَلِ الَّذِي بمعنى الذين، دليله سياق الآية نظير قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ثم قال أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «1» . وقال الشاعر: وانّ الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد «2» اسْتَوْقَدَ: أوقد نارا كما يقال: أجاب واستجاب. قال الشاعر: وداع دعانا من يجيب الى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب «3» فَلَمَّا أَضاءَتْ النار ما حَوْلَهُ يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا، وأضاء يضيء إضاءة وأضاء غيره: فَلَمَّا أَضاءَتْ النار يكون لازما ومتعدّيا. وقرأ محمد بن السميقع (ضاءت) بغير ألف. و (حَوْلَهُ) نصب على الظرف. ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي أذهب الله نورهم، وإنما قال: (بِنُورِهِمْ) والمذكور في أوّل الآية النار لأنّ النار شيئان النّور والحرارة فذهب نورهم وبقيت الحرارة عليهم. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ: قال ابن عباس وقتادة والضحّاك ومقاتل والسدي: نزلت هذه الآية في المنافقين. يقول: مثلهم في كفرهم ونفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء بها فاستدفأ ورأى ما حوله فاتّقى ما يحذر ويخاف فأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيّرا، كذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها واعتزّوا بعزّها وناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمّنوا على أموالهم وأولادهم، فإذا ماتوا عادوا الى الخوف والظلمة وهووا في العذاب والنقمة.
وقال مجاهد: إضاءة النار: إقبالهم الى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم الى المشركين والضّلالة. سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء، ويمان بن رئاب: نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم وإيمانهم به واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلمّا خرج كفروا به، وذلك بأنّ قريظة والنضير وبنو قينقاع قدموا من الشام الى يثرب حتى انقطعت النبوة من بني إسرائيل وأفضت الى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلّى الله عليه وسلّم بالنبوة وأنّ أمّته خير الأمم وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له: عبد الله بن هيبان قبل أن يوحي الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلّ سنة فيعظهم على طاعة الله تعالى وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم رسول إذا خرج: فلا تفرّقوا عنه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه، ثمّ مات قبل خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم فقبلوا منه، ثم لمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل. وقال الضحاك: لمّا أضاءت النار أرسل الله عليه ريحا قاصفا فأطفأها، فكذلك اليهود كلّما أوقدوا نارا لحرب محمد صلّى الله عليه وسلّم أَطْفَأَهَا اللَّهُ. ثم وصفهم جميعا فقال: صُمٌّ: أي هم صمّ عن الهدى فلا يسمعون. بُكْمٌ: عنه فلا يقولون. عُمْيٌ: عنه فلا يرونه. وقيل: صُمٌّ يتصاممون عن سماع الحقّ، بُكْمٌ يتباكمون عن قول الحقّ، عُمْيٌ يتعامون عن النظر الى الحق بغير اعتبار. وقرأ عبد الله: صمّا بكما عميا على معنى وتركهم كذلك، وقيل: على الذّم، وقيل: على الحال. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ عن الضلالة والكفر الى الهداية والإيمان. ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ هذا مثل آخر ضربه الله لهم أيضا معطوف على المثل الأوّل مجازه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ومثلهم أيضا كَصَيِّبٍ. قال أهل المعاني: (أَوْ) بمعنى الواو، يريد وكصيّب، كقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ «1» وأنشد الفرّاء: وقد زعمت سلمى بأنّي فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها «2»
وأنشد أبو عبيدة: يصيب قد راح يروي الغدرا ... [فاستوعب] الأرض لمّا أن سرا وأصله من صاب يصوب صوبا إذا نزل. قال الشاعر: فلست لإنسي ولكن لملاك ... تنزّل من جوّ السماء يصوب «1» وقال امرأ القيس: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامي ونشر القطر «2» فسمّي المطر صيّبا لأنّه ينزل من السماء. واختلف النّحاة في وزنه من الفعل، فقال البصريون: هو على وزن فيعل بكسر العين، ولا يوجد هذا المثال إلّا في المعتل نحو سيّد وميّت وليّن وهيّن وضيّق وطيّب، وأصله صهيوب، فجعلت الواو ياء فأدغمت إحدى الياءين في الأخرى. وقال الكوفيون: هو وأمثاله على وزن فعيل بكسر العين وأصله: صييب فاستثقلت الكسرة على الياء فسكّنت وأدغمت إحداهما في الأخرى وحرّكت الى الكسر. والسماء: كلّ ما علاك فأظلك «3» وأصله: سماو لأنه من سما يسمو، فقلبت الواو همزة لأنّ الألف لا تخلو من مدّة وتلك المدّة كالحركة، وهو من أسماء الأجناس، يكون واحدا أو جمعا، قال الله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «4» ثم قال: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «5» . وقيل: هو جمع واحدتها سماوة، والسموات جمع الجمع. قال الرّاجز: سماوة الهلال حتى احقوقفا ... طي الليالي زلفا فزلفا «6» فِيهِ أي في الصيّب، وقيل: في الليل كناية عن [ضمير] مذكور، وقيل: في السماء لأنّ المراد بالسماء السّحاب، وقيل: هو عائد الى السماء على لغة من يذكرها.
قال الشاعر: فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السّحاب «1» والسماء يذكّر ويؤنّث. قال الله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «2» . وقال: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «3» . ظُلُماتٌ: جمع ظلمة، وضمّت اللام على الإتباع بضمّ الظاء. وقرأ الأعمش: (ظُلْماتٌ) بسكون اللام على أصل الكلام لأنّها ساكنة في التوحيد. كقول الشاعر وهو ذو الرّمّة: أبت ذكر من عوّدن أحشاء قلبه ... خفوقا ورفصات الهوى في المفاصل «4» ونزّل الفاء ساكنة على حالها في التوحيد. وقرأ أشهب العقيلي: (ظُلَماتٌ) بفتح اللام، وذلك إنّه لمّا أراد تحريك اللام حرّكها الى أخفّ الحركات. كقول الشاعر: فلمّا رأونا باديا ركباتنا ... على موطن لا نخلط «5» الجدّ بالهزل «6» وَرَعْدٌ: وهو الصوت الذي يخرج من السحاب. وَبَرْقٌ: وهو النار الذي تخرج منه. قال مجاهد: الرعد ملك يسبّح بحمده، يقال لذلك الملك: رعد، والصّريم أيضا رعد. والبرق: ملك يسوق السحاب. وقال عكرمة: الرعد ملك موكّل بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل «7» . شهر بن حوشب: الرعد ملك يزجي السحاب كما يحثّ الراعي الإبل فإذا انتبذت السحاب ضمّها فإذا اشتدّ غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق.
ربيعة بن الأبيض عن علي عليه السّلام قال: البرق مخاريق الملائكة «1» . وقال أبو الدرداء: الرعد للتسبيح، والبرق للخوف والطمع، والبرد عقوبة، والصواعق للخطيئة، والجراد رزق لقوم وزجر لآخرين، والبحر بمكيال، والجبال بميزان. وأصل البرق من البريق والضوء، والصواعق: المهالك، وهو جمع صاعقة، والصاعقة والصاقعة والصّعقة: المهلكة، ومنه قيل: صعق الإنسان، إذا غشي عليه، وصعق، إذا مات. حَذَرَ الْمَوْتِ أي مخافة الموت، وهو نصب على المصدر، وقيل لنزع حرف الصفة. وقرأ قتادة: حذار الموت. وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي عالم بهم، يدل عليه قوله: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً «2» . وقيل: معناه: والله مهلكهم وجامعهم، دليله قوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «3» : أي تهلكوا جميعا. وأمال أبو عمرو والكسائي (الكافرين) في حال الخفض والنّصب ولكسرة الفاء والراء. يَكادُ الْبَرْقُ أي يقرب. يقال: كاد، أي قرب ولم يفعل، والعرب تقول: كاد يفعل- بحذف أن- فإذا سببّوه بقي قالوا: كاد أن يفعل، والأوّل أوضح وأظهر. قال الشاعر: قد كاد من طول البلى أن تمسحا يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ: أي يخطفها ويشغلها، ومنه الخطّاف. وقرأ أبيّ: يتخطف. وقرأ ابن أبي إسحاق: نصب الخاء والتشديد (يخطّف) فأدغم. وقرأ الحسن: كسر الخاء والطّاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة. وقرأ العامة: التخفيف لقوله: فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ «4» وقوله: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ «5» . كُلَّما: حرف علة ضمّ إليه (ما) الجزاء فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة بالظرف، ومعناهما: متى ما.
القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما
أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ: وفي حرف عبد الله [.....] «1» . وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا: أي أقاموا ووقفوا متحيّرين. القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ أي كأصحاب صيّب، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» شبههم الله في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وتردّدهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة فأصابهم مطر فيه ظلمات من صفتها إنّ الساري لا يمكنه المشي من ظلمته، فذلك قوله: إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا. ورعد من صفته أن يضع السامع يده الى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق، ذلك قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ. وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدّة توقّده، وذلك قوله يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن واجماع الناس والكافرين معه: فالمطر: هو القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان. فِيهِ ظُلُماتٌ وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن والمحن. وَرَعْدٌ: وهو ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار والزّواجر والنواهي. وَبَرْقٌ: وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنّور والرعد وذكر الجنة. فكما أنّ أصحاب الرعد والبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب الى القرآن فيؤدّي ذلك الى الإيمان لأنّ الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم عندهم كفر والكفر موت. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتا إلّا ظنّ أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلّا ظنّ إنه ميّت أجبن قوم وأخذ له للحق «3» كما قال في آية أخرى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ «4» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 21 إلى 25]
وقوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمنوا وصارت لهم نورا فإذا ماتوا عادوا الى الخشية والظلمة. قتادة: والمنافق إذا كثر ماله وحسن حاله وأصاب في الإسلام رخاء وعافية ثبت عليه فقال: أنا معكم، وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة، قام متحيرا وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحجّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «1» الآية. الوالبي عن ابن عباس: هم اليهود لما نصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية، فلمّا نكب بأحد ارتدّوا وسكتوا. وَلَوْ: حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام. ومعنى الآية: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ: أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّا بكما عميا. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قادر، وكان حمزة يكسر شِاء، وجِاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل، إذا أخبرت عن نفسك قلت: شئت وجئت وزدتّ وطبت وغيرها. [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 25] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) يا أَيُّهَا النَّاسُ: قال ابن عباس: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب أهل مكة، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب أهل المدينة، وهو هاهنا عام. اعْبُدُوا وحّدوا وأطيعوا. رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أوجدكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا. وَالَّذِينَ أي وخلق الذين مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: لكي تنجوا من السحت والعذاب. قال سيبويه: لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله [.....] «2» .
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً بساطا ومقاما ومناما. وَالسَّماءَ بِناءً سقفا مرفوعا محفوظا. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ: من السحاب. ماءً وهو المطر فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ من ألوان الثمرات وأنواع النبات. رِزْقاً طعاما. لَكُمُ وعلفا لدوابكم. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي أمثالا [وأعدالا] وقرأ ابن المسيقع: ندّا على الواحد، كقول جرير: أتيما تجعلون إليّ ندّا ... وما تيم لذي حسب نديد «1» وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إنّه واحد وأنّه خالق هذه الأشياء. قال ابن مسعود في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً قال: أكفّاء من الرجال تطيعوهم في معصية الله. وقال عكرمة: هو قول الرجل: لولا كلبنا لدخل اللص دارنا. وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ الآية نزلت في الكفّار، وذلك أنهم قالوا لما سمعوا القرآن: ما يشبه هذا كلام الله وإنّا لفي شكّ منه، فأنزل الله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ يا معشر الكفّار، [وإن] «2» لفظة جزاء وشرط، ومعناه: إذ لأنّ الله تعالى علم إنهم شاكّون كقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «4» . قال الأعشى: بانت وقد أسفرت في النفس حاجتها ... بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا «5» قال المؤرّخ: أصلها من السّورة وهي الوثبة: تقول العرب سرت إليه وثبت إليه. قال العجاج: وربّ ذي سرادق محجور ... سرت إليه في أعالي السّور قال الأعشى:
وسمعت حلفتها التي حلفت ... إن كان سمعك غير ذي وقر «1» فِي رَيْبٍ أي في شك وتهمة. مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد يعني القرآن. فَأْتُوا لم يأتوا بمثله، لأنّ الله علم عجزهم عنه. بِسُورَةٍ أصلها في قول بعضهم: من أسارت، أي أفضلت فحذفت الهمزة كأنّها قطعة من القرآن، وقيل: هي الدرجة الرفيعة، وأصلها من سورة البناء، أي منزلة بعد منزلة. قال النابغة: ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب «2» مِنْ مِثْلِهِ يعني مثل القرآن، و (من) صلة كقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ «3» . كقول النابغة: ولا أرى ملكا في الناس يشبهه ... ولا أخا [لي] من الأقوام من أحد أي أحدا. وقيل في قوله: (مِثْلِهِ) : راجعة الى محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعناه: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي من رجل أمّي لا يحسن الخط والكتابة. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ يعني استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله. وقال مجاهد والقرظي: ناسا يشهدون لكم. وإنما ذكر الاستعانة بلفظ الدعاء على عادة العرب في دعائهم القائل في الحروب والشدائد: [ياك.....] «4» . قال الشاعر: فلمّا التقت فرساننا ورجالهم ... دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر «5»
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ محمدا أسرّ قوله من تلقاء نفسه، فلما تحدّاهم وعجزوا [قال الله تعالى] : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي فإن لم تجيئوا بمثل القرآن. وَلَنْ تَفْعَلُوا: ولن تقدروا على ذلك. وقيل فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فيما مضى وَلَنْ تَفْعَلُوا فيما بقي. فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا حطبها وعلفها النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قال الحسن ومجاهد: (وُقُودُهَا) بضم الواو حيث كان وهو رديء، لأن الوقود بضم الراء المصدر وهو الالتهاب، والوقود بالفتح وهو ما يوقد به النار كالظهور والبرود، ومثليهما ومثل الوضوء والوضوء. وقرأ عبيد بن عمير: وقيدها الناس والحجارة. قيل: تلك الحجارة [كجت الأرض النائية] مثل الكبريت يجعل في أعناقهم إذا اشتعلت فيها النار أحرق توهجها وجوههم، فذلك قوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ «1» . اختلفوا في الحجارة، فقال ابن عباس وأكثر المفسّرين: إنها حجارة الكبريت [الأسود وهي أشد الأشياء حرا] ، وقال حفص ابن المعلى: أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت معمولة من الحجر، دليله قوله: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «2» . وقيل: هي أن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا فتنشأ سحابة سوداء مظلمة فيرجون الفرج ويرفعون رؤوسهم إليها فتمطرهم حجارة عظاما كحجارة الرّحا، فتزداد النار اتّقادا والتهابا كنار الدنيا إذا زيد حطبها زاد لهيبها. وقيل: ذكر الحجارة ها هنا تعظيما لأمر النار لأنها لا تأكل الحجارة إلّا إذا كانت فظيعة وهائلة. أُعِدَّتْ: خلقت وهيئت لِلْكافِرِينَ، وفي هذه الآية دليل على أنّ النار مخلوقة لأنّ المعدّ لا يكون إلّا موجودا. وَبَشِّرِ أي وأخبر. الَّذِينَ آمَنُوا وأصل التبشير: إيصال الخبر السار على [مسامع الناس] ويستبشر به، وأصله من البشرة لأنّ الإنسان إذا فرح بان ذلك في وجهه وبشرته، ثمّ كثر حتى وضع موضع الخبر فيما [ساء وسرّ] قال الله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3» .
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الخصال والفعلات الصَّالِحاتِ نعت لاسم مؤنث محذوف. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه في وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ: معناه أخلصوا الأعمال، يدلّ عليه قوله: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً «1» أي خالصا لأن المنافق والمرائي لا يكون عمله خالصا، وقال: أقاموا الصلوات المفروضات، دليله قوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ. إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ «2» من المسلمين. وقال ابن عباس: عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربّهم، وقال: العمل الصالح يكون فيه أربعة أشياء: العلم، والنية، والصبر، والإخلاص. وقال سهل بن عبد الله: لزموا السنّة لأنّ عمل المبتدع لا يكون صالحا. وقيل: أدّوا الأمانة، يدل عليه قوله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً «3» أي أمينا. وقيل: تابوا، ودليله قوله تعالى: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ «4» أي التائبين. أَنَّ لَهُمْ: محل (أن) نصب بنزع حرف الصّفة، أي بأنّ لهم. جَنَّاتٍ: في محل النصب فخفض لأنها جمع التأنيث، وهي جمع الجنّة وهي البستان، سمّيت جنّة لاجتنانها بالأشجار. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ: أي من تحت شجرها ومساكنها. وقيل: بأمرهم، كقوله: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «5» أي بأمري. والأنهار: جمع نهر، سمّي نهرا لسعته وضيائه ومنه النهار. وأنشد أبو عبيدة: ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها «6» أي وسعتها، يصف طعنة. وأراد بالأنهار المياه على قرب الجوار لأن النهر لا يجري. وقد جاء في الحديث: «أنهار الجنّة تجري في غير أخدود» [76] .
كُلَّما متى ما رُزِقُوا أطعموا مِنْها من الجنّة مِنْ ثَمَرَةٍ: أي ثمره، و (من) صلة. رِزْقاً طعاما. قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا أطعمنا مِنْ قَبْلُ: طعامهما، وقيل معناه: هذا الذي رزقنا من قبل، أي وعدنا الله في الدنيا وهو قول عطاء، و (قَبْلُ) رفع على الغاية، قال الله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ «1» . وَأُتُوا وجيئوا بِهِ بالرزق. قرأ هارون بن موسى: (وأتوا) بفتح الألف، أراد أتاهم الخدم به. مُتَشابِهاً اختلفوا في معناه، فقال ابن عباس ومجاهد والربيع والسّدي: مُتَشابِهاً في الألوان، مختلفا في الطعوم. الحسن وقتادة: مُتَشابِهاً في الفضل، خيارا كلّه لأنّ ثمار الدنيا [تبقى] ويرذل منها، وإن ثمار الجنة لا يرذل منها شيء. محمد بن كعب وعلي بن زيد: بمعنى يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب. وقال بعضهم: مُتَشابِهاً في الإسم مختلفا في الطعم. قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء ممّا في الدنيا غير الأسماء. وَلَهُمْ فِيها في الجنّات. أَزْواجٌ نساء وجوار، يعني الحور العين. قال ثعلب: الزوج في اللغة: المرأة والرجل، والجمع والفرد، والنوع واللون، وجميعها أزواج. مُطَهَّرَةٌ من الغائط والبول والحيض والنفاس والمخاط والبصاق والقيء والمني والولد وكل قذر ودنس. وقال إبراهيم النخعي: في الجنة جماع ما شئت ولا ولد «2» . وقيل: مطهّرة عن مساوئ الأخلاق. وقال يمان: مطهّرة من الإثم والأذى. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتفلون ولا يتغوّطون ولا يبولون ولا يتمخطون» . قيل: فما بال الطعام؟ قال: «جشأ ورشح تجري من أعرافهم كريح المسك يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس» [77] «3» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 26 إلى 29]
وَهُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مقيمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها. الحسن عن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجنة: كيف هي؟ قال: «من يدخل الجنة يحيى ولا يموت وينعم ولا يبؤس ولا تبلى ثيابه ولا شبابه» . قيل: يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال: «لبنة من فضّة ولبنة من ذهب، بلاطها مسك أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران» [78] «1» . وقال يحيى بن أبي كثير: إنّ الحور العين لتنادينّ أزواجهنّ بأصوات حسان، فيقلن: طالما انتظرناكم، نحن الراضيات الناعمات الخالدات، أنتم حبّنا ونحن حبّكم ليس دونكم مقصد ولا وراءكم معذر. وقال الحسن في هذه الآية: هنّ عجائزكم الغمض الرّمض العمش طهّرن من قذرات الدنيا. [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 29] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا هذه الآية نزلت في اليهود، وذلك أنّ الله تعالى ذكر في كتابه العنكبوت والذباب فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً «2» الآية. وقال: الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ «3» الآية، ضحكت اليهود وقالوا: ما هذا الكلام وماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخبيثة في كتابه وما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا أي لا يترك ولا يمنعه الحياء أن يضرب مثلا أن تصف للحق شبها. ما بَعُوضَةً. (ما) صلة، وبعوضة نصب يدلّ على المثل. فَما فَوْقَها: ابن عباس يعني الذباب والعنكبوت. وقال أبو عبيدة: يعني فما دونها. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد والقرآن فَيَعْلَمُونَ يعني أنّ هذا المثل هو أَنَّهُ الْحَقُّ الصدق الصحيح. مِنْ رَبِّهِمْ.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا: أي بهذا المثل. فلمّا حذف الألف واللام نصب على الحال والقطع والتمام، كقوله: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» . فأجابهم الله تعالى فقال: أراد الله بهذا المثل يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً من الكافرين ذلك أنهم ينكرونه ويكذّبونه وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً من المؤمنين يعرفونه ويصدّقون. وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الكافرين، وأصل الفسق: الخروج، قال الله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «2» أي خرج. تقول العرب: فسقت الرّطبة عن القشر، أي خرجت. ثمّ وصفهم فقال: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ أي يتركون ويخالفون، وأصل النقض: الكسر. عَهْدَ اللَّهِ أمره الذي عهد إليهم يوم الميثاق بقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «3» وما عهد إليهم في التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم [وضمّنه] نعته وصفته. مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ توكيده وتشديده، وهو مفعال من الوثيقة. وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يعني الأرحام، وقيل: هو الإيمان بجميع الرّسل والكتب، وهو نوع من الصّلة لأنهم قالوا: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ «4» فقطعوا، وقال المؤمنون: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «5» فوصلوا. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ: أي المغبونون بالعقوبة وفوت المثوبة، ثمّ قال: لمشركي مكة على التعجّب: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ واو الحال أَمْواتاً نطفا في أصلاب آبائكم فَأَحْياكُمْ في الأرحام في الدنيا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم. ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للبعث. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تأتون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. وقرأ يعقوب: تَرْجِعُونَ، وبيانه بفتح الأول وكسر الجيم جعل الفعل لهم. هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ لأجلكم. ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد وعمد الى خلق السماء.
[سورة البقرة (2) : الآيات 30 إلى 39]
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أي خلق سبع سماوات مستويات بلا فطور ولا شطور ولا عمد تحتها ولا علامة فوقها. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: عالم. [سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 39] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ يعني: وقد قال، وقيل معناه: واذكر إذ قال ربّك، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله. و (إذ) و (إذا) حرفا توقيت، إلّا أنّ (إذ) للماضي و (إذا) للمستقبل، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر. قال المبرّد: إذا جاء (إذ) مع المستقبل كان معناه ماضيا نحو قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ «1» وإِذْ يَقُولُ، يريد وإذ مكر وإذ قال، وإذا إذ جاء مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى «2» فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ «3» إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ «4» أي يجيء، وقال الشاعر: ثمّ جزاه الله عنا إذ جزا ... جنّات عدن والعلا إلى العلا «5» أي يجزيه.
لِلْمَلائِكَةِ الذين كانوا في الأرض، والملائكة: الرسل، واحدها ملك، وأصله: مالك، وجمعه: ملائكة، وهي من الملكة والمالكة والألوك الرسالة ويقال: ألكني الى فلان، أي كن رسولي إليه فقلبت، فقيل: ملاك. قال الشاعر: فلست لإنسي لكن لملاك ... تنزّل من جوّ السماء يصوب «1» ثمّ حذف الهمزة للخفّة وكثير استعماله فقيل: ملك. قال النضر بن شميل في الملك: إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه، وهو مما فات علمه. إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً أي بدلا منكم ورافعكم إليّ، سمّي (خليفة) لأنه يخلف الذاهب ويجيء بعده، فالخليفة من يتولى إمضاء الأمر عن الآمر، وقرأ [زيد بن علي] «2» : (خليقة) بالقاف. قال المفسرون: وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة السماء، وأسكن الجنّ الأرض، فعبدوا دهرا طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي، فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم: الجن، رأسهم عدو الله إبليس وهم خزّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنّة فهبطوا إلى الأرض، وطردوا الجنّ عن وجهها فالحقوهم بشعوب الجبال، وجزائر البحر، وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة، وأحبّوا البقاء في الأرض لذلك، وأعطى الله إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنان، فكان يعبد الله تارة في الأرض، وتارة في السماء، وتارة في الجنة. فلما رأى ذلك دخله الكبر والعجب، وقال في نفسه: أعطاني الله هذا الملك إلّا لأني أكرم الملائكة عليه، وأعظمهم منزلة لديه فلما ظهر الكبر جاء العزل، فقال الله له ولجنده: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فلما قال لهم ذلك كرهوا لأنّهم كانوا أهون في الملائكة عبادة، ولأنّ العزل شديد. قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها بالمعاصي. وَيَسْفِكُ يصبّ الدِّماءَ بغير حق. فإن قيل: كيف علموا ذلك وهو غيب؟ والجواب عنه ما قال السّدي: لما قال الله لهم ذلك، قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية، يفسدون في الأرض [ويتحاسدون] «3» ويقتل بعضهم بعضا «4» . قالوا عند ذلك: أَتَجْعَلُ فِيها ومعناه: فقالوا، فحذف فاء التنسيق. كقول الشاعر:
لما رأيت نبطا أنصارا ... شمرّت عن ركبتي الإزارا كنت لهم من النّصارى جارا «1» أي فكنت لهم. وقال أكثر المفسرين: أرادوا كما فعل بنو الجانّ قاسوا بالشاهد على الغائب، وقال بعض أهل المعاني: فيه إضمار واختصار معناه: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ؟ أم تجعل فيها من لا يفسد ولا يسفك الدماء؟ لقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ «2» يعني كمن هو غير قانت، وهو اختيار الحسن بن الفضل. وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ. قال الحسن: يقولون: سبحان الله وبحمده، وهو صلاة الخلق وتسبيحهم وعليها يرزقون. يدل عليه الحديث المروي عن أبي ذر إنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي الكلام أفضل؟ قال: «ما اصطفاه الله تعالى لملائكته: سبحان الله وبحمده» [79] «3» . وقيل: معناه: ونحن نصلي لك بأمرك، والتسبيح يكون بمعنى التنزيه ويكون بمعنى الصلاة، ومنه قيل: للصلاة سبحة، وقيل: معناه: نصلي، ونقرأ فيها فاتحة الكتاب. وَنُقَدِّسُ لَكَ وننزهك واللام صلة، وقيل: هي لام الأجل، أي ونطهّر لأجلك قلوبنا من الشرك بك [وأبداننا] من معصيتك. وقال بعض العلماء: في الآية تقديم وتأخير مجازها: ونحن نسبّح ونقدّس لك بحمدك لأنّه إذا حملت الآية على التأويل الأول تنافي قول الملائكة المتزكية بالإدلال بالعمل، وإذا حملت على هذا التأويل ضاهى قولهم التحدّث بنعمة الله واضافة [.....] «4» إلى الله فكأنّهم قالوا: وأن سبّحنا وقدّسنا وأطعنا وعبدنا فذلك كله بحمدك لا بأنفسنا، قال الله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من استخلافي في الأرض ووجه المصلحة فيه، فلا تعترضوا عليّ في حكمي وتدبيري، وقيل: أراد أني أعلم أنّ في من استخلفه في الأرض: أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء، وقيل: أني أعلم إنّهم يذنبون وأغفر لهم. قال بعض الحكماء: إنّ الله تعالى أخرج [أدم] من الجنّة قبل أن يدخله فيها «5» . لقوله
فصل في معنى الخليفة
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ثم كان خروجه من الجنّة بذنبه يدل أنه كان بقضاء الله وقدره. ابن نجيح عن مجاهد في قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتج آدم وموسى. فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله لرسالته وكلامه، ثم تلومني على أمر قدّر قبل أن أخلق. فحج آدم موسى» [80] «1» . فصل في معنى الخليفة قيل: سأل أمير المؤمنين الخطاب، طلحة والزبير وكعبا وسلمان: ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير: ما ندري. فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرّعية ويقسم بينهم بالسّويّة ويشفق عليهم شفقة الرّجل على أهله ويقضي بكتاب الله، فقال كعب: ما كنت أحسب أن في المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري، ولكنّ الله عزّ وجلّ ملأ سلمان حكما وعلما وعدلا. وروى زاذان عن سلمان: إنّ عمر قال له: أملك أنا أم خليفة؟ فقال سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقّه فأنت ملك. قال: فاستعبر عمر رضي الله عنه. وعن يونس: إنّ معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر: أيّها الناس إنّ الخلافة ليست لجمع المال ولا تفريقه، ولكنّ الخلافة بالحقّ والحكم بالعدل وأخذ الناس بأمر الله عزّ وجل. وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وذلك إنّ الله تعالى لمّا قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا فيما بينهم: ليخلق ربّنا ما شاء فلن يخلق خلقا أفضل ولا أكرم عليه منّا، وإن كان خيرا منّا فنحن أعلم منه لأنّا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، فلما أعجبوا بعلمهم وعبادتهم، فضّل الله تعالى عليهم آدم عليه السّلام بالعلم فعلّمه الأسماء كلّها وهذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة. واختلف العلماء في هذه الأسماء، فقال الربيع وابن أنس: أسماء الملائكة، وقال عبد الرحمن بن زيد: أسماء الذّرّية. وقال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والضّحّاك: علّمه الله اسم كلّ شيء حتى القصعة والقصيعة.
قال مقاتل: خلق الله كلّ شيء- الحيوان والجماد وغيرها- ثمّ علّم آدم أسماءها كلها. فقال له: يا آدم هذا فرس، وهذا بغل، وهذا حمار حتى أتى على آخرها ثم عرض تلك الأشياء كما عرض الموجودات على الملائكة. فكذلك قال: ثُمَّ عَرَضَهُمْ ولم يقل: عرضها، وردّه الى الشخوص والمسمّيات لأنّ الأعراض لا تعرض. وقيل: علّم الله آدم عليه السّلام صنعة كل شيء. جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: علّم الله آدم أسماء الخلق والقرى والمدن والجبال والسباع وأسماء الطير والشجر وأسماء ما كان وما يكون وكل نسمة الله عزّ وجلّ بارئها إلى يوم القيامة، وعرض تلك الأسماء على الملائكة. فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ الخليفة الذي أجعله في الأرض يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. أراد الله تعالى بذلك: كيف تدّعون علم ما لم يكن بعد، وأنتم لا تعلمون ما ترون وتعاينون. وقال الحسن وقتادة: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إني لا أخلق خلقا إلّا كنتم أعلم وأفضل منه، قالت الملائكة: إقرارا بالعجز واعتذارا. قالُوا سُبْحانَكَ: تنزيها لك عن الاعتراض لعلمك في حكمك وتدبيرك، وهو نصب على المصدر، أي نسبح سبحانا في قول الخليل. وقال الكسائي: خارج عن الوصف، وقيل: على النداء المضاف أي: يا سبحانك. لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بخلقك الْحَكِيمُ في أمرك. وللحكيم معنيان: أحدهما: المحكم للفعل، كقوله: عَذابٌ أَلِيمٌ، وحز وجيع. قال الشاعر: أمن ريحانة الداعي السّميع ... يؤرّقني وأصحابي هموع «1» أي المؤلم والموجع، والمسمع «2» فعيل بمعنى: مفعل وعلى هذا التأويل هو صفة فعل. والآخر: بمعنى (الحاكم العالم) وحينئذ يكون صفة ذات، وأصل الحكمة في كلام العرب: المنع. يقال: أحكمت اليتيم عن الفساد وحكمته، أي منعته. قال جرير:
القول في حد الاسم وأقسامه
أبني حنيفة احكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا «1» ويقال للحديدة المعترضة في فم الدابة: حكمة لأنها تمنع الدابة من الاعوجاج، والحكمة تمنع من الباطل، ومالا يجمل فلا يحلّ في المحكم من الأمر بمنعه من الخلل، وفي هذه الآية دليل على جواز تكليف ما لا يطاق حيث أمر الله تعالى الملائكة بإنباء ما لم يعلموا، وهو عالم بعجزهم عنه. فلما ظهر عجزهم، قال الله تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فسمّى كل شيء باسمه، وألحق كل شيء بجنسه. فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ أخبرهم. بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يا ملائكتي. إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ما كن فيها وما يكون. وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ من الخضوع والطاعة لآدم. وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ تخفون في أنفسكم من العداوة له. وقيل: ما تُبْدُونَ من الإقرار بالعجز والاعتذار، وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من الكراهية في استخلاف آدم. قال ابن عباس: هو أنّ إبليس مرّ على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه، فقال: لأمر ما خلق هذا، ثمّ دخل من فيه وخرج من دبره، وقال: إنّه لا يتماسك إلّا بالجوف، ثمّ قال للملائكة الذين معه: أرأيتم أن فضّل هذا عليكم، وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون؟ قالوا: نطيع أمر ربّنا. فقال إبليس في نفسه: والله لئن سلطت عليه لأهلكته، ولئن سلّط عليّ لأعصينّه. فقال الله تعالى: وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعني الملائكة من الطاعة وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني إبليس من المعصية. قال الحسن وقتادة: ما تُبْدُونَ يعني قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ... وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني قولهم لن يخلق خلقا أفضل ولا أعلم ولا أكرم عليه منّا. القول في حدّ الاسم وأقسامه فقال أصحابنا: الاسم: كل لفظة دلت على معنى ما وشيء ما، وهو مشتق من السّمة، وهي العلامة التي يعرف بها الشيء، وأقسامه ثمانية منها: اسم علم مثل زيد، وعمرو، وفاطمة، وعائشة، ودار، وفرس. ومنها: اسم لازم كقولك: رجل، وامرأة، وشمس، وقمر، وحجر، ومدر ونحوها سمّي لازما لأنّه لا ينقلب ولا يفارق، فلا يقال للشمس قمر ولا للقمر حجر. ومنها: اسم مفارق مثل: صغير، وكبير، وطفل، وكهل، وقليل، وكثير، وقيل له مفارق لأنّه كان ولم يكن له هذا الاسم ويزول عنه المعنى المسمّى به. ومنها: اسم مشتق: ككاتب، وخياط، وصائغ، وصبّاغ فالاسم مشتق من فعله.
ومنها: اسم مضاف مثل: غلام جعفر، وركوب عمرو، ودار زيد. ومنها: اسم مشبهة كقولك: فلان أسد وحمار وشعلة نار. ومنها: اسم منسوب يثبت بنفسه ويثبت غيره، كقولك: أب، وأمّ، وأخ، وأخت، وابن، وبنت، وزوج، وزوجة، فإذا قلت أب فقد أثبته وأثبت له الولد، وإذا قلت: أخ أثبته وأثبت له الأخت. ومنها: اسم الجنس: وهو اسم واحد ويدل على أشياء كثيرة، كقولك: حيوان، وناس ونحوهما. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ سجدة تعظيم وتحية لا سجود صلاة وعبادة، نظيره قوله في قصة يوسف: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً «1» وكان ذلك تحيّة الناس، ويعظم بعضهم بعضا، ولم يكن وضع الوجه على الأرض [وإنما] كان الانحناء والتكبير والتقبيل. فلما جاء الإسلام بطّل ذلك بالسّلام. وفي الحديث إنّ معاذ بن جبل رجع من اليمن فسجد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتغيّر وجه رسول الله فقال: ما هذا؟ قال: رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم والنصارى يسجدون لقسّيسيهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مه يا معاذ كذب اليهود والنصارى إنّما السجود لله تعالى» [81] «2» . وقال بعضهم: كان سجودا على الحقيقة جعل آدم قبلة لهم والسجود لله، كما جعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله تعالى. قال ابن مسعود: أمرهم الله تعالى أن يأتوا بآدم فسجدت الملائكة وآدم لله ربّ العالمين. وقال أبيّ بن كعب: معناه: أقروا لآدم إنّه خير وأكرم عليّ منكم فأقروا بذلك، والسجود على قول عبد الله وأبيّ بمعنى الخضوع والطاعة والتذلل، كقول الشاعر: ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر «3» وآدم على وزن افعل. فلذلك لم يصرفه. السّدي عمّن حدّثه عن ابن عباس قال: إنّما سمّي آدم لأنّه خلق من أديم الأرض ، ومنهم من قال: سمّي بذلك لأنه خلق من التراب، والتراب بلسان العبرانية آدم، وبعضهم من قال:
سمّي بذلك لأدمته لأنه كان آدم اللون وكنيته أبو محمد وأبو البشر. سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ليس في الجنة أحد يكنّى إلّا آدم فإنّه يكنى أبا محمد. وقرأ العامة: لِلْمَلائِكَةِ بخفض التاء، وقرأ أبو جعفر بضم التاء تشبها لتاء التأنيث بألف الوصل في قوله: اسْجُدُوا لأنّ ألف الوصل يذهب في الوصل ولأنّها زائدة غير أصلية، وكذلك تاء التأنيث زائدة غير أصلية، ولا ثابت جواب ألف اسْجُدُوا. وقيل: كره ضمّة الجيم بعد كسرة التاء لأنّ العرب تكره الضمة بعد الكسرة لثقلها، وهي قراءة ضعيفة جدا وأجمع النحاة على تغليطه فيها. فَسَجَدُوا يعني الملائكة. إِلَّا إِبْلِيسَ وكان اسمه عزازيل، فلمّا عصى غيّرت صورته وغيّر اسمه فقيل إبليس لأنّه أبلس من رحمة الله، كما يقال: يا خبيث ويا فاسق، وهو منصوب على الاستثناء، ولا يصرف لاجتماع العجمة والمعرفة. أَبى أي امتنع ولم يسجد. وَاسْتَكْبَرَ أي تكبّر وتعظّم عن السجود وَكانَ أي فصار مِنَ الْكافِرِينَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ «1» . وقال أكثر المفسّرين: معناه فكان في علمه السابق من الكافرين الذين وجبت لهم الشقاوة. الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان عنه يبكي فيقول: يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنّة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النّار» [82] «2» . زياد بن الحصين عن أبي العالية قال: لمّا ركب نوح السفينة إذا هو بإبليس على كوثلها «3» فقال له: ويحك قد شقّ أناس من أجلك، قال: فما تأمرني؟ قال: تب، قال: سل ربّك هل لي من توبة؟ قال: فقيل له أنّ توبته أن يسجد لقبر آدم، قال: تركته حيّا واسجد له ميّتا. وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وذلك أن آدم عليه السّلام كان في الجنّة وحشا ولم يكن له من يجالسه ويؤانسه، فنام نومة فخلق الله تعالى زوجته من قصيراه من شقّه الأيسر من غير أن يحسّ آدم بذلك ولا وجد له ألما ولو ألم من ذلك لما عطف رجل على امرأة، فلمّا هبّ آدم من نومه إذا هو بحواء جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله تعالى، فقال لها: من أنت؟ قالت أنا زوجتك خلقني الله لك لتسكن إليّ وأسكن إليك. فقالت الملائكة عند ذلك امتحانا لعلم آدم: يا آدم ما هذه؟ قال: امرأة، قالوا: ما اسمها؟ قال: حوّاء، قالوا: لم سمّيت حوّاء؟ قال: لأنها خلقت من حيّ، قالوا: تحبّها يا آدم؟ قال: نعم، فقالوا لحوّاء: أتحبّينه؟ قالت: لا،
وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبّه، قالوا: فلو صدقت امرأة في حبّها لزوجها لصدقت حوّاء. (مسألة:) قالت القدريّة: إنّ الجنّة التي أسكنها الله آدم وحوّاء لم تكن جنّة الخلد وإنما كان بستانا من بساتين الدنيا، واحتجّوا بأن الجنة لا يكون فيها إبتلاء وتكليف. (والجواب:) إنّا قد أجمعنا على أنّ أهل الجنّة مأمورون فيها بالمعرفة ومكلّفون بذلك. وجواب آخر: إنّ الله تعالى قادر على الجمع بين الأضداد، فأرى آدم المحنة في الجنّة وأرى إبراهيم النعمة في النار لئلّا يأمن العبد ربّه ولا يقنط من رحمته وليعلم أنّ له أن يفعل ما يشاء. واحتجّوا أيضا بأنّ من دخل الجنة يستحيل الخروج منها، قال الله تعالى: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «1» . والجواب عنه: إنّ من دخلها للثواب لا يخرج منها أبدا، وآدم لم يدخلها للثواب، ألا ترى أنّ رضوان خازن الجنة يدخلها ثم يخرج منها، وإبليس أيضا كان داخل الجنّة وأخرج منها. وَكُلا مِنْها رَغَداً واسعا كثيرا. حَيْثُ شِئْتُما: كيف شئتما ومتى شئتما وأين شئتما. وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ قال بعض العلماء: وقع النهي على جنس من الشجر. وقال آخرون: بل وقع على شجرة مخصوصة واختلفوا فيها، فقال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) : هي شجرة الكافور. وقال قتادة: شجرة العلم وفيها من كلّ شيء. ومحمد بن كعب ومقاتل: هي السنبلة. وقيل: هي الحبلة وهي الأصلة من أصول الكرم. أبو روق عن الضحّاك: أنها شجرة التين. فَتَكُونا فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسكما بالمعصية، وأصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. فَأَزَلَّهُمَا يعني [استمال] آدم وحوّاء فأخرجهما ونحّاهما. وقرأ حمزة: (فأزالهما الشيطان) وهو إبليس، وهو فيعال من شطن أي بعد.
وقيل: إنه من شاط والنون فيه غير أصلية [ونودي] شيطان سمّي بذلك لتمرّده وبعده عن الخير وعن رحمة الله تعالى. عَنْها عن الجنة وقيل عن الطاعة. فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم، وذلك إن إبليس أراد أن يدخل الجنّة ويوسوس لآدم ولحواء فمنعته الخزنة، فأتى الحيّة وكانت من أحسن الدّواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكان من خزّان الجنّة وكان لإبليس صديقا، فسألها أن تدخله في فمها فأدخلته في فمها ومرّت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنة، وكان آدم لما دخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم والكرامة قال: لو أن خلدا، فاغتنم الشيطان ذلك منه وأتاه من قبل الخلد، ولما دخل الجنة وقف بين يدي آدم وحوّاء لا يعلمان إنه إبليس، فناح عليهما نياحة أحزنهما وبكى وهو أوّل من ناح فقالا لم تبكي قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعيم والكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما واغتمّا، ومضى ثم أتاهما بعد ذلك وقال: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى «1» ، فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إنه لهما لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فاغترّا وما كانا يظنّان أنّ أحدا يحلف بالله كاذبا، فبادرت حوّاء الى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها. وروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسط قال: سمعت سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما يستثني: ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حوّاء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل، فلمّا أكلا تهافتت عنهما ثيابهما وبدت سوءاتهما وأخرجا من الجنة، وذلك قوله تعالى: وَقُلْنَا يعني لآدم وحوّاء وإبليس والحية اهْبِطُوا أي أنزلوا الى الأرض بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نودة، وقيل: واشم، وحوّاء بجدّة، وإبليس بالأبلّة وقيل بميسان، والحيّة بأصفهان. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ بلغة ومستمتع. إِلى حِينٍ الى حين اقتضاء آجالكم ومنتهى أعماركم. وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت إبراهيم بن أدهم: أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا. فَتَلَقَّى فلقّن. آدَمُ حفّظ حين لقّن، وأفهم حين ألهم. وقرأ العامّة: آدَمُ برفع الميم، كَلِماتٍ بخفض التّاء. وقرأ ابن كثير: بنصب الميم، بمعنى جاءت الكلمات لآدم عليه السّلام. مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ كانت سبب قبول توبته، واختلفوا في تلك الكلمات:
قال ابن عباس: هي أنّ آدم قال: يا ربّ ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك بي غضبك؟ قال: بلى، قال: ألم تسكنّي جنتك؟ قال: بلى، قال: فلم أخرجتني منها؟ قال: بشؤم معصيتك، قال: أي ربّ أرأيت لو تبت [وأصلحت] أراجعي أنت الى الجنة؟ قال: بلى. قال: فهو الكلمات. قال عبيد بن عمير: هو أنّ آدم قال: يا ربّ أرأيت ما أتيت، أشيء ابتدعته على نفسي أم شيء قدّرته عليّ قبل أن تخلقني؟ قال: بل شيء قدّرته عليك قبل أن أخلقك، قال: يا ربّ كما قدّرته عليّ فأغفر لي «1» . همام بن منبّه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحاجّ آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنّة الى الأرض؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي أعطاك الله علم كلّ شيء واصطفاك على الناس برسالته؟ قال: نعم. قال: أتلومني على أمر كان قد كتب عليّ أن أفعله من قبل أن أخلق. قال: فحجّ آدم موسى» [83] «2» . وقال محمد بن كعب القرظي: هي قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ وبحمدك قد عملت سوءا ولَمْتُ نَفْسِي فتب عليّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ وبحمدك قد عملت سوءا وظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إنّك أنت الغفور الرحيم، لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ وبحمدك ربّ عملت سوءا ولَمْتُ نَفْسِي فارحمني انّك أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. عكرمة عن سعيد بن جبير في قوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قالا: قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» ، وكذلك قاله الحسن ومجاهد. وقال بعضهم: نظر آدم عليه السّلام الى العرش فرأى على ساقه مكتوبا لا اله الّا الله محمد رسول الله أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق فقال: يا ربّ أسألك بحقّ محمد أن تغفر لي فغفر له. وقيل: هذا التأويل ما روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «4» : عرّج بي الى السماء رأيت على ساق العرش مكتوبا لا إله إلّا الله محمد رسول الله أبو بكر الصدّيق عمر الفاروق «5» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 40 إلى 48]
وقيل: هي ثلاثة أشياء: الخوف، الرجاء، البكاء. أبو بكر الهذلي عن شهر بن حوشب قال: بلغني أنّ آدم لما أهبط الى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى. وقال ابن عباس: بكاء آدم وحوّاء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما، ولم يقرب آدم [حواء] مائة سنة. فَتابَ عَلَيْهِ فتجاوز عنه إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ يقبل توبة عباده الرَّحِيمُ بخلقه. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها يعني آدم وحواء، وقيل: آدم وحوّاء وإبليس والحيّة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ يا ذرّية آدم مِنِّي هُدىً كتاب ورسول. فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: على ما خلّفوا. وَالَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القرآن. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها ولا يموتون فيها. [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) يا بَنِي إِسْرائِيلَ أولاد يعقوب، ومعنى إسرائيل: صفوة الله، وإيل هو الله عزّ وجلّ، وقيل: معناه: عبد الله، وقيل: سمّي بذلك لأنّ يعقوب وعيصا كانا توأمين واقتتلا في بطن أمهما، فأراد يعقوب أن يخرج فمنعه عيص وقال: والله لئن خرجت قبلي لأعترضنّ في بطن أمّي، فلأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب يعقب عيص فخرج عيص قبل يعقوب. وسمّي عيص لما عصى فخرج قبل يعقوب، وكان عيص أحبّهما الى أبيه وكان يعقوب أحبّهما الى أمه، وكان عيص [ويعقوب أبناء] إسحاق وعمي، قال لعيص: يا بنيّ وأطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلا أشعر وكان [يعقوب] رجلا أمرد، فخرج عيص بطلب الصيد، فقالت أمّه ليعقوب: يا بنيّ اذهب إلى الغنم فاذبح منه شاة ثمّ اشوه والبس جلدها وقدمها الى أبيك فقل له: أنّك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلمّا جاء قال: يا أبتاه كل، قال: من أنت، قال: ابنك عيص [قال: خمسه فقال: المس مسّ عيص والريح ريحة
يعقوب، قالت أمه: هو ابنك، فادع له، قال: قدم طعامك فقدّمه فأكل منه، ثم قال: أدن مني، فدنا منه، فدعا له أن يجعل في ذريته الأنبياء والملوك. وقام يعقوب وجاء عيص فقال: قد جئتك بالصيد الذي أمرتني به. فقال: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب عيص وقال: والله لأقتلنه، قال: يا بني قد بقيت لك دعوة، فهلم أدع لك بها، فدعا له فقال: تكون ذريتك عددا كثيرا كالتراب ولا يملكهم أحد غيرهم ... ] «1» . اذْكُرُوا.... روى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والمحدث بنعمة الله شاكر وتاركها كافر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب» [84] «2» . نِعْمَتِيَ أراد نعمي أعطها وهي واحد [بمعنى الجمع] وهو قوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «3» والعدد لا يقع على الواحد. الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي على أجدادكم، وذلك أن الله تعالى فلق لهم البحر وأنجاهم من فرعون وأهلك عدوّهم فأورثهم ديارهم وأموالهم، وظلل عَلَيْهِمُ الْغَمامَ في التيه من حر الشمس، وجعل لهم عمودا من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر، وأنزل عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، وفجّر لهم اثني عشرة عينا [وأنزل] «4» عليهم التوراة فيها بيان كلّ شيء يحتاجون إليه في نعم من الله كثيرة لا تحصى. أَوْفُوا بِعَهْدِي الذي عهدت إليكم أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أدخلكم الجنّة وأنجز لكم ما وعدتكم. فقرأ الزهري: أوفّ بالتّشديد على التأكيد يقال: ووفّى وأوفى كلّها بمعنى [واحد] وأصلها الإتمام. قال الكلبي: عهد الى بني إسرائيل على لسان موسى: إنّي باعث من بني إسماعيل نبيّا أميّا فمن اتّبعه [وآمن] «5» به عفوت عن ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين إثنين، وهو قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «6» يعني أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قتادة: هو العهد الذي أخذ الله عليهم في قوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ «1» وقوله تعالى: قَرْضاً حَسَناً «2» فهذا قوله: أَوْفُوا بِعَهْدِي ثم قال: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «3» الآية. فهذا قوله أُوفِ بِعَهْدِكُمْ. فقال: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ «4» الآية. الحسن: هو قوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ «5» الآية. إسماعيل بن زياد: ولا تفرّوا من الزحف أدخلكم الجنة، دليله قوله تعالى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ «6» . وقيل: أَوْفُوا بشرط العبوديّة، أُوفِ بشرط الربوبيّة. وقال أهل الإشارة: أَوْفُوا في دار محنتي على بساط خدمتي، [أُوفِ عهدكم] في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربي ورؤيتي. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فخافوني في نقض العهد [وسقطت الياء بعد النون في] هذه الآيات وفي كلّ القرآن على الأصل، وحذفها الباقون على الخط اتّباعا للمصحف. وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً موافقا لِما مَعَكُمْ يعني التوراة في التوحيد والنبوّة والأخبار، وبعض الشرائع نزلت في كعب وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ يعني أوّل من يكفر بالقرآن «7» وقد بايعتنا اليهود على ذلك فتبوءوا بآثامكم وآثامهم. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي أي ببيان صفة محمد ونعته. ثَمَناً قَلِيلًا شيئا يسيرا، وذلك أنّ رؤساء اليهود كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامّهم يأخذون منهم شيئا معلوما كلّ عام من زروعهم [فخافوا أن تبينوا] صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبايعوه أن تفوتهم تلك المآكل والرّياسة، فاختاروا الدنيا على الآخرة. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ فاخشوني في أمر محمد لا فيما يفوتكم من الرياسة والمأكل. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ ولا تخلطوا، يقال: [لبست عليهم الأمر ألبسه لبسا إذا خلطته عليهم] «8» أي خلطت وشبهت الحقّ الذي أنزل إليكم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
بِالْباطِلِ، الذي تكتمونه، وهو تجدونه في كتبكم من نعته وصفته. وقال مقاتل: إنّ اليهود أقرّوا ببعض صفه محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتموا بعضا واختلفوا في ذلك، فقال الله عز وجل: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ الذي تقرّون به وتبيّنونه بِالْباطِلِ، يعني بما تكتمونه، فالحق بيانهم والباطل كتمانهم. وقيل: معناه وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ [.... من الباطل] صفة أو حال. وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ يعني ولا تكتموا الحق كقوله تعالى: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ «1» . وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إنّه نبيّ مرسل. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني وحافظوا على الصلوات الخمس بمواقيتها [وأركانها] وركوعها وسجودها. وَآتُوا الزَّكاةَ يعني وأدّوا زكاة أموالكم المفروضة، وأصل الزكاة: الطهارة والنّماء والزيادة. وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ يعني وصلّوا مع المصلين محمّد وأصحابه، يخاطب اليهود فعبّر بالركوع عن الصلاة إذ كان ركنا من أركانها كما عبّر باليد عن العطاء كقوله: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «2» وقوله: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «3» وبالعنق عن البدن في قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «4» والأنف عن [.............] «5» . [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الطاعة والعمل الصالح، وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تتركون وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ توبيخ عظيم أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم] «6» . وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ....... وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [عليهما ولكنه كنّى عن الأغلب وهو الصلاة كقوله] : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقوله: إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها فرد
الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم ... وَإِنَّها واحد منهما، أراد بأن كل خصلة منهما لَكَبِيرَةٌ وقيل: رد الكناية إلى كل واحد منهما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «1» ولم يقل: آيتين، أراد: جعلنا كل واحد منهما آية. حسن من علم يزينه حلم ... ومن ناله قد فاز بالفرج أي من نال كل واحد منهما. وقال آخر: لكل همّ من الهموم سعة ... والمسى والصبح لا فلاح معه «2» وقيل: ردّ الهاء الى الصلاة لأنّ الصبر داخل في الصلاة كقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «3» ولم يقل يرضوهما لأنّ رضا الرسول داخل في رضا الله، فردّ الكناية إلى الله. وقال الشاعر وهو حسّان: إنّ شرخ الشباب والشعر الأسود ... ما لم يعاص كان جنونا «4» ولم يقل يعاصيا ردّه إلى الشباب، لأن الشعر الأسود داخل فيه. وقال الحسين بن الفضل: ردّ الكناية إلى الاستعانة، معناه: وأن الاستعانة بالصبر والصلاة لكبيرة ثقيلة شديدة إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ يعني المؤمنين، وقال ابن عباس: يعني المصلّين. الوراق: العابدين المطيعين. مقاتل بن حيان: المتواضعين، الحسن: الخائفين. قال الزجاج: الخاشع الذي يرى أثر الذل والخنوع عليه، وكخشوع الدار بعد الإقواء، هذا هو الأصل «5» . وقال النابغة: رماد ككحل العين ما أن تبينه ... ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع الَّذِينَ يَظُنُّونَ يعلمون ويستيقنون، كقوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ «6» أي أيقنت به. وقال دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرّد «7»
يعني أيقنوا. والظن من الأضداد يكون شكّا ويقينا كالرّجاء يكون أملا وخوفا. أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ معاينو ربّهم في الآخرة وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ فيجزيهم بأعمالهم. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ يعني عالمي زمانكم. وَاتَّقُوا يَوْماً أي واحذروا يوما واخشوا يوم. لا تَجْزِي أي لا تقضي ولا تكفي ولا تغني. ومنه الحديث عن أبي بردة بن ديّان في الأضحية: لا تجزي عن أحد بعدك. وقرأ أبو السماك العدوي: لا تُجزئ مضمومة التّاء مهموزة الياء من أجزأ يجزي إذا كفي. قال الشاعر: وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ... ليجزي إلّا كامل وابن كامل «1» وقال الزجاج: وفي الآية إضمار معناه: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً من الشدائد والمكاره. وأنشد الشاعر: ويوم شهدناه سليما وعامرا أي شهدنا فيه. وقيل: معناه: ولا تغني نفس مؤمنة ولا كافرة عن نفس كافرة. وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ إذا كانت كافرة. قرأ أهل مكّة والبصرة: بالتّاء لتأنيث الشفاعة. وقرأ الباقون: بالياء لتقديم الفعل. وقرأ قتادة: (وَلا يَقْبَلُ مِنْها شَفاعَةً) بياء مفتوحة، ونصب الشفاعة أي لا يقبل الله. وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فداءً كانوا يأخذون في الدنيا، وسمّي الفداء عدلا لأنّه يعادل المفدّى ويماثله قال الله عزّ وجلّ: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً «2» . وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ أي يمنعون من عذاب الله.
[سورة البقرة (2) : الآيات 49 إلى 54]
قال الزجاج: كانت اليهود تزعم أنّ آباءها الأنبياء تشفع لهم عند الله عزّ وجلّ، فأيأسهم الله من ذلك. [سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 54] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ يعني أسلافكم وآباءكم فاعتدّها منّة عليهم لأنّهم نجوا بنجاتهم، ومآثر الآباء مفاخر الأبناء. وقوله: فَأَنْجَيْناكُمْ «1» : أصله ألقيناكم على النّجاة وهو ما ارتفع واتّسع من الأرض هذا، هو الأصل، ثم سمّي كلّ فائز ناجيا كأنّه خرج من الضيق والشدة الى الرخاء والراحة. وقرأ إبراهيم النخعي: وإذ نجّاكم على الواحد. مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: أي أشياعه وأتباعه وأسرته وعزّته وأهل دينه، وأصله من الأول وهو الرجوع كأنّه يؤول إليك، وكان في الأصل همزتان فعوّضت من إحداهما مدّ وتخفيف. وفرعون: هو الوليد بن مصعب بن الريّان، وكان من العماليق. يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يعني يكلّفونكم ويذيقونكم أشدّ العذاب وأسوأه، وذلك أنّ فرعون جعل بني إسرائيل خدما وعبيدا وصنّفهم في أعمالهم. فصنف يبنون، وصنف يحرثون ويزرعون، وصنف يخدمون، ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال فعليه الجزية. يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ. وقرأ ابن محيصن: بالتخفيف فتح الياء والباء من الذبح، والتشديد على التكثير، وذلك أنّ فرعون رأى في منامه كأنّ نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقتها وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فهاله ذلك، ودعا بالسحرة والكهنة وسألهم عن رؤياه فقالوا: إنّه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل، وجمع القوابل من أهل مملكته فقال لهنّ: لا
يسقطنّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلّا قتل ولا جارية إلّا تركت، ووكّل بهنّ من يفعلن ذلك، وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون فقالوا له: إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل وأنت تذبح صغارهم [ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك، وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها] . وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ في إنجائكم منهم نعمة عظيمة، والبلاء تنصرف على وجهين: النعماء والنقماء [.............] «1» . وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ....... «2» .. الْبَحْرَ: وذلك إنّه لما دنا هلاك فرعون أمر الله عزّ وجلّ موسى أن يسري ببني إسرائيل، وأمرهم أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح، وأخرج الله عزّ وجلّ كل ولد زنا في القبط من بني إسرائيل إليهم وأخرج [من بني إسرائيل كل ولد زنا منهم] «3» إلى القبط حتى رجع كل واحد منهم الى أبيه، وألقى الله عزّ وجلّ على القبط الموت فمات كل بكرا، فاشتغلوا بدفنهم [عن طلبهم حتى] «4» طلعت الشمس وخرج موسى عليه السّلام في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يتعدّون ابن العشرين أصغرهم، ولا ابن الستين أكبرهم، سوى الذرية. فلما أرادوا السير ضرب عليهم التّيه فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى عليه السّلام مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك. فقالوا: إنّ يوسف عليه السّلام لما حضرته الوفاة أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسدّ علينا الطريق، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا. فقام موسى ينادي: أنشد الله كل من يعلم أين موضع قبر يوسف إلّا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمّت أذناه عن قولي. فكان يمرّ بين الرّجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعته عجوز لهم فقالت: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كلّما سألتك، فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربّي، فأمره الله عزّ وجلّ بإيتاء سؤلها، فقالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدّنيا، وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل بغرفة من الجنة إلّا نزلتها معك، قال: نعم، قالت: إنّه في جوف الماء في النيل، فادع الله حتى يحبس عنه الماء. فدعا الله فحبس عنه الماء، ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف، فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من المرمر فحمله حتى دفنه بالشام، ففتح لهم الطريق.
فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدّمتهم، وعلم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الدّيك. فو الله ما صاح ديك في تلك الليلة. فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم سبعون ألف من دهم الخيل سوى سائر الشّيات، وسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر، والماء في غاية الزيادة. نظروا فإذا هم بفرعون وذلك حين أشرقت الشمس، فبقوا متحيرين وقالوا: يا موسى كيف نصنع؟ وما الحيلة؟ فرعون خلفنا والبحر أمامنا. قال موسى: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «1» فأوحى إليه: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ «2» فضربه فلم يطعه، فأوحى الله إليه أن كنّه، فضربه موسى بعصاه وقال: انفلق أبا خالد بإذن الله، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «3» وظهر فيها اثنا عشر طريقا لكلّ سبط طريق، وأرسل الله عزّ وجلّ الريح والشمس على مقر البحر حتى صار يبسا. وقال سعيد بن جبير: أرسل معاوية الى ابن عباس فسأله عن مكان لم تطلع فيه الشمس إلّا مرة واحدة؟ فكتب إليه: إنه المكان الذي انفلق منه البحر لبني إسرائيل «4» . فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبه الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضا، فخافوا وقال كل سبط قد غرق كل إخواننا. فأوحى الله إلى حال الماء أن تشبّكي، فصار الماء شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين. فذلك قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ أي فقلنا وميّزنا الماء يمينا وشمالا. فَأَنْجَيْناكُمْ من آل فرعون والغرق. وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وذلك إنّ فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقا، قال لقومه: انظروا إلى البحر انفلق لهيبتي حتى أدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقوا وأقتلهم، أدخلوا البحر، فهاب قومه أن يدخلوه ولم يكن في خيل فرعون أنثى، وإنما كانت كلها ذكور، فجاء جبرائيل عليه السّلام على فرس أنثى وديق فتقدّمهم فخاض البحر، فلما شمّت الخيول ريحها اقتحمت البحر في أثرها حتى خاضوا كلهم في البحر، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويقول لهم: الحقوا بأصحابكم، حتى إذا خرج جبرائيل من البحر وهمّ أولهم أن يخرج، أمر الله تعالى البحر أن يأخذهم والتطم عليهم فأغرقهم أجمعين وذلك بمرأى من بني إسرائيل، وذلك قوله: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ.
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى مصارعهم. وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وذلك أنّ بني إسرائيل لما أمنوا من عدوهم، ودخلوا مصر، ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، فوعد الله عزّ وجلّ موسى أن ينزّل عليهم التوراة، فقال موسى لقومه: إنّي ذاهب إلى ميقات ربي، وآتيكم بكتاب فيه تبيان ما تأتون وما تذرون، فواعدهم أربعين ليلة- ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة- واستخلف عليهم أخاه هارون. فلما أتى الوعد جاء جبرئيل على فرس يقال لها فرس الحياة لا يصيب شيئا إلّا حييّ ليذهب بموسى إلى ربه، فلمّا رآه السامري وكان رجلا صائغا من أهل باجرو واسمه ميخا- وقال ابن عباس: اسمه موسى بن ظفر، وكان رجلا منافقا قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل قلبه حبّ البقر- فلما رأى جبرئيل على ذلك الفرس، قال: إنّ لهذا شأنا، وأخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرئيل، وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حليا كثيرا من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لغلة عرس لهم فأهلك الله عزّ وجلّ قوم فرعون فبقيت تلك الحلي في يد بني إسرائيل. فلما وصل موسى. قال السامري: إنّ الأمتعة والحلي التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة، ولا تحلّ لكم. فاحفروا حفرة وادفنوها فيها حتى يرجع موسى، ويرى فيها رأيه، ففعلوا ذلك. فلما اجتمعت الحلي صاغها السامري، ثم ألقى القبضة التي أخذها من تراب فرس جبرئيل فيه، فخرج عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر كأحسن ما يكون وخار خورة. قال السّدي: كان يخور ويمشي [ويقول:] هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ، أي تركه هاهنا وخرج بطلبه. وكان بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدّوا اليوم والليلة يومين، فلما مضت عشرون يوما ولم يرجع موسى عليه السّلام ورأوا العجل وسمعوا قول السامري، أفتتن بالعجل ثمانية ألف رجل منهم، وعكفوا عليه يعبدونه من دون الله عزّ وجلّ. وَإِذْ واعَدْنا مُوسى: قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب: (وعدنا) بغير ألف في جميع القرآن، وقرأ الباقون: (واعَدْنا) بالألف، وهي قراءة ابن مسعود. فمن قرأ بغير ألف قال: لأنّ الله عزّ وجلّ هو المتفرد بالوعد والقرآن ينطق به كقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ «1» وقوله: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ «2» ، ومن قرأ بالألف قال: قد يجيء المفاعلة من واحد كقولهم: عاقبت اللص، وعافاك الله، وطارقت النعل.
قال الزجاج: (واعَدْنا) جيد لأن بالطاعة والقبول بمنزلة المواعدة فكان من الله الوعد ومن موسى القبول. وموسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب. أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقرأ زيد بن علي: (أَرْبِعِينَ) بكسر الباء وهي لغة، و (لَيْلَةً) نصب على التمييز والتفسير، وإنّما قرن التاريخ بالليل دون النهار لأن شهور العرب وضعت على مسير القمر، والهلال إنّما يهلّ بالليل، وقيل لأنّ الظلمة أقدم من الضوء، والليل خلق قبل النهار. قال الله عزّ وجلّ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «1» الآية. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ يقول أبو العالية: إنّما سمّي العجل لأنّهم تعجّلوه قبل رجوع موسى عليه السّلام. مِنْ بَعْدِهِ من بعد انطلاق موسى إلى الجبل للميعاد. وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ مشّاؤون لأنفسكم بالمعصية، وواضعون العبادة في غير موضعها. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ أي تركناكم فلم نستأصلكم، من قول له عليه السّلام: أحفوا الشّوارب واعفوا اللحي ، وقيل: محونا ذنوبكم، من قول العرب: عفت الرّيح المنازل فعفت. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد عبادتكم العجل. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لكي تشكروا عفوي عنكم، وصنيعي إليكم. واختلف العلماء في ماهيّة الشكر، فقال ابن عباس: هو الطاعة بجميع الجوارح لربّ الخلائق في السر والعلانية. وقال الحسن: شكر النعمة ذكرها، قال الله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «2» . الفضل: شكر كل نعمة ألّا يعصى الله بعد تلك النعمة. أبو بكر بن محمد بن عمر الوراق: حقيقة الشكر: معرفة المنعم، وأن لا تعرف لنفسك في النعمة حظّا بل تراها من الله عزّ وجلّ. قال الله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ «3» يدل عليه ما روى سيف بن ميمون عن الحسين: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال موسى عليه السّلام: يا ربّ كيف استطاع آدم أن يؤدي شكر ما أجريت عليه من نعمك، خلقته بيدك وأسجدت له ملائكتك واسكنته جنّتك؟ فأوحى الله إليه: إنّ آدم علم إنّ ذلك كله منّي ومن عندي فذلك شكر» [85] «4» .
وعن إسحاق بن نجيح الملطي عن عطاء الخرساني عن وهب بن منبّه قال: قال داود عليه السّلام: إلهي كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلّا بنعمتك؟ فأوحى الله تعالى إليه: ألست تعلم أنّ الذي بك من النعم منّي؟ قال: بلى يا ربّ، قال: أرضى بذلك لك شكرا. وقال وهب: وكذلك قال موسى: يا ربّ أنعمت عليّ بالنعم السوابغ وأمرتني بالشكر لك عليها، وإنما شكري لكل نعمة منك عليّ، فقال الله: يا موسى تعلّمت العلم الذي لا يفوته علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو منّي ومن عندي. قال الجنيد: حقيقة الشكر: العجز عن الشكر. وروى ذلك عن داود عليه السّلام إنّه قال: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة. وقال بعضهم: الشكر أن لا يرى النعمة البتة بل يرى المنعم. أبو عثمان الخيري: صدق الشكر: لا تمدح بلسانك غير المنعم. أبو عبد الرحمن السلمي عن أبي بكر الرازي عن الشبلي: الشكر: التواضع تحت رؤية المنّة. وقيل: الشكر خمسة أشياء: مجانبة السيئات، والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة ربّ السموات. قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سئل أبو الحسن علي بن عبد الرحيم القناد في الجامع بحضرة أبي بكر بن عدوس وأنا حاضر: من أشكر الشاكرين؟ قال: الطاهر من الذنوب، يعدّ نفسه من المذنبين، والمجتهد في النوافل بعداد الفرائض، يعدّ نفسه من المقصّرين، والراضي بالقليل من الدّنيا، يعد نفسه من المفلسين، فهذا أشكر الشاكرين. بكر بن عبد الرحمن عن ذي النّور: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال. وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ قال مجاهد والفراء: هما شيء واحد، والعرب تكرر الشيء إذا اختلفت ألفاظه على التوهم، وأنشد الفراء: وقدّمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبا ومينا «1»
وقال عنترة: حيّيت من طلل تقادم «1» عهده ... أقوى «2» وأقفر بعد أمّ الهيثم «3» وقال الزجاج: وهذا هو القول لأنّ الله عزّ وجلّ ذكر لموسى الفرقان في غير هذا الموضع فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ «4» . وقال الكسائي: الفرقان: نعت للكتاب، يريد: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ فرّق بين الحلال والحرام، والكفر والإيمان، والوعد والوعيد. فزيدت الواو فيه كما يزاد في النعوت من قولهم: فلان حسن وطويل، وأنشد: إلى الملك العزم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم «5» ودليل هذا التأويل قوله: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ «6» . وقال قطرب: أراد به الفرقان، وفي الآية إضمار، ومعناه: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَمحمّد الْفُرْقانَ. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لهذين الكتابين، فترك أحد الاسمين، كقول الشاعر: تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه بات له وفر «7» وقال ابن عباس: أراد بالفرقان النصر على الأعداء، نصر الله عزّ وجلّ موسى وأهلك فرعون وقومه، يدلّ عليه قوله عزّ وجلّ: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ «8» يوم بدر. يمان بن رباب: الفرقان: انفراق البحر وهو من عظيم الآيات، يدلّ عليه قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين اتخذوا العجل. يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أي ضررتم أنفسكم بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلها، فقالوا: فأي شيء نصنع وما الحيلة؟ قال: فَتُوبُوا
[سورة البقرة (2) : الآيات 55 إلى 59]
فارجعوا. إِلى بارِئِكُمْ أي خالقكم، وكان أبو عمرو يختلس الهمزة الى الجزم في قوله: بارِئِكُمْ و (يَأْمُرُكُمْ) ويَنْصُرْكُمُ طلبا للخفة «1» كقول امرؤ القيس: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «2» وأنشد: وإذا اعوججن قلت صاحب قوّم ... بالدوّ أمثال السفين العوم «3» قال: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ليقتل البريء المجرم. ذلِكُمْ القتل. خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ قال ابن جرير: فأبى الله عزّ وجلّ أن يقبل توبة بني إسرائيل إلّا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل. وقال قتادة: [جعل عقوبة] عبدة العجل القتل لأنّهم ارتدّوا، والكفر يبيح الدّم. وقرأ قتادة: (فأقيلوا أنفسكم) من الإقالة أي استقيلوا العثرة بالتوبة، فلما أهمّ موسى بالقتل قالوا: نصير لأمر الله تعالى فجلسوا بالأفنية مختبئين وأصلت القوم عليهم الخناجر وكان الرّجل يرى ابنه وأباه وعمّه وقومه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله وقالوا: يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا وقيل لهم من حلّ حبوته أو مدّ طرفه الى قاتله أو اتّقى بيد أو رجل فهو طعون مردود توبته، فكانوا يقتلونهم الى المساء، فلمّا كثر فيهم القتل دعا هارون وموسى وبكيا وجزعا وتضرّعا وقالا: يا ربّ هلكت بنو إسرائيل البقيّة البقيّة، فكشف الله عزّ وجلّ السحاب وأمرهم أن يرفعوا السلاح عنهم ويكفّوا عن القتل. فتكشّفت عن ألوف من القتلى، فاشتدّ ذلك على موسى، فأوحى الله إليه: أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنّة، وكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي منهم نكفّر عنه ذنوبه، فذلك قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ يعني ففعلتم بأمره فتاب عليكم وتجاوز عنكم. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 59] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً الآية، وذلك أنّ الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار سبعين رجلا من خيارهم، وقال لهم: صوموا وتطهّروا وطهّروا ثيابكم، ففعلوا ذلك، فخرج بهم موسى الى طور سيناء لميقات ربّه، فلمّا وصل ذلك الموضع قالوا: اطلب لنا نسمع كلام ربّنا، فقال: أفعل، فلمّا دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام وتغشّى الجبل كلّه فدخل في الغمام وقال القوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلّمه ربّه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام وخرّوا سجّدا، وسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه، وأسمعهم الله تعالى: إنّي أنا الله لا اله إلّا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري. فلمّا فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم، فقالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وهي نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا. وقال وهب: أرسل الله عزّ وجلّ عليهم جندا من السماء فلما سمعوا بحسّها ماتوا يوما وليلة. والصاعقة: المهلكة، فذلك قوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لن نصدّقك حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1» . قرأه العامّة بجزم الهاء، وقرأ ابن عباس: (جَهَرَةً) بفتح الهاء وهما لغتان مثل زهره وزهره. جَهْرَةً أي معاينة بلا ساتر بيننا وبينه، وأصل الجهر من الكشف. قال الشاعر: يجهر أجواف المياه السّدم «2» ... [وانتحابها على الحان] فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ قرأ عمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) : (الصعقة) بغير ألف، وقرأ الباقون (الصَّاعِقَةُ) بالألف وهما لغتان. وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وذلك أنهم لما هلكوا جعل [موسى] «3» يبكي
ويتضرّع ويقول: يا ربّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ولَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ، ويا ربّي أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا «1» فلم يزل يناشد ربّه حتى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم الى بعض كيف يحيون، فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لتستوفوا بقيّة آجالكم وأرزاقكم، وأصل البعث: إثارة الشيء من [مكمنه] . يقال: بعثت البعير، وبعثت النائم فانبعث. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ في التيه تقيكم حرّ الشمس، وذلك أنّهم كانوا في التّيه ولم يكن لهم كنّ يسترهم فشكوا ذلك الى موسى، فأنزل الله عليهم غماما أبيضا رقيقا وليس بغمام المطر بل أرقّ وأطيب وأبرد- والغمام: ما يغمّ الشيء أي يستره- وأظلّهم فقالوا: هذا الظّل قد جعل لنا فأين الطعام، فأنزل الله عليهم المنّ. واختلفوا فيه، فقال مجاهد: وهو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد. الضحّاك «2» : هو الطرنجبين «3» . وقال وهب: الخبز الرّقاق. السدي: عسل كان يقع على الشجر من الليل فيأكلون منه. عكرمة: شيء أنزله الله عليهم مثل الزّيت الغليظ، ويقال: هو الزنجبيل. وقال الزجاج: جملة المنّ ما يمنّ الله مما لا تعب فيه ولا نصب. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين» «4» [86] . وكان ينزل عليهم هذا المنّ كل ليلة تقع على أشجارهم مثل الملح، لكلّ إنسان منهم صاع كل ليلة قالوا يا موسى: مللنا هذا المنّ بحلاوته، فادع لنا ربّك أن يطعمنا اللحم، فدعا عليه السلام، فأنزل الله عليهم السلوى. واختلفوا فيه، فقال ابن عباس وأكثر المفسرين: هو طائر يشبه السّماني. أبو العالية ومقاتل: هو طير أحمر، بعث الله سحابة فمطرت ذلك الطير في عرض ميل وقدر طول رمح في السماء بعضه على بعض.
عكرمة: طير يكون بالهند أكبر من عصفور، المؤرّخ: هو [المعسل] بلغه كنانه. وقال شاعرهم: وقاسمها بالله حقّا لأنتم ... ألذّ من السلوى إذا ما نشورها «1» وكان يرسل عليهم المنّ والسلوى، فيأخذ كل واحد منه ما يكفيه يوما وليلة، وإذا كان يوم الجمعة أخذ ما يكفيه ليومين لأنّه لم يكن ينزل إليهم يوم السبت، فذلك قوله: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا أي وقلنا لهم كلوا. مِنْ طَيِّباتِ حلالات. ما رَزَقْناكُمْ ولا تدّخروا لغد فخبأوا لغد فقطع الله عزّ وجلّ ذلك عنهم ودوّد وفسد ما ادّخروا، فذلك قوله عزّ وجلّ وَما ظَلَمُونا ضرّونا بالمعصية. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يصرّون باستيجابهم عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزّل عليهم بلا كلفة ولا مؤونة، ولا مشقّة في الدنيا، ولا تبعه ولا حساب في العقبى. خلاس بن عمرو عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا بني إسرائيل لم يخنز الطعام ولم يخبث اللّحم، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها» «2» [87] . وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ابن عباس: هي أريحا وهي قرية الجبّارين، وكان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم العمالقة ورأسهم عوج بن عناق، وقيل: هي بلقا. وقال ابن كيسان: هي الشام. الضّحاك: هي الرّملة والأردن وفلسطين وتدمر. مجاهد: بيت المقدس. مقاتل: إيليا. فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً موسعا عليكم. وَادْخُلُوا الْبابَ يعني بابا من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب. سُجَّداً منحنين متواضعين وأصل السجود الخضوع. قال الشاعر: بجمع يضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر «3» وقال وهب: قيل لهم ادخلوا الباب، فإذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله عزّ وجلّ، وذلك
[سورة البقرة (2) : الآيات 60 إلى 62]
أنّهم أذنبوا بإبائهم دخول أريحا، فلما فصلوا من التيه أحبّ الله عزّ وجلّ أن يستنقذهم من الخطيئة. وَقُولُوا حِطَّةٌ قال قتادة: حطّ عنّا خطايانا وهو أمر بالاستغفار «1» . وقال ابن عباس: يعني لا اله الّا الله لأنّها تحطّ الذنوب، وهي رفع على الحكاية في قول أبي عبيدة. وقال الزجاج: سألتنا حطّة. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وقرأ أهل المدينة بياء مضمومة وأهل الشام بتاء مضمومة. وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ إحسانا وثوابا والسلام. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالمعصية، وقيل كفروا. وقال مجاهد: كموطيء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فلم يخفضوا ولم يركعوا ولم يسجدوا، فدخلوا مترجعين على أشباههم. قَوْلًا يعني وقالوا قولا. غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وذلك إنّهم أمروا أن يقولوا (حطّة) فقالوا: (حطا) [......] «2» يعنون حنطه حمراء استخفافا بأمر الله. فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً عذابا مِنَ السَّماءِ وذلك أنّ الله تعالى أرسل الله عليهم ظلمة وطاعونا فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفا. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني يلعبون ويخرجون من أمر الله عزّ وجلّ. [سورة البقرة (2) : الآيات 60 الى 62] وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ السين فيه: سين المسألة، مثل استعلم واستخبر ونحوهما، أي سأل السّقيا لقومه وذلك أنّهم عطشوا في التيه فقالوا: يا موسى من أين لنا الشراب، فاستسقى لهم موسى فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ وكان من آس الجنّة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان متّقدتان في الظلمة نورا واسمه غليق، وكان آدم عليه السّلام حمله معه من الجنة الى الأرض فتوارثته الأصاغر عن الأكابر حتى وصل الى شعيب فأعطاه لموسى. الْحَجَرَ واختلفوا فيه، فقال وهب بن منبّه: كان موسى صلّى الله عليه وسلّم يقرع لهم أقرب حجر من عرض الحجارة فيتفجّر منها لكلّ سبط عين وكانوا اثني عشر سبطا، ثمّ يسيل في كلّ عين جدول الى السبط الذي أمر سقيهم، ثمّ أنّهم قالوا: إن فقد موسى عصاه، فأوحى الله تعالى الى موسى لا تقرعنّ الحجارة ولكن كلّمها تطعك لعلّهم يعتبرون. فقالوا: كيف بنا لو أفضينا الى الرّمل والى الأرض التي ليست فيها حجارة، فحمل موسى معه حجرا فحيث نزلوا ألقاه. وقال الآخرون: كان حجرا مخصوصا بعينه، والدليل عليه قوله تعالى: الْحَجَرَ فأدخل الألف واللام للتعريف مثل قولك: رأيت الرجل، ثم اختلفوا فيه ما هو. فقال ابن عباس: كان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرجل أمر أن يحمله وكان يضعه في مخلاته فإذا احتاجوا الى الماء وضعه وضربه بعصاه. وفي بعض الكتب: إنّها كانت رخاما. وقال أبو روق: كان الحجر من الكدان وكان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع من كلّ حفرة عين ماء عذب فرات فيأخذوه، فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء وكان يستسقي كل يوم ستمائة ألف. وقال سعيد بن جبير: هو الحجر الذي وضع موسى ثوبه عليه ليغتسل حين رموه بالأدرة «1» ففرّ الحجر بثوبه ومرّ به على ملأ من بني إسرائيل حتى ظهر إنه ليس بآدر، فلما وقف الحجر أتاه جبرئيل فقال لموسى: إن الله يقول ارفع هذا الحجر فانّ فيه قدرة، فلك فيه معجزة، وقد ذكره الله تعالى في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً «2» . فحمله موسى ووضعه في مخلاته فكان إذا احتاج الى الماء ضربه بالعصا، وهو ما روي عن أبي هريرة إنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر
بعضهم الى سوأة بعض وكان موسى يغتسل وحده فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا إنه آدر قال: فذهب مرّة يغتسل فوضع موسى ثوبه على حجر ففرّ الحجر بثوبه قال: فجمع موسى في أثره يقول ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر حتى نظر بنو إسرائيل الى سوأة موسى فقالوا والله ما بموسى من بأس قال فقام الحجر بعد ما نظر إليه وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا» [88] «1» . فقال أبو هريرة: وقد رأينا بالحجر ندبا ستة أو سبعة أثر ضرب موسى. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: كانت ضربة موسى اثني عشرة ضربة، وظهر على موضع كل ضربة مثل ثدي المرأة، ثم انفجر بالأنهار المطرّدة وهو قوله: فَانْفَجَرَتْ. وفي الآية إضمار واختصار تقديرها: ضرب فانفجرت أي سالت، وأصل الانفجار: الانشقاق والانتشار، ومنه فجر النهار. مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قرأ العامة بسكون الشّين على التخفيف، وقرأ العباس بن الفضل الأنصاري بفتح الشين على الأصل، وقرأ أبو [.....] «2» بكسر الشين. قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ موضع شربهم ويكون بمعنى المصدر مثل المدخل، المخرج. كُلُوا وَاشْرَبُوا أي قلنا لهم: كلوا من المنّ، واشربوا من الماء فهذا كلّه من رزق الله الذي بلا مشقة ولا مؤنة ولا تبعة. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ: يقال: عثى يعثي عثيا، وعثا يعثو عثوا، وعاث يعث عيثا وعيوثا [بثلاث لغات] وهو شدة الفساد. قال ابن الرّقاع: لولا الحياء وأنّ رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أمّ القاسم «3» وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ الآية، وذلك أنهم ملّوا المنّ والسلوى وسئموها. قال الحسن: كانوا نتانى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عكرهم عكر السوء «4» ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عاداتهم عليه، فقالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وكفّوا عن المنّ والسلوى، وإنما قالوا (واحد) وهما اثنان لأن العرب تعبّر عن اثنين بلفظ
الواحد، وبلفظ الواحد عن الاثنين كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» ، وإنما يخرجان من المالح منهما دون العذب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يعجنون المنّ والسلوى فيصير طعاما واحدا فيأكلونه. فَادْعُ فسأل وادع. لَنا لأجلنا. رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها قراءة العامة بكسر القاف. وقرأ يحيى بن وثاب، وطلحة بن مصرف، والأشيب العقيلي: وَقُثَّائِها بضم القاف، وهي لغة تميم. وَفُومِها: قال ابن عباس: الفوم: الخبز، تقول العرب: فوّموا لنا، أي اختبزوا لنا. عطاء وأبو مالك: هو الحنطة وهي لغة قديمة، قال الشاعر: قد كنت أحسبني كأغنى واحد ... نزل المدينة عن زراعة فوم «2» [ ... ] «3» : هو الحبوب كلّها. الكلبي والنضر بن شميل والكسائي والمعرّج: هو الثوم، وأنشد المعرّج لحسّان: وأنتم أناس لئام الأصول ... طعامكم الفوم والحوقل «4» يعني الثوم والبصل فالعرب تعاقب بين الفاء والثاء فتقول للصمغ العرفط: مغاثير ومغافير، وللقبر جدف وجدث، ودليل هذا التأويل أنها في مصحف عبد الله: وثومها. وَعَدَسِها وَبَصَلِها عن الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالعدس فإنّه مبارك مقدّس وإنه يرقق القلب ويكثر الدمعة، وإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى عليه السّلام» [89] «5» . فقال لهم موسى عند ذلك: أَتَسْتَبْدِلُونَ وفي مصحف أبيّ: أتبدلون. الَّذِي هُوَ أَدْنى أخس وأردى. حكى الفراء عن زهير العرقي: إنه قرأ (أدناء) بالهمزة، والعامة على ترك الهمزة، وقال بعض النحاة: هو أدون فقدّمت النون وحوّلت الواو ياء كقولهم: أولى من الويل.
بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أشرف وأفضل، ومعناه: أتتركون الذي هو خير وتريدون الذي هو شر، ويجوز أن يكون هذا الخير والشر منصرفين إلى أجناس الطعام وأنواعه، ويجوز أن يكونا منصرفين إلى اختيار الله لهم، واختيارهم لأنفسهم. اهْبِطُوا مِصْراً يعني فإن أبيتم إلّا ذلك فاهبطوا مصرا من الأمصار، ولو أراد مصر بعينها لقال: (مصر) ولم يصرفه كقوله ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ «1» وهذا معنى قول قتادة. الضحاك: هي مصر موسى وفرعون. وقال الأعمش: هي مصر التي عليها صالح بن علي ودليل هذا القول: قراءة الحسن وطلحة: (مصر) بغير تنوين جعلاها معرفة، وكذلك هو في مصحف عبد الله وأبيّ بغير ألف، وإنّما صرف على هذا القول لخفّته وقلّة حروفه مثل: دعد وهند وحمل ونحوها. قال الشاعر: وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا «2» فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ من نبات الأرض. وَضُرِبَتْ جعلت. عَلَيْهِمُ وألزموا. الذِّلَّةُ الذل والهوان. قالوا: بالجزية، يدل عليه قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ «3» وقال [.....] «4» : هو الكستيبنج وزنة اليهودية. وَالْمَسْكَنَةُ يعني ذي الفقر. [فتراهم] كأنّهم فقراء وأن كانوا مياسير، وقيل: المذلة وفقر القلب فلا يرى في أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود، والمسكنة مفعلة من السكون، ومنه سمّي الفقير مسكينا لسكونه وقلّة حركاته. يقال: ما في بني فلان أسكن من فلان، أي أفقر. وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي رجعوا في قول الكسائي وغيره. أبو روق: استحقوا والباء صلة. أبو عبيدة: احتملوا وأقرّوا به، ومنه الدعاء المأثور: (أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت) ، وغضب الله عليهم: ذمّه لهم وتوعّده إياهم في الدنيا، وإنزال العقوبة عليهم في العقبى، وكذلك بغضه وسخطه.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنه الرحيم في التوراة والإنجيل والفرقان. وَيَقْتُلُونَ قراءة العامة بالتخفيف من القتل، وقرأ السّلمي بالتشديد من التقتيل. النَّبِيِّينَ القراءة المشهورة بالتشديد من غيرهم، وتفرّد نافع بهمز النبيئين، [ومدّه] فمن همز معناه: المخبر، من قول العرب: أنبأ النبي إنباءا، ونبّأ ينبئ تنبئة بمعنى واحد، فقال الله عزّ وجلّ: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا «1» ومن حذف الهمز فله وجهان: أحدهما: إنه أراد الهمز فحذفه طلبا للخفّة لكثرة استعمالها، والوجه الآخر: أن يكون بمعنى الرّفيع مأخوذ من النبؤة وهي المكان المرتفع، يقال: نبيء الشيء عن المكان، أي ارتفع «2» . قال الشاعر: إنّ جنبي عن الفراش لناب ... كتجافي الأسرّ فوق الظراب «3» وفيه وجه آخر: قال الكسائي: النبي بغير همز: الطريق، فسمّي الرسول نبيا، وإنما دقائق الحصا لأنّه طريق إلى الهدى، ومنه قول الشاعر: لأصبح رتما دقاق الحصى ... مكان النبي من الكاثب «4» ومعنى الآية: ويقتلون النبيّين. بِغَيْرِ الْحَقِّ مثل أشعيا وزكريا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء، وفي الخبر: إنّ اليهود قتلوا سبعين «5» نبيا من أوّل النهار [في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من] آخر النهار [في ذلك اليوم] «6» . ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا يعني اليهود، واختلف العلماء في سبب تسميتهم به. فقال بعضهم: سمّوا بذلك لأنهم هادوا أي تابوا من عبادة العجل، كقوله أخبارا عنهم: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ «7» .
وأنشد أبو عبيدة: إنّي امرؤ من مدحه هائد «1» أي تائب. وقال بعضهم: لأنّهم هادوا أي مالوا عن الإسلام وعن دين موسى. يقال: هاد يهود هودا: إذا مال. قال امرؤ القيس: قد علمت سلمى وجاراتها «2» ... أنّي من الناس لها هائد أي إليها مائل. وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنّهم يتهوّدون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة، ويقولون: إنّ السموات والأرض تحرّكت حين أتى الله موسى التوراة. وقرأ أبو السمّاك العدوي واسمه قعنب: هادَوا بفتح الدال من المهاداة، أي مال بعضهم الى بعض في دينهم. وَالنَّصارى واختلفوا في سبب تسميتهم بهذا الاسم، فقال الزهري: سمّوا نصارى لأنّ الحواريّين قالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ. مقاتل: لأنّهم تولوا قرية يقال لها: ناصرة، فنسبوا إليها. وقال الخليل بن أحمد: النصارى: جمع نصران، كقولهم: ندمان وندامى. وأنشد: تراه إذا دار العشيّ محنّفا ... ويضحى لربّه وهو نصران شامس «3» فنسبت فيه ياء النسبة كقولهم لذي اللحية: لحياني، ورقابي لذي الرقبة. فقال الزجاج: يجوز أن يكون جمع نصري كما يقال: بعير حبري، وإبل حبارى، وإنما سمّوا نصارى لاعتزائهم إلى نصرة وهي قرية كان ينزلها عيسى وأمّه. وَالصَّابِئِينَ قرأ أهل المدينة بترك الهمزة من الصَّابِئِينَ والصَّابِئُونَ الصّابين والصّابون في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالهمزة وهو الأصل، يقال: صبا يصبوا صبوءا، إذا مال وخرج من دين إلى دين.
قال الفرّاء: يقال لكل من أحدث دينا: قد صبأ وأصبأ بمعنى واحد، وأصله الميل، وأنشد: إذا أصبأت هوادي الخيل عنّا ... حسبت بنحرها شرق البعير واختلفوا في الصّابئين من هم: قال عمر: هم طائفة من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب، وبه قال السدي. وقال ابن عباس: لا تحل ذبائحهم ولا مناكحة نسائهم. وقال مجاهد: هم قبيلة نحو الشّام بين اليهود والمجوس لا دين لهم «1» . وقال السدي: هم طائفة من أهل الكتاب، وهو رأي أبي حنيفة. وقال قتادة ومقاتل: هم قوم يقرّون بالله عزّ وجلّ، ويعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور ويصلّون إلى الكعبة، أخذوا من كل دين شيئا. الكلبي: هم قوم بين اليهود والنصارى، يحلقون أوساط رؤوسهم ويحبّون ذاكرهم. عبد العزيز بن يحيى: درجوا وانقرضوا فلا عين ولا أثر. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اختلفوا في حكم الآية ومعناها، ولهم فيها طريقان: أحدهما: إنّه أراد بقوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا على التحقيق وعقد التصديق، ثم اختلفوا في هؤلاء المؤمنين من هم؟ فقال قوم: هم الذين آمنوا بعيسى ثم لم يتهوّدوا ولم يتنصّروا ولم يصبئوا، وانتظروا خروج محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال آخرون: هم طلّاب الدين، منهم: حبيب النجّار، وقيس بن ساعدة، وزيد بن عمرو ابن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء السّندي، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، ويحيى الراهب، ووفد النجاشي. آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه، فمنهم من أدركه وتابعه، ومنهم من لم يدركه. وقيل: هم مؤمنو الأمم الماضية. وقيل: المؤمنون من هذا الأمة. وَالَّذِينَ هادُوا يعني الذين كانوا على دين موسى عليه السّلام ولم يبدّلوا ولم يغيّروا. وَالنَّصارى: الذين كانوا على دين عيسى عليه السّلام ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك. قالوا: وهذان اسمان لزماهم زمن موسى وعيسى (عليهما السلام) ، حيث كانوا على الحق
فبقي الاسم عليهم كما بقي الإسلام على أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم والصابئين زمن استقامتهم من آمن منهم أي مات منهم وهو مؤمن لأنّ حقيقة الإيمان المؤاخاة. قال: ويجوز أن تكون الواو فيه مضمرا: أي ومن آمن بعدك يا محمد إلى يوم القيامة. والطريق الآخر: إنّ المذكورين في أول الآية بالإيمان إنّما هو على طريق المجاز والتسمية دون الحكم والحقيقة، ثمّ اختلفوا فيه: فقال بعضهم: إنّ الذين آمنوا بالأنبياء الماضين والكتب المتقدمة ولم يؤمنوا بك ولا بكتابك. وقال آخرون: يعني به المنافقين أراد: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالَّذِينَ هادُوا: أي اعتقدوا اليهودية وهي الدين المبدّل بعد موسى عليه السّلام، وَالنَّصارى: هم الذين اعتقدوا النصرانية والدّين المبدّل بعد عيسى، وَالصَّابِئِينَ: يعني أصناف الكفّار مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ من جملة الأصناف المذكورين في الآية. وفيه اختصار وإضمار تقديره: من آمن منهم بالله واليوم الآخر لأنّ لفظ (من) يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ «1» وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ «2» وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «3» . قال وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ «4» ، وقال الفرزدق في التشبيه: تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... تكن مثل من ناديت يصطحبان «5» وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما قدّموا. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلّفوا، وقيل: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بالخلود في النار، ولا يحزنون بقطيعه الملك الجبّار، ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من الكبائر وإنّي أغفرها، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على الصغائر فإنّي أكفّرها. وقيل: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما تعاطوا من الإجرام، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما اقترفوا من الآثام لما سبق لهم من الإسلام الآثام.
[سورة البقرة (2) : الآيات 63 إلى 73]
[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 73] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ يا معشر اليهود. وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وهو الجبل بالسريانية في قول بعضهم. وقالوا: ليس من لغة في الدنيا إلّا وهي في القرآن. وقال أبو عبيدة والحذّاق من العلماء: لا يجوز أن تكون في القرآن لغة غير لغة العرب لأن الله تعالى قال: قُرْآناً عَرَبِيًّا «1» وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «2» وإنّما هذا وأشباهه وفاق بين اللّغتين. وقد وجدنا الطّور في كلام العرب، وقال جرير: فإن ير سليمان الجنّ يستأنسوا بها ... وإن ير سليمان أحب الطّور ينزل وقال المفسّرون: وذلك أنّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى وأمر قومه بالعمل بأحكامه فأبوا أن يقبلوها ويعملوا بما فيها للأضرار والأثقال الّتي فيها، وكانت شريعته ثقيلة فأمر الله تعالى جبرئيل عليه السّلام يضع جبلا على قدر عسكره وكان فرسخا في فرسخ ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرّجل. أبو صالح عن ابن عبّاس: أمر الله تعالى جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتّى قام على رؤوسهم مثل الظلّة. عطاء عن ابن عبّاس: رفع الله فوق رؤوسهم الطّور وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم
البحر الملح من خلفهم وقيل لهم: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ أي أعطيناكم. بِقُوَّةٍ بجدّ ومواظبة. وفيه إضمار، أي: وقلنا لهم: خذوا. وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي احفظوه واعلموه واعملوا به و (في) حرف أولي فاذّكروا بذال مشددة وكسر الالف المشددة و (في) حرف وانه وتذكروا ما فيه ومعناهما اتعظوا به لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لكي تنجوا من الهلاك في الدّنيا والعذاب في العقبى فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلّا رضختكم بهذا الجبل وأغرقتكم في البحر وأحرقتكم بهذه النّار، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا لك وسجدوا خوفا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصارت سنّة في اليهود لا يسجدون إلّا على أنصاف وجوههم فلمّا زال الجبل قالوا: يا موسى سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك. ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم وعصيتم. مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد أخذ الميثاق ورفع الجبل. فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بتأخير العذاب عنكم. لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ لصرتم من المغلوبين بالعقوبة وذهاب الدّنيا والآخرة. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ وذلك أنهم كانوا من داود عليه السّلام بأرض يقال لها أيلة حرّم الله عليهم صيد السّمك يوم السبت فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلّا اجتمع هناك حتّى يخرجن خراطيمهنّ من الماء لأمنها، فإذا مضى السبت تفرّقن ولزمن البحر فذلك قوله تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ فعمد رجال فحفروا الحياض حول البحر وشرعوا منه إليها الأنهار فإذا كانت عشيّة الجمعة فتحوا تلك الأنهار فأقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا تطيق الخروج لبعد عمقها وقلّة الماء فإذا كان يوم الأحد أخذوها، وقيل: كانوا ينصبون الحبائل والشّصوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد، ففعلوا ذلك زمانا فكثرت أموالهم ولم تنزل عليهم عقوبة، فقست قلوبهم وأصرّوا على الذّنب، وقالوا: ما نرى السّبت إلّا قد أحلّ لنا، فلمّا فعلوا ذلك صار أهل القرية- وكانوا سبعين ألفا- ثلاثة أصناف: صنف أمسك ونهى وصنف أمسك ولم ينه، وصنف انتهك الحرمة، وكان الّذين نهوا إثنا عشر ألفا فلمّا أبى المجرمون قبول نصحهم قال الناهون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة، فقسّموا القرية بجدار وغيروا بذلك سنتين فلعنهم داود وغضب الله عزّ وجلّ عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم والمجرمون لم يفتحوا أبوابهم ولا خرج منهم أحد فلمّا أبطئوا تسوّروا عليهم الحائط فإذا هم جميعا قردة فمكثوا ثلاثة أيام ثمّ هلكوا، ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيّام ولم يتوالدوا فذلك قول عزّ وجلّ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً أمر تحويل. خاسِئِينَ مطرودين صاغرين بلغة كنانة، قاله مجاهد وقتادة والربيع.
قال أبو روق: يعني خرسا لا يتكلّمون، دليله قوله عزّ وجلّ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «1» . وقيل: مبعدون من كلّ خير. فَجَعَلْناها أي القردة، وقيل: القرية، وقيل: العقوبة. نَكالًا عقوبة وعبرة وفضيحة شاهرة، وأصله من النكل وهو القيد، وجمعه أنكال، ويقال للّجام نكل. لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها قال أبو العالية والرّبيع: معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لما بعدهم. قتادة: جعلنا تلك العقوبة جزاء لما تقدّم من ذنوبهم قبل نهيهم عن الصّيد وَما خَلْفَها من العصيان بأخذ الحيتان بعد النّهي. وقيل: لِما بَيْنَ يَدَيْها من عقوبة الآخرة وَما خَلْفَها من نصيحتهم في دنياهم فيذكّرون بها إلى يوم قيام السّاعة. وقيل: في الآية تقديم وتأخير وتقديرها: فجعلناها وما خلفها ممّا أعدّ لهم من العذاب في الآخرة نكالا وجزاء لما بين يديها: أي لما تقدّم من ذنوبهم في اعتدائهم يوم السّبت. وَمَوْعِظَةً عظة وعبرة. لِلْمُتَّقِينَ للمؤمنين من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم فلا يفعلون مثل فعلهم. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً الآية: وذلك إنّه وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل ولم يدروا قاتله واختلفوا في قاتله والسبب في قتله فقال عطاء والسّدي: كان في بني إسرائيل رجل كثير المال وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره فلمّا طال عليه موته قتله ليرثه. وقال بعضهم: وكان تحت عاميل بنت عم له لم يكن لها مثلا في بني إسرائيل بالحسن والجمال فقتله ابن عمّه لينكحها. وقال ابن الكلبي: قتله ابن أخيه لينكح ابنته فلمّا قتله حمله من قريته إلى قرية أخرى وألقاه هناك. وقيل: ألقاه بين قريتين. عكرمة: كان لبني إسرائيل مسجد له إثنا عشر بابا لكلّ سبط منهم باب فوجد قتيل على باب سبط.
قيل: وجرّ إلى باب سبط آخر فاختصم فيه السبطان. وقال ابن سيرين: قتله القاتل ثمّ احتمله فوضعه على باب رجل منهم ثمّ أصبح يطلب بثأره ودمه ويدّعيه عليه. قال: فجاء أولياء القتيل إلى موسى وأتوه بناس وادّعوا عليهم القتل وسألوا القصاص فسألهم موسى عن ذلك فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ووقع بينهم خلاف. وقال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعوا الله ليبيّن لهم ذلك فسأل موسى ربّه فأمرهم بذبح بقرة. فقال لهم موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً يا موسى أي أتستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة وإنّما قالوا ذلك لتباعد الأمرين في الظّاهر، ولم يدروا ما الحكمة فيه. وقرأ ابن محيصن: أيتّخذنا بالياء قال: يعنون الله ولا يستبعد هذا من جهلهم لأنّهم الّذين قالوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1» . وفي هذا ثلاثة لغات هزؤا: بالتخفيف والهمز ومثله كفؤا وهي قراءة الأعمش وحمزة وخلف وإسماعيل. وهزؤا وكفؤا مثقلان مهموزان وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز والشام واختيار الكسائي وأبي عبيد وأبي حاتم. وهزوا وكفوا مثقلان بغير همزة وفي رواية حفص بن سليمان البزّاز عن عاصم وكلّها لغات صحيحة معناها الاستهزاء فقال لهم موسى عليه السّلام: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من المستهزئين بالمؤمنين فلمّا علم القوم إنّ ذبح البقرة عزم من الله عزّ وجلّ سألوه الوصف. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ولو أنّهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وإنّما كان تشديدهم تقديرا من الله عزّ وجلّ وحكمة، وكان السبب في ذلك على ما ذكره السّدي وغيره. إنّ رجلا في بني إسرائيل كان بارّا بأبيه وبلغ من برّه به إنّ رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها بخمسين ألفا وكان فيها فضل فقال للبائع أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلني حتّى يستيقظ وأعطيك الثمن. قال: فأيقظ أباك واعطني المال. قال: ما كنت لأفعل ولكن أزيدك عشرة آلأف فانتظرني حتّى ينتبه أبي. فقال الرّجل: فأنا أعط عنك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجلت النقد. قال: وأنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباه أبي. ففعل ولم يوقظ الرجل أباه فأعقبه برّه بأبيه أن جعل تلك البقرة عنده وأمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة بعينها.
قال ابن عبّاس ووهب وغيرهما: كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل فأتى بالعجل الى غيضة وقال: اللهمّ إنّي استودعك هذه العجلة لا بني حتّى يكبر ومات الرّجل فسبيت العجلة في الغيضة وصارت عوانا وكانت تهرب من كل من رامها. فلمّا كبر الابن كان بارّا بوالدته وكان اللّيلة يقسّم ثلاثة أثلاث: يصلّي ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس أمّه ثلثا فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره ويأتي به السّوق فيبيعه بما شاء الله ثمّ يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثا، وقالت له أمّه يوما: إنّ أباك ورّثك عجلة وذهب بها إلى غيضه كذا واستودعها الله عز وجل فانطلق إليها فأدع اله ابراهيم وإسماعيل وإسحاق بأن يردّها عليك، وان من علامتها إنّك إذا نظرت إليها يخيّل إليك إنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها وكانت تسمى المذهّبة لحسنها وصفرتها وصفاء لونها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى وقال: أعزم عليك بآله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأقبلت تسعى حتّى قامت بين يديه فقبض على عنقها وقادها فتكلمت البقرة بأذن الله وقالت: أيّها الفتى البارّ بوالدته اركبني فإنّ ذلك أهون عليك. فقال الفتى، إنّ أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت: خذها بعنقها فقالت البقرة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبدا فأنطلق فإنّك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرّك بوالدتك. وسار الفتى فاستقبله عدوّ الله إبليس في صورة راع فقال: أيّها الفتى إنّي رجل من رعاة البقر اشتقت إلى أهلي فأخذت ثورا من ثيراني فحملت عليه زادي ومتاعي حتّى إذا بلغت شطر الطّريق ذهبت لأقضي حاجتي صعدا وسط الجبل وما قدرت عليه وإنّي أخشى على نفسي الهلاك، فأن رأيت أن تحملني على بقرتك وتنجني من الموت وأعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك فلم يفعل الفتى وقال: اذهب فتوكّل على الله فلو علم الله منك اليقين بلغك بلا زاد ولا راحلة فقال إبليس: فأن شئت فبعنيها بحكمك، وإن شئت فاحملني عليها وأعطيك عشرة مثلها فقال الفتى: إنّ امّي لم تأمرني بهذا فبينا الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يدي البقرة ونفرت البقرة هاربة في الفلاة وغاب الرّاعي فدعاها الفتى باسم آله إبراهيم فرجعت إليه البقرة فقالت أيّها الفتى البار بوالدته ألم تر إلى الطائر الذي طار إنّه إبليس عدو الله اختلسني أمّا إنّه لو ركبني لما قدرت عليّ أبدا فلمّا دعوت آله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس وردّني إليك لبرّك بوالدتك وطاعتك لها. فجاء بها الفتى إلى أمّه، فقالت له: إنّك فقير لا مال لك ويشقّ عليك الاحتطاب بالنّهار والقيام باللّيل فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها. قال بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي وكانت ثمن البقرة في ذلك الوقت فانطلق بها الفتى إلى السّوق فبعث الله ملكا إنسانا خلقه بقدرته ليخبر الفتى كيف برّه بوالدته وكان الله به خبيرا فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير واشترط عليك رضا والدتي. فقال الملك: ستّة دنانير ولا تستأمر أمّك.
فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلّا برضا أمّي فردّها إلى امّه وأخبرها بالثّمن فقالت: ارجع فبعها ستّة على رضاي فانطلق الفتى بالبقرة إلى السوق وأتى الملك وقال: استأمرت والدتك؟ فقال الفتى: انّها أمرتني أن لا أنقصها من ستة على أن أستأمرها. قال الملك: فإنني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها. فأتى الفتى ورجع إلى أمّه وأخبرها بذلك قالت: إنّ ذلك الرجل الّذي يأتيك ويعطيك هو ملك من الملائكة يأتيك في صورة آدمي ليجرّبك فإذا أتاك فقل له أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل ذلك فقال له الملك: اذهب إلى أمّك وقل لها بكم هذه البقرة؟ فإنّ موسى بن عمران يشتريها منكم لقتيل يقتل من بني إسرائيل فلا تبيعوها إلّا بملء مسكها دنانير فأمسكوا البقرة، وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها وأمرهم بها فقالوا يستوصفون ويصف لهم حتّى وصف تلك البقرة بعينها موافاة له على برّه بوالدته فضلا منه. فضلا منه ورحمة وذلك قوله عزّ وجلّ ادْعُ لَنا رَبَّكَ أيّ سل وهكذا هو في مصحف عبد الله، سلّ لنّا ربّك يبين لنا ما هي؟ وما سنّها؟ قالَ موسى: إِنَّهُ يعني إن الله يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ لا كبيرة ولا صغيرة وارتفع البكر والفارض بإضمار هي إذ لا هي فارض ولا هي بكر. مجاهد وأبو عبيدة والأخفش: الفارض الكبيرة المسنّة التي لا تلد يقال له: فرضت- تفرض- فروضا. قال الشاعر: كميت بهيم اللون ليس بفارض ... ولا بعوان ذات لون مخصف «1» وقال الرّاجز: يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض ... له قروء كقروء الحائض «2» أيّ حقد قديم، والبكر: الفتية الصغيرة التي لم تلد قط. وقال السّدي: البكر: التي لم تلد إلّا ولدا واحدا وحذف الحاء منها للاختصاص. عَوانٌ نصف بين سنّين، وقال الأخفش: العوان التي نتجت مرارا وجمعه عون، ويقال منه: عونت تعوينا.
فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ من ذبح البقرة ولا تكرّروا السؤال. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها محل (ما) رفع بالابتداء ولَوْنُها خبر، وقرأ الضّحاك لَوْنُها نصبا كانّه عمل فيه لسببين وجعل ما صلة. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها. قال ابن عبّاس: شديد الصفرة وقال عدي بن زيد: واني لأسقي الشرب صفرا فاقعا ... كأن ذكيّ المسك فيها يعبّق قتادة وأبو العالية والربيع: صاف. سعيد بن جبير: صفراء اللون والظلف. الحسن: السوداء، والعرب تسمي الأسود أصفر. قال الأعشى: تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفر أولادها كالزبيب «1» قال القتيبي: غلط من قال الصفراء هاهنا السوداء لأنّ هذا غلط في نعوت البقر. وإنّما هو في نعوت الإبل وذلك أنّ السّوداء من الإبل شربت سوادها صفرة، والآخرة إنّه لو أراد السّوداء لما أكده بالفقوع لأنّ الفاقع المبالغ في الصّفرة. كما يقال: أبيض يفق وأسود حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر. تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إليها وتعجبهم من حسنها وصفاء لونها لأنّ العين تسر وتولع بالنظر إلى الشيء. الحسن قال: من لبس نعلا صفراء قلّ همّه «2» لأنّ الله يقول: صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أسائمة أم عاملة. إِنَّ الْبَقَرَ هذه قراءة العامة، قرأ محمد ذو الشامة الأموي إن الباقر وهو جمع البقر كالجامل لجماعة الجمل وقال الشاعر: مالي رأيتك بعد عهدك موحشا ... خلقا كحوض الباقر المتهدّم قال قطرب: تجمع البقرة- بقر، وباقر، وبقير، وبقور، وباقور. فأن قيل: لما قال تشابه والبقر جمع فلم لم يقل تشابهت؟ قيل فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: إنّه ذكر لتذكير بلفظ البقر، كقوله كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «3» .
وقال المبرّد: سئل سيبويه عن هذه الآية؟ [فقال:] كل جمع حروفه أقل من حروف واحد فإنّ العرب تذكّره، واحتج بقول الأعشى: ودّع هريرة إن الرّكب مرتحل ولم يقل مرتحلون، وقال الزّجاج: معناه إنّ جنس البقر تشابه علينا. تَشابَهَ عَلَيْنا وفي تشابه سبع قراءات: تَشابَهَ: بفتح التاء والهاء وتخفيف الشّين وهي قراءة العامة وهو فعل ماض ويذكر موحد. وقرأ الحسن: تَشابهُ: بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشّين أراد تشابه. وقرأ الأعرج: تَشّابهُ: بفتح التاء وتشديد الشّين وضم الهاء على معنى يتشابه. وقرأ مجاهد: تشبّه، كقراءة الأعرج إلّا إنّه بغير ألف لقولهم: تحمل وتحامل. وفي مصحف أبي: تشابهت على وزن تفاعلت [فالتاء] لتأنيث البقر. وقرأ ابن أبي إسحاق: تشّابهت بتشديد الشين قال أبو حاتم: هذا غلط لأن التاء لا تدغم في هذا الباب إلّا في المضارعة «1» . وقرأ الأعمش: متشابه علينا- جعله اسما. ومعنى الآية: التبس واشتبه أمره علينا فلا نهتدي إليه. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ إلى وصفها. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وأيم الله لئن لم يستبينوا لما تبينت لهم آخر الأبد» [90] . قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ مذلّلة بالعمل- يقال: رجل ذليل بيّن الذّل، ودابة ذلولة بيّنة الذّل. تُثِيرُ الْأَرْضَ أي مثلها للزراعة. وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ بريئة من العيوب، وقال الحسن: مسلّمة القوائم ليس فيها أثر العمل. لا شِيَةَ فِيها قال عطاء: لا عيب فيها. قال قتادة: لا بياض فيها أصلا. مجاهد: لا بياض فيها ولا سواد.
محمّد بن كعب: لا لون فيها يخالف معظم لونها. فلما قال هذا قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي بالوصف التام البين. قيل: كانت البقرة التي أحيا بها القتيل لوارثه الذي قتله، وكان أوّل من فتح السؤال عنها رجاء أن لا يجدوها فطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلّا عند الفتى البار. فاشتروها منه بملء مسكنها ذهبا. وقال السدّي: اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا. فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ من غلاء ثمنها. وقال محمّد بن كعب: وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً يعني عاميل، وهذه الآية أوّل القصّة. فَادَّارَأْتُمْ فاختلفتم فِيها قاله ابن عبّاس ومجاهد ومنه قول القائل في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كان يزكي فكان خير شريك لا يداري ولا يماري. قال الضّحاك: اختصمتم. عبد العزيز بن يحيى: شككتم. الربيع بن أنس: تدافعتم، وأصل الدراء: الدفع يعني ألقى ذلك على هذا وهذا على ذاك فدافع كل واحد عن نفسه كقوله تعالى وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ «1» ، وقوله وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ «2» ، وأصل قوله [..........] «3» والباء صلة. أبو عبيدة: احتملوا وأقروا به، ومنه الدّعاء المأثور [...........] «4» وأصل: فادارأتم فتدارأتم فأدغمت التاء في الدّال وادخلت الألف ليسلم سكون الحرف الأولي بمثل قوله اثَّاقَلْتُمْ «5» . وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ تخفون. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ يعني القتيل. بِبَعْضِها أي ببعض البقرة: فاختلفوا في هذا البعض ما هو؟
[سورة البقرة (2) : الآيات 74 إلى 79]
فقال ابن عبّاس: اضربوه بالعظم الذي يلي الفخذين وهو المقتل. الضحّاك: بلسانها. قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأنّ المراد كان من احياء القتيل كلامه واللسان آلته. سعيد بن جبير: ضربت بذنبها. قال يمان: وهو أولى التأويلات بالصواب لأنّ العصعص أساس البدن الذي ركب عليه الخلق وأنّه أوّل ما يخلق وآخر ما يبلى. مجاهد: بذنبها. عكرمة والكلبي: بفخذها الأيمن. السّدي: بالبضعة التي بين كتفيها، وقيل: باذنها. ففعلوا ذلك فقام القتيل حيّا بإذن الله وأوداجها تشخب دما وقال: قتلني فلان. ثمّ سقط ومات مكانه، وفي الآية اختصار، وتقديرها: فقلنا اضربوه ببعضها فضرب فحيي كقوله تعالى وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ «1» يعني فأفطر فعدة، وقوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ «2» أي فحلق ففدية. كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى كما أحيا عاميل بعد موته كذلك يحيي الله الموتى. وَيُرِيكُمْ آياتِهِ دلائل آياته. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وقال الواقدي: كل شيء في القرآن فهو بمعنى لكي غير التي في الشعراء: وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ «3» فإنه بمعنى: كأنّكم تخلدون فلا تموتون. [سورة البقرة (2) : الآيات 74 الى 79] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ قال الكلبي: قالوا بعد ذلك لم نقتله، وأمكروا فلم يكونوا قط أعمى قلبا ولا أشد تكذيبا لنبيّهم منهم عند ذلك قال الله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ الكلبي وأبو روق: يبست واشتدت وقال سائق البربري: ولا ارى أثرا للذكر في جسدي ... والحبل في الجبل القاسي له أثر أبو عبيدة: جفّت. الواقدي: جفّت من الشّدة فلم تلن. المؤرّخ: غلظت، وقيل: اسودّت. قال الزجاج: تأويل القسوة ذهاب اللّين، [وقال سيبويه] والخشوع والخضوع. ذلِكَ أي بعد ظهور الدلالات. فَهِيَ غلظها وشدتها. كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أي بل أشد قسوة كقول الشاعر: [بدت] مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح «1» أي بل، وقيل: هو بمعنى الواو والألف صلة أي وأشد قسوة. كقوله تعالى آثِماً أَوْ كَفُوراً «2» أيّ وكفورا. وقرأ أبو حياة: أو أشد قساوة، وقال الكسائي: القسوة والقساوة واحد كالشقوة والشّقاوة ثمّ عذر الحجارة وفضلها على القلب القاسي فقال وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وقرأ مالك بن دينار ينفجر بالنون كقوله فَانْفَجَرَتْ «3» ، وفي مصحف أبي: منها الأنهار- ردّ الكناية إلى الحجارة-. وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ أي يتشقق هكذا قرأها الأعمش. فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله. مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عزّ وجلّ وقلوبكم يا معاشر اليهود لا تلين ولا تخشع ولا تأتي بخير. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد وتهديد أي بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به. أَفَتَطْمَعُونَ أي فترجون يعني محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ لن يصدّقكم اليهود. وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ طائفة منهم. يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ يعني التوراة. ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي يغيرونه أي ما فيه من الأحكام. مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ علموه وفهموه كما غيّروا آية الرّجم وصفه محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وَهُمْ يَعْلَمُونَ إنهم كاذبون- هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسّدي. وقال ابن عبّاس ومقاتل: نزلت هذه الآية في السبعين المختارين وذلك إنّهم لما ذهبوا مع موسى إلى الميقات وسمعوا كلام الله وما يأمره وما ينهاه رجعوا إلى قومهم فأمّا الصّادقون فأدّوا كما سمعوه وقالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا فأن شئم فلا تفعلوا ولا بأس. وَإِذا لَقُوا قرأ ابن السّميقع لاقوا: يعني منافقي اليهود. الَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم لا بقلوبهم أبا بكر وأصحابه من المؤمنين. قالُوا آمَنَّا كأيمانكم وشهدنا أنّ محمدا صادق نجده في كتابنا بنعته وصفته. وَإِذا خَلا رجع بعضهم إلى بعض أي كعب بن الأشراف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وغيرهم من رؤساء اليهود ولاموهم على ذلك وقالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قال الكلبي: بما قضى الله عليكم في كتابكم أنّ محمّدا حق وقوله صدق، وقال القاضي الفتاح الكسائي: بما بيّنه لكم في كتابكم [من العلم ببعث محمد والبشارة به] . الواقدي: بما أنزل الله في الدنيا والآخرة عليكم نظير لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» أي أنزلناه. أبو عبيدة والأخفش: بما منّ الله عليكم وأعطاكم. لِيُحَاجُّوكُمْ ليخاصموكم ويحتجوا بقولكم عليكم [يعني أصحاب محمد] . بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ وقال بعضهم: هو أنّ الرجل من المسلمين كلما يلقي قرينه وحليفه وصديقه من اليهود فيسأله عن أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم فيقولون إنّه لحق [فيقولون قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم ثمّ تتبعونه] وهو نبيّ. فيرجعون إلى رؤسائهم فيلومونهم على ذلك. قال السّدي: كان ناس من اليهود آمنوا ثمّ نافقوا وكان يحدثون المؤمنين بما عذبوا به-
فقال لهم رؤسائهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي أنزل من العذاب ليعيروكم به ويقولوا: نحن أكرم على الله منكم. [ابن جرير عن] القاسم بن أبي برة: هذا قول يهود قريظة بعضهم لبعض حين سبّهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فقال: يا إخوان القردة والخنازير وعبدة الطّاغوت، فقالوا: من أخبر محمّدا بهذا؟ ما خرج هذا إلّا منكم. أَفَلا تَعْقِلُونَ أفليس لكم ذهن الإنسانيّة. قال الله أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ما يخفون وما يبدون يعني اليهود، وقرأ ابن محيصن «ما» ! على الخطاب وَمِنْهُمْ من اليهود. أُمِّيُّونَ قال ابن عبّاس وقتادة: يعني غير عارفين معاني الكتاب. يعلمونه حفظا وقراءة بلا فهم ولا يدرون ما فيه. وقال الكلبي: لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته ودليل هذا التأويل قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحاسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» [91] . وقال أهل المعاني: الأمّي منسوب إلى الأمة وما عليه العامة معنى الأمي: العامي الذي لا تمييز له، أو هو جمع أمي منسوب إلى الأم كأنّه باق على [الحقيقة] حذفت منه هاء التأنيث لأنّها زائدة وياء النسبة زائدة، ونقلت فرقا بينها وبين ياء الإضافة. لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ قرأ العامّة بتشديد الياء. وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعرج أَمانِيَ بتخفيف الياء في كلّ القرآن حذفوا إحدى الياءين استحفافا وهي ياء الجمع مثل مفاتح ومفاتيح. وقال أبو حاتم: كل جمع من هذا الجنس واحد مشدّد فلك فيه التّضعيف والتشديد مثل فخاتي وأماني وأغاني وغيرها واختلفوا في معنى الأمانيّ، وقال الكلبي بمعنى لا يعلمون إلّا ما تحدّثهم بهم علماؤهم. أبو روق وأبو عبيدة: تلاوة وقراءة على ظهر القلب ولا يقرءونها في الكتب، يدلّ عليه قوله تعالى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «1» وقرآنه. قال الشاعر: تمنّى كتاب الله أوّل ليلة ... وآخرها لاقى حمام المقادر
مجاهد وقتادة: كذبا وباطلا. الفرّاء: الأماني: الأحاديث المفتعلة. قال بعض العرب لابن [دلب] : أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ وأراد بأماني الأنبياء الّتي كتبها علماؤهم من قبل أنفسهم ثمّ أضافوها إلى الله عزّ وجلّ من تغيير نعت محمّد صلّى الله عليه وسلّم. الحسن وأبو العالية: يعني يتمنّون على الله الباطل والكذب مثل قولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «1» وقولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً «2» ، وقولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «3» . وَإِنْ هُمْ ما هم. إِلَّا يَظُنُّونَ ظنّا ووهما لا حقيقة ويقينا قاله قتادة والرّبيع. وقال مجاهد: [ ... يكذبون] . فَوَيْلٌ روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الويل واد في جهنّم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ إلى قعره» [92] . سعيد بن المسيب: واد في جهنّم لو سرت فيه جبال الدّنيا لماعت من شدّة حرّها. ابن بريدة: جبل من قيح ودم. ابن عبّاس: شدّة العذاب. ابن كيسان: كلمة يقولها كلّ مكروب. الزجّاج: كلمة يستغلّها كل واقع في الهلكة وأصلها العذاب والهلاك. وقيل: هو دعاء الكفّار على أنفسهم بالويل والثّبور. لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا وذلك إنّ أحبار اليهود خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم حين قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة واحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة وكان صفته فيها حسن الوجه، حسن الشعر، أكحل العين، ربعة فغيروها وكتبوا مكانها طويل أزرق، سبط الشعر. فإذا سألهم سفلتهم عن محمّد صلّى الله عليه وسلّم قرءوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالفا لصفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم فيكذبونه قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من تغيير نعت محمّد.
[سورة البقرة (2) : الآيات 80 إلى 84]
وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من المأكول ولفظة الأيدي للتأكيد كقولهم مشيت برجلي ورأيت بعيني. قال الله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1» . قال الشّاعر: نظرت فلم تنظر بعينك منظرا وقال أبو مالك: نزلت هذه الآية في الكاتب الّذي يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان قرأ البقرة وآل عمران، وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يملي: غَفُوراً رَحِيماً، فيكتب: عليما حكيما، فيقول له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب كيف شئت» ويملي عليه: عَلِيماً حَكِيماً، فيكتب: سميعا بصيرا، فيقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اكتب كيف شئت» قال: فارتدّ ذلك الرّجل عن الإسلام ولحق بالمشركين. قال: أما يعلمكم محمّد صلّى الله عليه وسلّم أن كنت لأكتب ما شئت أنا، فمات ذلك الرّجل فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الأرض لا تقبله» [93] . قال: فأخبرني أبو طلحة: إنّه أتى الأرض الّتي بات فيها فوجده منبوذا، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا؟ قالوا: دفنّاه مرارا فلم تقبله الأرض. [سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 84] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) وَقالُوا يعني اليهود. لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قدرا مقدّرا ثمّ يزول عنّا العذاب وينقطع، واختلفوا في هذه الأيّام ما هي. وقال ابن عبّاس ومجاهد: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة واليهود يقولون: مدّة الدّنيا سبعة آلاف سنة وإنّما نعذّب بكل ألف سنة يوما واحدا ثمّ ينقطع العذاب بعد سبعة أيّام، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قتادة وعطاء: يعنون أربعين يوما التي عبد آباؤهم فيها العجل وهي مدّة غيبة موسى عليه السّلام عنهم. الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إنّ ربّنا عتب علينا في أمرنا أقسم ليعذّبنا أربعين ليلة ثمّ يدخلنا الجنّة فلن تمسّنا النار إلّا أربعين يوما تحلّة القسم فقال الله تعالى تكذيبا لهم: قل يا محمّد قُلْ أَتَّخَذْتُمْ ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل. عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً موثقا ألّا يعذّبكم إلّا هذه المدّة. فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ وعده، وقال ابن مسعود: بالتوعّد يدلّ عليه قوله تعالى إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً «1» يعني قال: لا إله إلّا الله مخلصا أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ قال بَلى «بل وبلى» حرفا استدراك ولهما معنيان لنفي الخبر الماضي واثبات الخبر المستقبل، قال الكسائي: الفرق بين (بلى ونعم) ، إنّ بلى: إقرار بعد جحود، ونعم: جواب استفهام بغير جحد، فإذا قال: ألست فعلت كذا، فيقول: بلى، وإذا قال: ألم تفعل كذا؟ فيقول: بلى، وإذا قال: أفعلت كذا؟ فيقول: نعم. قال الله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى «2» وقال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «3» وقال في غير الجحود فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ «4» وقالوا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ «5» قل نعم وإنّما قال هاهنا بلى للجحود الّذي قبله وهو قوله لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً يعني الشرك. وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قرأ أهل المدينة خطيّاته بالجمع، وقرأ الباقون خَطِيئَتُهُ على الواحدة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم والاحاطة الاحفاف بالشيء من جميع نواحيه واختلفوا في معناها هاهنا. وقال ابن عبّاس والضحاك وعطاء وأبو العالية والربيع وابن زيد: هي الشرك يموت الرجل عليه فجعلوا الخطيئة الشّرك. قال بعضهم: هي الذّنوب الكثيرة الموجبة لأهلها النّار.
أبو زرين عن الربيع بن خيثم في قوله تعالى: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال: هو الّذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب ومثله قال عكرمة وقال مقاتل: أصرّ عليها. مجاهد: هي الذّنوب تحيط بالقلب كلّما عمل ذنبا ارتفعت حتّى تغشى القلب وهو الرّين. وعن سلام بن مسكين أنّه سأل رجل الحسن عن هذه الآية؟ فقال السّائل: يا سبحان الله إلّا أراك ذا لحية وما تدري ما محاطة الخطيئة! انظر في المصحف فكل آية نهى الله عزّ وجلّ عنها وأخبرك إنّه من عمل بها أدخله النّار فهي الخطئية المحيطة. الكلبي: أوبقته ذنوبه دليله قوله تعالى إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «1» : أي تهلكوا جميعا. وعن ابن عبّاس: أحيطت بما له من حسنة فأحبطته. فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [وهذا من العام المخصوص بصور منها إلّا من تاب بعد أن حمل على ظاهره] «2» وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ في التّوراة. قال ابن عبّاس: الميثاق: العهد الجديد. لا تَعْبُدُونَ بالياء قرأه ابن كثير وحميد وحمزة والكسائي. الباقون: بالتّاء وهو إختيار أبي عبيد وأبو حاتم. قال أبو عمرو: ألا تراه يقول وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «3» فذلك المخاطبة على التّاء. قال الكسائي: إنّما ارتفع لا يعبدون لأنّ معناه أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا إلّا الله فلمّا ألقى أن رفع الفعل ومثله قوله لا تَسْفِكُونَ، نظير قوله عزّ وجلّ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ «4» : يريد أن أعبد فلمّا حذفت النّاصبة عاد الفعل إلى المضارعة. وقال طرفة: ألا أيّهذا الزاجري احضر الوغى ... وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي «5» يريد أن أحضر، فلمّا نزع (أن) رفعه.
وقرأ أبي بن كعب: لا تعبدوا جزما على النهي أي وقلنا لهم لا تعبدوا الّا الله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ووصّيناهم بالوالدين إحسانا برّا بهما وعطفا عليهما. وانّما قال بِالْوالِدَيْنِ وأحدهما والدة لأنّ المذكّر والمؤنّث إذا اقتربا غلب المذكّر لخفّته وقوّته. وَذِي الْقُرْبى أي وبذي القرابة، والقربى مصدر على وزن فعلى كالحسنى والشّعرى. قال طرفة: وقربت بالقربى وجدك له يني ... فتحايك امر للنكيثة أشهد. وَالْيَتامى جمع يتيم مثل ندامى ونديم وهو الطفل الذي لا أبّ له. وَالْمَساكِينِ يعني الفقراء. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً اختلفت القراءة فيه فقرأ زيد بن ثابت وأبو العالية وعاصم وأبو عمرو حُسْناً بضم الحاء وجزم السّين وهو اختيار أبي حاتم دليله قوله عزّ وجلّ: بِوالِدَيْهِ حُسْناً «1» وقوله تعالى: ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً «2» . وقرأ ابن مسعود وخلف حَسَناً بفتح الحاء والسّين وهو اختيار أبي عبيد وقوله: إنّما اخترناها لأنها نعت بمعنى قولا حسنا. وقرأ ابن عمر: حُسُناً بضم الحاء والسّين والتنوين مثل الرّعب والنّصب والسّحت والسحق ونحوها. وقرأ عاصم والجحدري: إحسانا بالألف. وقرأ أبي بن كعب وطلحة بن مصرف: حسنى وقرنت بالقربى بالتأنيث مرسلة. قال الثعلبي: سمعت القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول: مجازه كلمة حسنى ومعناه قولوا للنّاس صدقا وحقّا في شأن محمّد صلّى الله عليه وسلّم فمن سألكم عنه فأصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره ولا تغيروا نعته هذا قول ابن عبّاس وابن جبير وابن جريج ومقاتل دليله قوله أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً «3» أي صدقا. وقال محمّد بن الحنفية: هذه الآية تشمل البرّ والفاجر. وقال سفيان الثّوري: ائمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.
[سورة البقرة (2) : الآيات 85 إلى 86]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن العهد والميثاق إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ نصب على الاستثناء. وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ وذلك أن قوما منهم آمنوا. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ لا تريقون دِماءَكُمْ وقرأ طلحة بن مصرف تُسْفِكُونَ بضم الفاء وهما لغتان مثل يَعْرِشُونَ ويَعْكُفُونَ. وقرأ أبو مجلز: تُسَفِّكُونَ بالتشديد على التكثير. وقال ابن عبّاس وقتادة: معناه لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق وإنّما قال (دِماءَكُمْ) لمعنيين: أحدهما إن كلّ قوم اجتمعوا على دين واحد فهم كنفس واحدة. والآخر: هو أنّ الرجل إذا قتل غيره كأنّما قتل نفسه لأنّه يقاد ويقتصّ منه وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره [ولا تسبوا من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج بسوء جواركم] «1» . ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بهذا العهد إنّه حقّ. وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ اليوم على ذلك يا معشر اليهود. [سورة البقرة (2) : الآيات 85 الى 86] ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ يعني يا هؤلاء فحذف النّداء للاستغناء بدلالة الكلام عليه كقوله: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا «2» فهؤلاء للتنبيه ومبني على الكسرة مثل أنتم تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ قراءة العامّة بالتخفيف من القتل. وقرأ الحسن: تُقَتِّلُونَ بالتثقيل من التقتيل. وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ قراءة العامّة وهم أهل الحجاز والشّام وأبو عمرو ويعقوب: تَظَّاهَرُونَ بتشديد الظاء، واختاره أبو حاتم ومعناه تتظاهرون فأدغم التّاء في الظاء مثل: اثَّاقَلْتُمْ وادَّارَكُوا.
وقرأ عاصم والأعمش وحمزة وطلحة والحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء والكسائي: تَظاهَرُونَ بتخفيف الظاء، واختاره أبو عبيد ووجه هذه القراءة: إنّهم حذفوا تاء الفاعل وأبقوا تاء الخطاب كقوله وَلا تَعاوَنُوا «1» وقوله ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ «2» . وقال الشّاعر: تعاطسون جميعا حول داركم ... فكلّكم يا بني حمّان مزكوم. وقرأ أبي ومجاهد: تظهّرون مشددا بغير ألف أي تتظهّرون [.....] «3» جميعا تعاونون، والظهر: العون سمّي بذلك لإسناد ظهره إلى ظهر صاحبه. وقال الشّاعر: تكثر من الاخوان ما اسطعت ... [.....] «4» إذا استنجدتهم فظهير وما بكثير ألف خل وصاحب ... وانّ عدوّا واحدا لكثير بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ بالمعصية والظلم. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ قرأ عبد الرحمن السّلمي ومجاهد وابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل والجحدري وأبو عمرو وابن عامر: (أسارى تفدوهم) بغير ألف، وقرأ الحسن: (أسرى) بغير ألف (تُفادُوهُمْ) بالألف، وقرأ النخعي وطلحة والأعمش ويحيى بن رئاب وحمزة وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق: (أسرى تفدوهم) كلاهما بغير ألف وهي إختيار أبي عبيدة. وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم وقتادة والكسائي ويعقوب: (أُسارى تُفادُوهُمْ) كلاهما بالألف، واختاره أبو حاتم. فالأسرى: جمع أسير مثل جريح وجرحى، ومريض ومرضى، وصريع وصرعى، والأسارى: جمع أسير أيضا مثل كسالى وسكارى، ويجوز أن يكون جمع أسرى نحو قولك: امرأة سكرى ونساء سكارى، ولم يفرق بينهما أحد من العلماء الأثبات إلّا أبو عمرو. روى أبو هشام عن جبير الجعفي عن أبي عمرو قال: ما أسر فهو أسارى وما لم يؤسر فهو أسرى، وروي عنه من وجه آخر قال: ما صار في أيديهم فهم أسارى، وما جاء مستأسرا فهو أسرى. عن أبي بكر النقاش قال: سمعت أحمد بن يحيى ثعلب وقد قيل له هذا الكلام عن أبي عمرو فقال: هذا كلام المجانين. يعني لا فرق بينهما.
وحكي عن أبي سعيد الضرير إنّه قال: الأسارى: هم المقيّدون المشدّدون والأسرى: هم المأسورون غير المقيدين. فأما قولهم تفدوهم بالمال وتنقذوهم بفدية أو بشيء آخر، وتُفادُوهُمْ: تبادلوهم أراد مفاداة الأسير بالأسير، وأسرى: في محل نصب على الحال. فأما معنى الآية- قال السّدي: إنّ الله عزّ وجلّ أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا، ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم فأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فأعتقوه. فكانت قريظة خلفاء الأوس، والنّضير خلفاء الخزرج وكانوا يقتتلون في حرب نمير. فيقاتل بنو قريظة مع حلفائهم، وبنو النّضير مع حلفائهم، وإذا غلبوا خرّبوا ديارهم وأخرجوهم منها فإذا أسر رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتّى يفدوه وإن كان الأسير من عدوهم فيعيّرهم العرب بذلك وتقول: كيف يقاتلونهم ويفدونهم..! ويقولن: إنّا قد أمرنا أن نفديهم وحرّم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: نستحي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين عيّرهم الله تعالى فقال: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ الآية، وفي الآية تقديم وتأخير نظمها: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ... وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ ... وأن يأتوكم أسارى تفدوهم. وكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم وفداء أسرائهم. فأعرضوا عن كل ما أمروا إلّا الفداء. فقال الله عزّ وجلّ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فأيمانهم بالفداء وكفرهم بالقتل والإخراج والمظاهرة. قال مجاهد: يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك، وقيل: معناه يستعملون البعض ويتركون البعض، تفادون أسراء قبيلتكم وتتركون أسراء أهل ملّتكم فلا تفادونهم. قال الله عزّ وجلّ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ يا معشر اليهود إِلَّا خِزْيٌ عذاب هوان. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فكان خزي قريظة القتل والسّبي، وخزي بني النضير الجلاء والنفي عن منازلهم وجنانهم إلى أذرعات وريحا من الشّام. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وهو عذاب النّار وقرأ أبو عبد الرحمن السّلمي وأبو رجاء والحسن: تردّون بالتاء، لقوله أَفَتُؤْمِنُونَ. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بالتاء مدني وأبو بكر ويعقوب الباقون: بالتاء. أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا استبدلوا.
[سورة البقرة (2) : الآيات 87 إلى 90]
الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ يهوّن ويرفّه. عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب الله. [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 90] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَلَقَدْ آتَيْنا أعطينا. مُوسَى الْكِتابَ التوراة جملة واحدة. وَقَفَّيْنا أردفنا واتبعنا. مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ رسولا بعد رسول. يقال: مضى أثره وقفا غيره في التعدية وهو مأخوذ من قفا الإنسان قال الله وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «1» ، وقال أمية بن الصّلت: قالت لأخت له قصيه عن جنب ... وكيف تقفو ولا سهل ولا جدد وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ العلامات الواضحات والدلالات اللائحات وهي التي ذكرها الله عزّ وجلّ في سورة آل عمران والمائدة. وَأَيَّدْناهُ قويناه وأعناه من الآد والأيد «2» ، مجاهد: أيدناه بالمد وهما لغتان مثل كرّم وأكرم. بِرُوحِ الْقُدُسِ خفف ابن كثير الْقُدْسِ في كل القرآن، وثقله الآخرون، وهما لغتان مثل الرّعب والسّحت ونحوهما، واختلفوا في روح القدس فقال الربيع وعكرمة: هو الرّوح الذي نفخ فيه إضافة إلى نفسه تكريما وتخصيصا نحو بيت الله، وناقَةُ اللَّهِ وعَبْدُ اللَّهِ، والقدس: هو الله عزّ وجلّ يدلّ عليه قوله تعالى وَرُوحٌ مِنْهُ «3» وقوله فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا والآخرون: أرادوا بالقدس الطهارة يعني الرّوح الطاهر سمّى روحه قدسا لأنّه لم يتضمنه
أصلاب الفحولة ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث إنّما كان أمرا من الله تعالى. السّدي والضّحاك وقتادة وكعب: الروح القدس: جبرئيل قال الحسن: القدس: هو الله وروحه جبرئيل. السّدي: القدس: البركة وقد عظّم الله بركة جبرئيل إذ أنزل الله عامة وحيه إلى أنبيائه على لسانه وتأييد عيسى عليه السّلام بجبرئيل هو إنّه كان قرينه يسير معه حيثما شاء والآخر إنّه صعد به إلى السّماء، ودليل هذا التأويل قوله تعالى قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ «1» . وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير وعبيد بن عمير: هو اسم الله الأعظم وبه كان يحيي الموتى ويري النّاس تلك العجائب. وقال ابن زيد: هو الإنجيل جعل له روحا كما جعل القرآن لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم روحا، يدلّ عليه قوله تعالى وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «2» فلمّا سمعت اليهود بذكر عيسى عليه السّلام قالوا: يا محمّد لا مثل عيسى كما زعمت ولا كما يقصّ علينا من الأنبياء (عليهم السلام) قالوا: فأتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا. فأنزل الله عزّ وجلّ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى لا تحب ولا توافق. أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ تكبّرتم وتعظمتم عن الأيمان به. فَفَرِيقاً طائفة سمّيت بذلك لأنّها فرقت من الحملة. كَذَّبْتُمْ عيسى ومحمّدا. فَرِيقاً تَقْتُلُونَ أيّ قتلتم زكريا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء. وَقالُوا يعني اليهود قُلُوبُنا غُلْفٌ قرأ ابن محيصن بضم اللام، وقرأ الباقون بجزمه. فمن خففه فهو جمع الأغلف مثل أصفر وصفر- وأحمر وحمر وهو الذي عليه غطاء وغشاء بمنزلة الأغلف غير المختون فالأغلف والأعلف واحد ومعناه عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمّد. قاله مجاهد وقتادة نظيره قوله عزّ وجلّ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ «3» ، ومن ثقّل فهو جمع غلاف مثل حجاب وحجب وكتاب وكتب، ومعناه: قلوبنا أوعية لكلّ علم فلا نحتاج إلى علمك وكتابك. قاله عطاء وابن عبّاس.
وقال الكلبي: يريدون أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثا إلّا وعته إلّا حديثك لا تفقهه ولا تعيه ولو كان فيه خيرا لفهمته ووعته. قال الله عزّ وجلّ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وأصل اللعن الطرد والأبعاد تقول العرب [نماء] ولعين أي بعد. قال الشّماخ: ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذنب كالرّجل اللعين «1» فمعنى قوله: لعنهم الله طردهم وأبعدهم من كل خير، وقال النضر بن شميل: الملعون المخزي المهلك. فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ معناه لا يؤمن منهم إلّا قليلا لأنّ من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود، قاله قتادة، وعلى هذا القول ما: صلة معناه فقليلا يؤمنون، ونصب قليلا على الحال. وقال معمر: معناه لا يؤمنون إلّا بقليل بما في أيديهم ويكفرون بأكثره، وعلى هذا القول يكون فَقَلِيلًا منصوبا بنزع حرف الصّفة وما صلة أيّ فبقليل يؤمنون. وقال الواقدي وغيره: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، وهذا كقول الرّجل لآخر: ما قل ما تفعل وكذا يريد لا تفعله البتة. وروى الفراء عن الكسائي: مررنا بأرض قلّ ما ينبت الكراث والبصل يريدون لا ينبت شيئا. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني القرآن. مُصَدِّقٌ موافق لِما مَعَهُمْ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة مصدقا بالنّصب على الحال. وَكانُوا يعني اليهود مِنْ قَبْلُ أي من قبل بعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَفْتِحُونَ يستنصرون، قال الله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «2» أيّ أن تستنصروا فقد جاءكم النّصر. وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم [أنه] كان يستفتح القتال بصعاليك المهاجرين. عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مشركي العرب وذلك إنّهم كانوا يقولون إذا حزم أمر ودهمهم عدو: «اللهمّ انصرنا عليهم بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة» [94] «3» ، وكانوا يقولون زمانا لاعدائهم من المشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا، ونقتلكم معه قبل عاد وأرم.
[سورة البقرة (2) : الآيات 91 إلى 93]
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا يعني محمّدا صلّى الله عليه وسلّم من غير بني إسرائيل، وعرفوا نعته وصفته. كَفَرُوا بِهِ بغيا وحسدا. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ بئس ونعم فعلان ماضيان وضعا للمدح والذم لا يتصرفان تصرف الأفعال ومعنى الآية: بئس الذي اختاروا لأنفسهم حين استبدلوا الباطل بالحق، والكفر بالأيمان. وقيل: معناه بئس ما باعوا به حظ أنفسهم. أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني القرآن. بَغْياً بالبغي وأصل البغي الفساد. يقال: بغى الجرح إذا أمد وضمد. أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ النبوة والكتاب. عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أي مع غضب. قال ابن عبّاس: الغضب الأوّل بتضييعهم التوراة، والغضب الثاني بكفرهم بهذا النبيّ الذي اتخذه الله تعالى. فيهم قتادة وأبو العالية: الغضب الأوّل- بكفرهم بعيسى عليه السّلام والإنجيل- والثاني: كفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. السّدي: الغضب الأوّل بعبادتهم العجل، والثاني بكفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم وتبديل نعته. وَلِلْكافِرِينَ وللجاحدين [لدين] محمّد صلّى الله عليه وسلّم من النّاس كلهم. عَذابٌ مُهِينٌ يهانون فلا يعزون. [سورة البقرة (2) : الآيات 91 الى 93] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني القرآن.
قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني التوراة. وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ أي بما سواه وبعده. وَهُوَ الْحَقُّ يعني القرآن. مُصَدِّقاً نصب على الحال. لِما مَعَهُمْ قُلْ لهم يا محمّد: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ ولم أصله ولما فحذفت الألف فرقا بين الخبر والاستفهام كقولهم: فيم وبم ولم وممّ وعلام وحتام، وهذا جواب لقولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا. فقال الله عزّ وجلّ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالتوراة وقد خنتم فيها من قتل الأنبياء وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ بالدلالات اللائحات- والعلامات الواضحات. ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد انطلاقه إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا أي استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة سمعا على المجاز لأنّه سبب الطّاعة والإجابة ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده أي أجابه، وقال الشاعر: دعوت الله حتّى خفت ألّا ... يكون الله يسمع ما أقول أي يجب. قالُوا سَمِعْنا قولك. وَعَصَيْنا أمرك [أو سمعنا بالآذان وعصينا بالقلوب] «1» . قال أهل المعاني: إنّهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، ولكن لما سمعوا الأمر وتلقوه بالعصيان نسب ذلك عنهم إلى القول أتساعا، كقول الشاعر ومنهل ذبّابة في عيطل ... يقلن للرائد عشبت أنزل وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أي حبّ العجل، كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» ، وقال النابغة: فكيف يواصل من أصبحت ... خلالة كأني مرحب أي لخلاله أني مرحب، ومعناه أدخل في قلوبهم حبّ العجل، وخالطها ذلك كاشراب اللون لشدة الملازمة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 94 إلى 99]
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أن تعبدوا العجل من دون الله [فالله لا يأمر بعبادة العجل] «1» . إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بزعمكم وذلك إنّهم قالوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، فكذبهم الله تعالى. [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 99] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ الآية قال المفسّرون: سبب نزول هذه الآية: إنّ اليهود أدعوا دعاوى باطلة، حكاها الله تعالى عنهم في كتابه كقوله تعالى وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «2» . وقوله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «3» . وقوله: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «4» فكذبهم الله تعالى، وألزمهم الحجة. فقال: قُلْ يا محمّد إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ خاصّة لقوله تعالى خالِصَةٌ لِذُكُورِنا «5» ، قوله خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ «6» ، قوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «7» أي خاصّة من دون النّاس. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي فأريدوا وحلّوه لأنّ من علم أنّ الجنّة مآبه حنّ إليها ولا سبيل إلى دخولها إلّا بعد الموت فاستعجلوه بالتمني. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم محقين في دعواكم، وقيل في قوله تعالى فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أيّ أدعوا بالموت على الفرقة الكاذبة. روى ابن عبّاس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو تمنّوا الموت لغصّ كل إنسان منهم بريقه، وما بقي
على وجه الأرض يهودي إلّا مات» [95] . فقال الله تعالى وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لعلمهم إنّهم في دعواهم كاذبون. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ يعني اليهود. هذا من أعجاز القرآن لأنّه تحداهم ثمّ أخبر أنّهم لا يفعلون بعد أن قال لهم هذه المقالة فكان على ما أخبر. وَلَتَجِدَنَّهُمْ اللام لام القسم والنون تأكيد القسم تقديره: والله لتجدنهم يا محمد يعني اليهود أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وفي مصحف أبيّ على الحياة. وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل إنّه متصل بالكلام الأوّل. معناه وأحرص من الذين أشركوا. قال الفراء: وهذا كما يقال هو أسخى النّاس ومن حاتم: أي وأسخى من حاتم. وقيل: هو ابتداء وتمام الكلام عند قوله: على حياتهم ابتدأ بواو الاستئناف وأضمر (ليودّ) اسما تقديره: ومن الذين أشركوا من يَوَدُّ أَحَدُهُمْ كقول ذو الرّمة. فظلوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يذري دمعة العين بالهمل أراد ومنهم من دمعه سابق، وأراد ب الَّذِينَ أَشْرَكُوا المجوس. يَوَدُّ يريد ويتمنى. أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ تقديره تعمير ألف. أَلْفَ سَنَةٍ قال المفسّرون: هو تحيّة المجوس فيما بينهم عشر ألف سنة وكلمة ألف نيروز ومهرجان. قال الله تعالى: وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ من النّار. أَنْ يُعَمَّرَ أي تعميره: زحزحته فزحزح: أي بعدّته فتباعد يكون لازما ومتعديا. قال ذو الرّمة في المتعدي: يا قابض الرّوح من نفسي إذا احتضرت ... وغافر الذّنب زحزحني عن النّار «1» وقال الراجز، في اللازم: خليلي ما بال الدجى لا يزحزح وما بال ضوء الصبح لا يتّوضح. قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ الآية. قال ابن عبّاس: إن حبرا من أحبار اليهود يقال له عبد الله بن صوريا كان قد حاج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسأله عن أشياء. فلما اتجهت الحجّة عليه قال: أيّ ملك يأتيك من السّماء؟ قال: «جبرئيل ولم يبعث الكتاب لأنبياء قط إلّا وهو وليه» [96] . قال: ذلك عدونا من
الملائكة ولو كان ميكائيل مكانه لآمنّا بك لأنّ جبرئيل ينزل بالعذاب والقتال والشقوة وإنّه عادانا مرارا كثيرة، وكان أشد ذلك علينا أنّ الله تعالى أنزله على نبينا عليه السّلام إنّ بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له: بخت نصّر، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل في طلب بخت نصّر ليقتله فانطلق يطلبه حتّى لقيه ببابل غلاما مسكينا ليست له قوة. فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبرئيل عليه السّلام وقال لصاحبنا: إنّ كان ربكم هو الذي أذن في هلاككم فلن تسلّط عليه، وإن لم يكن هذا فعلى أي حق تقتله. فصدقه صاحبنا ورجع عليه السّلام: فكبر بخت نصّر وقوي وغزانا وخرّب بيت المقدّس فلهذا نتخذه عدوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال مقاتل: قالت اليهود ان جبرئيل عدونا أمرنا أن تجعل النبوّة فينا فجعلها في غيرنا فأنزل الله تعالى هذه الآية. قتادة وعكرمة والسّدي: فكان لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أرض بأعلى المدينة وممرها على مدارس اليهود، وكان عمر إذا أتى أرضه يأتيهم ويسمع منهم ويكلمهم. فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمّد أحب إلينا منك. إنّهم يمرّون هنا فيأذونا وأنت لا تؤذينا وأنّا لنطمع فيك فقال عمر: والله ما أحبكم لحبكم، ولا أسألكم لأنّي شاك في ديني، وإنّما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأرى آثاره في كتابكم. فقالوا: من نصّب محمّد من الملائكة؟ قال: جبريل. فقالوا: ذلك عدوّنا يطلع محمّد على سرنا، وهو صاحب عذاب وخسف وسنة وشدة، وإنّ ميكائيل جاء بالخصب والسّلم. فقال لهم عمر: أتعرفون جبرئيل وتنكرون محمّدا..! قالوا: نعم. قال: فاخبروني عن منزلة جبرئيل وميكائيل من الله عزّ وجلّ؟ قالوا: جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدّو لجبرئيل فقال عمر: وإنّي أشهد أنّ من كان عدوّا لجبرئيل فهو عدوّا لميكائيل ومن كان عدوا لميكائيل فهو عدوّ لجبرئيل، ومن كان عدوا لهما فإنّ الله عدوّ له، ثمّ رجع عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد جبرئيل قد سبقه بالوحي فقرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية وقال: «لقد وافقك ربّك يا عمر» فقال عمر: لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر. قال الله تعالى تصديقا لعمر (رضي الله عنه) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ وفي جبرئيل سبع لغات: (جبرئيل) مهموز، مشبع مفتوح الجيم والراء، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر وخلف واختيار أبي عبيد، وقال: رأيت في مصحف عثمان الذي يقال له: الإمام بالياء في جبريل وميكايل [والياء قبل] الياء تدلّ على الهمزة، وقال الشاعر: شهدنا فما يلقى لنا من كتيبة ... مدى الدّهر إلّا جبرئيل امامها
(وجبرائيل) ممدود، مهموز، مشبع، على وزن جبراعيل، وهي قراءة ابن عبّاس وعلقمة وابن وثاب. (وجبرائل) ممدود، مهموز، مختلس على وزن جبراعل وهي قراءة طلحة بن مصرف. (وجبرئل) مهموز، مقصور مختلس على وزن جبرعل، وهي قراءة يحيى بن آدم. (وجبرالّ) مهموز، مقصور، مشدّد اللام من غير ياء، وهي قراءة يحيى بن يعمر، وعيسى ابن عمر، والأعمش. (وجَبريل) بفتح الجيم وكسر الرّاء من غير همز، وهي قراءة ابن كثير وأنشد لحسان: وجبريل أمين الله فينا ... وروح القدس ليس به خفاء (وجِبْرِيلَ) بكسر الجيم والراء من غير همزة وهي قراءة علي، وأبي عبد الرّحمن، وأبي رجاء، وأبي العالية، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومعظم أهل البصرة والمدينة، واختيار أبي حاتم، وقد روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك. وعن شبل عن عبد الله بن كثير قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقرأ جِبْرِيلَ بكسر الجيم والراء من غير همز. فلا أقرأها إلّا هكذا. قال الثعلبي: والصّحيح المشهور عن كثير ما تقدّم والله أعلم. أما التفسير فقال العلماء: جبر هو العبد بالسريانية وأيل هو الله عزّ وجلّ يدلّ عليه ما روى إسماعيل عن رجاء عن معاوية برفعه قال: إنّما جبرئيل وميكائيل كقولك عبد الله وعبد الرّحمن، وقيل جبرئيل مأخوذ من جبروت الله، وميكائيل من ملكوت الله. فَإِنَّهُ يعني جبرئيل. نَزَّلَهُ يعني القرآن كتابه عن غير مذكور كقوله وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ «1» يعني الأرض، وقوله حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «2» يعني الشمس. عَلى قَلْبِكَ يا محمد بِإِذْنِ اللَّهِ بأمر الله. مُصَدِّقاً موافقا. لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما قبله من الكتب. وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ أخرجهما بالذّكر من جملة الملائكة ومواضعهم على جهة التفضيل والتخصيص، كقوله تعالى فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «3» وميكائيل أربع لغات:
[سورة البقرة (2) : الآيات 100 إلى 103]
ممدود، مهموز، مشبع على وزن ميكاعيل، وهي قراءة أهل مكّة والكوفة والشّام. وَمِيكالَ ممدود، مهموز مختلس مثل ميكاعل، وهي قراءة أهل المدينة. و (ميكيل) مهموز مقصور على وزن ميكعل، وهي قراءة الأعمش وابن محيصن. (ومِيْكال) على وزن مفعال وهي قراءة أهل البصرة. قال الشاعر: ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النّصر جبريل وميكال وقال جرير: عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد ... وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا «1» ومعنى الآية من كان عدوا لأحد هؤلاء فإن الله عدو له والواو فيه بمعنى أو. كقوله تعالى وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ الآية لأن الكافر بالواحد كافر بالكل. فقال ابن صوريا: يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك بها. فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات مفصلات بالحلال والحرام والحدود والأحكام. وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ الحادون عن أمر الله. [سورة البقرة (2) : الآيات 100 الى 103] أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) أَوَكُلَّما واو العطف دخلت عليها ألف الاستفهام. كما يدخل على الفاء في قوله أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ «2» أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ «3» وعلى ثمّ كقوله تعالى أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ «4» ونحوها.
وقرأ ابن السّماك العدوي: ساكنة الواو على النسق و (كُلَّما) نصب على الظرف. عاهَدُوا عَهْداً يعني اليهود. قال ابن عبّاس: لما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أخذ الله عليهم وما عهد إليهم فيه. قال مالك بن الصّيف: إنّ الله ما عهد إلينا في محمد عهد ولا ميثاق فأنزل الله تعالى هذه الآية يوضحه قراءة أبي رجاء العطاردي: أوكلما عوهدوا عهدا لعنهم الله، دليل هذا التأويل قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «1» الآية. وقال بعضهم: هو أنّ اليهود تعاهدوا لئن خرج محمّد ليؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب، وننفيهم من بلادهم، فلما بعث نقضوا العهد وكفروا به دليله ونظيره قوله عزّ وجلّ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «2» . وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنّضير دليله قوله الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ «3» . نَبَذَهُ أي رفضه وفي قول عبد الله: نقضه. فَرِيقٌ مِنْهُمْ طوائف من اليهود. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فأصل النبذ الرّمي والرفض له، وأنشد الزجاج: نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا وهذا مثل من يستخف بالشيء ولا يعمل به، تقول العرب: أجعل هذا خلف ظهرك، ودبر اذنك، وتحت قدمك: أي أتركه واعرض عنه قال الله تعالى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «4» ، وأنشد الفراء: تميم بن قيس لا تكونن حاجتي ... بظهر ولا يعبأ عليّ جوابها قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه ولكن نبذوا العمل به: وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير والدّيباج وحلّوه بالذّهب والفضّة ولم يحلّوا حلاله ولم يحرّموا حرامه فذلك النبذ. وَاتَّبَعُوا يعني اليهود.
ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي ما تلت الشياطين. كقول الشّاعر: فإذا مررت بقبره فأعقر به ... كؤم الحجان وكلّ طرف سالح وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد بكوه أخادم وذبائح وحكي عن الحسين بن الفضل إنّه سئل عن هذه الآية فقال: هو مختصر مضمر تقديره واتبعوا ما كانت تتلوا الشياطين أي تقرأه. قال ابن عبّاس: يتبع ويعمل به. عطاء وأبو عبيدة: يحدّث ويتكلّم به. يمان: ترويه. وقرأ الحسن: الشياطون بالواو في موضع الرفع في كل القرآن. قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد الخارزنجي يقول: وسئل عن قراءة الحسن؟ قال: هو فن وحسن عند أكثر أهل الأدب. غير أن الأصمعي زعم إنّه سمع أعرابيا يقول: بستان فلان حوله بساتون. عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي في ملكه وعهده كقول أبي النّجم: فهي على الأفق كعين الأحول أي في الأفق. والملك تمام القدرة واستحكامها. قال [ ... الزجاج] «1» : في قصّة الآية هي أنّ الشياطين كتبوا السّحر والنيرنجات على لسان آصف. هذا ما علّم آصف ابن برخيا سليمان الملك ثمّ وضعوها تحت مصلاه حين نزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان فلمّا مات استخرجوها من تحت مصلّاه. وقالوا النّاس: إنّما ملككم سليمان بهذا فتعلّموه فأمّا علماء بني إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان وإنّ كان هذا علمه لقد هلك سليمان. وأمّا السفلة فقالوا: هذا علم سليمان فأقبلوا على تعلّمه ورفضوا كتب أنبياءهم وفشت الملامة لسليمان فلم تزل هذه حالهم حتّى بعث الله تعالى محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وأنزل عذر سليمان عليه السّلام
على لسانه وأظهر براءته عمّا رمي به فقالوا: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ الآية. هذا قول الكعبي. وقال السّدي: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد السّمع فيستمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا كذبا وزورا في كلّ سبعين كلمة سبعين كلمة ويخبرونهم بذلك فاكتتب الناس ذلك وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث في النّاس فجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنها تحت كرسيّه وقال: لا أسمع أحدا يقول إنّ الشياطين تعلم الغيب إلّا ضربت عنقه فلمّا مات سليمان وذهب العلماء الّذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثّل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفرا من بني إسرائيل فقال: هل أدلّكم على كنز لا ينفذ أبدا. قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان وقام ناحية وقالوا: أدن. فقال: لا ولكن هاهنا فان لم تجدوه فاقتلوني وذلك إنّهم لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلّا احترق فحفروا فوجدوا تلك الكتب فلمّا أخرجوها. قال الشيطان: إنّ سليمان كان يضبط الجنّ والأنس والطّير بهذا ثمّ طار الشيطان وذهب وفشا في النّاس أنّ سليمان كان ساحرا فاتّخذ بنو إسرائيل تلك الكتب ولذلك فكثير ما يوجد السحر في اليهود فلمّا جاء محمّد صلّى الله عليه وسلّم خاصمه اليهود بها فبرأ الله تعالى سليمان من ذلك وأنزل هذه الآية «1» . وقال عكرمة: كان سليمان عليه السّلام لا يصبح يوما إلّا نبتت في محرابه في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا، فيقول: لأيّ داء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع وترفع في الخزانة وتغرس منها في البساتين حتّى بعثت الخرنوبة الشّامية فقال لها: ما أنت؟ قالت أنا الخرنوبة. قال: لأي شيء نبتّ؟ قالت: لخراب مسجدك. قال سليمان: ما كان الله ليخرّبه وأنا حي أنت الّذي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها فغرسها في حائط له فلم تنبت إلى أن توفّي فجعل النّاس يقولون في رضاهم: لو كان لنا مثل سليمان، وكتبت الشياطين كتابا فجعلوه في مصلّى سليمان. فقالوا للنّاس: من يدلّكم على ما كان يداوي به فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب فإذا فيه سحر ورقيّ فأنزل الله في هذه الآية ما تفعل الشياطين واليهود على نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ بالسحر فانّ السحر كفر.
وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا قرأ أهل الكوفة والشام بتخفيف النون ورفع الشياطين وكذلك في الأيمان وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ «1» وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «2» . الباقون: بالتشديد ونصب ما بعده، ولكن كلمة لها معنيان نفي الخبر الماضي واثبات الخبر المستقبل، وهي مبنية من ثلاث كلمات أصلها لا كان لا نفي والكاف خطاب وإنّ نصب ونسق فذهبت الهمزة استثقالا وهي تثقّل وتخفف فإذا ثقلت نصب بها ما بعدها من الأسماء كما تنصب بإن الثقيلة فإذا خففها رفعت بها ما ترفع بأن الخفيفة. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ قال بعضهم: السحر العلم والخطابة دليله قوله: بان السّاحر: أي العالم. وقال بعضهم: هو التمويه بالشيء حتّى يتوهم المتوّهم إنّه شيء ولا حقيقة له كالسراب غير من رآه وأخلف من رجاه قال الله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «3» . وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ محل ما بعد اتباع التعليم عليه معناه لا يعلمون الذي أنزل على الملكين أي [......] «4» ويجوز أن يكون نصبا بالاتباع تقديره: واتبعوا ما أنزل على الملكين، وجعل بعضهم ما جحدا وحينئذ لا محل له يعني لم ينزل السّحر على الملكين كما زعم اليهود، وإنّما يعلّمونهم [..... من ذات] «5» أنفسهم والقول الأوّل أصح. وقرأ ابن عبّاس والحسن والضحّاك ويحيى بن أبي كثير: ملكين بكسر اللام، وقالوا: هما رجلان ساحران كانا ببابل من الملائكة لا يعلمون النّاس السحر، وفسرهما الحسن فقال: علجان ببابل وهي بابل عراق وسمّي بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها. أو ان الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقي بتعلم السحر منهما فيكفر به ومن سعد بتركه فيبقى على الإيمان فيزداد المعلمان بالتعليم عذابا ففيه ابتلاء المعلم والمتعلّم والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء كما يشاء فله الأمر والحكم. وقال الخليل بن أحمد: إنّما سمّيت بابل لأنّ الله تعالى حين أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحفرتهم من كل أفق إلى بابل فبلبل الله ألسنتهم فلم يدري أحد ما يقول الآخر، ثمّ فرقتهم تلك الرّيح في البلاد وهو لا ينصرف لأنّه اسم موضع معروف. هارُوتَ وَمارُوتَ اسمان سريانيان في محل الخفض على تفسير الملكين بدلا منهما إلّا أنّهما نصبا لعجمتهما ومعرفتهما وكانت قصتيهما على ما ذكره ابن عبّاس والمفسرون: إنّ
الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة وذنوبهم الكثيرة وذلك في زمن إدريس فعيروهم بذلك، ودعت عليهم قالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض واخترتهم فهم يعصونك. فقال الله عزّ وجلّ لهم: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لارتكبتم ما ارتكبوه. فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنّا أن نعصيك. قال الله تعالى: اختاروا ملكين من خياركم ثمّ اهبطوهما إلى الأرض. فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأخصهم. قال الكلبي: قال الله تعالى لهم: اختاروا ثلاثة: عزّا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت. غيّر اسمهما لما قارفا الذنب كما غير اسم إبليس وعزائيل فركب الله فيهم الشهوة التي ركبها في بني آدم. فاهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين النّاس بالحقّ، ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحقّ والزنا وشرب الخمر- وأما عزائيل فإنّه لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربّه، وسأله أن يرفعه إلى السّماء، فأقاله ورفعه، فسجد أربعين سنة، ثمّ رفع رأسه ولم يزل بعد ذلك مطأطئا رأسه حياء من الله عزّ وجلّ. وأما الآخران فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يغضبان من النّاس يومهما فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء. قال قتادة: فما مر عليهما شهر حتّى افتتنا قالوا جميعا وذلك انهم اختصم عليهما ذات يوم الزهرة، وكانت من أجمل النّساء. قال علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) وكانت من أهل فارس، وكانت ملكة في بلدها. فلمّا رأياها أخذت بقلوبهما فراوداها عن نفسها وانصرفت، ثمّ عادت في اليوم الثاني. ففعلا مثل ذلك. فأبت وقالت: لا إلّا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصّنم وتقتلا النّفس وتشربا الخمر فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله قد نهانا عنها. فانصرفت ثمّ عادت في اليوم الثالث ومعها قدح من خمر وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها. فراوداها عن نفسها. فعرضت عليهما ما قالت بالأمس. فقالا: الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النّفس عظيم وأهون الثلاثة شرب الخمر فانتعشا ووقعا بالمرأة وزنيا. فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه. قال الربيع بن أنس: سجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكبا وقال عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه) والسّدي والكلبي: إنّها قالت لهما: لن تدركاني حتّى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء. فقالا: بسم الله الأكبر. قالت: فما أنتما تدركاني حتّى تعلمانيه. فقال أحدهما لصاحبه: علّمها. قال: فإنّي أخاف الله. قال الآخر: فأين رحمة الله فعلماهما ذلك. فتكلّمت به وصعدت إلى السّماء فمسخها الله كوكبا. فعلى قول هؤلاء هي الزّهرة بعينها وقيدوها. فقالوا: هي هذه الكوكبة الحمراء واسمها بالفارسيّة ناهيد، وبالنبطية بيذخت يدلّ على صحة هذا القول ما روى جابر عن الطفيل عن علي
(رضي الله عنه) قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى سهيلا قال: لعن الله سهيلا إنّه كان عشارا باليمن ولعن الله الزّهرة فإنّها فتنت ملكين. وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر ذات ليلة فقال لي: أرمق بالكوكبة يعني الزّهرة فإذا طلعت فأيقظني. فلما طلعت أيقظته فجعل ينظر إليها ويسبّها سبّا شديدا. فقلت: رحمك الله سببت نجما سامعا مطيعا ما له ليسبّ؟ فقال: إنّ هذه كانت بغيا. فلقى ملكان منها ما لقيا. وقال ابن عمر إذا رأى الزهرة قال: لا مرحبا بها ولا أهلا وروى أبو عثمان [المرندي] عن ابن عبّاس: إنّ المرأة التي فتنت بها الملكان مسخت فهي هذه الكوكبة الحمراء يعني الزهرة قال: وكان يسميها بيذخت. وأنكر الآخرون هذا القول. قالوا: ان الزهرة من الكواكب السبعة السّيارة الّتي جعلها الله تعالى قواما للعالم وأقسم بها فقال: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ «1» . قلنا كانت هذه الّتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى زهرة من جمالها فلمّا بغت مسخها الله تعالى شهابا فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزهرة ذكر هذه المرأة لموافقة الاسمين فلعنها، وكذلك سهيل العشار ولمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النجم ذكره فلعنه ويدلّ عليه ما روى قيس ابن عبّاد عن ابن عبّاس في هذه القصّة: قال: كانت امرأة فضّلت على النّاس كما فضّلت الزّهرة على سائر الكواكب، ومثله قال كعب الأحبار والله أعلم. قالوا: فلمّا أمسى هاروت وماروت بعد ما قارفا الذنب همّا بالصعود إلى السّماء فلم تطاوعهما أجنحتهما فعلما ما حلّ بهما فقصدا إدريس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عزّ وجلّ فقالا له: إنّا رأيناك يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا إلى ربّك؟ ففعل ذلك إدريس فخيّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدّنيا إذ علما إنّه ينقطع فهما ببابل يعذّبان. واختلف العلماء في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود: هما معلّقان بشعورهما إلى قيام السّاعة. قتادة: كبّلا من أقدامهما إلى أصول أفخاذهما. مجاهد: إنّ جبّا ملئت نارا فجعلا فيها حضيف معلّقان منكسان في السلاسل. عمير بن سعد: منكوسان يضربان بسياط الحديد. ويروى إنّ رجلا أراد تعلّم السحر فقصد هاروت وماروت فوجدهما معلّقين بأرجلهما
مزرقّة عيونهما مسودّة جلودهما ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلّا قدر أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إله الّا الله وقد نهي عن ذكر الله فلمّا سمعا كلامه قالا له: من أنت؟ قال: رجل من النّاس. قالا: ومن أيّ أمّة أنت؟ قال: من أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قالا: وقد بعث محمّد؟ قال: نعم قالا: الحمد لله وأظهرا الاستبشار. فقال الرجل: وممّ استبشاركما؟ قالا: لأنّه نبي السّاعة وقد دنا انقضاء عذابنا. قالوا ومن ثمّ استغفار الملائكة لبني آدم. وعن الأوزاعي قال: المعنى إنّ جبرئيل أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «يا جبرئيل صف لي النّار؟ فقال: إنّ الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهيبها ولا جمرها، والّذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوبا من ثياب أهل النّار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعا ولو أنّ ذنوبا من سرابها صبّت في الأرض جميعا لقتل من ذاقه، ولو أنّ ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعا لذابت وما استقلّت ولو إنّ رجلا دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبكى جبرئيل لبكائه وقال: أتبكي يا محمّد وقد غفر الله لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ! قال: «أفلا أكون عبدا شكورا» [97] ، ولم بكيت يا جبريل وأنت الرّوح الأمين أمين الله على وحيه؟ قال: أخاف أن أبتلي بما ابتلي هاروت وماروت. فهو الّذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربّي فأكون قد آمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتّى نوديا من السّماء أن يا جبرئيل ويا محمّد إنّ الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما «1» ففضل محمّد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السّماء. وَما يُعَلِّمانِ يعني الملكين مِنْ أَحَدٍ من صلة لا يعلّمان السحر أحدا حتّى ينصحاه أولا وينهياه ويقولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ إبتلاء ومحنة. فَلا تَكْفُرْ بتعلم السّحر وأصل الفتنة الاختبار. تقول العرب: فتنت الذّهب إذا أدخلته النّار لتعرف جودته من رداءته. وفتنت الشمس الحجر إذا سوّدته. وإنّما وحّد الفتنة وهما اثنان لأنّ الفتنة مصدر والمصادر لا تثنّى ولا تجمع كقولهم: وَعَلى سَمْعِهِمْ وفي مصحف أبي: وما يعلّم الملكان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر سبع مرّات.
قال السّدي وعطاء: فإن أبى إلّا التعلّم قالا له: ائت هذا الرّماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السّماء فتلك المعرفة وينزل شيء أسود حتّى يدخل مسامعه يشبه الدّخان وذلك غضب الله عزّ وجلّ. قال مجاهد: إنّ هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة. وقال يزيد بن الأصم: سئل المختار: هل يرى اليوم أحد هاروت وماروت؟ قال: أما منذ اؤتفكت بابل ائتفاكها الآخر لم يرهما أحد. قال قتادة: السحر سحران: سحر تعلّمهم الشياطين وسحر يعلّمه هاروت وماروت وهو قوله تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وهو أن يؤخذ كلّ واحد منهما عن صاحبه ويبغّض كل واحد إلى صاحبه. وفي (المرء) أربع قراءات: قرأ الحسن: المرّ بفتح الميم وتشديد الرّاء جعله عوضا عن الهمزة. وقرأ الزهري: المُرء بضم الميم والهمزة. وحكى يعقوب عن جدّه: بكسر الميم والهمزة. وقرأ الباقون: بفتح الميم والهمزة. وأمّا كيفية تعليمهما السّحر فقد ورد فيه خبر جامع وهو ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أنّها قالت: قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد موته حداثة ذلك تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السّحر قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت تبكي حتّى إنّي لأرحمها بقولي واني لأخاف أن تكون قد هلكت، قالت كان لي زوج فغاب عنّي فدخلت على عجوز وشكوت إليها ذلك فقالت: إن فعلت ما أمرتك به فأجعله يأتيك فلمّا كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الأخر فلم يكن حتّى وقفنا على بابل، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت أتعلم السحر. فقالا: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فلا تكفري وارجعي فأبيت فقلت: لا. قالا: فاذهبي إلى ذلك التنوّر فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما فقالا: فعلت، قلت: نعم. فقالا هل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا. فقالا: لم تفعلي ارجعي إلى بلدك ولا تكفري فأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنوّر فبولي فيه. فذهبت فاقشعرّ جلدي وخفت ثمّ رجعت إليهما فقلت قد فعلت. قالا: فما رأيتي؟
قلت: لم أر شيئا. فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك فلا تكفري فإنّك على رأس أمرك. فأبيت. فقالا: اذهبي إلى ذلك التنوّر فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بالحديد خرج منّي حتّى ذهب في السّماء وقد غاب عنّي حتّى لم أره فجئتهما فقلت قد فعلت قالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا مقنّعا بالحديد خرج منّي فذهب في السّماء حتّى ما أراه. قالا: صدقت ذلك إيمانك خرج منك اذهبي إلى المرأة وقول لها: والله ما أعلم شيئا وما قال لي شيئا، قالت بلى، قالا: لن تريدي شيئا إلّا كان. خذي هذا القمح فأبذري فبذرت فقلت: اطلعي فطلعت فقلت: احقلي فحقلت ثمّ قلت إفركي فأفركت ثمّ قلت اطحني فطحنت ثمّ قلت اخبزي فخبزت فلمّا رأيت إنّي لا أريد شيئا إلّا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا. فأما كيفية جواز تعليم السّحر على الملائكة ووجه الآية وحملها على التأويل الصحيح: فقال بعضهم: إنّهما كانا لا يتعمّدان تعليم السحر ولكنّهما يصفانه ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه واعلم وعلّم بمعنى واحد وفي هذا حكمة: وهي إنّ سائلا لو سأل عن الزّنا لوجب أن يوقف عليه ويعلّم أنّه حرام، وكذلك إعلام الملكين النّاس وأمرهما باجتنابه بعد الأعلام والأخبار إنّه كفر حرام فيتعلّم الشقي منهما وفي حلال صفتهما وترك موعظتهما ونصيحتهما ولا يكون على هذا التأويل تعلّم السحر كفرا وإنّما يكون العمل به كفرا كما إنّ من عرف الزّنا لم يأثم إنّما يأثم العامل به، والقول الآخر والأصح: إنّ الله تعالى امتحن النّاس بالملكين في ذلك الوقت وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلّم السّحر فيكفر بتعلّمه ويؤمن بترك التعلّم، لأنّ السّحر كان قد كثر في كلّ الأمة ويزداد المعلّمان عذابا بتعليمه فيكون ذلك إبتلاء للمعلّم والمتعلّم ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بني إسرائيل بالنّهر في قوله: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ «1» يدلّ عليه قوله إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ وهذان حكاهما الزجّاج واعتمدهما. قال الله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ أي أحدا ومن صلة. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [أو إلّا بقضاء الله أو إلّا بإذن الله أي بمرأى ومسمع] «2» أي بعلمه وقضائه ومشيئته وتكوينه [والساحر يسحر ولا يكون شيء] «3» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 104 إلى 106]
وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أي السحر وقرأ عبيد بن عمير: مَا يُضِرُّهُمْ من أضرّ يضرّ. وَلَقَدْ عَلِمُوا يعني اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ اختار السّحر. ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ أي في الجنّة مِنْ خَلاقٍ من نصيب. وقال الحسن: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ من دين ولا وجه عند الله. ابن عبّاس: من قوام، وقيل من خلاص. قال أميّة: يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلّا السرابيل من قطر وإغلال، أي لا خلاص لهم. وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ باعوا به حظّ أَنْفُسَهُمْ حين اختاروا السّحر والكفر على الدين والحق. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. وَاتَّقَوْا اليهودية والسّحر. لَمَثُوبَةٌ [ويجوز المثوبة بفتح الميم وفتح الواو كمشورة وكمشورة وهي مصدر من الثواب] «1» مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لكان ثواب الله عزّ وجلّ إياهم. خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 106] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا الآية: وذلك إنّ المسلمين كانوا يقولون راعنا يا رسول الله وأرعنا سمعك يعنون من المراعاة، وكانت هذه اللفظة سبّا مبيحا بلغة اليهود، وقيل: كان معناه عندهم: اسمع لا سمعت، وقيل: هو إلحاد إلى الرعونة لما سمعتها اليهود اغتنموها، وقالوا فيما نسب بعضهم إلى محمّد سرا. فاعلنوا الآن بالشّتم، وكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمّد ويضحكون فيما بينهم. فسمعها سعد بن معاذ ففطن لها، وكان يعرف لغتهم. فقال لليهود: عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده يا معشر اليهود إن سمعنا من رجل منكم يقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لضربت عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها؟
فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا لكي لا يجد اليهود بذلك سبيلا إلى شتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفي هذه اللفظة ثلاث قراءات: قرأ الحسن راعناً بالتنوين أراد قولا راعنا: أي حقا من الرعونة فحذف الاسم وأبقى الصّفة. كقول الشاعر: ولا مثل يوم في قدار ظله ... كأني وأصحابي على قرن أعفرا أراد قرن ظبي أعفر. حذف الاسم وأبقى النعت. وقرأ أبي بن كعب: راعونا بالجمع. وقرأت العامّة: راعِنا بالواحد من المراعاة. يقال: أرعى إلى الشيء وأرعاه وراعاه. إذا أصغى إليه واستمعه. مثل قولهم: عافاه الله وأعفاه. قال مجاهد: لا تقولوا راعناً: يعني خلافا. يمان: هجرا. الكسائي: شرّا. وَقُولُوا انْظُرْنا قال أبي بن كعب: أَنظرنا بقطع الألف أي أخرنا، وقرأت العامّة موصولة أي انظر إلينا. فحذف حرف التعدية كقول قيس بن الحطيم: ظاهرات الجمال والحسن ينظرن ... كما ينظر الأراك الظّبا أي إلى الأراك، وقيل: معناه انتظرنا وتأننا. كقول امرؤ القيس: فإنكما أن تنظراني ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب وقال مجاهد: معناه فهّمنا، وقال يمان: بيّن لنّا وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به، والمراد به أطيعوا لأنّ الطّاعة تحت السّمع. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني اليهود. ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية: وذلك إنّ المسلمين كانوا إذا قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمّد قالوا: ما هذا الّذي تدعوننا إليه بخير مما نحن عليه ولو [هدانا] «1» لكان خيرا. فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم (ما يَوَدُّ) : يريد ويتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود.
وَلَا الْمُشْرِكِينَ «1» مجرور في اللفظ بالنسق على من مرفوع المعنى بفعله كقوله عزّ وجلّ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2» أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي خبر كما نقول: ما أتاني من أحد من فيه، وفي جوابها صلة، وهي كثيرة في القرآن. وَاللَّهُ يَخْتَصُّ والاختصاص أوكد من الخصوص لأن الاختصاص لنفسك والخصوص لغيرك. بِرَحْمَتِهِ بنبوّته. مَنْ يَشاءُ يخص بها محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [أي ابتداء لعلى ... خبر علة أو المراد من الرحمة الإسلام والهداية «3» ] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها الآية وذلك إنّ المشركين قالوا: ألّا ترون إلى محمّد يأمر أصحابه بأمر لم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع فيه غدا، ما هذا القرآن إلّا كلام محمّد يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا. فأنزل الله وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ «4» ، وأنزل أيضا ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ثمّ بيّن وجه الحكمة في النّسخ بهذه الآية. وأعلم إنّ النسخ في اللغة شيئان: الوجه الأول: بمعنى التغيير والتحويل قال الفراء: يقال: مسخه الله قردا ونسخه قردا، ومنه نسخ الكتاب وهو أن يحول من كتاب إلى كتاب فينقل ما فيه إليه قال الله تعالى إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «5» : أي نأمر الملائكة بنسخها. قال ابن عبّاس في هذه الآية: ألستم قوما عربا هل يكون نسخة إلّا من أصل كان قبل ذلك؟ وعلى هذا الوجه القرآن كلّه منسوخ لأنّه نسخ من اللوح المحفوظ فأنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. روى عبد الوهاب بن عطاء عن داود عن عكرمة عن ابن عبّاس: أنزل الله تعالى القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ثمّ أنزله جبرائيل على محمّد آيا بعد آي، وكان فيه ما قال المشركون وردّ عليهم. والوجه الثاني: بمعنى رفع الشيء وإبطاله يقال: نسخت الشّمس الظل: أي ذهبت به وأبطلته [ ... ] عنّى بقوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ وعلى هذا الوجه يكون بعض القرآن ناسخا ومنسوخا وهي ما تعرفه الأمّة من ناسخ القرآن ومنسوخه وهذا أيضا يتنوّع نوعين:
أحدهما: إن يثبت خط الآية، وينسخ علمها والعمل بها. كقول ابن عبّاس في قوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قال: ثبت خطها وتبدل حكمها. ومنها رفع تلاوتها وبقاء حكمها مثل آية الرجم. الثاني: أنّ ترفع الآية أصلا أي تلاوتها وحكمها معا فتكون خارجة من خط الكتاب، وبعضها من قلوب الرّجال أيضا، والشّاهد له ما روي أبو أمامة سهل بن حنيف في مجلس سعيد ابن المسيب: إنّ رجلا كانت معه سور فقام يقرأها من الليل فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها. فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأها فلم يقدر عليها. فأصبحوا فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال بعضهم: يا رسول الله قمت البارحة لأقرأ سورة كذا وكذا فلم أقدر عليها، وقال الآخر: يا رسول الله ما جئت إلّا لذلك، وقال الآخر: وأنا يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّها نسخت البارحة» [98] «1» . ثمّ اعلم أنّ النّسخ إنّما يعترض على الأوامر والنواهي دون الأخبار إذا نسخ صار المخبر كذابا، وإنّ اليهود حاولوا نسخ الشرائع وزعموا إنّه بداء فيقال لهم: أليس قد أباح الله تزويج الاخت من الأخ ثمّ حظره وكذلك بنت الأخ وبنت الأخت؟ أليس قد أمر إبراهيم عليه السّلام بذبح ابنه، ثمّ قال له لا تذبحه؟ أليس قد أمر موسى بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد العجل منهم وأمرهم برفع السّيف عنهم؟ أليست نبوة موسى غير متعبد بها، ثمّ تعبّد بذلك؟ أليس قد أمر حزقيل النبيّ بالختان، ثمّ نهاه عنه؟ فلما لم يلحقه بهذه الأشياء بداء فكذلك في نسخ الشرائع لم يلحقه بداء بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم لضرب من المصلحة إظهار لحكمته وكمال مملكته وله ذلك وبه التوفيق. فهذه من علم النّسخ وهو نوع كثير من علوم القرآن، لا يسع جهله لمن شرع إلى التفسير. وعن أبي عبد الرحمن السّلمي: إنّ عليا عليه السّلام مرّ بقاص يقصّ في جامع الكوفة بباب كندة فقال: هل تعلم النّاسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت «2» . وأمّا معنى الآية لقوله ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قرأت العامّة بفتح النون والسين من النّسخ. وقرأ ابن عامر: بضم النون وكسر السّين. قال أبو حاتم: هو غلط وقال: بعضهم له وجهان، أحدهما نجعله نسخه من قولك نسخت الكتاب إذا كتبته وأ نسخته غيري إذا جعلته نسخة له ومعناها ما مسختك.
والوجه الثاني: تجعله في جملة المنسوخ كقولك: طردت الرّجل إذا نفيته وأطردته جعلته طريدا. قال الشاعر: طردتني حسد الهجاء حيفاء ... واللّات والأصنام ما قالوا تنل أو ننسها «1» : فيه تسع قراءات: قرأ سعيد بن المسيب وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب: نُنْسِها بضمّ النون وكسر السّين. وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم أي: ننسها نسيا قاله أكثر المفسرين. قال الحسن: هو ما أنسى الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عبّاس: أي نتركها ولا نبدّلها قال الله: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ «2» وقال الله تعالى: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى «3» . كلّ هذا من التّرك كانّه جعل أنسى ونسي بمعنى واحد. قال الكلبي وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا منصور الأزهري يقول: معناه أو نأمر بتركها يقال أنسيت الشيء أي أمرت بتركه. قال الشّاعر: جرت عليّ قصة أقصيتها ... لست بناسيها مجمع ولا منسيها أي ولا آمر بتركها. وقرأ أبي بن كعب: أو ننسيك. وقرأ عبد الله: ننسيك من آية أو ننسخها. قرأ سالم مولى حذيفة: أو ننسّكها. وقرأ أبو رجاء: أو ننسّها بالتشديد، وقرأ الضحّاك: أو نُنسَها بضم التاء وفتح السين على مجهول، وقرأ سعد بن أبي وقّاص: أو تَنسها بتاء المفتوحة من النسيان، وعن القاسم بن الربيع ابن فائق قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: بالنسخ من آية أو ننسها. قال: فقلت له: إنّ سعيد بن المسيّب يقرأ: نُنْسِها. قال: إنّ القرآن لم ينزل على آل المسيّب.
[سورة البقرة (2) : الآيات 107 إلى 109]
قال الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «1» وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ «2» . وقرأ مجاهد: (أو نَنسها) بفتح النون مخففة أي نتركها. وقرأ عمر بن الخطّاب وابن عبّاس وعبيد بن عمير وعطاء وابن كثير وابو عمرو والنخعي: أو ننساها بفتح النون الأول وفتح السين مهموزة فلا نؤخرها فلا نبدّلها ولا ننسخها، يقال: نسأ الله في أجله وأنسأ الله أجله، ومنه النسيئة في البيع. وقال أبو عبيد: ننسأها مجازه نمضيها لذكر ما فيه، قال طرفة: أمون كألواح الاران نسأتها ... على لاحب كأنّه ظهر برجد «3» أي لسقتها وأمضيتها، وقال سعيد بن المسيب وعطاء: أما ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ فهو ما قد نزل من القرآن جعلاه من النسخة، أو ننساها نؤخرها فلا يكون وهو ما لم ينزّل. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها «4» أيّ بما هو أجدى وأنفع لكم وأسهل عليكم وأكثر لأجركم لا أنّ آية خير من آية لأن كلام الله عزّ وجلّ واحد ولكنّها في المنفعة المثوبة وكلّه خير. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «5» قادر قال الزجاج: لفظه استفهام ومعناه توفيق وتقرير. [سورة البقرة (2) : الآيات 107 الى 109] أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ يا معشر الكفّار عند نزول العذاب. مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ قريب وصديق. وَلا نَصِيرٍ ناصر يمنعكم من العذاب. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ الآية. قال ابن عبّاس: نزلت في عبد الله بن أميّة
المخزومي ورهط من قريش قالوا: يا محمّد أجعل لنا الصّفا ذهبا ووسّع لنّا أرض مكّة، وفجر الأنهار خلالها تفجيرا نؤمن بك. فأنزل الله عزّ وجلّ أَمْ تُرِيدُونَ يعني أتريدون والميم صلة لأنّ أم إذا كان بمعنى العطف لا تكون أبتداء ولا تأتي إلّا مردودة على استفهام قبلها، وقيل معناه: بل يريدون كقول الشّاعر: بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح «1» أي بل أنت. أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ محمّدا. كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ سأله قومه فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً، وقال مجاهد: لمّا قالت قريش هذا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نعم وهو كالمائدة لبني إسرائيل إن لم تؤمنوا عذّبتم» [99] فأبوا ورجعوا ، والصّحيح أن شاء الله إنها نزلت في اليهود حين قالوا: يا محمّد ائتنا بكتاب من السّماء تحمله، كما أتى موسى بالتوراة، لأنّ هذه السّورة مدنية، وتصديق هذا القول قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ «2» في سُئِلَ ثلاث قراءات: بالهمز: وهي قراءة العامّة، و (سئل) بتليين الهمزة وهي قراءة أبي جعفر و (سيل) مثل (قيل) وهي قراءة الحسن. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أخطأ وسط الطريق. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية نزلت في نفر من اليهود منهم: فنحاص بن عازورا وزيد ابن قيس وذلك إنّهم قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تريا ما أصابكم ولو كنتم على الحقّ ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا. فقالوا لهم: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد. قال: فإني قد عاهدت ألّا أكفر بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم ما عشت. فقالت اليهود: أمّا هذا فقد صبر، وقال حذيفة: وأمّا أنا فقد رضيت بالله ربّا وبمحمّد نبيّا وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. ثمّ أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبراه بذلك فقال: «أصبتما الخير وأفلحتما» [100] «3» . فأنزل الله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي تمنى وأراد كثير من اليهود.
[سورة البقرة (2) : الآيات 110 إلى 113]
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ يا معشر المؤمنين. مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً في انتصابه وجهان قيل: بالردّ وقيل: بالحال. حَسَداً وفي نصبه أيضا وجهان: قيل على المصدر أي يحسدونكم حسدا، وقيل: بنزع حرف الصلة تقديره للحسد. وأصل الحسد في اللغة الالظاظ بالشيء حتّى يخدشه وقيل: للمسحاة محسد وللغراد حسدل زيدت فيه اللّام كما يقال للعبد: عبدل. مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أي من تلقاء أنفسهم لم يأمر الله عز وجل بذلك. مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ في التوراة إنّ محمّدا صادق ودينه حقّ. فَاعْفُوا فاتركوا. وَاصْفَحُوا وتجاوزوا. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ بعذابه القتل والسّبي لبني قريظة والجلاء والنفي لبني النظير قاله ابن عبّاس. وقال قتادة: هو أمره بقتالهم في قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى وَهُمْ صاغِرُونَ «1» . وقال ابن كيسان: بعلمه وحكمه فيهم حكم بعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية، وقيل: أراد به القيامة فيجازيهم بأعمالهم. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 110 الى 113] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا تسلفوا. لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ طاعة وعمل صالح. تَجِدُوهُ تجدوا ثوابه ونفعه. عِنْدَ اللَّهِ وقيل: بالخبر الحال كقوله عزّ وجلّ
إِنْ تَرَكَ خَيْراً «1» ومعناه وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من زكاة وصدقة تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي وتجدوا الثمرة واللقمّة مثل أحد إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ ورد في الحديث: إذا مات العبد قال الله: ما خلّف؟ وقال الملائكة: ما قدّم؟ وعن أنس بن مالك قال: لمّا ماتت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل علي بن أبي طالب عليه السّلام الدّار فأنشأ يقول: لكلّ اجتماع من خليلين فرقة ... وكلّ الّذي دون الفراق قليل وإنّ افتقادي واحدا بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم خليل ثمّ دخل المقابر فقال: السلام عليكم يا أهل القبور أموالكم قسّمت ودوركم سكّنت وأزواجكم نكحت فهذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟ فهتف هاتف: وعليكم السلام ما أكلنا ربحنا وما قدّمنا وجدنا وما خلّفنا خسرنا «2» . وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى قال الفرّاء: أراد يهوديا فحذف الياء الزائدة ورجعوا إلى الفعل من اليهوديّة. وقال الأخفش: اليهود جمع هائد مثل عائد وعود وحائل وحول وعايط وعوط وعايذ وعوذ، وفي مصحف أبي: إلّا من كان يهوديا أو نصرانيا ومعنى الآية وقالت اليهود: لن يدخل الجنّة إلّا من كان يهوديّا ولا دين إلّا دين اليهوديّة وقالت النصارى: لن يدخل الجنّة إلّا من كان نصرانيّا ولا دين إلّا النصرانية قال الله تعالى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ شهواتهم الّتي يشتهوها ويتمنوها على الله عزّ وجلّ بغير الحقّ وقيل أباطيلهم بلغة قريش. قُلْ يا محمّد. هاتُوا وأصله أتوا فقلبت الهمزة هاء. بُرْهانَكُمْ حجتكم على ذلك وجمعه براهين مثل قربان قرابين وسلطان وسلاطين. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثمّ قال ردّا عليهم وتكذيبا لهم بَلى ليس كما قالوا بل يدخل الجنّة مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ مقاتل: أخلص دينه وعمله لله وقيل: فوض أمره إلى الله. وقيل: خضع وتواضع لله. وأصل الإسلام والاستسلام: الخضوع والانقياد وإنّما خصّ الوجه لأنّه إذا جاد بوجهه في السّجود لم يبخل بسائر جوارحه. قال زيد بن عمرو بن نفيل: أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا
[سورة البقرة (2) : الآيات 114 إلى 117]
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن يحمل عذبا زلالا «1» وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله، وقيل: مؤمن، وقيل: مخلص. فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَقالَتِ الْيَهُودُ نزلت في يهود المدينة ونصارى أهل نجران وذلك إنّ وفد نجران لمّا قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم فقالت لهم اليهود: ما أنتم على شيء من الدّين وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت لهم النّصارى: ما أنتم على شيء من الدّين وكفروا بموسى والتوراة. فأنزل الله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ. وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ وكلا الفريقين يقرءون الكتاب أي لتبين في كتابكم سر الاختلاف فدل تلاوتهم الكتاب ومخالفتهم ما فيه على أنهم على الباطل. وقيل: كان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية قال: صدقوا جميعا والله كذلك. قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «2» يعني آباءهم الّذين مضوا. مِثْلَ قَوْلِهِمْ قال مقاتل يعني مشركي العرب كذلك قالوا في نبيّهم محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ليسوا على شيء من الدّين. وقال ابن جريح: قلت لعطاء: (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من هم؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنّصارى مثل قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ونحوهم، قالوا في نبيهم إنّه ليس على شيء وأنّ الدّين ديننا. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يقضي بين المحقّ والمبطل يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدّين. [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 117] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ نزلت في ططيوس بن استيسانوس
الرّومي وأصحابه وذلك إنّهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التّوراة وخرّبوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وكان خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيّام عمر بن الخطّاب. قتادة والسّدي: هو بخت نصر وأصحابه غزوا اليهود وخرّبوا بيت المقدس وأعانهم على ذلك النّصارى ططيوس وأصحابه من أهل الرّوم. قال السّدي: من أجل إنّهم قتلوا يحيى بن زكريّا، وقال قتادة: حملهم بعض اليهود على معاونة بخت نصّر البابلي المجوسي فأنزل الله إخبارا عن ذلك: وَمَنْ أَظْلَمُ أيّ أكفر وأغثا مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ يعني بيت المقدس ومحاريبه. (أَنْ يُذْكَرَ) في محل نصب المفعول الثاني لأنّ المنع يتعدّى إلى مفعولين تقديره ممّن منع مساجد الله. الذّكر، وإن شئت جعلت نصبا بنزع حرف الصّفة أي: من أن يذكر. وَسَعى فِي خَرابِها أي في عمل خرابها. أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ وفي مصحف أبي الّا خيّفاء. قال ابن عبّاس: لا يدخلها بعد عمارتها رومي إلّا خائفا لو علم به قتل. قتادة ومقاتل: لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلّا متنكرا مشارفه لو قدر عليه عوقب ونهك ضربا. السّدي: أخيفوا بالجزية، وقال أهل المعاني: هذا خبر فيه معنى للأمر كقول: اجهضوهم بالجهاد كي لا يدخلها أحد منهم إلّا خائفا من القتل والسّبي نظيره قوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ... إلى أَبَداً «1» نهاهم عن لفظ الخبر فمعنى الآية: ما ينبغي لهم ولكم وهذا وجه الآية. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ عذاب وهوان. قال قتادة: هو القتل للحربي والجزية للذّمي. مقاتل والكلبي: فتح مدائنهم الثلاثة: قسطنطينية وروميّة وعمورية. السّدي: هو إنّه إذا قام المهدي [في آخر الزمان] فتحت قسطنطينية فقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم فذلك خزيهم في الدّنيا. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو النّار.
إسماعيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: لا تقوم السّاعة حتّى تفتح مدينة هرقل ويؤذّن فيها المؤذنون ويقسّم فيها المال بالترضية فينقلبون بأكثر أموال رآها النّاس قط فبينا هم كذلك إذا أتاهم إنّ الدجّال قد خلفكم في أهليكم فيلقون ما في أيديهم ويجيئونه ويقاتلونه. وقال عطاء وعبد الرّحمن بن عوف: نزلت هذه الآية في مشركي عرب مكّة وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من حجّه والصّلاة فيه عام الحديبية وإذا منعوا من تعميره بذكر الله عزّ وجلّ فقد سعوا في خرابه يدلّ عليه قوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ «1» الآية أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ يعني أهل مكّة يقول: أفتحها عليكم حتّى تدخلوها أو تكونوا أولى بها منهم ففتحها الله عليهم وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مناديا فنادى: ألا لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان فطفق المشركون يقولون: اللهمّ إنّا قد منعنا أن نشرك بهذا لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ الذّل والقتل والسّبي والنّفي وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية: اختلفوا في سبب نزولها فقال ابن عبّاس: خرج نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فأصابهم الضّباب فحضرت الصّلاة فتحروا القبلة وصلّوا فمنهم من صلّى إلى المشرق ومنهم من صلّى إلى المغرب. فلما ذهب الضّباب استبان لهم إنّهم لم يصيبوا. فلمّا قدموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فنزلت هذه الآية بذلك. وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرّجل يتّخذ أحجارا فيعمل مسجدا يصلّي فيه، فلمّا أصبحنا إذا نحن قد صلّينا إلى غير القبلة فقلنا يا رسول الله: لقد صلّينا ليلتنا هذه إلى غير القبلة فأنزل الله هذه الآية. قال عبد الله بن عمر: نزلت في صلاة المسافر يصلّي حيثما توجّهت به راحلته تطوعا، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على راحلته جائيا من مكّة إلى المدينة. وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على راحلته في السّفر حيثما توجّهت به «2» . قال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة لما حوّلت إلى الكعبة. فأنزل الله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. فَأَيْنَما تُوَلُّوا أيها المؤمنون في سفركم وحضركم.
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قبلة الله التي وجهكم إليها فاستقبلوها يعني الكعبة، وقال أبو العالية: لما غيّرت القبلة إلى الكعبة عيّرت اليهود المؤمنين في انحرافهم من بيت المقدس. فأنزل الله تعالى هذه الآية جوابا إليهم. عطاء وقتادة: نزلت في النجاشي وذلك إنّه توفّي، فأتى جبرئيل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أخاكم النجاشي قد مات فصلّوا عليه. فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف نصلّي على رجل مات وهو يصلي إلى غير قبلتنا؟ وكان النجاشي يصلّي إلى بيت المقدس حتّى مات. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مجاهد والحسن والضحّاك: لمّا نزلت: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» قالوا أين ندعوه؟ فنزلت وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ملكا وخلقا فَأَيْنَما تُوَلُّوا تحوّلوا وجوهكم فَثَمَّ هناك وَجْهُ اللَّهِ. وقال الكلبي والقتيبي: معناه فثمّ الله عليم يرى والوجه صلة كقوله تعالى. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أيّ يريدونه بالدّعاء، وقوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2» . أيّ إلّا هو، وقوله تعالى وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ «3» أي ويبقى ربّك، وقوله إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ «4» أيّ لله. وقال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان: فثمّ قبلة الله أضافها إلى نفسه تخصيصا وتفصيلا، كما يقال: بيت الله، وناقَةُ اللَّهِ، والوجه والجهة والوجهة: القبلة. إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ قال الكلبي: واسع المغفرة لا يتعاظم مغفرته ذنب دليله قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ «5» . أبو عبيدة: الواسع الغني يقال: يعطي فلان من سعة أي من غنى قال الله لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ «6» قال الفراء: الواسع الجواد الذي يسع عطاءه كل شيء. دليله قوله تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «7» وقيل: الواسع العالم الذي يسع علمه كلّ شيء. قال الله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «8» أي علمه. عَلِيمٌ بنياتهم حيثما صلّوا ودعوا، وقال بعض السّلف: دخلت ديرا فجاء وقت الصّلاة فقلت لبعض من في الدّير: دلني على بقعة طاهرة أصلي فيها. فقال لي: طهّر قلبك عمّن سواه، وقف حيث شئت. قال: فخجلت منه.
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ نزلت في يهود أهل المدينة حيث قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وفي نصارى نجران حيث قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وفي مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله. (سُبْحانَهُ) نزّه وعظم نفسه. بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عبيدا وملكا. كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مجاهد وعطاء والسّدي: مطيعون دليله قوله تعالى وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ «1» . عكرمة ومقاتل ويمان: مقرون بالعبوديّة. ابن كيسان: قائمون بالشهادة، وأصل القنوت: القيام، وسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيّ الصّلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت» [101] «2» ، وقيل: مصلّون دليله قوله أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ «3» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المجاهد في سبيل الله مثل القانت الصائم» [102] . أيّ المصلّي «4» . وقيل: داعون. دليله قوله تعالى قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ «5» واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال بعضهم: هو خاص، ثمّ سلكوا في تخصيصه طريقين: أحدهما هو راجع إلى عزير والمسيح والملائكة، وهو قول مقاتل ويمان. القول الثاني قالوا: هو راجع إلى أهل طاعته دون النّاس أجمعين وهذا قول ابن عبّاس والفراء، وقال بعضهم: هو عام في جميع الخلق ثمّ سلكوا في الكفّار الجاحدين طريقتين أحدهما: إنّ ظلالهم تسجد لله وتطيعه، وهذا قول مجاهد دليله قوله عزّ وجلّ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ «6» الآية. قال الله تعالى وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «7» . والثاني: هذا يوم القيامة قاله السدي وتصديقه قوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ «8» . بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبتدعها ومنشئها من غير مثال سبق وَإِذا قَضى أَمْراً أي بيده وأراد خلقه وأصل القضاء إتمام الشيء وإحكامه. قال أبو ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع
[سورة البقرة (2) : الآيات 118 إلى 123]
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 118 الى 123] وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني اليهود قاله ابن عبّاس. مجاهد: هم النّصارى. قتادة: هم مشركو العرب. لَوْلا هلّا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ عيانا بأنك رسوله. أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ دلالة وعلامة على صدقك. قال الله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي كفّار الأمم الخالية مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أشبه بعضها بعضا في الكفر والفرقة والقسوة. قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إِنَّا أَرْسَلْناكَ يا محمّد بِالْحَقِّ بالصدق من قولهم فلان محقّ في دعواه إذا كان صادقا دليله قوله تعالى وَيَسْتَنْبِئُونَكَ «1» أَحَقٌّ هُوَ؟ أي صدق. مقاتل: معناه لن نرسلك عبثا بغير شيء بل أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ، دليله قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ «2» وهو ضد الباطل. ابن عبّاس: بالقرآن دليله قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ «3» . ابن كيسان: بالإسلام دليله قوله عزّ وجلّ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ «4» بَشِيراً مبشرا لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم. وَنَذِيراً منذرا مخوفا لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم. وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ عطاء وابن عبّاس: وذلك إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي» [103] فنزلت هذه الآية «5» .
وقال مقاتل: هو إنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنزل الله بأسه باليهود لأمنوا» [104] «1» . فأنزل الله تعالى: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ وفيه قراءتان: بالجزم على النهي وهي قراءة نافع وشيبة والأعرج ويعقوب ووجهها القول الأول في سبب نزول الآية. وقرأ الباقون: بالرفع على النفي يعني: ولست بمسؤول عنهم دليلها قراءة ابن مسعود: ولن تسأل وقراءة أبي: وما نسألك عن أصحاب الجحيم ولا تؤخذ بذنبهم والجحيم وهو الجحم والجحمة: معظم النّار. وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وذلك إنّهم كانوا يسألون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الهدنة ويطمّعونه ويرون إنّه إن هادنهم اتّبعوه ووافقوه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال ابن عبّاس: هذا في القبلة وذلك إنّ يهود أهل المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى قبلتهم فلمّا صرف الله القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ دينهم وقبلتهم، وزعم الزجّاج: إنّ الملّة مأخوذة من التأثير في الشيء كما تؤثر الملّة في الموضع الّذي يختبز فيه. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ البيان بأنّ دين الله هو الإسلام وقبلة إبراهيم عليه السّلام هي الكعبة. ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الّذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) وكانوا أربعين رجلا وإثنا وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشّام منهم بحيرا. وقال الضحّاك: من آمن من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه وسعيّة بن عمرو ويمام بن يهودا وأسيد وأسد ابنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا. قتادة وعكرمة: هم أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: هم المؤمنون عامّة. يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ الكلبي: يصفونه في كتبهم حقّ صفته لمن سألهم من النّاس وعلى هذا القول الهاء راجعة إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقال آخرون: هي عائدة إلى الكتاب ثمّ اختلفوا في معنى قوله يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ سعيد عن قتادة قال: بلغنا عن ابن مسعود في قوله يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال: يحلّون حلاله ويحرمون حرامه، ويقرءونه كما أنزل، ولا يحرفونه عن مواضعه، وقال الحسن: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون علم ما أشكل عليهم منه إلى عالمه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 124 إلى 129]
مجاهد: يتبعونه حقّ اتباعه. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إلى قوله وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ. [سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 129] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) قرأ أبو الشعثا جابر بن زيد: إِبْراهِيمُ رَبَّهُ إبراهيم رفعا وربه نصبا على معنى سأل ودعا فقيل له ومن اين لك هذا؟ فقال: اقرأنيه ابن عباس. وهذا غير قوي لأجل الباء في قوله بِكَلِماتٍ وقرأ الباقون بالنّصب، وجعلوا معنى الابتلاء الاختيار والامتحان في الأمر، وهو الصحيح، وفي إِبْراهِيمَ أربع لغات: قرأ ابن الزبّير: ابرهام بألف واحد بين الهاء والميم، وقرأ أبو بكر إبراهم وكان زيد بن عمر يقول في صلاته: إني عذت بما عاذ به إبراهيم، إذ قال: إني لك اللهم عان راغم «1» وقرأ عبد الله بن عامر اليحصبي: ابراهام بألفين، وقرأ الباقون: إِبْراهِيمَ [ ... قال يحيى بن سعيد] «2» الأنصاري: أقرأ ابراهام وإِبْراهِيمَ. فأن الله عزّ وجلّ أنزلهما كما أنزل يعقوب وإسرائيل، وعيسى والمسيح ومحمّدا وأحمد. الربيع ابن عامر: مصحفة مكتوب في مصاحف أهل الشام إبراهام بالألف وفي غيرها بالياء. وإبراهيم اسم أعجمي ولذلك لا يجري وهو إبراهيم بن نازح بن ناحور بن ساروخ بن ارخوا بن فالغ بن منابر بن الشالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح. فاختلفوا في مسكنه، فقال بعضهم: كان [بكشكر،] «3» وقال قوم: حرّان ولكن أباه نقله إلى بابل أرض نمرود بن كنعان
واختلفوا في الكلمات التي ابتلى إبراهيم عليه السّلام: عن ابن عبّاس: هي ثلاثون سهما، وهي شرائع الإسلام، ولم يبتل أحد بهذا الدّين كلّه فأقامه كلّه إلّا إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) . فَأَتَمَّهُنَّ فكتب له البراءة. فقال: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى وهي عشرة في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الآية وعشرة في الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية، وعشرة في المؤمنين سَأَلَ سائِلٌ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، وقوله إِلَّا الْمُصَلِّينَ. وروى طاوس عن ابن عبّاس قال: ابتلاه بعشرة أشياء هي من الفطرة والطّهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد فالّتي في الرأس قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسّواك وفرق الرأس، والّتي في الجسد: تقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء. مجاهد: هي الآيات الّتي في قوله: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً إلى آخر القصّة. الربيع وقتادة: مناسك الحج. الحسن: ابتلاه بسبعة أشياء ابتلاه بالكواكب والقمر والشمس فأحسن في ذلك وعلم أنّ ربّه دائم لا يزول وابتلاه بالنّار فصبر على ذلك، وابتلاه بذبح ابنه فصبر على ذلك وبالختان فصبر على ذلك وبالهجرة فصبر عليه. سعيد بن جبير: هي قول إبراهيم وإسماعيل حين يرفعان البيت رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «1» فرفعاه بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر. يمان: هي محاجّة قومه قال الله: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ إلى قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ «2» . أبو روق: هي قوله عليه السّلام الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الآيات وقال بعضهم: هي إنّ الله ابتلاه في ماله وولده ونفسه فسلم ماله إلى الضيفان، وولده إلى القربان، ونفسه إلى النيران، وقلبه إلى الرّحمن فاتخذه خليلا، وقيل: هي سهام الإسلام وهي عشرة: شهادة أن لا اله إلّا الله وهي الملّة والصلاة وهي القنطرة.. قال: [والزكاة] «3» وهي الطهارة والصّوم وهو الجنّة والحج وهو الشريعة، والغزو وهو النّصرة، والطاعة وهي العصمة، والجماعة وهي الألفة، والأمر بالمعروف وهو الوفاء والنهي عن المنكر وهو الحجّة. فَأَتَمَّهُنَّ. قال قتادة: أدّاهن.
الربيع: وفى بهنّ. الضّحاك: [ ... أيمانهن] «1» ، يمان: عمل بهن. قال الله إِنِّي جاعِلُكَ يا إبراهيم لِلنَّاسِ إِماماً ليقتدي بك وأصله من الأم وهو القصد. قالَ إبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ومن أولادي أيضا. فاجعل أئمّة يقتدى بهم وأصل الذريّة الأولاد الصغار مشتق من الذر لكثرته، وقيل: من الذرر وهو الخلق فخفف الهمز وأدخل التشديد عوضا عن الهمز كالبرّيّة. قيل: من الذرو وفيها ثلاث لغات: ذريّة بكسر الذال، وهي قراءة زيد بن ثابت، وذريّة بفتحها وهي قراءة أبي جعفر، وذريّة بضمها وهي قراءة العامّة. قالَ الله لا يَنالُ أي لا يصيب. عَهْدِي الظَّالِمِينَ وفيه ثلاث قراءات: عهدي الظالمون، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة ابن مصرف، وعَهْدِي الظَّالِمِينَ مرتجلة الياء، وهي قراءة أبي رجاء والأعمش وحمزة، وعهديَ الظالمين بفتح الياء وهي قراءة العامّة، واختلفوا في هذا العهد فقال عطاء بن أبي رباح: رحمتي. الضحّاك: طاعتي دليله قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «2» . السّدي: [التوفي] دليله قوله الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ «3» . مجاهد: ليس الظالم أن يطاع في ظلمه. أبو حذيفة: أمانتي دليله قوله وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ «4» . أبو عبيد: أماني دليله قوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ «5» ، وقيل: إيماني دليله عزّ وجلّ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ «6» . وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ يعني الكعبة. مَثابَةً مرجعا والمثاب والمثابة واحد كالمقام والمقامة قال ابن عبّاس: يعني معاذا وملجأ. مجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك: [يثبون] إليه من كلّ جانب ويحجّون ولا يملّون منه فما من أحد قصده إلّا وهو يتمنى العود إليه.
قتادة وعكرمة: مجمعا، وقرأ طلحة بن مصرف: مثابات على الجمع. لِلنَّاسِ وَأَمْناً مأمنا يأمنون فيه. قال ابن عبّاس: فمن أحدث حدثا خارج الحرم ثمّ التجأ إلى الحرم أمن من أن يهاج فيه ولكن لا يؤوى ولا يخالط ولا يبايع ويوكلّ به فإذا خرج منه أقيم عليه الحد ومن أحدث في الحرم أقيم عليه الحدّ فيه. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قرأ شيبة وابن عامر ونافع والأعرج والحسن وابن أبي إسحاق وسلام: واتَّخَذوا بفتح الخاء على الخبر وقرأ الباقون: بالكسر على الأمر. قال ابن كيسان: ذكروا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ بالمقام ومعه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: «بلى» قال: أفلا نتخذه مصلّى؟ قال: «لم أؤمر بذلك» [105] «1» . فلم تغب الشمس من يومهم حتّى نزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. وعن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: وافقني ربي في ثلاث. قلت: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فأنزل الله وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين فأنزل الله آية الحجاب قال: وبلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاستنفرتهنّ فجعلت أقول لهنّ: لتكفنّ عن رسول الله أو استبدلته أزواجا خيرا منكنّ حتّى أتيت على آخر أمهات المؤمنين. وقالت أمّ سلمة: يا عمر أما في رسول الله ما يغبط نساءه حتّى يعظهن مثلك وأمسكت فأنزل الله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ «2» الآية. واختلفوا في معنى قوله مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ قال إبراهيم النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم. يمان: المسجد كلّه مقام إبراهيم. قتادة ومقاتل والسّدي: هو الصّلاة عند مقام إبراهيم أمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله. وأمّا قصّته وبدء أمره. فروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: لما أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكّة ولبث على ذلك مدة، ونزلها الجرهميّون وتزوج إسماعيل امرأة منهم، وماتت هاجر. فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل. فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر
فذهب إلى بيت إسماعيل. فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قال: ليس هاهنا. ذهب للصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثمّ يرجع. فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ هل عندك طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي ولا عندي أحد. قال إبراهيم: إذ جاء زوجك فأقرئيه السّلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه، وذهب إبراهيم، فجاء إسماعيل ووجد ريح أبيه. فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا، كالمستخفة بصفته. قال: فما قال لك؟ قالت: قال لي أقرئي زوجك مني السّلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه. فطلّقها، وتزوج أخرى. فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثمّ استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، وجاء إبراهيم حتّى أتى إلى بيت إسماعيل. فقال إبراهيم لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيّد وهو يجيء الآن إنشاء الله فأنزل يرحمك الله. قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللّبن واللّحم فدعا لهما بالبركة فلو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير أو تمر لكانت أرض الله برّا وشعيرا وتمرا وقالت له: انزل حتّى أغسل رأسك فلم ينزل فجاء بالمقام فوضعته تحت شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه وغسلت شقّ رأسه الأيمن ثمّ حوّلت المقام إلى شقّه الأيسر فبقى أثر قدمه عليه فغسلت شقّ رأسه الأيسر فقال لها: إذا جاء زوجك فأقريه السّلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك. فلمّا جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن النّاس شبها وأطيبهم ريحا فقال لي كذا وقلت له كذا وغلست رأسه وهذا موضع قدميه على المقام فقال لها: ذلك إبراهيم عليه السّلام «1» . وقال أنس بن مالك: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه غير إنّه أذهبه مسح النّاس بأيديهم. نافع بن شيبة يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: أشهد ثلاث مرّات أنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنّة طمس الله نورهما ولولا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب» [106] «2» . عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي أمرناهما وأوصينا إليهما.
أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ الكعبة أي ابنياه على الطّهارة والتوحيد. وقال سعيد بن جبير وعبيد بن عمر وعطاء ومقاتل: طَهِّرا بَيْتِيَ من الأوثان والرّيب وقول الزور، وسمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا أتدري أين أنت؟ الأوزاعي عن عهدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله أوحى إليّ يا أخ المرسلين يا أخا المنذرين أنذر قومك ألّا يدخلوا بيتا من بيوتي إلّا بقلوب سليمة وألسن صادقة وأيد نقيّة وفروج طاهرة ولا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإنّي ألعنه ما دام قائما بين يديّ يصلّي حتّى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الّذي يسمع به وأكون بصره الّذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ» [107] «1» . وقال يمان بن رئاب: معناه بخّراه وخلقاه «2» . مكحول عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جنّبوا مساجدكم غلمانكم «3» - يعني صبيانكم ومجانينكم- وسلّ سيوفكم ورفع أصواتكم وحدودكم وخصومكم وبيعكم وشراءكم وحمّروها يوم جمعتكم واجعلوا على أبوابها بظاهركم» [108] «4» . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وجعفر وأهل المدينة: (بَيْتِيَ) بفتح الياء وقرأ الآخرون: باسكانه وإضافته تعالى إلى نفسه سبحانه تخصيصا وتفضيلا. لِلطَّائِفِينَ حوله وهم النزاح إليه من آفاق الأرض. وَالْعاكِفِينَ أي المقيمين فيه وهم سكّان الحرم. وَالرُّكَّعِ جمع الرّاكع. السُّجُودِ جمع الساجد مثل قاعد وقعود. قال عطاء: إذا كان طائفا فهو من الطائفين وإذا كان جالسا فهو من الْعاكِفِينَ وإذا كان مصلّيا فهو من الرُّكَّعِ السُّجُودِ. الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ في كلّ يوم وليلة عشرين ومائة رحمة ينزل على هذا البيت فستون للطائفين وأربعون للمصلّين وعشرون للناظرين» [109] «5» .
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا يعني مكّة أو الحرم. بَلَداً آمِناً أي مأمونا فيه يأمن أهله. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قال الأخفش: مَنْ آمَنَ بدل من أَهْلَهُ على البيان، كما يقال: أخذت المال ثلثيه ورأيت القوم ناسا منهم، وهذا ابدال البعض من الكلّ كقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «1» . قالَ الله. وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا فسأرزقه إلى منتهى أجله لأنه تعالى وعد الرزق للخلق كافة كافرهم ومؤمنهم وقيد بالقلة لأن متاع الدنيا قليل. قرأ معاوية وابن عامر: فَامْتِعْهُ بضم الألف وجزم الميم خفيفة، وقرأ أبي: فنمتعه قليلا ثمّ نضطره بالنون. ثُمَّ أَضْطَرُّهُ موصولة الألف مفتوحة الراء على عهد الدّعاء من إبراهيم عليه السّلام، وقرأ الباقون: فَأُمَتِّعُهُ بضم الألف مشدّدة ثُمَّ أَضْطَرُّهُ على الخبر أيّ الجنة في الآخرة إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أيّ المرجع تصير إليه. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ روى الرواة من أسانيد مختلفة في بناء الكعبة جمعت حديثهم ونسقته ليكون أحسن في المنطق وأقرب إلى الفهم. قالوا: خلق الله عزّ وجلّ موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها. فلما أهبط الله عزّ وجلّ آدم إلى الأرض كان رأسه يمسّ السّماء حتّى صلع وأورث أولاده الصّلع ونفرت من طوله دواب الأرض فصارت وحشا من يومئذ، وكان يسمع كلام أهل السّماء ودعاءهم وتسبيحهم، يأنس إليهم فهابته الملائكة واشتكت نفسه. فنقصه الله عزّ وجلّ إلى ستين ذراعا بذراعه. فلمّا فقد آدم ما كان يسمع من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش، وشكا ذلك إلى الله عزّ وجلّ. فأنزل الله ياقوتة من يواقيت الجنّة الكلام مقطوع له بابان من زمرّد أخضر باب شرقي وباب غربي فأنزل الله فيه قناديل من الجنّة فوضعه على موضع البيت إلى الآن ثمّ قال: يا آدم إنّي أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلّي عنده كما يصلّى عند عرشي. فأنزل عليه الحجر. فمسح به دموعه وكان أبيض فلما لمسته الحيّض في الجاهلية أسود. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما الحجر ياقوتة من يواقيت الجنّة ولولا ما مسه المشركون بأنجاسهم ما مسّه ذو عاهة إلّا شفاه الله تعالى» [110] «2» . فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكّة ماشيا وقيّض «3» الله له ملكا يدلّه على البيت.
قيل لمجاهد: يا أبا الحجّاج ألّا كان يركب؟ قال: فأي شيء كان يحمله فوالله إن خطوه مسيرة ثلاثة أيّام وكلّ موضع وضع عليه قدمه عمران وما تعدّاه مفاوز وقفار فأتى مكّة وحجّ البيت وأقام المناسك فلمّا فرغ تلقّته الملائكة فقالوا: برّحجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال ابن عبّاس: حجّ آدم أربعين حجّة من الهند إلى مكّة على رجليه فهذا بدء أمر الكعبة فكانت على ذلك إلى أيّام الطّوفان فرفعه الله إلى السّماء الرابعة فهو البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، وبعث الله جبرائيل حتّى خبّأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة عن الغرق فكان موضع البيت خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السّلام ثمّ إنّ الله تعالى أمر إبراهيم عليه السّلام بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت له يعبد ويذكر فيه فلم يدر إبراهيم أين خبّئ فسأل الله تعالى أن يبيّن له موضعه فبعث الله إليه السكينة ليدلّه على موضع البيت وهي ريح جموح لها رأسان شبه الحيّة فتبعها إبراهيم إلى أن أتيا مكّة فطوّق الله السكينة على موضع البيت كتطويق الحيّة الحجفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السّكينة فبناه وهذا قول علي والحسن بن أبي الحسن ، وقال ابن عبّاس: بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلمات إلى أن وافت مكّة ووقفت على موضع البيت، ونودي: أن يا إبراهيم ابني على ظلّها لا يزد ولا تنقص فبنى بخيالها. وقال بعضهم: أرسل الله جبرائيل ليدلّه على موضع فذلك قوله وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ «1» فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت، جعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة. قال الثّعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمّد بن محمّد بن أحمد القطان البلخي وكان عالما بالقرآن يقول: كان إبراهيم يفهم بالسريانية وإسماعيل بالعربيّة وكلّ واحد منهما يعرف ما يقول صديقه وما يمكن التفوّه به وكان إبراهيم يقول لإسماعيل: هبلي كنيا يعني: ناولني الحجر، ويقول إسماعيل: هاك الحجر خذه. قالوا: فبقي موضع الحجر فذهب إسماعيل إليه فجاء جبرئيل بحجر من السّماء فأتى إسماعيل وقد ركّب إبراهيم الحجر في موضعه فقال له: من آتاك بهذا؟ فقال: آتاني به من لم يتّكل على بناءك فأقاما البيت فذلك قوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ «2» . قال ابن عبّاس: يعني أصول البيت الّتي كانت قبل ذلك.
الكلبي وأبو عبيدة: أساسه واحدته قاعدة فبنياه من خمسة أجبل طور سيناء [ ... وطور سينا والجودي] «1» وبنيا قواعده من حراء، فلمّا انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: جئني بحجر حسن يكون للناس علما فأتاه بحجر فقال له: جئني بحجر أحسن من هذا، فمضى إسماعيل بطلبه فصاح أبو قبيس «2» يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود ووضعه مكانه. وقيل: إنّ الله تعالى مدّ لإبراهيم وإسماعيل بسبعة أملاك يعينونهما على بناء البيت فلمّا فرغا من بنائه قالا: رَبَّنا تَقَبَّلْ أي تقبل منّا بناءنا البيت. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بنيّاتنا. رَبَّنا وَاجْعَلْنا موحّدين مطيعين مخلصين لَكَ. وقرأ عون بن أبي جميلة: مُسْلِمِينَ بكسر الميم على الجمع. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أولادنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا علمنا نظيره قوله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي: علّمك الله وفيه أربع قراءات: عبد الله بن مسعود: وأرهم مناسكهم ردّه إلى الأمّة. وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير ورويس بسكون الرّاء كل القرآن. وقرأ أبو عمرو: باختلاس كسره للواو. وقرأ الباقون: بكسر الرّاء والأصل فيها أرانا بالهمز فحذفت استخفافا. فمن قرأ بالجزم قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الرّاء ساكنة على حالها واستدل بقول السدي: أرنا إداوة عبد الله نملأها من ماء زمزم إنّ القوم قد ظمئوا. ومن كسر فإنّه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الرّاء. وأمّا أبو عمرو فطلب الخفّة. وأخبر القاسم بن سلام عن شجاع بن أبي نصر قال، وكان أمينا صدوقا: إنّه رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام فذكّره أشياء من حرف أبي عمرو فلم يردّ عليه إلّا حرفين أحدهما هذا والأخر: ما ننسخ من آية أو ننسأها مهموزة. مَناسِكَنا شرائع ديننا وإعلام حجّتنا. وقال مجاهد: مذابحنا والنسك: الذّبيحة، وأصل النسك: العبادة يقال للعابد ناسك قال
الشّاعر: وقد كنت مستورا كثير تنسّك ... فهتكت أستاري ولم يبق لي نسكا فأجاب الله دعاءهما وبعث جبرئيل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلمّا بلغ عرفات قال لإبراهيم: عرفت يا إبراهيم؟ قال: نعم فسمّي الوقت عرفه والموضع عرفات. وَتُبْ عَلَيْنا تجاوز عنّا وارجع علينا بالرأفة والرحمة. إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ المتجاوز الرجّاع بالرحمة على عبادك. الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي في الأمّة المسلمة من ذريّة إبراهيم وإسماعيل. وقيل: في أهل مكّة رَسُولًا أي مرسلا وهو فعول من الرسالة. وقال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم ناقة مرسال ورسله إذا كانت سهلة السّير ماضية أمام النواق. ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل وجمعه أرسال. ويقال: جاء القوم إرسالا أيّ: بعضهم في أثر بعض، ومنه قيل للّبن رسلا لأنّه يرسل من الضّرع «1» . يَتْلُوا يقرأ عَلَيْهِمْ آياتِكَ كتابك جمع الآية وهي العلامة. وقيل: الآية جماعة الحروف. وقال الشيباني: هي قولهم: خرج القوم بما فيهم أي بجماعتهم. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ فقال بعضهم: الآية هاهنا الكتاب فنسّق عليه خلاف اللفظين كقول الحطيئة: ألا حبّذا هند وأرض بها هند ... وهند تفصيل اتى من دونها النّأي والبعد مجاهد: يعني الحكمة فهم القرآن. مقاتل: هي مواعظ القرآن وما فيه من الأحكام وبيان الحلال والحرام. ابن قتيبة: هي العلم والعمل ولا يسمّى الرّجل حكيما حتّى يجمعهما. وعن أبي بكر محمّد بن الحسن البريدي: كلّ كلمة وعظتك أو زجرتك أودعتك إلى
مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم، ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من الشّعر لحكمة» [111] «1» . وعن أبي جعفر محمّد بن يعقوب: الحكمة كلّ صواب من القول ورّث فعلا صحيحا أو حالا صحيحا. يحيى بن معاذ: الحكمة جند من جنود الله يرسلها إلى قلوب العارفين حتّى يروّح عنها وهج الدّنيا، وقيل: هي وضع الأشياء مواضعها، وقيل: الحكمة والحكم كلّما وجب عليك فعله. قال الشّاعر: قد قلت قولا لم يعنّف قائله ... الصمت حكم وقليل فاعله أي واجب العمل بالصمت. وقيل: هي الشرك والذّنوب، وقيل: أخذ زكاة أموالهم. وقال ابن كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا الأنبياء بالبلاغ، دليله قوله تعالى: كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» . إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ ابن عبّاس: العزيز الّذي لا يوجد مثله، بيانه قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «3» . الكلبي: العزيز المنتقم ممّن يشاء بيانه قوله وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ «4» . الكسائي: العزيز الغالب بيانه قوله وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «5» : أي غلبني. وقيل في المثل: من عزيز. ابن كيسان: العزيز الّذي لا يعجزه شيء بيانه قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «6» . المفضّل بن سلمة: العزيز المنيع الّذي لا تناله الأيدي فلا يردّ له أمر ولا يغلب فيما أراد بيانه قوله إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «7» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 130 إلى 134]
وقيل: بمعنى المعزّ فعيل بمعنى مفعل بيانه قوله وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ «1» . وقيل: هو القوي بيانه قوله فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «2» أي قوّينا. فأصل العزّة في اللّغة الشدّة يقال تعزز لحم النّاقة إذا اشتدّ ويقال: عزّ عليّ أي شقّ عليّ وأشتد، وأنشد أبو عمرو: أجد إذا ضمرت تعزّز لحمها ... وإذا نشد بتسعها لا تيئس فاستجاب الله دعاء إبراهيم وبعث فيهم محمّدا سيّد الأنبياء ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي عبد الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيّين وإنّ آدم لمجدل في طينة «3» وسوف أنبئكم بذلك دعوة إبراهيم وبشارة عيسى (عليهما السلام) قومه، ورؤيا أمي التي رأت إنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمّهات النبيّين» [112] «4» . [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 134] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) سعيد بن سويد عن العرياض بن سارية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ الآية. وذلك إن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما إنّ الله عزّ وجلّ قال في التوراة: إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجرا أن يسلم فأنزل الله تعالى. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي يترك دينه وشريعته. يقال: رغب في الشيء إذا أردته ورغبت عنه إذا تركته. وأصل الرّغبة: رفع الهمّة عن الشيء وإليه يقال: رغب فلان في فلان وإليه إذا همّت نفسه إليه، والأصل فيه الكرة فمعنى قوله تعالى وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ أي يرفع همّته عنها إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.
قال ابن عبّاس: حيّر نفسه. حيّان عن الكلبي: ظلّ من [جهة] نفسه «1» . أبو روق: عجّز رأيه عن نفسه. يمان: حمق رأيه، ونفسه منصوب في هذه الأقاويل بنزع حرف الصّفة. وقال الفرّاء: نصب على التفسير، والأصل: سفهت نفسه فلمّا أضاف الفعل إلى صاحبها خرجت النفس مفسّرة ليعلم موضع السفه كما يقال: ضقت به ذرعا معناه: ضاق ذرعي به، ويقال: ألم زيد رأسه ووجع بطنه. وقال أبو عبيدة: سفه نفسه: أي أوبق نفسه وأهلكها. هشام وابن كيسان: جهل نفسه. وحكى المفضّل بن سلمة عن بعضهم سفه. حقّر نفسه. والنفس على هذه الأقوال نصب لوقوع الفعل عليه وهذا كما جاء في الخبر: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» [113] «2» . وأصل السفه والسفاهة: الخفّة والجهل وضعف الرأي يقال سفه يسفه وسفه يسفه. وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ اخترناه فِي الدُّنْيا وأصل الطاء فيه تاء حوّلت طاء لقرب مخرجيها ولتطوع اللسان به. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الفائزين. قال الزجّاج وقال ابن عبّاس: يعني مع آبائه الأنبياء في الجنّة بيانه قوله: خطابه عن يوسف تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «3» . وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها لقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة بأنّه لمن الصالحين نظيرها في سورة النحل. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي استقم على الإسلام أو اثبت عليه لأنّه كان مسلما كقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «4» أي أثبت على علمك. وقال ابن عبّاس: إنّما قال له ذلك حين ألقي في النّار، وعن ابن كيسان: أخلص دينك لله بالتوحيد. عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوّض أمورك لله، وقيل: اخضع واخشع.
قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى في مصحف عبد الله: فوصّى، وقال أهل المدينة والشام: وأوصى بالألف، وكذلك هو في مصاحفهم. قال أبو عبيد: وكذلك رأيت في مصحف عثمان، وقرأ الباقون «وَوَصَّى» مشددا، وهما لغتان، يقال: أوصيته قد وصيته به إذا أمرته به مثل: أنزل ونزّل. قال الله فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «1» ، وتصديق الإيصاء قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ «2» ، وقوله يُوصِينَ «3» ، ودليل التوصية قوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً «4» ، وقوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً «5» . الكلبي ومقاتل: يعني كلمة الآحاد لا إله إلّا الله، وقال أبو عبيدة: إن شئت رددت الكناية إلى الملّة لأنّه ذكر ملّة إبراهيم وأن شئت رددتها إلى الوصية. وقال المفضل: بالطاعة كناية عن غير مذكور، كقوله حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «6» ، وقال طرفة: على مثلها الحواء إذا قال صاحبي ... ألا ليتني أفديك عنها وافتدي أي من الفلاة. بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ التمنية: إسماعيل وأمّه هاجر القبطية، وإسحاق وأمّه سارة، ومدين و [ ... سراين] «7» ونقشان، وآتون، ويشبق، وشوخ، وأمّهم جميعا- قطورا بنت يقطن الكنعانية تزوّجها إبراهيم بعد وفاة سارة. وقوله تعالى وَيَعْقُوبُ وسمي بذلك لأنه والعيص كانا توأمين فتقدّم عيص في الخروج من بطن أمّه وخرج يعقوب على أثره فأخذ يعقبه. قاله ابن عبّاس وقد مضت القصّة. وقيل: سمّي يعقوب لكثرة عقبه، وعن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت على أثر ثمانية آلاف نبيّ أربعة آلاف من بني إسرائيل» [114] «8» . ومعنى الآية: ووصى بها أيضا، ويعقوب: بنيه الأثني عشر وهم روفيل أكبر ولده وشمعون ولاوي وهودا وفريالون وسجر ودان ومفتالي وجاد واشرب «9» ويوسف وابن يافين.
يا بَنِيَّ معناه أن يا بنيّ، وكذلك في قراءة أبي وابن مسعود، وقال الفراء: إنّما قال ذلك لأنّ الوصية قول وكان تقديره وقال: يا بنيّ كقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ «1» أي وقال لهم لأنّ العبرة بالقول وقال يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ «2» معناه ويقول لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وقال الشاعر: إنّي سأبدي لك فيما أبدي ... من شجنان شجن نجد وشجن لي ببلاد الهند أي وأقول لأنّ الإبداء في المعنى كالقول باللسان. وحكى ابن مجاهد عن بعضهم ويعقوب أيضا نسقا على بنيه لأنه في جملة الموصين. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ اختار لكم الإسلام. فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مؤمنون وقيل: مخلصون وقيل: مفوضون وعن الفضيل ابن عياض في قوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي محسنون بربّكم الظن. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حضورا. إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم إنّ يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية «3» ؟ وعلى هذا القول [.......] «4» بن الخطاب لليهود. وقال الكلبي: لمّا دخل يعقوب مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيّران فجمع ولده وخاف عليهم ذلك. إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قال عطاء: إنّ الله لم يقبض نبيّا حتّى يخيّره بين الموت والحياة فلمّا خيّر يعقوب قال: أنظرني حتّى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل الله ذلك به، فجمع ولده وولد ولده وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ أي من بعد موتي. قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ الآية، وقرأ أبي: إلهك وإله إبراهيم وإسماعيل. وقرأ يحيى بن يعمر الجحدري: وإله أبيك على الواحد، قالوا: لأنّ إسماعيل عم يعقوب لا أبوه. وقرأ العامّة: آبائِكَ على الجمع وقالوا: عم الرّجل صنو أبيه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 135 إلى 137]
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هذا بقية آبائي» [115] ، وقال أيضا: «ردّوا عليّ أبي فإني أخشى أن يفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود» [116] . يعني العبّاس. والعرب تسمّي العمّ أبا وتسمّي الخالة أمّا قال الله تعالى وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ «1» يعني يعقوب وليّا وهي خالة يوسف. إِلهاً واحِداً أي نعرفه ونعبده إلها واحدا. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ جماعة قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ من الدين والعمل. وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ منها. وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وإنّما تسألون عمّا تعملون أنتم. [سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 137] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قال ابن عبّاس: نزلت في رؤوس يهود أهل المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن المصيف ووهب بن يهودا وأبي ياسر بن أخطب وفي نصارى أهل نجران: السيّد والعاقب وأصحابهما وذلك إنّهم خاصموا المسلمين في الدين كلّ فرقة تزعم إنّها أحقّ بدين الله من غيرها فقالت اليهود ديننا خير الأديان ونبيّنا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التوراة أفضل الكتب وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمّد والقرآن. وقالت النصارى: نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمّد والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين إلّا ذلك دعوهم إلى دينهم إلا الحنيفية. فقال الله تعالى: قُلْ يا محمّد بَلْ مِلَّةَ أي بل نتبع ملّة إِبْراهِيمَ وقرأ الأعرج: (بَلْ مِلَّةُ) رفعا على الخبر. حَنِيفاً نصب على القطع. أراد بل ملّة إبراهيم الحنيف فلمّا أسقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة. فانقطع منه فنصب قاله نحاة الكوفة، وقال أهل البصرة: نصب على الحال قال ابن عبّاس: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصلها من الحنف وهو ميل وعوج في القدم ومنه سمّي أحنف بن قيس.
مقاتل: مخلصا. كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن الحنيفية فقال: هي حج هذا البيت. الضحاك: إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج، وإذا لم يكن فهو المسلم. قتادة: من الحنيفية الختان، وترك نكاح الأخت. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ علم المسلمين مجرى التوحيد وطريق الأيمان. فقال قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعني القرآن وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وهو عشر صحف. وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعني أولاد يعقوب واحدهم سبط. سمّوا بذلك لأنه ولد لكل واحد منهم جماعة من النّاس وسبط الرّجل حافده، ومنه قيل للحسن والحسين (عليهما السلام) سبطا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب، والشعوب من العجم. وعن أبي سعيد الضرير: إنّ أصل السّبط في اللغة شجرة ملتفة كثيرة الأغصان فسمّي الأسباط بها لكثرتهم. فكما إنّ الأغصان من شجرة واحدة كذلك الأسباط كانوا من يعقوب، وكان في الأسباط أنبياء، وكذلك قال وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ وقيل: هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلّهم أنبياء. وَما أُوتِيَ مُوسى يعني التوراة. وَعِيسى الإنجيل. وَما أُوتِيَ أعطي. النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فنؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فلمّا نزلت هذه الآية قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اليهود والنصارى وقال: «إنّ الله أمرني بهذا» [117] فلمّا سمعت اليهود بذكر عيسى أنكروا وكفروا به وكفرت النصارى وقالوا: لأنّ عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ولكنّه ابن الله فأنزل الله تعالى فَإِنْ آمَنُوا يعني اليهود النصارى. بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أي بجميع ما آمنتم كإيمانكم ، وقيل مثل صلة أي بما آمنتم به، وهكذا كان يقرأها ابن عبّاس ويقول: اقرءوا (فإن آمنوا بما آمنتم به) فليس لله مثل ونظيره قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ: أي كهو. قال الشاعر: يا عاذلي دعني من عذلكا ... مثلي لا يقبل من مثلكا أي أنا لا أقبل منك.
فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ قال ابن عبّاس وعطاء والأخفش: في خلاف يقال: شاقّ يشاقّ مشاقّة إذا خالف كانّ كل واحد أخذ في شقّ غير شقّ صاحبه دليله قوله لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي «1» أي خلافي وأنشد: فكان إليها والّذي اصطاد بكرها ... شقاقا وبعضهن أو لطم وأهجرا وقال ابن سلمة والسّدي: في عداوة كان كلّ واحد منهما أخذ في شقّ صاحبه أي في جهده وما يشق عليه من قوله إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ «2» دليله قوله: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ «3» أي عادوا الله ورسوله. قال بشر بن أبي حازم: وإلّا فاعلموا انّا وأنتم ... بغاة ما حيينا في شقاق أي في عداوة. مقاتل وابو عبيدة: في ضلال واختلاف بيانه قوله وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما «4» أي اختلاف بينهما. قال الشاعر: إلى كم نقتل العلماء قسرا ... ونفجر بالشّقاق وبالنفاق أي بالضلال والاختلاف. الكسائي: هي خلع الطّاعة بيانه قوله وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ «5» . الحسن: في بعاد وفراق إلى يوم القيامة. فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يا محمّد يعني اليهود والنصارى. وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم. الْعَلِيمُ بأحوالهم وكفاهم الله تعالى أمرهم بالقتل والسّبي في بني قريظة والجلاء والنفي في بني النضير والجزية والذلّة في نصارى نجران محتوى الجزء الأول من كتاب تفسير الثعلبي.
محتوى الجزء الأول من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء الأول من كتاب تفسير الثعلبي ترجمة الثعلبي 5 التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه 7 مقدمة المصنف 73 تفسير فاتحة الكتاب 89 التفسير وبالله التوفيق 92 في أن التسمية من الفاتحة أو لا؟ 101 الكلام في جزئية البسملة من باقي السور 105 حكم الجهر بالبسملة في الصلاة 105 في إعراب الحمد لله 109 الفرق بين ملك ومالك 114 الإختلاف في قراءة الصراط 119 في معنى الغضب 123 فصل في آمين 124 فصل في أسماء هذه السورة 126 سورة البقرة 135 فصل في التقوى 142 فصل في الإيمان 145 القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما 165 فصل في معنى الخليفة 177 القول في حدّ الاسم وأقسامه 179
الجزء الثاني
الجزء الثاني تكملة سورة البقرة [سورة البقرة (2) : الآيات 138 الى 141] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) صِبْغَةَ اللَّهِ قال أبو العالية: دين الله. مجاهد: الإسلام. ابن عبّاس: هي إنّ النّصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد، وأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له: المعبودي وصبغوه به ليطهّروه بذلك مكان الختان، وإذا فعلوا ذلك به قالوا: الآن صار نصرانيا حقا. فأخبر الله تعالى: إنّ دينه الإسلام لا ما يفعل النصارى. ابن كيسان: صِبْغَةَ اللَّهِ: وجهة الله يعني القبلة. قال: ويقال: حجة الله التي احتج بها على عباده. أبو عبيدة والزجاج: خلقة الله من صبغت الثوب إذا غيّرت لونه وخلّقته. فيكون المعنى: إنّ الله ابتدأ الخلقة على الإسلام، دليله قول مقاتل في هذه الآية فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها «1» . أي دين الله. ويوضحه ما روى همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود إلّا وهو على هذه الفطرة. فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، كما تولد البهيمة [بهيمة جمعاء] «2» فهل تجدون فيها من جدعا حتّى تكون الأم تجدعونها» . قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟
فصل في معنى الإخلاص
قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» [1] . أبو عبيدة: سنّة الله، وقيل: هو الختان لأنّه يصبغ صاحبه بالدم، وفي الخبر: الختان سنّة للرجال مكرمة للنساء، وهي نصب على الإغراء تقديره: اتبعوا وألزموا صبغة الله. وقال الأخفش: هي بدل من قوله مِلَّةَ إِبْراهِيمَ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً دينا. وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ مطيعون. قُلْ يا محمّد لليهود والنصارى: أَتُحَاجُّونَنا أتجادلوننا وتخاصمونا، وقرأ الأعمش. والحسن وابن محيصن: بنون واحدة مشدّدة. وقرأ الباقون: بنونين خفيفتين اتباعا للخط. فِي اللَّهِ في دين الله وذلك بأن قالوا: يا محمّد إنّ الأنبياء كانوا منّا وعلى ديننا. وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ مقاتل والكلبي: لنّا ديننا ولكم دينكم. وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ موحدون، وهذه الآية منسوخة بآية السّيف. فصل في معنى الإخلاص سئل الحسن عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت حذيفة عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الإخلاص ما هو؟ قال: «سألت ربّ العزة عن الإخلاص ما هو؟» قال: «سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي» [2] «1» . وعن أبي إدريس الخولائي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لكلّ حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبّ أن يحمد على شيء من عمل الله» [3] «2» . وقال سعيد بن جبير: الإخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله أحدا. محمّد بن عبد ربّه قال: سمعت الفضيل يقول: ترك العمل من أجل النّاس رياء والعمل من
[سورة البقرة (2) : الآيات 142 إلى 143]
أجل النّاس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وقال يحيى بن معاذ: الإخلاص تميّز العمل من العيوب كتميّز اللبن من بين الفرث والدم. أبو الحسن البوشجي: هو ما لا يكتبه الملكان ولا يفسده الشيطان ولا يطّلع عليه الإنسان. رؤيم: هو ارتفاع رؤيتك من الظّل. وقيل: ما يرى به الحق ويقصد به الصدق. وقيل: ما لا يشوبه الآفات ولا تتبعه رخص التأويلات. وقيل: ما استتر من الخلائق واستصفى من العلائق. حذيفة [الإخلاص] : هو أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن. أبو يعقوب المكفوف: أن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته. سهل بن عبد الله: ألّا يرائي. عن أحمد بن أبي الجماري قال: سمعت أبا سليمان يقول: للمرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في النّاس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه. أَمْ تَقُولُونَ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص: بالتاء واختاره أبو عبيد، وقرأ الباقون بالياء، واختاره أبو حاتم. فمن قرأ بالتاء فللمخاطبة التي قبلها قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ والتي بعدها قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ومن قرأ بالياء فهو أخبار عن اليهود والنّصارى. إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قال الله: قُلْ يا محمّد. أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بدينهم. أَمِ اللَّهُ وقد أخبرني الله إنّه لم يكن يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ... وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ أخفى. شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وهو علمهم إنّ إبراهيم وبنيّه كانوا مسلمين، وأن محمّدا صلّى الله عليه وسلّم حق ورسول. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ الآية. [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 143] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ الجهال.
مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ صرفهم وحوّلهم. عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها من بيت المقدس. نزلت في اليهود ومشركي العرب بمكّة ومنافقي المدينة طعنوا في تحويل القبلة وقال مشركوا مكّة: قد تردّد على محمّد أمره واشتاق إلى مولده ومولد آباءه قد توجّه نحو قبلتكم وهو راجع إلى دينكم عاجلا. قال الله قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ملكا والخلق عبيده يحولهم كيف شاء. يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً عدلا خيارا. تقول العرب: انزل وسط الوادي: أي تخيّر موضعا فيه، ويقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وسط قريش نسبا أي خيرهم: قال الله تعالى قالَ أَوْسَطُهُمْ «1» ، أي أخيرهم وأعدلهم، وأصله هو أنّ خير الأشياء أوسطها. قال زهير: هم وسط ترضى الأنام لحكمهم ... إذا نزلت احدى الليالي بمعظم وقال الكلبي: يعني متوسطة أهل دين وسط بين الغلو والتقصير لأنّهما مذمومان في الدّين. قال ثعلب: يقال: جلس وسط القوم ووسط الدّار، وكذلك فيما يحتمل البينونة [واحتمل وسطا له] «2» بالفتح وكذلك فيما لا يحتمل البينونة. نزلت هذه الآية في مرحب وربيع وأصحابهما من رؤساء اليهود قالوا لمعاذ بن جبل: ما ترك محمّد قبلتنا إلّا حسدا، وإنّ قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمّد إنّا عدل بين النّاس. فقال معاذ: إنّا على حق وعدل. فأنزل الله وَكَذلِكَ أي وهكذا، وقيل الكاف فيه للتشبيه تقديره: وكما اخترنا إبراهيم وذريته واصطفيناهم كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. مردودة على قوله وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا «3» الآية. لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يوم القيامة أنّ الرّسل قد أبلغتهم. وَيَكُونَ الرَّسُولُ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. عَلَيْكُمْ شَهِيداً معدلا مزكّيا لكم وذلك إنّ الله تعالى جمع الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الدّاعي، وينقذهم البصر ثمّ يقول كفّار الأمم. أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ فتشكرون، ويقولون: ما جاءنا من نذير. فيسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون: قد كذّبوا، قد بلغناهم وأعذرنا إليهم: فيسألهم البيّنة، وهو أعلم بإقامة الحجة. فيؤتى بأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم فيشهدون لهم. إنّهم قد بلغوا. فتقول الأمم الماضية: من أين علموا بذلك وبيننا وبينهم مدة مريدة؟
فيقولون: علمنا ذلك باخبار الله أيانا في كتابه الناطق على لسان رسوله الصادق. فيؤتى محمّد صلّى الله عليه وسلّم فيسأل عن حال أمّته. فيزكّيهم ويشهد لصدقهم. وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها يعني التحويل عن القبلة الّتي كنت عليها وهي بيت المقدس. وقيل: معناه القبلة الّتي أنت عليها أي الكعبة كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ «1» أي أنتم. إِلَّا لِنَعْلَمَ لنرى ونميّز مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ في القبلة. مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فيرتد ويرجع إلى قبلته الأولى هذا قول المفسرين وقال أهل المعاني: معناه إلّا لعلمنا مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ كأنّه سبق ذلك في علمه إنّ تحويل القبلة سبب هداية قوم وضلالة آخرين، وقد تضع العرب لفظ الاستقبال موضع المضي كقوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ «2» أي قتلتم. وأنزل بعض أهل اللّغة: للعلم منزلتين: علما بالشيء قبل وجوده وعلما به بعد وجوده والحكم للعلم الموجود لأنّه يوجب الثواب والعقاب فمعنى قوله لِنَعْلَمَ أي لنعلم العلم الّذي يستحقّ به العامل الثّواب والعقاب وهذا على معنى التقدير كرجل قال لصاحبه: النّار تحرق الحطب، وقال الأخر: لا، فردّ عليه. هات النّار والحطب، ليعلم إنّها تحرقه أي ليتقرر علم ذلك عندك. وقوله: لنعلم تقديره ليتقرّر علمنا عندكم، وقيل معناه: ليعلم محمّد صلّى الله عليه وسلّم فأضاف علمه عليه السّلام إلى نفسه سبحانه تخصيصا وتفصيلا كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ «3» وقوله فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا «4» ونحوهما وَإِنْ كانَتْ وقد كانت توليه القبلة وتحويلها فأنّث الفعل لتأنيث الإسم كقولهم: ذهبت بعض أصابعه وقيل: هذه الكناية راجعة إلى القبلة بعينها أراد وإن كانت الكعبة. لَكَبِيرَةً ثقيلة شديدة. إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم الله وقال سيبويه: (وانّ) تأكيد منه باليمين ولذلك دخلت اللّام في جوابها. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ وذلك إنّ يحيى بن أخطب وأصحابه من اليهود قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس أكانت هدى أم ضلاله؟ فإن كانت هدى فقد تحولتم عنها وان كانت ضلالة لقد دنتم الله بها فإن من مات منكم عليها لقد مات على الضلالة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 144 إلى 147]
قال المسلمون: إنّما الهدى ما أمر الله تعالى به والضلالة ما نهى الله عنه. قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان مات قبل أن تحوّل القبلة؟ أسعد بن زرارة من بني النجّار والبراء بن معرور من بني سلمة وكانا من النقباء ومات رجال آخرون. فانطلقت عشائرهم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله قد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف إخواننا الّذين ماتوا وهم يصلّون إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» أي صلاتكم إلى بيت المقدس. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وفي رؤوف ثلاث قراءات: مهموز مثقّل وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص واختيار أبو حاتم قال: لأنّ أكثر أسماء الله على فعول وفعيل. قال الشاعر: نطيع رسولنا ونطيع ربّا ... هو الرّحمن كان بنا رؤوفا وروف غير مهموز مثقّل قراءة أبي جعفر. ورؤف مهموز مخفف وهي قراءة الباقين واختيار أبي عبيد. قال جرير: ترى للمسلمين عليك حقّا ... كفعل الوالد الرءوف الرّحيم فالرأفة أشدّ الرحمة. [سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 147] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ إنّ أوّل ما نسخ من أمور الشّرع أمر القبلة وذلك إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يصلّون بمكّة إلى الكعبة فلمّا هاجر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقدمها لليلتين خليا من شهر ربيع الأوّل أمره تعالى أن يصلّي نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إيّاه إذا صلّى إلى قبلتهم مع ما يجدون من نعته في التوراة هذا قول عامّة المفسّرين.
وقال عبد الرحمن بن زيد: قال الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هؤلاء يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله، فلو [أنّا] استقبلناه» [4] «1» فاستقبله النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قالوا جميعا: فصلّى النبيّ وأصحابه نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرا وكانت الأنصار قد صلّت إلى بيت المقدّس سنتين قبل قدوم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وكانت الكعبة أحبّ القبلتين إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، واختلفوا في السبب الّذي كان صلّى الله عليه وسلّم يكره من أجله قبلة بيت المقدس ويهوى قبلة الكعبة. فقال ابن عبّاس: لأنّها كانت قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. مجاهد: من أجل أنّ اليهود قالوا: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا. مقاتل بن حيّان: لمّا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يصلّي نحو بيت المقدس قالت اليهود: زعم محمّد أنّه نبي وما يراه أحد إلّا في ديننا، أليس يصلّي إلى قبلتنا ويستنّ بسنّتنا فإن كانت هذه نبوّة فنحن أقدم وأوفر نصيبا فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشقّ عليه وزاده شوقا إلى الكعبة. ابن زيد: لمّا استقبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيت المقدس بلغه أنّ اليهود تقول: والله ما ندري محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم. قالوا جميعا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبرئيل: «وددت أنّ الله صرفني من قبلة اليهود إلى غيرها فإنّي أبغضهم وأبغض توافقهم» [5] . فقال جبرئيل: إنما أنا عبد مثلك ليس إليّ من الأمر شيئا فأسأل ربّك «2» ؟ فعرج جبرئيل وجعل رسول الله يديم النظر إلى السّماء رجاء أن ينزل عليه جبرئيل بما يجيء من أمر القبلة. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تحوّل وتصرف وجهك يا محمّد في السّماء. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فلنحوّلنّك ولنصرفنّك. قِبْلَةً تَرْضاها تحبّها وترضاها. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه وقصده. قال الشاعر: واطعن بالقوم شطر الملوك ... حتّى إذا خفق المخدج
أي: نحوهم وهو نصب على الظرف. والمسجد الحرام: المحرّم كالكتاب بمعنى المكتوب والحساب بمعنى المحسوب. وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ في برّ أو بحر أو سهل أو جبل شرق أو غرب فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فحوّل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين. مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مسجد بني سلمة، وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب، وحوّل الرّجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين. قال ابن عبّاس: البيت كلّه قبلة وقبلة البيت الباب والبيت قبلة أهل المسجد والمسجد قبلة أهل الحرم والحرم قبلة أهل الأرض كلّها فلمّا حوّلت القبلة إلى الكعبة قالت اليهود: يا محمّد ما أمرت بهذا- يعنون القبلة. وما هو إلّا شيء تبتدعه من تلقاء نفسك. قتادة: فصلّى إلى بيت المقدس وتارة يصلّي إلى الكعبة ولو ثبتّ على قبلتنا لكنّا نرجو أن تكون صاحبنا الّذي ننتظره ورأيناكم تطوفون بالكعبة وهي حجارة مبنية فأنزل الله: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ يعني أمر الكعبة الحقّ. مِنْ رَبِّهِمْ وإنّها قبلة إبراهيم ثمّ هددهم فقال: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [قرأ ابو جعفر وابن ... والكسائي بالتاء وقال بريد: إنكم يا معشر ... تطلبون وصالي وما ... عن ثوابكم وجوابكم. وقرأ الباقون ... يعني ما الله بغافل عما يعمل اليهود فأجازيهم في الدنيا والآخرة] «1» وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني يهود المدينة، ونصارى نجران. قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم آتنا بآية كما أتى بها الأنبياء قبلك، فأنزل الله تعالى وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ. بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ يعني الكعبة، وقال الأخفش، والزّجاج: أجيئت لئن بما لأنّها بمعنى لو، وقيل: إنّها أجيبت بما لما فيه من معنى اليمين كأنّه قال: والله لئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكل آية إلى وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ لأن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنّصارى تستقبل المشرق. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مرادهم في أمر القبلة. مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنّها حقّ وإنّها قبلة إبراهيم. إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الجاحدين الضارين أنفسهم. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 148 إلى 152]
يَعْرِفُونَهُ يعني محمّدا كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ من بين النصارى. الكلبي عن الربيع عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر لعبد الله ابن سلام: لقد أنزل الله على نبيّه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فكيف يا عبد الله هذه المعرفة؟ فقال عبد الله بن سلام: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب، وأنا أشدّ معرفة بمحمّد منّي لابني، فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: أشهد إنّه رسول حقّ من الله، وقد نعته الله في كتابنا وما أدري ما تصنع النساء، فقال له عمر: وفقك الله يا بن سلام فقد صدقت وأصبت. وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعني صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأمر الكعبة. وَهُمْ يَعْلَمُونَ ثمّ قال الْحَقُّ 147 أي هذا الحقّ خبر ابتداء مضمر. وقيل: رفع بإضمار فعل أي جاءك الحقّ كما قال وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ «1» وقرأ علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه الْحَقَّ مِنْ رَبِّكَ نصبا على الإغراء. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكّين مفتعل من المرية والخطاب في هذه الآية: وفي ما قبلها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره وكلّ ما ورد عليك من هذا النحو فهو سبيله. [سورة البقرة (2) : الآيات 148 الى 152] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) لِكُلٍّ وِجْهَةٌ أي ولكلّ أهل ملّة قبلة. َ مُوَلِّيها مستقبلها ومقبل إليها يقال: ولّيته، وولّيت إليه. إذا أقبلت إليه وولّيت عنه إذا أدبرت عنه. وأصل التولية: الانصراف، وقرأ ابن عبّاس وابن عامر وأبو رجاء وسليمان بن عبد الملك: هو مولاها: أي مصروف إليها.
وفي حرف أبي: ولك قبلة هو مولّيها، وفي حرف عبد الله: ولكلّ جعلنا قبلة هو موليها. سْتَبِقُوا الْخَيْراتِ وبادروا فعل الخيرات، ومجازه فاستبقوا إلى الخيرات: أي يسبق بعضكم بعضا فحذف حرف الخبر. كقول الشاعر: وهو الداعي [......] «1» عليكم بالحرب ... ومن يمل سواكم فإني منه غير مائل أراد من يمل إلى سواكم. ْنَ ما تَكُونُوا يريد أهل الكتاب. ْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يوم القيامة فيجزيكم بأعمالكم. َّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ حيث حرف بدل على الموضع، وفيه ثلاث لغات: بالياء وحرف الثاء وهي لغة قريش، وقراءة العامّة، واختلفوا في وضع رفعها فقيل: هو مبني على الضم مثل: منذ وقط، وقيل: رفع على الغاية كقوله لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ «2» . وحيثَ: بالياء ونصب الثاء وهي قراءة عبيد بن عمير. قال الكسائي: إنّما نصب بسبب الياء لأنّها ساكنة وإذا اجتمع ساكنان في حرف حركوا الثاني إلى الفتح لأنّه أخف الحركات مثل: ليت وكيف. وحوث: بالواو والضم وهي لغة ابن عمر. يروى إنّه سئل أين يضع المصلّى يده في الصلاة، فقال: ارم بهما حوث وقعتا. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ إلى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ أيّها المؤمنون. فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ هي لام كي دخلت على أن فكتبت بالكسرة ما قبلها، وترك بعضهم همزها تخفيفا، والحجة فعلة من الحج وهو الفصل، ومنه المحجة وهي الطريق الواضح المسلوك لأنّه مقصود، ويقال: للمخاصمة محاجة لقصد كلّ واحد من الخصمين إلى إقامة بينته، وإبطال ما في يد صاحبه. واختلفوا في تأويل هذه الآية ووجه قوله إِلَّا فقال بعض أهل التأويل: ومعنى الآية حوّلت القبلة إلى الكعبة لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إذا صلّيتم إليها فيحتجّون عليكم ويقولون: لم تركتم التوجه إلى الكعبة وتوجهتم إلى غيرها لولا إنّه ليست لكم قبلة؟
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم قريش واليهود وأمّا قريش فتقول إنّما رجع إلى الكعبة لأنّه عليم أنّها قبلة آبائه وهي الحقّ وكذا يرجع إلى ديننا ويعلم أنّه الحقّ، وأمّا اليهود فإنّهم يقولون لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بأنّه حق إلّا إنّه إنّما يفعل برأيه فيزعم إنّه أمر به، وهذا القول اختيار المفضّل بن سلمة الضبي وهو قول صحيح مرضي. وقال قوم: معنى الآية لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ يعني لأهل الكتاب عليكم حُجَّةٌ وكانت حجّتهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في صلاتهم نحو بيت المقدّس إنّهم كانوا يقولون: ما درى محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتّى هديناهم نحن، وقولهم: يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا فهذه الحجّة التي كانوا يحتجّون بها على المؤمنين على وجه الخصومة والتمويه بها على الجّهال من المشركين ثمّ قال إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم مشركوا مكّة وحجّتهم إنّهم قالوا: لمّا صرفت القبلة إلى الكعبة أنّ محمّدا قد تحيّر في دينه فتوجّه إلى قبلتنا وعلم إنّا أهدى سبيلا منه وانّه لا يستغني عنّا ويوشك أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والربيع والسّدي واختيار محمد بن جرير. وعلى هذين القولين إلّا استثناء صحيح على وجه نحو قولك: ما سافر أحد من النّاس إلّا أخوك فهو إثبات للأخ من السفر، وما هو منفي عن كلّ أحد من النّاس، وكذلك قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا من قريش نفي عن أن يكون لأحد حجة قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بسبب تحولهم إلى الكعبة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا من قريش فإن لهم قبلهم حجة لما ذكرنا. ومعنى الحجة في هذين القولين: الخصومة والجدل، والدعوى بالباطل كقوله لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ «1» : أي لا خصومة، وقوله أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ «2» ولِيُحَاجُّوكُمْ وتُحَاجُّونَ وحاجَجْتُمْ كلّها بمعنى المجادلة. والمخاصمة لا بمعنى الدليل والبرهان، وموضع الّذين خفض كأنه قال: إلّا للذين ظلموا. فلما سقطت اللام حلّت (الّذين) محلها قاله الكسائي. قال الفراء: موضعه نصب بالاستثناء، وإنّما [......] «3» منهم ردّ إلى لفظ الناس لأنّه عام، وإن كان كلّ واحد منهم غير الآخر والله أعلم، وقال بعضهم: هو استثناء منقطع من الكلام الأول ومعناه إلّا يكون للنّاس كلّهم عليكم حجة اللهمّ إلّا الّذين ظلموا فإنّهم يحاجونكم في الباطل ويجادلونكم بالظلم، وهذا كما يقول للرجل: النّاس كلّهم لك سامرون إلّا الظالم لك: يعني لا [......] «4» ذلك بتركه حمدك لعداوته لك، وكقولك للرجل: مالك عندي حق
إلّا أن تظلم، وما لك حجة إلّا الباطل، والباطل لا يكون حجّة، وهذا استثناء من غير الحسن. كقول القائل: ليس في الدّار أحد إلّا الوحش. كقول النابغة: وما بالرّبع من أحد إلّا وأرى لأيا ما ... أمنّها وننوي كالحوض بالمظلومة الجلد وهذا قول الفراء والمؤرخ. وقال أبو روق: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ يعني اليهود عليكم حجة وذلك إنّهم كانوا قد عرفوا إنّ الكعبة قبلة إبراهيم وقد كانوا وجدوا في التوراة أنّ محمّدا سيحوّل إليها. فحوّله الله إليها لئلا يكون لهم حجة فيحتجون. بأن هذا النبيّ الّذى نجده في كتابنا سيحوّل إليها ولم تحوّل أنت فلمّا حوّل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذهبت حجّتهم ثمّ قال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم يعني إلّا أن يظلموكم فيكتموا ما عرفوا. وقال الأخفش: معناه لكفى الّذي ظلموا ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ يعني: لكن يتبعون الظّن، قوله: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ «1» يعني لكن تبتغى وجه ربّك فيكون منفردا من الكلام الأوّل. وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة إنّه قال: ليس موضع إلّا هاهنا موضع الاستثناء لأنّه لا يكون للظالم حجّة إنّما هو في موضع واو العطف كأنّه قال: ولا الّذين ظلموا يعني والّذين ظلموا لا يكون لهم أيضا حجّة. وأنشد المفضل: ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلّا دار مروانا «2» وأنشد أيضا: وكلّ أخ مفارقة أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان يعني والفرقدان أيضا متفرقان وأنشد الأخفش: وارى لها دارا بأغدرة السيدان ... لم يدرس لها رسم إلّا رمادا هامدا دفعت ... عنه الرياح خوالد سحم «3» أي: وأرى دارا ورمادا، يؤيّد هذا القول ما روى أبو بكر بن مجاهد عن بعضهم إنّه قرأ
بعضهم: (إلى الّذين ظلموا) مخفّفا يعني مع الّذين ظلموا. ومعنى الآية: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ، يعني اليهود عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ في أمر الكعبة حيث لا يستقبلونها وهي قبلة إبراهيم فيقولون لكم تزعمون إنّكم على دين إبراهيم ولم تستقبلوا قبلته ولا للذين ظلموا وهم مشركوا مكّة لأنّهم قالوا: إنّ الكعبة قبلة جدّنا إبراهيم فما بال محمّد تحوّل عنها فلا يصلّي إليها ويصلّي إلى قبلة اليهود. وقال قطرب: معناها إلّا على الّذين ظلموا فيكون ردّه على الكاف والميم أي إلّا على الّذين ظلموا فإنّ عليهم الحجّة فحذف حرف الجر وهذا إختيار أبي منصور الأزهري. قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يحكيها عنه وحكى محمّد بن جرير عن بعضهم إنّه قال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا هاهنا ناس من العرب كانوا يهودا ونصارى وكانوا يحتجّون على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأمّا سائر العرب فلم يكن لهم حجّة وكانت حجّة من احتجّ أيضا داحضة باطلة لأنّك تقول لمن تريد أن تكسر حجّته عليه: أنّ لك عليّ حجّة ولكن منكسرة إنك لتحتجّ بلا حجّة وحجّتك ضعيفة، فمعنى الآية: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ من أهل الكتاب فإنّ لهم عليكم حجّة واهية. فَلا تَخْشَوْهُمْ في انصرافكم إلى الكعبة وفي تظاهرهم عليكم في المحاجة والمجاوبة فانّي وليّكم أظهركم عليهم بالحجّة والنصرة. وَاخْشَوْنِي في تركها ومخالفتها. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عليكم عطف على قوله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ولكن أتمّ نعمتي بهدايتي ايّاكم إلى قبلة إبراهيم فتتمّ لكم الملّة الحنيفيّة وقال علي (كرّم الله وجهه) : تمام النعمة: الموت على الإسلام ، وروي عنه أيضا إنّه قال: النّعم ستة: الإسلام والقرآن ومحمّد والستر والعافية والغنى ممّا في أيدي النّاس. وَلَعَلَّكُمْ في لعلّ ست لغات: علّ ولعلّ ولعنّ وعنّ ولعّا. ولها ستة أوجه هي من الله عزّ وجلّ واجب، ومن النّاس على معاني قد تكون بمعنى الاستفهام كقول القائل: لعلّك فعلت ذلك مستفهما. وتكون بمعنى الظّن كقول القائل: قدم فلان فردّ عليه الرّاد: لعلّ ذلك. بمعنى أظنّ وأرى ذلك. وتكون بمعنى الإيجاب بمنزلة ما أخلقه كقوله: قد وجبت الصّلاة فيرد الرّاد: لعلّ ذلك أي ما أخلقه. وأنشد الفرّاء:
لعلّ المنايا مرّة ستعود ... وآخر عهد الزائرين جديد وتكون بمعنى الترجّي والتمنّي كقولك: لعلّ الله أن يرزقني مالا، ولعلّني أحجّ. وأنشد الفرّاء: لعلّي في هدى أفي وجودي ... وتقطيعي التنوقة واختيالي سيوشك أن يتيح إلى كريم ... ينالك بالذّرى قبل السؤال ويكون بمعنى عسى تكون ما يراد ولا يكون كقوله: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ «1» . أي عسى أبلغ. وقال أبو داود: فأبلوني بليتكم لعلّي ... أصالحكم واستدرج نويا «2» أي نواي ويكون بمعنى كي على الجزاء كقوله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ بمعنى لكي يفقهوا ونظائرها كثيرة وقوله: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا من الضّلالة. قال الربيع: خاصم يهودي أبا العالية فقال: إنّ موسى كان يصلّي إلى صخرة بيت المقدس، فقال أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام فقال لي: بيني وبينك مسجد صالح فإنه نحته من الجبل فقال أبو العالية: قد صلّيت فيه وقبلته إلى البيت الحرام. قال: فأخبر أبو العالية إنّه مرّ على مسجد ذي القرنين وقبلته الكعبة «3» . كَما أَرْسَلْنا هنا الكاف للتشبيه ويحتاج إلى شيء يرجع إليه واختلفوا فيه فقال بعضهم: هو راجع إلى ما قبلها والكاف من ما قبلها تقديره: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي كما أرسلت فيكم رسولا فيكون إرسال الرّسول شرطا للخشية مزيدا بإتمام النّعمة. وقيل: معناه وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَما أَرْسَلْنا. وقال محمّد بن جرير: إنّ إبراهيم دعا بدعوتين فقال رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «4» فهذه الدعوة الأولى. والثانية قوله رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ «5» فبعث الله الرسول وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم ووعد في هذه الآية أن يجيب الدّعوة الثانية أن يجعل من ذرّيته أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ فمعنى الآية: وَلِأُتِمَ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ: ببيان شرائع ملّتكم الحنيفية وأهديكم لدين خليلي إبراهيم. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يعني فكما أجبت دعوته بانبعاث الرّسول كذلك أجبت دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وهذا على قول من يجعله متصلا بما قبلها وجوابا للآية الأولى وهو إختيار الفرّاء. وقال بعضهم: إنّها متعلّقة بما بعدها وهو قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ تقديرها: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ ... فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فيكون جزأ له جوابان مقدّم ومؤخّر كما تقول: إذا جاءك فلان فآته ترضه. فقوله: فآته وترضه جوابان لقوله إذا جاءك وكقولك: إنّ تأتني أحسن إليك أكرمك وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل والأخفش وابن كيسان واختيار الزجّاج، وهذه الآية خطاب للعرب وأهل مكّة يعني: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ يا معشر العرب رَسُولًا مِنْكُمْ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا يعني القرآن. وَيُزَكِّيكُمْ أي يعلّمون من الأحكام وشرائع الإسلام. فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ قال ابن عبّاس: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي بيانه قوله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا «1» الآية. سعيد بن جبير: فَاذْكُرُونِي بطاعتي أَذْكُرْكُمْ بمغفرتي بيانه وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ «2» . فضيل بن عياض: فَاذْكُرُونِي بطاعتي أَذْكُرْكُمْ بثوابي بيانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ «3» وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاع الله فقد ذكر الله وإنّ قلّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن» [6] «4» . وقيل: اذكروني بالتوحيد والإيمان أَذْكُرْكُمْ بالجنّات والدرجات بيانه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا ... إلى جَنَّاتٍ «5» . وقال ابو بكر الصدّيق رضي الله عنه: كفى بالتوحيد عبادة وكفى بالجنّة ثوابا. ابن كيسان: اذكروني بالشكر أَذْكُرْكُمْ بالزّيادة: بيانه قوله لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «6» . وقيل: اذكروني على ظهر الأرض أَذْكُرْكُمْ في بطنها. قال الأصفى: رأيت أعرابيا واقفا يوم عرفة بالموقف وهو يقول: ضجّت إليك الأصوات
بضروب اللّغات يسئلونك الحاجات وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلى إذا نسيني أهل الدّنيا. وقيل: اذكروني بالطّاعات أَذْكُرْكُمْ بالمعافاة ودليله مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «1» . وقيل: اذكروني في الخلاء والملاء أَذْكُرْكُمْ في الجلاء والملأ بيانه ما روي في بعض الكتب إنّ الله قال: أنا عند من عبدني، فليظن بي ما شاء، وأنا معه إذا ذكرني، فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في الملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن تقرّب إليّ شبرا تقرّبت له ذراعا، ومن تقرّب إليّ ذراعا، تقرّبت إليه باعا ومن أتاني مشيا أتيته هرولة، ومن أتاني بقراب الأرض فضّة أتيته بمثلها مغفرة بعد أن لا يشرك بي شيئا. وقيل: اذكروني في النّعمة والرّخاء أَذْكُرْكُمْ في الشّدة والبلاء بيانه قوله فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «2» . قال سلمان الفارسي: إنّ العبد إذا كان له دعاء في السّر فإذا انزل به البلاء قالت الملائكة: عبدك نزل به البلاء فيشفعون له فينجيه الله، فإذا لم يكن له دعاء قالوا: الآن فلا تشفعون له. بيانه لفظة فرعون آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ «3» . وقيل: اذكروني بالتسليم والتفويض أَذْكُرْكُمْ بأصلح الاختبار. بيانه وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. وقيل: اذكروني بالشوق والمحبّة أذكركم بالوصل والقربة. وقيل: اذكروني بالحمد والثناء أذكركم بالجزاء، وقيل: اذكروني بالأوبة أذكركم بغفران الحوبة، وقيل: اذكروني بالدّعاء أذكركم بالعطاء، اذكروني بالسؤال أذكركم بالنّوال، اذكروني بلا غفلة أذكركم بلا مهلة، اذكروني بالنّدم أذكركم بالكرم، اذكروني بالمعذرة أذكركم بالمغفرة، اذكروني بالإرادة أذكركم بالإفادة، اذكروني بالتنصّل أذكركم بالتفضل اذكروني بالإخلاص أذكركم بالخلاص، اذكروني بالقلوب أذكركم بكشف الكروب، اذكروني بلا نسيان أذكركم بالأمان، اذكروني بالإفتقار أذكركم بالاقتدار، اذكروني بالأعدام والاستغفار أذكركم بالرّحمة والاغتفار، اذكروني بالإيمان أذكركم بالجنان، اذكروني بالإسلام أذكركم بالإكرام، اذكروني بالقلب أذكركم برفع التعجب، اذكروني ذكرا فانيا أذكركم ذكرا باقيا، اذكروني بالابتهال أذكركم بالإفضال، اذكروني بالظل أذكركم بعفو الزلل، اذكروني بالاعتراف أذكركم بمحو الاقتراف، اذكروني بصفاء السّر أذكركم بخالص البرّ، اذكروني بالصّدق أذكركم بالرّفق، اذكروني بالصفو
[سورة البقرة (2) : الآيات 153 إلى 157]
أذكركم بالعفو، اذكروني بالتعظيم أذكركم بالتكريم، اذكروني بالتكبير أذكركم بالتطهير، اذكروني بالتمجيد أذكركم بالمزيد، اذكروني بالمناجاة أذكركم بالنجاة، اذكروني بترك الجفاء أذكركم بحفظ الوفاء، اذكروني بترك الخطأ أذكركم بحفظ الوفاء، اذكروني بالجهد بالخلقة أذكركم بإتمام النعمة، اذكروني من حيث أنتم أذكركم من حيث أنا وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. الربيع في هذه الآية: إنّ الله ذاكر من ذكره، وزائدا من شكره، ومعذّب من كفره. وقال السّدي: فيها ليس من عبد يذكر الله إلّا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلّا ذكره بالرّحمة، ولا يذكره كافر إلّا يذكره بعذاب. وقال سفيان بن عيينة: بلغنا إنّ الله عزّ وجلّ قال: أعطيت عبادي ما لو أعطيته جبرئيل وميكائيل كنت قد أجزلت لهما قلت: اذكروني أَذْكُرْكُمْ، وقلت لموسى: قل للظلمة لا يذكروني فإني أذكر من ذكرني، فإنّ ذكري إياهم أن العنهم. وقال أبو عثمان النهدي: إنّي لأعلم حين يذكرني ربّي عزّ وجلّ، قيل: كيف ذلك؟ قال: إنّ الله عزّ وجلّ قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وإذا ذكرت الله تعالى ذكرني. وَاشْكُرُوا لِي «1» نعمتي. وَلا تَكْفُرُونِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالعون والنصرة. وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ نزلت في قتلى بدر مع المسلمين، وكانوا أربعة عشر رجلا منهم ثمانية من الأنصار وستّة من المهاجرين وذلك إنّ النّاس كانوا يقولون: الرّجل يقتل في سبيل الله: مات فلان، وذهب منه نعيم الدّنيا ولذّتها، فأنزل الله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ أي هم أموات بل إنهم أحياء. بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ إنّهم كذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أرواح الشهداء في
أجواف طير خضر تسرح في ثمار الجنّة، وتشرب من أنهارها، وتأوي بالليل إلى قناديل من نور معلقة تحت العرش» [7] «1» . وقال الحسن: إن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الرّوح والفرح، كما تعرض النّار على أرواح آل فرعون غداة وعشيا فيصل إليهم الوجع. وقال أبو سنان السّلمي: أرواح الشهداء في قباب بيض من باب الجنّة في كلّ قبّة زوجتان، رزقهم في كلّ يوم طلعت فيه الشمس نور وحوت، فأما النور: ففيه طعم كلّ ثمرة في الجنة وامّا الحوت: ففيه طعم كلّ شراب في الجنّة. قال قتادة في هذه الآية: كنّا نحدّث إنّ أرواح الشهداء تعارف في طير بيض يأكلن من ثمار الجنّة وإنّ مساكنهم السدرة المنتهى، وإنّ للمجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ ثلاث خصال: من قتل في سبيل الله منهم صار حيّا مرزوقا، ومن غلب أتاه الله أجرا عظيما، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا. عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه يكفّر عنه كل خطيئة ويرى مقعده من الجنّة ويزوّج من الحور العين ويؤمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر ويحلّى بحلية الإيمان» [8] «2» . وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ولنختبرنّكم يا أمّة محمّد. بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ الآية، قال ابن عبّاس: الخوف يعني خوف العدو، والجوع يعني المجاعة والقحط. وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ يعني الخسران والنّقصان في المال، وهلاك المواشي وَالْأَنْفُسِ يعني الموت والقتل، وقيل: المرض وقيل: الشيب. وَالثَّمَراتِ يعني [الحوائج] ، وأن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج، وقال الشافعي: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ يعني خوف الله عزّ وجلّ وَالْجُوعِ صيام شهر رمضان، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ أداء الزّكاة والصّدقات، وَالْأَنْفُسِ الأمراض، وَالثَّمَراتِ موت الأولاد لأن ولد الرجل ثمرة قلبه يدلّ عليه ما روى عبد الله بن المبارك عن حماد بن سلمه عن أبي سنان قال: دفنت ابني سنانا، وأبو طلحه الخولاني على شفير القبر جالس، فلمّا أردت الخروج أخذ بيدي فانشطني وقال: ألا أبشّرك يا أبا سنان؟
قلت: بلى. قال: حدّثنا الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري: إنّ رسول صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مات ولد العبد قال الله عزّ وجلّ للملائكة أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله عزّ وجلّ: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسمّوه بيت الحمد» [9] «1» . وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على البلايا والرّزايا ثمّ نعتهم فقال: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ عبيدا تجمع وملكا. وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ في الآخرة أمال نصير النّون في قوله إِنَّا لِلَّهِ، فأمال قتيبة النون واللام جميعا فخمها الباقون، وقال أبو بكر الورّاق: إِنَّا لِلَّهِ: اقرار منّا له بالملك وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ: في الآخرة إقرار على أنفسنا بالهلاك. قال عكرمة: طفى سراج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فقيل: يا رسول الله أمصيبة هي؟ قال: نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة» [10] «2» . قال سعيد بن جبير: ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة يعني الاسترجاع ولو أعطي لأحد لأعطي يعقوب عليه السّلام ألّا تسمع إلى قوله في فقد يوسف يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «3» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» [11] «4» . وعن فاطمة بنت الحسين عن أمّها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا وان تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثل يوم أصيب» [12] «5» . أُولئِكَ أي أهل هذه الصفة. عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ قال ابن عبّاس: مغفرة مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ونعمة. ابن كيسان: الصلوات هاهنا الثناء والرّحمة والتزكية وإنّما ذكر الصلاة والرحمة ومعناهما
[سورة البقرة (2) : الآيات 158 إلى 162]
واحد لاختلاف اللفظين كقول الحطيئة: ألا حبّذا هند وأرض بها هند ... وهند أتى من دونها النأي والبعد وجمع الصلوات لأنّه عنى بها إنّها رحمة بعد رحمة. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ إلى الاسترجاع، وقيل: إلى الجنّة والثواب. وقيل: إلى الحقّ والصّواب وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال: نعم العدلان ونعم العلاوة. [سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 162] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الصفا جمع الصّفاة وهي الصخرة الصلبة الملساء، قال امرؤ القيس: لها كفل كصفا المسيل ... أبرز عنها جحاف مضر «1» يقال: صفاة وصفا مثل حصاة وحصا وقطاة وقطا ونواة ونوى، وقيل: إن الصّفا واحد وتثنيته صفوان مثل عصا وعصوان وجمعه أصفاء مثل رجا وأرجاء، وصفا وصفي مثل عصا وعصي، قال الراجز: كأن متنيه من النفي ... مواقع الطير على الصّفي «2» والمروة من الحجارة ما لان وصغر. قال أبو ذؤيب الهذلي: حتّى كأنّي للحوادث مروة ... بصفا المشرق كل يوم تقرع أي صخرة رخوة صغيرة، وجمع المروة مروان وجمعها للكبير مرو مثل ثمرة وثمرات وثمر وحمرة وحمرات وحمرا. قال الأعشى ميمون بن قيس يصف ناقته: وترى الأرض خفا زائلا ... فإذا ما صادف المرو رضخ «3» وإنّما عنى الله تعالى بهما الجبلين المعروفين بمكّة دون سائر الصّفا والمروة فلذلك أدخل
فيهما الألف واللام، وشعائر الله: اعلام دينه واحدها شعيرة وكلّ كان معلّما لقربان يتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ من دعاء وصلاة من ذبيحة وأداء فرض وغير ذلك فهو شعيرة. قال الكميت بن زيد: نقتلهم جيلا فجيلا تراهم ... شعائر قربان بهم يتقرب وأصلها من الأشعار وهي الأعلام على الشيء. وفي الحديث إنّ قائلا قال: حين شجّ عمر في الحجّ: أشعر أمير المؤمنين دما، وأراد بالشعائر هاهنا مناسك الحج التي جعلها الله عزّ وجلّ إعلاما لطاعته، وقال مجاهد: يعني من الخبر الّذي أخبركم عنه وأصل الكلمة على هذا القول من شعرت أي: علمت كأنّه أعلام لله عباده أمر الصفا والمروة. وتقدير الآية: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فترك ذكر الطّواف واكتفى بذكرهما [وذلك] معلوما عند المخاطبين. فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أصل الحجّ في اللغة: القصد. قال الشاعر: كراهب يحجّ بيت المقدس ... ذي موحد ومنقل [وبرنس] «1» وقال محمّد بن جرير: من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج. وقال المحمل السعدي: واشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون بيت الزبرقان المزعفرا «2» أي يكثرون التردد إليه لوده ورئاسته. وقيل للحاج: حاج لأنّه يأتي البيت من عرفة ثمّ يعود إليه للطواف يوم النّحر ثمّ ينصرف عنه إلى منى ثمّ يعود إليه لطوف الصدر. فبتكرار العود إليه مرة بعد أخرى قيل له حاج: أَوِ اعْتَمَرَ من العمرة وهي الزيارة. قال العجاج: لقد سما ابن معمر حين اعتمر ... معزى بعيدا من بعيد وضبر أي من قصده وزاره، وقال المفضل بن سلمة: أَوِ اعْتَمَرَ أي حلّ بمكّة بعد الطواف والسّعي ففعل ما يفعل الحلال.
والعمرة: لإقامة الموضع والعمارة: إصلاحه ومرمّته. وعن عبد الله بن عامر بن رفيعة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تابعوا بين الحجّ والعمرة فإن متابعة ما بينهما يزيدان في العمر والرّزق وينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد» [13] . فَلا جُناحَ عَلَيْهِ الجناح الإثم وأصله من جنح إذا مال عن القصد. يقال: جنح اللّيل إذا مال بظلمته. وجنحت السفينة: إذا مالت إلى الأرض. قال الله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ومنه جناح الطائر. أَنْ يَطَّوَّفَ أي يدور وأصله يتطوف فأدغمت التاء في الطّاء. وقرأ أبو حيوة الشّامي: يَطُوفَ مخفّفة الطاء واختلفوا في وجه الآية وتأويلها وسبب تنزيلها. قال أنس بن مالك: كنّا نكره الطواف بين الصفا والمروة لأنهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية، فتركناه في الإسلام. فأنزل الله هذه الآية. وقال عمر بن حبيش: سألت ابن عمر عن هذه الآية فقال: انطلق إلى ابن عبّاس فإنّه أعلم من بقي بما أنزل على محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فأتيته فسألته فقال ابن عبّاس: كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة، وإنّما ذكروا الصفا لتذكير الأساف وذكروا المروة لتأنيث نائلة. وزعم أهل الكتاب إنّهما زنيا في الحرم فمسخهما الله عزّ وجلّ حجرين فوضعهما على الصّفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدّة عبدا دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى السّدي عن أبي مالك عن ابن عبّاس قال: كان في الجاهلية شياطين تعزف بالليل بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة فلمّا ظهر الإسلام قال المسلمون لرسول الله لا تطوفنّ بين الصفا والمروة فإنّه شرك كنّا نصنعه في الجاهلية فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . قتادة: كان ناس من تهامة في الجاهلية يسعون بين الصفا والمروة فلمّا جاء الإسلام تحوّبوا السعي بينهما كما كانوا يتحوّبونه في الجاهلية فأنزل الله تعالى هذه الآية. قتادة: كان [حي من تهامة لا يسعون بينهما] فأخبرهم إنّها كانت سنّة إبراهيم
وإسماعيل عليه السّلام «1» . وروى الزهري عن عروة بن الزبير قال: قلت لعائشة ما الصفا والمروة؟ قالت: قول الله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الآية، والله ما على أحد جناح ألّا يطوف بين الصفا والمروة فقالت: عائشة ليس ما قلت يا ابن اختي إن هذه لو كانت على ما أولها ما كان عليه جناح أن لا يطوف بهما، ولكنّها إنّما نزلت في الأنصار وذلك وأنهم كانوا قبل أن يسلموا يصلون لمناة الطاغية وهي صنم من مكّة والمدينة بالمشلل، وكان من أهل لها تخرّج أن يطوف بين الصفا والمروة. فلمّا أسلموا سألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك. فقالوا: يا رسول الله إنّا كنا لا نطوف بين الصّفا والمروة لأنّهما صنمان. فهل علينا حرج أن نطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. ثمّ قالت عائشة (رضي الله عنها) قد سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطواف بينهما. فليس لأحد تركه. قال الزّهري: قد ذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرّحمن بن الحرث بن هشام. فقال: هذا العلم. وقال مقاتل بن حيّان: إنّ النّاس كانوا قد تركوا الطّواف بين الصفا والمروة، غير الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وعامر بن صعصعة سموا حمسا لتشدّدهم في دينهم والحماسة الشّجاعة والصّلابة، فسألت الحمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن السعي بين الصفا والمروة أمن شعائر الله أم لا؟، فإنّه لا يطوف بهما غيرنا فنزلت هذه الآية. واختلف العلماء في هذه الآية فقال الشافعي ومالك: الطواف بين الصفا والمروة فرض واحد ومن تركه لزمه القضاء والإعادة فلا تجزيه فدية ولا شيء إلّا العود إلى مكّة والطّواف بينهما كما لا يجزي تارك طواف الافاضة إلّا قضاؤه بعينه. وقالا: هما طوافان واجبان أمر بهما أحدهما بالبيت والأخر بين الصفا والمروة وحكمها واحد. وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد: إن عاد تارك الطواف بينهما لقضائه فحسن وان لم يعد فعليه دم ورأوا أنّ حكم الطواف منهما حكم رمي بعض الجمرات والوقوف بالمعشر وطواف الصدر وما أشبه ذلك ممّا يجزي تاركه بتركه فدية ولا يلزمه العود لقضائه بعينه. وقال أنس بن مالك وعبد الله بن الزّبير ومجاهد وعطاء: الطواف بهما تطوّع إن فعله فاعل يكن محسنا، وإن تركه تارك لم يلزمه بتركه شيء، واحتج من لم يوجب السّعي والطواف بينهما
بقراءة ابن عبّاس وأنس وشهر بن حوشب وابن سيرين: فلا جناح عليه أن لا يطّوف بهما بإثبات لا، وكذلك هو في مصحف عبد الله والجواب عنه أن (لا) : زيادة صلة كقوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1» ، وكقوله أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «2» ، وفَلا أُقْسِمُ «3» ، وقال الشاعر: فلا ألوم البيض ألّا تسخرا ... لمّا رأين الشمط القفندرا فأركان رسم المصحف كذلك لم يكن فيه [تمجّح] حجة مع احتمال الكلام ما وصفناه فكيف وهو خلاف رسوم الشّيخ الإمام ومصاحف الإسلام. ثمّ الدليل على إنّ السّعي بينهما واجب وعلى تاركه إعادة الحج ناسيا تركه أو عامدا بظاهر الأخبار. إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك وأمر به. روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر قال: لما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الصّفا في حجّته قال: «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ إبدءوا بما بدء الله به فبدأ بالصّفا فرقى عليه حتّى رأى البيت ثمّ مشى حتّى إذا تصوّبت قدماه في الوادي سعى» [14] . وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لعمري ما حجّ من لم يسع بين الصفا والمروة، مفروض في كتاب الله والسنّة، قال الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيّها النّاس كتب عليكم السّعي فاسعوا» [15] . قال كليب: رأى ابن عبّاس قوما يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمّكم أمّ إسماعيل انطلقت حين عطش ابنها وجاع فوجدت الصفا أقرب جبل إلى الأرض فقامت عليه ثمّ استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الوادي، ورفعت طرف درعها ثمّ سعت سعي الإنسان المجهود حتّى جاوزت الوادي ثمّ أتت المروة وقامت عليها تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرّات. وقال محمّد: حجّ موسى صلّى الله عليه وسلّم على جبل أحمر وعليه عباءتان قطرانيتان فطاف بالبيت ثمّ صعد الصّفا ودعا ثمّ هبط إلى السعي وهو ملبّي فقال: لبيك اللهم لبيك، فقال الله عزّ وجلّ لبّيك عبدي وأنا معك، فخرّ موسى ساجدا. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً قرأ حمزة والكسائي تَطَّوْعَ بالتّاء وتشديد الطّاء وجزم العين وكذلك التاء في بمعنى يتطوع واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبد الله ومن تطوع بالتّاء. وقرأ الباقون: تَطَوَّعَ بالتاء وضعف العين على المضي.
قال مجاهد: فمن تطوّع بالطواف بالصّفا والمروة، وقال: تطوّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان من النبيّين. وقال مقاتل والكلبي: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً زاد في الطواف ففيه الواجب. وقال ابن زيد: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فاعتمر، والحج فريضة والعمرة تطوّع. وقيل: فمن تطوّع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه. وقال الحسن وغيره: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً يعني به للدّين كلّه. أيّ فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة أو نوع من أنواع الطّاعات كلّها. فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ مجاز بعمله. عَلِيمٌ بنيّة من يشكر اليسير ويعطي الكثير ويغفر الكبير وأصل الشكر من قول العرب: دابّة شكور إذا كان يظهر عليها من السمن فوق ما يعلف. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ يعني الرجم والحدود والأحكام والحلال والحرام. وَالْهُدى يعني وأمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم ونعته. مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ لبني إسرائيل. فِي الْكِتابِ في التّوراة نزلت في علماء اليهود ورؤسائهم كتموا صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم. أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أصل اللّعن في اللغة الطّرد ولعن الله إبليس بطرده إيّاه حين قال له: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ «1» . قال الشّماخ: وذكر ما ورده: ذعرت به القطا وبقيت فيه ... مقام الذّئب كالرّجل اللّعين وقال النّابغة: فبتّ كانّني خرج لعين ... نفاه النّاس أو أدنف طعين فمعنى قولنا: لعنه الله: أي طرده وأبعده وأصل اللّعنة ما ذكرنا ثمّ كثر ذلك حتّى صار قولا.
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي يسألون الله أن يلعنهم ويقولون: اللهمّ العنهم واختلف المفسّرون في هؤلاء اللّاعنين. قال قتادة: هم الملائكة. عطاء: الجنّ والأنس. الحسن: عباد الله أجمعون. ابن عبّاس: كلّ شيء إلّا الجنّ والأنس. الضحّاك: إن الكافر إذا وضع في حفرته قيل له من ربّك؟ ومن نبيّك؟ وما دينك؟ فيقول: لا أدري. فيقول له: لا دريت، ثمّ يضربه ضربة بمطرق فيصيح صيحة يسمعها كلّ شيء إلّا الثّقلان الأنس والجنّ فلا يسمع صوته شيء إلّا لعنه فذلك قوله وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وضع في قبره أتته دابّة كأنّ عينيها قدران من نحاس معها عمود من حديد فتضربه ضربة بين كتفيه فيصيح فلا يسمع أحد صوته إلّا لعنه ولا يبقى شيء إلّا سمع صوته غير الثقلين. ابن مسعود: هو الرّجل يلعن صاحبه فترتفع اللّعنة في السماء ثمّ تنحدر فلا تجد صاحبها الّذي قيلت له أهلا لذلك فترجع إلى الّذي يحكم بها فلا تجده لها أهلا فتنطلق فتقع على اليهود فهو قوله عزّ وجلّ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ. فمن تاب منهم ارتفعت اللّعنة عنه وكانت فيمن لقي من اليهود. مجاهد: اللَّاعِنُونَ البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أسنت السنّة وامسك المطر قالت: هذا بشؤم ذنوب بني آدم. عكرمة: دوابّ الأرض وهوامّها حتّى الخنافس والعقارب يقولون منعنا القطر بذنوب بني آدم وإنّما قال لهذه الأشياء اللَّاعِنُونَ ولم يقل اللاعنات لأن من شأن العرب إذا وصفت شيئا من الجمادات والبهائم. وغيرها سوى النّاس بما هو صفة للنّاس من فعل أو قول لن يخرجوه على مذهب بني آدم وجمعهم كقولهم وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1» ولم يقل ساجدات، وقوله للأصنام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ «2» ، وقوله يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «3» ، وقوله وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا «4» الآية ثمّ استثنى فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 163 إلى 165]
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من الكفر. وَأَصْلَحُوا الأعمال فيما بينهم وبين ربّهم. وَبَيَّنُوا صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم. فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أتجاوز عنهم وأقبل توبتهم. وَأَنَا التَّوَّابُ الرجّاع بقلوب عبادي المنصرفة عني. الرَّحِيمُ بهم بعد إقبالهم عليّ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ واو حال. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ أي ولعنة الملائكة. وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قتادة والربيع: يعني النّاس أجمعين: المؤمنين. أبو العالية: هذا يوم القيامة يوقّف الكافر فيلعنه الله عزّ وجلّ ثمّ تلعنه الملائكة ثمّ يلعنه النّاس أجمعين. السّدي: لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما لعن الله الظالم إلّا وجبت تلك اللعنة على الكافر لأنّه ظالم فكل أحد من الخلق يلعنه. خالِدِينَ فِيها مقيمين في اللعنة والنّار. لا يُخَفَّفُ لا يرفّه عنهم العذاب. وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون ويؤجلون. وقال أبو العالية، لا ينظرون: فيعذرون كقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 165] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس: نزلت في كفّار قريش قالوا: يا محمّد صف وأنسب لنا ربّك فأنزل الله تعالى سورة الإخلاص وهذه الآية.
جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: كان للمشركين في الكعبة ثلاثمائة وستون صنما يعبدون من دون الله إفكا وشرّا فبيّن الله تعالى لهم إنّه واحد فأنزل: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. سعيد عن أبي الضحى: قال: لمّا نزلت هذه الآية عجب المشركون وقالوا: إنّ محمّدا يقول إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فليأتنا بآية إن كان من الصّادقين فأنزل الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء والاختلاف: الافتعال من خلف يخلف خلوفا يعني إنّ كل واحد منهما إذا ذهب أحدهما جاء آخر خلافه أي: بعده، نظير قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً «1» . عطاء وابن كيسان: أراد في اختلاف الليل والنّهار في اللّون والطّول والقصر والنّور والظلمة والزيادة والنقصان يكون أحدهما على الآخر، والليل جمع ليلة مثل تمرة وتمر ونحلة ونحل، واللّيالي جمع الجمع والنّهار واحد وجمعه نهر. قال الشّاعر: لولا الثّريدان هلكنا بالضّمر ... ثريد ليل وثريد بالنّهر «2» وقدّم الليل على النّهار بالذكر لأنّه الأصل والأقدام قال الله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «3» . خلق الله تعالى الأرض مظلمة ثمّ خلق الشمس والقمر وهذا كتقديمه الصّوامع والبيع والصلوات على المساجد. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ يعني السفن واحدة وجمعه سواء قال الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وقال في الجمع: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ يذكّر ويؤنّث قال الله تعالى: الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وقال في التأنيث الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ فالتذكير على الفظ الواحد والتأنيث على معنى الجمع. بِما يَنْفَعُ النَّاسَ يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وانواع المطلب. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني المطر. فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها بعد يبوستها وجدوبتها. وَبَثَّ نشر وفرّق. فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي يقلّبها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا.
وقيل: تصريفيها مرّة بالرحمة ومرّة بالعذاب. وقرأ حمزة والأعمش والكسائي وخلف: الرّيح بغير ألف على الواحد وقرأ الباقون: الرِّياحِ بالجمع. قال ابن عبّاس: الرّياح للرحمة والريح للعذاب، وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إذا هاجت الريح يقول: «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» [16] «1» . والرّيح يذكر ويؤنث. وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ أي الغيم المذلّل بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ سمّي سحابا لأنّه يسحب أي يسير في سرعته كأنّه يسحب: أي يجرّ. لَآياتٍ دلالات وعلامات. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيعلمون إنّ لهذه الأشياء خالقا وصانعا. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها» [17] «2» . أي لم يتفكّر فيها ولم يعتبر بها. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ يعني الأصنام المعبودة من دون الله قال أكثر المفسّرين. وقال السّدي: ساداتهم وقاداتهم الّذين كانوا يطيعونهم في معصية الله ف يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ أي كحبّ المؤمنين الله، وهذا كما يقال: بعت غلامي كبيع غلامك يعني: كبيعك غلامك. وأنشد الفرّاء: ولست مسلّما ما دمت حيّا ... على زيد كتسليم الأمير «3» أي كتسليمي على الأمير هذا قول أكثر العلماء، وقال ابن كيسان والزجّاج: تقدير الآية: يحبّونهم كحبّهم الله يعني أنّهم يسوّون بين هذه الأصنام وبين الله في المحبّة ثمّ قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ قال ابن عبّاس: أثبت وأدوم وذلك إن المشركين كانوا يعبدون صنما فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك الوثن وأقبلوا على عبادة الأحسن. عكرمة: أَشَدُّ حُبًّا في الآخرة.
قتادة: إنّ الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله عزّ وجلّ لقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1» . قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ «2» . والمؤمن لا يعرض عن الله في الضّراء والسرّاء والرّخاء والبلاء ولا يختار عليه سواه. الحسن: إنّ الكافرين عبدوا الله بالواسطة وذلك قولهم للأصنام: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «3» . وقوله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «4» . والمؤمنون يعبدونه بلا واسطة ولذلك قال عزّ من قائل: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. سعيد بن جبير: إنّ الله يأمر يوم القيامة من أحرف نفسه في الدّنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنّم مع أصنامهم فيأتون لعلمهم إنّ عذاب جهنم على الدّوام ثمّ يقول للمؤمنين بين أيدي الكافرين: إنّ كنتم أحبّائي لا تحبّون النّار فينادي مناد من تحت العرش وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ. وقيل: لأنّ حبّ المشركين لأوثانهم مشترك لأنّهم يحبّون الأنداد الكثيرة وحبّ المؤمنين لربّهم غير مشترك لأنّهم يحبّون ربّا واحدا، وقيل: لأنّ حبّهم هوائي وحبّ المؤمنين عقلي. وقيل إنّ حبّهم للأصنام بالتقليد وحبّ المؤمنين لله تعالى بالدّليل والتمييز. وقيل: لأنّ الكافرين يرون معبودهم ومصنوعهم والمؤمنون يرون الله تعالى صانعهم، وقيل: لأنّ المشركين أحبّوا الأصنام وعاينوها والمؤمنون يحبّون الله ولم يعاينوه بل آمنوا بالغيب في الغيب للغيب. وقيل: إنّما قال وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنّ الله أحبّهم أوّلا ثمّ أحبّوه ومن شهد له المعبود بالمحبّة كان محبّته أتم وأصح. قال الله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «5» . وقرأ أبو رجاء العطاردي: يَحبونهم بفتح الياء وهي لغة يقال: حببت الرجل فهو محبوب
[سورة البقرة (2) : الآيات 166 إلى 167]
قال الفرّاء أنشدني أبو تراب: أحبّ لحبّها السّودان حتّى ... حببت لحبّها سواد الكلاب وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قرأ أبو عبد الرحمن وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر وشيبه ونافع وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون وسلام ويعقوب وأيّوب وابن عبّاس ولو ترى بالتّاء: أي تبصر يا محمّد وقرأ الباقون بالياء. فمن قرأ بالتّاء فهو خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والجواب محذوف تقديرها ولو ترى: أي تبصر يا محمّد الَّذِينَ ظَلَمُوا: أشركوا. إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ لرأيت أمرا عظيما ولعلمت ما يصيرون إليه أو لتعجّبت منه، ومن قرأ بالياء فمعناه: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم عند رؤية العذاب لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أو لآمنوا أو لعلموا مضرّة الكفر ونظير هذه الآية من المحذوف الجواب قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ «1» الآية: يعني لكان هذا القرآن وهو كما يقول: لو رأيت فلانا والسّياط تأخذه. فتستغني عن الجواب لأنّ المعنى مفهوم إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ. وقرأ أبو البرخثم وابن عامر: يُرون بضم الياء على التعدي «2» ، وقرأ الآخرون بفتحها على اللزوم. أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً قرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر وشيبة وسلام ويعقوب: إنّ القوّة وإن الله بكسر الألف فيهما على الاستئناف. والكلام تام عند قوله يَرَوْنَ الْعَذابَ مع إضمار الجواب، كما ذكرنا. وقرأ الباقون: بفتحها على معنى بانّ القوّة وبانّ الله، وقيل: معناه ليروا أنّ القوّة لله. أي لأيقنوا وعاينوا. قال عطاء: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا يوم القيامة إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام لتلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبّة لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ والقدرة والملكوت والجبروت لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا قرأ مجاهد: بتقديم الفاعل على المفعول. وقرأ الباقون: بالضدّ، والمتبوعون هم الجبابرة والقادة في الشرك والشّر، والتابعون هم الأتباع والضّعفاء والسفلة قاله أكثر أهل التفسير. السّدي: هم الشّياطين يتبرءون من الأنس. وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ أي عنهم، والباء بمعنى عن. الْأَسْبابُ قال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة: يعني المودّة والوصلة التي صارت بينهم في الدّنيا، أو صارت مخالفتهم عداوة. ربيع: يعني بالأسباب. المنازل التي كانت لهم من أهل الدّنيا، ابن جريح والكلبي: يعني الأنساب والأرحام كقوله تعالى فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ «1» . السّدي: يعني الأعمال التي كانوا يعملونها في الدّنيا. بيانه قوله وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «2» وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «3» . فأهل التقوى أعطوا الأسباب أعمال وثيقة فيأخذون بها وينجون، الآخرون يعطون أسباب أعمالهم الخبيثة فتنقطع بهم أعمالهم فيذهبون إلى النّار. أبو روق: العهود التي كانت بينهم في الدنيا، وأصل السّبب كلّ شيء يتوصل به إلى شيء من ذريعة أو قرابة أو مودّة، ومنه قيل للجهاد: سبب وللطريق سبب وللسلّم سبب. قال زهير: ومن هاب أسباب المنايا ظلته ... لو رام أن يرقى السّماء بسلّم وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا يعني الأتباع.
[سورة البقرة (2) : الآيات 168 إلى 176]
لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً رجعة إلى الدّنيا. فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين. كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم. أجاب للتمني بالفعل. قال الله عزّ وجلّ كَذلِكَ أي كما أراهم العذاب كذلك. يُرِيهِمُ اللَّهُ وقيل: ليتبرأوا بعضهم من بعضهم يريهم الله أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ ندامات. عَلَيْهِمْ قيل: أراد أعمالهم الصّالحة التي ضيّعوها. قال السّدي: ترفع لهم الجنّة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فسألوا قيل: أراد أعمالهم لو أطاعوا الله فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله. ثمّ تقسم بين المؤمنين فيرثوهم فذلك حين يندمون. ربيع: أراد به أعمالهم السّيئة لم عملوها وهلّا عملوا بغيرها ممّا يرضي الله تعالى. ابن كيسان: إنّهم أشركوا بالله الأوثان رجاء أن يقرّبهم إلى الله فلمّا عذّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسّروا وندموا والحسرات جمع حسرة وكذلك كلّ اسم كان واحدة على فعله مفتوح الأوّل ساكن الثاني فإنّ جمعه على فعلات مثل ثمرة وثمرات وشهوة وشهوات فأمّا إذا كان نعتا فانّك تسكّن ثانية مثل ضخمة وضخمات وعيلة وعيلات وكذلك ما كان من الأسماء مكسور الأوّل مثل نعمة وسدرة. وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ. [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 176] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فبما حرّموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فقال: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ دخل للتبعيض لأنّه ليس كلّ ما في الأرض يمكن أكله أو يحلّ أكله حَلالًا طَيِّباً طاهرا وهما منصوبان على الحال.
وقيل: على المفعول تقديره: كلوا حلالا طيّبا كما في الأرض. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ قرأ شيبه ونافع وعاصم والأعمش وحمزة خُطْواتِ: بسكون الطّاء في جميع القرآن وهي أكثر الروايات عن أبي عمرو. وقرأ أبو جعفر وأبو مجلن وأبو عمرو في بعض الروايات والزهري وابن عامر والكسائي: بضم الخاء والطّاء. وقرأ علي وعمرو بن ميمون وسلام: بضم الخاء والطّاء وهمزة بعد الطّاء. وقرأ أبو السّماك العدوي وعبيد بن عمير: خَطَوات بفتح الخاء والطاء فمن خفّف فإنّه أبقاه على الأصل، وطلب الخفّة لأنّها جمع خطوة ساكنة الطاء، ومن ضم الطاء فيه أتبعها ضمة الخاء، وكل ما كان من الأسماء وزن فعله فجمع على التاء فإنّ الأغلب والأكثر في جمعه التثقيل وتحريك من الفعل بالحركة التي في فاء الفعل في الواحد مثل ظلمة وظلمات، وقربة وقربات، وحجرة وحجرات، وقد يخفف أيضا. ومن ضمّ الخاء والطاء مع الهمز. فقال الأخفش: أراد ذهب بها مذهب الخطيئة فجعل ذلك على مثال خطه من الخطأ. وقال ابو حاتم: أرادوا إشباع الضمّة في الواو فانقلبت همزة وهذا شائع في كلّ واو مضمومة ومن نصب الخاء والطّاء فانّه أراد جمع خطوة مثل تمرة وتمرات واختلفوا في معنى قوله خُطُواتِ الشَّيْطانِ فروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس: خُطُواتِ الشَّيْطانِ: عمله. مجاهد وقتادة والضّحاك: خطاياه. السّدي والكلبي: طاعته. عطاء عن ابن عبّاس: زلاته وشهواته. أبو مجلن: هي البذور في المعاصي. المورّج: آثاره. أبو عبيد: هي المحقّرات من الذنوب. القتيبي والزجاج: طرقه. والخطوة ما بين القدمين، والخطوة بالفتح الفعلة الواحدة من قول القائل: خطوت خطوة واحدة «1» .
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بيّن العداوة، وقيل: مظهر العداوة، قد أبان عداوته لكم بإبائه السّجود لأبيكم آدم عليه السّلام وغروره إياه حين أخرجه من الجنّة، وأبان: يكون لازما ومتعديا، ثمّ بيّن عداوته فقال إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ «1» : يعني الإثم، وأصل السّوء كل ما يسوء صاحبه، وهو مصدر: ساءه- يسوءه- سوءا ومساءة إذا حزنه وسوءه شيء أي حزنته فحزن. قال الله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «2» . قال الشاعر: إنّ يك هذا الدّهر قد ساءني ... فطالما قد سرّني الدّهر الأمر عندي فيهما واحد ... لذلك صبر ولذا شكر وَالْفَحْشاءِ يعني المعاصي، وما قبح من القول والفعل وهو مصدر كالبأساء والضّراء واللاواء، ويجوز أن يكون نعتا لا فعل له كالعذراء والحسناء، وقال متمم بن نويرة. لا يضمر للحشا تحت ثيابه ... خلق شمائله عفيف المبرر واختلف المفسرون في معنى الفحشاء المذكور في هذه الآية. روى باذان عن ابن عبّاس قال: الفحشاء كلّ ما فيه حدّ في الدّنيا من المعاصي فيكون من القول والفعل، والسّوء من الذنوب ما لا حدّ فيه. طاوس: عنه فهو ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة. عطاء عنه: البخل. السّدي: الزّنا. وزعم مقاتل إنّ جميع ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنّه الزّنا إلّا قوله الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ فإنّه منع الزّكاة. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تحريم الحرث والأنعام. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ اختلفوا في وجه هذه الآية، قال بعضهم: إنّها قصّة مستأنفة وأنّها نزلت في اليهود على هذا القول تكون الهاء والميم في قوله: لَهُمُ كناية عن غير مذكور. وروى محمّد بن إسحاق بن يسار عن محمّد بن أبي محمّد مولى زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عبّاس قال: دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اليهود إلى الإسلام ورغّبهم فيه وحذّرهم عذاب الله ونقمته فقال له نافع بن خارجة ومالك بن عوف قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا فهم كانوا خيرا واعلم منّا فأنزل الله هذه الآية ، وقال قوم: بل هذه الآية صلة بما قبلها وهي
نازلة في مشركي العرب وكفّار قريش واختلفوا فيه فقال الضّحاك عن ابن عبّاس: ف إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ يعني كفّار قريش من بني عبد الدّار، قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام. فقال الله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من التوحيد ومعرفه الرحمن وَلا يَهْتَدُونَ للحجّة البالغة وعلى هذا القول تكون الهاء والميم عائدة على من في قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً وقال الآخرون: إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ في تحليل ما حرّموه على أنفسهم من الحرث والأنعام والسائبة والوصيلة والبحيرة والحام وسائر الشرائع والأحكام قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا وجدنا عليه آباؤنا من التحريم والتحليل والدّين والمنهاج وعلى هذا القول تكون الهاء والميم راجعة إلى النّاس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً «1» . ويكون الرجوع عن الخطاب إلى الخبر، كقوله حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «2» وهذا أولى الأقاويل لأنّ هذه القصّة عقب قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو أولى أن يكون خبرا عنهم من أن يكون خبرا عن المتخذين الأنداد بما فيهما من الآيات لطول الكلام. وادغم علي بن حمزة الكسائي لام هل وبل في ثمانية أحرف التاء كقوله بَلْ تُؤْثِرُونَ «3» وهَلْ تَعْلَمُ «4» والثاء كقوله هَلْ ثُوِّبَ «5» ، والسين في قوله بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ «6» ، والزاي كقوله بَلْ زُيِّنَ «7» ، والضاد كقوله بَلْ ضَلُّوا «8» ، والظاء كقوله بَلْ ظَنَنْتُمْ «9» والطاء كقوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ «10» ، والنون نحو قوله بَلْ نَحْنُ «11» ، بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا وإنّما خصّ به لام هل وبل دون سائر اللامات: لأنّها ساكنة بتا، وسائر اللّامات ساكنة بعلل متى ما زالت تلك العلل زال سكونها. فقال الله أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ واو العطف، ويقال أيضا واو التعجب دخلت عليها ألف الاستفهام للتوبيخ والتقرير فلذلك نصبت، والمعنى يتبعون آباءهم وإن كانوا جهّالا، وترك جوابه لأنّه معروف. قوله تعالى لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً لفظ عام ومعناه الخصوص لأنّهم كانوا يعقلون أمر الدّنيا
[ومعناه] لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من أمر الدّين وَلا يَهْتَدُونَ. ثمّ ضرب لهم مثلا فقال عزّ من قائل وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وسلكت العلماء في هذه الآية طريقين، وأوّلوها على وجهين: فقال قوم: أراد بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً مثل البهائم التي لا تعقل، مثل الإبل والغنم والبقر والحمير ونحوها، وعلى هذا القول: ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع والسدي وأكثر المفسرين. ثمّ اختلف أهل المعاني في وجه هذا القول وتقدير الآية. فقال بعضهم: معنى الآية: ومثلك يا محمّد ومثل الّذين كفروا في وعظهم ودعائهم إلى الله عزّ وجلّ قاله الأخفش والزجّاج. وقال الباقون: مثل واعظ الّذين كفروا وداعيهم. كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ فترك ذلك وأضاف المثل إلى الّذين كفروا لدلالة الكلام عليه ويسمّى هذا النوع من الخطاب المضمر ومثله في القرآن كثير كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» قال الشاعر: حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي وثبت غيرك بالعناق يعني حسبت بغام راحلتي بغام عناق، وقال الرّاجز: ولست مسلما ما دمت حيا ... على زيد كتسليم الأمير «2» أي كتسليمي على الأمير. فشبه الله عزّ وجلّ واعظ الكفار بالرّاعي الذي ينعق بالغنم أي يصيح ويصوت بها. يقال: ينعق نعيقا ونعاقا ونعقا إذا صاح وزجر، قال الأخطل: فانعق بضأنك يا جرير فإنّما ... منّتك نفسك في الخلاء ضلالا «3» فكما أنّ هذه البهائم تسمع الصّوت ولا تفهمه ولا تنتفع به ولا تعقل ما يقال لها، وكذلك الكافر لا ينتفع بوعظك إن أمرته بخير أو زجرته عن سوء، غير أنّه يسمع صوتك. قال الحسن: يقول مثلهم فيما قبلوا من آباءهم وفيما أتيتهم به حيث لا يسمعونه ولا يعقلونه، كمثل راعي الغنم الذي نعق بها فإذا سمعت الصّوت رفعت رؤوسها فاستمعت إلى الصّوت والدّعاء ولا تعقل منه شيئا. ثمّ تعود بعد إلى مراتعها لم تفقه ما يراد لها به، وقال بعضهم: معنى الآية وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في قلّة عقلهم وفهمهم عن الله عزّ وجلّ وعن رسوله وسوء قبولهم عنهما كمثل المنعوق به من البهائم التي لا تفقه من الأمر والنّهي غير الصّوت فكذلك الكافر في قلة فهمه وسوء تفكّره
وتدبّره فيما أمر به ونهي عنه فيكون المعنى للمنعوق به. الكلام خارج على النّاعق وهو فاش في كلام العرب، يفعلون ذلك ويقبلون الكلام لاتضاح المعنى عندهم. فيقولون. فلان يخافك كخوف الأسد: أي كخوفه الأسد. ويقولون: أعرض الحوض على النّاقة، وإنّما هو أعرض النّاقة على الحوض. قال الله عزّ وجلّ إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ «1» وإنّما العصبة تنوء بالمفاتيح، وقال الشاعر: وقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل «2» والمعنى: حتّى ما يزيد مخافتي وجل على مخافتي، وقال الآخر: كانت فريضة ما تقول كما ... إنّ الزّنى فريضة الرّجم والمعنى: كما إنّ الرّجم فريضة الزّنا، وأنشد الفراء: إن سراجا لكريم مفخره ... تجلى به العين إذا ما تجمره والمعنى: يحلى بالعين، ونظائره كثيرة. وعلى هذا القول أبو عبيدة والفراء وجماعة من العلماء، وقال بعضهم: معنى الآية: ومثل الكفّار في قلة فهمهم وعقلهم، كمثل الرّعاة يكلمون البهم، والبهم لا تعقل عنهم، وعلى هذا التفسير لا تحوّل الآية إلى الضمير، وقال بعضهم: معناها ومثل الّذين كفروا في دعائهم الأصنام التي لا تفقه دعاؤهم كمثل النّاعق بغنمه فلا ينتفع من نعيقه بشيء غير إنّه في عناء من دعاء ونداء، فكذلك الكافر ليس له من دعائه الآلهة وعبادته الأوثان إلّا العناء والبلاء، ولا ينتفع منها بشيء، يدلّ عليه قوله تعالى في صفة الأصنام إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ «3» . فهذا وجه صحيح. وأمّا الوجه الآخر، فقال قوم: معنى الآية ومثل الكفّار في دعائهم الأوثان وعبادتهم الأصنام كمثل الرّجل الذي يصيح في جوف الجبال فيجيب فيها صوت يقال له: الصدى يجيبه ولا ينفعه. فيكون تأويل الآية على هذا القول، ومثل الكفّار في عبادتهم الأصنام كمثل الناعق بِما لا يَسْمَعُ منه إِلَّا دُعاءً وَنِداءً. ثمّ قال صُمٌّ أي هم صمّ، والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل بما يسمعه كأنّه أصم. قال الشاعر: أصم عما يساء سميع
بُكْمٌ عن الخير فلا يقولونه. عُمْيٌ عن الهدي فلا يبصرونه. فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ من حلالات. ما رَزَقْناكُمْ من الحرث والأنعام وسائر المأكولات والنعم. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال: «إنّ الله طيب لا يقبل إلّا الطيب، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين. فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «1» وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ثمّ ذكر الرّجل يطيل السّفر أشعر أغبر يمدّ يديه إلى السماء بيا ربّ يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي في حرام فإنّى يستجاب له» [18] . وَاشْكُرُوا لِلَّهِ على نعمته. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله جلّ جلاله إنّي والجنّ والأنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» [19] . ثمّ بيّن ما حرّم عليكم فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ قرأ أبو عبد الرحمن السلمي: إِنَّما حَرُمَ خفيفة الرّاء مضمومة. الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ رفعا على إنّ الفعل لها، وروى عن أبي جعفر: إنّه قرأ حُرِّمَ بضم الحاء وكسر الرّاء وتشديدها ورفع ما بعده وله وجهان: أحدهما: إنّ الفاعل غير مسمّى. والثاني: إنّ الّذي حرّم عليكم الميّت على خبر إنّ. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: حَرَّمَ بنصب الحاء والرّاء مشدّدا ورفع ما بعده جعل ما بمعنى الّذي منفصله عن قوله: إنّ وحينئذ تكون ما نصبا باسم إنّ وما بعدها رفعا على خبرها كما تقول: إنّ ما أخذت مالك وإنّ ما ركبت دابّتك أي: إنّ الّذي قال الله إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ «2» . وقرأ الباقون: حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ نصبا على إيقاع الفعل وجعلوا إِنَّما كلمة واحدة تأكيدا وتحقيقا. وقرأ أبو جعفر: الميّتة [وأخواتها] بالتشديد في كلّ القرآن، وأمّا الآخرون فخفّفوا بعضا وشدّدوا بعضا فمن شدّد قال أصله: ميوت فعل من الموت فأدغمت الياء في الواو وجعلت الواو ياء مشدّدة للكسرة كما فعلوا في سيّد وحيّد وصيّب ومن لم يشدّد فعلى طلب الخفّة وهما لغتان مثل: هيّن وهين، وليّن ولين. قال الشاعر:
ليس من مات واستراح بميّت ... إنّما الميت ميّت الأحياء فجمع بين اللّغتين. وحكى أبو معاذ عن النحويّين وقال: إنّ الميت بالتخفيف الّذي فارقه الرّوح، والميّت بالتشديد الّذي لم يمت بعد وهو يموت قال الله عزّ وجلّ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» : لم يختلفوا في تشديده والله أعلم. والميتة: كلّ ما لم تدرك ذكاته وهو ممّا يذبح، والدّم: أراد به الدّم الجاري يدلّ عليه قوله عزّ وجلّ: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «2» مقيّد. وهذه الآية مخصوصة بالسنّة وهو قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «حلّلت أنا ميّتان ودمان فأمّا الميّتان فالحوت والجراد، وأمّا الدّمان فالكبد والطّحال» [20] «3» . وقوله وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ أراد به جميع أجزائه وكلّ بدنه فعبّر بذلك عن اللّحم لأنّه معظمه وقوامه. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ما ذبح عن الأصنام والطّواغيت. كما قاله ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والضّحاك، وأصل الإهلال رفع الصّوت ومنه إهلال الحج وهو رفع الصّوت بالتّلبية. قال ابن أحمر: نصف فلاة يهلّ بالفرقد ركبانها ... كما يهلّ الراكب المعتمر وقال آخر: أو درّة صدفية غواصها ... يهيج متى يرها تهلّ وتسجد ومنه [أهل] الصّبي واستهلاله، وهو صياحه عند خروجه من بطن أمّه، وفي الحديث: «كيف آذي من لا نطق ولا استهلّ ولا شرب ولا أكل» [21] فمثل ذلك يطل، ومثل إهلال المطر واستهلاله وانهلاله وهو صوت وقوعه على الأرض. قال عمر بن قميئة: ظلم البطاح له انهلال حريصة ... فصفا النّطاف له بعيد المقلع «4» وانّما قال: وَما أُهِلَّ بِهِ لأنهم كانوا إذا ذبحوا لآلهتهم الّتي ربّوها جهروا به أصواتهم فجرى ذلك من أمرهم حتّى قيل: لكل ذابح سمّى أو لم يسمّ جهر بالصّوت أو لم يجهر مهلّ. الربيع بن أنس وغيره: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ما ذكر عليه غير اسم الله. وقال الزهري:
الإهلال لغير الله أن تقول باسم المسيح وهذه الآية مخصوصة بأهل الكتاب وهو قوله وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ. وروى صيوة عن عقبة بن مسلم التجيبي وقيس بن رافع الأشجعي إنهما قالا: إنّما أحلّ لنا ما ذبح لعيد الكنائس وما أهدي لها من خبز أو لحم فإنّما هو طعام أهل الكتاب، وقال صيوة: قلت أرأيت قول الله تعالى: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فقال: انّما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون «1» . فَمَنِ اضْطُرَّ قرأ عاصم وحمزة ويعقوب وابو عمرو: فَمَنِ اضْطُرَّ بكسر النون فيه وفي أخواته مثل: أَنِ اقْتُلُوا ... أَوِ اخْرُجُوا ونحوها لأنّ الجزم يحرّك إلى الكسر وقرأ الآخرون بضمّ النّون لمّا سكّنوا آخر الفعل الذي يليه لأجل الوصل نقلوا ضمّته إلى النّون، وقرأ ابن محيصن: فمن اضطر بإدغام الضّاد في الطّاء حتّى تكون طاء خالصة، قرأ أبو جعفر بكسر الطاء رد إلى الطّاء كسرت الرّاء المدغمة لأنّ أصله اضطرر على وزن افتعل من الضّرورة. قرأ الباقون: بضمّ الطاء على الأصل ومعناه أحرج وأجهد وألجئ إلى ذلك. وقال مجاهد: اكره عليه كالرجل يأخذه العدوّ فيكرهه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله. غَيْرَ نصب على الحال، وقيل على الاستثناء فإذا رأيت غيره لا يصلح في موضعها إلّا فهي حال وإذا صلح في موضعها إلّا، فهي: استثناء فقس على هذا ما ورد عليك من هذا الباب. باغٍ وَلا عادٍ أصل البغي في اللّغة قصد الفساد يقال: بغى الجرح يبغي بغيا إذا ترامى إلى الفساد ومنه قيل: للزّنا بغاء. قال الله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ «2» والزّانية بغي. قال الله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «3» . وأصل العدوان الظلم ومجاوزة الحد يقال: عدا عليه عدوا وعدوّا وعدوانا وعداء إذا ظلم، واختلف المفسرون في معنى قوله: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فقال بعضهم: غَيْرَ باغٍ: أي غير قاطع للطّريق، وَلا عادٍ: مفرّق للائمة شاقّ للأمّة خارج عليهم بسيفه فمن خرج يقطع الرحم أو يخيف ابن السبيل أو يفسد في الأرض أو ابق من سيّده أو فرّ من غريمه أو خرج عاصيا بأي وجه كان فاضطرّ إلى ميتة لم يحلّ له أكلها أو اضطرّ إلى الخمر عند العطش لم يحلّ له شربه ولا
رخصة له ولا كرامة فأمّا إذا خرج مطيعا ومباحا له ذلك فانه يرخّص فيه له وهذا قول: مجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك والكلبي ويمان وهو مذهب الشّافعي، قال: إذا أبحنا له ذلك فقد أعناه على فساده وظلمه إلى أن يتوب ولا يستبيح ذلك وقال آخرون: هذا البغي والعدوان راجعان إلى الاكل واليه ذهب أبو حنيفة وأباح تناول الميتة للمضطر وإن كان عاصيا. ثمّ اختلف أهل التأويل في تفصيل هذا التفسير: فقال الحسن وقتادة والرّبيع وابن زيد: غَيْرَ باغٍ: يأكله من غير اضطرار، وَلا عادٍ: متعدي يتعدى الحلال إلى الحرام فيأكلها وهو غني عنها. مقاتل بن حيّان: غَيْرَ باغٍ: أي مستحل لها، وَلا عادٍ: متزود منها. السّدي: غَيْرَ باغٍ في أكله شهوة فيأكلها ملذذا، وَلا عادٍ يأكل حتّى يشبع منه ولكن يأكل منها قوتا مقدار ما يمسك رمقا. شهر بن حوشب: غَيْرَ باغٍ: أي مجاوز للقدر الّذي يحلّ له، وَلا عادٍ ولا يقصر فيما يحلّ له فيدعه ولا يأكله. قال مسروق: بلغني إنّه من اضطر إلى الميتة فلم يأكلها حتّى مات دخل النّار، وقد اختلف الفقهاء في مقدار ما يحلّ للمضطر أكله من الميتة. فقال بعضهم: مقدار ما يمسك به رمقه، وهو أحد قولي الشّافعي واختيار المزني. والقول الآخر: يأكل منها حتّى يشبع، وقال مقاتل بن حيّان: لا يزداد على ثلاث لقم. وقال سهل بن عبد الله: غَيْرَ باغٍ مفارق لجماعة، وَلا عادٍ مبتدع مخالف لسنّة، ولم يرخص للمبتدع تناول المحرمات عند الضرورات. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فلا حرج عليه في أكلها. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما أكل من الحرام في حال الاضطرار. رَحِيمٌ به حيث رخص له في ذلك. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ الآية. قال جويبر عن الضّحاك عن ابن عبّاس: سئلت الملوك اليهود قبل مبعث محمّد صلّى الله عليه وسلّم عن الذي يجدونه في التوراة فقالت اليهود: إنّا لنجد في التوراة إنّ الله عزّ وجلّ يبعث نبيّا من بعد المسيح يقال له: محمّد، يحرّم الزّنى والخمر والملاهي وسفك الدّماء، فلما بعث الله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم ونزل المدينة قالت الملوك لليهود: أهذا الذي تجدون في كتابكم؟ فقالت اليهود طمعا في أموال الملوك: ليس هذا بذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأعطاهم الملوك الأموال، فأنزل الله تعالى هذه الآية
إكذابا لليهود. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس: نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والفضول، وكانوا يرجون أن يكون النبيّ المبعث منهم، فلما بعث الله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم من غيرهم خافوا ذهاب ملكهم وزوال رئاستهم، فعمدوا إلى صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم فغيّروها ثمّ أخرجوها إليهم، وقالوا: هذا نعت النبيّ الذي يخرج في آخر الزّمان ولا يشبه نعت هذا النبيّ الّذي بمكّة. فلما نظرت السفلة إلى النعت المغيّر وجدوه مخالفا لصفة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا يتبعونه. فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ يعني صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوّته. وَيَشْتَرُونَ بِهِ بالمكتوم. ثَمَناً قَلِيلًا عرضا يسيرا يعني المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ذكر البطن هاهنا للتوكيد لأن الإنسان قد يقول أكل فلان مالي إذا أفسده وبذّره، ويقال: كلمة من فيه لأنّه قد يكلمه مراسلة ومكاتبة، وناوله من يده ونحوها. قال الشاعر: نظرت فلم تنظر بعينك منظرا إِلَّا النَّارَ يعني إلّا ما يوردهم النّار، وهو الرّشوة والحرام وثمن الدّين والإسلام. لمّا كانت عاقبته النّار، سماه في الحال نارا. كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً «1» يعني إنّ عاقبته تؤول إلى النّار، وقوله صلّى الله عليه وسلّم في الذي يشرب في آنية الذهب والفضة «إنّما يجرجر في بطنه نار جهنّم» «2» [22] ، أخبر عن المال بالحال. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كلاما ينفعهم ويسرّهم هذا قول أهل التفسير، وقال أهل المعاني: أراد به إنّه يغضب عليهم كما يقول فلان لا يكلم فلانا: أي هو عليه غضبان. وَلا يُزَكِّيهِمْ لا يطهّرهم من دنس ذنوبهم.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ أي استبدلوا الضلالة. بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.: اختلفوا في «ما» . فقال قوم: هي «ما» التعجب، واختلفوا في معناه. فقال الحسن وقتادة والرّبيع: والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النّار قال: وهذه لغة يمانية. وقال الفراء: اخبرني الكسائي، أخبرني قاضي اليمن: إنّ خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف، فقال خصمه: ما أصبرك على الله ... ! أي ما أجرأك عليه. وقال المورج: فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النّار لأنّ هؤلاء كانوا علماء. فانّ من عاند النّبي صلّى الله عليه وسلّم صار من أهل النّار. الكسائي وقطرب: معناه ما أصبرهم على عمل أهل النّار أي ما أدومهم عليه ... كما تقول: ما أشبه سخاك بحاتم: أي بسخاء حاتم. مجاهد: ما أعلمهم بأعمال أهل النّار، وقيل: ما أبقاهم في النّار! كما يقال: ما أصبر فلانا على الضرب والحبس ... ! عطاء والسّدي وابن زيد وأبو بكر بن عبّاس: هي «ما» الاستفهام ومعناه: ما الذي صبرهم وأيّ شيء صبّرهم على النّار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل. فقيل هذا على وجه الاستهانة. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ قال بعضهم معناه ذلِكَ العذاب بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ واختلفوا فيه، وحينئذ تكون «ذلك» في محل الرّفع، وقال بعضهم محله نصب. معناه: فعلنا ذلك بهم بأنّ الله عزّ وجلّ، أو لأنّ الله نزّل الكتاب بالحقّ، واختلفوا فيه، وكفروا به فنزع حرف الصّفة. وقال الأخفش: خبر ذلك مضمر معناه: ذلك معلوم لهم بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ. وقال بعضهم: معناه «ذلِكَ» : أي فعلهم الذين يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على الله تعالى من أجل إنّ الله نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، وتنزيله الكتاب بالحقّ هو اخباره عنهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «1» . وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
[سورة البقرة (2) : الآيات 177 إلى 179]
لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ لفي خلاف، وضلال طويل. [سورة البقرة (2) : الآيات 177 الى 179] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قرأ حمزة وحفص: لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الرّاء، وقرأ الباقون: بالرّفع فمن رفع البرّ جعله اسم ليس، وجعل خبره في قوله أَنْ تُوَلُّوا تقديره: ليس البرّ توليتكم، وجوهكم، ومن نصب جعل أن وصلتها في موضع الرّفع على اسم ليس تقديره: ليس توليتكم وجوهكم البرّ كلّه. كقوله ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا «1» ، وقوله فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ «2» . هارون عن عبد الله وأبي بن كعب: إنّهما قرئا. ليس البرّ بأن تولوا وجوهكم، واختلف المفسرون في هذه الآية: فقال قوم: عنى الله بهذه الآية اليهود والنّصارى وذلك إنّ اليهود كانت تصلّي قبل المغرب إلى بيت المقدس، والنّصارى قبل المشرق، وزعم كل فريق منهم إنّ البرّ في ذلك، فأخبر الله إنّ البرّ غير دينهم وعملهم، ولكنه ما بيّنه في هذه الآية، وعلى هذا القول: قتادة والرّبيع ومقاتل بن حيّان وعوف الأعرابي. وقال الآخرون: المراد بهذه الآية المؤمنون وذلك إنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن البرّ، فأنزل الله هذه الآية فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك الرّجل فتلاها عليه. وقد كان الرّجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا اله إلّا الله وإنّ محمّدا عبده ورسوله وصلّى الصلاة إلى أىّ ناحية ثمّ مات على ذلك وجبت له الجنّة، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزلت الفرائض وحدّد الحدود، وصرفت القبلة إلى الكعبة. أنزل الله هذه الآية فقال: ليس البرّ كلّه أن تصلّوا وتعملوا غير ذلك.
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ جعل من وهي اسم خبرا للبرّ وهو فعل ولا يقال: البرّ زيد، واختلفوا في وجه الآية: فقال بعضهم: لما وقع من في موضع المصدر جعله مضمرا للبرّ. كأنّه قال: ولكن البرّ الأيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل كقولهم: إنّما البر الصادق الذي يصل من رحمه ويخفي صدقته: يريدون صلة الرّحم، وأخفاء الصّدقة، وعلى هذا القول الفراء والمفضل بن سلمة وأنشد الفراء: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللّحى ... ولكنّما الفتيان كل فتى ندي فجعل نبات اللحية خبرا للفتى. وقيل: معناه ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله واستغنى عن النّاس، كقولهم: الجود حاتم، والشجاعة عنترة، والشعر زهير: أي جود حاتم وشجاعة عنترة وشعر زهير، وتقول: العرب: بنو فلان يطأهم الطريق، أي أهل الطريق. قال الله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» ، وقال تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «2» قال النابغة الجعدي: وكيف نواصل من أصبحت جلالته كأبي مرحب «3» أي كجلالة أبي مرحب، وعلى هذا القول قطرب والفراء والزّجاج أيضا. وقال أبو عبيدة: معناه ولكنّ البار من آمن بالله كقوله وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى «4» أي المتقي. وقيل: معنى ذو البرّ من آمن بالله حكاه الزّجاج. كقوله هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ «5» : أي ذو درجات. قال المبرّد: لو كنت ممن قرأ القرآن لقرئت: لكنّ البرّ من آمن بالله بفتح الباء تقول العرب: رجل بر وبار والجمع بررة وابرار، والبرّ: العطف والإحسان، والبرّ أيضا: الصدق، والبرّ هنا الإيمان والتقوى، وهو المراد في هذه الآية بذلك عليه قوله مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَالْمَلائِكَةِ كلهم. وَالْكِتابِ [يعني الكتب] «6» . وَالنَّبِيِّينَ أجمع. وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ واختلفوا في هذه الحكاية:
فقال أكثر المفسرين: في حُبِّهِ راجعة إلى المال يعني أعطى المال في حال صحّته ومحبّته إياه ونفسه به يدلّ عليه قول ابن مسعود في هذه الآية قال: هو أن توصيه وأنت صحيح، تأمل العيش وتخش الفقر ولا تمهل، حتّى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا، ورفع هذا الحديث بعضهم «1» . وقيل: هي عائدة على الله عزّ وجلّ أي حبّ الله سبحانه. قال الحسين بن أبي الفضل: على حبّ الإيتاء، وقيل: الهاء راجعة إلى المعطي أي حبّ المعطي. ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى أهل القرابة. عن أمّ رابح بنت صليح عن سليمان بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال: «صدقتك على مسكين صدقة واحدة وعلى ذي الرّحم إثنين لأنّها صدقة وصلة» «2» [23] . الزهري عن حميد بن عبد الرّحمن عن أمّه أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أفضل الصّدقة على ذي الرّحم الكاشح» «3» [24] «4» . سليمان بن يسار عن ميمونة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: أعتقت جارية لي فدخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بعتقها فقال: «آجرك الله أما إنّك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» [25] . وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ سمّي المجاز واختلفوا فيه فقال أبو جعفر البارقي ومجاهد: يعني المسافر المنقطع عن أهله يمر عليك. قتادة: هو الضّيف ينزل بالرجل: قال: وذكرنا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فليكرم ضيفه» «5» [26] . وكان يقول: «حقّ الضيافة ثلاث ليال فكل شيء أضافه فهو صدقة» [27] . وإنّما قيل للمسافر والضيف الّذي يحلّ ويرتحل ابن السبيل لملازمته الطريق كما قيل للرّجل الّذي [أتت عليه الدهور] «6» ابن الأيّام واللّيالي، ولطير الماء: ابن الماء لملازمته إيّاه، قال ذو الرّمة:
وردت اعتسافا والثريّا كأنّها ... على قمّة الرأس ابن ماء محلّق «1» وَالسَّائِلِينَ المستطعمين الطّالبين. عبد الله بن الحسين عن أمّه فاطمة بنت الحسين قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «للسائل حقّ وإن جاء على فرس» [28] «2» . مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هدية الله إلى المؤمن السّائل على بابه» [29] . وَفِي الرِّقابِ يعني المكاتبين قاله أكثر المفسّرين، وقيل: فداء الأسارى، وقيل: عتق النّسمة وفكّ الرّقبة. وَأَقامَ الصَّلاةَ المفروضة. وَآتَى الزَّكاةَ الواجبة. وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا فيما بينهم وبين النّاس إذا وعدوا انجزوا وإذا حلفوا أوفوا، وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدّوا. قال الرّبيع بن أنس: فمن أعطى عهد الله ثمّ نقضه فالله سبحانه مطعم منه ومن أعطى دمه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ غدر فالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خصمه يوم القيامة. وفي وجه ارتفاع الموفّين قولان: قال الفرّاء والأخفش: هو عطف على محل (من) في قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ و (من) في موضع جمع ومحلّه رفع كأنّه قال: ولكن البرّ المؤمنون والموفون. وقيل: رفع على الابتداء والخبر تقديره هم الموفون، ثمّ قال: وَالصَّابِرِينَ وفي نصبها أربعة أقاويل. قال أبو عبيد: نصب على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن في تعيّر الاعراب إذا طال الكلام [والنسق] . وقال الكسائي: نصبه نسقا على قوله ذَوِي الْقُرْبى الصابرين. وقال بعضهم: معناه وأعني الصابرين. وقال الخليل بن أحمد والفرّاء: نصب على المدح والعرب تنصب على المدح وعلى الذّم كانّهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه بأول الكلام فينصبونه.
فأمّا المدح فقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «1» وأنشد الكسائي: وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم ... إلّا نميرا اطاعت أمر غاويها والطاعنين ولما يطعنوا أحدا ... والقائلين لمن دار يخليها وأنشد أبو عبيده لحزنق بن عفان: [لا يبعدن] «2» قومي الّذين هم ... سم العداة وانه الجزل النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزل وأما الذّم، فقوله تعالى مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أخذوا. وقال عروة بن الورد تسقوني الخمر ثمّ تكفوني ... عداة الله من كذب وزور «3» فِي الْبَأْساءِ يعني الشدة والفقر وَالضَّرَّاءِ المرض والزمانة وهما اسمان بنيا على فعلا ولا أفعل لهما لأنهما اسمان وليسا بنعت. وَحِينَ الْبَأْسِ وقت القتال: وقال علي (رضي الله عنه) : كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان أقربنا إلى العدوّ إذا اشتدّ الحرب. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في دمائهم. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ روى القاسم: إن أبا ذر سئل عن الإيمان؟ فقرأ هذه الآية فقال السائل: انّما سألنا عن الإيمان وتخبرنا عن البرّ، فقال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الإيمان فقرأ هذه الآية. وقال أبو ميسرة: وقرأ هذه الآية ومن عمل بهذه الآية فقد استكمل البرّ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الآية: قال الشعبي والكلبي وقتادة ومقاتل بن حيّان وأبو الجوزاء وسعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في حيّين من أحياء العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبل الإسلام بقليل فكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتّى جاء الإسلام. قال سعيد بن جبير: إنهما كانا حيّين الأوس والخزرج. وقال ابن كيسان: قريظة والنّضير، قال: وكان لأحد الحيّين حول على الآخر في الكرم والشّرف، وكانوا ينكحون نسائهم بغير مهور. فاقسموا ليقتلن بالعبد منّا الحرّ منهم، وبالمرأة منّا
ذكر حكم الآيات
الرّجل منهم، وبالرّجل منّا الرّجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك وهم كذا يعاملونهم في الجاهلية. فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمرهم بالمساواة فرضوا وسلّموا. السّدي وجماعة: نزلت هذه الآية في الدّيات وذلك إنّ أهل حزبين من العرب اقتتلوا أحدهما مسلم والآخر معاهد. فأمر الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم أن يصلح بينهم بأن يجعل ديات النّساء من كل واحد من الفريقين قصاصا بديات النّساء من الفريق الآخر، وديات الرّجال بالرّجال، والعبيد بالعبيد، فأنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ فرض وكتب عليكم في القتلى «1» ، والقصاص: المساواة والمماثلة في النفوس والجروح والدّيات، وأصله من قصّ الأثر إذا اتّبعه فكان المفعول به يتبع ما عمل به فيعمل مثله، ثمّ بيّن فقال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى. ذكر حكم الآيات إذا تكافأ الدّمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين، أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قتل من كل صنف منهم: الذكر إذا قتل منهم بالذكر، والأنثى إذا قتلت بالأنثى، والذكر والإجماع واقع إنّ الرّجل يقتل بالمرأة لأنّهما يتساويا في الحرمة والميراث وحد الزّنى والقذف وغير ذلك فلذلك يجب أن يستويا في القصاص ولا يقتل الحرّ بالعبد وعليه قيمته وإن بلغت [ثلث] لما بينهما من المفاضلة، ولا يقتل مؤمن بكافر. بدليل ما روى الشّعبي عن أبي حجيفة قال: سألت عليّا كرم الله وجهه هل عندكم من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم سوى القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النّسمة إلّا أن يعطي الله عزّ وجلّ عبدا فهما في كتابه وما في الصحيفة. قلت: وما في الصّحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر «2» ، ولا يقتل [سيد] بعبده، ولا والد بولده «3» . يدلّ عليه ما روى إن رجلا اسمه قتادة رمى ابنه بسيف فأصاب رجله فنزف فمات. فقال عمر (رضي الله عنه) : لولا أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا يقاد والد بولده، وإلّا قدته به. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أيّ ترك وله وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص، وروي عن علي (رضي الله عنه) إنّه قتل ثلاثة بواحد في قتل العمد هذا قول أكثر المفسرين قالوا: العفو أن يقبل الدّية في قتل العمد، وقال السّدي: هو أن يبقى له بقية من دية أخيه أو من أرش جراحته.
حكم الآية
فَاتِّباعٌ أي فعليه اتباع. بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أمر الطالب أن يطلب بالمعروف ويتبع حق الواجب له عليه من غير أن يطالبه بالزّيادة أو يكلفه ما لم يوجبه الله له أو يشدد عليه كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من زاد بعيرا في إبل الدّيات وفرائضها فمن أمر الجاهلية» [30] «1» . حكم الآية أعلم إنّ أنواع القتل ثلاثة العمد، وشبه العمد، والخطأ: فالعمد: أن يقصد ضربه، بما أنّ الأغلب إنّه يموت منه مثل الحديدة والخشبة العظيمة والحجر الكبير ونحوها أو حرقه أو غرفه أو الشّدة من حبل أو سطح أو في بئر وما يشبه ذلك مما يتعمّد قلبه. ففي هذا القصاص أو الدّية. فدية المسلم ألف دينار ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ومن الإبل مائة منها أربعون خلفه في بطونها أولادها. وثلاثون حقّه، وثلاثون جذعه، الأصل في الرّجل الإبل أو ديات النّساء على النصف من ذلك. وأما شبه العمد: فهو أن يقصد ضربه. بما الأغلب إنّه لا يموت منه مثل: حصى صغير أو عود صغير أو لطمه أو وكزه أو بكسره أو صفعة أو ضربة بالسّيف عمدا أو ما أشبه ذلك فمات منه، فهاهنا يجب الدّية مغلّظة على العاقلة، كما وصفنا في دية العمد. وأمّا الخطأ: فهو أن يقصد شيئا فيخطئ ويصوّب غيره. كالرّجل يرمي الهدف أو الصّيد فيخطئ السهم فيقع بإنسان فيقتله فهو الخطأ المحض وفيه الدّية المخفّفة على العاقلة في ثلاث ستين أخماسا: عشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون ابنا لبون، وعشرون خناق، وعشرون جذعا، ولا يتعين الورق والذّهب، كما تنقص الإبل الذي ذكرت من العفو والديّة. تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ وذلك إنّ الله تعالى كتب على أهل التوراة في النّفس والجرح أن يقيدوا ولا يأخذوا الدّية ولا يعفوا وعلى أهل الإنجيل أن يعفوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الدّية. فخير الله تعالى هذه الأمة بين القصاص والدّية والعفو. كما روى سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثمّ أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله فمن قتل قتيلا بعده فأهله بين خيرتين: إن أحبّوا قتلوا وإن أحبّوا أخذوا العقل» [31] . فَمَنِ اعْتَدى ظلم وتجاوز الحد. بَعْدَ ذلِكَ فقيل بعد أخذ الدّية، وقال الحسن: كان الرّجل في الجاهليّة إذا قتل قتيلا فرّ
[سورة البقرة (2) : الآيات 180 إلى 182]
إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدّية فذلك الاعتداء. فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ يقتل في الدّنيا ولا يعفى عنه. قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذه الدّية منه» [32] ، وفي الآخرة عذاب النّار، وفي هذه الآية دليل على إنّ القاتل لا يصير كافرا ولا يبقى خالدا في النّار لأنّ الله تعالى. خاطبهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ولا خلاف إنّ القصاص واقع في العمد فلم يسقط عنه أسم الأيمان بارتكاب هذه الكبيرة، وقال في آخر الآية فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فسمى القاتل أخا المقتول، وقال ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ وهما [يخصّان] المؤمنين دون الكافرين. يروى أنّ مسروقا سئل هل للقاتل توبة؟ فقال: لا أغلق بابا فتحه الله. وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ بقاء لأنّه إذا علم أنّه إن قتل أمسك وارتدع عن القتل. ففيه حياة للّذي يهمّ بقتله، وحياة للهام ولهذا قيل في المثل: القتل قلّل القتل. وقال قتادة: كم رجل قد همّ بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها ولكنّ الله تعالى حجر عباده بعضهم عن بعض هذا قول أكثر المفسّرين. وقال السّدي: كانوا يقتلون بالواحد الاثنين والعشرة والمائة فلمّا قصروا بالواحد على الواحد كان في ذلك حياة وقيل: أراد في الآخرة لأنّ من أقيد منه في الدّنيا حيي في الآخرة، وإذا لم يقتص منه في الدنيا اقتصّ منه في الآخرة ويعني الحياة سلامته من قصاص الآخرة، وقرأ أبو الجوزاء: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أراد القرآن فيه حياة القلوب. قال يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل مخافة القود. [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) كُتِبَ فرض ووجب. عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ جاء. أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني اسباب الموت وآثاره ومقدماته من العلل والأمراض ولم يرد المعاينة.
إِنْ تَرَكَ خَيْراً مالا، نظيره قوله وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ «1» الْوَصِيَّةُ في رفعها وجهان: أحدهما: اسم ما لم يسم فاعله وهو قوله «كُتِبَ» ، والثاني: خبر حرف الصفة، وهو اللام في قوله لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ يعني لا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير. كما قال ابن مسعود: الوصيّة للأخل فالأخل أي الأحوج فالأحوج. حَقًّا واجبا، وهو نصب على المصدر أي حق ذلك حقا وقيل: على المفعول أي جعل الوصيّة حقا، وقيل: على القطع من الوصيّة. عَلَى الْمُتَّقِينَ المؤمنين، واختلف العلماء في معنى هذه الآية: فقال قوم: كانت الوصيّة للوالدين والأقربين، فرضا واجبا على من مات، وله مال حتّى نزلت آية المواريث في سورة النّساء. فنسخت الوصيّة للوالدين والأقربين الذين يرثون، وبقي فرض الوصيّة للأقرباء الذين لا يرثون والوالدين الذين لا يرثان بكفر أو رق على من كان له مال. فخطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية فقال: «الآن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصيّة لوارث [33] فبيّن إنّ الميراث والوصيّة لا يجتمعان» «2» . فآية المواريث هي لنّا حجة وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المبيّن هذا قول ابن عبّاس وطاوس وقتادة والحسن ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد والربيع وابن زيد. قال الضحاك: من مات ولم يوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية، وقال طاوس: من أوصى لقوم وسمّاهم، وترك ذوي قرابته محتاجين [انتزعت] منهم وردّت إلى ذوي قرابته. وقال آخرون: بل نسخ ذلك كلّه بالميراث فهذه الآية منسوخة. ولا يجب لأحد وصيّة على أحد قريب ولا بعيد. فإن أوصى فحسن، وأن لم يوص فلا شيء عليه، وهذا قول عليّ وابن عمر وعائشة وعكرمة ومجاهد والسّدي. قال شريح في هذه الآية. كان الرّجل يوصي بماله كلّه حتّى نزلت آية المواريث. وقال عروة بن الزّبير: دخل علي (رضي الله عنه) على مريض يعوده فقال: إنّي أن أوصي. فقال علي عليه السّلام: إنّ الله تعالى يقول إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإنّما يدع شيئا يسير فدعه لعيالك إنّه أفضل. وروى أيوب عن نافع عن ابن عمر: إنّه لم يوص فقال: أمّا مالي والله أعلم ما كنت أصنع به في الخلوة وأما رباعي لن يشرك ولدي فيها أحد.
وروى ابن أبي مليكة: إنّ رجلا قال لعائشة: إنّي أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة: قالت: إنّما قال: الله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك. وروى سفيان بن بشير بن دحلوق قال: قال عروة بن ثابت للربيع بن خيثم: أوص لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ. وروى سفيان عن الحسين بن عبد الله عن إبراهيم قال: ذكر لنّا إنّ زبيرا وطلحة كانا يشددان في الوصيّة. فقال: ما كان عليهما أن لا يفعلا. مات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم يوصّ وأوصى أبو بكر، أي ذلك فعلت فحسن. فَمَنْ بَدَّلَهُ أي فمن غيّر الوصيّة من الأوصياء والأولياء أو الشهود. بَعْدَ ما سَمِعَهُ من الميت فإنّما ذكر الكناية عن الوصيّة وهي مؤنثة لأنّها في معنى الإيصاء لقوله فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «1» ردّه إلى الواعظ ونحوها كثيرة. وقال المفضل: لأنّ الوصيّة قول فذهب إلى المعنى وترك اللفظ. كقول امرئ القيس. برهرهة رودة رخصة ... كخرعوبة اليانة المنقطر المنقطر: المنتفخ بالورق وهو أنعم ما يكون فذهب إلى القضيب فترك لفظ الخرعوبة. فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ وصي الميت. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لوصاياكم. عَلِيمٌ بنيّاتكم. فَمَنْ خافَ أي خشي، وقيل: علم وهو الأجود كقوله إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ «2» . وقال ابو محجر الثقفي: فلا تدعني بالفلاة فانّني أخاف ... إذا ما متّ أن لا أذوقها أراد: أعلم. مِنْ مُوصٍ قرأ مجاهد وعطاء وحميد وابن كثير وابو عمرو وابن عامر وأبو جعفر وشيبة ونافع: بالتخفيف واختاره أبو حاتم.
لقول النّاس: أوصيكم بتقوى الله. قال أبو حاتم: قرأتها بمكّة بالتشديد أوّل ليلة أقمت فعابوها عليّ. وقرأ الباقون: موصّ بالتشديد واختاره ابو عبيد كقوله: ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى «1» . جَنَفاً جورا وعدولا من الحقّ من الحقّ والجنف: الميل في الكلام والأخذ كلّها يقال: جنف وأجنف وتجانف إذا مال. قال لبيد: إنّي امرؤ منعت أرومة عامر ... ضيمي وقد جنفت عليّ خصوم «2» وقال آخر: هم أقول وقد جنفوا علينا ... وانّا من لقاءهم أزور وقال علي عليه السّلام: حيفا بالحاء والياء أي ظلما. قال الفراء: الفرق بين الجنف والحيف: أن الجنف عدول عن الشيء والحيف: حمل الشّيء حتّى ينتقصه وعلى الرّجل حتّى ينتقص حقّه. يقال: فلان يتحوف ماله أي ينتقصه منّي حافاته. وقال المفسّرون: الجنف: الخطأ، والإثم: العمد، واختلفوا في معنى الآية وحكمها فقال قوم: تأويلها من حضر مريضا وهو يوصّي فخاف أن [يحيف] في وصيته فيفعل ما ليس له أو تعمد جورا فيها فيأمر بما ليس له، فلا حرج على من حضره أن يصلح بينه وبين ورثته بأن يأمره بالعدل في وصيّته، وينهاه عن الجنف فينظر للموصي وللورثة، وهذا قول مجاهد: هذا ممّن يحضر الرّجل وهو يموت. فإذا أسرف أمره بالعدل وإذا قصّر قال: أفعل كذا أعط فلانا كذلك. وقال آخرون: هو إنّه إذا أخطأ الميت وصيّته أو خاف فيها متعمدا فلا حرج على وليه أو وصيه أو والي أمر المسلمين أن يصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصي لهم، ويردّ الوصيّة إلى العدل والحق، وهذا معنى قول ابن عبّاس وقتادة وإبراهيم والرّبيع. وروى ابن جريج عن عطاء قال: هو أن يعطي عند حضور أجله بعض ورثته دون بعض مما سيرثونه بعد موته. فلا إثم على من أصلح بين الورثة. طاوس: [الحيف] وهو أن يوصي لبني ابنه يريد ابنه أو ولد أبنته يريد ابنته، ويوصي لزوج ابنته ويريد بذلك ابنته، فلا حرج على من أصلح بين الورثة.
السّدي وابن زيد: هو في الوصيّة للآباء والأقربين بالأثرة يميل إلى بعضهم ويحيف لبعضهم على بعض في الوصيّة. فإنّ أعظم الأجر أن لا ينفذها، ولكن يصلح ما بينهم على ما يرى إنّه الحق فينقص بعضا. ويزيد بعضا. قال ابن زيد: فعجز الموصي أن يوصي لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كما أمره الله، وعجز الوصي أن يصلح فيوزع الله ذلك منه بفرض الفرائض لذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى لم يوص بملك مقرب ولا نبي مرسل حتّى تولّى قسم مواريثكم» [34] . وقال فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ولم يجر للورثة ولا للمختلفين في الوصيّة ذكر لأنّ سياق الآية وما تقدّم من ذكر الوصيّة يدلّ عليه. قال الكلبي: كان الأولياء والأوصياء يمضون وصيّة الميت بعد نزول الآية فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ الآية وإن استغرق المال كلّه ويبقى الورثة بغير شيء، ثمّ نسختها هذه الآية فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً الآية. وروى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه: قال كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فمرضت مرضا أشرفت على الموت. فعادني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ لي مالا كثيرا وليس يرثني إلّا بنت لي أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فبشطر مالي؟ قال: لا. قلت: بثلث مالي؟ قال: نعم الثلث والثلث كثير إنك يا سعد أن تترك ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون النّاس. وقال مسلم بن صبيح: أوصى جار لمسروق فدعا مسروقا ليشهده فوجده قد بذر وأكثر. فقال: لا أشهد إنّ الله عزّ وجلّ قسم بينكم فأحسن القسمة فمن يرغب برأيه عن أمر الله فقد ضلّ، أوص لقرابتك الذين لا يرثون ودع المال على قسم الله. وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حاف في وصيّته ألقي في اللوى- واللوى واد في جهنّم-» [35] «1» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 183 إلى 187]
شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرّجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيّته فيختم له بشر عمله فيدخل النّار، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الشّر سبعين سنة. فإذا أوصى لم يحف في وصيته فيختم له بخير عمله. فيدخل الجنّة» [36] . ثمّ قال أبو هريرة: أقرأوا إن شئتم تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «1» . [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 187] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قال الحسن: إذا سمعت الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فادع لها سمعك فانّها لأمر يؤمر به أو لنهي تنهى عنه. وقال جعفر الصّادق (رضي الله عنه) : لذة «يا» في النداء أزال تعب العبادة والعناء. كُتِبَ فرض واجب. عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وهو مصدر قولك: صمت صياما، كما تقول: قمت قياما، وأصل الصوم والصّيام في اللغة: الإمساك، يقال: صامت الرّيح إذا سكنت وأمسكت عن الهبوب، وصامت الخيل إذا وقعت وأمسكت عن السّير. قال النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما «2»
فقال: صام النّهار إذا اعتدل، وقام قائم الظهيرة لأنّ الشمس إذا طلعت في كبد السّماء وقفت فأمسكت عن السير سريعة. قال امرؤ القيس: فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بحسرة ... ذمول إذا صام النّهار وهجرا «1» وقال الرّاجز: حتّى إذا صام النّهار واعتدل ... وسال للشمس لعاب فنزل ويقال للرجل إذا صمت وأمسك عن الكلام: صام. قال الله تعالى: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «2» : أي صمتا. فالصوم: هو الإمساك عن المعتاد من الطّعام والشّراب والجماع. كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء والأمم وأولهم آدم عليه السّلام، وهو ما روى عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن علي (رضي الله عنه) قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم عند انتصاف النّهار وهو في الحجر، فسلّمت عليه فردّ عليّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قال: «يا علي هذا جبرئيل يقرئك السلام. فقلت: عليك وعليه السّلام يا رسول الله لم؟ قال: ادن منّي، فدنوت منه فقال: يا علي يقول لك جبرئيل: صم كل شهر ثلاثة أيام يكتب لك بأول يوم عشرة آلاف [سنة] وباليوم الثاني ثلاثين ألف [سنة] وباليوم الثالث مائة ألف [سنة] . فقلت: يا رسول الله هذا ثواب لي خاصة أم للنّاس عامة؟ قال: يا علي يعطيك الله هذا الثواب ولمن يعمل مثل عملك بعدك. قلت: يا رسول الله وما هي؟ قال: أيام البيض: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر» [37] «3» . قال عنترة: قلت لعلي (رضي الله عنه) : لأي شيء سميت هذه الأيام البيض؟ قال: لما أهبط آدم عليه السّلام من الجنّة إلى الأرض أحرقته الشمس. فاسودّ جسده ثمّ صام اليوم الثالث. فأتاه جبرئيل فقال: يا آدم أتحب أن يبيض جسدك؟ قال: نعم، قال: فصم من الشهر ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر فصام آدم عليه السّلام أول يوم فابيض ثلث جسده، ثمّ صام اليوم الثاني فابيض ثلثا جسده، ثمّ صام اليوم الثالث فابيض جسده كلّه. فسميت أيام البيض. قال المفسّرون: فرض الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين صوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر حين قدم المدينة فكانوا يصومونها إلى أن نزل صيام شهر رمضان قبل قتال بدر
بشهر وأيام. وقال الحسن وجماعة من العلماء: أراد بالّذين من قبلنا: النّصارى شبّه صيامنا بصيامهم لاتفاقهم بالوقت والقدر وذلك انّ الله فرض على النّصارى صيام شهر رمضان. فاشتد ذلك عليهم لأنّه ربّما كان في الحر الشديد والبرد الشديد. فكان يضرّ بهم في أسفارهم ومعائشهم، واجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السّنة بين الشّتاء والصّيف فجعلوه في الرّبيع وزادوا فيه عشرة أيّام كفّارة لما صنعوا فصار أربعين ثمّ إنّ ملكا لهم اشتكى فمه فجعل الله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومه أسبوعا فبرأ فزاد فيه أسبوع ثمّ مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال: أتموا خمسين يوما فأتمّوه خمسين يوما، وقال مجاهد أصابهم موتان فقالوا: زيدوا في صيامكم فزادوا عشرا قبل وعشرا بعد. روى أبو أمية الطّنافسى عن الشعبي قال: لو صمت السّنة كلّها وفطرت اليوم الّذي يشكّ فيه فيقال من شعبان ويقال من رمضان، وذلك أنّ النّصارى فرض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا فحولوه إلى الفصل وذلك إنّهم ربما كانوا صاموه في القيظ فعدّوا ثلاثين يوما ثمّ جاء بعدهم قرن منهم فأخذوا بالثّقة في أنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما ثمّ لم يزل الآخر يستن بسنّة القرن الّذي قبله حتّى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله عزّ وجلّ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «1» . لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لكي تتقوا الأكل والشرب والجماع. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ يعني شهر رمضان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرون يوما لما روى سعيد بن العاص إنّه سمع ابن عمر يحدّث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّا أمّة أميّة لا تحسب ولا تكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا» وعقد الإبهام في الثالثة والشّهر هكذا وهكذا وهكذا تمام ثلاثين [38] «2» . ونصب أَيَّاماً على الظرف أي: في أيّام، وقيل: على التفسير. وقيل: على خبر ما لم يسمّ فاعله، وقيل: بإضمار فعل أي صوموا أيّاما معدودات. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ أي فأفطر فعدّة كقوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ «3» : أي فحلّق أو قصّر ففدية واقصر وقوله: فَعِدَّةٌ أي فعليه عدّة ولذلك رفع. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: فَعِدَّةً نصبا أي فليصم عدّة.
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ غير أيّام مرضه أو سفره والعدّة العدد وأخر في موضع خفض ولكنّها لا تنصرف فلذلك نصبت لأنّها معدولة عن جهتها كأنّ حقّها أواخر وأخريات فلمّا عدلت إلى فعل لم تجرّ مثل عمر وزفر. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قرأ ابن عبّاس وعائشة وعطاء بن رباح وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد: يُطَيَّقُونَهُ بضمّ الياء وبفتح الطّاء وتخفيفه وفتح الياء وتشديده أي يلفونه ويحملونه. وروى عن مجاهد وعكرمة: أيضا يَطَّيقُونَهُ بفتح الياء وتشديد الطّاء أراد يتطوقونه أي يتكلفونه. وروى ابن الأنباري عن ابن عبّاس يَطَّيَّقُونَهُ بفتح الياء الأوّل وتشديد الطّاء والياء الثانية وفتحهما بمعنى يطيقونه. يقال: طاق وأطاق واطيق بمعنى واحد. فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قرأ أهل المدينة والشّام: فديةُ طعامٍ مضافا مساكين جمعا أضافوا الطّعام إلى الفدية وإن كان واحدا لاختلاف اللفظين كقوله وَحَبَّ الْحَصِيدِ «1» وقولهم: المسجد الجامع وبيع الأوّل ونحوها وهي قراءة أبي عمرو ومجاهد، وروى يحيى ابن سعيد عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر إنّه قرأها: طعام مساكين على الجمع، وروى مروان بن معاوية الفزاري عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قرأها كذلك: مساكين. وقرأ الباقون: فديةً منصوبة، طَعامُ رفعا، مِسْكِينٍ خفض على الواحد وهي قراءة ابن عبّاس. [روي ابن أبي نجيح] عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس أنّه قرأها طَعامُ مِسْكِينٍ، على الواحد، فمن وحّد فمعناه: لكل يوم اطعام مسكين واحد، ومن جمع رده إلى الجميع، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً قرأ عيسى بن عمر ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي: يتطوّع بالتاء وتشديد الطاء وجزم العين على معنى يتطوّع، وقرأ الآخرون: تَطَوْعَ بالتاء وفتح العين وتخفيف الطاء على الفعل الماضي. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها: فقالوا قوم: كان ذلك أول ما فرض الصّوم وذلك أنّ الله تعالى لمّا أنزل فرض صيام شهر رمضان على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأمر أصحابه بذلك شق عليهم، وكانوا قوما لم يتعوّدوا الصّيام فخيّرهم الله بين الصّيام والإطعام. فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بالطّعام، ثمّ نسخ الله
تعالى ذلك بقوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ونزلت العزيمة في إيجاب الصّوم وعلى هذا القول معاذ بن جبل وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع وابن عمر وعلقمة وعمرو بن مرّة والشعبي والزهري وإبراهيم وعبيدة والضحاك، وأحدى الروايات عن ابن عبّاس. وقال آخرون: بل هو خاص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة والّذين يطيقان الصّوم ولمن يشقّ عليهما رخص لهما: إن شاء أن يفطر مع القدرة ويطعما لكل يوم مسكينا، ثمّ نسخ ذلك بقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وثبت الرخصة للذين لا يطيقون، وهذا قول قتادة والرّبيع بن أنس، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. وقال الحسن: هذا في المريض كان إذا وقع عليه اسم المرض وإن كان يستطيع الصّيام الخيار إن شاء صام، وإن شاء أفطر وأطعم حتّى نسخ ذلك. فعلى هذه الأقاويل الآية منسوخة وهو [قول] أكثر الفقهاء المفسرين. وقال قوم: لم تنسخ هذه الآية ولا شيء منها، وإنّما تأويل ذلك أو على الّذين يطيقونه في حال شبابهم وفي حال صحتهم وقوتهم، ثمّ عجزوا عن الصّوم فدية طعام مساكين لأنّ للقوم كان رخص لهم في الإفطار وهم على الصّوم [قادرون إذا اقتدروا، وآخرون أضمروا] في الآية وقالوا: هذه عبارة عن أول حالهم وجعلوا الآية محكمة، وهذا قول سعيد بن المسيب والسّدي، وأحدى الروايتين عن ابن عبّاس، فحمله ما ذكرنا من هذه الأقاويل على قراءة من قرأ يُطِيقُونَهُ: من الإطاقة وهي القراءة الصحيحة التي عليها عامة أهل القرآن ومصاحف البلدان، وأمّا الذين قرءوا يطوقونه: فتأولوا بهم الشيخ الكبير والمرأة العجوز والمريض الذي لا يرجى برؤه فهم يكلفون الصّوم ولا يطيقونه فلهم أن يفطروا ويطعموا مكان كل يوم أفطروا مسكينا. قالوا: الآية محكمة غير منسوخة، والفدية: الجزاء والبدل من قولك: فديت هذا بهذا أيّ حرمته وأعطيته بدلا منه، يقال: فديت فدية كما يقال: مشيت مشية. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً: فزاد على مسكين واحد وأطعم مسكينين فصاعدا. قاله مجاهد وعطاء وطاوس والسّدي. وقال بعضهم: فمن زاد على القدر الواجب من الإطعام. يزاد الطّعام. رواه ابن جريح وخطيف عن مجاهد، وقال ابن شهاب: يريد فمن صام مع الفدية وجمع بين الصّيام والطّعام فهو خير له. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا (إن) صلة تعني والصوم خَيْرٌ لَكُمْ من الإفطار والفدية إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
فصل في حكم الآية
فصل في حكم الآية اعلم إنّه لا رخصة لأحد من المؤمنين البالغين في إفطار شهر رمضان إلّا لأربعة: أحدهم: عليه القضاء والكفارة. والثاني: عليه القضاء دون الكفارة. والثالث: عليه الكفّارة دون القضاء. والرابع: لا قضاء عليه ولا كفارة. وأمّا الذي عليه القضاء والكفّارة فمن فرّط في قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر، والحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وعليهما القضاء والكفّارة، وإن خافتا على أنفسهما فهما كالمريض حكمهما كحكمه هذا قول ابن عمر ومجاهد ومذهب الشّافعي. وقال بعضهم: في الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما وولدهما أن عليهما الكفّارة ولا قضاء وهو قول ابن عبّاس. وقال قوم: عليهما القضاء ولا كفارة وهو قول إبراهيم والحسن وعطاء والضحّاك ومذهب أهل العراق ومالك والأوزاعي. وأمّا الّذي عليه القضاء دون الكفّارة فالمريض والمسافر والحائض والنفساء عليهم القضاء دون الكفّارة. قال أنس: أتيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتغذّى فقال: «أجلس» فقلت: إنّي صائم. فقال: «أجلس أحدّثك: إنّ الله وضع على المسافر الصوم وشطر الصّلاة» [39] «1» . وأمّا الّذي عليه الكفّارة دون القضاء فالشّيخ الهرم والشّيخة الكبيرة ومن به مرض دائم لا يرجى برؤه وصاحب العطاش الّذي يخاف منه الموت، عليهم الكفّارة ولا قضاء هذا قول عامّة الفقهاء. وروى عن ربيعة بن أبي عبد الرّحمن وخالد بن الدريك إنّهما قالا في الشّيخ والشّيخة: إن استطاعا صاما وإلّا فلا كفّارة عليهما وليس عليهما شيء إذا أفطرا. وقال مالك: لا أرى ذلك واجبا عليهما وأحبّ أن يفعلا فأمّا الّذي لا قضاء عليه ولا كفّارة فالمجنون. واختلف العلماء في حدّ الإطعام في كفّارة الصّيام فقال بعضهم: القدر الواجب نصف
صاع عن كلّ يوم يفطره وهذا قول أهل العراق. وقال قوم منهم: نصف صاع من قمح أو صاع من تمرا أو زبيب أو سائر الحبوب. وقال بعض الفقهاء: ما كان المفطر يتقوّته يومه الّذي أفطره. وقال محمّد بن الحنفية (رضي الله عنه) : يطعم مكان كلّ يوم مدّ الطعامة ومدّ الإدامة. وقال ابن عبّاس: يعطي مسكينا واحدا عشاءه حين يفطر وسحوره حين سحره. وقال بعضهم: يطعم كلّ يوم مسكينا واحدا مدّا وهو قول ابن هريرة وعطاء ومحمّد بن عمرو بن حزم واللّيث بن سعيد ومالك بن أنس والشّافعي وعامّة فقهاء الحجاز وبالله التّوفيق، ثمّ بيّن أيّام الصّيام فقال: شَهْرُ رَمَضانَ قرأه العامّة رفع على معنى أتاكم شهر رمضان. وقال الفرّاء: ذلكم شهر رمضان. الأخفش: هو شهر رمضان. الكسائي: كتب عليكم شهر رمضان، وقيل: ابتداء وما بعده خبره. وقرأ الحسن ومجاهد وشهر بن حوشب: شهرَ رمضان نصبا على هو يعني صوموا شهر رمضان قاله المورّج. وقال الأخفش: نصب على الظرف أي كتب عليكم الصّيام في شهر رمضان. أبو عبيدة: نصب على الإغراء، وقرأ أبو عمرو: مدغما شهر رمضان على مذهب في ادغام كل حرفين يلتقيان من جنس واحد ومخرج واحد او قريبي المخرج طلبا للخفّة وسمّي الشهر شهرا لشهرته. وقال الفرّاء: هو مأخوذ من الشّهرة وهي البياض ومنه يقال: شهرت السّيف إذا أسلته وشهر الهلال إذا طلع، واختلفوا في معنى قوله: رمضان فقال بعضهم: رمضان اسم من أسماء الله فيقال شهر رمضان كما يقال: شهر الله وروى جعفر الصادق عن آبائه (رضي الله عنهم) عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «شهر رمضان شهر الله» [40] . ويدلّ عليه أيضا ما روى هشيم عن آبان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تقولوا رمضان، انسبوه كما نسبه الله تعالى في القرآن فقال: شَهْرُ رَمَضانَ» [41] «1» . وعن الأصمعي قال: قال أبو عمرو: إنّما سمّي رمضان لأنّه رمضت فيه الفعال من الخير.
وقال غيره: لأنّ الحجارة كانت ترمض فيه من الحرارة والرّمضاء الحجارة المحماة. وقيل: سمّى بذلك لأنّه يرمض الذّنوب أي يحرق. وقيل: لأنّ القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والحكمة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرّمل والحجارة من حرّ الشّمس. وقال الخليل: مأخوذة من الرمض وهو مطر يأتي في الخريف فسمّي هذا الشّهر رمضان لأنّه يغسل الأبدان من الأنام غسلا وتطهّر قلوبهم تطهيرا. الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ روى هشيم عن داود عن عكرمة عن ابن عبّاس والسّدي عن محمّد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عبّاس ابن عطيّة الأسود سأله: فقال: إنّه وقع الشّك في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ «2» وقد نزل في سائر الشهور. قال الله وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ «3» الآية وقالوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «4» . فقال: أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ من شهر رمضان. فوضع في بيت العزة في سماء الدّنيا، ثمّ نزل به جبرئيل عليه السّلام على محمّد صلّى الله عليه وسلّم نجوما نجوما عشرين سنة، فذلك قوله فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «5» . داود بن أبي هند قال: قلت للشعبي: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أما كان ينزل عليه في سائر السّنة؟ قال: بلى ولكن جبرئيل كان يعارض محمّدا صلّى الله عليه وسلّم في رمضان ما نزّل الله، فيحكم ما يشاء ويثبت ما يشاء وينسيه ما يشاء. شهاب بن طارق عن أبي ذرّ الغفاري عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: أنزلت صحف إبراهيم في ثلاثة ليال مضين من رمضان، وأنزلت توراة موسى في ست ليال مضين من رمضان، وأنزل أنجيل عيسى في ثلاثة عشر مضت من رمضان، وأنزل زبور داود في ثمان عشرة ليلة قضت من رمضان، وأنزل الفرقان على محمّد في الرّابع والعشرين لست مضين بعدها، ثمّ وصف القرآن فقال: هُدىً لِلنَّاسِ من الضّلالة وهو في محل النصب على القطع لأنّ القرآن معرفه والهدى نكرة. وَبَيِّناتٍ من الحلال والحرام والحدود والاحكام.
مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ الفصل بين الحقّ والباطل. سعيد بن المسيّب عن سلمان قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آخر يوم من شعبان فقال: «يا أيّها النّاس قد أظلكم شهر عظيم، وشهر مبارك، وشهر فيه ليلة خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعا، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصّبر والصّبر ثوابه الجنّة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن، شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار، من فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النّار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله ليس كلّنا يجد ما يفطّر الصّائم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يعطي الله هذا الثّواب، من فطّر صائما على مذقة لبن أو تمر أو شربة ماء، ومن أشبع فيه صائما سقاه الله تعالى من حوضي شربة لا يظمأ حتّى يدخل الجنّة، وكان كمن أعتق رقبة، ومن خفّف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النّار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتان ترضون بها ربّكم، وخصلتان لا غنى عنهما: فأمّا الخصلتان اللتان ترضون بها ربّكم فشهادة أن لا إله إلّا الله وتستغفرونه، وأمّا التي لا غنى بكم عنها فتسألون الله عزّ وجلّ وتعوذون به من النّار» [42] «1» . وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أبواب السّماء وأبواب الجنّة لتفتح لأوّل ليلة من شهر رمضان، فلا تغلق إلى آخر ليلة منها، وليس لعبد يصلّي في ليلة منها إلّا كتب الله عزّ وجلّ بكل سجدة الفا وسبعمائة حسنة، وبنى له بيتا في الجنّة من ياقوتة حمراء لها سبعون ألف باب لكلّ باب منها مصراعان من ذهب موشّح من ياقوتة حمراء، فإذا صام أوّل يوم من شهر رمضان غفر الله له كلّ ذنب إلى آخر يوم من رمضان وكان كفّارة إلى مثلها، وكان له بكلّ يوم يصومه قصر في الجنّة له ألف باب من ذهب، واستغفر له سبعون ألف ملك من غدوة إلى أن توارت بالحجاب، وكان له بكلّ سجدة يسجدها من ليل أو نهار شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها» [43] «2» . محمّد بن يونس الحارثي عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان نادى الجليل جلّت عظمته رضوان خازن الجنان فيقول: لبّيك وسعديك فيقول: جدّد جنّتي وزينها من أمّة أحمد ثمّ لا تغلقها عليهم حتّى ينقضي شهرهم، ثمّ ينادي مالكا خازن النّار: أن يا مالك، فيقول: لبّيك ربي وسعديك فيقول: أغلق أبواب الجحيم عن الصّائمين من امّة أحمد ثمّ لا تفتحها عليهم حتّى ينقضي شهرهم ثمّ ينادي جبرئيل فيقول: لبّيك ربي وسعديك
فيقول: انزل إلى الأرض وغلّ مردة الشياطين لا يفسدوا عليهم صيامهم وإفطارهم، ولله في كل يوم من شهر رمضان عند طلوع الشّمس وعند وقت الإفطار عتقاء يعتقهم من النّار عبيدا وإماءا، وله في كل سماء مناد فيهم، ملك عرفه تحت عرش ربّ العالمين وفرائضه في تخوم الأرض السّابعة السفلى، جناح له بالمشرق مكلل بالمرجان والدّرر والجوهر، وجناح له بالمغرب مكلل بالمرجان والدّرر والجوهر ينادي: هل تائب يتاب عليه؟ هل من داع يستجاب له؟ هل من مظلوم ينصره الله؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ قال: وينادي الرّب تعالى ذكره الشهر كلّه: عبادي وإمائي أبشروا واصبروا [وداوموا] أوشك أن يرفع عنكم في المؤونات، ويفضوا إلى رحمتي وكرامتي. فإذا كان ليلة القدر، نزل جبرئيل في كبكبة «1» من الملائكة يصلون [ويسلمون] على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزّ وجلّ» [44] «2» . إبراهيم بن هدية عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أذن الله للسّماوات والأرض أن يتكلّما بشّرا بمن صام رمضان: الجنّة» [45] . عبد الملك بن عمر عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نوم الصّائم عبادة وصمته تسبيح ودعاؤه مستجاب وعمله مضاعف» [46] «3» . فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قرأه العامة بجزم اللام، وقرأ الحسن والأعرج: بكسر اللام وهي لام الأمر، وحقها الكسر إذا أفردت، وإذا وصلت بشيء ففيه وجهان: الجزم والكسر، وإنّما توصل بثلاثة أحرف الفاء كقوله لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ «4» والواو كقوله وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا «5» وثمّ كقوله ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ «6» . واختلف العلماء في معنى هذه الآية وحكمها: فقال بعضهم: معناها فمن شهده عاقلا بالغا مقيما صحيحا مكلّفا فليصمه قاله أبو حنيفة وأصحابه، وقال قوم: معناها: إذا دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فليصم الشهر كلّه. حتّى لو غاب بعد فسافر أو أقام فلم يبرح قاله النخعي والسّدي. وقال قتادة: إنّ عليّا (رضي الله عنه) كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقيم ثمّ سافر فعليه الصّوم. وقال محمّد بن سيرين: سألت عبيدة السّلمان عن الرّجل يدركه رمضان ثمّ يسافر فقال: إذا
شهدت أوّله فصم آخره إلّا تراه يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قالوا: والمستحب له ألّا يسافر إذا أدركه رمضان مقيما. إن أدركه. حتّى يقضي الشهر، وروي في ذلك عن ابراهيم بن طلحة إنه جاء إلى عائشة رضي الله عنها يسلم عليها قالت: وأين تريد؟ قال: أردت العمرة، قالت: جلست حتّى إذا دخل عليك شهر رمضان خرجت فيه؟ قال: قد خرج ثقلي، قالت: اجلس حتّى إذا أفطرت فاخرج، فلو أدركني رمضان وأنا ببعض الطريق لأقمت له. وقال الآخرون معنى الآية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ما شهد منه وكان حاضرا وإن سافر فله الإفطار إن يشأ، قاله ابن عبّاس وعامّة أهل التأويل، وهو أصحّ الأقاويل يدلّ عليه ما روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عبّاس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح صائما في رمضان حتّى إذا بلغ القنطرة دعا بماء فشرب. وعن الشعبي: إنّه سافر في رمضان فأفطر عند باب الجسر. ثمّ ذكر فقال: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً اختلف العلماء في الزمن الّذي أباح الله تعالى معه الإفطار، فقال قوم: هو كل مرض يسمّى مريضا. وقال [طريف بن تمام] العطاردي: دخلت على محمّد بن سيرين يوما في شهر رمضان وهو يأكل فلمّا فرغ قال لا توجّعت إصبعي هذه. وقال آخرون: فكل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصّوم الزّيادة في علّته زيادة غير محتملة، وهو اختيار الشّافعي. وقال الحسن وإبراهيم: إذا لم يستطع المريض أن يصلّي قائما أفطر، والأصل إنّه إذا لم يمكنه الصّيام وأجهده أفطر فإذا لم يجهده الصّوم فهو بمعنى الصحيح الّذي يطيق الصوم. أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ اختلف العلماء في صيام المسافر فقال قوم: الإفطار في السّفر عزيمة واجبة وليس برخصة فمن صام في السفر فعليه القضاء إذا أقام، وهو قول عمرو أبي هريرة وابن عبّاس وعلي بن الحسين وعروة بن الزبير والضحّاك ، واعتلّوا بما روت أمّ الدّرداء عن كعب بن عاصم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس من البرّ الصيام في السفر» [47] «1» . الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر. وقال آخرون: الإفطار في السّفر رخصة من الله عزّ وجلّ والفرض الصّوم فمن صام ففرضه
أدي ومن أفطر فبرخصة الله أخذ ولا قضاء على من صام إذا أقام، وهذا هو الصّحيح وعليه عامّة الفقهاء. ويدلّ عليه: ما روى عاصم بن الأحول عن أبي نضرة عن جابر قال: كنّا مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سفر فمنّا الصّائم ومنّا المفطر فلم يكن بعضنا يعيب على بعض. وروى يحيى بن سعيد عن هشام عن أبيه عن عائشة: إنّ حمزة بن عمرو قال: يا رسول الله إنّي كنت أتعوّد الصيام أفأصوم في السّفر قال: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» [48] «1» . وعن عروة بن أبي قراح عن حمزة بن عمرو إنّه قال: يا رسول الله أجد بي قوّة على الصّيام في السّفر فهل عليّ جناح قال: «هي رخصة من الله عزّ وجلّ فمن آخذها فحسن ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه» [49] «2» . وامّا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» . فإنّ تمام الخبر يدلّ على تأويله وهو ما روى محمّد بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء فقال: «ما بال صاحبكم هذا؟» قالوا: يا رسول الله صام، قال: «إنّه ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر، وعليكم برخصة الله تعالى التي رخص لكم فاقبلوها» ، وكذلك تأويل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصائم من السّفر كالمفطر في الحضر» [50] «3» . يدلّ عليه حديث مجاهد عن ابن عمر: إنّه مرّ برجل ينضح الماء على وجهه وهو صائم، فقال: أفطر ويحك فإنّي أراك لو متّ على هذا دخلت النّار. والجامع لهذه الأخبار والمؤيد لما قلنا ما روى أيوب عن عروة وسالم إنّهما كانا عند عمر بن عبد العزيز، إذ هو أمير على المدينة. فتذاكروا الصّوم في السّفر. فقال سالم: كان ابن عمر لا يصوم في السّفر، وقال عروة: كانت عائشة تصوم في السّفر. فقال: سالم: إنما أحدّث عن ابن عمر، وقال عروة: إنّما أحدّث عن عائشة، فارتفعت أصواتهما، فقال عمر بن عبد العزيز: اللهمّ اغفر إذا كان يسرا فصوموا وإذا كان عسرا فأفطروا. ثمّ اختلفوا في المستحب منهم، فقال قوم: الصّوم أفضل، وهو قول معاذ بن جبل وأنس وإبراهيم ومجاهد. ويروى إنّ أنس بن مالك أمر غلاما له بالصّوم في السّفر، فقيل له في هذه الآية، فقال: نزلت ونحن يومئذ نرحل جياعا وننزل على غير شبع، فمن أفطر فبرخصة، ومن صام فالصّوم أفضل.
وقال آخرون: المستحب الإفطار لما روى جعفر بن محمّد عن أبيه عن جابر قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكّة عام الفتح في رمضان فصام حتّى إذا بلغ كراع الغميم فصام النّاس، فبلغه إنّ الناس قد شقّ عليهم الصّيام فدعا بقدح ماء وشرب بعد العصر والنّاس ينظرون فأفطر بعض النّاس وصام بعضهم فبلغه إنّ النّاس صاموا فقال: «أولئك العصاة» [51] «1» . عاصم الأحول عن [بريد] العجلي عن أنس بن مالك قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمنّا الصائم ومنا المفطر فنزلنا في يوم حار واتخذنا ظلالا فسقط الصوّام وقام المفطرون فسقوا الرّكاب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» [52] «2» . وروى شعبة عن معلّى عن يوسف بن الحكم قال: سألت ابن عمر عن الصّوم في السّفر فقال: أرأيت لو تصدّقت على رجل بصدقة فردّها عليك ألم يغضبك؟ قال: نعم، قال: فإنّها صدقة من الله عزّ وجلّ تصدّق بها عليكم، وحدّ الاسفار التي يجوز فيها الإفطار ستّة عشر فرسخا فصاعدا. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ حين أرخص في الأسفار للمريض والمسافر. وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع: الْعُسُرَ والْيُسُرَ مثقّلين في جميع القرآن. وقرأ الباقون: بتخفيفهما وهما لغتان جيّدتان ولا حجّة للقدرية في هذه الآية لأنّها مبنية على أوّل الكلام في إيجاب الصّيام فهي خاص في الاحكام لأهل الإسلام. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ قرأ أبو بكر ورويش: بتشديد الميم. وقرأ الباقون بالتخفيف وهو الاختيار لقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «3» والواو في قوله وَلِتُكْمِلُوا واو النسق واللّام لام كي تقديره: ويريد لتكملوا العدّة. وقال الزجّاج: معناه فعل الله ذلك ليسهّل عليكم وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ. وقال عطاء: ولتكمّلوا عدّة أيام الشهر. وقال سائر المفسّرين: ولتكملوا عدّة ما أفطرتم في مرضكم وسفركم إذا برأتم وأقمتم وقضيتموها. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ولتعظموا الله.
عَلى ما هَداكُمْ لدينه ووفقكم ورزقكم شهر رمضان مخفّفا عليكم وخصّكم به دون سائر أهل الملل. وقال أكثر العلماء: أراد به التكبير ليلة الفطر. قال الشافعي روى عن ابن المسيّب وعروة بن سلمة: إنّهم كانوا يكبّرون ليلة الفطر ويجهرون بالتكبير قال: وشبّه [......] «1» لنحرها. قال ابن عبّاس وزيد بن أسلم: في هذه الآية حقّ على المسلمين إذا رأى هلال شوّال أن يكبّروا إلى أن يخرج الإمام في الطّريق والمسجد فإذا حضر الإمام كفّ فلا يكبّر إلّا بتكبيره والاختيار في لفظ التكبير ثلاثا نسقا. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على نعمه. وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ الآية: اختلف المفسّرون في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عبّاس: نزلت في عمر بن الخطّاب وأصحابه حين أصابوا من أهاليهم في ليالي شهر رمضان وستأتي قصّتهم فيما بعد إن شاء الله. وروى الكلبي عن أبي صالح عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف يسمع ربّنا دعاؤنا وأنت تزعم إنّ بيننا وبين السّماء مسيرة خمسمائة عام وان غلظ كل سماء مثل ذلك» ؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن: سأل أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رسول الله أين ربّنا؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال قتادة وعطاء: لمّا نزلت وَقالَ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. فقالوا: يا رسول الله كيف ندعوا ربّنا؟ ومتى ندعوه؟ فأنزل الله هذه الآية. قال الضحّاك: سأل بعض الصحابة النبيّ صلى الله عليه وسلّم: أقريب ربّنا فنناجيه أم بعيد؟ فسأل ربّه فأنزل الله: وَإِذا سَأَلَكَ يا محمّد عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ. وقال أهل المعاني: فيه إضمار كأنّه فعل هم وما علمهم أفي قريب منهم بالعلم. وقال أهل الإشارة: رفع الواسطة إظهارا للقدرة. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا فليجيبوا لِي بالطاعة يقال أجاب واستجاب بمعنى واحد. وقال كعب بن سعد الغنوي: وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال أبو رجاء الخراساني: يعني فليدعوني للاجابة وفي اللغة الطّاعة وإعطاء ما يسأل، يقال: أجابت السماء بالمطر، واجابت الأرض بالنبات، كأنّ الأرض سألت السّماء المطر فأعطت، وسالت السّماء الأرض فأعطت. وقال زهير وغيث من الأسمي حقّ قلاعه ... أجابت رواسيه النّجا [هواطله] «1» يريد أجابت تجمع رواسيه النجا حين سألها المطر وأعطته ذلك. والاجابة من الله تعالى الإعطاء ومن العبد الطّاعة. وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ لكي يهتدوا فان قيل ما وجه قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وقوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقد يدعي كثيرا فلا يستجيب، قلنا: اختلف العلماء في وجه الآيتين وتأويلهما. فقال بعضهم: معنى الدّعاء هاهنا الطّاعة ومعنى الاجابة الثواب كأنّه قال: أجيب دعوة الدّاعي بالثواب إذا أطاعني. وقال بعضهم: معنى الآيتين خاص، وإن كان لفظهما عاما، تقديرها أجيب دعوة الدّاعي إن شئت وأجيب دعوة الدّاعي إذا وافق القّضاء، وأجيب دعوة الدّاعي إذا لم يسأل محالا، وأجيب دعوة الدّاعي إذا كانت الإجابة له خيرا، يدلّ عليه ما روى أبو المتوكّل عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم دعا الله عزّ وجلّ بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلّا أعطاه الله بها أحدى خصال ثلاث: إمّا أن تعجّل دعوته، وامّا أن يدّخر له في الآخرة، وامّا أن يدفع عنه من السوء مثلها» [53] قالوا: يا رسول الله إذا يكثر قال: «الله أكثر» [54] «2» . وقال بعضهم: هو عام وليس في الآية أكثر من إجابة الدّعوة، فأمّا إعطاء المنية وقضاء الحاجة فليس مذكور في الآية، وقد يجيب السّيّد عبده والوالد ولده ثمّ لا يعطيه سؤله فالاجابة كائنة لا محالة عند حصول الدّعوة لمن قوله: أجيب واستجيب خبر والخبر لا يعترض عليه، لأنّه إذا نسخ صار المخبر كذّابا وتعالى الله عن ذلك، ودليل هذا التأويل: ما روى نافع عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فتح له باب في الدّعاء فتحت له أبواب الاجابة، وأوحى الله تعالى إلى داود صلّى الله عليه وسلّم: قل للظّلمة لا تدعوني فإنّي أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإنّي إذا أجبت الظالمين لعنتهم» [55] . وقيل: إنّ الله يجيب دعاء المؤمن في الوقت إلّا إنّه يؤخّر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع
صوته، يدلّ عليه ما روى محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ العبد ليدعو الله وهو يحبه فيقول يا جبرئيل: اقضي لعبدي هذا حاجته وأخّرها فإنّي أحبّ أن لا أزال أسمع صوته، وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه فيقول لجبريل اقض لعبدي حاجته باخلاصه وعجّلها فإني أكره أن أسمع صوته. وبلغنا [عن يحيى ذبيح الله] أنه قال: سألت ربّ العزّة في المنام فقلت: يا رب كم أدعوك فلا تستجيب لي؟ فقال: يا يحيى أنّي أحبّ أن أسمع صوتك» [56] «1» . قال بعضهم: إنّ للدعاء آدابا وشرائط هي أسباب الاجابة ونيل الأمنية فمن راعاها واستكملها كان من أهل الاجابة ومن أغفلها وأخلّ بها [فهو من أهل ... ] «2» في الدّعاء. وحكي إنّ إبراهيم بن أدهم قيل له: ما بالنا ندعوا الله فلا يستجيب لنا؟ قال: لأنّكم عرفتم الله فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنّته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها، وعرفتم الجنّة فلم تطلبوها وعرفتم النّار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. وقوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ الآية: قال المفسرون: كان الرجل في ابتداء الأمر إذا أفطر حلّ له الطّعام والشراب والجماع إلى أن يأتي العشاء الأخيرة أو يرقد قبلها فإذا صلّى العشاء الأخيرة أو رقد قبل الصلاة ولم يفطر حرّم عليه الطّعام والشراب ومنع ذلك إلى مثلها في القابل «3» . ثمّ إنّ عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) واقع أهله بعد ما صلّى العشاء الأخيرة فلمّا اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله: إنّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخطيئة إنّي رجعت إلى أهلي بعد أن صلّيت العشاء الاخيرة فوجدت رائحة طيّبة فسوّلت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما كنت جديرا بهذا يا عمر، فقام رجال فاعترفوا بالّذي كانوا صنعوا بعد العشاء الأخيرة، فنزل في عمر وأصحابه أُحِلَّ لَكُمْ أي أطلق وأبيح لكم لَيْلَةَ الصِّيامِ في ليلة الصيام الرَّفَثُ. قرأ ابن مسعود والأعمش: الرّفوث: إِلى نِسائِكُمْ والرّفث والرفوث كناية عن الجماع قال ابن عبّاس: إنّ الله تعالى حي كريم يكني فما ذكر الله في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدّخول والرفث فانّما يعني به الجماع.
قال الشّاعر: فظلنا هنالك في نعمّ ... وكل اللذاذة غير الرّفث قال القتيبي: الرَّفَثُ هو الإفصاح بما يجب أن يكنّى به من ذكر النكاح وأصله الفحش وقول القبيح. قال العجاج: ورب أسراب حجيج كظم ... عن اللغا ورفث التكلم «1» . وقال الزجاج: الرَّفَثُ كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء. قال الشاعر: ويزين من أنس الحديث راويا ... وهنّ من رفث الرجال نفار هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ هنّ سكن لكم وأنتم سكن لهنّ قاله أكثر المفسّرين نظيره قوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً «2» اي سكنا دليله قوله وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها «3» ليسكن إليها. وقال أصحاب المعاني: اللّباس الشعار الّذي يلي الجهار من الثياب فسمّي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد وانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه حتّى يصير كلّ واحد منهما لصاحبه كالثوب الّذي يليه. قال نابغة بني جعدة: إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنّت وكانت لباسا «4» فكنّى عن اجتماعهما متجرّدين في فراش واحد باللّباس يدلّ على صحّة هذا التأويل قول الربيع بن أنس في هذه الآية: هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنّ. وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وواراه لباس فجائز أن يكون كلّ واحد منهما سترا لصاحبه عمّالا يحلّ كما جاء في الخبر: من تزوّج فقد أحرز دينه، وسترا أيضا فيما يكون بينهما من الجماع عن أبصار الناس، يدلّ عليه: قول أبي زيد في قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ قال: للمواقعة. وقال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وازارك، وقال رجل لعمر بن الخطّاب: الا أبلغ أبا حفص رسولا ... فذى لك من اخي ثقة ازاري «5»
قال أبو عبيدة: أي نسائي. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ تخونونها وتظلمونها بعد العشاء الآخرة في ليالي الصّوم. فَتابَ عَلَيْكُمْ فتجاوز عنكم. وَعَفا عَنْكُمْ محا ذنوبكم. فَالْآنَ وجه حكم زمانين ماض وآت. بَاشِرُوهُنَّ جامعوهنّ حلالا سميت المجامعة مباشرة لتلاصق كلّ واحد منهما ببشرة صاحبه. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي افعلوه وقرأه العامّة الصحيحة وابتغوا أيّ اطلبوا يقال: يبغي الشيء يبغيه بغيه وبغا وابتغاه يبتغيه ابتغاء طلبه. ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قضى الله لكم، وقيل: كتب في اللوح المحفوظ. وقال أكثر المفسرين: يعني الولد. قال مجاهد: ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه. قال ابن زيد: وابتغوا ما أحل الله لكم من الجماع. قتادة: وابتغوا الرّخصة التي كتبت لكم. وقال معاذ بن جبل: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني ليلة القدر وكذلك روى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس وأشبه الأقاويل بظاهر الآية قول من تأوله على الولد لأنّه عقيب قوله فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وهو أمر اباحة وندب كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تناكحوا تكثروا فانّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتّى بالسقط» [57] «1» . وقال أهل الظاهر: هو أمر إيجاب وحتم، يدلّ عليه ما روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك: إنّ امرأة كانت يقال لها: الحولاء عطارة من أهل المدينة، وحلّت على عائشة فقالت: يا أم المؤمنين زوجي فلان أتزيّن له كل ليلة وأتطيب كأنّي عروس زفت إليه فإذا آوى إلى فراشه دخلت عليه في لحافه ألتمس بذلك رضا الله عزّ وجلّ حوّل وجهه عني أراه قد أبغضني، قالت: أجلسي حتّى يدخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: فبينا إنّا كذلك إذ دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما هذه الرّيح التي أجدها أتتكم الحولاء أبتعتم منها شيئا؟
فقالت عائشة: لا والله يا رسول الله. فقصّت الحولاء قصتها. فقال لها: اذهبي واسمعي له وأطيعي، فقالت: أفعل يا رسول الله، فما لي من الأجر؟ قال: «ما من امرأة رفعت في بيت زوجها شيئا ووضعته مكانا تريد الإصلاح إلّا كتب الله لها حسنة ومحا عنها سيئة، ورفع لها درجة، وما من امرأة حملت من زوجها حين تحمل إلّا لها من الأجر مثل القائم الصّائم نهاره الغازي في سبيل الله، وما من امرأة يأتيها الطلق إلّا لها بكل طلقة عتق نسمة وبكل رضعة عتق رقبة فإذا افطمت ولدها ناداها مناد من السّماء أيتها المرأة قد كفيت العمل فيما مضى فاستأنفي فيما بقي» [58] . قالت عائشة: قد أعطى الله النّساء خيرا كثيرا فما بالكم يا معشر الرّجال، فضحك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قال: «ما من رجل أخذ بيد امرأته يراودها إلّا كساه نور وله حسنة، وإن عانقها فعشر حسنات وإن قبلها فعشرون، وإن أتاها كان خيرا من الدّنيا وما فيها، فإذا قام يغتسل لم يمرّ الماء على شيء من جسده إلّا يمحى عنه سيئة، ويعطي له [......] «1» يعطى بغسله خير من الدّنيا وما فيها، وإنّ الله عزّ وجلّ يباهي الملائكة يقول: انظروا إلى عبدي قام في ليلة مرة باردة يغتسل من الجنابة يتيقن بأني ربّه أشهدكم بأني غفرت له» [59] «2» . كُلُوا وَاشْرَبُوا إلى الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ. نزلت في رجل من الأنصار، واختلف في اسمه. فقال معاذ بن جبل: أبو صرمة البراء قيس بن صرمة. عكرمة والسّدي: ابو قيس بن صرمه. مقاتل بن حيّان: صرمة بن أياس الكلبي: أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة بن ملك بن عدي النّجار وذلك إنّه ظل نهاره يعمل في أرض له، وهو صائم، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر وقال: قدّمي الطّعام، وأرادت المرأة أن تطعمه عشاء سخنا، وأخذت تعمل له سخينة، وكان في الصّوم الأول من صلّى العشاء الآخرة أو نام، حرم عليه الطعام والشّراب والجماع، فلما فرغت من طعامه إذا هي به قد نام، وكان متداعيا وكلّ فايقظته فكره أن يعصي الله ورسوله وأبى أن يأكل، وأصبح صائما مجهودا، فلم ينتصف النهار حتّى غشي عليه، فلمّا أفاق، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما رآه رسول الله قال: «يا أبا قيس مالك أمسيت طليقا؟» [60] قال: ظللت أمس في النخيل ونهاري كلّه أجر بالحرير حتّى أمسيت، فأتيت فأرادت امرأتي أن تطعمني شيئا سخنا فأبطأت عليّ، فنمت فايقظوني وقد حرّم عليّ الطعام والشراب، فطويت وأمسيت وقد أجهدني الصّوم، فاغتمّ لذلك
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى وَكُلُوا يعني في ليالي الصّوم وَاشْرَبُوا فيها حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ أي بياض النّهار وضوءه من سواد الليل وظلمته ، كذا قال المفسرون. قال الشاعر: الخيط الأبيض وقت الصّبح منصدع ... والخيط الأسود لون الليل مكموع «1» وإنّما سمّي بذلك تشبيها بالخيط لابتداء الضوء والظلمة لامتدادهما. وقال ابو داود: فلمّا أضاءت لنا غدوة ... ولاح من الصبح خيط أنارا «2» وقد ورد النّص عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تفسير هذه الآية. وروى مخالد عن عامر عن عدي بن حاتم قال: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصّلاة والصّيام قال: صل كذا، وصم كذا، فإذا غابت الشمس: فكل واشرب حتّى يتبين لك الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، وصم ثلاثين يوما إلى أن ترى الهلال قبل ذلك، قال: فأخذت خيطتين من شعر أبيض وأسود، وكنت أنظر فيهما فلا يتبين لي. فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حتّى بدت نواجذه وقال: «يا ابن حاتم إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل» [61] «3» . وروى أبو حازم عن سهل بن سعد قال: نزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم يقول: من الفجر. كان رجال إذا أرادوا الصوم يضع أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتّى يتبين لهم فأنزل الله تعالى مِنَ الْفَجْرِ فعلموا إنّما يعني بذلك الليل والنهار. والفجر انشقاق عمود الصبح وابتداء ضوءه، وهو مصدر من قولك فجرّ الماء يفجر فجرا إذا انبعث وجرى شبّهه شق الضوء بظلمة الفجر، الماء الحوض إذا شقه وخرج منه وهما فجران، أحدهما: يسطع في السماء مستطيلا كذنب السرحان ولا ينتشر فذلك لا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام على الصائم وهو الفجر الكاذب. والثاني: هو المستطير الذي ينتشر ويأخذ الأفق ضوء الفجر الصادق الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم وهو المعني بهذه الآية.
عن سمرة بن جندب قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لا يمنعكم من السحور آذان بلال ولا الصبح المستطيل ولكن الصبح المستطير في الأفق» [62] «1» . ثمّ ذكر وقت الإفطار فقال ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ. قال عبد الله بن أبي أوفى: كنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في مسيرة وهو صائم فلمّا غربت الشمس قال لرجل: انزل فاجرح لي، فقال الرجل: يا رسول الله أمسيت؟ فقال: انزل فاجرح لي، فقال الرجل: لو أمسيت، فقال: انزل فاجرح لي، قال: يا رسول الله ان علينا نهارا فقال له الثالثة فنزل فجرح له. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم» [63] «2» . وفي بعض الألفاظ: أكل أو لم تأكل. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، كان مجاهد يقرأ في المسجد، وأصل العكوف والاعتكاف الثبات والاقامة. فقال: عكفت بالمكان إذا عكفت، قال الله عزّ وجلّ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ «3» أيّ يقيمون. قال الفرزدق يصف القدور: يرى حولهن معتفين كأنهم ... على صنم في الجالية عكف وقال الطرماح: فبات بنات الليل حولي عكّفا ... عكوف البواكي بينهن صريع «4» وقال آخر: تصدّى لها والدجى قد عكف خيال هداه إليه الشغف، والاعتكاف هو حبس النفس في المسجد على عبادة الله تعالى. واختلف العلماء في معنى المباشرة التي نهي المعتكف عنها. فقال قوم: هي المجامعة خاصة معناه لا تجامعوهن ما دمتم معتكفين في المساجد، فإن الجماع يفسد الاعتكاف وبه قال ابن عبّاس وعطاء والضحاك والربيع. وقال قتادة ومقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانوا يعتكفون في المسجد وإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثمّ يغتسل ويرجع إلى المسجد فنهوا أن يجامعوا ليلا ونهارا حتّى يفرغوا من اعتكافهم.
وقال أبو زيد: المباشرة الجماع وغير الجماع من اللمس والقبلة وانواع التلذذ، والجماع مفسد للاعتكاف بالإجماع، والمباشرة غير الجماع، فهو على ضربين: ضرب يقصد به التلذذ بالمرأة فهو مكروه ولا يفسد الاعتكاف عند أكثر الفقهاء وقال مالك بن أنس: يفسده. قال ابن جريج: قلت لعطاء المباشرة هو الجماع؟ قال: الجماع نفسه، قلت له: فالقبلة في المسجد والمسّة؟ قال: أما الذي حرّم فالجماع وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد «1» . والضرب الثاني: ضرب يقصد به التلذذ بالمرأة فهو مباح كما جاء في الخبر عن عائشة رضي الله عنها، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخرج إليها رأسه من المسجد فترجّله وهو معتكف. فرقد السجني عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في المعتكف: «هو معتكف «2» الذنوب وتجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها» [64] «3» . عن علي بن الحسين عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من اعتكف عشرا في رمضان كان بحجتين وعمرتين» [65] «4» . تِلْكَ الأحكام التي ذكرنا في الصيام والاعتكاف حُدُودُ اللَّهِ. قال السّدي: شروط الله. شهر بن حوشب: فرائض الله. الضحاك: معصية الله. المفضل بن سلمة: الحد الموقف الذي يقف الإنسان عليه ويصف له حتّى يميّز من سائر الموصوفات والحد فصل بين الشيئين، والحد منتهى الشيء. وقال الخليل: الحد الجامع المانع. قال الزجاج: بحدود ما منع الله تعالى من مخالفتها. قلت: وأصل الحد في اللغة: المنع ومنه قيل للبواب حداد. قال الأعشى:
[سورة البقرة (2) : الآيات 188 إلى 189]
فقمنا ولما يصح ديكنا ... إلى جونة عند حدادها «1» يعني صاحبها الذي يحفظها ويمنعها. قال النابغة: إلّا سليمان إذ قال المليك له قم في البرية فاحددها عن الفند «2» ، ومنه حدود الأرض، والدار هي ما منع غيره أن يدخل فيها، وسمي الحديد حديدا لأنه يمتنع من الأحداء، ويقال أحدّت المرأة على زوجها وحدّت إذا منعت نفسها من الزينة، فحدّد الله هي ما منع فيها أو منع من مخالفتها والتعدّي إلى غيرها. فَلا تَقْرَبُوها فلا تأتوها، يقال: قربت الشيء أقربه وقربت منه بضم الراء إذا دنوت منه. كَذلِكَ هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتقوها فنجّوا من السخطة والعذاب. [سورة البقرة (2) : الآيات 188 الى 189] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ الآية. قال ابن حيان وابن السائب: نزلت هذه في امرؤ القيس بن عابس الكندي وفي عبدان بن أشرح الحضرمي، وذلك إنهما اختصما إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ فقرأها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأبى أن يحلف وحكم عبدان في أرضه ولا يخاصمه. فقرأها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان امرؤ القيس المطلوب وعبدان الطالب فأنزل الله عزّ وجلّ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ الآية أيّ لا يأكل بعضكم مال بعض، (بِالْباطِلِ) أي من غير الوجه الذي أباحه الله تعالى له ، وأصل الباطل الشيء الذاهب الزائل يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا إذا ذهب. وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ أي تلقون أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام، وأصل الأدلاء إرسال الدلو وإلقاءه في البئر، يقال أدلى دلوه إذا أرسلها.
قال الله تعالى فَأَدْلى دَلْوَهُ «1» ودلاها إذا أخرجها ثمّ جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء، ومنه قيل للمحتج بدعواه: أدلى بحجته إذا كانت سببا له يتعلق به في خصومته كتعلق المسقي بدلو قد أرسلها هو سبب وصوله إلى الماء، ويقال: أدلى فلان إلى فلان إذا تناول منه وأنشد يعقوب: فقد جعلت إذا حاجة عرضت ... بباب دارك أدلوها أيا قوم ومنه يقال أيضا: دلا ركابه يدلوها إذا ساقها سوقا رفقا قال الراجز: يا ذا الذي يدلوا المطيّ دلوا ... ويمنع العين الرقادا المرا واختلف النحاة في محل قوله وَتُدْلُوا. فقال بعضهم: جزم بتكرير حرف النهي المعني ولا تأكلوا ولا تدلوا وكذلك هي في حرف أبي بإثبات لا. وقيل: وهو نصب على الصرف. كقول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وقيل: نصب بإضمارين الخفيّفة. قال الأخفش: نصب على الجواب بالواو. لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ بالباطل. وقال المفضل: أصل الإثم التقصير في الأمر. قال الأعشى: جمالية تعتلي بالرّداف ... إذا كذب الأثمان الهجيرا أي المقصرات يصف [ناقته] «2» ثمّ جعل التقصير في أمر الله عزّ وجلّ والذنب إثما. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إنكم مبطلون. قال ابن عبّاس: هذا في الرجل يكون عليه مال وليس له فيه بينة فيجحد ويخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف ان الحق عليه ويعلم إنه آثم أكل حرام. قال مجاهد: في هذه الآية لا يخاصم وليست ظالم.
الحسن: هو أن يكون على الرجل لصاحبه حق فإذا طالبه به دعاه إلى الحكام فيحلف له ويذهب بحقه. الكلبي: هو أن يقيم شهادة الزور. قتادة: لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم إنك ظالم فإن قضاءه لا يحل حرامه ومن قضى له بالباطل فإن خصومته لم ينقض حتّى يجمع الله عزّ وجلّ يوم القيامة بينه وبين خصيمه فيقضي بينهما بالحق. وقال شريح: إني لأقضي لك، وإني لأظنك ظالما، ولكن لا يسعني إلّا أن أقضي بما يحضرني من البيّنة، وإن قضائي لا يحل لك حراما. محمّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» [66] «1» . يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاريين قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدوا دقيقا مثل الخيط ثمّ يزيد حتّى يمتلئ ويستوي ثمّ لا يزال ينقص حتّى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ يا محمّد عَنِ الْأَهِلَّةِ وهي جمع هلال مثل رداء وأردية واشتقاق الهلال من قولهم استهل الصبي إذا صرخ حين يولد. وأهل القوم بالحج والعمرة إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية. قال الشاعر: يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر فسمّي هلالا لأنه حين يري يهل الناس بذكر الله ويذكره. قُلْ هِيَ مَواقِيتُ وهو الزمان المحدود للشيء لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ أخبر الله عن الحكمة في زيادة القمر ونقصانه واختلاف أحواله، اعلم إنه فعل ذلك: ليعلم الناس أوقاتهم في حجتهم وعمرتهم وحلّ ديونهم ووعد حلفائهم وأجور أجرائهم ومحيض الحائض ومدة الحامل ووقت الصوم والإفطار وغير ذلك، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة. وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها قال المفسّرون: كان الناس في الجاهلية وفي أوّل الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطا ولا بيتا ولا دارا من بابه فإن كان من أهل المدن نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما فيصعد منه وإن
[سورة البقرة (2) : الآيات 190 إلى 193]
كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل من الباب ولا يخرج منه حتّى يحل من إحرامه، ويرون ذلك برا إلّا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو النضر بن معاوية، سمّوا حمسا لتشددهم في دينهم والحماسة والشدة والصلابة قالوا: فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل من الأنصار رجل يقال له زعامة بن أيوب، وقال الكلبي: قطبة بن عامر بن حذيفة أحد بني سلمة فدخل على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لم دخلت من الباب وأنت محرّم؟ قال: رأيتك دخلت فدخلت على أثرك، فقال رسول الله: إليّ أحمس، قال الرجل: إن كنت أحمس: فإنّ أحمس ديننا واحد، رضيت بهديك وهمتك ودينك، فأنزل الله هذه الآية «1» . الزهري: كان ناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء ويتحرجون من ذلك وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فتبدوا له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ثمّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فيخرج إليه من بيته، حتّى بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهلّ زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة ودخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لم فعلت ذلك؟ قال: لأني رأيتك دخلت، فقال: لأني أحمس. [قال الزهري:] وكانت الحمس لا يبالون بذلك. فقال الأنصاري: وأنا أحمس. يقول: وأنا على دينك فأنزل الله تعالى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها «2» . قرأ حمزة الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ونافع برواية تَأْتُوا الْبِيُوتَ بكسر الباء في جميع القرآن لمكان الياء. وقرأ الباقون: بالضم على الأصل. وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى أي برّ من اتقى كقوله وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وقد مرّ ذكره وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها في حال الإحرام وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 193] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ دين الله وطاعته الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ. قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه أوّل آية نزلت في القتال فلما نزلت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقاتل من يقاتله ويكف عمن كفّ عنه حتّى نزلت: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ فنسخت هذه الآية وَلا تَعْتَدُوا أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقي إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم وهو قول ابن عبّاس ومجاهد. وقال يحيى بن عامر: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن قوله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. فكتب إليّ: إن ذلك في النساء والذرية والرهبان ومن لم ينصب الحرب منهم. وقال الحسن: لا يعتدوا أي لا تأتوا ما نهيتم عنه. وقال بعضهم: الاعتداء ترك قتالهم. علقمة بن مرثد عن سليمان بن يزيد عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أمرا على سرية أو جيش أوصى في خاصة نفسه بتقوى الله وممن معه من المسلمين خيرا وقال: «اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا» [67] «1» . وعن عطاء بن أبي رباح قال: لما استعمل أبو بكر يزيد بن أبي سفيان على الشام خرج معه يشيعه أبو بكر ماشيا وهو راكب فقال له يزيد: يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: ما أنت بنازل ولا أنا براكب إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، إني أوصّيك وصية إن أنت حفظتها ستمر على قوم قد حبسوا أنفسهم في الصوامع زعموا لله فزعهم وما حبسوا له أنفسهم، وستمر على قوم قد فحصوا عن أوساط رؤسهم وتركوا من شعورهم أمثال العصائب، فاضرب ما فحصوا منه بالسيف. ثمّ قال: «لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا فانيا ولا تعقروا شجرا مثمرا ولا تغرقوا نخلا ولا تحرقوه ولا تذبحوا بقرة ولا شاة إلّا لمأكل ولا تخربوا عامرا» [68] «2» . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج هو وأصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة وكانوا ألفا وأربعمائة فساروا حتّى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثمّ صالحه المشركون على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلي له بكل عام قابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء، فصالحهم رسول الله ثمّ رجع من فوره ذلك إلى المدينة فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا يفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ محرمين الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يعني قريشا وَلا تَعْتَدُوا ولا تظلموا فتبدؤا في الحرم بالقتال محرمين. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ثمّ قال وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم وأصل يثقف بحذف والبصر بالأمر، يقال: رجل ثقف لقف إذا كان حاذقا في الحرب بصيرا بمواضعها جيد الحذر فيه، فمعنى الآية: واقتلوهم حيث أبصرتم مقابلتهم وتمكنتم من قتلهم. وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعني مكّة وَالْفِتْنَةُ يعني الشرك أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يعني وشركهم بالله عزّ وجلّ أعظم من قتلكم إياهم في الحرم والحرم الإحرام، قاله عامّة المفسّرين. وقال الكسائي: الفتنة هاهنا العذاب وكانوا يعذبون من أسلم. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف ويحيى بن رئاب والأعمش وحمزة والكسائي: يَقْتُلُوكُمْ بغير ألف من القتل على معنى لا تقتلوا بعضهم. تقول العرب: قتلنا بني فلان وإنّما قتلوا بعضهم، لفظه عام ومعناه خاص. وقرأ الباقون: كلها بالألف من القتال، واختلفوا في حكم هذه الآيات. فقال قوم: هي منسوخة ونهوا عن الابتداء بالقتال، ثمّ نسخ ذلك بقوله وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذا قول قتادة والربيع. مقاتل بن حيان: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي حيث أدركتم في الحل والحرم، لما نزلت هذه الآية نسخها قوله وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثمّ نسختها آية السيف في [براءة] فهي ناسخة ومنسوخة. وقال آخرون: هذه الآية محكمة ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا عن القتال والكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما سلف
[سورة البقرة (2) : الآيات 194 إلى 197]
رَحِيمٌ بعباده، نظيرها في الأنفال وَقاتِلُوهُمْ يعني المشركين حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ شرك يعني قاتلوهم حتّى يسلموا فليس يقبل من المشرك الوثني جزية ولا يرضى منه إلّا بالإسلام وليسوا كأهل الكتاب بالذين يؤخذ منهم الجزية والحكمة فيه على ما قال المفضل بن سلمة إن مع أهل الكتاب كتبا منزلة فيها الحقّ وإن كانوا قد حرفوها فأمهلهم الله تعالى بحرمة تلك الكتب من القتل [وأهواء] صغارهم بالجزية، ولينظروا في كتبهم ويتدبرونها فيقفوا على الحق منها ويمنعوه كفعل مؤمني أهل الكتاب ولم يكن لأهل الأوثان من يرشدهم إلى الحقّ وكان إمهالهم زائدا في اشراكهم فإنّ الله تعالى لن يرضى منهم إلّا بالإسلام أو القتل عليه. وَيَكُونَ الدِّينُ الإسلام لِلَّهِ وحده فلا يعبد دونه شيء، قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت [معد] ولا وبر إلّا أدخله الله عزّ وجلّ كلمة الإسلام، إما يعزّ عزيز أو يذل ذليل، إما أن يعزهم فيجعلهم الله من أهله فيعزوا به، وإما أن يذلهم فيدينون لها» [69] «1» . فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر والقتال فَلا عُدْوانَ فلا سبيل ولا حجة إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ. قال ابن عباس: يدلّ عليه قوله عزّ وجلّ قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ «2» أي فلا سبيل عليّ وقال أهل المعاني: العدوان الظلم، دليله قوله تعالى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ «3» ولم يرد الله تعالى بهذا أمرا بالظلم أو إباحة له وإنما حمله على اللفظ الأوّل على ظهر [المجادلة] فسمى الجزاء على الفعل فعلا كقوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «4» وقوله فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «5» . وقال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا قتادة وعكرمة: في هذه الآية، الظالم الذي يأبى أن يقول لا إله إلّا الله، وإنّما سمي الكافر ظالما، لوضعه العبادة في غير موضعها. [سورة البقرة (2) : الآيات 194 الى 197] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ نزلت في عمرة بالقضاء وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صالح أهل مكّة عام الحديبية على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع العام القابل على أن يخلوا له مكّة ثلاثة أيام فيدخلها هو وأصحابه ويعمرون ويطوفون بالبيت ويفعلون ما أحبوا، على أن لا يدخلوها إلّا بسلاح الراكب في عمرة ولا يخرجوا بأحد معهم من أهل مكّة، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك العام ورجع العام القابل في ذي القعدة ودخلوا مكّة واعتمروا وطافوا ونحروا وقاموا ثلاثة أيام فأنزل الله الشَّهْرُ الْحَرامُ ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكّة واعتمرتم وقضيتم مناسككم وطوافكم في سنة سبع بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت ومنعتم من مرادكم في سنة ست. والشَّهْرُ مرفوع بالابتداء وخبره في قوله بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ جمع الحرمة كالظلمات جمع الظلمة والحجرات جمع الحجرة والحرمة ما يجب حفظه وترك انتهاكه وإنّما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام قِصاصٌ والقصاص المساواة والمماثلة: وهو أن يفعل بالفاعل كما فعل فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ قاتلوه بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فسمي الجزاء باسم الابتداء «1» على مقابلة الشرط وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ الآية، اعلم إن التهلكة: مصدر بمعنى الإهلاك وهو تفعلة من الهلاك. قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد الخازرنجي يقول: لا أعلم في كلام العرب مصدرا على تفعلة بضم العين إلّا هذا. وقال بعضهم: التهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك. ومعنى قوله لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ لا تأخذوا في ذلك. ويقال: لكل من بدأ بعمل: قد القى يديه فيه. قال لبيد يذكر الشمس:
حتّى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجّن عورات الثغور ظلامها «1» أي بدأت في المغيب. قال المبرد: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أراد أنفسكم فعبّر بالبعض عن الكلّ كقوله تعالى ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «2» فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «3» والباء في قوله بِأَيْدِيكُمْ زائدة كقوله تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ قال الشاعر: ولقد ملأت على نصيب «4» جلده ... مساءة إن الصديق يعاتب «5» يريد ملأت جلده مساءة. قالوا: والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلّا في الشر. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية. فقال بعضهم: هذا في البخل وترك النفقة، يقول: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا تمسكوا الإنفاق في سبيل الله فان الإمساك عند الانفاق في سبيل الله هو الهلاك وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة والضحاك وابن كيسان. قال ابن عبّاس: في هذه الآية: أنفق في سبيل الله وإن لم تكن لك إلّا سهم أو مشقص ولا يقولن أحدكم إنى لا أجد شيئا «6» . وقال السّدي: فبما أنفق في سبيل الله ولو بمثقال. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ لا تقل ليس عندي شيء. مجاهد: لا نمنعكم نفقة في حق خيفة العيلة. الحسن: إنّهم كانوا يسافرون ويغزون ولا ينفقون من أموالهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أمر الناس بالجهاز إلى الحج، وقيل: إلى العمرة عام الحديبية، وكان إذا أراد سفر نادى مناديه بذلك فيعلمهم فيعدّوا أهبة السفر، فلمّا أمرهم بالتجهيز قام إليه ناس من اعراب حاضري المدينة فقالوا: يا رسول الله بماذا نتجهز فو الله لا من زاد ولا مال نتجهز به ولا يطعمنا أحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب ومقاتل بن حيان: لما أمر الله بالإنفاق قال رجال: أمرنا بالنفقة
في سبيل الله فإن أنفقنا أموالنا بقينا فقراء ذوي مسكنة، فقال الله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ يعني أنفقوا ولا تخشوا العيلة فإني رازقكم ومخلف عليكم. الخليل بن عبد الله عن علي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وجابر وعمران بن حصين كلهم يحدثون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال: «من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» [70] «1» ثمّ تلا هذه الآية وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «2» . وروى النضر بن عزيز عن عكرمة وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قال: لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ. [قال] زيد بن أسلم: إن رجالا كانوا يخرجون في بعوث بعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغير نفقة فإما أن يقطع بهم، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله، وإذا لم يكن عندك ما ينفق فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوّة فتلقي بيديك إلى التهلكة، والتهلكة: أن يهلك من الجوع أو من العطش ثمّ قال لمن بيده ويبخل وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وقال محمّد بن كعب القرظي: كان القوم يكونّون في سبيل الله فيتزود الرجل فيكون أفضل زادا من الآخر فينفق النّاس من زاده حتّى لا يبقى منه شيء يحب أن يواسي صاحبه، فأنزل لله تعالى هذه الآية. وقال بعضهم: هذه الآية نزلت في ترك الجهاد. زيد بن أبي حبيب عن أسلم بن عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، قال: فوقفنا صفين لم أر قط أعرض ولا أطول منها والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة قال: فحمل رجل منّا على صف الروم حتّى خرقه ثمّ خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة. وقال أبو أيوب الأنصاري: إنكم لتؤولون هذه الآية على هذا التأويل ان حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو بلى من نفسه، نحن أعلم بهذه الآية، إنها نزلت فينا معشر الأنصار، إنّا لما أعز الله دينه ونصر رسوله قلنا بيننا [معاشر الأنصار] «3» سرّا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتّى فشى الإسلام ونصر الله عزّ وجلّ نبيه، وقد وضعت الحرب أوزارها فلو
رجعنا إلى أهلنا وأولادنا وأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى فينا وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. والتهلكة: الاقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. قال أبو عمران: فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتّى دفن بالقسطنطينية «1» . وروى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال: التهلكة عذاب الله عزّ وجلّ يقول: لا تتركوا الجهاد فتعذبوا دليله قوله إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً «2» عن [يزيد] بن أبي أنيسة عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمّن قال لا إله إلّا الله لا تكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله عزّ وجلّ إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال [لا يبطله] جور ولا عدل، والإيمان بالاقدار» [71] «3» . أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» [72] «4» «5» . وقال أبو هريرة وأبو سفيان: هو الرجل يستقبل بين الصفين فيحمل على القوم وحده. وقال محمّد بن سيرين وعبيد السلماني: الإلقاء في التهلكة هو القنوط من رحمة الله. قال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليست توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي فنهاهم الله عن ذلك. قال يمان بن رئاب والمفضل بن سلمة الرجل ألقى بيديه إذا استسلم للهلاك ويئس من النجاة. عن شعبة عن أبي إسحاق عن [أبيه] في هذا الآية وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قيل له: أهو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسيف؟ قال: لا ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول لا توبة لي. هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال: جاء حبيب بن الحرث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا
رسول الله إني رجل معراض الذنوب. قال: «فتب إلى الله يا حبيب، قال: يا رسول الله إني أتوب ثمّ أعود. قال: «فكلّما أذنبت فتب» قال: إذا يا رسول الله تكثر ذنوبي. قال: «عفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحرث» [73] «1» . فقال فضيل بن عياض: في هذه الآية وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بإساءة الظن بالله وأحسنوا الظن بالله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الظن به. وعن محمّد بن إبراهيم الكاتب قال: دخلنا على أبي نؤاس الحسن بن هاني نعوده في مرضه الذي مات فيه ومعنا صالح بن علي الهاشمي فقال له صالح: تب إلى الله يا أبا عليّ فإنك في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وبينك وبين الله هناة، فقال: أسندوني، إياي تخوف بالله، فقد حدثني حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما جعلت شفاعتي لأهل الكبائر من [أمتي] أتراني لا أكون منهم» [74] «2» . وحدثنا حماد عن ثابت عن أنس ان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج رجلان من النّار فيعرضان على الله عزّ وجلّ ثمّ يؤمر بهما إلى النّار فيلتفت أحدهما فيقول: أي ربّ ما كان هذا رجائي، قال الله وما كان رجاءك؟ قال: كان رجائي إذا أخرجتني منها لا تعيدني إليها، فيرحمه الله عزّ وجلّ فيدخله الجنّة» [75] «3» . وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. قرأ ابن أبي إسحاق: (الْحِجَّ) بكسر الحاء في جميع القرآن وهي لغة تميم وقيس بن غيلان. وذكر عن طلحة بن مصرف: بالكسر هاهنا، وفي سورة آل عمران، وبالفتح في سائر القرآن. وقرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم، برواية حفص: بالكسر في آل عمران وبالفتح في سائر القرآن. وقرأ الباقون: بالفتح كل القرآن وهي لغة أهل الحجاز. قال الكسائي: هما لغتان ليس بينهما في المعنى شيء مثل رطل ورطل [......] «4» بنصب وكسر. وقال أبو معاذ: (الْحَجَّ) بالفتح مصدر والحِج بالكسر الإسم مثل قسم وقسم وشرب
وشرب وسقي وسقي وفي مصحف عبد الله وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بالبيت. وقرأ علقمة وإبراهيم: وأتيموا الحج والعمرة. واختلف المفسرون في إتمامهما. فقال بعضهم: معنى ذلك وأتموا الحج والعمرة بمناسكهما وحدودهما وسنتهما وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: من أحرم بحج أو عمرة ليس له أن يحل حتّى يتمها، وتمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة فطاف بالبيت وقد حل من إحرامه كلّه بتمام العمرة، إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حلّ، وفرائض الحج أربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الافاضة، والطواف والسعي بين الصفا والمروة، وأعمال العمرة كلها أربعة: فرض الإحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وأقله ثلاث شعرات. روى سعيد بن جبير وطاوس: تمام الحج والعمرة أن يحرم بهما مفردين.... «1» .. وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة فقال جاء رجل إلى علي فقال: أرأيت قول الله عزّ وجلّ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال: إن تحرم من دويرة أهلك «2» . قال قتادة [إتمام العمرة] أن يعتمر في غير أشهر الحج، وما كان في أشهر الحج ثمّ أقام حتّى يحج فهي متعة، وعليه فيها الهدي إن وجد، أو الصيام، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلها حتّى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة. ابن جريح عن عطاء عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله: «عمرة في رمضان تعدل حجّة» [76] «3» . وقال الضحاك: أيامها [إتمامها] أن يكون النفقة حلالا [وينتهي] عما نهى الله عنه. وقال سفيان: تمامها أن يخرج من [بلده] لهما لا يريد غيرهما ولا يخرج لتجارة ولا لحاجة حتّى إذا كنت قريبا من مكّة قلت: لو حججت أو اعتمرت، وذلك يجزي ولكن التمام أن يخرج له ولا يخرج لغيره. وروى جعفر بن سليمان [البيعي] «4» عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله: «يأتي على
حكم الآية
الناس زمان يحج أغنياء الناس للنزهة، وسائلهم للتجارة وقرّاؤهم للرياء والسمعة وفقرائهم للمسألة» [77] «1» . وفي هذا المعنى كان يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الوفّاد كثير والحجاج قليل. حكم الآية اختلف الفقهاء في العمرة، فقال قوم: هي سنّة حسنة وليست بفريضة واجبة وهو مذهب أحمد ومالك بن أنس وأبي ثور وقول الشافعي في القديم وهو اختيار جرير بن محمّد الطبري، واحتجوا بقراءة الشعبي وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ رفعا. وبما روى محمّد بن المنكدر عن جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّه سأل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ وأن تعتمروا خير لكم؟ وفي مهاجر الحج فريضة والعمرة تطوع قالوا أيضا لما ذكر الله فرض الحج لم يذكر معه العمرة، وقال عزّ من قائل وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «2» . وقال الآخرون: ان العمرة فريضة وهي الحج والأصغر، وهو قول علي وابن عبّاس وزيد ابن ثابت وعلي بن الحسين وعطاء وقتادة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقول الشافعي في الجديد والأصح من مذهبه واختيار أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، واحتجوا في ذلك بقراءة العامة وَالْعُمْرَةَ، نصبا على معنى وأتموا فرض الحج والعمرة. وبما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» [78] «3» . وروى عكرمة عن ابن عبّاس إنّه قال: والله إن العمرة لفريضة الحج، في كتاب الله وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وقال ابن عمر: ليس من خلق الله أحد إلّا وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلا، كما قال الله تعالى. فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع. وقال مسروق: أمرنا في كتاب الله بأربعة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحجّ والعمرة فنزّلت العمرة من الحجّ منزلة الزكاة من الصلاة، ثمّ تلا هذه الآية وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. وقال عبد الملك بن سليمان: سأل رجل سعيد بن جبير عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ان العمرة فريضة هي أم تطوع؟ فقال: فريضة، قال: فإن الشعبي يقول هي تطوع، قال: كذّب الشعبي، ثمّ قرأ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، فمن قال: إن العمرة ليست بفرض يأول الآية على معنى: أتموها إذا دخلتم فيها ولم يرد ابتدأ الدخول فيه فرضا عليه، وذلك كالمتطوع بالحج لا خلاف فيه إذا أحرم أنّ
في افراد الحج
عليه المضي فيه وإتمامه، فإن لم يكن فرضا عليه ابتدأ الدخول فيه وكذلك العمرة «1» . ومثله روي ابن وهب عن زيد قال: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قول الله وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال: ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا شرع في أمر إلّا أن يتمه وإذا خرج فيها لم ينبغي له أن يحل يوما ثمّ يرجع كما لو صام يوما لم ينبغي له أن يفطر في نصف النهار، ودليل هذا التأويل قوله فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ «2» لم يرد به الابتداء وإنّما أراد به إتمام ما مضى من العهد والعقد، ومن أوجب العمرة تأول الإتمام على معنى الابتداء والإلزام أي أقيموها وافعلوها يدلّ عليه قوله عزّ وجلّ وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ «3» أي فعلهن وقام بهن، وقوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «4» أيّ ثمّ ابتدئوا الصيام وأتموه لأنه ذكره عقيب الأكل والشرب والصبح، وهذا هو الأصح والأوضح لأنه جمع بين الاثنين، وحمل الآية على عمومها فمعناه ابتدئوا العمرة فإذا دخلتم فيها فأتموها، فيكون جامع بين وجهي الإتمام، ولأن من أوجهها أكثر، والأخبار في إيجاب الحجّ والعمرة مقترنتين أظهر وأشهر. عن أبي رزين العقيلي إنّه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجّ والعمرة ولا الطعن، قال: «حجّ عن أبيك واعتمر» [79] «5» . وقال أبو المشفق: لقيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعرفة فدنوت منه حتّى اختلفت عنق راحلتي وعنق راحلته فقلت: يا رسول الله انبئني بعمل ينجيني من عذاب الله ويدخلني الجنّة؟ قال: «اعبد الله ولا تشرك به شيئا وأقم الصلاة المكتوبة وأدّ الزكاة المفروضة وحجّ واعتمر وصمّ رمضان وانظر ما تحب من النّاس ان يأتوه إليك فافعله بهم وما تكره من الناس إن يأتوه إليك فذرهم منه» [80] . عاصم عن شفيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنّهم لينفيان الفقر والفاقة والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجّ المبرور ثواب دون الجنّة» [81] «6» . في افراد الحج عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفرد الحج. ابراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا نرى إلّا الحج.
في القران
حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موافين هلال ذي الحجة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من شاء أن يهل بالحج فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة [82] «1» ، والأفراد ان يحرم بالحج من الميقات ويفرغ منه ثمّ يحرم بالعمرة من مكّة» وهو إختيار الشافعي وأصحابه. في القران عبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل ويحيى بن إسحاق كلهم عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا» [83] . حميد بن هلال قال: سمعت مطرفا يقول: قال لي عمران بن الحصين: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين حجة وعمرة ثمّ توفي قبل أن ينهي عنهما وقبل أن ينزل القرآن بتحريمه. وعن أبي وائل قال: قال قيس بن معبد: كنت أعرابيا نصرانيا فأسلمت فكنت حريصا على الجهاد فوجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ فأتيت رجلا من عشيرتي يقال له، هريم بن عبد الله فسألته فقال: اجمعها ثمّ اذبح ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، فأهللت بهما، ثمّ أتيت العذيب يلقيني سليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيرة، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين إني أسلمت وأنا حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ فأتيت هريم بن عبد الله، فقال: اجمعهما ثمّ اذبح ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وأهللت بهما، فلما أتيت العذيب لقيني سليمان بن ربيعة وزيد فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيرة فقال عمر: هديت سنّة نبيك صلّى الله عليه وسلّم. علي بن الحسن عن عثمان بن الحكم ان عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع الحج والعمرة. فقال علي: لبيك بحج وعمرة معا، وقال عثمان: أتفعلها وأنا أنهى عنها؟ فقال علي: لم أكن لأدع سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأحد من الناس «2» . والقرآن لم يحرم الحج والعمرة معا من الميقات، وهو إختيار أبي حنيفة وأصحابه. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ واختلف العلماء في معنى الإحصار الذي جعل الله على من ابتلى به في حجته وعمرته ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وقال قوم: هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله تعالى عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام أي شيء كان من مرض أو جرح أو كسر أو خوف أو
عدو أو لدغ أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلته أو غيرها من الاعذار، فإنه يقيم مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو من الهدي فإذا نحر الهدي حل من إحرامه، هذا قول إبراهيم النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير ومقاتل والكلبي ومذهب أهل العراق، واحتجوا في أن الإحصار في كلام العرب هو صنع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة، فأما منع العدو بالحبس والقهر من سلطان قاهر فإن ذلك حصر لا إحصار، كذا قال: الكسائي وأبو عبيدة والفراء قالوا: ما كان من مرض وذهاب نفقه قيل فيه حصر فهو محصر، وما كان من خشية عدو أو سجن قيل فيه حصر فهو محصور، يدلّ عليه قوله تعالى وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي محبسا، قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو إحصارا قياسا على المرض، إذ كان في حكمه [فلا دلالة] «1» ظاهرة. وقال الآخرون: بالأخرى أن يمنع عدو أو قاهر من بني آدم من الوصول إلى البيت، وأمّا المرض وسائر الاعذار فغير داخل في هذه الآية. هذا قول ابن عمر وابن عبّاس وعبد الله بن الزبير وسعد بن المسيب وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب ومذهب الشافعي وأهل المدينة فاحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وذلك إحصار عدو، يدلّ عليه قوله في سياق الآية فَإِذا أَمِنْتُمْ ولا يكون إلا من الخوف وفي الحديث: «لا حصر إلّا من حبس عدو» [84] «2» . وقال ثعلب: تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور، وأحصره العدو إذا منعه من السير فهو محصر، وذكر يونس عن أبي عمرو قال: إذا منعته من كل وجه فقد أحصرته. قال الشافعي: فإذا أحصر بعدوّ كافر أو مسلم أو سلطان يحبسه في سجن نحر هديا لإحصاره حيث أحصر في حلّ أو حرم وحلّ من إحرامه ولا شيء إلّا أن يكون واجبا فيقضي فإذا لم يجد هديا يشتريه أو كان فقيرا ففيه قولان أحدهما: لا حلّ إلّا لهدي. والآخر: حلّ إذا لم يقدر عليه وأتى به إذا قدر عليه. وقال بعض الفقهاء: إذا لم يعتبر اجزاؤه وعليه طعام أو صيام وكلما وجب على المحرم في ماله من بدنه وجزاء وهدي وصدقة فلا يجزي إلّا في الحرم لمساكين أهلها إلّا في موضعين أحدهما: دم المحصر في العدو فإنه ينحر حيث حبس ويحل. والآخر: من ساق هديا لغرض فعطب في طريقه فذبحه وخلى بينه وبين المساكين لم يجز له ولا لرؤسائه أن يأكلوا منه شيئا وإن كانوا مساكين.
وإن كان ما ساقه لغرض مثل أن يكون قارنا أو متمتعا جاز له أن يأكل ويطعم غيره، فهذا معنى الإحصار وحكمه، فأما المرض وما أشبهه فان له أن يتداوى فيما لا بد منه ويفدى ثمّ يجعلها عمرة ويحج عام قابل ويهدي، وقوله تعالى فَمَا اسْتَيْسَرَ أي عليه ما تيسر، محلّه رفع، وإن شئت جعلت بها في محل النصب أي قاهر، واما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ مثل جدية السرج- وجمعها جدي- قاله أبو عمرو. قال: لا أعلم في الكلام ثالثهما. وقرأ الأعرج: (الْهَدِيِّ) بكسر الدال وتشديد الياء في جميع القرآن على معنى المفعول. وروى عصمة عن عاصم: بتشديد الهدي في محل الرفع والجر وتخفيفه في حال النصب نحو قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «1» وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ «2» وهما جميعا ما يهدي إلى بيوت الله سمي بذلك لأنه تقرب إلى الله بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره متقربا بما بعث إليه. واختلفوا في تأويل قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. فقال علي وابن عبّاس: شاة. وقال ابن عمر: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: الإبل والبقر ناقة دون ناقة وبقرة دون بقرة سن دون سن وأنكر أن يكون الشاة من الهدي، وأقوى الأقوال بالصواب قول من قال إنه شاة، لأنه أقرب إلى التيسر، ولأن الله سمي الشاة هديا في قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «3» وفي الظبي شاة. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، واختلفوا في المحل الذي يحل المحصر بلوغ هديه إليه فقال بعضهم: هو ذبحه أو نحره بالموضع الذي يحصر فيه سواء كان في الحل أو الحرم ومعنى محلّه: حين يحل ذبحه وأكله والانتفاع به كقوله صلّى الله عليه وسلّم في اللحم الذي تصدق به عليه بريرة قال: «قربوه فقد بلغ محله» [85] يعني فقد بلغ محل طيبه وحلاله بالهدية إلينا بعد إن كانت صدقة على بريرة: وهذا على قول من جعل الإحصار إحصار العدو. يدلّ عليه فعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بالحديبية حتّى صدوا عن البيت ونحروا هديهم بها والحديبية ليست من الحرم. روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال: لما كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتاب القضية بينه وبين مشركي قريش عام الحديبية فقال لأصحابه: «قوموا فانحروا واحلقوا» [86] قال: فو الله ما قام منهم أحد حتّى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام فدخل على أم سلمة فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا رسول الله أخرج ثمّ لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو حلاقك فتحلق فخرج فلم يتكلم حتّى فعل ذلك، فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتّى كاد بعضهم [يقتل] بعضا غما «4» .
وقال بعضهم: محل هدي المحصر لا يحل له غيره فإن كان حاجا فمحله يوم النحر وإن كان معتمرا يوم مبلغ هديه الحرم. روى إبراهيم الجعفي عن عبد الرحمن بن زيد قال: خرجنا مهلين بعمرة وفينا الأسود بن يزيد حتّى نزلنا ذات السقوف فلدغ صاحب لنا فشق ذلك عليه ولم يدر كيف يصنع، فخرج بعضنا إلى الطريق يتشوّف فإذا بركب فيهم عبد الله بن مسعود فسألوه عن ذلك فقال: ليبعث بهدي إلى مكّة، واجعلوا بينكم وبينه إمارة فإذا ذبح الهدي فليحل وعليه قضاء عمرته. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً معنى الآية وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حال الإحرام إلّا أن يضطر الرجل حلقه إما لمرض يحتاج إلى مداواته. أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ من هوام وصداع فحلق أو فدي فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ نزلت هذه الآية في كعب بن حجر قال: مرّ بي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر فيها القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي (وانا أقبح «1» ) فدبر اليّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: «فاحلق رأسك» [87] «2» فأنزل الله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام. أَوْ صَدَقَةٍ على ست مساكين لكل مسكين نصف صاع أَوْ نُسُكٍ أو ذبيحة واحدها نسكة. وقرأ الحسن: أَوْ نُسْكٍ تخفيفا وهي لغة تميم. قال العلماء: أعلاها بدنه وأوسطها بقرة وأدناها شاة وهو مخير بين هذه الثلاثة إن شاء فعل. وقال أنس وعكرمة: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ عشرة أيام أَوْ صَدَقَةٍ على عشرة مساكين لكل مسكين مد من بر أو مد من تمر أَوْ نُسُكٍ وهي الشاة والقول الأول هو الصحيح وهو المشهور وهذه (الفريضة «3» ) أن يأتي بها أجمعوا على أنه يصوم حيث شاء من البلاد. واما النسك والطعام، فقال بعضهم: يجب أن تكون مكّة. وقال بعضهم: أي موضع شاء وهو الصواب لأنه أبهم في الآية ولم يخصّ مكانا دون مكان.
فَإِذا أَمِنْتُمْ من خوفكم وبرأتم من مرضكم. فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ اختلفوا في هذه المتعة. فقال بعضهم: معناه فمن أحصر حتّى [عام] الحجّ ثمّ قدّم مكّة فخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك، فيكمل العمرة إلى السنة المستقبلة ثمّ يحج ويهدي فيكون جميعا بذلك الإحلال من [الذي] حلّ إلى إحرامه الثاني من القابل. وهذا قول عبد الله بن الزبير. وقال بعضهم: معناه فَإِذا أَمِنْتُمْ وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار ولم يقولوا عمرة يخرجون بها من إحرامكم لحجتكم ولئن حللتم حين أخبرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج حللتم فاستمتعتم باحلالكم إلى حجكم فعليكم ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، وهذا قول علقمة وإبراهيم وسعيد بن جبير. وكذلك روى عبد الله بن سلمة عن علي رضي الله عنه فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ الآية فإن أخّر العمرة حتّى يجمعها مع الحجّ فعليه الهدي. وقال السّدي: معناه فمن فسخ حجة بعمرة فجعله عمرة واستمتع بعمرته إلى حجة فعليه ما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. وقال ابن عبّاس وعطاء وجماعة: هو الرجل يقدم معتمرا من أفق من الآفاق في أشهر الحج فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكّة حتّى حان وقت الحج فيحج من عامّة ذلك فيكون مستمتعا بالإحلال إلى إحرامه بالحج فمعنى التمتع الإحلال بالعمرة فيقيم حلالا فيفعل ما يفعل الحلال ثمّ يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات ومعنى التمتع التلذذ وأصله من التزود، والمتاع الزاد ثمّ جعل كلّ تلذذ تمتعا. قال الفقهاء: فالتمتع الذي يجب عليه الهدي هو أن يجتمع فيه أربع شرائط وهي: أن يحرم في أشهر الحجّ، ويحل من العمرة في أشهر الحج، وان يحرم بالحج من عامه ذلك من مكّة ولا يرجع إلى الميقات، وزاد بعض أصحابنا: أن يكون من غير الحرم، فمن يحرم بشيء من هذه الشرائط سقط عنه الدم ولا يكون متمتعا. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى أهلكم. قال المفسرون: يصوم يوما قبل التروية ويوم عرفة ولا تجاوز بآخرهنّ يوم عرفة. وقال طاوس ومجاهد: إذا صامهنّ في أشهر الحج أجزينّ. تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذكر الكمال على التأكيد. كقول الأعشى:
ثلاث بالغداة فذاك حسبي ... وست حين يدركني العشاء فذلك تسعة في اليوم ربي ... وشرب المرء فوق الري داء «1» وقال الفرزدق: ثلاث واثنان وهن خمس ... وسادسة تميل إلى سهامي «2» وقال بعضهم: كاملة بالهدي، وقيل بالثواب، وقيل كاملة بشروطها وحدودها، وقيل: لفظه خبر وحكمه أمر، أي: فأكلوها ولا تنقصوها. ذلِكَ التمتع لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي كمن لم يكن من أهل الحرم. عكرمة: هو ما دون المواقيت إلى مكّة. وقال ابن جريح: حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أهل عرفة والرجيع يضحيان ويهديان. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال الفراء: تقديرها وقسط الحج أشهر معلومات، فهذا كما يقال: البرد شهران والحرّ شهران، أيّ [وفيهما] «3» شهران، وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيد شهران [والطيلسان] «4» شهران وقت الصيد ووقت ليس [الطيلسان] «5» . وقال الزجاج: معناه أشهر الحجّ أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة. قال ابن عبّاس: جعلهن الله للحجّ، وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح لأحد أن يحرم بالحج إلّا في أشهر الحج وأما العمرة فإنّه يحرم بها في كلّ شهر. فآخر هذه الأشهر يوم عرفة وقد جاء في بعض الأخبار في تفسير أشهر الحج وعشر من ذي الحجّة وفي بعضها تسع من ذي الحجّة فمن قال تسع فإنّما عبّر به عن الأيام لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحجّ عرفة» [88] «6» فمن وقف بعرفة في يوم عرفة من ليل أو نهار فقدتم حجّه. ومن قال عشرة عبّر به عن الليالي فمن لم يدركه إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحجّ والشهور إنّما يؤرخ بالليالي. وحكى الفراء: إن العرب تقول صمنا عشرا يذهبون بها إلى الليالي والصوم لا يكون إلّا بالنهار فلا تضاد في هذه الأخبار وإنّما قال أشهر وهي شهران وبعض الثالث، لأنها وقت
حكم الآية
والعرب تسمي الوقت بقليله وكثيره فيقولون: أتيتك يوم الخميس، وإنّما أتاه في ساعة منه، ويقولون: اليوم يومان منذ لم أره، وإنّما هو يوم وبعض أخر ويقولون: زرتك العام. وقال بعض أصحابنا: الاثنان فما فوقهما جماعة لأن الجمع ضم شيء إلى شيء، قلنا: جاز ان يسمي الاثنان بانفرادهما جماعة وجاز ان يسمي الاثنان وبعض الثالث جماعة، وقد سمى الله الاثنين جمعا في قوله صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» ولم يقل قلبكما. وقال عروة بن الزبير وغيره: أراد بالأشهر شوالا وذا القعدة وذا الحجة [كاملا] لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الرمي والحلق والنحر والبيتوتة بمنى، فكأنها في حكم الحجّ. حكم الآية فمن أحرم بالحجّ قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون ذلك عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فتكون نافلة، وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد ومذهب الأوزاعي والشافعي. وقال مالك والثوري وأبو حنيفة ومحمّد: يكره له ذلك وإن فعل أجزأه، ودليل الشافعي وأصحابه قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فخصّ هذه الأشهر بفرض الحج فيها فلو كان الإحرام بالحج في غير هذه الأشهر منعقدا جائزا لما كان بهذا التخصيص فائدة مثل الصلوات علقها بمواقيت لم يجز تقديمها عليها. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أي فمن أوجب على نفسه فيهن الحجّ والإحرام والتلبية فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: الرفث والفسوق بالرفع والتنوين، وجِدالَ بالنصب. كقول أمية: فلا لغو ولا تأثيم فيها ... [وما قاموا] «2» به لهم مقيم وقرأ أبو رجاء العطاردي، فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ نصبا ولا جدالٌ يرفع بالتنوين. كقول الأخفش: هذا وجدكم [الصّغار] بعينه ... لا أم لي إن كان ذاك ولا أب وقرأ أبو جعفر: كلها بالرفع والتنوين. وقرأ الباقون: كلها بالنصب من غير تنوين. والعرب تقول في البرّية هذان الوجهان ومن رفع بعضا ونصب بعضا كان جامعا للوجهين.
وقرأ الأعمش: فلا رفوث على الجميع. واختلف أهل التأويل في تفسير الرفث. فقال ابن مسعود وابن عبّاس وابن عمر والحسن وعمرو بن دينار وقتادة وإبراهيم والربيع والزهري والسّدي وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والضحاك: الرفث الجماع. وقال طاوس وأبو العالية: الرفث التعريض بالنساء بالجماع ويذكره بين [......] «1» . عطاء: الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك. قال أبو حصين بن قيس: أصعدت ابن عبّاس في الحاج وكنت له خليلا فلما كان بعد ما أحرمنا قال ابن عبّاس بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يرتجز ويقول: وهن يمشين بنا هميا ... ان تصدق الطير ننك لميسا «2» فقلت له: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنّما الرفث ما قيل عند النساء. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس: الرفث غشيان النساء، القبل، والغمز، وأن يعرض لها بالفحشاء من الكلام هو كذلك. وقال بعضهم: الرفث الفحش وقول القبيح. وأما الفسوق: فقال ابن عبّاس وطاوس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والزهري والقرظي: الفسوق معاصي الله كلها. الضحاك: هو التنابز بالألقاب، دليله قول وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ «3» . ابن زيد: هو [......] «4» بالأصنام، منع ذلك بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين حجّ فعلّم أمته المناسك. دليله قوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ «5» وقوله ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ «6» . إبراهيم ومجاهد وعطاء: هو السباب. يدلّ عليه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» [89] «7» .
ابن عمر: هو ما نهى الله عنه المحرم في حال الإحرام من قبيل الصيد وتقليم الأظفار وحلق الشعر وما أشبهه. وأما الجدال: فقال ابن مسعود وابن عبّاس وعمرو بن محمّد وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري وعطاء بن يسار ومعاذ بن أبي رباح وقتادة: الجدال ان تماري صاحبك وتخاصمه حتّى تقضيه. ابن عمر: هو السبابة والمنازعة. القرظي: كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجّنا أتم من حجكم، فقال هؤلاء: حجّنا أتم من حجكم. القاسم بن محمّد: هو أن يقول بعضهم الحج اليوم، ويقول بعضهم الحجّ غدا. ابن زيد: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلّهم يدّعى إنه موقف إبراهيم عليه السّلام، فقطعه الله حين علم نبيه صلّى الله عليه وسلّم بمناسكه. قال مقاتل: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع: «من لم يكن معه هدي فليحل من إحرامه وليجعلها عمرة» [90] «1» . فقالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: انا أهلنا بالحجّ، فذلك جدالهم. مجاهد: معناه: ولا شك في الحجّ إنه في ذي الحجّة فأبطل النسيء واستقام الحج كما هو اليوم. قال [أهل المعاني] : لفظه نفي ومعناه نهي أيّ لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، لقوله تعالى لا رَيْبَ فِيهِ «2» أيّ لا ترتابوا فيه. عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» [91] «3» . وعن وهيب بن الورد قال: كنت أطوف أنا وسفيان الثوري فانقلب سفيان وبقيت في الطواف فدخلت الحجر فصليت عند الميزاب فبينما أنا ساجد إذ سمعت كلاما بين [أستار] البيت والحجارة وهو يقول و [أشكو] «4» إلى الله ثمّ إليك ما يفعل، ولا الطوافون من حولي من تفكههم
في الحديث [ولغطهم وشوقهم] «1» . قال وهيب: فأولت أن البيت يشكوا إلى جبرئيل. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازكم به. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. قال المفسّرون: كان ناس من أهل اليمن يحجون بغير زاد ويقولون: نحن متوكّلون، ويقولون: نحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا [ ... ] «2» بدء بما ظلموا الناس وغصبوهم الله، فأمرهم الله أن يتزودوا ولا يظلموا وأن لا يكونوا وبالا على الناس فقال وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى ويكفون به وجوههم. قال المفسرون: الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها. وروى نافع عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموها واستبقوا زاد الآخرة، فأنزل الله وَتَزَوَّدُوا نهاهم عن ذلك وأمر بالتحفظ للزاد، والزود لمن لم يتزود فأمرهم بالتقوى بكف الظلم قال فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى. قال أهل الإشارة: ذكرهم الله سفر الآخرة وحثهم على التزود بالدارين فإن التقوى زاد الآخرة. قال الشاعر: الموت بحر طامح موجه ... تذهب فيه حيلة المسابح قال آخر: لا يصحب الإنسان في قبره ... إلا التقى والعمل الصالح قال الأعشى: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألّا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد كما كان أرصدا «3» قال مالك بن دينار: مات بعض قراء البصرة فمزحنا في جنازة وانصرفنا، فصعد سعدون المجنون وتلا في المقبرة ونادى المتصوفين فأنشأ يقول: لا يا عسكر الأحياء هذا عسكر الموتى ... أجابوا الدعوة الصغرى وهم منتظرو الكبرى يحنون على الزاد وما الزاد سوى القرى ... يقولون لكم جهزوا فهذا غاية الدنيا
[سورة البقرة (2) : الآيات 198 إلى 203]
قال الله عزّ وجلّ وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ذوي العقول. [سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 203] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ الآية قال المفسرون: كان ناس من العرب لا يتّجرون في أيام الحج فإذا دخل العشر كفّوا عن الشراء والبيع فلم يقم لهم سوق وكانوا يسمون من يخرج إلى الحجّ ومعه تجارة: الداج، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأباح التجارة في الحج. فقال ابن عبّاس: كانت عكاظ ومجنة وذو الحجاز أسواقا في الجاهلية كانوا يتجرون فيها في الموسم وكان أكثر معايشهم منها فلما جاء الإسلام كأنهم تأثموا منها فسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية «1» . وقال أبو أمامة التيمي: قلت لابن عمر: إنّا قوم نكري فيدعمون المؤمنين في الحج. فقال: ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون الحجارة كما يرومون؟ قلت: بلى. قال: أنتم حاج، جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتّى نزل جبرئيل بهذه الآية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ يعني التجارة وكان ابن عبّاس يقرأها لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج. الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج به الخاص فإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للجار، وإذا كان يوم منى غفر الله للجمالين، وإذا كان عند جمرة العقبة [غفر الله للسؤال] ولا شهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلّا الله إلّا غفر له» [92] «2» .
فَإِذا أَفَضْتُمْ رجعتم ودعيتم بكرة. يقال: أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف «1» . قال الشاعر: فلما أفضنا في الحديث وأسمحت ... أتتنا عيون بالنميمة تضرب وأصلها من قول العرب أفاض الرجل ماءه إذا صبّه، وأفاض البعير [تجرعه] إذا رمى ودفع بها من كرشه. قال الراعي: فأفضن بعد كظومهن بجرة ... من ذي الابارق إذا رعين حقيلا ويقال: أفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها لأنها موضع بقع متفرقة. قال أبو ذهيب: يصف الحمار والأنف وأتته ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع «2» ولا تكون الافاضة في اللغة إلّا عن تفرق وكثرة قال عمر بن الخطاب: الافاضة الانصداع. مِنْ عَرَفاتٍ القراءة بالكسر والتنوين لأنه جمع عرفة مثل مسلمات ومؤمنات، فسميت بها بقعة واحدة مثل قولهم: أرض سباسب وثوب اخلاق يجمع بها حولها، فلما سميت بها البقعة الواحدة صرفت إذا كانت مصروفة قبل ان يسمى بها البقعة تركا منهم لها على أصلها فإذا كانت في الأصل بقعة واحدة ولم يكن جمعا تركوا إجزاءها ونصبوا تاءها في حال الخفض مثل عانات وأذرعات فرقا بين الاسم وبين الجمع، واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله قيل للموقف عرفات وليوم الوقوف بها عرفة. فقال الضحاك: إن آدم لما أهبط وقع في الهند وحواء بجدة فجعل آدم يطلب حواء وهي تطلبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا فسمي اليوم عرفة والموضع عرفات. أبو حمزة الثمالي عن السّدي قال: إنّها سميت عرفات لأن هاجر حملت إسماعيل عليه السّلام فأخرجته من عند سارة وكان إبراهيم غائبا فلما قدم لم ير إسماعيل فحدثته سارة بالذي صنعت هاجر فانطلق في طلب إسماعيل فوجده مع هاجر بعرفات فعرفه فسميت عرفات «3» .
وعن علي بن الأشدق عن عبد الله بن [حراد] «1» قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ان إبراهيم غدا من فلسطين فحلفت سارة إن لا ينزل عن ظهر دابته حتّى يرجع إليها من الغيرة فأتى إسماعيل ثمّ رجع فحبسته سارة سنة ثمّ استأذنها فأذنت له فخرج حتّى بلغ مكّة وجبالها فبات ليلة يسير ويسعى حتّى أذن الله عزّ وجلّ له في ثلث الليل الأخير عند سند جبل عرفة، فلما أصبح عرف البلاد والطريق فجعل الله عزّ وجلّ عرفة حيث عرف فقال: اجعل بيتك أحبّ بلادك إليك حتّى يهوي الله قلوب المسلمين مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» [93] . عبد الملك عن عطاء قال: إنّما سميت عرفات لأن جبرئيل عليه السّلام كان يري إبراهيم المناسك ويقول: عرفت ثمّ يريه فيقول: عرفت فسميت عرفات. وروى سعيد بن المسيب عن علي رضي الله عنه قال: بعث الله عزّ وجلّ جبرئيل إلى إبراهيم فحج به حتّى إذا [جاء] عرفات قال: قد عرفت، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك فسميت عرفات. وروى أبو الطفيل عن ابن عبّاس قال: إنّما سمي عرفة لأن جبرئيل عليه السّلام أرى إبراهيم فيه بقاع مكّة ومشاهدها وكان يقول يا إبراهيم هذا موضع كذا وهذا موضع كذا ويقول قد عرفت، قد عرفت. وروى أسباط عن السّدي قال: لما أذن إبراهيم بالناس فأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات فنعتها له فلمّا خرج وبلغ الشجرة المستقبلة للشيطان فرماه بسبع حصيات يكبّر مع كلّ حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبّر فطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبّر فلما رأى إنه لا يطيقه ذهب، فانطلق إبراهيم حتّى وقف بعرفات، فلما نظر إليها عرفها بالنعت فقال: عرفت، فسمي عرفات بذلك وسمي ذلك اليوم عرفة لأن إبراهيم رأى ليلة التروية في منامه أن يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح يومه أجمع أيّ فكر أمن الله هذا الحكم أمن الشيطان وسمي اليوم من فكرته تروية ثمّ رأى ليلة عرفة ذلك ثانيا فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي اليوم يوم عرفة. وقال بعضهم: سميت بذلك لأن الناس يعترفون في هذا اليوم على ذلك [الموقف] بالذنوب والأصل نسيان آدم عليه السّلام لما أمر بالحجّ وقف بعرفات يوم عرفة قال: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «2» . وقيل: هي مأخوذة من العرف، قال الله تعالى وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ «3» أي طيّبها،
قالوا: فمنى موضع بمنى وفيه الدم أي يصب فلذلك سمّي منى ففيه يكون الفروث والإنذار والدماء وليست بطيبة، وعرفات ليس فيها وهي طيبة فلذلك سميت عرفات ويوم الوقوف بها عرفة. وقيل: لأن الناس يتعارفون بها. وقال بعضهم: أصل هذين الأسمين من الصبر، يقال: رجل عارف إذا كان صابرا خاضعا خاشعا ويقال في المثل: النفس عروف وما حمّلتها تتحمل «1» . قال الشاعر: فصبرت عارفة لذلك حرّة ... ترسوا إذا نفس الجنان تطلع أي نفسا صابرة. وقال ذو الرمّة: عروف لما خطت عليه المقادر أي صبور على قضاء الله، فسميا بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم وصرفهم على الدعاء وأنواع البلاء واحتمالهم الشدائد والميقات لإقامة هذه العبادة. فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والدعاء عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وهو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسّر، وليس مأزما عرفة من المشعر، وإنّما سمي مشعرا من الشعار وهو العلامة، لأنه معلم للحج، والصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده من [معالم] الحج، والمبيت بالمشعر الحرام فرض واجب ومن تركه كان عليه شاة، والدليل عليه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بات بها وقال [انحروا] عنى بمناسككم. وقال المفضل: سمي مشعرا لأنها شعر المؤمنون أنه حرم كالبيت ومكّة، أيّ اعلموا ذلك، وأصل الحرام المنع، قال الله تعالى [ ... ] «2» أي الممنوع من المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من إتيانه. وقال زهير: وإن أتاه [خليل] يوم مسألة يقول ... لا غائب مالي ولا حرام أي ولا ممنوع، والمشعر الحرام من أن يفعل فيه ما حرم ولم يرض في إتيانه، ويقال له المشعر الحرام والمزدلفة وقدم [ ... ] بغيرهما «3» والجميع، سمي بذلك لأنه يجمع فيها بين صلاتي العشاء، والافاضة من عرفات بعد غروب الشمس وكان أهل الجاهليّة
يفيضون منهما قبل غروب الشمس ومن جمع بعد طلوعها، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كيما نغير فأمر الله مخالفتهم في الدفعتين جميعا. وروى أبو صالح عن ابن عبّاس أنه نظر إلى الناس ليلا جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة ما ينامون تأولون قول الله تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ لدينه ومناسك حجّه وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ يعني وما كنتم من قبله إلّا من الضالين كقوله وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ يعني وان نظنك إلّا من الكاذبين. قال الشاعر: ثكلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة الرحمن أي ما قتلت إلّا مسلما. والهاء في قوله (من قبله) عائدة إلى الهدي «1» ، وإن شئت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كناية عن غير مذكور. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ الآية. قال عامّة المفسّرين: كانت قريش وحلفاؤها ومن دان [بدينها] وهم الحمس لا يخرجون من الحرم إلى عرفات وكانوا يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن أهل الله وقطان حرمه فلا يخلو الحرم ولا نخرج منها، فلسنا كسائر الناس وكانوا يتعاظمون ان يقفوا مع سائر العرب بعرفات، ويقول بعضهم لبعض ألا تعظموا إلّا الحرم فإنكم إن عظمتم غير الحرم تهاون الناس بحرمتكم فوقفوا الجميع فإذا أفاض الناس من عرفات أفاضوا من المشعر وهو المزدلفة وأمرهم الله أن يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس وأخبرهم أنها سنّة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليه السّلام. وقال بعضهم: المخاطبون بهذه الآية المسلمون كلهم والمعنى بقوله مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ جمع أي أفيضوا من جمع إلى منى، وهذا القول أشبه بظاهر القرآن، لأن الافاضة من عرفات قبل الافاضة من جمع بلا شك فكيف يسوغ أن يقول: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وأما الناس في هذه الآية فهم العرب كلهم غير الحمس. الكلبي بإسناده: هم أهل اليمن [وربيعة] . الضحاك: الناس هاهنا إبراهيم وحده، يدلّ عليه قوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «2» يعني
محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وحده وقوله الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني نعيم بن مسعود الأشجعي إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني أبا سفيان وإنّما يقال هذا للذي يقتدي به ويكون لسان قومه وإمامهم كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً «1» فذكر الواحد بلفظ الجمع ومثله كثير [وقيل:] الناس هاهنا آدم عليه السّلام، دليله قول سعيد بن جبير: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ، وقيل: هو آدم نسي ما عهد إليه والله أعلم. الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن عبّاس قال: أفاض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عرفه وعليه السكينة والوقار رديفه أمامة وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل، قال: فما رأيتها رافعة يديها عادية- الخيل فالإبل- حتّى أتى جمعا» [94] «2» . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الحجّ وأمره أن يخرج بالناس جميعا إلى عرفات فيقف بها فإذا غربت الشمس أفاض بالناس منها حتّى يأتي بهم جمعا فيبيت بها حتّى إذا أصبح بها وصلّى الفجر ووقف الناس بالمشعر الحرام ثمّ يفيض منها إلى منى قال: فتوجه أبو بكر نحو عرفات فمرّ بالحمس وهم وقوف بجمع فلمّا ذهب يتجاوزهم قالت له الحمس: يا أبا بكر أين تجاوزنا إلى غيرنا هذا مفيض آبائك فلا تذهب حتّى تفيض أهل اليمن وربيعة من عرفات فمضى أبو بكر لأمر الله وأمر رسوله حتّى أتى عرفات وبها أهل اليمن وربيعة وهم الناس في هذه الآية فوقف بها حتّى غربت الشمس، ثمّ أفاض بالناس إلى المشعر الحرام حتّى وقف بها حتّى إذا كان عند طلوع الشمس أفاض منها. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أبي رباح عن أبي طالح السمان عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحجاج والعمار وفد الله عزّ وجلّ إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم» [95] «3» . عن مجاهد أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهمّ اغفر للحاجّ ولمن استغفر له الحاجّ» [96] «4» . وعن علي بن عبد العزيز يقول: كنت عديلا لأبي عبيد بن سلام لسنة من السنين فلما صرت إلى الموقف تصدق إلى [نفسي] حب النخل فتطهرت ونسيت نفقتي عنده، فلما صرت إلى [المارقين] «5» قال لي أبو عبيدة: لو اشتريت لنا زبدا وتمرا، فخرجت لأبتاعه فذكرت النفقة
فرجعت عودي على بدئي إلى أن وافيت الموضع فإذا [نفقتي] بحالها فأخذتها ورجعت وكنت قد صادفت الوادي مملوءة قردة وخنازير وغير ذلك فجزعت عنه، ثمّ إنّي رجعت فإذا هم على حالهم حتّى دخلت على أبي عبيدة قبيل الصبح فسألني عن أمري فخبرته وذكرت القردة، قال: تلك ذنوب بني آدم تركوها وانصرفوا. فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [فرغتم] من حجكم وذبحتم مناسككم يقال منه نسك الرجل ينسك نسكا ونسكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه، والمنسك المذبح مثل المشرق والمغرب، ويقال من [العهد] «1» نسك ومنسك ومونسكا ونسكا ونساكه إذا ... نظر «2» ، وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف فيه وفي أخواته في كل القرآن مثل قوله ما سَلَكَكُمْ لأنهما مثلان «3» . قال الشاعر: ولا [نشار] «4» لك عندي بعد واحدة ... لا والذي أصبحت عندي له نعم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ. قال أكثر المفسرين في هذه الآية: كانت العرب إذا فرغوا من حجهم وقفوا عند البيت وذكروا مآثر آبائهم ومفاخرهم فكان الرجل يقول إن أبي كان يقرى الضيف ويضرب بالسيف ويطعم الطعام وينحر الجزور ويفك العاني ويجز النواصي ويفعل كذا وكذا فيتفاخرون بذلك فأمرهم الله بذكره فقال: فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم وإليهم. قال السّدي: كانت العرب إذا قضيت مناسكها وأقاموا بمنى يقوم الرجل فيسأل الله ويقول اللهمّ إن أبي كان عظيم [الحجة] عظيم القبة كثير المال فأعطني كلّ ما أعطيت أبي ليس يذكر الله إنّما يذكر ويسأل أن يعطى في دنياه فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عبّاس وعطاء والربيع والضحاك: معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء وهو قول الصبي أول ما يفصح ويفقه الكلام (أبه أمه) ثمّ يلهج بأبيه وأمه. عن أبي الجوزاء قال: قلت لابن عبّاس أخبرنا عن قوله فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ وقد يأتي على الرجل اليوم لا يذكر أباه فيه. فقال ابن عبّاس: ليس كذلك ولكن من يغضب الله إذا عصى بأشد من غضبك لوالديك إذا أهنتهما. القرظي: في قوله فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قال كذكركم آباءكم إياكم.
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً يعني أشد وبل أشد كقوله أَوْ يَزِيدُونَ «1» مقاتل: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً أي أكثر ذكرا كقوله أَشَدُّ قَسْوَةً «2» أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً «3» وأما وجه انتصاب (أَشَدَّ) ، فقال الأخفش: اذكروه أشد. وقال الزجاج: في محل الخفض لكنه لا ينصرف لأنه صفة على مفعال أفعل وصفته ذكرا على التمييز. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي أعطنا إبلا وغنما وبقرا وعبيدا وإماء فحذف المفعول. قال أنس: كانوا يطوفون بالبيت عراة فيدعون ويقولون اللهمّ اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر وردّنا صالحين إلى صالحين. قتادة: هذا عبد نوى الدنيا لها أنفق ولها عمل ولها [قضت] «4» فهي همه وأمنيته وطلبته. وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ حظ ونصيب وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وهم النبيّ والمؤمنون. واختلفوا في معنى الحسنتين. فقال علي رضي الله عنه: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً امرأة صالحة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الحور العين. وَقِنا عَذابَ النَّارِ المرأة السوء. قال الحسن: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً: العلم والعبادة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً: الجنّة والرضوان. السّدي و [ابن حيان] «5» : فِي الدُّنْيا حَسَنَةً رزقا حلالا واسعا وعملا صالحا وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الثواب والمغفرة. عطية: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً العلم والعمل وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً تيسير الحساب ودخول الجنّة. وقيل: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً التوفيق والعصمة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً النجاة والرحمة. وقيل: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أولادا أبرارا وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً موافقة الأنبياء. وقيل: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً المال والنعمة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً تمام النعمة وهو الفوز والخلاص من النّار ودخول الجنّة. وقيل: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الدين واليقين وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً اللقاء والرضا.
وقيل: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الثبات على الإيمان وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً السلامة والرضوان. وقيل: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الإخلاص وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الخلاص. وقيل: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً حلاوة الطاعة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً لذة الروية. قتادة: فِي الدُّنْيا عافية وَفِي الْآخِرَةِ عافية. دليل هذا التأويل ما روى حميد عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد رجلا قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل كنت تدعوا له بشيء أو تسأله شيئا؟ قال: كنت أقول اللهمّ [ما كنت معاتبي] به في الآخرة فعجّله لي في الدنيا. فقال: «سبحان الله إذا لا تستطيعه ولا تطيقه فهلّا قلت: اللهمّ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» [97] «1» . فدعا الله بها فشفاه الله. سهل بن عبد الله: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً السنّة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الجنّة. المسيب عن عوف في هذه الآية قال: من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلا ومالا وولدا فقد أولى فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. حماد عن ثابت إنّهم قالوا لأنس بن مالك: ادع الله لنا، فقال: اللهمّ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: زدنا، قال: ما تريدون قد سألت الله تعالى لكم خير الدنيا والآخرة. قال أنس: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يدعو بها اللهمّ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. سفيان الثوري في هذه الآية: فِي الدُّنْيا حَسَنَةً الرزق الطيب والعلم، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً الجنّة. مجاهد عن ابن عبّاس قال: عند الركن اليماني ملك قائم منذ خلق الله السماوات والأرض يقول آمين، فقولوا: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. وقال ابن جريح: بلغني إنه كان يؤمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الوقف: اللهمّ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يعني من حجّ عن ميت كان الأجر بينه وبين الميت.
عن الفضل بن عبّاس إنه كان ردف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتاه رجل فقال: إن أمي عجوز كبيرة لا تستمسك على الرحل وان ربطتها [خشيت] أن أقتلها. فقال له: أرأيت لو كان على أمك دين كنت قاضيه؟ قال: نعم قال: «فحجّ عنها» «1» [98] «2» . أبو سلمة عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في رجل أوصى بحجّة: «كتب له أربع حجات: حجّة الذي كتبها، وحجّة الذي نفدها «3» ، وحجّة الذي أخذها، وحجة الذي أمر بها» [99] «4» . وقال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: إني آجرت نفسي واشترطت عليهم الحجّ [معهم] فهل يجزيني ذلك؟ قال: أنت من الذين قال الله أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا «5» . وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يعني إذا حاسب فحسابه سريع لأنه لا يحتاج إلى تمديد ولا وعي منه ولا روية ولا فكرة. وقال الحسن: أسرع من لمح البصر. وفي الحديث ان الله تعالى يحسب في قدر حلب شاة وقيل هو إنه إذا حاسب ... واحدا واحدا «6» حاسب جميع الخلق فمعنى الحساب تعريف الله عباده مقادير الجزاء على أعمالهم وتذكيره إياهم ما نسوه من ذلك ، يدلّ عليه قوله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «7» . وَاذْكُرُوا اللَّهَ يعني التكبير في الصلوات وعند الجمرات يكبّر مع كلّ حصاة وغيرها من الأوقات. فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهي أيام التشريق وأيام منى ورمي الجمار والأيام المعلومات عشر ذي الحجّة، نافع ابن عمر: الأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده. أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم في قوله وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: المعدودات أيام العشر والمعلومات أيام النحر، والصحيح أن المعدودات أيام التشريق، وعليه أكثر العلماء يدلّ عليه قوله فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ أي منها وإنّما يكون الصدر في أيّام التشريق.
قال الزجاج: ويستعمل المعدودات في اللغة الشيء القليل فسميت بذلك لأنها ثلاثة أيام والأيام المعدودات: أيام التشريق والذكر المأمور فيها التكبير. قال نافع: كان عمرو وابنه عبد الله يكبران بمنى تلك الأيام جميعا وخلف الصلوات وفي المجلس وعلى الفراش والقسطاط وفي الطريق ويكبر النّاس [بتكبيرهم] ويناولان هذه الآية قلت: واجمعوا على أن التكبير في هذه الأيام سنّة إلّا إنّهم اختلفوا في قدرها ووقتها ... فكان عبد الله بن مسعود يكبّر من صلاة الغداة من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وإليه ذهب أبو يوسف ومحمّد بن الحسن وهو أجمع الأقاويل. كان ابن عبّاس وزيد بن ثابت يكبران من صلاة الظهر من يوم النحر إلى [مدة] العصر من آخر أيام التشريق وهو قول عطاء وهو الأظهر والأشهر من مذهب الشافعي إنه يبتدأ التكبير من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق هذا بالحاج آخر صلاة يصليها الحاج بمنى والناس لهم تبع. وأما لفظ التكبير فكان سعيد بن جبير يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر نسقا وهو مذهب الشافعي وأهل المدينة وكان ابن مسعود يكبر [إثنتين] وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق. وروى عن مالك إنه كان يقول الله أكبر الله أكبر ثمّ يقطع فيقول الله أكبر لا إله الّا الله. وروى عن قتادة إنّه كان يقول الله أكبر كبيرا الله أكبر على ما هدانا الله أكبر ولله الحمد. وروى عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله» [100] «1» . عن جعفر بن محمّد: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث مناديا فنادى في أيام التشريق: إنّها أيام أكل وشرب ، قال الله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ يعني من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني من أيام التشريق. فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تعجله وَمَنْ تَأَخَّرَ عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتّى ينفر في اليوم الثالث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تأخره فإن لم ينفر في اليوم الثاني وأقام حتّى تغرب الشمس فليقم إلى الغد من اليوم الثالث فيرمي الجمار ثمّ ينفر مع الناس، هذا قول ابن عمر وابن عبّاس والحسن وعطاء وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك والنخعي والسّدي قال بعضهم: معناه فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فهو [مغفور له] لا إثم ولا ذنب عليه وَمَنْ تَأَخَّرَ فكذلك، وهكذا قول علي وأبي ذر وابن مسعود والشعبي ومطرف بن الشخير.
[سورة البقرة (2) : الآيات 204 إلى 210]
قال معاوية بن [مرة] : خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. قال إسحاق بن يحيى بن طلحة: سألت مجاهد عن ذلك قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إلى قابل وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أيضا إلى قابل. وقال سعيد بن المسيب: توفي رجل بمنى في آخر أيام التشريق فقيل لعمر: توفي ابن الخنساء أفلا نشهر دفنه، فقال عمر: وما يمنعني أن أدفن رجلا لم يذنب منذ غفر له. لِمَنِ اتَّقى اختلفوا في معناه. فقال ابن عبّاس في رواية العوفي والكلبي: لِمَنِ اتَّقى قتل الصيد لا يحل له أن يقتل صيدا حتّى ينقضي أيام التشريق. قتادة: لِمَنِ اتَّقى أن يصيب في حجر شيئا نهاه الله عزّ وجلّ عنه فيه. أبو العالية: ذهب إثمه كلّه إن اتقى فيما بقي من عمره، وكان ابن مسعود يقول إنّما حطت مغفرة الذنوب لِمَنِ اتَّقى الله في حجّة. ابن جريح: وهو في مصحف عبد الله لمن اتقى الله، جويبر عن الضحاك عن ابن عبّاس لِمَنِ اتَّقى عبادة الأوثان. وروى عن ابن عبّاس أيضا: لِمَنِ اتَّقى معاصي الله قال: ووددت أني من هؤلاء الذين يصيبهم اسم التقوى. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يجمعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 210] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الآية. الكلبي والسّدي ومقاتل وعطاء: قالوا نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق «1» الثقفي
حليف بني أبي زهرة واسمه أبي، وسمي بالأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد تولوا [الجحفة] وقال لهم: يا بني زهرة إن محمّدا ابن أخيكم، فإن يكن صادقا فلن تغلبوه وكنتم أسعد الناس بصدقه، وإن يك كاذبا فإنكم أحق من كف عنه لقرابتكم وكفتكم إياه أوباش العرب. قالوا: نعم الرأي رأيت فسر لما شئت فنتبعك. فقال: إذا نودي الناس [في الرحيل فإني] أخنس بكم فاتبعوني، ففعل وفعلوا وسمي لذلك الأخنس، وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر وكان يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [يواله ويظهر] الإسلام ويخبره بأنه يحبّه ويحلف بالله عزّ وجلّ على ذلك، وكان منافقا فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدني مجلسه ويقبل عليه ولا يعلم إنه يضمر خلاف ما يظهر ثمّ إنه كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيّتهم ليلا وأهلك مواشيهم واحرق زرعهم وكان حسن العلانية سيء السريرة. قال السّدي: مرّ بزرع للمسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر. مقاتل: خرج إلى [الطائف] مقتضيا حلاله على غريم فأحرق له ... أرضا «1» وعقر له ... أتانا «2» فأنزل الله فيه هذه الآيات. ابن عبّاس والضحاك: نزلت هذه الآيات إلى قوله وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ في سرية [الرجيع] وذلك أن كفّار قريش بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة، إنّا أسلمنا فابعث إلينا نفرا من علماء أصحابك يعلموننا دينك، وكان ذلك مكرا منهم فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبد الله بن طارق ابن شهاب البادي وزيد ابن الدثنة وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن الاقلح الأنصاري فساروا يريدون مكّة فنزلوا [بطن الرجيع] بين مكّة والمدينة ومعهم تمر عجرة فأكلوا فمرت عجوزة وأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكّة وقالت: قد سلك الطريق أهل يثرب من أصحاب محمّد، فركب سبعون رجلا ومعهم الرماح حتّى أحاطوا بهم فحاربوهم فقتلوا مرثدا وخالدا وعبد الله بن طارق ونثر عاصم بن ثابت كتابته وفيها سبعة أسهم فقتل منهم رجلا من عظماء المشركين ثمّ قال اللهمّ إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر اللّيل، ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه، فلمّا قتلوه أرادوا جزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن عهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن فيه قحفه الخمر، فأرسل الله رجلا من الدّبر وهي الزنابير فحمت عاصما ولم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فلما حالت بينهم وبينه قال: دعوه حتّى يمسي تذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء ومطرت مطرا [كالعزالي] فبعث الله الوادي فاحتمل عاصما
فذهب به [......] «1» وحملته ... خمسين «2» من المشركين إلى النّار قال: وكان عاصم قد أعطى لله عهدا أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا [تنجسا] «3» منه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه الخبر إن الدّبر منعته، عجبا لحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع من حياته، فأسر المشركون خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكّة فأما حبيب فابتاعه بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناه ليقتلوه [بأيديهم] وكان حبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر بأحد فبينما خبيب عند بنات الحرث إذا استعار من إحداهن موسى يستحل بها للقتل فما راع المرأة ولها صبي يدرج الآباء بحبيب «4» قد أجلس الصبي على فخذه والموسى في يده فصاحت المرأة فقال حبيب: أتحنثين أن أقتله، إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة: ما رأيت أسيرا قط خيرا من حبيب لقد رأيته وما بمكّة من تمرة وإن في يده لقطفا من عنب يأكله إن كان إلّا رزقا رزقه الله حبيبا، ثمّ إنّهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه وأرادوا أن يصلبوه فقال: ذروني أصلي ركعتين فتركوه فصلى ركعتين فجرت [سنة لمن] قتل صبرا أن يصلّي ركعتين، ثمّ قال: لولا أن يقولوا جزع حبيب لزدت وأنشأ يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك في أوصال شلو ممزع أي مقطع. ثمّ قال: اللهم أحصهم عددا [وخذهم] بددا فصلبوه حيا، فقال: اللهم إنك تعلم إنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي فأبلغه لأمي، قال: ثمّ جاء به رجل من المشركين يقال له أبو سروعة ومعه رمح فوضعه بين ثديي حبيب فقال له حبيب: اتق الله فما زاده إلّا عتوا فطعنه فأنفذه. فذلك قوله وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ الآية. يعني سلامان وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله [بأبيه] أمية بن خلف الجحمي ثمّ بعثه مع مولى له يسمى قسطاس إلى التنعيم ليقتله فاجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال أبو سفيان لزيد حين قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمّدا عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمّدا الآن بمكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال: أبو سفيان: ما رأيت من النّاس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمّد محمّدا، ثمّ قتله قسطاس، فلما بلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هذا الخبر قال لأصحابه: أيكم يحتمل خبيبا عن خشبته فله الجنة؟ قال الزبير بن العوام: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فخرجا يمشيان بالليل ويكتمان بالنهار حتّى أتيا التنعيم ليلا فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام [نشاوى] فأنزلاه فإذا هو رطب ينثني لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما ويده على جراحته تخضب دما، اللون لون الدم والريح ريح المسك فحمله الزبير على فرسه وسار فانتبه الكفار وقد فقدوا حبيبا فأخبر بذلك قريشا فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير حبيبا فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض. فقال الزبير: ما جرّأكم علينا يا معشر قريش ثمّ رفع العمامة عن رأسه فقال: أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكّة، وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبرئيل عنده فقال: يا محمّد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك فقال رجال من المنافقين في أصحاب حبيب يا ويح لهؤلاء المقتولين الذين هلكوا لأنهم قعدوا في بيوتهم ولاهم أدّوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله في الزبير والمقداد بن الأسود وحبيب وأصحابه المؤمنين وفيمن طعن عليهم من المنافقين «1» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ يا محمّد قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي تستحسنه ويعظم في قلبك ومنه العجب لأنه تعظم في النفس. فقال في الخبر الاستحسان والمحبة: أعجبني كذا، وفي الإنكار والكراهية: عجبت من كذا، وأصل العجب ما لم يكن مثله قاله المفضل. وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ يعني قول المنافق والله إني بك لمؤمن ولك محب. وقرأ ابن محيصن: وَيَشْهَدُ اللَّهُ بفتح الياء والهاء ورفع الهاء من قوله أي يظهر أمرا ويقول قولا ويعلم الله خلاف ذلك منه وفي مصحف أبي ويستشهد الله وهي حجة لقراءة العامة. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي شديد الخصومة. يقال منه لددت يا هذا وأنت تلد لدّا ولداد، وإذا أردت إنه غلب خصمه قلت لدّه يلدة لدا. ويقال: رجل الدّ وامرأة لدّاء ورجال ونساء لدّ. قال الله تعالى وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «2» .
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» [101] «1» . قال الشاعر: إن تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألدّ ذا مغلاق وقال الراجز: تلدّ أقران الرجال اللدّ. وقال الزجاج: اشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتاه وتأويله إنه في أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الخصومة غلب في ذلك. والخصام: مصدر خاصمته خصاما ومخاصمة قاله أبو عبيدة وقال الزجاج: هو جمع خصم يقال: خصم وخصام وخصوم مثل بحر وبحار وبحور، وحقيقة الخصومة التعمق في البحث عن الشيء والمضايقه فيه ولذلك قيل لزوايا الأوعية خصوم. قال السدي: أَلَدُّ الْخِصامِ أعوج الخصام. مجاهد: الأخير المستقيم على خصومة. الحسن: هو كاذب القول. قتادة: هو شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل عالم باللسان جاهل بالعمل متكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة. وَإِذا تَوَلَّى أدبر وأعرض عنك. الحسن: تولى عن قوله الذي أعطاه. ابن جريح: غضب. الضحاك: ملك الأمر وصار واليا سَعى فِي الْأَرْضِ أي عمل فيها يقال: فلان يسعى لعياله أي يعمل فيما يعود عليهم نفقه. ومنه قول الأعشى: وسعى لكندة سعي غير مواكل ... قيس، فضر عدوها وبنى لها وقيل سار ومشى. لِيُفْسِدَ فِيها. قال ابن جريح: قطع الرحم وسفك دماء المسلمين، والنساء [الفساد] اسم لجميع المعاصي. وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ. قرأ الحسن وابن أبي إسحاق: وَيُهْلِكُ برفع الكاف على الابتداء.
وقرأت العامّة: بالنصب، ويصدّقها قراءة أبي: وليهلك. قال المفسّرون: الحرث ما تحرثون من النبات، والنسل نسل كل دابة والنّاس منهم. النضر بن عدي عن مجاهد في قوله وَإِذا تَوَلَّى سَعى الآية قال: إذا ولى خاف فعمل بالعدوان والعالم فأمسك الله المطر وأهلك الحرث والنسل. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ. عن سعيد بن المسيب قال: قطع الدرهم من الفساد في الأرض. قتادة عن عطاء: إن رجلا يقال له العلاء بن منبه أحرم في جبّة فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن ينزعها. قال قتادة: فقلت لعطاء: إنّا كنا نسمع أن شقّها فقال عطاء: إن الله لا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ خف الله، تكبّر أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي حملته العزّة وحمية الجاهليّة على الفعل بالإثم والعزة والقوّة والمنعة، ويقال: معناه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ الذي في قلبه كما قام الهاء مقام اللام كقول عنترة يشبهه بالرب: وكأن ربا أو كحيلا معقدا ... حش الوقود به جوانب قمقم أي خلق الإمالة خشية جهنم أي كفاه عذاب جهنم. وَلَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش. قال عبد الله بن مسعود: إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله فيقول: عليك بنفسك. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي يبيع نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي يطلب رضا الله. والكسائي: يميل مرضاة الله كل القرآن. وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ. قال ابن عبّاس والضحاك: نزلت هذه الآية في الزبير والمقداد بن الأسود حين شريا أنفسهما لإنزال حبيب من خشبته التي صلب عليها، وقد مضت القصّة. وقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان المخزومي مولى عبد الله [بن جدعان] التيمي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فضربوهم فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت، أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني، ففعلوا ذلك، وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فأقام بمكة ما شاء الله ثمّ خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في رجال. قال له ابو بكر: ربح بيعك أبا يحيى فقال صهيب: وبيعك فلا تخسر بأذاك.
فقال: أنزل الله تعالى فيك كذا، وقرأ عليه هذه الآية. قال سعيد بن المسيب وعطاء: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته وهو ما في كنانته ثمّ قال: يا معاشر قريش لقد علمتم إني من أرماكم رجلا، والله لا أصنع سهما مما في كنانتي إلّا في قلب رجل، وأيم الله لا يصلون إليّ حتّى أرمي كل سهم في كنانتي، ثمّ اضرب بسيفي ما بقي في يدي، ثمّ افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي [وضيعتي] بمكة وخليتم سبيلي. قالوا: نعم. ففعل ذلك، فأنزل الله هذه الآية. وقال قتادة: ما هم بأهل الحرور المراق من دين الله تعالى، ولكن هم المهاجرون والأنصار. وقال الحسن: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية، في أن مسلما لقى كافرا فقال له: قل لا إله إلّا الله وإذا قلتها عصمت مالك ودمك إلا [بحقها] فأبى أن يقولها، قال المسلم: والله لأشرين نفسي لله فتقدم فقاتل حتّى قتل. وقال المغيرة: بعث عمر جيشا فحاصروا حصنا فتقدم رجل من بجيلة فقاتل وحده حتّى قتل، فقال النّاس ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ ذلك عمر فقال: كذبوا أليس الله يقول وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ الآية. وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقال ابن عبّاس: أرى هاهنا من إذا أمر بتقوى الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. قال: [هذا] وأنا أشري نفسي وأرى مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ثمّ قال: هذا وأنا أشري نفسي لمقاتلته فأقتل الرجلان لذلك، وكان علي (رضي الله عنه) إذا قرأ هذه الآية يقول: اقتتلا ورب الكعبة. وقال الخليل: سمع عمر بن الخطاب إنسانا يقرأ هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ الآية. فقال عمر: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل. حماد بن سلمة عن أبي غالب عن أبي إمامة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر» . عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» [102] . وقال الثعلبي: ورأيت في الكتب إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أراد الهجرة خلف علي بن أبي
طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع التي كانت عنده فأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه صلّى الله عليه وسلّم وقال له: «اتشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إن شاء الله، ففعل ذلك علي، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الأخر فأيكما يؤثر صاحبه بالبقاء والحياة؟ فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب عليه السّلام آخيت بينه وبين محمّد صلّى الله عليه وسلّم فبات على فراشه [يفديه] نفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس علي وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب، فنادى الله عزّ وجلّ الملائكة وأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي عليه السّلام وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ» [103] «1» . قال ابن عبّاس: نزلت في علي بن أبي طالب حين هرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من المشركين إلى الغار مع أبي بكر الصديق ونام عليّ على فراش النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام النضري وأصحابه وذلك إنهم عظموا السبت وكرهوا لحم الإبل وألبانها بعد ما أسلموا وقالوا: يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها في صلاتنا بالليل فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي في الإسلام قاله قتادة والضحاك والسدي وابن زيد، يدلّ عليه قول الكندي: دعوت عشيرتي للسلم لما رأيتهم تولوا مدبرينا. أي دعوتهم إلى الإسلام لما ارتدوا، قال ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث بن قيس بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال طاوس: في الدين. مجاهد: في أحكام أهل الإسلام وأعمالهم كافة أي جميعها. ربيع: في الطاعة. سفيان الثوري: في أنواع البر كلها، وكلها متقاربة في المعنى وأصله من الاستسلام والانقياد ولذلك قيل للصلح سلم وقال زهير: وقد ملتما إن ندرك السلم واسعا ... بمال ومعروف من الأمر نسلم «2» قال حذيفة بن اليمان: في هذه الآية الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم،
والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له. واختلف القراء في السلم. فقرأ الأعمش وابن عبّاس: بكسر السين هاهنا وفي الأنفال وسورة محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقرأها أهل الحجاز والكسائي: كلها بالفتح وهو اختيار أبي عبيد. لما روى عبد الرحمن ابن [ابزي] أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأها كلها بالفتح. وقرأ حمزة وخلف في الأنفال بالفتح وسائرها بالكسر. وقرأ الباقون: هاهنا بالكسر والباقي بالفتح وهو اختيار أبي حاتم، وهما لغتان. عاصم الأحول عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل الإسلام كمثل الشجرة الثابتة الإيمان بالله، أصلها الصلوات الخمس جذوعها، وصيام شهر رمضان لحاءها، والحج والعمرة جناها، والوضوء وغسل الجنابة شربها، وبر الوالدين وصلة الرحم غصونها، والكف عمّا حرم الله ورقها، والأعمال الصالحة ثمرها، وذكر الله تعالى عروقها» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كما لا تحسن الشجرة ولا تصلح إلّا بالورق الأخضر، كذلك الإسلام لا يصلح إلّا بالكف عن محارم الله تعالى والأعمال الصالحة» [104] . كَافَّةً جميعا وهي مأخوذة من كففت الشيء إذا منعته وضممت بعضه إلى بعض، ومنه قيل لحاشية القميص كفة، لأنها تمنعه من أن ينتشر وكل مستطيل فحرفه كفة بالضم وكل مستدير فحرفه كفة بالكسر، نحو كفة الميزان، ومنه قيل للراحة مع الأصابع كفة لأنه يكفّ بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف أي كفّ بصره من النظر فمعنى الكافة هو ان ينتهي إليه ويكفه من أن يجاوزه. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي أثاره ونزعاته فيما بيّن لكم من تحريم السبت ولحم الجمل وغيره إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. الشعبي عن جابر بن عبد الله: إن عمر أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّا نسمع أحاديث من يهود [قد أخذت بقلوبنا] «1» أن نكتب بعضها؟ فقال: «أمتهوكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه إلّا اتباعي» [105] «2» . فَإِنْ زَلَلْتُمْ. قال ابن حيان: أخطأتم. السدي: ضللتم. يمان: ملتم.
قال ابن عبّاس: يعني الشرك. قتادة: أنزل الله هذه الآية وقد علم إنه سيزل زالون عن النّاس، فتقدّم في ذلك وأوعد فيه فيكون لله حجة على خلقه. وقرأ أبو السماك [العذري] «1» : زَلِلْتُمْ بكسر اللام وهما لغتان وأصل الحرف من الزلق. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ يعني الإيمان والقرآن والأمر والنهي فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ في نعمته حَكِيمٌ في أمره هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة والمتبعون خطوات الشيطان؟ يقال نظرته وانتظرته بمعنى واحد. قال الشاعر: فبينا نحن ننظره أتانا ... معلّق شكوة وزناد راع «2» أي ننتظره ونتوقعه فإذا كان النظر مقرونا بذكر الوجه فلا يكون إلّا بمعنى الرؤية. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ جمع ظلة وقرأ قتادة: في ظلال ولها وجهان أحدهما: جمع ظلة فقال: ظلة وظلال مثل جلة وجلال، وظل ظلال كثر حلة وحلل، والثاني: جمع ظل من الغمام وهو السحاب الأبيض الرقيق سمي بذلك لأنه نعم أي يستتر. عكرمة عن ابن عبّاس في قوله يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ قال: يأتي الله في ظلله من الغمام قد قطعت طاقات، ورفعه بعضهم «3» سلمة بن وهرام أن عكرمة أخبره أن ابن عبّاس أخبره عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن من الغمام طاقات يأتي الله عزّ وجلّ فيها محفوفة بالملائكة» [106] «4» وذلك قوله إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ. قال الحسن: في سترة من الغمام، فلا ينظر إليهم أهل الأرض، الضحاك: في [ضلع] «5» من السحاب. مجاهد: هو غير من السحاب ولم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم «6» . مقاتل: كهيئة الظبابة أبيض، وذلك قوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ «7» .
وَالْمَلائِكَةُ. قرأ ابن جعفر بالخفض: عطفا على الْغَمامِ وتقديره مع الملائكة، تقول العرب: أقبل الأمير في العسكر أي مع العسكر «1» . وقرأها الباقون: بالرفع على معنى إلّا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، يدلّ عليه قراءة أبي حاتم وعبد الله هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله والملائكة. فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ. أبو العالية والربيع: تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام ويأتي الله تعالى فيما يشاء. قرأ معاذ: في ظلل مع الغمام وقضاء الأمر [بالمد] أراد المصدر ذكر البيان عن مغني الإتيان. واختلف الناس في ذلك، فقال بعضهم: (في) بمعنى الباء، وتعاقب حروف الصفات شائع مشهور في كلام العرب، تقدير الآية: إلّا أن يأتيهم الله بظلل من الغمام وبالملائكة أو مع الملائكة، وبهذا التأويل زال الإشكال وسهل الأمر [وأجرى] الباقون للآية فهي ظاهرة. ثم اختلفوا في تأويلها ففسّره قوم على الإتيان الذي هو الانتقال من مكان إلى مكان وأدخلوا فيه بلا كيف [يدل عليه] ظواهر أخبار وردت لم يعرفوا تأويلها وهذا غير مرضيّ من القول لأنه إثبات المكان لله سبحانه، وإذا كان متمكنا وجب أن يكون محدودا متناهيا ومحتاجا وفقيرا، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وقال بعض المحقّقين الموفّقين أظنّه علي بن أبي طالب عليه السّلام: «من زعم أن الله تعالى من شيء أو في شيء أو على شيء فقد ألحد، لأنه لو كان من شيء لكان محدثا، ولو كان في شيء لكان محصورا، ولو كان على شيء لكان محمولا» [107] «2» . وسكت قوم عن الخوض في معنى الإتيان فقالوا: نؤمن بظاهره ونقف عن تفسيره لأنّا قد نهينا أن نقول في كتاب الله تعالى ما لا نعلم ولم ينبّهنا الله تعالى ولا رسوله على حقيقة معناه. قال يحيى: هذه من [المكتوم] الذي لا يفسّر، وكان مالك والأوزاعي ومحمد وإسحاق وجماعة من المشايخ يقولون فيه وفي أمثاله أمرّوها كما جاءت بلا كيف. وزعم قوم أن في الآية إضمارا أو اختصارا تقديرها: إلّا أن يأتيهم أمر الله وهو الحساب والعذاب، دلّ عليه قوله: وَقُضِيَ الْأَمْرُ الآية وجب العذاب وفرغ من الحساب، قالوا هذا
[سورة البقرة (2) : الآيات 211 إلى 215]
كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» ويقول العرب: قطع الوالي اللّص يعني يده وإنما فعل ذلك آخر أنه بأمره. ويقال: خطبتان مأتينا بنو أمية أي حكمهم. وعلى هذا يحمل قوله: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «2» لأن الله تعالى قال ذلك، وهذا معنى قول الحسن البصري. وقالت طائفة من أهل الحقائق: إن الله يحدث فعلا يسميه إتيانا كما سمعت فهلّا سمّاه نزولا وأفعاله بلا آلة ولا علّة. قال الثعلبي: قلت: ويحتمل أن يكون معنى الإتيان هاهنا راجعا إلى الجزاء فسمّى الجزاء إتيانا كما سمّى التخويف والتعذيب في قصّة نمرود إتيانا فقال عزّ من قائل: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ «3» . وقال في قصّة بني النضير: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا «4» وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى «5» : وإنّما احتمل الإتيان هذه المعاني لأنّ أصل الإتيان عند أهل اللسان هو القصد إلى المشي في للآية فهل ينظرون إلّا أن يظهر الله خلاف أفعاله مع خلق من خلقه فيقصد إلى مجازاتهم ويقضي في لعنهم ما هو قاض ومجازيهم على فعل ويمضي فيهم ما أراد، يدلّ عليه ما روى صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة فإنّ الله عزّ وجلّ في ظلال من الغمام والملائكة فيتكلم بكلام طلق ذلق فيقول: انصتوا فطالما أنصت لكم منذ خلقتكم أرى أعمالكم وأسمع أقوالكم وإنّما من عصابتكم بقي أهليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك لا يلومنّ إلّا نفسه» [108] «6» . [سورة البقرة (2) : الآيات 211 الى 215] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي سل يا محمد يهود أهل المدينة كَمْ آتَيْناهُمْ أعطيناهم، آباءهم وأسلافهم مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ علامة واضحة مثل العصا في اليد البيضاء وفلق البحر وغيرها. وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ يغيّر كتاب الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا الآية، قال بعضهم: نزلت هذه الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعّمون بما ينقل لهم في الدنيا من المال ونسوا يوم المعاد وَيَسْخَرُونَ من المؤمنين الذين يعزفون عن الدنيا، ويقبلون على الطاعة والعبادة، ويقولون: لو كان محمد نبيّا لاتبعه أشرافنا وإنما تبعه الفقراء مثل أبي عمارة وصهيب وعمار وجابر بن عبد الله وأبي عبيدة بن الجراح وبلال وخبّاب وأمثالهم، وهذا معنى رواية الكلبي عن ابن عباس. وقال مقاتل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، وكانوا يتنعمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم. وقال عطاء: نزلت في رؤساء اليهود ووفدهم من بني قريضة والنضير والقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريضة والنضير بغير قتال أسهل شيء وأيسره. فقال: أين الذين كفروا في الحياة الدنيا، في قول مجاهد، وحمل (زَيَّنَ) بفتح الزاي والياء على معنى زينها الله وإنّما ذكّر الفعل بمعنيين أحدهما أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي لأنّ معنى الحياة والبقاء والعيش واحد، والآخر أنه فصل بين اسم المؤنث والفعل فأعمل المذكر، كقول الشاعر: إن امرأ غرّه منكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور «1» وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لفقرهم. عن علي بن الحسين عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استذلّ مؤمنا أو مؤمنة أو حقّره لفقره وقلة ذات يده شهّره الله يوم القيامة ثم فضحه، ومن بهت مؤمنا أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله على تل من نار حتّى يخرج مما قال فيه، وإن المؤمن أعظم عند
الله وأكرم عليه من ملك مقرب، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة، وإن [الرجل] المؤمن ليعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده» [109] «1» . وعن إبراهيم بن أدهم قال: حدّثنا عباد بن كثير بن قيس، قال: جاء رجل عليه بزّة له فقعد الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء رجل عليه [لممار] «2» له فقعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: ألقى بثيابه فضمّها إليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكلّ هذا تقززا من أخيك المسلم، أكنت تخشى أن يصيبه من غناك أو يصيبك من فقره شيء،» فقال للنبي: معذرة إلى الله وإلى رسوله، إن النفس لأمّارة وشيطان يكيدني، أشهد يا رسول الله أن نصف مالي له، فقال الرجل: ما أريد ذلك، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولم؟» قال: لا يفسد قلبي كما أفسد قلبه» [110] . وقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : لا تحقرنّ أحدا من المسلمين فإنّ صغير المسلمين عند الله كبيرا. وقال يحيى بن معاذ: بئس القوم قوم إن استغنى بينهم المؤمن حسدوه، وإذا افتقر بينهم استذلّوه وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذر ارفع بصرك إلى أرفع رجل تراه في المسجد» . فنظرت فإذا رجل جالس وعليه حلّة فقلت: هذا. فقال: «يا أبا ذر ارفع بصرك إلى أوضع رجل تراه في المسجد» فنظرت فإذا رجل ضعيف عليه أخلاق فقلت: هذا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لهذا عند الله يوم القيامة أفضل من قراب الأرض من هذا» [111] «3» . وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قال ابن عباس: يعني كثيرا بغير فوت ولا [هنداز «4» ] لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل. وقال الضحاك: يعني من غير تبعة، يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه ولا يعاقبه في الآخرة. وقيل إنّ هذا راجع إلى الله ثم هو يحتمل على هذا القول معنيين: أحدهما أنه لا يفترض عليه، ولا يحاسب فيما يرزق، ولا يقال له: لما أعطيت هذا، وحرمت هذا؟ ولم أعطيت هذا أكثر مما أعطيت ذاك؟ لأنه لا شريك له بما عنده، ولا قسيم ينازعه. والمعنى الآخر أنه لا يخاف نفاذ خزائنه فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها إذا كان الحساب من المعطي، إنما يكون ليعمّ أقدر العطاء لئلا يتجاوز في عطائه إلى ما يجحف به فهو لا يحتاج الى الحساب لأنه عالم غني لا يخاف نفاد خزائنه لأنها بين الكاف والنون كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية، قال الحسن وعطاء: كانَ النَّاسُ من وقت وفاة آدم إلى
مبعث نوح عليه السّلام أُمَّةً واحِدَةً على ملّة واحدة وهي الكفر، كانوا كفارا كلّهم أمثال البهائم فَبَعَثَ اللَّهُ نوحا وإبراهيم وغيرهما من النبيين. قتادة وعكرمة: كانَ النَّاسُ من وقت آدم إلى مبعث نوح أُمَّةً واحِدَةً، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلّهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح عليه السّلام فَبَعَثَ اللَّهُ إليهم نوحا وكان أول نبي بعث ثم بعث بعده النَّبِيِّينَ. وقال الكلبي والواقدي: أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين كلّهم ثم اختلفوا بعد وفاة نوح. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وروي عن ابن عباس قال: كانَ النَّاسُ على عهد إبراهيم أُمَّةً واحِدَةً، كفارا كلّهم، وولد إبراهيم في جاهلية فَبَعَثَ اللَّهُ إليهم إبراهيم وغيره من النبيين. روى الربيع عن أبي العالية عن أبي قال: كانَ النَّاسُ حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أُمَّةً واحِدَةً مسلمين كلّهم، ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم فبعث الله الرسل وأنزل الكتب، وكذلك في قراءة أبيّ وعبد الله بن إسحاق: فاختلفوا فبعث الله النبيين. وقال محمد بن يسار ومجاهد: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً يعني آدم وحده، سمّي الواحد بهذا لأنه يحمل النسل وأبو البشر، ثم خلق الله حوّاء ونشر منهما الناس فانتشروا وكثروا وكانوا مسلمين كلّهم إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا حينئذ فبعث الله حينئذ. قال الثعلبي: ورأيت في بعض التفاسير: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً في [الجنة] لا أمر عليهم ولا نهي فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفا، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون نبيا. مُبَشِّرِينَ بالثواب من آمن وأطاع وَمُنْذِرِينَ محذّرين بالعذاب من كفر وعصى. موسى بن عبيد عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صلّوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني» [112] «1» . وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ أي الكتب فأنزل معهم الكتاب بِالْحَقِّ بالعدل والصدق لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ قراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف وهو في القرآن في أربعة مواضع: هاهنا وفي آل عمران وفي النور موضعان. وقرأها كلّها أبو جعفر القارئ وعاصم الجحدري بضم الياء وفتح الكاف لأنّ الكتاب الحكم على الحقيقة إنّما يحكم به، ولقراءة العامة وجهان: أحدهما على سعة الكلام كقوله
هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، والآخر أن معناه: ليحكم كلّ نبيّ بكتابه، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الكتاب إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أعطوه وهم اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يعني أحكام التوراة والإنجيل. قال الفرّاء «1» : لاختلافهم معنيان: أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ «2» الآية [ ... ] «3» وتكفير ببعض، والآخر تحريفهم وتبديلهم كتاب الله تعالى كقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ «4» . وقيل: هذه الآية راجعة الى محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب من بعد ما جاءتهم البينات صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم في كتبهم بَغْياً ظلما وحسدا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ كقوله: هَدانا لِهذا وقوله: يعودون لما قالوا من الحق بإذنه بعلمه وإرادته فيهم. وقال ابن زيد في هذه الآية: اختلفوا في الصلاة فمنهم من يصلّي الى المشرق، ومنهم من يصلّي الى المغرب، ومنهم من يصلّي إلى بيت المقدس فهدانا الله للكعبة، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض يوم، ومنهم من يصوم بعض ليلة، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في يوم الجمعة، أخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، فهدانا الله للحق من ذاك، واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود ابنا، وجعلته النصارى ربّا، فهدانا الله منه للحق «5» وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ الآية، قال قتادة والسّدي: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والمشقّة [والحر والبرد] وضيق العيش، وأنواع الأذى كما قال: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وقيل: أنها نزلت في حرب أحد ونظيرها في آل عمران «6» . وقال: إنّ عبد الله بن أبي وأصحابه قالوا لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إلى متى تقتلون أنفسكم ولا تملكون أموالكم، ولو كان محمد نبيّا لما سلّط عليه الأسر والقتل، فقالوا: لا جرم أنّ من قتل منّا دخل الجنّة، فقالوا: إلى متى تمنون أنفسكم الباطل [وقد استمعتم] إلى هذه الآية.
وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة اشتدّ الضرّ عليهم لأنّهم خرجوا بلا مال فتكون أرضهم وأموالهم في أيدي المشركين فآثروا رضا الله عزّ وجلّ ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأظهر اليهود والعداوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأسرّ قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله تطييبا لقلوبهم أَمْ حَسِبْتُمْ وهو ابتداء بأم من غير استفهام، فالألف والميم صلة معناه: أحسبتم، قاله الفرّاء. وقال الزّجاج: معناه: بل حسبتم، كقول الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح «1» أي بل وأنت، وكل شيء في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وتأويله، ومعنى الآية أظننتم والرسول أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ يعني ولم يأتكم وحاصله كقوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وقال النابغة: أزف الترحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا تزل برحالنا وكأن قد «2» أي لم تزل مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مضوا (من قبلكم) من النبيين والمؤمنين [وسنّتهم] «3» . ثم ذكر ما أصابهم فقال: مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ يعني الفقر والضرّ والشدّة والبلاء وَالضَّرَّاءُ المرض والزمانة وَزُلْزِلُوا حرّكوا بأنواع البلايا والرزايا وخوّفوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ ما تلك البلايا حتّى استبطئوا الرزق، قال الله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ واختلف القرّاء في قوله تعالى: يَقُولَ الرَّسُولُ فقرأ مجاهد بفتح وضمّة. الأعرج: يقول رفعا، وقرأها الآخرون نصبا، فمن نصب فعلى ظاهر الكلام لأن حتّى تنصب الفعل المستقبل، ومن رفع لأنّ معناه حتّى قال الرسول، وإذا كان الفعل الذي يلي حتّى في معنى الماضي ولفظه لفظ المستقبل، فلك فيه دون الرفع والنصب، فالرفع لأنّ حتّى لا بعمل الماضي، والنصب بإضمار أنّ الخفيفة عند البصريين، وبالصرف عند الكوفيين، [مثل قولك:] سرنا حتّى ندخل مكة بالرفع أي حتّى دخلناها، فإذا كان بمعنى المستقبل فالنصب لا غير. وقال وهب بن منبه: يوجد فيما بين مكة والطائف سبعون [نبيّا] ميتين كان سبب موتهم الجوع والعمل، وقال وهب أيضا: قرأت في كتاب رجل [من الحواريين] إذا سلك بك سبيل البلاء فقرّ عينا، فإنه سلك بك سبيل الأنبياء والصالحين. وإذا سلك بك سبيل الرخاء فابك على
[سورة البقرة (2) : الآيات 216 إلى 218]
نفسك [لأنّه حاد] بك عن سبيلهم. [شعبة عن عاصم بن بهدلة] عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الناس أشدّ بلاء فقال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك، ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة» [113] «1» . وعن عبد الرحمن بن ذهل قال: كان وزير عيسى عليه الصلاة والسلام ركب يوما فأخذه السبع فأكله فقال عيسى: يا ربّ! وزيري في دينك، وعوني على بني إسرائيل، وخليفتي من سلّطت عليه كلبك فأكله، قال: نعم كانت له عندي منزلة رفيعة، لم أجد عمله بلغها فابتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة. يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ الآية، نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخا كبيرا ذا مال، فقال: يا رسول الله بماذا أتصدق وعلى من أتصدق؟ فأنزل الله صلّى الله عليه وسلّم: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ وفي قوله (ذا) وجهان من الأعراب: أحدهما أن يكون ماذا بمعنى أيّ شيء وهو [متعلق] بقوله يُنْفِقُونَ وتقديره: يسألونك أي شيء ينفقون، والآخر أن يكون رفعا ب (ما) والمعنى: ويسألونك ما الذي ينفقون؟ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي مال فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ عالم به بتعاليم الدين، هذا قبل أن فرض الزكاة فنسخت الزكاة هذه الآية. [سورة البقرة (2) : الآيات 216 الى 218] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ فرض عليكم القتال، واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: عنى بذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة دون غيرهم، وقال ابن جريج قلت لعطاء: قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو على الناس من
أجلها أو كتب على أولئك حينئذ؟ وأجرى بعضهم الآية على ظاهرها فقال: الغزو فرض واجب على المسلمين كلّهم إلى قيام الساعة. روى ابن أبي أنيسة عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث من أصل الإيمان: الكفّ عمّن قال: لا إله إلّا الله ما لم يره بذنب، ولا يخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك، والإيمان بالأقدار» [114] «1» . أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» [115] «2» وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط من الباقين. عن أحمد بن أنمار: وردّ السلام وتسميت العاطس وهو القول الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور. وقال الزهري والأوزاعي: كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعدوا، فمن غزا فبها ونعمت، ومن قعد فهو حرّ، إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغني عنه قعد «3» ، فإنما يرجح عليه عطاء الواجب المال وإلّا فلا، من شاء غزا ومن شاء لم يغز، ويدلّ على صحة هذا القول قول الله تعالى فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ ... عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، ولو كان القاعدون مضيعين فرضا لكان لهم السوأى لا الحسنى والله أعلم. وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ شاقّ عليكم، واتفق القرّاء على ضم الكاف هاهنا إلّا أبا عبد الرحمن السلمي، فإنه قرأها وَهُوَ كَرْهٌ بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد، مثل الغسل والغسل، والضّعف والضّعف، والرّهب والرّهب، وقال أكثر أهل اللغة: الكره بالضم المشقة وبالفتح الإجهاد. بعضهم: الكره بالفتح المصدر، وبالضم الاسم. وقال أهل المعاني: هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما يدخل فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقّة وعلى الروح من الخطر لأنهم أظهروا الكراهة أو كرهوا أمر الله عزّ وجلّ. قال عكرمة: نسختها هذه الآية وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا يعني أنهم كرهوه ثم أحبّوه وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قال الله عزّ وجلّ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن في الغزو أحد الحسنيين إمّا الظفر والغنيمة، وإمّا الشهادة والجنة وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً يعني
القعود عن الغزو وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لما فيه من الذل والصغر وحرمان الغنيمة والأجر وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. قال ابن عباس: كنت ردف النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا بن عباس ارض عن الله بما قدّر وإن كان خلاف هواك إنه مثبّت في كتاب الله» . قلت: يا رسول الله أين وقد قرأت القرآن، قال: «مكانين» وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» [116] «1» . عاصم بن علي المسعودي قال: قال الحسن: لا تكره الملمات الواقعة والبلايا الحادثة فلربّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولربّ أمر ترجوه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير: ربّ أمر تتقيه جرّ أمرا ترتضيه ... خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه «2» وأنشد محمد بن عرفة لعبد الله بن المعتز: لا تكره المكروه عند نزوله ... إن الحوادث لم تزل متباينه كم نعمة لا تستقل بشكرها ... لله في درج الحوادث كامنه عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه قال: بعث المتوكل إلى محمد بن الليث رسولا وقد كان بقي مدة في منزله فلمّا أتاه الرسول [امتثل] فركب بلا روح خوفا فمرّ به رجل وهو يقول: كم مرّة حفّت بك المكاره ... خار لك الله وأنت كاره فلمّا دخل على المتوكل ولّاه مصر وأمر له بمائة ألف وجميع ما يحتاج إليه من الآلات والدواب والغلمان. قال الثعلبي: أنشدني الحسن بن محمد قال: أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال: أنشدني محمد بن الفرحان: كم فرحة مطوية لك بين أثناء النوائب ... ومضرّة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب «3» قال: وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو عبد الله الوضاحي: ربّما خيّر الفتى وهو للخير كاره ... ثم يأتي السرور من حيث تأتي المكاره يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ الآية، قال المفسّرون: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش وهو ابن عمّة النبي صلّى الله عليه وسلّم في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس ستة عشر شهرا من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من
المهاجرين: سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكر وكتب بإمرة عبد الله بن جحش كتابا وقال: سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتّى تسير يومين، فإذا نزلت منزلين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثم امض لما أمرتك، ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك على السير معك، فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتّى تنزل بطن نخلة فترصّد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخبر، فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال: سمعا وطاعة ثم قال ذلك لأصحابه وقال: إنه قد نهاني أن استكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فإني ماض لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتّى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: نجوان أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فاستأذنا أن يتخلّفا في طلب بعيرهما، فأذن لهما فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقيتهم حتّى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف، فبينا هم كذلك إذ مرّ بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأديما وتجارة من تجار الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل ابن عبد الله المخزوميان، فلمّا رأوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خافوهم، فقال عبد الله بن جحش: إنّ القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقا أمنوا، وقالوا: قوم عمّار، فحلقوا رأس عكاشة ثمّ أشرف عليهم وقالوا: قوم عمّار لا بأس عليكم فأمّنوهم. وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنّه من جمادى وهو من رجب، فتشاور القوم بينهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة لتدخلنّ الحرم فليمنعنّ منكم فأجمعوا أمركم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله «1» السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين واستأسرا الحكم وعثمان «2» فكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت الآخران فأعجزاهم، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتّى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام، شهرا يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس لمعايشهم، فسفك فيه الدماء، وأخذ فيه الحرائر، وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين، وقالوا: يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه، وتفاءلت اليهود بذلك وقالوا: واقد: وقدت الحرب وعمروا: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب.
وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لابن جحش وأصحابه: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ودفعت العير والأسيرين فأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، فعظم ذلك على أصحاب السريّة وظنّوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا: يا رسول الله إنّا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أمسينا أم في جمادى، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأخذ رسول الله العير فعزل منها الخمس، فكان أول خمس في الإسلام، وقسّم الباقي بين أصحاب السريّة، فكان أول غنيمة في الإسلام، وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال: بل نوقفهم حتّى يقدم سعد وعتبة وإن لم يقدما قتلناهما، فلمّا قدما فداهم. وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأمّا عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة ومات فيها كافرا، وأمّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين، فوقع في الخندق مع فرسه فتحطّما جميعا، وقتله الله وحجب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوه فإنّه خبيث الجيفة خبيث الدية» [117] «1» فهذا سبب نزول قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ يعني توخيا، سمّي بذلك لتحريم القتال فيه لعظم حرمته، وكذلك كان يسمّى في الجاهلية، تنزع الأسنّة وتفصل الالّ، لأنهم كانوا ينزعون الأسنّة والنصال عند دخول رجب انطواء على ترك القتال فيه، وكان يدعى الأصمّ لأنه لا تسمع فيه قعقعة السلاح فنسب الصمم إليه، كما قيل: ليل نائم، وسرّ كاتم. يدلّ عليه ما روى عطاء عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن رجب شهر الله ويدعى الأصمّ، وكان أهل الجاهلية إذا دخل رجب يعطلون أسلحتهم ويضعونها، وكان الناس يأمنون ويأمن السبيل فلا يخاف بعضهم بعضا حتّى ينقضي» [118] «2» . قِتالٍ فِيهِ خفضه على تكرير (عن) ، تقديره: وهل قتال فيه وكذلك هي في قراءة عبد الله ابن مسعود والربيع بن أنس قُلْ يا محمد قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ عظيم ثم [كلام] ثم قتال وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ منع عن سبيل الله على الابتداء وخبره أَكْبَرُ، وذلك حين منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البيت وَكُفْرٌ بِهِ أي بالله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وبالمسجد وَإِخْراجُ أَهْلِهِ أي أهل المسجد مِنْهُ أَكْبَرُ وأعظم وزرا وعقوبة عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أي الشرك أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، يعني قتل ابن الحضرمي فلمّا نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش الى مؤمني مكّة: إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيّروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكّة ومنعهم عن البيت.
[سورة البقرة (2) : الآيات 219 إلى 221]
ثم قال: وَلا يَزالُونَ يعني مشركي قريش وهو فعل لا مفعول له مثل عسى يُقاتِلُونَكُمْ يا معشر المؤمنين حَتَّى يَرُدُّوكُمْ يصدّوكم ويصرفوكم عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ جزم بالنسق ولو كان جوابا لكان [ ... ] وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ بطلت أَعْمالُهُمْ حسناتهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وأصل الحبط من الحباط [وهو من الحبط وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط «1» ] «2» وهو أن تنتفخ بطنه فيموت، ثم سمّي الهلال حبطا، وقرأ الحسن حَبَطَتْ بفتح الباء في جميع القرآن يحبط بكسر الباء أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فقال أصحاب السريّة: يا رسول الله هل [نؤثم] «3» على رجبنا وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزوا؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم وَجاهَدُوا المشركين في نصرة الدين فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعة الله، فجعلها جهادا أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 221] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ نزلت في عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى هذه الآية وجملة القول أن تحريم الخمر على أقوال المفسرون والحفّاظ مختلفة وبعضها متفقة. هي أن الله أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وهو المسكر، وكان المسلمون يشربونها وهي لهم يومئذ حلال، ونزلت في مسألة عمر ومعاذ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فلمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ ربكم تقدم في تحريم الخمر» «4»
فتركها قوم لقوله فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وقالوا: لا حاجة لنا في شيء فيه إثم كبير [119] لقوله: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وكانوا يتمتعون بمنافعها ويجتنبون آثامها إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمامهم الخمر فشربوا وسكروا، وحضرت صلاة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلّي بهم فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ أعبد ما تعبدون إلى آخر السورة فحذف لا فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فحرّم المسكر في أوقات الصلاة فقال عمر: إنّ الله يقارب في النهي عن شرب الخمرة، فلا أراه إلّا وسيحرّمها فلمّا نزلت [حرّم الله] تركها قوم وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة. وكان قوم يشربونها ويجلسون في بيوتهم، وكانوا يتركونها أوقات الصلاة، ويشربونها في غير حين الصلاة إلى أن شربها رجل «1» من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر ويقول: تحيّي بالسلامة أم بكر ... وهل لك بعد رهطك من سلام ذريني اصطبخ بكرا فإني ... ليت الموت يبعد عن خيام وودّ بنو المغيرة لو فدوه ... بألف من رجال أو سوام كأنّي بالطويّ طويّ بدر ... من الشيزي يكلل بالسنام كأني بالطويّ طويّ بدر ... من الفتيان والحلل الكرام فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج مسرعا يجرّ رداءه حتّى انتهى إليه ورفع شيئا كان بيده ليضربه، فلمّا عاينه الرجل قال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله، والله لا أطعمها أبدا «2» . وكان من حمزة بن عبد المطلب ما روى الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده (عليهم السلام) قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم ودفع إليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نثاره من الخمس، [واعدت رجلا صواغا أن يرتحل معي فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه] «3» من الصواغين وأستعين بثمنه على الدخول بفاطمة وعرسها. قال: فحملت شارفي عند حائط رجل من الأنصار ومضيت لأجمع الحبال والغرائر والأقتاب وجئت وقد بقر بطن شارفي واجتبّ «4» أسنمتهما قال: فلم أملك عيني أن بكيت ثم
قلت: من فعل هذا بشارفي؟ قالوا: عمّك حمزة فعله وهذا هو في البيت معه شرب، عندهم قينة وحلفوا فقالت: ألا يا حمز المشرف النواء ... [وهنّ معقّلات بالفناء] زج السكين في اللبات منها ... فضرجهن حمزة بالدماء وأطعم من شرائحها كبابا ... مهلوجة على رهج الصلاء فأصلح من أطايبها طبيخا ... لشربك من قدير أو سواء فأنت أبا عمارة المرجيّ ... لكشف الضرّ عنّا والبلاء فقام الى شارفيك فقتلهما، [قال علي:] فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيت أم سلمة معه مولاه زيد قال: [ما جاء بك] فداك أبي وأمي يا عليّ، قلت [ما فعل عمّك] بشارفيّ وخبّرته الخبر، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلبس نعليه ورداءه ثم انطلق يمشي واتبعته أنا وزيد فسلّم وأستأذن ودخل البيت وقال: يا حمزة ما حملك على ما فعلت بشارفيّ ابن أخيك؟ فرفع رأسه وجعل ينظر إلى يديّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى ساقيه، فصوّب النظر إليه، ثم قال: ألستم وآباؤكم عبيد لأبي، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القهقرى وقال: إن غنمك وجمالك عليّ [فغرمهما] لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . فلما أصبح غدا حمزة على رسول الله يعتذر فقال: مه يا عمّ فقد سألت الله فعفا عنك. قالوا: واتخذ عتبان بن مالك طعاما فدعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتّى أخذت منهم، ثم إنهم افتخروا عند عتبان وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها هجو الأنصار وفخر لقومه، فقام رجل من الأنصار وأخذ لحيي البعير فضرب به رأس سعد [فشجّه شجّة] ، فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر (رضي الله عنه) : اللهم بيّن لنا رأيك في الخمر بيانا وافيا، فأنزل الله تحريم الخمر في سورة المائدة إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى يَنْتَهُونَ وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر: انتهينا يا ربّ «2» . قال أنس: حرّمت ولم يكن يومئذ للعرب عيش أعجب منها إليهم يوم حرّمت عليهم، ولم يكن شيء أثقل عليهم من تحريمها قال: فأخرجنا الحباب إلى الطريق فصببنا ما فيه، فمنّا من كسر حبّه، ومنّا من غسله بالماء والطين، ولقد [غدت] أزقة المدينة بعد ذاك الحين كلّما مطرت استبان بها لون الخمر وفاحت ريحها. فأمّا ماهية الخمر فاختلف الفقهاء فيها فقال بعضهم: هو خاص فيما اعتصر من العنبة
والنخلة فغلي بطبعه دون عمل النار فيه فإن ما سوى ذلك ليس بخمر، وهذا مذهب سفيان الثوري وأبي حنيفة وأبي يوسف وأكثر أهل الرأي، ثم اختلفوا في المطبوخ فقالوا: كل عصير طبخ حتّى يذهب ثلثاه فهو حلال إلّا أنه يكره، فإن طبخ حتّى يذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو حلال مباح شربه وبيعه إلّا أن المسكر منه حرام، واحتجوا في ذلك بما روى أبو كثير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة» «1» [120] . واختلفوا في المطبوخ بالمشمش [......] «2» روى نباتة عن سويد بن غفلة قال: كتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله أن رزق المسلمين من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه «3» . وعن ابن سيرين أن عبد الله بن سويد الخطمي قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب: أما بعد فاطبخوا شرابكم حتّى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكم واحد «4» . وعن أنس بن سيرين قال: سمعت أنس بن مالك يقول إن نوحا عليه السّلام نازعه الشيطان في عود الكرم فقال هذا: هذا لي، وقال: هذا لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها وللشيطان ثلثاها «5» . ابن أبيّ وأبيّ عن داود قال: سألت سعيد بن المسيّب ما الرّب الذي أحلّه عمر (رضي الله عنه) ، قال: الذي يطبخ حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. وعن قيس بن أبيّ حدّث عن موسى الأموي أنه كان يشرب من الطلاء «6» ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. وعن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال: إذا طبخ الطلاء على الثلث فلا بأس، وبه قال المسوّر. وقال الثعلبي: والذي عندي أن هذه الأخبار وردت في ثلث غير مسكر. يدلّ عليه ما روى سويد بن نصير عن عبد الله بن عبد الملك بن الطفيل الجزري قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: لا تشربوا من الطلاء حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، كل مسكر حرام، وقال قوم: إذا طبخ العصير أدنى طبخ فصار طلاء وهو قول إسماعيل بن علية وجماعة من أهل العراق. وروي عن عيسى بن إبراهيم أنه لا يحرّم شيئا من الأنبذة لا النيّ منها ولا المطبوخ إلّا شراب واحد وهو عصير العنب النيّ الشديد الذي لم يدخله [ماء وتغيّرات من] الخمر فقط. واستدلّ بما روى ابن الأحوص عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي
بردة بن سهل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشربوا في الظروف ولا تسكروا» [121] قال أبو عبد الرحمن السّدي الحديث منكر، غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم، لا نعلم أحدا كان يعوّل عليه من أصحاب سماك، وسماك أيضا ليس بقوي، وكان يقبل التلقين «1» . قال أحمد: قيل: كان أبو الأحوص غلى في هذا الحديث. خالفه شريك في إسناده ولفظه، رواه شريك عن سماك بن حرب عن أبي بريدة عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الدّيّا والحنتم والنقير والمزفت، وأجمعوا أيضا بما أسندوا إلى سماك عن قرصافة امرأة منهم عن عائشة قال: اشربوا ولا تسكروا. قال الإمام أبو عبد الرحمن هذا غير ثابت، وقرصافة لا ندري من هي «2» ، والمشهور عن عائشة ما روى سويد بن نصر عن عبد الله عن قدامة العامري أن جسرة بنت دجاجة العامرية حدّثتنا قالت: سمعت عائشة سألها أياس عن النبيذ قالوا: ننبذ الخمر غدوة ونشربه عشيّا، وننبذه عشيّا ونشربه غدوة، قالت: لا أحلّ مسكرا وإن كان خبزا، قالوا: قالته ثلاث مرات «3» . واعتلّوا بما روى هشيم عن ابن شبرمة قال: حدّثني الثقة عن عبد الله بن شدّاد عن ابن عباس قال: حرّمت الخمر منها، قليلها وكثيرها، والمسكر من كل شراب. وهذا أولى بالصواب لما روى سفيان عن أبي الجويرية الجرمي قال: سألت ابن عباس عن الباذق قال: ما أسكر فهو حرام، وعن شعبة عن سلمة بن كميل قال: سمعت أبا الحكم يحدّث قال: قال ابن عباس: من سرّه أن يحرّم ما حرّم الله ورسوله فليحرّم النبيذ. واعتلّوا أيضا بما أسندوه إلى عبد الملك بن نافع قال: رأيت ابن عمر رأيت رجلا جاء الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقدح فيها نبيذ وهو عند الركن، فدفع إليه القدح فرفعه إلى فيه فوجده شديدا فردّه الى صاحبه، فقال له رجل من القوم: يا رسول الله أحرام هو؟ قال، عليّ بالرجل فأتي به فأخذ منه القدح، ثم دعاهما فصبّه فيه ثم رفعه إلى فيه فصبّه، ثم دعاهما أيضا فصبّه فيه ثم قال: أما إذا عملت فيكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء. قال أبو عبد الرحمن: عبد الملك بن رافع هو مشهور ولكن حدّثنيه وأخبرنا عن الزبير خلاف حكاية ما روى وهب بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر» [122] «4» .
وروى ابن سيرين عن ابن عمر قال: المسكر قليله وكثيره حرام ، وروى أبو عوانة عن زيد ابن عمر قال: سألت ابن عمر عن الأشربة فقال: اجتنب كلّ شيء فيه شيء مسكر، واحتجوا أيضا بما أسندوه إلى يحيى بن يمان عن سفيان عن منصور عن مخلد بن سعيد عن ابن مسعود قال: عطش النبي صلّى الله عليه وسلّم حول الكعبة فاستسقى فأتي بنبيذ من السقاية فشمّه وقطب وقال: «عليّ بذنوب من زمزم» فصبّه عليه ثم شرب فقال رجل: أحرام هو يا رسول الله قال: لا «1» . قال أبو عبد الرحمن: هذا خبر ضعيف لأن يحيى بن يمان انفرد به دون أصحاب سفيان، ويحيى بن يمان لا يحتج بحديثه، لكثرة خطئه وسوء حفظه، وعن زيد بن واقد عن خالد بن الحسين قال: سمعت أبا هريرة يقول: علمت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم في بعض الأيام التي كان يصومها، فتحيّنت فطره بنبيذ صنعته في دباء، فلمّا كان المساء جئته أحملها إليه فقلت: يا رسول الله إني علمت أنك تصوم في هذا اليوم فتحيّنت فطرك بهذا النبيذ فقال: ادن مني يا أبا هريرة فرفعته إليه فإذا هو [ينش] فقال: «خذ هذه واضرب بها الحائط، فإنّ هذا شراب من لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» «2» . واحتجّوا أيضا بما أسندوه إلى سفيان عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: تلقّت ثقيف عمر بشراب فدعا به، فلمّا قرّبه إلى فيه كرهه فخلطه بالماء فقال: هكذا فافعلوا. واحتجّوا بما أسندوه إلى أبي رافع أن عمر بن الخطاب قال: إذا خشيتم من نبيذ لشدّته فأكسره «3» . واحتجوا بما قاله بعض أصحابنا وهو عبد الله بن المبارك معنى أكسره بالماء من قبل أن يشتدّ، ودليل هذا التأويل ما روى ابن شهاب هو سفيان بن يزيد أن عمر خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح الشراب فزعم أنه شرب الطلا فإني سائل عما يشرب فإن كان مسكرا جلدته فجلد عمر الحدّ تامّا. وروى إبراهيم عن ابن سيرين قال: يعد عصيرا ممن متّخذه طلا ولا يتخذه خمرا قال أبو سعيد الطلا الذي قد طبخ حتّى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، سمّي بذلك لأنه شبيه بطلاء الإبل في ثخنه وسواده «4» . قال عبيد بن الأبرص:
هي الخمر تكنى الطلاء ... كما الذئب يكنى أبا جعدة «1» قال الثعلبي: الطلاء الذي ورد فيه الرخصة إنما هو الرّبّ فإنه إذا طبخ حتّى يرجع إلى الثلث فقد ذهب سكره وشرّه وخلا شيطانه. واحتجوا أيضا بما روى هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أنه أهدي له بطيخ خاثر فكان تبيّنه ويلغي فيه المسكر. وعن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم قال: لا بأس بنبيذ البطيخ. عن أبي أسامة قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما وجدت الرخصة في المسكر عن أحد صحيح إلّا عن إبراهيم. حماد بن سلمة عن عمر عن أنس قال: كان لأم سلمة قدح فقالت: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل الشراب: الماء والعسل واللبن والنبيذ. وعن ابن شبرمة قال: قال طلحة بن مصرف لأهل الكوفة في النبيذ فقال: يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، قال: وكان المقداد والزبير يسقيان اللبن في العسل فقيل لطلحة: ألا نسقيهم النبيذ؟ قال: إني أكره أن يسكر مسلم في سنتي. وعن سفيان قال: ذكر قول طلحة عند أبي إسحاق في النبيذ فقال ابن إسحاق: قد سقيته أصحاب عليّ وأصحاب عبد الله في الخوافي قبل أن يولد طلحة، وعن ابن شبرمة قال: رحم الله إبراهيم شدّد الناس في النبيذ ورخّص فيه. واحتجّوا أيضا بما أسندوه إلى عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينما هو يسير إذ حلّ بقوم فسمع لهم لغطا فقال: ما هذا الصوت؟ قالوا: يا نبيّ الله لهم شراب يشربونه، فبعث النبي إليهم فدعاهم فقال: في أي شيء تنبذون؟ قالوا: ننبذ في النقير وفي الدباء وليس لنا ظروف، فقال: لا تشربوا إلّا ما أوكيتم عليه، قال: فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث، فرجع إليهم فإذا هم قد أصابهم وباء وصفروا فقال: ما لي أراكم قد هلكتم؟ قالوا: يا نبيّ الله أرضنا وبيئة وحرّمت علينا إلّا ما أوكينا عليه قال: اشربوا، وكل مسكر حرام «2» . قالوا: أراد بهذا الخمر الذي يحصل منه السكر، لأن التنبّذ ذلك الطرب والنشاط ولا يحصلان إلّا عن شراب مسكر. أبو الزبير عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان ينبذ له في [قدر من عفاره] «3» .
قال الثعلبي: ويحتمل أنّ لهذه الأخبار وأمثالها معنيين: أحدهما أنها كانت قبل تحريم الخمر، والمعنى الآخر وهو أقربهما إلى الصواب أنهم أرادوا بالنبيذ الماء الذي ألقي فيه التمر أو الزبيب حتّى أخذ من قوته وحلاوته قبل أن يشتدّ ويسكر، يدلّ عليه ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصنع له النبيذ فيشربه يومه والغد وبعد الغد. وروى الأعمش عن يحيى بن أبي عمرو عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ينبذ له نبيذ الزبيب من الليل ويجعل في سقاء فيشربه يومه ذلك والغد وبعد الغد، فإذا كان من آخر الآنية سقاه أو شربه فإن أصبح منه شيء أراقه. وعن عبد الله بن الديلمي عن أبيه فيروز قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله إنّا أصحاب كرم وقد أنزل الله تحريم الخمر، فماذا نصنع؟ قال: تتخذونه زبيبا، قلت: فنصنع بالزبيب ماذا؟ قال: تنقعونه على غدائكم، وتشربونه على عشائكم، وتنقعونه على عشائكم، وتشربونه على غدائكم، قلت: أفلا نؤخّره حتّى يشتدّ؟ قال: فلا تجعلوه في السلال واجعلوه في الشنان، فإنه إن تأخّر صار خمرا. وعن نافع عن ابن عمر أنه كان ينبذ له في سقاء للزبيب غدوة فيشربه من الليل، وينبذ له عشوة فيشربه غدوة، وكان يغسل الأسقية ولا يجعل فيها نرديّا ولا شيئا، قال نافع: وكنّا نشربه مثل العسل. وعن بسام قال: سألت أبا جعفر عن النبيذ قال: كان عليّ بن الحسين ينبذ له من الليل فيشربه غدوة، وينبذ له غدوة فيشربه من الليل. وعن عبد الله قال: سمعت سفيان- وسئل عن النبيذ- قال: أنبذ عشاء وأشربه غدوة. فهذه الأخبار تدلّ على أنه نقيع الزبيب والتمر قبل أن يشتد، وبالله التوفيق. وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وأكثر أهل الآثار: إن الخمر كل شراب مسكر سواء كان عصير العنب ما أريد منها، مطبوخا كان أو نيّا وكل شراب مسكر فهو حرام قليله وكثيره، وعلى شاربه الحدّ إلّا أن يتناول المطبوخ [بعد ذهاب ثلثه] فإنه لا يحدّ وشهادته لا ترد، والذي يدلّ على حجّة هذا المذهب من اللغة أن الخمر أصله الستر، ويقال لكل شيء ستر شيئا من شجر أو حجر أو غيرهما خمر، وقال: وخمر فلان في خمار الناس، ومنه خمار المرأة وخمرة السجادة، والخمر سمّي بذلك لأنه يستر العقل، يدلّ عليه ما روى الشعبي عن ابن عمر قال: خطب عمر فقال: إن الخمر نزل تحريمها، وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل. وقال أنس بن مالك: سمّيت خمرا لأنهم كانوا يدعونها في الدّنان حتّى تختمر وتتغيّر.
وقال سعيد بن المسيّب: إنّما سمّيت الخمر لأنها تركت حتّى صفا صفورها ورسب كدرها. وقال أنس: لقد حرّمت الخمر وإنّما عامة خمورهم يومئذ الفضيخ قال: وما كان بالمدينة يصنعون الخمر وما عندهم من العنب ما يتخذون وإنما نسمع الخمور في بلاد الأعاجم وكنا نشرب الفضيخ من التمر والبسر، والفضيخ ما افتضخ من التمر والبسر من غير أن تمسّه النار. وفيه روي عن ابن عمر أنه قال: ليس بالفضيخ ولكنه الفضوخ، ودليلهم من السنّة ما روى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر مسكر حرام» [123] «1» . سالم بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر وما أسكر كثيره فقليله حرام» [124] «2» . عن أبي عثمان عمرو بن سالم الأنصاري عن القاسم عن عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما أسكر الغرق منه فملء كفك منه حرام والغرق إناء يحمل ستة عشر رطلا. وعن أبي الغصن الملقب بحجى قال: قال لي: هشام بن عروة: هل تشرب النبيذ؟ قلت نعم والله إني لأشربه قال: إن أبي حدّثني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل مسكر حرام أوّله وآخره» [125] «3» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من التمر لخمرا، وإنّ من العنب لخمرا، وإنّ من الزبيب لخمرا، وإنّ من العسل لخمرا، وإنّ من الحنطة لخمرا، وإنّ من الشعير لخمرا، وإنّ من الذرة لخمرا وأنا أنهاكم عن كل مسكر» [126] . وعن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: إنّ أهلنا ينبذون لنا شرابا عشاء فإذا أصبحنا شربناه. فقال: أنهاك عن المسكر قليله وكثيره واعبد الله عزّ وجلّ، أنا أنهاك عن المسكر قليله وكثيره وأعبد الله عزّ وجلّ، عليك أن أهل خيبر ينبذون شرابا لهم كذا وكذا يسمّونه كذا وكذا، وأن أبيك ينبذ شرابا من كذا وكذا يسمّونه كذا وكذا وهي الخمر، حتّى عدّ له أربعة أشربة آخرها العسل «4» . وعن عكرمة قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم على بعض أزواجه وقد نبذوا العصير لهم في كوز فأراقه وكسر الكوز.
روى عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم «ليستحلّنّ ناس من أمتي الخمر باسم يسمّونها إيّاه» [127] «1» . ويروى عنه أنه قال صلّى الله عليه وسلّم «أما الخمر لم تحرّم لاسمها إنّما حرّمت لما فيها، وكل شراب عاقبته الخمر فهو حرام» [128] «2» . وحكي أنّ رجلا من حكماء العرب قيل له: لم لا تشرب النبيذ؟ فقال: الله منحني عقلي صحيحا، فكيف أدخل عليه ما يفسده «3» . وَالْمَيْسِرِ يعني القمار قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يقامره الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله وأهله فأنزل الله تعالى هذه الآية. والمسير مفعل من قول القائل: يسر هذا الشيء إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا، والياسر الرامي بقداح وجب ذلك أو مباحه أو غيرهما، ثم قيل للقمار: ميسر، وللمقامر: ياسر ويسر قال النابغة: أو ياسر ذهب القداح بوفره ... أسف نأكله الصديق مخلع وقال الآخر: فبتّ كأنني يسر غبين ... يقلب بعد ما اختلع القداحا «4» وقال مقاتل: سمّي ميسرا لأنهم كانوا يقولون: يسر هو لنا ثمن الجزور، وكان أصل اليسر في الجزور، وذلك أنّ أهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزورا فيحزّونها ويجزونها اجتزاء. واختلفوا في عدد الأجزاء فقال أبو عمرو: عشرة وقال الأصمعي: إنما هي عشرون ثم يضمّون عليها عشرة قداح ويقال: منه الأزلام والأقلام سبعة منها لها أنصباء هي: الفذ وله نصيب واحدة، والتّوأم وله نصيبان، والرفت وله ثلاثة، والجلس وله أربعة، والنافس وله خمسة، والمسيل وله ستة، والمغليّ وله سبعة، وثلاثة منها لا أنصباء لها وهي النسيج والسفنج والوغد. ثم يجعلون القداح في خريطة تسمى الربابة، قال أبو ذؤيب: وكأنّهنّ ربابة وكأنّه ... يسر يفيض على القداح ويصدع «5»
ويضعون الربابة على يد رجل عدل عندهم ويسمى المجيل والمفيض، ثم يجيلها ويخرج قدحا منها باسم رجل منهم، فأيّهم خرج سهمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج، فان خرج له واحد من هذه الثلاثة التي لا أنصباء لها فاختلفوا فيه فكل منهم كان لا يعهد شيئا ويغرّم ثمن الجزور كلّه. وقال بعضهم: لا يأخذ ولا يغرّم، ويكون ذلك القداح لغوا فيعاد سهمه ثانيا فهؤلاء الياسرون والايسار ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمّون من لم يفعل ذلك منهم ويسمّونه البرم، قال متمم بن نويرة: ولا برما تهدى النساء لعرسه ... إذا القشع في برد الشتاء تقعقعا «1» فأصل هذا القمار الذي كانت العرب تفعله وإنما نهى الله تعالى في هذه الآية عن أنواع القمار كلّها. ليث عن طاوس ومجاهد وعطاء قالوا: كل شيء فيه قمار فهو الميسر حتّى لعب الصبيان بالعود والكعاب. عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياكم وهاتين الكعبتين الموسومتين فإنّهما من ميسر العجم» [129] «2» . وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليّا كرّم الله وجهه قال في النرد والشطرنج: هي من الميسر. وعن القاسم بن محمد أنه قال: كل شيء ألهى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فهو الميسر. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ووزر كبير من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل والمنع من الصلاة واستحلال مال الغير بغير حق. قرأ أهل الكوفة إلّا عاصم: كثير بالثاء، وقرأ الباقون بالباء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما، وقوله: حُوباً كَبِيراً ... وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وهي ما كانوا يصيبونها في الخمر من التجارة واللّذة عند شربهما يقول الأعشى: لنا من صحاها خبث نفس وكابة ... وذكرى هموم ما تفك أذاتها وعند العشاء طيب نفس ولذّة ... ومال كثير عدّة نشواتها «3» ومنفعة الميسر ما يصاب من القمار ويرتفق به الفقراء.
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما قال المفسّرون: إثم الخمر هو أن الرجل يشرب فيسكر فيؤذي الناس، وإثم الميسر أن يقامر الرجل فيمنع الحق ويظلم. وقال الضحّاك والربيع: المنافع قبل التحريم، والإثم بعد التحريم. وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حثّهم على الصدقة ورغّبهم فيها من غير عزم قالوا: يا رسول الله ماذا ننفق؟ وعلى من نتصدق؟ فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ أي شيء ينفقون وللاستفهام قُلِ الْعَفْوَ قرأ الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو قُلِ الْعَفْوُ بالرفع، واختاره محمد بن السدّي على معنى: الذي ينفقون هو العفو، دليله قوله: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «1» وقرأ الآخرون بالنصب واختاره أبو عبيد وأبو حاتم: قل ينفقون العفو «2» . واختلفوا في معنى العفو، فقال عبد الله بن عمرو ومحمد بن كعب وقتادة وعطاء والسدّي وابن أبي ليلى: هو ما فضل من المال عن العيال، وهي رواية مقسم عن ابن عباس. الحسن: هو أن لا تجهد مالك في النفقة ثم تقعد تسأل الناس. الوالبي عن ابن عباس: ما لا يتبيّن في أموالكم. مجاهد: صدقة عن تطهير غني. عمرو بن دينار وعطاء: الوسط من النفقة ما لم يكن إسرافا ولا إقتارا. الضحّاك: الطّاقة. العوفي عن ابن عباس: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم. طاوس وعطاء الخراساني: سمعنا [بشرا] قال: العفو اليسر من كل شيء. الربيع: العفو الطيب، يقول: أفضل مالك هو النفقة. وكلها متقاربة في المعنى، ومعنى العفو في اللغة الزيادة والكثرة قال الله: حَتَّى عَفَوْا أي كثروا، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعفوا اللّحى» [130] . قال الشاعر: ولكنا يعضّ السيف منا ... بأسوق عافيات الشحم كوم «3» أي كثيرات الشحوم، والعفو ما يغمض الإنسان فيه فيأخذه أو يعطيه سهلا بلا كلف من قول العرب: عفا أي نال سهلا من غير إكراه، ونظير هذه الآية من الأخبار ما روى أبو هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله عندي خير، قال: «أنفقه على نفسك» قال: عندي آخر، قال: «أنفقه على أهلك» قال: عندي آخر، قال: «أنفقه على ولدك.» قال: عندي آخر، قال: «أنفقه على
والديك» قال عندي آخر، قال: «أنفقه على قرابتك» قال: عندي آخر قال: «أنت أبصر» . وروى محمود بن سهل عن عامر بن عبد الله قال: أتى رسول الله رجل ببيضة من ذهب [استلّها] من بعض المعادن فقال: يا رسول الله خذها مني صدقة، فو الله ما أمسيت أملك غيرها، فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه. فأتاه من ركنه الأيسر فقال له مثل ذلك فأعرض عنه، ثم قال له مثل ذلك فقال مغضبا: هاتها فأخذها منه وحذفه بها حذفة لو أصابه لفجّه أو عقره، ثم قال: هل يأتي أحدكم بما يملكه ليتصدق به ويجلس يكفّف الناس، أفضل الناس ما كان عن طهر غنيّ، وليبدأ أحدكم بمن يعول. قال الكلبي: فكان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله نفقة سنة أمسكه وتصدّق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك وتصدّق بالباقي، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها قبل نزول الزكاة. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ قال الزجاج: إنما قال: كذلك على الواحد وهو يخاطب جماعة لأن الجماعة معناها القبيل كأنّه قال: أيّها القبيل يبيّن الله لكم، وجائز أن يكون خطابا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأن خطابه مشتمل على خطاب أمّته كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ وقال المفضل بن سلمة: معنى الآية كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ في النفقة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى. وقال أكثر المفسّرين: معناها: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ في أمر الدنيا والآخرة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا فيها، وفي إقبال الآخرة وذهابها فترغبوا فيها. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قال الضحّاك والسدّي وابن عباس في رواية عطية: كان العرب في الجاهلية يعظّمون شأن اليتيم ويشدّدون في أمره حتّى كانوا لا يؤاكلونه، ولا يركبون له دابّة، ولا يستخدمون له خادما، وكانوا يتشاءمون بملامسة أموالهم، فلمّا جاء الإسلام سألوا عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. وقال قتادة والربيع وابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعلي بن أبي طلحة: لمّا نزل في أمر اليتامى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً اعتزلوا أموال اليتامى وعزلوا طعامهم من طعامهم، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء حتّى كان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتّى يفسد واشتدّ ذلك عليهم، وسألوا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى.
قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وقرأ طاوس: قل إصلاح إليهم خير بمعنى الإصلاح لأموالهم من غير أجرة. ومن غير عوض عنهم خير وأعظم أجرا. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فتشاركوهم في أموالهم وتخالطوها بأموالكم في نفقاتكم ومطاعمكم ومساكنكم وخدمكم ودوابّكم، فتصيبوا من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم وتكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم، وقرأ أبو مجلز: فإخوانكم نصيبا أي فخالطوا إخوانكم أو فإخوانكم تخالطون والإخوان يعين بعضهم بعضا ونصب أعينهم. يقال: بعض على وجه الإصلاح والرضا قالت عائشة: إنّي لأكره أن يكون مال اليتيم عندي كالغرة حتّى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. ثم قال: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ لها فاتقوا الله في مال اليتامى، ولا تجعلوا مخالفتكم إيّاهم ذريعة إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حق وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ لضيّق عليكم وآثمكم في ظلمكم إيّاهم قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا. وأصل العنت الشدّة والمشقّة يقال: عقبه عنوت أي شاقه كؤود، وقال الزجاج: أصل العنت أن يحدث في رجل البعير كسر بعد جبر حتّى لا يمكنه أن يمشي. قال القطامي: فما هم صالحوا من ينتقى عنتي ... ولا هم كدّروا الخير الذي فعلوا «1» وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ الآية نزلت في عمّار بن أبي مرثد الغنوي. وقال مقاتل: هو أبو مرثد الغنوي واسمه أيمن، وقال عطاء: هو أبو مرثد عمّار بن الحصين، وكان شجاعا قويا، فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرّا، فلمّا قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق، وكانت خليلته في الجاهلية فأتته قالت: يا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: ويحك يا عناق إنّ الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك، فقالت: فهل لك أن تتزوّج بي فقال: نعم ولكن أرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأمره ثم أتزوّجك، فقالت: أبيّ تتبرم «2» ، ثمّ استغاثت عليه فضربوه ضربا شديدا ثم خلّوا سبيله، فلمّا قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها وقال: يا رسول الله أتحلّ لي أن أتزوجها؟ فأنزل الله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ أي لا تتزوجوا منهن حتّى يؤمنّ «3» . قال المفضل: أصل النكاح الجماع، ثم كثر ذلك حتّى قيل للعقد نكاح، كما قيل:
[سورة البقرة (2) : الآيات 222 إلى 225]
عذرة «1» وأصلها فناء الدار لإلقائهم إيّاه بها، ولذبيحة الصبي عقيقة، وأصلها الشعر الذي يولد للصبي، وهو علّة لذبحهم إيّاها عند جلّهم، ونحوها كثير، فحرّم الله نكاح المشركات عقدا ووطئا، ثم استثنى الحرائر الكتابيات فقال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ. ثم قال: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ بجمالها ومالها، نزلت في خنساء وكانت سوداء كانت لحذيفة بن اليمان فقال: يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى مع سوادك ودمامتك وأنزل الله عزّ وجل ذكرك في كتابه فأعتقها حذيفة وتزوجها. وقال السدّيّ: نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء فغضب عليها وآذاها، ثم فزع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم وما هو يا أبا عبد الله قال: هي تشهد أن لا إله إلّا الله وإنك رسوله وتصوم شهر رمضان وتحسن الوضوء وتصلّي فقال: هذه [مؤمنة] ، قال عبد الله: فو الّذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنها، ففعل وطعن عليه ناس من المسلمين، قالوا: أتنكح أمة؟ وعرضوا عليه حرّة مشركة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رجاء إسلامهنّ، فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» . ثم قال: وَلا تَنْكِحُوا ولا تزوّجوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بماله وحسن حاله. وعن مروان بن محمد قال: سألت مالك بن أنس عن تزويج العبد فقال: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ. أُولئِكَ يَدْعُونَ يعني المشركين إِلَى النَّارِ أي إلى الحال الموجبة للنار وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ أوامره ونواهيه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتّعظون. [سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 225] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ الآية عطاء بن السائب عن سعد بشير عن ابن عباس ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما سألوا النبي عن ثلاث عشرة
مسألة حتّى [نزل ذكرهنّ] في القرآن: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «1» يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ «2» وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ «3» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ «4» ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ «5» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى «6» وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ «7» يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي «8» وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي «9» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ «10» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «11» وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ «12» وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ «13» . قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت ولم يجالسوها على فراش كفعل المجوس واليهود. فسأل أبو الدحداح ثابت بن الدحداح رسول الله عن ذلك وقال: يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فأنزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ أي الحيض ، وهو مصدر قولك حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا، مثل السير والمسير، والعيش والمعيش، والكيل والمكيل. وأصل الحيض الانفجار يقال: حاضت الثمرة إذا سال منها شيء كالدم. قُلْ هُوَ أَذىً أي قذر، قاله قتادة والسّدّي، وقال مجاهد والكلبي: دم، والأذى ما يعمّ ويكره من شيء فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ اعلم إنّ الحيض يمنع من تسعة أشياء: من الصلاة جوازا ووجوبا ومن الصوم جوازا ثم يلزمها قضاء الصوم ولا يلزمها قضاء الصلاة. عاصم الأحول عن معادة العدوية أن امرأة سألت عائشة فقالت: الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت لها: أحروريّة أنت؟ فقالت: ليست بحروريّة ولكني أسأل، فقالت: كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. عياض عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداهنّ، فقلن له: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة على مثل نصف شهادة الرجل فذاك من نقصان عقلها؟ أو ليس إذا
حاضت المرأة لم تصلّ ولم تصم؟ فقلن بلى قال: فذلك من نقصان دينها. وتمنع أيضا من قراءة القرآن وقد رخص فيها مالك بعض الرخصة إذا طالت المدّة احترازا من نسيان القرآن، والفقهاء على خلافه، وتمنع من مسّ المصحف، ودخول المسجد والاعتكاف فيه، ومن الطواف بالبيت ومن الاحتساب بالعدة ومن الوطء قال الله تعالى: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ فلمّا نزلت هذه الآية عمد المسلمون الى النساء الحيّض فأخرجوهنّ من البيوت واعتزلوهنّ فإذا اغتسلنّ ردّوهن الى البيت، فقدم بعض من أعراب المدينة فشكوا عزل الحيض معهم وقالوا: يا رسول الله إنّ البرد شديد والثياب قليلة فإن آثرناهنّ بالثياب حال بنا وأهل البيت برد، وإن آثرتا بالثياب هلكت الحيض، وليس كلنا يجد سعة لذلك فيوسع عليهم جميعا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم، وقرأ عليهم هذه الآية. الناصري عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من وطئ امرأته وهي حائض فقضى منهما ولد فأصابه جذام فلا يلومنّ إلّا نفسه، ومن احتجم يوم السبت والأربعاء فأصابه ضرر واضح فلا يلومنّ إلّا نفسه» [131] «1» . وإن جامعها أثم ولزمته الكفارة، وهي ما روى ابن أبي المخارق عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ رجلا جامع امرأته وهي حائض قال: إن كان دما عبيطا فليتصدّق بدينار، وإن كان صفرة فنصف دينار «2» . ولا بأس باستخدام الحائض ومباشرة بدنها إذا كانت مؤتزرة وبالاستمتاع بها فوق الإزار. قيل لمسروق: ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قال: كل شيء إلّا الجماع. وعن ربيعة بن عبد الرحمن أنّ عائشة كانت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مضطجعة في ثوب واحد وأنها وثبت وثبة شديدة فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لك لعلّك نفست- يعني الحيضة- قالت: نعم، قال: شدّي عليك إزارك ثم عودي لمضجعك» [132] «3» . معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى عن أبي سلمة أنّ زينب بنت أبي سلمة حدّثت أن أم سلمة حدّثتها قالت: بينا أنا مضطجعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخميلة إذ حضت فانسللت فأخذت ثياب حيضتي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنفست؟ قلت: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة «4» .
عن يزيده مولاة ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ميمونة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين «1» . إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إناء واحد، ونحن جنبان وكنت أفلي رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو معتكف في المسجد وأنا حائض، وكان يأمرني إذا كنت حائضا أن أتّزر ثم يباشرني. ثابت بن عبيدة عن القاسم عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ناوليني الخمرة فقالت: إني حائض فقال: «إنّ حيضتك ليست في يدك» «2» . وعن شريح قال: قيل لعائشة: هل تأكل المرأة مع زوجها وهي طامث؟ قالت: نعم، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوني فآكل معه وأنا حائض، وكان يأخذ العرق فيقسم عليّ فيه فأعرّق منه، ثم أضعه فيأخذ فيعرّق منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من العرق ويدعو بالشراب فيقسم عليّ قبله أن أشرب منه فآخذه وأشرب منه، ثم أضعه فيأخذه ويشرب منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح. فدلّت هذه الأخبار على أنّ المراد بالاعتزال عن الحيض جماعهنّ، وذلك أن المجوس واليهود كانوا يجتنبون الحيّض في كل شيء، وكان النصارى يجامعوهن ولا يبالون بالحيض، فأنزل الله تعالى بالاقتصاد بين هذين الأمرين، وخير الأمور أوسطها. ثابت عن أنس قال: أنزل الله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: افعلوا كل شيء إلّا الجماع، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل، لم يدع من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فيه، فجاء أسد بن حصين وعباد بن شبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله إنّ اليهود قالت كذا وكذا، أفلا نجامعهنّ؟ فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فظنّا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ يعني لا تجامعوهنّ، حَتَّى يَطْهُرْنَ قرأ ابن محيص والأعمش وعاصم وخمرويه والكسائي يطّهّرن بتشديد الطاء والهاء ومعناه يغتسلن، يدلّ عليه قراءة عبد الله حتّى يتطهّرن بالتاء على الأصل، وقرأ الباقون يَطْهُرْنَ مخففا ومعناه حَتَّى يَطْهُرْنَ من حيضهنّ وينقطع الدم.
واختلف الفقهاء في الحائض متى يحلّ وطؤها، فقال أبو حنيفة وصاحباه: إذا حاضت المرأة بعشرة أيام حلّ وطؤها دون أن تغتسل، فإن طهرت لما دون العشرة لم يحلّ وطؤها إلّا بإحدى ثلاث: قلت أن تغتسل أو يمضي بها أقرب وقت الصلاة، فيحكم لها بذلك حكم الطاهرات في وجوب الصلاة في زمنها أو تيمما عند عدم الماء. مجاهد وطاوس وعطاء: إذا طهرت الحائض من الدم وأخذ زوجها شبق، فإن غسلت فرجها وتوضأت ثم أتاها جاز. وقال الشافعي: لا يحلّ وطء الحائض إلّا يحين انقطاع الدم والاغتسال، وهو قول سالم ابن عبد الله وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وابن شهاب والليث بن سعد وزفر وقال الحسن البصري: إذا وطئ الرجل امرأته بعد انقطاع الدم قبل أن تغتسل فعليه من الكفارة مثل ما على من يطأ الحائض، فمن قرأ حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتشديد فهو حجّة للمبيحين، والدليل على أنّ وطأها لا يجوز ما لم تغتسل أن الله عزّ وجل علّق جواز وطئها بشرطين فلا تحل قبل حصولهما، وهما: قوله عزّ وجل حَتَّى يَطْهُرْنَ وقوله فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن دليله قوله وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ولا يجهد الإنسان على ما لا صنع له فيه، والاغتسال فعلها وانقطاع الدم ليس من فعلها، ويدلّ عليه أيضا قوله في النساء والمائدة وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا واطّهر واحد وهو الاغتسال فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي من حيث أمركم أن تعتزلوهن منه وهو الفرج، قاله مجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة. الوالبي عن ابن عباس يقول: وطأهنّ في الفرج، ولا تعدوه إلى غيره فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى «1» . الربيع بن عبيد: نهيتم عنه واتقوا الأدبار، وإنما قال: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ لأنّ النهي أيضا أمر بترك المنهي عنه. وقال قوم: قوله: فَأْتُوهُنَّ من الوجه الذي أَمَرَكُمُ اللَّهُ أن تأتوهنّ وهو الطهر، فكأنه قال: فأتوهنّ من قبل طهرهنّ لا من قبل حيضهنّ، وهو قول ابن رزين والضحّاك ورواية عطية عن ابن عباس. ابن الحنفية: فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفجور. ابن كيسان: لا تأتوهنّ صائمات ولا معتكفات ولا محرمات، وأتوهنّ، واقربوهنّ وغشيانهنّ لكم حلال.
الفرّاء: مثل قولك: أتيت الأرض من مأتاه أي من الوجه الذي يؤتى منه. الواقدي معناه مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ وهو الفرج، نظيره في سورة الملائكة والأحقاف أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي في الأرض، وقوله إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي في يوم الجمعة. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ قال مجاهد عن ابن رزين والكلبي إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذنوب الْمُتَطَهِّرِينَ من أدبار النساء أن لا يأتوها. وقال: من أتى المرأة في دبرها فليس من المتطهّرين، فإن دبر المرأة مثله من الرجل. مقاتل بن حيّان التَّوَّابِينَ من الذنوب والْمُتَطَهِّرِينَ من الشرك والجهل. كنت عند أبي العالية يوما فتوضأ وضوءا حسنا فقلت إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ فقال: الطهور من الماء حسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب. سعيد بن جبير التَّوَّابِينَ من الشرك والْمُتَطَهِّرِينَ من الذنوب. وعن أبي العالية أيضا التَّوَّابِينَ من الكفر والْمُتَطَهِّرِينَ بالإيمان. ابن جريج عن مجاهد التَّوَّابِينَ من الذنوب لا يعودون لها والْمُتَطَهِّرِينَ هنا لم يصبوها. قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن محمد بن حبيب يقول: سألت أبا الحسن علي بن عبد الرحيم القنّاد عن هذه الآية قال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الكبائر والْمُتَطَهِّرِينَ من الصغائر. التَّوَّابِينَ من الأفعال والْمُتَطَهِّرِينَ من الأقوال. التَّوَّابِينَ من الأقوال والأفعال والْمُتَطَهِّرِينَ من العقود والإضمار. التَّوَّابِينَ من الآثام والْمُتَطَهِّرِينَ من الاجرام. التَّوَّابِينَ من الجرائر، والْمُتَطَهِّرِينَ من خبث السرائر. التَّوَّابِينَ من الذنوب والْمُتَطَهِّرِينَ من العيوب. والتواب الذي كلما أذنب تاب، نظيره قوله فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً. محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مرّ رجل ممن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر إليها فقال: أي ربّ أنت أنت، وأنا أنا، أنت العوّاد بالمغفرة، وأنا العوّاد بالذنوب، ثم خرّ ساجدا فقيل له: ارفع رأسك فأنا العوّاد بالمغفرة، وأنت العوّاد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له» [133] «1» .
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية، جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما الذي أهلكك؟ قال: حوّلت رحلي البارحة فلم يردّ عليّ شيئا فأوحى الله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ يقول أقبل وأدبر واتق الدّبر والحيضة «1» . محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: كان اليهود يقولون: من جامع امرأته وهي مجبّية من دبرها في قبلها كان ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كذبت اليهود فأنزل الله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ «2» . مجاهد عن ابن عباس قال: كان هذا الحي من الأنصار، وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود، وهم أهل كتاب، وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم وكان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلّا على حرف، وذلك أيسر ما يكون للمرأة، فكان هذا الحي من الأنصار يأخذون بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرح عن النساء شرحا منكرا، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلمّا قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف فإن شئت فاصنع وإلّا فاجتنبني، حتى انتشر أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عزّ وجلّ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ يعني موضع الولد «3» قالوا: حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مدبرات ومقبلات ومستلقيات. قال الحسن وقتادة والمقاتلان والكلبي تذاكر المهاجرون والأنصار واليهود إتيان النساء في مجلس لهم فقال المهاجرون: إنّا نأتيهن باركات وقائمات ومستلقيات ومن بين أيديهن ومن خلفهن، بعد أن يكون المأتي واحدا في الفرج، فعابت اليهود وقالت: ما أنتم إلّا أمثال البهائم لكنّا نأتيها على هيئة واحدة، فإنا لنجد في التوراة أن كل إتيان يؤتى للنساء غير الاستلقاء دنس عند الله، ومنه يكون الحول والخبل، فذكر المسلمون ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله إنّا كنا في جاهليتنا وبعد ما أسلمنا نأتي النساء كيف شئنا، فإنّ اليهود عابت ذلك علينا وزعمت أنّا كذا وكذا، فكذّب الله عزّ وجل اليهود، وأنزل رخصة لهم نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أي كيف شئتم وحيث شئتم ومتى شئتم بعد أن يكون في [فرج] واحد «4» . (أَنَّى) حرف استفهام ويكون سؤالا عن الحال والمحلّ. وقال سعيد بن المسيب: هذا في العزل يعني إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا.
يحيى بن أبي كثير عن رجل قال: قال عبد الله ستامر الحرّة في العزل ولا تستأمر الأمة، وفي هذه الآية دليل على تحريم أدبار النساء لأنها موضع الفرث لا موضع الحرث، وإنما قال الله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وهذا من لطف كنايات القرآن حيث عبّر بالحرث عن الفرج فقال: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي مزرع ومنبت الولد، وأراد به المحرث المزدرع، ولكنّهن لما كنّ من أسباب الحرث جعلن حرثا. وقال أهل المعاني: تقدير الآية: نساؤكم كحرث لكم، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً أي كنار، قال الشاعر: النشر مسك والوجوه دنانير ... وأطراف الأكف عنم «1» والعرب تسمي النساء حرثا، قال المفضل بن سلمة: أنشدني أبي: إذا أكل الجراد حروث قوم ... فحرثي همّه أكل الجراد «2» وقال الثعلبي: وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد السدوسي، قال: أنشدني أبو منصور مهلهل بن علي العزّي، قال: أنشدني أبي قال: أنشدنا أحمد بن يحيى: حبّذا من حبّة الله النبات الصالحات ... هن النسل والمزروع بهنّ الشجرات يجعل الله لنا فيما يشاء البركات ... إنما الأرضون لنا محرثات فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات «3» وقد وهم بعض الفقهاء في تأويل هذه الآية وتعلق بظاهر خبر رواه وهو ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين من رواة الدينوري، حدّثنا محمد بن عيسى الهيّاني أبو بكر الطرسوسي وإسحاق الغروي عن مالك بن أنس عن نافع قال: كنت أمسك على ابن عمر المصحف فقرأ هذه الآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ قال: أتدري فيما نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل أتى امرأة في دبرها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشقّ ذلك عليه فنزلت نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ الآية «4» ، وأما تأويل حديث ابن عمر فهو ما روى عطاء عن موسى بن عبد الله بن الحسن عن أبيه أنّه لقي سالم بن عبد الله، فقال: يا أبا عمر ما حدّث محدّث نافع عن عبد الله؟ قال: وما هو؟ قال: زعم أنه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء من أدبارهنّ، قال: كذب العبد وأخطأ، إنّما قال عبد الله: تؤتى في فروجهنّ من أدبارهنّ، الدليل على تحريم
الأدبار ما روى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ قال: لا يكون الحرث إلّا حيث يكون النبات ، وعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، لا تأتوا النساء في أدبارهنّ. مخرمة بن سليمان عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ملعون من أتى امرأته في دبرها. وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ يعني طلب الولد، وقيل: التزوّج بالعفائف ليكون الولد صالحا طاهرا، وقيل: هو لذم الإفراط، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسّه النار إلّا تحلّة القسم، فقيل: يا رسول الله اثنان، قال: واثنان، فقال: فظننا أن لو قيل واحد لقال واحد. شهر بن عطية عن عطاء وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ قال: التسمية عند الجماع، وقال مجاهد وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ يعني: إذا أتى أهله فليدع. سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل: بسم الله اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدر بينهما منهما ولد لم يضرّه شيطان «1» . السدّي والكلبي يعني الخير والعمل الصالح دليله سياق الآية وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ ابن كيسان قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ في كل ما أحلّ الله لكم، وما تعبّدكم به، فإن تصديقكم الله ورسوله بكل ما أحلّه لكم وحرّم عليكم وما تعبّدتم به قدم صدق لكم عند ربّكم، وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فيجزيكم بأعمالكم. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ الآية، قال الكلبي: نزلت في عبد الله ابن رواحة ينهاه عن قطيعة ختنه على أخته بشير بن النعمان الأنصاري، وذلك أنه كان بينهما شيء فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلّمه ولا يصلح عنه وعن خصم له، وجعل يقول: قد حلفت بالله ألّا أفعل، فلا تحلّ لي الّا أن يبرّ يميني، فأنزل الله هذه الآية. قال مقاتل بن حيان: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) حين حلف ألّا يصل ابنه عبد الرحمن حتّى يسلم. ابن جريج: حدّثت أنها نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسيطح حين خاض في حديث الإفك. والعرضة أصلها الشدّة والقوة، ومنه قيل للدابة التي تتخذ للسفر وتعد له: عرضة، لقوتها عليه، يقال: عرضت ناقتي لذلك أي اتخذتها له، قال أوس بن حجر:
وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها ... لرحلي وفيها هزّة وتقاذف «1» ثم قيل لكل ما يصلح لشيء هو عرضة له، حتى قالوا للمرأة: هي عرضة للنكاح إذا صلحت له وقويت عليه، ويقال فلان عرضة للسهر والحرب، قال حسّان: وقال الله قد يسّرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللقاء «2» قال المفسرون: هذا في الرجل يحلف بالله تعالى لا يصل رحما ولا يكلّم قرابته أولا يتصدق له بالصنع خيرا، أو يصلح بين اثنين فيعصيانه أو يتهمانه أو أحدهما فيحلف بالله لا يصلح بينهما، فأمره الله أن يحنث في يمينه ويفعل ذلك سرّا ويكفّر عن يمينه، فمعنى الآية ولا تجعلوا الله علّة ومانعا لكم من البرّ والتقوى، يقول أحدكم: حلفت بالله فيغلّ يمينه في ترك البرّ والصلاح وهو قوله أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ معناه أن لا تبرّوا كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «3» أي لئلّا تضلّوا، وقال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي «4» ويبيّن هذه الآية ما روى سماك عن الحسين عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» [134] . وقال سنان بن حبيب: قلت لسعد بن حمير: إنّي عصت عليّ مولاة لي كان مسكنها معي فحلفت أن لا تساكنني، فقال: هذا من عمل الشيطان كفّر عن يمينك وأسكنها ثم قرأ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ. لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ أصل اللغو في كلام العرب ما أسقط فلم يعتد به، قال ذو الرمّة: وتطرح بينها المرّي لغوا ... ما ألغيت في الماية الحوارا «5» يريد بالماية التي تساق في الدية إذا وضعت ناقة منها حوارا لا يقدّمه، والمرّي منسوب إلى امرئ القيس بن زيد بن مناة بن تميم، قال المثقب العبدي: أو مائة تجعل أولادها ... لغوا وعرض المائة الجلمد «6»
واللغو واللغاء في الكلام ما لا خير فيه ولا معنى له، ونظيره في اللغة صفو فلان معك وصفاه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وقال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً قال أمية: فلا لغو ولا تأثيم فيها ... وما فاهوا به لهم مقيم «1» وقال العجّاج: وربّ أسراب الحجيج الكظّم ... عن اللغا ورفث التكلّم «2» واختلف العلماء في لغو اليمين المذكور في هذه الآية، فقال قوم هو ما يسبق به لسان الإنسان من الايمان على سرعة وعجلة ليصل به كلامه من غير عقد ولا قصد، مثل قول القائل: لا والله وبلى والله وكلّا والله ونحوها، فهذا لا كفارة فيه ولا إثم. هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قالت: قول الإنسان لا والله وبلى والله، وعلى هذا القول الشعبي وعكرمة ومجاهد في رواية الحكم، وقال الفرزدق: ولست بمأخوذ بلغو تقوله ... إذا لم تعمد صاغرات العزائم «3» وقال آخرون: لغو اليمين هو أن يحلف الإنسان على الشيء يرى أنه صادق فيه ثم يتبيّن أنه خلاف ذلك، فهو خطأ منه من غير عمد، ولا كفارة عليه ولا إثم، وهو قول الزهري والحسن وسليمان بن يسار وإبراهيم النخعي وأبي مالك وقتادة والربيع وزرارة بن أوفى ومكحول والسدي وابن عباس في رواية الوالبي، وعن أحمد برواية ابن أبي نجيح. وقال علي وطاوس: اللغو اليمين في حال الغضب والضجر من غير عزم ولا عقد ، ومثله روى عطاء عن وسيم عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يمين في غضب» [135] «4» . وقال بعضهم: هو اليمين في المعصية لا يؤاخذ به الله عزّ وجلّ في الحنث فيها، بل يحنث في يمينه ويكفّر، قاله سعيد بن جبير، وقال غيره: ليس فيه كفارة. وقال مسروق: في الرجل الذي يحلف على المعصية ليس عليه كفّارة. الكفر عن خطوات الشيطان، ومثله روى عكرمة عن ابن عباس، وقال الشعبي: في الرجل الذي يحلف على المعصية كفارته أن يتوب منها، فكل يمين لا يحل لك أن تفي بها فليس فيها كفارة، فلو أمرته بالكفارة لأمرته أن يتم على قوله، يدلّ عليه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية الله فلا يمين له» [136] «1» . وروت عمرة عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على قطيعة رحم أو معصية فبرّه أن يحنث منها ويرجع عن يمينه» [137] «2» . وروى حماد عن إبراهيم قال: لغو اليمين أن يصل الرجل كلامه بأن يحلف: والله لا آكلنّ أو لا أشربنّ، ونحو هذا لا يتعمد به اليمين ولا يريد حلفا فليس عليه كفارة يدل عليه ما روى عوف الأعرابي عن الحسين بن أبي الحسن، قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوم ينتضلون ومعه رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله وأخطأت، فقال الذي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم: حنث الرجل، قال والله، فقال: «كلا، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» [138] «3» . وقالت عائشة: أيمان اللغو ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعقد القلب عليه. وقال زيد بن أسلم: هو دعاء الحالف على نفسه كقوله: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، أخرجني من مالي إن لم أرك غدا، أو تقول: هو كافر إن فعل كذا، فهذا كلّه لغو إذا كان باللسان دون القلب لا يؤاخذه الله بها حتّى يكون ذلك من قلبه ولو واحدة بها لهلك، يدلّ عليه قوله وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ. الضحاك: هو اليمين المكفّر وسمي لغوا لأن الكفارة تسقط منه الإثم، تقديره: لا يؤاخذكم الله بالإثم في اليمين إذا كفّرتم. المغيرة عن إبراهيم: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينسى فيحنث [بالله] فلا يؤاخذه الله عزّ وجلّ به، دليله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» [139] «4» . وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي عزمتم وقصدتم وتعمّدتم لأن كسب القلب العقد على الشيء والنيّة. وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ الآية. اعلم أنّ الأيمان على وجوه: منها أن يحلف على طاعة كقوله: والله لأصلينّ أو لأصومنّ أو لأحجّنّ أو لأتصدقنّ ونحوها، فإن كان فرضا عليه فالواجب عليه أن لا يحنث، فإن حنث
[سورة البقرة (2) : الآيات 226 إلى 229]
فعليه الكفارة، لأنه كان فرضا عليه فزاده تأييدا باليمين، وإن كان ذلك تطوعا ففيه قولان: أحدهما أنّ عليه الكفارة بالحنث فيه، والقول الثاني: عليه بالوفاء بما قال ولا يجزيه غيره، ومنها أن يحلف على معصية وقد ذكرنا حكمه والاختلاف فيه، ومنها أن يحلف على مباح، وهو على ضربين: من ماض ومستقبل، فاليمين على المستقبل مثل أن يقول: والله لأفعلنّ كذا، والله لا أفعل كذا، فإنّ هذا إذا حنث فيه لزمته الكفارة بلا خلاف، واليمين على الماضي مثل أن يقول: والله لقد كان كذا ولم يكن، أو لم يكن كذا وقد كان، وهو عالم به فهو اليمين الغموس الذي يغمس صاحبه في الإثم لأنّه تعمد الذنوب، ويلزمه الكفارة عندنا، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الكفارة وتحصيله كاللغو. ثم اعلم أن المحلوف به على ضروب: ضرب منها يكون يمينا ظاهرا وباطنا، ويلزم المرء الكفارة بالحنث فيها، وهو قول الرجل: والله وبالله وتالله، فهذه أيمان صريحة ولا يعتبر فيها النية، والضرب الثاني أن يحلف بصفة من صفات الله عزّ وجلّ كقوله: وقدرة الله وعظمة الله وكلام الله وعلم الله ونحوها، فإنّ حكم هذا كحكم الضرب الأول سواء، والضرب الثالث أن يحلف بكنايات اليمين كقوله: أيم الله وحق الله وقسم الله ولعمرو الله ونحوها، فهذا يعتبر فيها النية، فإن نوى اليمين كان يمينا، وإن قال: لم أرد به اليمين قبلنا قوله فيه، والضرب الرابع: أن يحلف بغير الله مثل أن يقول: والكعبة والصلاة واللوح والقلم وحق محمد وأبي وحياتي ورأس فلان ونحوها، فهذا ليس بيمين، ولا يلزم الكفارة بالحنث فيه، وهو يمين مكروه فيه، قال الشافعي: والمعنى أن يكون [ ... ] «1» . عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر يقول: كانت قريش تحلف بآبائها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف بالله، لا تحلفوا بآبائكم» [140] «2» . وسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [عمر] «3» يقول: وأبي فنهاه عن ذلك، قال عمر: فما حلفت بهذا بعد ذاكرا ولا آثرا. [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 229] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قتادة: كان الإيلاء طلاق أهل الجاهلية. سعيد بن المسيّب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره يحلف ألّا يقربها أبدا، وكان يتركها كذلك لا أيّما ولا ذات بعل، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وفي الإسلام، فجعل الله الأجل الذي يعلم به عند الرجل في المرأة وهي أربعة أشهر، فأنزل الله تعالى لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وفي حرف عبد الله للذين آلوا من نسائهم على أنها الماضي، وقرأ ابن عباس: للذين يقسمون من نسائهم. الإيلاء: الحلف، يقال: آلى يولي، إيلاء، قالت الخنساء: فآليت آسى على هالك ... أو أسأل نائحة مالها «1» والاسم منه الألية، قال الشاعر: عليّ ألية وصيام ... أمسك طارها ألّا يكفّ وفيه أربع لغات، أليّة وألوة وللوة وآلوة ومعنى الآية لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ أن يعتزلوا من نسائهم، فترك ذكره اكتفى بدلالة الكلام عليه، والتربّص: التريث والتوقف، وزعم بعضهم أنّه من المقلوب، قالوا: التربّص: التصبّر، فمثلا أن يحلف الرجل أن لا يقرب امرأته فيقول لها: والله لا أجامعك أو لا يجتمع فراشي بفراشك، ونحو ذلك من ألفاظ الجماع، وكل حين يحلفها الرجل على امرأته فيصير ممتنعا من جماعها أكثر من أربعة أشهر إلّا بشيء [يكون] في بدنه وماله فهو إيلاء، وما كان دون أربعة شهر فليس بإيلاء. وكان علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يقول: الإيلاء يمين في الغضب فإذا حلف في حال الرضا فليس بإيلاء ، وعامة الفقهاء يجرونه على العمد، ويلزمون الإيلاء في كل يمين منع من جماعها في حال الرضا والغضب، فإذا آلى تبان فإن هو جامع قبل مضي أربعة أشهر كفّر عن يمينه ولا شيء عليه، والنكل ثابت هو إن هو لم يجامع حتّى تنقضي أربعة أشهر، فاختلف الفقهاء فيه، فقال بعضهم: إذا مضت أربعة أشهر ولم يف بانت منه بتطليقة وهي أملك بنفسها، وهذا قول عبد الله بن مسعود ومحمد بن ثابت وقتادة ومقاتل بن حبّان والكلبي وأبي حنيفة، يدلّ عليه قول ابن عباس: عزيمة الطلاق إمضاء أربعة أشهر. وقال بعضهم: إذا مضت أربعة أشهر والرجل ممتنع فإن عفّت المرأة ولم تطلب حقّها من الجماع فلا شيء على الرجل ولا يقع به طلاق وهما على نكاح ما لو قامت على ذلك، وإن
طلبت حقها وقف الحاكم زوجها، فإما أن يفي وإما أن يطلّق، فإن أبى [الفيئة] والطلاق جميعا طلق عليه الحاكم، وقيل: يحبسه أبدا حتّى يطلّق، وجملة هذا القول الذي ذكروا من الوقف قول عمر وعثمان وعليّ وأبي الدرداء وابن عمر وعائشة وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد، ومذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأبي عبيدة وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث. وقال يونس الصواف: أتيت سعيد بن المسيّب فقال: من أين؟ قلت: من الكوفة، قال: وإنّهم يقولون في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر [فلا شيء عليه] ولا أربع سنين حتّى لو [يفيء أن يطلّق] وألغى الجماع فإن كان عاجزا عن الجماع بمرض أو عنّة أو نحوها فاء بلسانه وأشهد. وقال: كان إبراهيم النخعي يقول: ألغي باللسان على كل حال، فإذا فاء فعليه الكفارة ليمينه في قول الفقهاء، إلّا الحسن وإبراهيم وقتادة فإنهم أسقطوا الكفارة عن المولى إذا فاء لقوله فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقال إبراهيم: هذا في إسقاط الحق به لا في الكفارة. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي حققوا وصدّقوا ونووا، وقرأ ابن عباس: وإن عزموا السراح، وهو الطلاق أيضا. فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بنيّاتهم، وفيه دليل على أنّها لا تطلّق بعد مضي الأربعة الأشهر ما لم يطلقها زوجها أو السلطان لأنه شرط فيه العزم، ولأن السماع يقتضي [ ... ] «1» والقول هو الذي يسمع، والسماع راجع إلى الطلاق والله أعلم. وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ الآية، قال مقاتل بن حيان والكلبي: كان الرجل أول الإسلام إذا طلّق امرأته ثلاثا وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما لم تضع ولدها إلى أن نسخ الله ذلك بقوله الطَّلاقُ مَرَّتانِ وقوله فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الآية، وطلّق إسماعيل بن عبد الله الغفاري امرأته قتيلة وهي حبلى. وقال مقاتل: هو مالك بن الأشدق رجل من أهل الطائف، قالوا جميعا: ولم يشعر الرجل بذلك ولم تخبره بذلك، فلمّا علم بحبلها راجعها وردّها إلى بيته، فولدت وماتت ومات ولدها، وفيها أنزل الله تعالى هذه الآية وَالْمُطَلَّقاتُ أي المخلّيات من حبال أزواجهن وهو من قولهم: أطلقت الشيء من يدي وطلقته إذا خلّيته، إلّا أنهم لكثرة استعمالهم اللفظين فرّقوا بينهما ليكون التطليق مقصورا في الزوجات وبذلك أنزل القرآن يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ والاسم منه الطلاق، ويقال: طلق الرجل المرأة وطلّقت وطلقت معا، وأصله من قولهم: انطلق الرجل إذا مضى غير ممنوع، ويقال للشوط الذي يجريه الفرس وغيره من غير أن يمنع طلق. يَتَرَبَّصْنَ ينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ ولا يتزوجن ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، جمع قرء، مثل قرع وجمعه القليل
قروء والجمع الكثير أقراء وقرء، واختلف الفقهاء في القروء، فقال قوم: هي الحيض، وهو قول علي وعمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري ومجاهد ومقاتل بن حيّان، ومذهب سفيان وأبي حنيفة وأهل الكوفة ، واحتجوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم للمستحاضة: «دعي الصلاة أيام أقرائك» [141] «1» والصلاة إنما تترك في حال الحيض، يقول الراجز أنشده تغلب عن ابن الأعرابي: له قروء كقروء الحائض «2» يعني أنّ عداوته تهيج في أوقات معلومة كما أن المرأة تحيض بأوقات معلومة، فمن قال بهذا القول قال: لا تحلّ المرأة للأزواج ولا تخرج من عدّتها ما لم تنقض الحيضة الثالثة، يدل عليه ما روى الزهري عن ابن المسيّب أن عليا قال في الرجل يطلق امرأته واحدة أو ثنتين: [لا] يحل لزوجها الرجعة إليها حتّى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلّ لها الصلاة. وقال آخرون: هي الأطهار وهو قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة ومذهب مالك والشافعي وأهل المدينة، واحتجوا بقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم- لمّا طلّق ابن عمر امرأة وهي حائض- لعمر: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك، وتلا النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله عزّ وجلّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أنّ العدّة الأطهار من الحيض وقرأ فَطَلِّقُوهُنَّ لتتم عدتهنّ ، وهو أن يطلقها طاهرا لأنها حينئذ تستقبل عدّتها، ولو طلقت أيضا لم تكن مستقبلة عدّتها إلّا بعد الحيض، ويدلّ على تلك القروء والأطهار قول الشاعر وهو الأعشى: وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم غزائكا مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا «3» والقرء في هذا البيت الطهر، لأنّه خرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فأضاع اقراءهنّ أي أطهارهن، ومن قال بهذا القول قال: إذا حاضت المرأة الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلّت للزواج، يدلّ عليه ما روى الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة، قالت: إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلّت للأزواج، قالت عمرة: وكانت عائشة تقول: القرء: الطهر ليس الحيض. ابن شهاب قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحدا من فقهائنا إلّا وهو يقول هذا، يريد قول عائشة الأقراء الأطهار، وإنما وقع هذا الاختلاف لأن القرء في اللغة
حكم الآية
من الأضداد يصلح للمعنيين جميعا، يقول أقرأت المرأة إذا حاضت وأقرأت إذا طهرت، فهي تقرى، واختلفوا في أصلها، فقال أبو عمر وأبو عبيدة هو وقت مجيء الشيء وذهابه، يقال: رجع فلان لقرئه وقاريه أي لوقته الذي يرجع فيه، وهذا قاري الرياح أي وقت هبوبها «1» . قال مالك بن الحرث الهذلي: كرهت العقر عقر بني شليل ... إذا هبّت لقارئها الرياح «2» أي لوقتها، ويقال: أقرأت النجوم إذا طلعت، وأقرأت إذا أفلت. قال كثير: إذا ما الثريا وقد أقرأت ... أحسّ السما كان منها أفولا فالقرء للوجهين، لأن الحيض يأتي لوقت والطهر يأتي لوقت، وقيل: هو من [قرء الماء في الحوض، وهو جمعه] ، قال عمرو بن كلثوم: ذراعي عيطل إذماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا «3» أي لم تحمل، ولم تضم في رحمها، وإنما تقول العرب: ما قرأت الناقة بلا قرط أي لا تضمّ رحمها على ولد، ومنه قولهم: قرأت القرآن أي نطقت به مجموعا، هذا اختيار الزجّاج. قال: ومنه قريت الماء في المقراة، ترك همزها والأصل فيه الهمز، فالقرء احتباس الدم واجتماعه وهو يكون في حال الطهر والحيض جميعا، إلّا أن الترجيح للطهر لأنّه يجمع الدم ويحبسه، والحيض يرخّيه ويرسله والله أعلم. حكم الآية اعلم أن لفظها خبر ومعناها أمر، كقوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وأمثاله، والعدّة على ضربين: عدّة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها، فعدّة المطلقة على ثلاثة أضرب: عدة الحائض ثلاثة قروء، وعدّة الحامل أن تضع حملها، وعدّة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي آيست ثلاثة أشهر، وعدّة المتوفى عنها زوجها ضربان: إن كانت حاملا فعدّتها أن تضع حملها وإلّا فعدّتها أربعة أشهر وعشرة، وعدّة الإماء فيما له نصف ومن الأقراء قرآن لأنها لا نصف ولا عدّة على متن لم يدخل بها إذا توفي عنها زوجها، فعدّتها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ... وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال عكرمة وإبراهيم: يعني الحيض، وهو أن تعتدّ المرأة فيريد الرجل أن يراجعها فتقول: إنّي قد حضت الثالثة. ابن عباس
وقتادة ومقاتل: يعني الحمل في الولد، فمعنى الآية لا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحمل ليبطلن حق الزوج في الرجعة والولد، فإنّ المرأة أمينة على فرجها. إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أزواجهنّ، وهو جمع بعل، كالفحولة والذكورة والحزولة والخيوطة، ويقال: تبعّلت المرأة إذا تزوجت، ومنه قيل للجماع بعال، وإنما سمي الزوج بعلا لقيامه بأمور زوجته، وأصل البعل السيّد والمالك، قال الله تعالى أَتَدْعُونَ بَعْلًا وقرأ مسلم بن محارب وَبُعُولَتْهُنَّ بإسكان التاء لكثرة الحركات، والاتباع أفصح وأحسن وأوفق وأولى. أَحَقُّ أولى بِرَدِّهِنَّ أي برجعتهن فِي ذلِكَ أي في حال العدّة إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً لا إضرارا، وذلك إن الرجل إذا أراد الإضرار بامرأته طلّقها واحدة وتركها حتّى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها، ثم تركها مدّة، ثم طلّقها أخرى وتركها كما فعل في الأولى، ثم راجعها فتركها مدّة ثم طلقها وَلَهُنَّ أي وللنساء على أزواجهنّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ من الحق. يروى أن امرأة معاذ قالت: يا رسول الله ما حق الزوجة على زوجها؟ قال: «أن لا يضرب وجهها، وأن لا يقبحها، وأن يطعمها مما يأكل، ويلبسها مما يلبس ولا يهجرها» [142] «1» . المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكنّ لأنفسهن شيئا» «2» «إنما اتخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» [143] «3» . وعن ميمونة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خيار الرجال من أمتي خيرهم لنسائهم، وخير النساء من أمتي خيرهنّ لأزواجهنّ، يرفع لكل امرأة منهنّ كل يوم وليلة أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله صابرين محتسبين، ولفضل إحداهنّ على الحور العين كفضل محمّد على أدنى رجل منكم، وخير النساء من أمتي من تأتي مسيرة زوجها في كل شيء يهواه ما خلا معصية الله عزّ وجلّ، وخير الرجال من أمتي من يلطف بأهله لطف الوالدة بولدها، يكتب لكل رجل منهم في كل يوم وليلة أجر مائة شهيد قتلوا في سبيل الله محتسبين صابرين» . فقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : يا رسول الله فكيف يكون للمرأة أجر ألف شهيد وللرجل مائة شهيد؟ قال: «أو ما علمت أن المرأة أعظم أجرا من الرجل، وأفضل ثوابا، وأنّ الله عزّ وجلّ ليرفع الرجل في الجنة درجات فوق درجاته برضا زوجته عنه في الدنيا ودعائها له؟ أوما
علمت أنّ أعظم وزر بعد الشرك بالله المرأة إذا غشت زوجها؟ ألا فاتقوا الله في الضعيفين، فإنّ الله سائلكم عنهما: اليتيم والمرأة، فمن أحسن إليهما فقد بلغ إلى الله ورضوانه، ومن أساء إليهما فقد استوجب من الله سخطه، حق الزوج على المرأة كحقّي عليكم، فمن ضيّع حقّي فقد ضيّع حق الله، ومن ضيّع حق الله فقد باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» [144] . بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ في الفضل. قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال، وقيل: بالعقل، وقيل: بالميراث، وقيل: بالدرجة، قال قتادة: بالجهاد. عن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر بن عبد الله، قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في نفر من أصحابه إذ أقبلت امرأة حتّى قامت على رأسه، ثم قالت: السلام عليك يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، ليست من امرأة [سمعت بمخرجي] إليك إلا أعجبها ذلك، يا رسول الله: إن الله ربّ الرجال وربّ النساء، وآدم أب الرجال وأب النساء، وحواء أم الرجال وأم النساء، فالرجال إذا خرجوا في سبيل الله وقتلوا ف أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وإذا خرجوا فلهم من الأمر ما قد علمت، ونحن [نحبس] عليهم ونخدمهم فهل لنا من الأجر شيء؟ قال: «نعم، أقرئي النساء السلام وقولي لهنّ: «إنّ طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك، وقليل منكنّ يفعله» [145] «1» . ثابت عن أنس، قال: جئن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله، فما لنا عمل بعدك به عمل في سبيل الله. بكر بن عبد الله المزني عن عمران بن الحصين قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هل على النساء جهاد؟ قال: «نعم، جهادهن الغيرة، يجاهدن أنفسهن فإن صبرن فهنّ مجاهدات، وإن صبرن فهنّ مرابطات ولهنّ أجران اثنان» [146] «2» . وقيل: بالطلاق والرجعة، وقيل: بالشهادة، وقيل: بقوة العبادة، وقال سفيان وزيد بن أسلم: بالإمارة. وقال القتيبي: معناه: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي فضيلة للحق. وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلاقُ مَرَّتانِ روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن امرأة أتتها فشكت أنّ زوجها يطلقها ويسترجعها ليضارّها بذلك، وكان الرجل في الجاهلية إذا طلّق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك، فإن طلّقها ألف مرة لم يكن للطلاق عندهم حدّ، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الطَّلاقُ مَرَّتانِ فجعل حدّ الطلاق ثلاثا وللطلاق الثالث قوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ قال فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. وقال المفسّرون: معنى الآية الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرّتان فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي عليه إمساك بمعروف أي يراجعها في التطليقة الثالثة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ بعدها ولا يضارّها فإن طلقها واحدة أو ثنتين فهو أملك برجعتها ما دامت في العدّة، فإذا انقضت العدّة فهي أحق بنفسها، وجاز أن يراجعها عن تراض منهما بنكاح جديد، فإن طلّقها الثالثة بانت منه وكانت أحق بنفسها منه، ولا تحلّ له حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا في حال الاستبدال والطلاق مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً أعطيتموهنّ من المهور وغيرها، ثم استثنى الخلع فقال إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ نزلت هذه الآية في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى تزوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه بغضا شديدا، وكان يحبّها حبّا شديدا، وكان بينهما كلام فأتت أباها فشكت إليه زوجها وقالت: إنه يسيء إليّ ويضربني، فقال لها: ارجعي إلى زوجك فوالله إنّي لأكره للمرأة أن لا تزال رافعة يدها تشكو زوجها، فرجعت إليه الثانية وبها أثر الضرب، فشكت إليه فقال لها: ارجعي إلى زوجك، فلمّا رأت أنّ أباها لا يشكيها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشكت إليه زوجها وأرته آثارا بها من الضرب وقالت: يا رسول الله لا أنا ولا هو، قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ثابت بن قيس فقال: يا ثابت ما لك ولأهلك؟ قال: والذي بعثك بالحق ما على ظهر الأرض أحبّ إليّ منها غيرك، قال لها: ما تقولين؟ فكرهت أن تكذب رسول الله حين سألها، فقالت: صدق يا رسول الله، ولكنّي خشيت أن يهلكني فأخرجني منه يا رسول الله، فقال: إني قد أعطيتها حديقة لي فقل لها فلتردّها عليّ وأنا أخلّي سبيلها، قال لها: ما تقولين تردّين إليه حديقته وتملكين أمرك؟ قالت: نعم، وأنا لا أريده، قال: لا، حديقته فقط. ثم قالت: يا رسول الله ما كنت أحدّثك اليوم حديثا ينزل عليك خلافه غدا هو من أكرم الناس حبّه لزوجته ولكنّي أبغضه، فلا هو ولا أنا، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها» [147] «1» ففعل، وكان أوّل خلع في الإسلام، فأنزل الله عزّ وجلّ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا يعلما ، وتصديقه قراءة أبي: إلّا أن يظنّا، وقال محجن: فلا تدفننّي بالفلاة فإنّني ... أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها «2» أي أعلم، وقرأ أبو جعفر وحمزة ويعقوب: (يُخافا) بضمّ الياء أي يعلم ذلك منهما اعتبارا
بقراءة ابن مسعود: إلّا أن يخافوا، واختاره أبو عبيد لقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ قال: فجعل الخوف لغيرهما ولم يقل فإن يخافا ألّا يقيما حدود الله وهو أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها فتعصي الله في أمر زوجها، ويخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها، فنهى الله تعالى الرجل أن يأخذ من امرأة شيئا بغير رضاها إلّا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها فنقول: والله لا أبرّ لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولا أطأ لك مضجعا، ونحو ذلك، فإذا فعلت ذلك به حلّ له العقوبة منها إذا دعته إلى ذلك، ويكره أن يأخذ منها أكثر ممّا أعطاها، ولكنه في الحكم جائز. يبيّن ذلك ما روى الحكم بن عيينة أنّ امرأة نشزت على زوجها في إمارة عمر بن الخطاب، فوعظها عمر (رضي الله عنه) وأمرها بطاعة زوجها فأبت وقالت: لئن رددتني إليه والله لأقتلنّ نفسي، فأمر بها فحبست في إصطبل الدواب في بيت الزمل ثلاث ليال، ثم دعاها فقال: كيف رأيت مكانك؟ فقالت: ما بتّ ليالي أقرّ لعيني منها، وما وجدت الراحة مذ كنت عنده إلّا هذه الليالي، فقال: هذا وأبيكم النشوز، ثم قال لزوجها: اخلعها ولو من قرطيها، اخلعها بما دون عقاص رأسها فلا خير لك فيها، فذلك قوله عزّ وجلّ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ المرأة نفسها منه. قال الفراء: أراد به الزوج دون المرأة فذكرهما جميعا لأقرانهما كقوله نَسِيا حُوتَهُما وإنما الناسي فتى موسى دون موسى عليه السّلام وقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وإنما يخرج من المالح دون العذب، وقال الشاعر: فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا «1» وقال قوم معناه: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما جميعا، لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك والمعصية، ولا فيما افتدت به وأعطيت من المال، لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير حق، ولا على الرجل فيما أخذ منها من المال إذا أعطته طائعة بمرادها، وللفقهاء في الخلع قولان: أحدهما: إنه فسخ بلا طلاق، وهو قول ابن عباس، وقول الشافعي في القديم بالعراق، ثم رجع عنه بمصر. والقول الثاني: إنّ الخلع تطليقة بائنة إلّا أن ينوي أكثر منها، وهو قول عثمان بن عفان (رضي الله عنه) ، والقول الجديد من قول الشافعي. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ هذه أوامر الله ونواهيه فَلا تَعْتَدُوها فلا تجاوزوها
[سورة البقرة (2) : الآيات 230 إلى 232]
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 230 الى 232] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) فَإِنْ طَلَّقَها يعني ثلاثا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ يعني من بعد التطليقة الثالثة، وبعد رفع على الغاية حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي غير المطلّق فيجامعها، والنكاح يتناول العقد والوطء جميعا. نزلت هذه الآية في تميمة، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرطي، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرطي، وكان ابن عمها فطلّقها ثلاثا، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة الثوب، وإنه طلقني قبل أن يمسّني أفأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟ فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» . قال: وأبو بكر جالس عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة فطفق خالد ينادي: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تهجر به عند رسول الله [148] «1» ، والعسيلة اسم للجماع، وأصلها من العسل شبّه للّذة التي ينالها الإنسان في تلك الحال بالعسل يقال منه: عسلها يعسلها عسلا إذا جامعها. فلبثت ما شاء الله أن تلبث ثم رجعت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن زوجي كان قد مسّني، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كذبت بقولك الأول فلن نصدّقك في الآخر» [149] فلبثت حتّى قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتت أبا بكر، فقالت: يا خليفة رسول الله أرجع إلى زوجي الأول، فإن زوجي الآخر قد مسّني وطلّقني، فقال أبو بكر: قد شهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أتيته، وقال لك ما قال فلا ترجعي إليه، فلمّا قبض أبو بكر أتت عمر (رضي الله عنه) وقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال عمر: لئن رجعت إليه لأرجمنّك، فإن الله تعالى قد أنزل
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها زوجها الثاني أو مات عنها بعد ما جامعها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني على المرأة المطلّقة وعلى الزوج الأول أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد، فذكر النكاح بلفظ التراجع إِنْ ظَنَّا علما، وقيل: رجوا، قالوا: ولا يجوز أن يكون بمعنى العلم لأنّ أحدا لا يعلم ما هو كائن إلّا الله عزّ وجلّ أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ يعني ما بيّن الله من حق أحدهما على الآخر، ومحلّ (أن) في قوله أَنْ يَتَراجَعا نصب بنزع حرف الجر أي في أن يتراجعا، وفي قوله أَنْ يُقِيما نصب بوقوع الظن عليه. وقال مجاهد: ومعناه إن علما أنّ نكاحهما على غير دلسة، وأراد بالدلسة التحليل، هذا مذهب سفيان والأوزاعي ومالك وأبي عبيدة وأحمد وإسحاق، قالوا في الرجل يطلّق امرأته ثلاثا فتزّوج زوجا غيره ليحلّها لزوجها الأول: إن النكاح فاسد، وكان الشافعي يقول: إذا تزوّجها ليحلّها فالنكاح ثابت إذا لم يشترط ذلك في عقد النكاح مثل أن يقول: أنكحك حتى أصيبك فتحلّي لزوجك الأول، فإذا اشترط هذا فالنكاح باطل، وما كان من شرط قبل عقد النكاح فلا يفسد النكاح. وقال نافع أتى رجل ابن عمر فقال: إنّ رجلا طلّق امرأته ثلاثا، فانطلق أخ له من غير مراجعة فتزوجها ليحلّها للأول فقال: لا، إلّا بنكاح رغبة، كنّا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال عليه السّلام: «لعن الله المحلّل والمحلّل له» [150] «1» . عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أدلّكم على التيس المستعار؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «هو المحلّل والمحلّل له» [151] «2» . قبيصة بن جابر الأسدي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب وهو على المنبر: والله لا أوتى بمحلّل ولا بمحلّل له إلّا رجمتها. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها روى المفضل وأبان عن عاصم بالنون لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلّقت امرأته حتّى إذا انقضت عدتها إلّا يومين أو ثلاثة وكادت تبين منه، راجعها ثم طلقها، ففعل بها ذلك حتّى مضيت لها تسعة أشهر مضارة لها بذلك، ولم يكن الطلاق يومئذ محصورا، وكان إذا أراد الرجل أن يضارّ امرأته طلقها ثم تركها حتّى تحيض الحيضة الثالثة، ثم راجعها ثم طلّقها فتطويله عليها هو الضرار، فأنزل الله تعالى وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي أمرهنّ في أن تبين بانقضاء العدة، ولم يرد إذا انقضت عدتهنّ لأنها إذا انقضت عدّتها لم يكن للزوج إمساكها، فالبلوغ
هاهنا بلوغ مقاربة، وقوله بعد هذا فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ بلوغ انقضاء وانتهاء، والبلوغ يتناول المعنيين جميعا، يقال: بلغ المدينة إذا صار إلى حدّها وإذا دخلها. فَأَمْسِكُوهُنَّ أي راجعوهنّ بِمَعْرُوفٍ قال محمد بن جرير: بمعروف أي بإشهاد على الرجعة وعقد لها دون الرجعة بالوطء أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي اتركوهنّ حتّى تنقضي عدّتهنّ، وكنّ أملك لأنفسهنّ. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً مضارّة وأنتم لا حاجة بكم إليهنّ لِتَعْتَدُوا عليهن بتطويل العدّة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاعتداء فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ضرّها بمخالفة أمر الله عزّ وجلّ. مرّة الطيب، عن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ملعون من ضارّ مسلما أو ماكره» [152] «1» . وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً الحسن عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: إنّما طلّقت وأنا لاعب فيرجع فيها ويعتق، فيقول مثل ذلك ويرجع فيه وينكح، ويقول مثل ذلك، فأنزل الله تعالى وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً يقول: حدود الله وقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: من طلق أو حرّر وأنكح وزعم أنّه لاعب فهو جدّ ، وفي الخبر: خمس جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والرجعة، والنذر. وعن أبي موسى، قال: غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأشعريين قال: يقول «أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك، ليس هذا طلاق المسلمين، طلّقوا المرأة في قبل طمثها «2» » «3» . وقال الكلبي وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً يعني قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإيمان وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ يعني مواعظ القرآن والحدود والأحكام. يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ الآية، نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني، كانت تحت أبي البدّاح عاصم بن عدي بن عجلان، فطلّقها تطليقة واحدة ثم تركها حتّى انقضت عدّتها ثم جاء يخطبها وأراد مراجعتها وكان رجل صدق، وكانت المرأة تحبّ مراجعته، فمنعها أخوها معقل
وقال لها: لئن راجعته لا أكلمك أبدا، وقال لزوجها: أفرشتك كريمتي وآثرتك بها على قومي فطلّقتها، ثم لم تراجعها حتّى إذا انقضت عدّتها جئت تخطبها، والله لا أنكحك بها أبدا، وحمى أنفا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فدعا رسول الله معقلا وتلاها عليه، فقال: فإني أؤمن بالله واليوم الآخر، فأنكحها إيّاه وكفّر يمينه على قول أكثر المفسّرين. وقال السدّي: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري، وكانت له بنت عم فطلّقها زوجها تطليقة واحدة وانقضت عدّتها ثم أراد رجعتها، فأتى جابر فقال: طلّقت ابنة عمي ثم تريد أن تنكحها الثانية، وكانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فانقضت عدّتهن قال الزجّاج: الأجل آخر المدة وعاقبة الأمور، قال لبيد: فاخرها بالبرّ لله الأجل يريد عاقبة الأمور. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ فلا تمنعوهنّ، والعضل: المنع من التزوّج، وأنشد الأخفش: ونحن عضلنا بالرماح لسانا ... وما فيكم عن حرمة له عاضل وأنشد: وأن قصائدي لك فاصطنعني ... كرائم قد عضلن عن النكاح وأصل العضل الضيق والشدّة، يقال: عضلت المرأة والشاة إذا تشبث ولدهما في بطنهما فضاق عليه الخروج، وعضلت الدجاجة إذا تشبّث البيض فيها، وعضل الفضاء بالجلّس إذا ضاق عليهم لكثرتهم، ويقال: ذا عضال إذا ضاق علاجه فلا يطاق، ويقال: عضل الأمر إذا اشتدّ وضاق. قال عمر (رضي الله عنه) : أعضل أهل الكوفة لا يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير، وقال أوس بن حجر: وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا ولكنّه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا «1» قال طاوس: لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلّا ابن عباس، وكل مشكل عند العرب معضل ومنه قول الشافعي: إذا المعضلات بعدن عني ... كشفت حقائقها بالنظر أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ الأوّل بنكاح جديد إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ بعقد حلال
[سورة البقرة (2) : الآيات 233 إلى 234]
ومهر جائز، ونظم الآية: فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا بينهم، وفي هذه الآية دليل قول من قال: لا نكاح إلّا بولي لأنه تعالى خاطب الأولياء في التزويج، ولو كان للمرأة إنكاح نفسها لم يكن هناك عضل ولا لنهي الله الأولياء عن العضل معنى، يدلّ عليه ما روى أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلّا بولي» [153] «1» . ذلِكَ أي ذلك الذي ذكرت من النهي يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وإنما قال ذلك موحدا والخطاب للأولياء لأنّ الأصل في مخاطبة الجمع ذلكم ثم كثر ذلك حتى توهّموا أنّ الكاف من نفس الحرف، وليس بكاف الخطاب، فقالوا ذلك، وإذا قالوا هذا كانت الكاف موحدة منصوبة في الآيتين والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل: ها هنا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فلذلك وحّده ثم رجع إلى خطاب المؤمنين، فقال عزّ من قائل ذلِكُمْ أَزْكى خير وأفضل لَكُمْ وَأَطْهَرُ لقلوبكم من الريبة وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما علاقة حبّ لم يؤمن بأن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحلّ الله لهما، ولم يؤمن من أوليائهما إن سبق إلى قلوبهم منهما لعلّهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون. وَاللَّهُ يَعْلَمُ من خبر كل واحد منهما لصاحبه وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 233 الى 234] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَالْوالِداتُ المطلقات اللاتي لهنّ أولاد من أزواجهنّ المطلقين ولدنهم قبل الطلاق أو بعده يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ يعني أنهنّ أحق برضاعهنّ من غيرهنّ، أمر استحباب لا أمر إيجاب من أنه رضاعهن عليهنّ لأنه سبحانه وتعالى قال في سورة الطلاق فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ إلى لَهُ أُخْرى «2» . ثم بيّن حدّ الرضاع فقال: حَوْلَيْنِ أي سنتين، وأصله من قولهم: حال الشيء إذا انتقل وتغيّر كامِلَيْنِ على التأكيد كقوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، وقال أهل المعاني: إنما قال كامِلَيْنِ
لأنّ العرب تقول: أقام فلان مقام كذا حولين أو شهرين وإنما أقام حولا وبعض آخر، ويقولون: اليوم يومان مذ لم أره، وإنما يعنون يوما وبعض آخر، ومنه قوله فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ومعلوم أنه يتعجل أو يتأخر في يوم ونصف، ومثلها كثير، فبيّن الله أنهما حولان كاملان أربعة وعشرين شهرا من يوم ولد إلى أن يفطم. واختلف العلماء في هذا الحدّ أهو حدّ لكل مولود أو حدّ لبعض دون بعض؟ فروى عكرمة عن ابن عباس: إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين، أربعة وعشرين شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر أرضعته ثلاثة وعشرين شهرا، وإذا وضعته لتسعة أشهر أرضعته إحدى وعشرين شهرا، كل ذلك تمام ثلاثين شهرا، قال الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً. وقال قوم: هو حدّ لكل مولود في وقت وأن لا ينقص من حولين ولا يزيد إلّا أن يشاء الزيادة فإن أراد الأب يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم فليس له ذلك، وإذا قالت الأم: أنا أفطمه قبل الحولين، وقال الأب: لا، فليس لها أن تفطمه حتّى يتفقا جميعا على الرضا، فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه وإن اختلفا لم يفطماه قبل الحولين، وذلك قوله عَنْ تَراضٍ مِنْهُما ويشاور هذا قول ابن جريح والثوري ورواية الوالبي عن ابن عباس. وقال آخرون: المراد بهذه الآية الدلالة على الرضاع ما كان في الحولين، فإنّ ما بعد الحولين من الرضاع يحرم، وهو قول علي وعبد الله وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري ، وفي الحديث: لا رضاع بعد الحولين، وإنما يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم. وقال قتادة والربيع: فرض الله عزّ وجل على الوالدات أن يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك فقال: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ أي هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك وقت محدود، وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به، وقرأ أبو رجاء لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرِّضاعَةَ بكسر الراء، قال الخليل والفرّاء: هما لغتان، مثل الوكالة والوكالة والدّلالة. وقرأ مجاهد وابن محجن لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضْعَةَ وهي فعلة كالمرّة الواحدة، وقرأ عكرمة وحميد وعون العقيلي لمن أراد أن تتم الرضاعة بتاء مفتوحة ورفع الرضاعة على أن الفعل لها، وقرأ ابن عباس يكمل الرضاعة. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ يعني الأب رِزْقُهُنَّ طعامهنّ وقوتهنّ وَكِسْوَتُهُنَّ لباسهنّ، وقرأ طلحة عن مصرف كُسْوَتُهُنَّ بضم الكاف، وهما لغتان مثل أسوه وإسوة ورشوه ورشوة بِالْمَعْرُوفِ علم الله تفاوت أحوال خلقه في الغنى والفقر، فقال بِالْمَعْرُوفِ أي على قدر الميسرة جعل الرضاعة على الأم والنفقة على الأب لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها والتكليف
الإلزام، قال الشاعر: تكلّفني معيشة آل فهر ... ومن لي بالصلائق والصناب «1» والوسع ما يسع الإنسان فيطيقه ولا يضيق عليه، وهو اسم كالجهد والوجد، وقيل: الوسع يعني الطاقة، ورفع (النفس) باسم الفعل المجهول لأنّه وضع موضع الفاعل، وانتصب (الوسع) بخبر الفعل المجهول، لأنّه أقيم مقام المفعول، نظيرها في سورة الطلاق. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها قرأ ابن محجن وابن كثير وشبل وأبو عمرو وسلام ويعقوب وقتيبة برفع الراء مشددة وأجازه أبو حاتم على الخبر مسبوقا على قوله لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ وأصله فلا يضارر فأدغمت الراء في الراء، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكناني وخلف لا تُضَارَّ مشددة منصوبة الراء، واختاره أبو عبيد على النهي وأصله لا تضارر فأدغمت وحرّكت إلى أخفّ الحركات وهو النصب، ويدلّ عليه قراءة عمر: لا تضارر على إظهار التضعيف، وقرأ الحسن: لا تضارِّ براء مدغمة مكسورة لأنها لمّا أدغمت سكّنت، وبجزمه تحرّك إلى الكسر، وروى أبان عن عاصم: لا تضارر مظهرة مكسورة على أنّ الفعل لها، وقرأ أبو جعفر لا تضارْ بجزم الراء وتخفيفه على الحذف طلبا للخفّة. ومعنى الآية لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه وألفها الصبي وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ولا تلقيه هي إلى أبيه بعد ما عرفها تضارّه بذلك. وقيل: معناه لا تُضَارَّ والِدَةٌ فيكرهها على الرضاعة إذا قبل من غيرها، وكرهت هي إرضاعه لأنّ ذلك ليس بواجب عليها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ فيحمل على أن يعطي الأم إذا لم يرضع الولد إلّا منها أكثر ممّا يحب لها عليه، فهذان القولان على مذهب الفعل المجهول على معنى أنه يفعل ذلك بها وبوالده والمولود له مفعولان، وأصل الكلمة يضارّ بفتح الراء الأولى، ويحتمل أن يكون الفعل لهما، وأن يكون تضارّ على مذهب ما قد سمّي فاعله، والمعنى: لا يضارّ والده فتأبى أن ترضع ولدها لتشقّ على أبيه ولا مولود له، ولا يضارّ الأب أم الصبي فيمنعها من إرضاعه وينزعه منها، وعلى هذا المذهب أصله لا يضارر بكسر الراء الأولى، وعلى هذه الأقوال يرجع الضرار إلى الوالدين بضرّ كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد. ويجوز أن يكون الضرار راجعا إلى الصبي أي لا يضارّ كل واحد منهما الصبي، فلا ترضعه الأم حتّى يموت، أولا ينفق عليها الأب أو ينزعه من أمه حتّى يضرّ بالصبي وبكون الياء زائدة معناه: لا تضارّ الأم ولدها ولا أب ولده، وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسّرين. وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ اختلف أهل الفتاوى فيه أي وارث هو؟ ووارث من هو؟ فقال
قوم: هو وارث الصبي، معناه: وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله خال ورثه، مثل الذي كان على أبيه في حياته. ثم اختلفوا أي وارث هو من ورثته؟ فقال بعضهم: هو عصبته كائنا من كان من الرجال دون النساء، مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم ونحوهم، وهو قول عمر (رضي الله عنه) والزهري والحسن ومجاهد وعطاء ومذهب سفيان، قال: إذا لم يبلغ نصيب الصبي ما ينفق عليه أجرت العصبة الذين يرثونه أن يسترضعوه. قال ابن سيرين: أتى عبد الله بن عتبة في رضاع صبي يتيم ومنعه وليه فجعل رضاعه في ماله، وقال لوارثه: لو لم يكن له مال لجعلنا رضاعه في مالك، ألا ترى أنّ الله عزّ وجلّ يقول وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ؟ قال الضحاك: إن مات أب الصبي وللصبي المال أخذ رضاعه من المال، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة، وإن لم يكن للعصبة مال أجرت عليه أمّه. وقال بعضهم: هو ويرث الصبي كائنا من كان من الرجال والنساء، وهو قول قتادة والحسن بن صالح وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور قالوا: يجبر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه، عصبة كانوا أو غيرهم. وقال بعضهم: هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود فمن لم يكن بمحرم مثل ابن العم والمولى وما أشبههما فليسوا ممن عناهم الله بقوله وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ وإن كانوا من جملة العصبة لا يجبرون على النفقة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، قال: لا يجبر على نفقة الصبي إلّا ذو رحمه المحرم، وقال آخرون عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ يعني الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنّ عليه أجر رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبر أمّه على رضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلّا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي. وقيل: هو الباقي من والديّ المولود بعد وفاة الآخر منهما عليه مثل ذلك، يعني: مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع والنفقة والكسوة، قاله أكثر العلماء، وقال الشعبي والزهري: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ يعني أن لا يضارّ. فَإِنْ أَرادا يعني الوالدان فِصالًا فطاما قبل الحولين وأصل الفصل القطع عَنْ تَراضٍ مِنْهُما جميعا به واتفاقا عليه وَتَشاوُرٍ وهو استخراج الرأي، وأصله من شرت الدابة وشوّرتها إذا استخرجت ما عندها من [الغدد] ويقال لعلم ذلك: المشوار. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أيها الآباء أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ مراضع غير أمهاتهم إذا أبين مراضاتهم أن يرضعنه، أو لعلّة بهنّ أو انقطاع لبنهنّ، أو أردن النكاح، أو خفتم الضيعة على أولادكم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ إلى أمهاتهم أجرهن بقدر ما أرضعن، وقيل:
سلّمتم أجور المراضع إليهن. وقيل: إذا سلّمتم الاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار وذلك قوله تعالى ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي يقبضون ويموتون، وأصل التوفي أخذ الشيء وافيا، وقرأ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بفتح الياء أي يتوفون أعمارهم وأرزاقهم وتوفى واستوفى بمعنى واحد وَيَذَرُونَ ويتركون أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ فإن قيل: فأين الخبر عن قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ قيل: هو متروك فإنه لم يقصد الخبر عنهم، وذلك جائز في الاسم يذكر ويكون تمام خبره في اسم آخر، أن يقول الأول ويخبر عن الثاني فيكون معناه وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً كقول الشاعر: بني أسد أنّ ابن قيس وقتله ... بغير دم دار المذلّة حلّت «1» فألغى ابن قيس وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله أنه ذلّ، وأنشد: لعلّي أن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبي ذبان أن يتندما «2» فقال: لعلّي ثم قال: يتندما لأن المعنى فيه عدا قول الفرّاء. وقال الزجّاج: معناه: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً أزواجهم يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ. وقال الأخفش: خبره في قوله يَتَرَبَّصْنَ أي يتربصن بعدهم. وقال قطرب: معناه ينبغي لهنّ أن يتربصن أي ينتظرن ويحتبسن بأنفسهن، معتدّات على أزواجهن، تاركات الطيب والزينة والأزواج والنقلة عن المسكن الذي كنّ يسكنّه في حياة أزواجهنّ أربعة أشهر وعشرا إلّا أن يكنّ حوامل فيتربصن إلى أن يضعن حملهن، فإذا ولدن انقضت عدّتهنّ. روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت تفتي للمتوفى عنها زوجها حتّى تنقضي عدّتها أن لا تلبس مصبوغا، وتلبس البياض ولا تلبس السواد، ولا تتزيّن ولا تلبس حليّا ولا تكتحل بالإثمد ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها، ولكنها تتحلّى بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب. وروى نافع عن زينب بنت أم سلمة أنّ امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها حتّى خفت على عينها وهي تريد الكحل، فقال عليه الصلاة والسلام: «قد كانت احداكنّ تلبس أطمار ثيابها وتجلس في أخسّ بيوتها وتمكث حولا
[سورة البقرة (2) : الآيات 235 إلى 237]
في بيتها، فإذا كان الحول خرجت فمن كملت رمته ببعرة «1» أفلا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» [154] «2» . وروى نافع عن صفية بنت عبد الرحمن عن حفصة بنت عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج، فإنها تحدّ عليه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» [155] «3» . وقال سعيد بن المسيّب: الحكمة في هذه المدّة أن فيها ينفخ الروح في الولد، وإنّما قال وَعَشْراً بلفظ المؤنث لأنه أراد الليالي لأن العرب إذا أتممت العدد من الليالي والأيام غلّبت عليه الليالي فيقولون: صمنا عشرا، والصوم لا يكون إلّا بالنهار، قال الشاعر: وطافت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن يضيف ويجار أي يخاف فاضح، ويدلّ عليه قراءة ابن عباس: أربعة أشهر وعشر ليال، وقال المبرّد: إنّما أنّث العشر لأنّه أراد به المدد. فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني انقضاء العدّة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يخاطب الأولياء فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من البر في أن يتولّوه لهنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 235 الى 237] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا معشر الرجال فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ النساء المعتدّات، وأصل التعريض التلويح بالشيء. قال الشاعر: كما خطّ عبرانيّة بيمينه ... بتيماء حبر ثم عرّض أسطرا «4» والتعريض في الكلام ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع من غير تصريح، وأصله
من عرض الشيء وهو جانبه يقال: أضرب به عرض الحائط كأنه يحوم حوله ولا يظهره، وتعريض الخطبة المذكورة في هذه الآية على ما جاء في التفسير هو أن يقول لها وهي في العدة: إنّك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنّك لنافعة، وإنّ من عزمي أن أتزوج، وإني فيك لراغب، وإني عليك لحريص، ولعلّ الله أن يسوق إليك خيرا، وإن جمع الله بيننا بالحلال أعجبني، ولئن تزوجتك لأعطيتك ولأحسن إليك ونحوها من الكلام من غير أن يقول لها: انكحي. قال إبراهيم: لا بأس أن يهدي لها ويقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه. وروى ابن عوف عن محمد عن عبيدة في هذه الآية قال: يقول لوليّها لا سبقني إليها. قال مجاهد قال رجل لامرأة في جنازة زوجها: لا تسبقيني بنفسك، فقالت: قد سبقت، وروى ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالته، أن سكينة بنت حنظلة قالت: دخل عليّ أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدّتي فقال: يا بنت حنظلة، أنا من قد علمت من قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحق جدّي عليّ وقدمه في الإسلام، فقالت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو لقد فعلت إنما أجرتك بقرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وموضعي، قد دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة وتوفي عنها زوجها، فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتّى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله على يده فما كانت تلك خطبة «1» . وقال ابن يزيد في هذه الآية: كان أبي يقول: كلّ شيء كان دون أن يعزما عقدة النكاح فهو زنا، قال الله عزّ وجلّ وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ والخطبة التماس النكاح، وهو مصدر قولك: خطب الرجل المرأة يخطبها خطبة وخطبا. وقال قوم: هي مثال الجلسة والقعدة والركبة، ومعنى قولهم خطب فلان فلانة: سألها خطبة إلى ما في نفسها أي حاجاته وأمره من قولهم ما خطبك أي حاجتك وأمرك، قال الله فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ وقال الأخفش: الخطبة: الذكر، والخطبة المشهد، فيكون معناه: فيما عرّضتم به من تخطبون النساء عندهنّ أَوْ أَكْنَنْتُمْ أسررتم وأضمرتم فِي أَنْفُسِكُمْ في خطبتهنّ وزواجهنّ، يقال: كننت الشيء وأكننته لغتان، وقال ثعلب: أكننت الشيء خفيته في نفسي وكننته سترته، وقال السدي: هو أن يدخل فيساويهنّ إن شاء ولا يتكلم بشيء. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ بقلوبكم، وقال الحسن: يعني الخطبة وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ بيوم، قال بعضهم: هو الزنا وكان الرجل يدخل على المرأة من أجل الريبة وهو يعرّض بالنكاح فيقول لها: دعيني فإذا وفيت عدّتك أظهرت نكاحك، فنهى الله تعالى عن ذلك،
هذا قول الحسن وقتادة وإبراهيم وجابر بن زيد وابن أبي مجلز والضحّاك والربيع وعطاء، وهي رواية عطية عن ابن عباس، يدلّ عليه قول الأعشى: ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها ... عليك حرام [وانكحن أو تأبّدا] «1» وقال الحطيئة: ويحرم سرّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع «2» وقال مجاهد: هو قول الرجل للمرأة: لا تفوتيني نفسك، فإنّي أنكحك. الشعبي والسدي: لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره. عكرمة: لا يخطبها في العدة. سعيد بن جبير: لا يقايضها على كذا وكذا من المال على أن لا تتزوج غيره، وهذه التأويلات كلها متقاربة، والسرّ على هذه الأقوال النكاح، قال امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن السرّ أمثالي «3» قال الأعشى: فلم يطلبوا سرّها للغنى ... ولم يسلموها لإزهادها «4» أي نكاحها، وقال الكلبي: لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع فيقول لها آتيك الأربعة والخمسة وأشباه ذلك، وعلى هذا القول السرّ هو الجماع نفسه، وقال الفرزدق: موانع للأسرار إلّا لأهلها ... ويخلفن ما ظنّ الغيور المشفشف «5» يعني أنهنّ عفائف اليد عن الجماع إلّا من أزواجهنّ. قال رؤبة: فعفّ عن أسرارها بعد الغسق ... ولم يضعها بين فرك وعشق «6» يعني عفّ عن غشيانها بعد ما لزمته لذلك. وقال زيد بن أسلم: لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا أي لا تنكحوهنّ سرّا، ثم يمسكها حتّى إذا حلّت أظهرت ذلك، وأصل السرّ ما أخفيته في نفسك، وإنما قيل للنكاح والزنا والجماع السرّ لأنها تكون بين الرجل والمرأة في خفاء، ويقال أيضا للفرج سرّ لأنّه لا يظهر، وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي:
لمّا رأت سرّي تغيّر وانحنى ... من دون [نهمة] سرّها حين انثنى «1» ثم استثنى فقال إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً قيل عدة جميلة، وقال مجاهد: هو التعرض من غير أن يصرّح ويبوح، و (أن) في محل نصب بدلا من السرّ، وقال عبد الرحمن بن زيد: هذا كلّه منسوخ بقوله وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي لا تصححوا عقدة النكاح، وقال ابن الزجاج: ولا تعزموا على عقدة النكاح، كما يقال: يضرب يد الطهر واليمن «2» وقال عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظلّه ... حتى أنال به كريم المطعم «3» أي وأظل عليه. حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ حتى تنقضي العدّة وإنما سماها كتابا لأنها فرض من الله تعالى كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ فخافوا الله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعجل بالعقوبة، تقول العرب: ضع الهودج على أحلم الجمال. لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ الآية، نزلت في رجل من الأنصار تزوج بامرأة من بني حنيفة، ولم يسمّ لها مهرا، ثم طلّقها قبل أن يمسّها فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلمّا نزلت قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «متّعها ولو بقلنسوتك» [156] «4» ، فذلك قوله لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهنّ. قرأ حمزة والكسائي وخلف: تماسّوهنّ بالألف على المفاعلة لأنّ بدن كل واحد منهما يمسّ بدن صاحبه فيتماسّان جميعا، دليله قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا وقرأ الباقون: تَمَسُّوهُنَّ بغير ألف لأن الغشيان إنما هو من فعل الرجل، دليله قوله وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ. أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي توجدوا لهنّ صداقا، يقال فرض السلطان لفلان أي أثبت له صدقة في الديوان، فإن قيل: ما الوجه في نفي الجناح عن المطلق وهل على الرجل جناح لو طلّق بعد المسيس فيوضع عنه قبل المسيس؟ قيل: روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقولون: طلّقتك، راجعتك؟» [157] «5» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطلّقوا نساءكم إلّا عن ريبة فإنّ الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات» [158] «6» .
حكم الآية
وقال عليه السّلام: «أبغض الحلال عند الله الطلاق» [159] «1» ، وقال عليه السّلام: «إنّ الله يبغض كل مطلاق مذواق» [160] «2» . فلمّا قال رسول الله هذا ظنّوا أنهم يأثمون في ذلك فأخبر الله تعالى أنه لا جناح في تطليق النساء إذا كان على الوجه المندوب، فربّما كان الفراق أروح من الإمساك، وقيل: معنى قوله لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا سبيل عليكم للنساء إن طلّقتموهنّ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ولم تكونوا فرضتم لهنّ فريضة في أتباعكم بصداق ولا نفقة. وقيل: معناه لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ في أي وقت شئتم لأنه لا سنّة في طلاقهنّ، فللرجل أن يطلّقهن إذا لم يكن مسّهنّ حائضا أو طاهرا، وفي كل وقت أحبّ، وليس كذلك في المدخول بها لأنّه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء إلّا العدة ظاهرا في طهر لم يجامعها فيه، فإن طلّقها حائضا آيسا وقع الطلاق. وَمَتِّعُوهُنَّ أي زوّدوهنّ وأعطوهنّ من مالكم ما يتمتعن به، والمتعة والمتاع ما تبلغ به من الزاد عَلَى الْمُوسِعِ أي الغني قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ الفقير قَدَرُهُ أي إمكانه وطاقته، قرأ أبو جعفر وحفص وحمزة والكسائي وخلف وابن ذكوان بفتح الدال فيهما، واختاره أبو عبيدة قال: لما فيهما من الفخامة، وقرأ الآخرون بجزم الدال فيهما واختاره أبو حاتم وهما لغتان، قال: نطق بهما القرآن فتصديق الفتح قوله: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها وتصديق الجزم قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ تقول العرب: القضاء والقدر، وقال أبو يزيد الأنصاري: القضاء والقدر بتسكين الدال، وقال الشاعر وهو الفرزدق: وما صبّ رملي في حديد مجاشع ... مع القدر إلّا حاجة لي أريدها وقال بعضهم: القدر المصدر والقدر الاسم مَتاعاً نصب على المصدر أي متعوهن متاعا، ويجوز أن يكون نصبا على القطع لأنّ المتاع نكرة والقدر معرفة بِالْمَعْرُوفِ أي ما أمركم الله به من غير ظلم ولا مطل حَقًّا نصب على الحكاية تقديره: أخبركم حقا، وقيل على القطع. حكم الآية قال المفسّرون: قيل: هذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمّي لها صداقا فطلقها قبل أن يمسها فلها المتعة ولا فريضة لها بإجماع العلماء، واختلفوا في متعة المطلقة فيما عدا ذلك، فقال قوم: لكل مطلقة متعة كائنة من كانت وعلى أي وجه وقع الطلاق، فالمتعة واجبة تقضى لها
في مال المطلّق كما تقضى عليه سائر الديون الواجبة عليه، سواء دخل بها أو لم يدخل، فرض لها أو لم يفرض إذا كان الطلاق من قبله، فأما إذا كان الفراق من قبلها فلا متعة لها ولا مهر، وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وأبي العالية ومحمد بن جرير، قال: لقوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فأوجب المتعة لجميع المطلقات ولم يفرّق، ويكون معنى الآية على هذا القول: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة أو لم تفرضوا لهنّ فريضة، لأنّ كل منكوحة إنما هي احدى اثنتين: مسمّى لها الصداق أو غير مسمّى لها فعلمنا بالذي نقلوا من قوله أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أن المعنيّة بقوله: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ المفروضات لهن مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وغير المفروض لها إذ لا معنى لقول القائل: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ثم قال: وَمَتِّعُوهُنَّ يعني الجميع. وقال آخرون: المتعة واجبة لكل مطلّقة سوى المطلقة المفروض لها إذا طلّقت قبل الدخول فإنه لا متعة لها وإنما لها نصف الصداق المسمّى، وهذا قول عبد الله بن عمر ونافع وعطاء ومجاهد ومذهب الشافعي، ويكون وجه الآية على هذا القول لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ ولم تفرضوا لهنّ فريضة، الألف زائدة كقوله أَوْ يَزِيدُونَ ونحوها، ثم أمر بالمتعة لهنّ. ويجوز أن يكون قوله وَمَتِّعُوهُنَّ راجعا إلى المطلقات غير المفروضات قبل المسيس دون المفروضات لهنّ، ويكون قوله في عقبه: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ مختصا له، فجرى في أول الآية على ظاهر العموم في المفروضات وغير المفروضات، وفي قوله وَمَتِّعُوهُنَّ على التخصيص في غير المفروضات للآية التي بعدها. وقال الزهري: متعتان يقضي بأحدهما السلطان ولا يقضي بالأخرى، بل يلزمه فيما بينه وبين الله، فأمّا التي يقضي بها السلطان فهو فيمن طلق قبل أن يفرض لها ويدخل بها فإنه يؤخذ بالمتعة وهو قوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. والمتعة التي تلزم فيما بينه وبين الله تعالى ولا يقضي به السلطان هي فيمن طلق بعد ما يدخل بها ويفرض لها وهو قوله: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ وقال بعضهم: ليس شيء من ذلك بواجب، وإنما المتعة إحسان والأمر بها أمر ندب واستحباب لا أمر فرض وإيجاب، وهو قول أبي حنيفة، وروى ابن سيرين أنّ رجلا طلّق امرأة وقد دخل بها، فخاصمته إلى شريح في المتعة فقال شريح: لا تاب أن يكون من المحسنين ولا تاب أن يكون من المتقين ولم يجبره على ذلك. واختلفوا في قدر المتعة ومبلغها، فقال ابن عباس والشعبي والزهري والربيع بن أنس:
تفصيل حكم الآية
أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب: درع وخمار [وجلباب] «1» وإزار، ودون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة، شيء من الورق، وهذا مذهب الشافعي قال: أعلاها خادم على الموسع، وأوسطها ثوب، وأقلّها أقلّ ماله ثمن. قال الحسن: ثلاثون درهما، وكان شريح يمتّع بخمسمائة درهم، ومتّع عبد الرحمن بن عوف أم أبي سلمة حين طلّقها جارية سوداء، ومتّع الحسن بن علي (رضي الله عنه) امرأة له بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق. قال أبو حنيفة: متاعها إذا اختلف الزوج والمرأة فيها قدر نصف مهر مثلها ولا تجاوز ذلك، والصحيح أن الواجب من ذلك على قدر عسر الرجل ويسره كما قال تعالى، ولو كان المعتبر فيه المهر لكان يقول: ومتعوهنّ على قدرهنّ وقدر صداق مثلهنّ، فلمّا قال عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ دلّ على أنّ المعتبر فيه حال الرجل لا حال المرأة، وروى ابن أبي زائدة عن صبيح بن صالح قال: سئل عامر: بكم يمتّع الرجل امرأته؟ قال: على قدر ماله. تفصيل حكم الآية من تزوّج امرأة على غير مهر مسمّى فالنكاح جائز، فإن طلبت الفرض أمرناه أن يفرض لها، وإن لم يفرض لها ودخل بها فلها مهر مثلها، فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة ولا مهر لها، وإن مات عنها بعد الدخول فلها مهر مثلها، وإن مات عنها قبل الدخول والتسمية ففيها قولان: أحدهما: لها مهر مثلها، وهو مذهب أهل العراق، والدليل عليه حديث بروع بنت واسق الأشجعية حين توفي عنها زوجها ولم يفرض لها ولا دخل بها فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمهر [نسائها] لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث «2» . والقول الثاني: أنّ لها الميراث وعليها العدة ولا مهر لها، بل لها المتعة كما لو طلّقها قبل الدخول والتسمية، وهو قول علي ، وكان يقول في حديث بروع: لا يقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله وسنّة رسوله. وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الآية هنا في الرجل يتزوج المرأة، وقد سمّى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يمسّها فلها نصف الصداق، وليس لها أكثر من ذلك، ولا عدة عليها، وإن لم يدخل بها حتّى توفي فلا خلاف أنّ لها المهر كاملا والميراث، وعليها العدة، والمسّ هاهنا الجماع.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خلا رجل بامرأة ولم يجامعها حتّى فارقها فإنّ المهر الكامل يلزمه، والعدّة تلزمها لخبر ابن مسعود: قضى الخلفاء الراشدون فيمن أغلق بابا وأرخى سترا أن لها المهر وعليها العدّة، وأما الشافعي فلا يلزم مهرا كاملا ولا عدّة إذ لم يكن دخول بظاهر القرآن. قال شريح: لم أسمع الله تعالى ذكر في كتابه بابا ولا سترا، إنما زعم أنه لم يمسّها فلها نصف الصداق، وهو مذهب ابن عباس. وهذه الآية ناسخة الآية التي في سورة الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ الآية، إلى قوله: فَمَتِّعُوهُنَّ قد كان لها المتاع، فلمّا نزلت هذه الآية نسخت ما كان قبلها وأوجبت للمطلقة المفروض لها قبل المسيس نصف مهرها المسمّى، ولا متاع لها كما قال عزّ من قائل: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهنّ. وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً أوجبتم لهنّ صداقا، وسمّيتم لهنّ مهرا، وأصل الفرض القطع، ومنه قيل لحزّ الميزان والقوس: فرضة، وللنصيب فريضة لأنّه قطعه من الشيء فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي نصف المهر المستحق، وقرأ السلمي فَنِصْفٌ بضم النون حيث وقع، وهما لغتان. ثم قال إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني النساء، ومحل يَعْفُونَ نصب بأن إلّا أنّ جمع المؤنث في الفعل المضارع يستوي في الرفع والنصب والجزم، يكون في كل حال بالنون تقول: هنّ يضربن، ولن يضربن، ولم يضربن لأنها لو سقطت النون لاشتبه بالمذكر. أَوْ يَعْفُوَا قرأ الحسن ساكنة الواو كأنه استثقل الفتحة في الواو كما استثقلت الضمّة فيها الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: هو الولي، ومعنى الآية إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي يهبن ويتركن النصف فلا يطالبن الأزواج إذا كنّ ثيّبات بالغات رشيدات جائزات الأمر، أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهو وليها، فيترك ذلك النصف إذا كانت بكرا أو غير جائزة الأمر، ويجوز عفوه عليها وإن كرهت، فإن عفت المرأة وأبي الولي فالعفو جائز، فإن عفى الولي وأبت المرأة فالعفو جائز بعد أن لا تريد ضرارا، وهذا قول [علي] وأصحاب عبد الله وإبراهيم وعطاء والحسن والزهري والسدي وأبو صالح وأبي زيد وربيعة الرأي، ورواية العوفي عن ابن الحسن. وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه وعن إسماعيل بن شرواس قالا: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ هو الولي، وقال عكرمة: أذن الله تعالى هو في العفو ورضي به وأمر به، فأيّ امرأة عفت جاز عفوها وان شحّت وضنّت عفا وليها وجاز عفوه، وهذا مذهب فقهاء الحجاز إلّا أنهم قالوا: يجوز عفو ولي البكر فإذا كانت ثيّبا فلا يجوز عفوه عليها. وقال بعضهم: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ هو الزوج، ومعنى الآية: إلّا أن تعفو النساء فلا
يأخذن شيئا من المهر، أو يعفو الزوج فيعطيها الصداق كاملا، وهذا قول علي وسعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد ومحمد بن كعب القرضي ونافع والربيع وقتادة وابن حبّان والضحّاك ورواية عمار بن أبي عمار عن ابن عباس ، وهو مذهب [أهل] العراق لا يرون سبيلا للولي على شيء من صداقها إلّا بإذنها، ثيّبا كانت أو بكرا، قالوا: لإجماع الجميع من أنّ ولي المرأة لو أبرأ زوجها من مهرها قبل الطلاق أنه لا يجوز ذلك، فكذلك إبراؤه وعفوه بعد الطلاق لا يجوز، ولإجماعهم أيضا على أنه لو وهب وليّها من مالها لزوجها درهما بعد البينونة أثم ما لم يكن له ذلك، وكانت تلك الهبة باطلة والمهر مال من أموالها، فوجب أن يكون الحكم كحكم بإبراء، مالها ولإجماعهم أنّ من الأولياء من لا يجوز عفوه عليها بالإجماع، وهم بنو الأخوة وبنو الأعمام وما يفرق الله [بعض] في الآية. عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحا يحدّث قال: سألني علي عن الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ، فقلت: ولي المرأة، فقال: لا، بل الزوج ، وروي أن رجلا زوّج أخته وطلقها زوجها قبل أن يدخل بها فعفا أخوها عن المهر فأجازه شريح، ثم قال: أنا أعفو عن نساء بني مرّة فقال عامر: لا والله ما قضى شريح قضاء أردأ ولا هو أحمق فيه «1» منه أن يجيز عفو الأخ، قال: رجع بعد شريح عن قوله، وقال: هو الزوج «2» . وعن القاسم قال: كان أشياخ الكوفة ليأتون شريحا فيخاصمونه في قوله الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ حتى يجثو على ركبتيه فيقول شريح: إنه الزوج، إنه الزوج. روى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قالوا: هو الزوج، وقال طاوس ومجاهد: هو الولي فكلّمتهما في ذلك فرجعا عن قولهما وتابعا سعيد وقالا: هو الزوج، وروى محمد بن شعيب مرسلا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ الزوج، يعفو فيعطي الصداق كاملا» [161] «3» . وعن صالح بن كيسان أن جبير بن مطعم تزوّج امرأة ثم طلّقها قبل أن يبني بها فأكمل لها الصداق وقال: أنا أحقّ بالعفو وتأوّل قوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ فيكون وجه الآية على هذا التأويل الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده، فلمّا أدخل الألف واللام حذف الهاء كقوله فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يعني مأواه، وقال النابغة: لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الناس فالأحلام غير عوازب «4»
[سورة البقرة (2) : الآيات 238 إلى 242]
يعني وأحلامهم فكذلك قوله عُقْدَةُ النِّكاحِ بمعنى عقدة نكاحه وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى قال سيبويه موضعه رفع بالابتداء أي والعفو أقرب للتقوى وألزم، بمعنى إلى أي، إلى التقوى: والخطاب هاهنا للرجال والنساء، لأنّ المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر، ومعناه وعفوكم عن بعض أقرب إلى التقوى لأنّ هذا العفو ندب وإذا سارع إليه وأتى به كان معلوما أنه لما كان فرضا أشد استعمالا ولمّا نهى عنه أشد تجنبا وقرأ الشعبي: وأن يعفو بالياء جعله خبرا عن الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ. وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قرأ علي بن أبي طالب وأبو داود والنخعي ولا تناسوا الفضل من المفاعلة بين اثنين كقوله: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ وقرأ يحيى بن يعمر وَلا تَنْسَوِا الْفَضْلَ بكسر الواو، وقرأ الباقون وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بضم الواو، ومعنى الفضل إتمام الرجل الصداق أو ترك المرأة النصف، حثّ الله تعالى الزوج والمرأة على الفضل والإحسان وأمرهما جميعا أن يسبقا إلى العفو. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 242] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها وحدودها وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وجميع ما يجب فيها من حقوقها، وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة فالمراد بها الصلوات الخمس، ثم خصّ الصلاة الوسطى من بينها بالمحافظة دلالة على فضلها كقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وهما من جملة الملائكة، وقوله: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ أخرجهما بالذكر من الجملة بالواو الدالة على التخصيص والتفصيل، فكذلك قوله: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى. وقرأت عائشة وَالصَّلاةَ الْوُسْطى بالنصب على الإغراء، وروى قالون عن نافع الْوُصْطى بالصاد لمجاورة الطاء لأنهما من جنس واحد، وهما لغتان كالصراط والسراط، والصدغ والسدغ، والبصاق والبساق، واللصوق واللسوق، والصندوق والسندوق، والصقر والسقر. والوسطى تأنيث الأوسط، ووسط الشيء خيره وأعدله لأن خير الأمور أوسطها، قال الله
تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا وعدلا، وقال تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ أي خيرهم وأفضلهم، وقال أعرابي يمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أوسط الناس طرّا في مفاخرهم ... وأكرم الناس أمّا برّة وأبا «1» واختلف العلماء في الوسطى وأي صلاة هي، فقال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها هكذا في الاختلاف، وشبّك من أصابعه، فقال قوم: هي صلاة الفجر، وهو قول معاذ وعمر وابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعطاء وعكرمة والربيع ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهاد، وعن موسى بن وهب قال: سمعت أبا أمامة وقد سئل عن الصَّلاةِ الْوُسْطى قال: لا أحسبها إلّا صلاة الصبح. معمر بن طاوس عن أبيه وإسماعيل بن شروس عن عكرمة قالا: هي الصبح يعني الصلاة الوسطى، وهو اختيار الإمام أبي عبد الله الشافعي، يدلّ عليه ما روى الربيع عن أبي العالية أنه صلّى مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الغداة، فلمّا أن فرغوا قال: قلت لهم: أيّتهنّ الصلاة الوسطى؟ قالوا: التي صلّيتها، قيل: ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: هي صلاة الصبح، وسّطت فكانت بين الليل والنهار، يصلّى في سواد من الليل وبياض من النهار، وهي أكبر الصلوات تفوت الناس، ولأنها لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها، ولأنها بين صلاتين تجمعان، وتصديق هذا التأويل من التنزيل دالا على التخصيص والتفضيل قوله تعالى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يعني تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، مكتوب في ديوان الليل وديوان النهار، ودليل آخر من سياق الآية وهو أنه عقبها بقوله وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ يعني وقوموا لله فيها قانتين، قالوا: ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت سوى صلاة الفجر فعلم أنها هي، وفيه دليل على ثبوت القنوت. وقال أبو رجاء العطاردي: صلّى بنا ابن عباس في مسجد البصرة صلاة الغداة، فقنت بنا قبل الركوع ورفع يديه، فلمّا فرغ قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين، والدليل عليه ما روى حنظلة عن أنس قال: قنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا وقال: ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقنت في صلاة الغداة حتّى فارق الدنيا. ابن أبي ليلى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى مات، وأبو بكر حتّى مات، وعمر حتّى مات، وعثمان حتّى مات، وعلي حتّى مات ، وقال آخرون: هي صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة. روى عروة عن زيد بن ثابت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على
أصحابه فلا يكون وراءه إلّا الصف والصفّان، وأكثر الناس يكونون في قائلتهم وفي تجاراتهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم» [162] فنزلت هذه الآية حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى «1» ودليلهم أنها وسط النهار ما روى أبو ذر عن علي كرم الله وجهه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله في السماء الدنيا حلفة تزول منها الشمس، فإذا مالت الشمس سبّح كل شيء لربّنا، وأمر الله تعالى بالصلاة في تلك الساعة، وهي الساعة التي تفتح فيها أبواب السماء فلا تغلق حتّى يصلّى الظهر، ويستجاب فيها الدعاء» [163] . ولأنها أوسط صلوات النهار، ومن خصائصها أنها أول صلاة فرضت، وأول صلاة توجّه فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى الكعبة، وهي التي ترفع جميع الصلوات والجماعات [لأجلها] يوم الجمعة. وقال بعضهم: هي صلاة العصر، وهو قول علي وعبد الله وأبي هريرة والنخعي وزرّ بن حبيش وقتادة وأبي أيوب والضحّاك والكلبي ومقاتل، واختيار أبي حنيفة ، يدلّ عليه ما روى الحسن عن سمرة بن جندب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «صلاة الوسطى العصر» [164] «2» . وفي بعض الأخبار هي التي فرّط فيها سليمان عليه السّلام. سفيان بن عيينة عن البراء بن عازب قال: نزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وصلاة العصر فقرأناها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله ثم [نسختها] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فقال له بعضهم: فهي صلاة العصر، قال: أعلمتك كيف نزلت وكيف نسختها، والله أعلم. نافع عن حفصة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتّى أخبرك بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أخبرها قالت: اكتب إني سمعت رسول الله يقول حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى صلاة العصر. هشام عن عروة عن أبيه قال كان في مصحف عائشة حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى صلاة العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وهكذا كان يقرأها أبي بن كعب وعبيد بن عمير. الأعمش عن مسلم عن شتير بن شكل عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصَّلاةِ الْوُسْطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم- أو قبورهم- نارا» [165] «3» . قال ثم صلّاها بين العشاءين ، وفي بعض الأخبار أن رجلا قال في مجلس عبد العزيز بن مروان: أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أسأله عن الصَّلاةِ الْوُسْطى، فأخذ
اصبعي الصغيرة فقال: «هذه الفجر» ، وقبض التي تليها وقال: «هذه الظهر» ، ثم قبض الإبهام فقال: «هذه المغرب» ، ثم قبض التي تليها فقال: «هذه العشاء» ، ثم قال: «أي أصابعك بقيت؟» فقلت: الوسطى، فقال: «أي الصلاة بقيت؟» قلت: العصر، قال: «هي العصر» [166] «1» . قالوا: ولأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل، [وكان] النبي صلّى الله عليه وسلّم متسامحا فأخذ يصلّيها ويبالغ، وروى أبو تميم الحبشاني عن أبي بصرة الغفاري قال: صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة العصر، فلمّا انصرف قال: «إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فتوانوا فيها وتركوها فمن صلّاها منكم وحافظ عليها أوتي أجرها مرّتين ولا صلاة بعدها حتّى يرى الشاهد» والشاهد: النجم «2» . أبو قلابة عن أبي المهاجر عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بكّروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله» [167] «3» . نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذي يصلّي العصر كافاه في أهله وماله» [168] . وقال قبيصة بن ذؤيب: هي صلاة المغرب، ألا ترى أنها واسطة ليست بأقلها ولا أكثرها وهي لا تقصر في السفر ومن وتر النهار. هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أفضل الصلوات صلاة المغرب، لم يحطها الله عن مسافر ولا مقيم، فتح الله بها صلاة الليل، وختم بها النهار، فمن صلّى المغرب وصلّى بعدها ركعتين بنى الله له قصرا في الجنة، ومن صلّى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنب عشرين سنة، أو قال: أربعين سنة» [169] «4» . وحكى الشيخ أبو ميثم سهل بن محمد عن بعضهم أنها صلاة العشاء الأخيرة، وقال: لأنها بين صلاتين لا تقصران. وروى عبد الرحمن بن أبي عمر عن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلّى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة» [170] «5» . وقال بعضهم: هي إحدى الصلوات الخمس ولا نعرفها عينها، سئل الربيع بن خيثم عن الصَّلاةِ الْوُسْطى فقال للسائل: [أراغب] إن علمتها كنت محافظا عليها ومضيّعا سائرهن؟ قال:
لا، قال: فإنك إن حافظت عليهنّ فقد حافظت عليها، وبه قال أبو بكر الورّاق، قال: لو شاء الله عزّ وجلّ لبيّنها، ولكنه سبحانه أراد تنبيه الخلق على أداء الصلوات. قال الثعلبي [ولقد أحسنا] في قوليهما فإن الله تعالى أخفى الصلاة الوسطى في جميع الصلوات المكتوبة ليحافظوا على جميعها رجاء الوسطى، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان، واسمه الأعظم في جميع الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة حكمة منه في فعله ورحمة على خلقه. وفي قوله عزّ وجلّ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى دليل على أن الوتر ليس بواجب وذلك أن المسلمين اتفقوا على أن الصلوات المفروضات تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة، وليس من الثلاثة والسبعة فرد إلّا خمسة، والأزواج لا وسطى لها، فثبت أنها خمسة. قتادة عن أنس قال: قال رجل: يا رسول الله، كم افترض الله على عباده الصلوات؟ قال: خمس صلوات، قال: فهل قبلهنّ وبعدهنّ شيء افترض الله على عباده قال: لا، فحلف الرجل بالله لا يزيد عليهنّ ولا ينقص، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن صدق الرجل دخل الجنة» [171] «1» . وعن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل نجد ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفهم ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل عليّ غيرهنّ؟ قال: «لا إلّا أن تتطوع» قال صلّى الله عليه وسلّم: «وصيام شهر رمضان» قال: هل عليّ غيره؟ قال: «لا، إلّا أن تتطوع» وذكر له عليه الصلاة والسلام الزكاة، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلّا أن تتطوع» فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفلح إن صدق» [172] «2» . عن محمد بن يحيى بن حيان عن ابن جرير أن رجلا من بني كنانة يدعى المحدجي كان يسمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول: الوتر واجب، قال المحدجي: فرحت إلى عبادة بن الصامت واعترضت له وهو رايح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد، فقال عبادة: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد، من جاء بهنّ لم يضيّع منهنّ استخفافا بحقهنّ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد إن شاء عذّبه الله وإن شاء أدخله الجنة» [173] «3» . وعن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: ليس الوتر بحتم لأنه لا تكبير به ولكنه سنّة سنّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والدليل على أنّ الوتر ليس بواجب ما روى نافع
عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يوتر على راحلته ، وعن نافع أيضا أن ابن عمر كان يوتر على بعيره، ويذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفعل ذلك ، وأجمع الفقهاء على أن الصلاة المكتوبة على الراحلة في حال الأمن لا تجوز. وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ أي مطيعين، قاله الشعبي وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاوس وابن عباس برواية عكرمة وعطية وابن أبي طلحة، قال الضحّاك ومقاتل والكلبي: لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين، فقوموا أنتم في صلواتكم لله مطيعين، ودليل هذا التأويل ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كل قنوت في الظهرين هو الطاعة» [174] «1» . وقال بعضهم: القنوت: السكوت [عمّا] لا يجوز التكلم به في الصلاة، قال زيد بن أرقم: كنّا نتكلّم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة ويكلّم أحدنا من إلى جانبه، ويدخل الداخل فيسلّم فيردون عليه، ويسألهم: كم صلّيتم؟ فيردّون عليه مخبرين كم صلوا، ويجيء خادم الرجل وهو في الصلاة فيكلّمه بحاجته كفعل أهل الكتاب، فكنّا كذلك إلى أن نزلت وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. مجاهد: خاشعين، قال: ومن القنوت طول الركوع وغضّ البصر والركود وخفض الجناح، كان العلماء إذا قام أحدهم يصلّي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلّب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلّا ناسيا. الحسن والربيع: قياما في الصلاة، يدلّ عليه حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل: أيّ الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القنوت» «2» . وقال ابن عباس في رواية رجاء: داعين في صلاتهم، دليله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قنت على رجل وذكر أن أي دعاء عليهم [قد] قيل: مصلّين دليله قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ أي مصلّ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم» [175] «3» أي المصلي الصائم فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أي رجّالة، ويقال: راجل ورجال مثل صاحب وصحاب وصائم وصيام وقائم وقيام، قال الله تعالى يَأْتُوكَ رِجالًا قال الأخطل: وبنو غدانة شاخص أبصارهم ... يمشون تحت بطونهنّ رجالا «4» يروى أنهم أحنوا مأسورين وأبصارهم شاخصة إلى ولدهم أَوْ رُكْباناً على دوابّهم، وهو جمع راكب، قال المفضل: لا يقال راكب إلّا لصاحب الجمل، فأمّا صاحب الفرس فيقال له
فارس، ولراكب الحمار الحمّار، ولراكب البغال بغّال، ونصبت على الحال، أي فصلّوا رجالا أو ركبانا. ومعنى الآية: فإن لم يمكنكم أن تصلّوا قانتين موفين الصلاة حقّها لخوف فصلّوا رجالا أي مشاة على أرجلكم، أو ركبانا على ظهور دوابّكم، فإن ذلك يجزيكم. قال المفسرون: هذا في المسابقة والمطاردة، يصلّي حيث يولي وجهه، مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، راكبا أو راجلا، ويجعل السجود أخفض من الركوع، يومئ إيماء، وهذه صلاة شدّة خوف، والصلاة في حال الخوف على ضربين، وسنذكرها في سورة النساء، وصلاة شدّة الخوف وهي هذه، والخوف الذي يجوز للمصلّي أن يصلي من أجله راكبا أو [راجلا] وحيث ما كان وجهته هو المحاربة والمسابقة في قتال من أسر بقتال من عدوّ أو محارب أو خوف سبع هائج، أو جمل صائل، أو سيل سائل، أو كان الأغلب من شأنه الهلاك، وإن صلّى صلاة الأمن فله أن يصلي صلاة شدة الخوف وهي ركعتان، فإن صلّاها ركعة واحدة جاز لما روى مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله عزّ وجلّ الصلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقال سعيد بن جبير: إذا كنت في القتال، والتقى الزحفان، وضرب الناس بعضهم بعضا فقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، واذكر الله، فتلك صلاتك. قال الزهري: فإن لم يستطع فلا يدع ذكرها في نفسه. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا الصلوات الخمس تامّة لحقوقها كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يا معشر الرجال وَيَذَرُونَ ويتركون أَزْواجاً زوجات. قال الكسائي: أكثر ما تقول العرب للمرأة زوجة، ولكن في القرآن زوج وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ الحسن وأبو عمرو وأبو عامر والأعمش وحمزة (وَصِيَّةً) بالنصب على معنى فليوصوا وصية، وقرأ الباقون بالرفع على معنى كتب عليهم الوصية، وقيل: معناه لأزواجهم وصية، وقيل: ولتكن وصية، ودليل هذه القراءة قراءة عبد الله: كتبت عليهم وصية لأزواجهم. وقرأ أبي: ويذرون أزواجا متاع لأزواجهم، قال أبو عبيد: ومع هذا رأينا هذا المعنى كلّها في القرآن رفعا مثل قوله فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ، فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ ونحوهما. مَتاعاً نصب على المصدر أي متّعوهنّ متاعا، وقيل: جعل الله عزّ وجلّ ذلك لهنّ متاعا، وقيل: نصب على الحال، وقيل: نصب بالوصية كقوله أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً. والمتاع: النفقة سنة لطعامها وكسوتها أو سكناها أو ما تحتاج إليه إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ نصب على الحال، وقيل: بنزع حرف الصفة أي من غير إخراج.
فأما تفسير الآية وحكمها، فقال ابن عباس وسائر المفسرين: نزلت هذه الآية في رجل من أهل الطائف يقال له: حكيم بن الحرث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته فمات، فرفع ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته غير أنّه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا ، وذلك أن الرجل كان إذا مات وترك امرأة اعتدّت سنة في بيت زوجها لا تخرج، فإذا كان الحول خرجت ورمت كلبا ببعرة تعني بذلك أن قعودها بعد زوجها أهون عليها من بعرة رمي بها كلب، وقد ذكر ذلك الشعراء في شعرهم، قال لبيد: والمرملات إذا تطاول عامها «1» وكان سكناها ونفقتها واجبة في مال زوجها هذه السنة ما لم تخرج، وكان ذلك حظّها من تركة زوجها، ولم يكن لها الميراث، وإن خرجت من بيت زوجها فلا نفقة لها، وكان الرجل يوصي بذلك، وكان كذلك حتّى نزلت آية المواريث فنسخ الله نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدة الحول بقوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً قال الله تعالى فَإِنْ خَرَجْنَ يعني من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا أولياء الميت فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ يعني التشوق للنكاح، وفي معنى رفع الجناح عن الرجال بفعل النساء وجهان: أحدهما: لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهنّ إذا خرجن قبل انقضاء الحول. والوجه الآخر: لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج لأن مقامها حولا في بيت زوجها غير واجب عليها، خيّرها الله في ذلك إلى أن نسخت أربعة أشهر وعشرا، لأن ذلك لو كان واجبا عليها ما كان على أولياء الزوج منعها من ذلك، فرفع الله الجناح عنهم وعنها، وأباح لها الخروج إن شاءت، ثم نسخ النفقة بالميراث، ومقام السنة بأربعة أشهر وعشرا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ قد ذكرنا حكم المتعة بالاستقصاء، فأغنى عن إعادته، وإنّما أعاد ذكرها هاهنا لما فيها من زيادة المعنى على ما سواها وهي أنّ فيما سوى هذا بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت، وهاهنا بيان حكم جميع المطلقات في المتعة. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية لأنّ الله تعالى لما أنزل قوله وَمَتِّعُوهُنَّ إلى قوله عَلَى الْمُحْسِنِينَ قال رجل من المسلمين: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل، قال الله تعالى وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يعني المؤمنين المتقين الشرك، فبيّن أنّ لكل مطلقة متاعا وقد ذكرنا الخلاف فيها، وروى أياس بن عامر عن علي بن أبي طالب (رضي
[سورة البقرة (2) : الآيات 243 إلى 245]
الله عنه) قال: لكل مؤمنة مطلقة حرّة أو أمة متعة وتلا قوله وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ الآية. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا الآية، قال أكثر المفسّرين: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط وقع بها الطاعون، فخرجت طائفة هاربين من الطاعون، وبقيت طائفة فهلك أكثر من بقي في القرية، وسلّم الذين خرجوا، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا لبقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجنّ إلى أرض نأوي بها، فوقع الطاعون من قابل فهرب عامّة أهلها فخرجوا حتّى نزلوا واديا أفيح، فلمّا نزلوا المكان الذي يبتغون فيه النجاة والحياة ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه أن موتوا فماتوا جميعا «1» . وعن الأصمعي قال: لما وقع الطاعون بالبصرة خرج رجل من أهلها عنها على حمار ومعه أهله وولده وخلفه عبد حبشي يسوق حماره، فطفق العبد يرتجز وهو يقول: لن نسبق الله على حمار ... ولا على ذي منعة مطار قد يصبح الله أمام الساري فرجع الرجل بعياله لمّا سمع قوله، وروى عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا فرارا منه» [176] «2» . وقال الضحّاك ومقاتل والكلبي: إنما فرّوا من الجهاد وذلك أن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمرهم أن يخرجوا إلى قتال عدوّهم، فخرجوا فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت واعتلّوا، وقالوا لملكهم: إن الأرض التي نأتيها فيها الوباء فلا نأتيها حتّى ينقطع منها الوباء، فأرسل الله تعالى عليهم الموت، فلمّا رأوا أن الموت كثر فيهم خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فرارا من الموت، فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى قد ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم حتّى
يعلموا أنهم لا يستطيعون الفرار منك، فلمّا خرجوا قال لَهُمُ اللَّهُ: مُوتُوا، عقوبة لهم، فماتوا جميعا، وماتت دوابهم كموت رجل واحد، فأتى عليهم ثمانية أيام حتّى انتفخوا وأروحت أجسادهم، فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركوهم فيها. واختلفوا في مبلغ عددهم، فقال عطاء الخراساني: كانوا ثلاثة آلاف، ابن عباس ووهب: أربعة آلاف، مقاتل والكلبي: ثمانية آلاف، أبو روق: عشرة آلاف، أبو مالك: ثلاثون ألفا، الواقدي بضعة ومائتين ألفا، ابن جريج: أربعين ألفا، عطاء بن أبي رياح: سبعين ألفا، الضحّاك: كانوا عددا كبيرا، وأولى الأقاويل بالصواب قول من قال: زادوا على عشرة آلاف، وذلك أنّ الله تعالى قال وَهُمْ أُلُوفٌ وما دون العشرة لا يقال ألوف، إنّما يقال: ثلاثة آلاف فصاعدا إلى عشرة آلاف، فمن الألوف جمع الكثير وجمعه القليل آلاف، مثل يوم وأيام، ووقت وأوقات، وألف على وزن أفعل. [وقيل:] كانوا ثلاثة آلاف [وكيسة] «1» اليمان أعجمي من بني الفداحم. قالوا: فأتى على ذلك مدة وقد بليت أجسادهم وعريت عظامهم وتقطّعت أوصالهم، فمرّ عليهم نبي يقال له حزقيل بن بوري ثارم أحد خلفاء بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، وذلك بأنّ القيّم بأمر بني إسرائيل كان بعد موسى عليه السّلام يوشع بن نون، ثم كالب بن يوفنا، ثم حزقيل، وكان يقال له ابن العجوز وذلك أنّ أمه كانت عجوزا فسألت الله تعالى الولد، وقد كبرت وعقمت فوهبه الله لها فلذلك قيل له: ابن العجوز «2» . قال الحسن ومقاتل: هو ذو الكفل لأنّه تكفل سبعين نبيّا وأنجاهم من القتل، وقال لهم: اذهبوا فإني إن قتلت كان خيرا من أن تقتلوا جميعا، فلمّا جاء اليهود وسألوا حزقيل عن الأنبياء السبعين، قال: إنهم ذهبوا ولا أدري أين هم، ومنع الله ذا الكفل من اليهود، فلمّا مرّ حزقيل على أولئك الموتى وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم متعجبا منهم، فأوحى الله إليه: يا حزقيل تريد أن أريك آية، فأريك كيف أحيي الموتى؟ قال: نعم، فأحياهم الله. هذا قول السدي وجماعة من المفسّرين. وقال هلال بن يساف وجماعة من العلماء: بل دعا حزقيل ربّه أن يحييهم، فقال: يا ربّ لو شئت أحييت هؤلاء فعمّروا بلادك وعبدوك، فقال الله: أتحب أن أفعل؟ قال: نعم، فأحياهم. وقال عطاء ومقاتل والكلبي: بل هم كانوا قوم حزقيل أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيام، وذلك أنّهم لما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى وبكى وقال: يا ربّ كنت في
قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدّسونك ويهللونك ويكبّرونك فبقيت وحيدا لا قوم لي، فأوحى الله إليه: إني قد جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: أحيوا بأمر الله، فعاشوا. وقال: وثمّت أصابهم بلاء وشدّة من الزمان فشكوا ما أصابهم وقالوا: ما لبثنا، متنا واسترحنا مما نحن فيه فأوحى الله تعالى إلى حزقيل: إن قومك قد صاحوا من البلاء وزعموا أنهم ودّوا لو ماتوا واستراحوا وأي راحة لهم في الموت، أيظنون أنّي لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت، فانطلق إلى جبّانة كذا فإن فيها قوما أمواتا، فأتاهم فقال الله: يا حزقيل قم فنادهم، وكانت أجسادهم وعظامهم قد تفرّقت، فنادى حزقيل: أيتها العظام إنّ الله يأمرك أن تكتسي باللحم، فاكتست جميعا باللحم، وبعد اللحم جلدا ودما وعصبا وعروقا وكانت أجسادا، ثم نادى أيّتها الأرواح إنّ الله يأمرك أن تعودي في أجسادك، فقاموا جميعا وعليهم ثيابهم التي ماتوا فيها، وكبّروا تكبيرة واحدة. وروى المنصور بن المعتمر عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا: سبحانك ربّنا وبحمدك، لا إله إلّا أنت، فرجعوا إلى قومهم بعد ما أحياهم الله، وتناسلوا وعاشوا دهرا يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوبا إلّا عاد دسما مثل الكفن حتّى ماتوا لآجالهم التي كتبت عليهم «1» . قال ابن عباس: فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح «2» . قال قتادة: مقتهم الله تعالى على فرارهم من الموت، فأماتهم [عقربة] ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها، ولو كان آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم «3» ، فذلك قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا ألم تر أي ألم تخبر، ألم تعلم بإعلامي إيّاك وهو رؤية القلب لا رؤية العين فصار تصديق أخبار الله عزّ وجلّ كالنظر إليه عيانا. وقال أهل المعاني: هو تعجب وتعظيم يقول: هل رأيت مثلهم كما تقول: ألم تر إلى ما يصنع فلان؟ وكلّ لم في القرآن من قوله أَلَمْ تَرَ ولم يعاينه النبي صلّى الله عليه وسلّم فهذا وجهه ومعناه، وقرأها كلّها أبو عبد الرحمن السلمي أَلَمْ تَرْ بسكون الراء وهي لغة قسم من العرب لمّا حذفوا الياء للجزم توهّموا أن الراء آخر الكلمة فسكّنوها، وأنشد الفراء: قالت سليمى سر لنا دقيقا إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ واو الحال أُلُوفٌ جمع ألف، وقال ابن زيد: مؤتلف قلوبهم جعله جمع ألف مثل جالس وجلوس وقاعد وقعود حَذَرَ الْمَوْتِ أي من خوف
الموت فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا أمر تحويل كقوله كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ. ثُمَّ أَحْياهُمْ من بعد موتهم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ إلى يَشْكُرُونَ ثم حثّهم على الجهاد فقال: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ طاعة الله، أعداء الله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قال أكثر المفسّرين: هذا للذين أحيوا، قال الضحّاك: أمروا أن يقاتلوا في سبيل الله فخرجوا من ديارهم فرارا من الجهاد فأماتهم الله عزّ وجلّ ثم أحياهم ثم أمرهم أن يعودوا إلى الجهاد، وقال بعضهم: هذا الخطاب لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم. مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية، قال سفيان: لمّا نزلت مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رب زد أمتي» [177] فنزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ الآية، فقال: «زد أمتي» فنزلت إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. واختلف العلماء في معنى هذا القرض، فقال الأخفش: قوله يُقْرِضُ ليس لحاجة بالله ولكن تقول العرب: لك عندي قرض صدق وقرض سوء لأمر يأتي فيه مسرّته أو مساءته. وقال الزجاج: القرض في اللغة البلاء الحسن والبلاء السيّئ، قال أمية بن أبي الصلت: لا تخلطنّ خبيثات بطيّبة ... واخلع ثيابك منها وأنج عريانا كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيّئا أو مدينا مثل ما دانا «1» وأنشد الكسائي: تجازى القروض بأمثالها ... فبالخير خيرا وبالشرّ شرّا «2» وقال أيضا: ما أسلفت من عمل صالح أو سيّئ. ابن كيسان: القرض أن تعطي شيئا ليرجع إليك مثله ويقضى شبهه فشبّه الله عمل المؤمنين لله على ما يرجون من ثوابه بالقرض لأنّهم إنما يعطون ما ينفقون ابتغاء ما عند الله عزّ وجلّ من جزيل الثواب، فالقرض اسم لكل ما يعطيه الإنسان ليجازى عليه، قال لبيد: وإذا جوزيت قرضا فاجز به ... إنما يجزى الفتى ليس الجمل «3» قال بعض أهل المعاني: في الآية اختصار وإضمار، مجازها: من ذا الذي يقرض عباد الله [قرضا] كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقوله فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأضافه سبحانه هاهنا إلى نفسه للتفضيل وللاستعطاف، كما في الحديث: إن الله تعالى يقول لعبده:
استطعمتك فلم تطعمني، واستسقيتك فلم تسقني، واستكسيتك فلم تكسني، فيقول العبد: وكيف ذلك يا سيدي؟ يقول: مرّ بك فلان الجائع، وفلان العاري فلم [تعطف] عليه من فضلك، فلأمنعنّك اليوم من فضلي كما منعته. وقال أهل الإشارة: أمر الله تعالى بالصدقة على لفظ القرض إظهارا لمحبّته لعباده المؤمنين، وذلك أنه إنما يستقرض من الأحبّة، ولذلك قال يحيى بن معاذ: عجبت ممن يبقى له مال ورب العرش يستقرضه، وقال بعضهم: هذا [تلطف] من الله تعالى في المواساة والإقراض لعباده. أبو القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت على باب الجنة مكتوبا: والقرض بثمانية عشر، والصدقة بعشر فقلت: يا جبرئيل ما بال القرض أعظم أجرا؟ قال: لأن صاحب القرض لا يأتيك إلّا محتاجا، وربّما وقعت الصدقة في غير أهلها» [178] «1» . أبو سلمة عن أبي هريرة وابن عباس قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أقرض أخاه المسلم فله بكل درهم وزن أحد وثبير وطور سيناء حسنات» [179] «2» . فمعنى الآية: من هذا الذي (مَنْ) استفهام ومحلّه رفع بالابتداء و (الَّذِي) خبره (يُقْرِضُ اللَّهَ) ينفق في طاعة الله، وأصل القرض القطع، ومنه قرض الفأر الثوب وسمّي الشعر قريضا لأنّه يقطعه من كلامه، والدّين قرضا لأنّه يقطعه من ماله. قَرْضاً حَسَناً قال علي بن الحسين الواقدي يعني محتسبا، طيّبة به نفسه. ابن المبارك: هو أن يكون المال من الحلال. عمر بن عثمان الصدفي: هو أن لا يمنّ به ولا يؤذي. سهل بن عبد الله: هو أن لا يعتقد بقرضه عوضا فَيُضاعِفَهُ يزيده لَهُ واختلف القرّاء فيه، فقرأ عاصم وابن أبي إسحاق وأبو حاتم فَيُضاعِفَهُ نصبا بالألف، وقرأ ابن عامر ويعقوب بالتشديد والنصب وبالألف، وقرأ ابن كثير وأبو جعفر بالتشديد والرفع، وقرأ الآخرون بالألف والتخفيف ورفع الفاء، فمن رفع جعله نسقا على قوله يُقْرِضُ، وقيل: فهو يضاعفه، ومن نصبه جعله جوابا للاستفهام بالفاء، وقيل: بإضمار أن والتشديد والتخفيف لغتان، ودليل التشديد قوله أَضْعافاً كَثِيرَةً لأنّ التشديد للتكثير. قال الحسن والسدي: هذا التضعيف لا يعلمه إلّا الله مثل قوله وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وقال أبو هريرة: هذا في نفقة الجهاد، قال: وكنّا نحسب- ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا- نفقة الرجل على نفسه ورفقائه وظهره ألفي ألف. وَاللَّهُ يَقْبِضُ يعني يمسك الرزق عمّن يشاء ويقتر ويضيق عليه، دليله قوله وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ
أي يمسكونها عن النفقة في سبيل الله وَيَبْصُطُ أي يوسع الرزق على من يشاء، نظيره قوله وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ الآية، والأصل في هذا قبض اليد عند البخل وبسطها عند البذل. وقيل: هو الإحياء والإماتة فمن أماته فقد قبضه ومن مدّ له في عمره فقد بسط له، وقيل: وَاللَّهُ يَقْبِضُ الصدقة وَيَبْصُطُ بالخلف، وروى اليزيدي عن عمرو قال: بالصاد في بعض الروايات، وعن بعضهم كأنّه قال: هذا في القلوب، لمّا أمرهم الله بالصدقة أخبرهم أنه لا يمكنهم ذلك إلّا بتوفيقه، وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ يعني يقبض على القلوب فيزويه كيلا ينبسط لخير ويبسط بعضها فيقدّم لنفسه خيرا. وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يعني وإلى الله تعودون فيحسن لكم بأعمالكم، وقال قتادة: الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور أي من التراب خلقهم وإليه يعودون، وعن ابن مسعود وأبي أمامة وزيد بن أسلم- دخل حديث بعضهم في بعض- قالوا: نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً الآية، فلمّا نزلت قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إنّ الله يستقرض وهو غنيّ عن القرض، قال: «نعم، يريد أن يدخلكم الجنة» قال: فإنّي إن أقرضت ربي قرضا تضمن لي الجنة؟ قال: «نعم، من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة» ، قال: فزوجي أم الدحداح معي؟ قال: نعم قال [وصبيان] الدحداح معي؟ قال: نعم، قال: ناولني يدك فناوله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده فقال: إنّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما وجعلتهما قرضا لله عزّ وجلّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجعل إحداهما لله عزّ وجلّ والأخرى معيشة لك ولعيالك» قال: فأشهدك يا رسول الله أني جعلت غيرهما لله تعالى وهو حائط فيه ستمائة نخلة، قال: «يجزيك الله إذا به بالجنة» . فانطلق أبو الدحداح حتّى أتى أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول: هداك ربي سبل الرشاد ... إلى سبيل الخير والسداد قرضي من الحائط لي بالواد ... فقد مضى قرضا إلى التناد أقرضته الله على اعتماد ... بالطوع لا منّ ولا ارتداد إلّا رجاء الضعف في المعاد ... فارتحلي بالنفس والأولاد والبرّ لا شك فخير زاد ... قدّمه المرؤ إلى المعاد قالت أم الدحداح: ربح بيعك، بارك الله لك فيما اشتريت، فأنشأ أبو الدحداح يقول: مثلك أجدى ما لديه ونصح ... إن لك الحظ إذا الحق وضح قد متّع الله عيالي ومنح ... بالعجوة السوداء والزهو البلح
[سورة البقرة (2) : آية 246]
والعبد يسعى وله ما قد كدح ... طول [الليالي] وعليه ما اجترح ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم حتّى أفضت إلى الحائط الآخر فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كم من عذق رداح، ودار فياح في الجنة لأبي الدحداح» [180] «1» [سورة البقرة (2) : آية 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ والملأ من القوم وجوههم وأشرافهم، وأصل الملأ الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظ مثل الإبل والخيل والجيش، ولكن جمعه أملاء، قال الشاعر: [وسط] «2» الأملاء وافتتح الدعاءا ... لعلّ الله يكشف ذا البلاءا مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد موت موسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اختلفوا في ذلك النبي من هو، فقال قتادة: هو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وقال السدّي: اسمه شمعون، وإنّما سمّي شمعون لأنّ أمّه دعت الله أن يرزقها غلاما فاستجاب الله دعاءها فولدت غلاما فسمّته شمعون تقول: سمع الله دعائي والسين يصير شينا بلغة العبرانية، وهو شمعون بن صفية بن علقمة بن أبي يأسف بن قارون بن نصهر بن فاحث بن لاوي بن يعقوب. وقال سائر المفسّرين: هو إشمويل، وهو بالعربية إسماعيل بن نالي بن علقمة بن حازم بن الهر بن عرصوف بن علقمة بن فاحث بن عموصا بن عرزيا، وقال مقاتل: هو من نسل هارون عليه السّلام. مجاهد: هو اسمويل بن هلفانا ولم ينسبه أكثر من ذلك. قال وهب وابن إسحاق والسدي والكلبي وغيرهم: كان سبب مقاتلتهم إيّاه ذلك أنه لما مات موسى عليه السّلام خلّف بعده في بني إسرائيل يوشع، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتّى قبضه الله، ثم خلف فيهم كالب يقيم فيهم التوراة وأمر الله تعالى حتّى قبضه الله تعالى، ثم خلف فيهم حزقيل كذلك، ثم إن الله تعالى قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث ونسوا عهد الله حتّى عبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم إلياس نبيّا، فجعل يدعوهم إلى الله، وإنّما كانت
الأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى يبعثون إليهم لتجديد ما نسوا من التوراة. ثم خلّف بعد إلياس اليسع وكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه، وخلفت فيهم الخلوف وعظمت فيهم الخطايا، وظهر لهم عدو يقال له البلثانا وهم قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم من مصر وفلسطين، وهم العمالقة فظهروا على بني إسرائيل وغلبوهم على كثير من أرضهم وسبوا ذراريهم وأسروا من أبنائهم أربعين وأربعمائة غلام وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم ولقي بنو إسرائيل منهم بلاء وشدة، ولم يكن لهم نبي يدبّر أمرهم، وكانوا يسألون أن يبعث [الله] لهم نبيّا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا فلم يبق منهم إلّا امرأة حبلى فأخذوها وحبسوها في بيت رهبة أن تلد جارية فتبدّله بغلام لما يرى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، فجعلت المرأة تدعو الله عزّ وجلّ أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمّته إشمويل تقول سمع الله دعائي، فكبر الغلام فأسلمته يتعلم التوراة في بيت المقدس، وكفله شيخ من علمائهم وتبنّاه، فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا أتاه جبرائيل عليه السّلام والغلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأتمن عليه أحدا فدعاه بلحن الشيخ: يا إشمويل فقام الغلام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني، فكره الشيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بني ارجع فنم فرجع الغلام فنام، ثم دعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني، فقال: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرائيل عليه السّلام فقال له: اذهب إلى قومك فبلّغهم رسالة ربك فإنّ الله قد بعثك فيهم نبيا، فلما أتاهم كذّبوه وقالوا استعجلت النبوة ولم يأن لك. وقالوا: إن كنت صادقا ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ آية من نبوتك، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم، وكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنبي يقيم له أمره ويشير عليه، يرشده ويأتيه بالخبر من ربه عزّ وجلّ. وقال وهب: بعث الله تعالى إشمويل نبيّا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان فقالوا لأشمويل ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي يقاتل، بالياء جعل الفعل للملك وهو جزم على جواب الأمر، فلمّا قالوا له ذلك قال لهم: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ هل عسيتم استفهام [منك] يقول لعلكم، وقرأ نافع والحسن: عَسِيْتُمْ بكسر السين [في] كل القرآن، وهي لغة، وقرأ الباقون بالفتح وهي اللغة الفصيحة، قال أبو عبد الرحمن: لو جاز عسيتم لقرئ عسى ربكم إن كتب، فرض عليكم القتال مع ذلك الملك أَلَّا تُقاتِلُوا أن لا تفوا بما تقولون ولا تقاتلوا معه. قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إن قيل: ما وجه دخول «أن» في هذا الموضع، والعرب لا تقول: مالك أن لا تفعل، وإنما يقال: مالك لا تفعل
[سورة البقرة (2) : الآيات 247 إلى 248]
قيل: دخول أن وحذفها لغتان صحيحتان فصيحتان، فأما دخول أنّ فكقوله: ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ «1» وأما حذفها فكقوله وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «2» . وقال الكسائي: معناه: وما لنا في أن لا نقاتل، ما لنا وأن لا نقاتل فحذف الواو، حكاه محمد بن جرير وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا وقرأ عبيد بن حميد: قَدْ أَخْرَجَنا بفتح الهمزة والجيم يعني العدو. ومعنى الكلام: وقد أخرج من كتب عليهم من ديارهم وأبنائهم، ظاهر الكلام العموم وباطنه الخصوص، لأنّ الذين قالوا لنبيهم ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنما من داره من أسر وقهر منهم. ومعنى الآية: إنهم قالوا مجيبين: إنّا إنما كنّا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤنا عدونا ولا يظهر علينا، فأمّا إذا بلغ ذلك منا، فلا بد من الجهاد فنطيع ربنا في الغزو ونمنع نساءنا وأولادنا. قال الله تعالى فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الجهاد وضيّعوا أمر الله عزّ وجلّ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وفي الكلام حذف معناه: فبعث الله لهم ملكا وكتب عليهم القتال، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين عبروا النهر وسنذكرهم في موضعها. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 247 الى 248] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً الآية، وكان السبب فيه على ما ذكره المفسّرون أن أشمويل عليه السّلام سأل الله عزّ وجلّ أن يبعث لهم ملكا فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل له إنّ صاحبكم الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا، وقيل له: انظر القرن الذي فيه الدهن فإذا دخل عليك رجل فنشّ الدهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل، فادهن به رأسه وملّكه عليهم، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها.
وكان طالوت- اسمه شادل بن قيس بن أبيال بن ضرار بن يحرب بن أفيح بن أيس بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السّلام- رجلا دبّاغا يعمل الأدم، قاله وهب «1» . وقال عكرمة والسدي: كان سقاء يسقي على حمار له من النيل فضلّ حماره فخرج في طلبه، وقيل: كان خربند شاه. وقال وهب: بل ضلّت حمر لأبي طالوت فأرسله وغلاما له يطلبانها فمرّا ببيت إشمويل، فقال الغلام لطالوت: لو دخلنا على هذا النبي فسألناه عن أمر الحمر ليرشدنا ويدعو لنا فيها بخير، فقال طالوت: نعم، فدخلا عليه، فبينا هما عنده يذكران له شأن الحمر إذ نشّ الدهن الذي في القرن، فقام إشمويل وقاس طالوت بالعصا فكانت على طوله فقال لطالوت: قرّب رأسك فقرّبه ودهنه بدهن القدس ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملّكه عليهم، فقال طالوت: أنا؟ قال: نعم، قال: أو ما علمت أنّ سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ قال: بلى، قال: أفما علمت أنّ بيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟ قال: بلى، قال: فبأيّ آية؟ قال: آية أنّك ترجع وقد وجد أبوك حمره فكان كذلك، ثم قال لبني إسرائيل: إِنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، قال مجاهد: أميرا على الجيش. قالُوا أَنَّى من أين يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وإنما قالوا ذلك لأنّه كان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوّة، وسبط مملكة، وكان سبط النبوة سبط لاوي بن يعقوب ومنه موسى وهارون، وسبط المملكة سبط يهود بن يعقوب ومنه كان داود وسليمان، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط الملك، إنّما كان من سبط ابن يامين بن يعقوب، وكانوا عملوا ذنبا عظيما، كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة منهم، فلمّا قال نبيّهم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، أنكروا لأنّه كان من ذلك السبط فقالوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ومع ذلك هو فقير وَلَمْ يُؤْتَ يعط سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ اختاره عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فضيلة وسعة فِي الْعِلْمِ وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل في وقته، وذكر أنه أتاه الوحي حين أوتي الملك قال الكلبي وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ بالحرب وَالْجِسْمِ يعني بالطول، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبيه وإنّما سمّي طالوت لطوله وكذلك كان كالعصا التي قيس بها، ودليل هذا التأويل قوله تعالى وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً يعني طول القامة، وقال ابن كيسان بالجمال، وكان طالوت أجمل رجل في بني إسرائيل وأعلمهم. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ يعني لا ينكروا ملك طالوت مع كونه من غير أهل بيت
المملكة، فإنّ الملك ليس بالوراثة إنما هو بيد الله يؤتيه من يشاء «1» وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فقالوا له: فما آية ذلك وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الآية. وكانت قصة التابوت وصفتها على ما ذكره أهل التفسير وأصحاب الأخبار: إن الله تعالى أنزل تابوتا على آدم فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الأنبياء كلّهم، وآخر البيوت بيت محمّد صلّى الله عليه وسلّم وصورته موقّرة على صور جميع الأنبياء من ياقوتة حمراء قائم يصلي، وعن يمينه الكهل المطيع مكتوب على جبينه هذا أول من يتّبعه من أمته أبو بكر، وعن يساره الفاروق مكتوب على جبينه قرن من حديد، لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن ورائه ذو النورين آخذ بحجزته، مكتوب على جبهته بارّ من البررة، ومن بين يديه علي بن أبي طالب شاهر سيفه على عاتقه مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمّه المؤيد بالنصر من عند الله، وحوله عمومته والخلفاء والنقباء والكوكبة الخضراء، وهم أنصار الله وأنصار رسوله، نور حوافر دوابّهم يوم القيامة مثل نور الشمس في دار الدنيا. وكان التابوت نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين وكان من عود الشمشار الذي يتّخذ منه الأمشاط مموّه بالذهب، وكان عند آدم عليه السّلام إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثها أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم، فلمّا مات كان عند إسماعيل لأنّه أكبر ولده، فلمّا مات إسماعيل كان عند ابنه قيذار فنازعه ولد إسحاق، وقالوا: إن النبوة قد صرفت عنكم فليس لكم إلّا هذا النور الواحد، فأعطنا التابوت، فكان قيذار يمتنع عليهم ويقول: إنّه وصية أبي ولا أعطيه أحدا من العالمين. قال: فذهب ذات يوم يفتح ذلك التابوت فعسر عليه فتحه فناداه مناد من السماء: مهلا يا قيذار فليس لك إلى فتح هذا التابوت سبيل، لأنّه وصية نبي فلا يفتحه إلّا نبي فادفعه إلى ابن عمك يعقوب إسرائيل الله. فحمل قيذار التابوت على عنقه وخرج يريد أرض كنعان، وكان بها يعقوب، فلمّا قرب منه صرّ التابوت صرّة سمعها يعقوب فقال لبنيه: أقسم بالله لقد جاءكم قيذار بالتابوت فقوموا نحوه، فقام يعقوب وأولاده جميعا إليه، فلمّا نظر يعقوب إلى قيذار استعبر باكيا وقال: يا قيذار ما لي أرى لونك متغيرا وقوتك ضعيفة، أرهقك عدوّ أم أتيت معصية قد رابتك؟ فقال: ما رهقني عدوّ ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهري نور محمد صلّى الله عليه وسلّم فلذلك تغيّر لوني وضعف ركني. قال: أفمن بنات إسحاق؟ قال: لا في العربية الجرهمية وهي الغاضرة، قال يعقوب: بخ بخ بشّرها بمحمد، لم يكن الله عزّ وجلّ ليخزنه إلّا في العربيات الطاهرات، يا قيذار وأنا مبشّرك ببشارة قال: وما هي؟ قال: اعلم أنّ الغاضرة قد ولدت لك البارحة غلاما، قال قيذار:
وما علمك يا ابن عمي وأنت بأرض الشام وهي بأرض الجرهم؟ قال يعقوب: علمت ذلك لأني رأيت أبواب السماء قد فتحت، ورأيت نورا كالقمر الممدود من السماء والأرض، ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة، فعلمت أن ذلك من أجل محمد صلّى الله عليه وسلّم. فسلّم قيذار التابوت إلى يعقوب ورجع إلى أهله فوجدها قد ولدت غلاما فسمّاه [حمد] ، وفيه نور محمد عليه السّلام. قالوا: وكان التابوت في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى وكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثم تداولته أنبياء بني إسرائيل إلى وقت إشمويل فوصل إلى إشمويل وقد تكامل أمر التابوت بما فيه، وكان فيه ما ذكر الله. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ واختلفوا في السكينة ما هي؟ فقال علي عليه السّلام: السكينة ريح خجوج حفّافة لها رأسان ووجه كوجه الإنسان. مجاهد: لها رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة وجناحان. ابن إسحاق عن وهب عن بعض علماء بني إسرائيل: السكينة هرّة ميّتة كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح «1» . السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس: هي طست من ذهب من الجنة كان يغسل فيها قلوب الأنبياء. بكّار بن عبد الله عن وهب بن منبه: روح من الله عزّ وجلّ يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلّم فأخبرهم ببيان ما يريدون. عطاء بن أبي رياح: هي ما تعرفون من الآيات فتسكنون إليها. قتادة والكلبي: فعيلة من السكون أي طمأنينة من ربكم وفي أيّ مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا. الربيع: رحمة من ربّكم. وَبَقِيَّةٌ وهي الباقي، فعلية من البقاء والهاء فيه للمبالغة مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ يعني موسى وهارون نفسهما. قال جميل: بثينة من آل النساء وإنما ... يكنّ لأدنى لا وصال الغائب أي من النساء، والآل الشخص أيضا، وأصله أهل بدّلت الهاء همزة، فإذا صغّروا الآل قالوا: أهيل ردّوه إلى الأصل. قال المفسرون: كان فيه عصا موسى ورضاض الألواح أي كسره، وذلك أن موسى لمّا ألقى الألواح انكسرت فرفع بعضها وجمع ما بقي فجعله في التابوت وكان فيه أيضا لوحان من التوراة وقفيز من المنّ الذي كان ينزل عليهم، ونعلا موسى وعمامة هارون وعصاه، وقالوا: وكان عند بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم، فإذا حضروا القتال
قدّموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوّهم فلمّا عصوا وفسدوا سلّط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه. وكان السبب في ذلك أنّه كان لعيلي الذي ربي إشمويل ابنان شابان وكان عيلي خيرهم وصاحب قربانهم ما حدّث ابناه في القربان شيئا لم يكن فيه كان في مشوط القربان الذي كانوا يشوطونه به [كلاليب] فما ما كان عليهما كان للكاهن الذي يشوطه فجعل ابناه كلاليب. وكان النساء يصلين في المقدس فجعلا يتشبثان بهنّ أيضا فأوحى الله عزّ وجلّ إلى إشمويل انطلق إلى عيلي فقل له: منعك حب الولدان زجر ابنيك أن يحدثا في قرباني وقدسي وأن يعصياني فلأنزعن منك الكهانة ومن ولدك، ولأهلكنّه وإياهما. فأخبر إشمويل عيلي بذلك ففزع فزعا شديدا فسار إليهم عدوّ ممن حولهم، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس ويقاتلا ذلك العدو فخرجا، وأخرجا معهما التابوت، فلمّا تهيّأوا للقتال جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل وهو قاعد على كرسيّه أنّ الناس قد هزموا وأن ابنيك قد قتلا، قال: فما فعل بالتابوت، قال: قد ذهب به العدو فشهق ووقع على قفاه من كرسيّه ومات، فمرج أمر بني إسرائيل واختلّ وتفرّقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكا، فسألوا البيّنة، وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ «1» . وكان قصة إتيان التابوت أنّ الذين سبوا التابوت أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود، وجعلوه في بيت صنم لهم، وضعوه تحت الصنم الأعظم، وأصبحوا من الغد والصنم تحته فأخذوه ووضعوه فوقه وشدّدوا قدمي الصنم على التابوت، وأصبحوا من الغد وقد قطّعت يدا الصنم ورجلاه، وأصبح يلقى تحت التابوت، وأصبحت أصنامهم كلّها منكّسة فأخرجوه من بيت الصنم ووضعوه في ناحية من مدينتهم، فأخذ أهل تلك الناحية وجع في أعناقهم حتّى هلك أكثرهم. فقال بعضهم لبعض: أليس قد علّمتكم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء فأخرجوه من مدينتكم، فأخرجوه إلى قرية أخرى فبعث الله عزّ وجلّ على أهل تلك القرية فأرا [تقرص] الفأرة الرجل فيصبح ميّتا قد أكلت ما في جوفه من دبره، وأخرجوه منه إلى الصحراء ودفنوه في مخرأة لهم فكان كل من تبرّز هناك أخذه الناسور والقولنج فبقوا في ذلك فتحيروا فقالت لهم امرأة كانت عندهم من سبي بني إسرائيل من أولاد الأنبياء: لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم «2» فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت، ثم علّقوها على ثورين وضربوا جنوبهما فأقبل الثوران يسيران، ووكّل الله عزّ وجلّ بها أربعة من
[سورة البقرة (2) : الآيات 249 إلى 252]
الملائكة يسوقونها، فلم يمسّ التابوت بشيء من الأرض إلّا كان مقدّسا، فأقبلا حتّى وقفا على أرض بني إسرائيل فكسرا بقرنهما وطفقا جناحهما، ووضعوا التابوت في أرض فيها حصاد لبني إسرائيل ورجعا إلى أرضهما، فلم تدع بنو إسرائيل إلّا بالتابوت فكبّروا وحمدوا الله عزّ وجلّ واستوسقوا على طالوت فذلك قوله: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ أي تسوقه «1» . وقال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتّى وضعته عند طالوت. وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش (يحمله الملائكة) بالياء. وقال قتادة: بل كان التابوت في التيه جعله موسى عند يوشع بن نون فبقي هنالك فحملته الملائكة حتّى وضعته في دار طالوت فأقرّوا بملكه. وقال ابن زيد: غير راضين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لعبرة لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: إنّ التابوت وعصا موسى في الجيزة الطبريّة وأنّهما يخرجان قبل يوم القيامة. [سورة البقرة (2) : الآيات 249 الى 252] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي خرج [ورحل] بهم، وأصل الفصل: القطع فمعنى قوله فَصَلَ أي قطع مستقر فتجاوزه شاخصا إلى غيره نظير قوله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ «2» . فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل. وقيل: ثمانون ألفا لم يتخلّف عنه إلّا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو ضرير لضرره أو معذور لعذره «3» . وذلك أنّهم لما رأوا التابوت قالوا: قد أتانا التابوت وهو النور لا شك فيه، فتسارعوا إلى الجهاد.
فقال طالوت: لا حاجة لي في كلّ ما أرى. لا يخرج معي رجل بني بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج بامرأة لم يدن لها ولا أبتغي إلّا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع ثمانون ألفا ممن شرطه وكان في حرّ شديد فشكوا قلّة المياه بينهم وبين عدوهم، وقالوا: إنّ المياه لا تحملنا فادع الله تعالى أن يجري لنا نهرا. ف قالَ طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ مختبركم ليرى طاعتكم وهو أعلم بِنَهَرٍ قرأه العامّة بفتح الهاء، وقرأ حميد وابن محصن بِنَهْرٍ ساكنة الهاء، وهما لغتان مثل شعر وشعر وصخر وصخر وصمغ وصمغ وسمع وسمع وفحم وفحم. قال ابن عباس والسدي: هو نهر فلسطين. قتادة والربيع: نهر بين الأردن وفلسطين عذب. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أهل ديني وطاعتي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يشربه فَإِنَّهُ مِنِّي نظير قوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا «1» ثم استثنى فقال: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قرأ ابن عباس، وابن أبي إسحاق، وسليمان التيمي، وابن أبي الجوزاء، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وأبو مخرمة، وأبو عمرو، وأيوب: غَرْفَةً بفتح الغين وقرأ الباقون بضمّه وهو قراءة عثمان وهما لغتان. وقال الكسائي وأبو عبيدة: الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف. والغرفة: الاغتراف، فالضم اسم والفتح مصدر. وقال أبو حاتم: الغرفة بالضم ملء الكف أو ملء المغرفة، والغرفة: المرّة الواحدة من القليل والكثير. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ نصب على الاستثناء. وقرأ ابن مسعود قليل بالرفع كقول الشاعر: وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان وكلّ قرينة قرنت بأخرى ... وإن ضنّت بها سيفرّقان «2» واختلفوا في القليل الذي لم يشربوا، فقال السدي: كانوا أربعة آلاف، وقال غيره: ثلاث مائة وبضعة عشر وهو الصحيح، يدلّ عليه قول البراء بن عازب قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: «أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاء معه إلّا مؤمن» «3» [181]
صفة قتل داود جالوت
قال: وكنّا يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. قالوا: فمن اغْتَرَفَ غُرْفَةً كما أمر الله سبحانه، قوي قلبه وصحّ إيمانه وعبر النهر سالما وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وحمله ودوابه، والذين شربوا وخالفوا أمر الله، سوّدت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ولم يشهدوا الفتح. فَلَمَّا جاوَزَهُ يعني النهر هُوَ يعني طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعني القليل قالُوا الذين شربوا وخالفوا أمر الله عزّ وجلّ وكانوا أهل شك ونفاق لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وانصرفوا عن طالوت ولم يشهدوا قتال جالوت. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ يوقنون ويعلمون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ وهم الذين ثبتوا مع طالوت كَمْ وقرأ أبيّ: كائن مِنْ فِئَةٍ جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه، وجمعها فئات وفئون في الرفع، وفئين في النصب والخفض قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ معينهم وناصرهم. قال الزجّاج: إنّما قيل للفرقة فئة من فأوت رأسه بالعصا وفائته إذا شققته كأنّها قطعة. وَلَمَّا بَرَزُوا يعني طالوت وجنوده المؤمنين لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ المشركين ومعنى بَرَزُوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى قالُوا وهم أهل البصيرة والطاعة رَبَّنا أَفْرِغْ أنزل وأصبب عَلَيْنا صَبْراً كما يفرغ الدلو وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وقوّ قلوبنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وفي الآية إضمار تقديرها: فأنزل الله عليهم صبرا ونصرا فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ. صفة قتل داود جالوت قال المفسّرون بألفاظ متشابهة ومعان متّفقة: عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيضا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا وكان داود أصغرهم، فأتاهم ذات يوم فقال: يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلّا صرعته فقال: أبشر فإنّ الله جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرّة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته وأخذت بأذنيه ولم يهمّني، فقال: أبشر يا بني فإنّ هذا خير أعطاكه الله. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إنّي لأمشي بين الجبال فاسبّح فما يبقى جبل إلّا يسبّح معي، فقال: أبشر يا بني فإنّ هذا خير أعطاكه الله. قالوا: فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز اليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم، فشقّ ذلك على طالوت فنادى في عسكره من يقتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فخاف الناس جالوت فلم يجبه أحد.
فسأل طالوت نبيّهم اشمويل ان يدعوا الله، فدعا الله عزّ وجلّ في ذلك، فأتى بقرن فيه دهن، وتنور من حديد، فقيل: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتّى يدهن رأسه منه ولا يسيل على وجهه يكون على رأسه كهيئة إلّا كليل، ويدخل في هذا التنور فيملؤه لا يتقلقل فيه، فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد. فأوصى الله تعالى إلى نبيهم إنّ في ولد أيشا من يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت أيشا وقال: أعرض عليّ نبيك، فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا فيقول لرجل منهم: بادع عليهم جسم ارجع فيردد عليه فأوحى الله تعالى إليه إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ولكنّا نأخذ على صلاح قلوبهم، فقال لأيشا: هل بقي لك ولد غيرهم؟ قال: لا. فقال النبي عليه السّلام: يا ربّ إنّه زعم أنّ لا ولد له غيرهم، فقال: كذب. فقال النبيّ: إنّ ربّي كذّبك، فقال: صدق الله يا نبي الله إنّ لي ابنا صغيرا يقال له: داود، استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلّفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا، وكان داود عليه السّلام رجلا قصيرا مسقاطا مصفارا أزرق أمعد. فدعاه طالوت، ويقال: بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزرب التي يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين يجيزهما السيل ولا يخوض بهما الماء، فلما رآه النبيّ عليه السّلام قال: هذا هو لا شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم، فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض «1» . فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي؟ قال: نعم. قال: وهل أنست من نفسك شيئا تقوى به على قتله؟ قال: نعم، أنا أرعى فيجيء الأسد والنمر والذئب فيأخذ شاة وأقوم له وأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه. فردّه إلى عسكره، فمرّ داود بحجر فناده: يا داود احملني فإنّي حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا، فحمله في مخلاته. ثم مرّ بحجر آخر فناده: يا داود احملني فإنّي حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا، فحمله
في مخلاته. فمرّ بحجر آخر فقال: احملني فإنّي حجرك الذي تقتل بي جالوت، وقد خبأني الله لك، فوضعها في مخلاته. فلما تصافوا القتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب له داود فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا، فلبس السلاح وركب الفرس، فسار قريبا ثم انصرف فرجع إلى الملك، فقال من حوله: جبن الغلام فجاء فوقف على الملك، فقال: ما شأنك؟ فقال: إنّ الله إن لم ينصرني لا يغني عني السلاح شيئا فدعني أقاتل كما أريد. قال: نعم، فأخذ داود مخلاته فتقلّدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاث مائة من حديد، فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه فقال له: أنت تبرز لي؟ قال: نعم. وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام. قال: فأتيتني بالمقلاع والحجر كما تؤتى الكلاب؟ قال: نعم، لأنت شرّ من الكلب. قال: لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء. قال داود: أو يقسم الله لحمك. ثم قال داود: باسم إله إبراهيم وأخرج حجرا، ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصار كلّها حجرا واحدا، ودوّر المقلاع ورماه به فسخّر الله الريح حتّى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه فخرج من قفاه وقتل من وراءه ثلاثين رجلا، وهزم الله سبحانه الجيش وخرّ جالوت قتيلا فأخذه فجرّه حتّى ألقاه بين يدي طالوت. ففرح المسلمون فرحا شديدا وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت، وقال: أنجز لي ما وعدتني وأعطني امرأتي، فقال له: أتريد ابنة الملك بغير صداق. قال داود: ما شرطت عليّ صداقا وليس لي شيء. قال: لا أكلّفك إلّا ما تطيق، أنت رجل حربي وفي جبالنا أعداء لنا غلف، فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوّجتك ابنتي، فأتاهم فجعل كلّما قتل منهم رجلا نظم غلفته في
خيطه حتّى نظم غلفهم فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال: ادفع إلى امرأتي، فزوّجه أبنته وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا ذكره، فوجد طالوت من ذلك وحسده فأراد قتله، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له ذو المغنيين، فقالت لداود: إنّك لمقتول الليلة. قال: ومن يقتلني؟ قالت: أبي. قال: وهل جزمت جزما؟ قالت: حدّثني من لا يكذب ولا عليك لن تفوت الليلة حتّى تنظر مصداق ذلك. فقال: لئن كان أراد ذلك ما أستطيع خروجا ولكن ائتيني بزق من خمر، فأتته، فوضعه في مضجعه على السرير. وسجّاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل وأراد أن يقتل داود فقال لها: أين بعلك؟ فقالت: هو نائم على السرير، فضربه ضربة بالسيف فسال الخمر، فلما وجد ريح الشراب قال: يرحم الله داود ما أكثر شربه الخمر وخرج، فلما أصبح علم أنّه لم يفعل شيئا فقال: إن رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتّى يدرك منّي ثأره، فشدّد حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه أبوابه. ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله تعالى الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج. فلما استيقظ طالوت أبصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله داود فهو خير منّي، ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكفّ عنّي، ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي. وما أنا بالذي آمنه. فلما كانت المقابلة أتاه ثانيا فأعمى الله الحجّاب فدخل عليه وهو نائم وأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه ثم خرج وهرب وتوارى. فلما أصبح طالوت ورأى ذلك، سلّط على داود العيون وطلبه أشدّ الطلب فلم يقدر عليه، ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البريّة، فقال طالوت: اليوم أقتل داود أنا راكب وهو ماش، وكان داود إذا فزع لم يدرك فركض طالوت على أثره، فاشتدّ داود فدخل غارا فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتا.
فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت، قال: لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى، وانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبّدين فتعبّد فيه. وطعن العلماء والعبّاد في طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلّا قتله وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل فيطيق قتله إلّا قتله ولم يكن يحارب جيشا إلّا هزم، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم فأمر جبّارا بقتلها فرحمها الجبّار فقال: لعلّنا نحتاج إلى عالم فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتّى رحمه. فكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي: أنشد الله عبدا يعلم أن لي توبة إلّا أخبرني بها. فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتّى تؤذينا أمواتا، فازداد بكاء وحزنا، فرحمه الجبّار فكلّمه فقال: مالك أيّها الملك؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله هل لي من توبة؟ فقال الجبّار: هل تدري ما مثلك؟ إنّما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك فتطيّر منه، فقال: لا تتركوا في القرية ديكا إلّا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قال لأصحابه، إذا صاح الديك فأيقضونا حتى ندلج. فقالوا: هل تركت ديكا نسمع صوته. ولكن هل تركت عالما في الأرض، فازداد حزنا وبكاء. فلما رأى الجبّار ذلك قال: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلّك أن تقتله. قال: لا. فتوثّق عليه الجبّار فأخبره أن المرأة العالمة عنده قال: انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكان إنّما يعلم ذلك الاسم أهل بيت إذا فنيت رجالهم علمت نساءهم. فلما بلغ طالوت الباب قال الجبّار: أيّها الملك إنّها إن رأتك فزعت، فخلّفه خلفه ثم دخل عليها فقال لها: ألست أعظم الناس عليك منّة أن نجّيتك من القتل وآويتك عندي؟ قالت: بلى. قال: فإنّ لي إليك حاجة: هذا طالوت يسأل هل له من توبة، فغشي عليها من الخوف. فقال لها: إنّه لا يريد قتلك ولكن يسألك هل له من توبة؟
فقالت: والله لا أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟ فانطلق بها إلى قبر أشمويل، فصلّت ودعت ثم نادت صاحب القبر، فخرج أشمويل من القبر فنفض من رأسه التراب، فلما نظر إليهم ثلاثتهم: المرأة وطالوت والجبّار، قال: ما لكم أقامت القيامة؟ قالا: لا، ولكن طالوت يسألك هل له من توبة؟ قال: أشمويل: يا طالوت ما فعلت بعدي؟ قال: لم أدع من الشرّ شيئا إلّا فعلته وجئت أطلب التوبة. قال: كم لك من الولد؟ قال: عشرة رجال. قال: ما أعلم لك توبة إلّا أن تتخلّى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ثم تقدّم ولدك حتّى [يقتلوا] «1» بين يديك ثم تقاتل أنت حتّى تقتل آخرهم، ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميّتا. ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة إن لا يتابعه ولده، وقد بكى حتّى سقط أشفار عينيه ونحل جسمه، فدخل أولاده عليه، فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني؟ قالوا: بلى، نفديك بما قدرنا عليه. قال: فإنّها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم، قالوا: فاعرض علينا، فذكر لهم القصّة، قالوا: وإنّك لمقتول؟ قال: نعم. قالوا: فلا خير لنا في الحياة فقد طابت أنفسنا بالذي سألت. فتجهّز بماله وولده، فقدّم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا حتّى قتلوا بين يديه ثم شدّ هو بعدهم حتّى قتل، فجاء قاتله إلى داود النبيّ عليه السّلام ليبشّره وقال: قد قتلت عدوّك. فقال: ما كنت بالذي تحيا بعده فضرب عنقه، وأتى بنو إسرائيل بداود فأعطوه خزائن طالوت وملّكوه على أنفسهم. وكان ملك طالوت من أوّله إلى أن قتل في الغزو مع ولده أربعين سنة. قال الضحاك والكلبي: ملك داود بعد جالوت تسعا وستين سنة.
ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلّا على داود، فذلك قوله وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وهو داود بن أيشا بن سوئل بن ناغر بن سلمون بن يخشون بن عمّي ابن يا رب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهود بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السّلام، وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ يعني النبوّة. وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ فقال الكلبي وغيره: يعني صنعة الدروع، والتقدير: في السر وكان يصنعها ويبيعها حتّى جمع من ذلك مالا، وكان لا يأكل إلّا من عمل يديه دليله قوله: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ «1» وقيل: منطق الطير وكلام النحل والنمل، وقيل: الزبور، وقيل: الصوت الطيّب والألحان، ولم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور يدنوا الوحوش حتّى تؤخذ بأعناقها وتظلّه الطيور مصيخة له. ويركد الماء الجاري ويسكن الريح، وما صنعت المزامير والبرابط والصنوج إلّا على صوته. الضحاك عن ابن عباس قال: إنّ الله سبحانه أعطاه سلسلة موصولة بالمجرّة والفلك ورأسها عند صومعة داود عليه السّلام وكان قوّتها قوّة الحديد ولونها لون النار وحلقها مستدير مفصّلة بالجواهر مدسّرة بقضبان اللؤلؤ الرطب، فلا يحدّث في الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة فعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسّها ذو عاهة إلّا برء، وكان علامة دخول قومه في الدين أن يمسّوها بأيديهم ثمّ يمسحون أكفّهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت، وكانوا يأتونها فمن تعدّى على صاحبه وأنكر له حقّا أتى السلسلة، فمن كان صادقا محقّا مدّ يده إلى السلسلة فنالتها ومن كان كاذبا ظالما لم ينلها، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة. فبلغنا أن بعض ملوكها أودع رجلا جوهرة ثمينة، فلما استردّها منه أنكر فتحاكما إلى السلسلة، فعلم الذي كانت الجوهرة عنده أنّ يده لا تنال السلسلة، فعمد إلى عكازه فنقرها ثم ضمّنها الجوهرة وأعتمد عليها حتّى حضروا السلسلة. فقال صاحب الجوهرة: ردّ إلىّ الوديعة. فقال صاحبه: ما أعلم لك عندي وديعة، فإنّ كنت صادقا فتناول السلسلة فتناولها بيده، فقيل للمنكر أيضا: قم أنت أيضا فتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكازتي «2» هذه فاحفظها حتّى أتناول السلسلة، فأخذها وقال الرجل: اللهمّ إنّ كنت تعلم إنّ هذه الوديعة يدعيها عليّ قد وصلت إليه فقرّب السلسلة، فمدّ يده فتناولها، فتعجّب القوم وشكّوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة.
وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب (دفاع الله) بالألف هاهنا وفي سورة الحجّ واختاره أبو حاتم، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما وأختاره أبو عبيد قال: لأنّ الله تعالى لا يغالبه أحد وهو الدافع وحده، وقال أبو حاتم: وقد يكون الفعال من واحد مثل قول العرب: أحسن الله عنك الدفاع، وعافاك الله، وعاقبه الله، وناول شيئا. ابن عباس ومجاهد: لولا دفع الله بجنود المسلمين وسراياهم ومرابطيهم لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخرّبوا البلاد والمساجد. وقال سائر المفسّرين: لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفّار والفجّار لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لهلكت بمن فيها. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يدفع الله العذاب بمن يصلّي، عمّن لا يصلّي، وبمن يزكّي عمّن لا يزكّي، وبمن يصوم عمّن لا يصوم، وبمن يحجّ عمّن لا يحج، وبمن يجاهد عمّن لا يجاهد. ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما ناظرهم الله طرفة عين» . ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية [182] «1» . وروى مالك بن عبيد عن أبيه عن جدّه إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لولا عباد لله ركع وصبية رضّع، وبهائم رتّع، لصبّ عليكم العذاب صبّا ثم لترضن رضا» «2» . قال الثعلبي وأنشدني لنفسه: لولا عباد للاله ركع ... وصبية من اليتامى رضّع ومهملات في الفلاة رتّع ... صبّ عليكم العذاب الأوجع «3» وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله سبحانه ليصلح بصلاح الرجل «4» ولده وولده ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم» [183] «5» . وقال قتادة: يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن. [ ... ] «6» بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله ليدفع بالمسلم
[سورة البقرة (2) : الآيات 253 إلى 254]
الصالح عن مائة من أهل بيت من جيرانه البلاء» [184] «1» ، ثم قرأ ابن عمر: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي كلام الله. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. [سورة البقرة (2) : الآيات 253 الى 254] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، قال الأخفش: أي كلّمه الله لقوله: فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ «2» وزان ما تَشْتَهِيهِ «3» . وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ الربيع بن الهيثم قال: لا أفضّل على نبيّنا أحدا ولا أفضّل بعده على إبراهيم أحدا. وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد الرسل مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا في الدين فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ثبت على إيمانه وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فتهوّد وتنصّر وكانوا يعقوبيّة ونسطوريّة وملكائيّة ثم تحاربوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فيوفّق من يشاء عدلا ويخذل من يشاء عدلا. وعن الحرث الأعور قال: قام رجل إلى عليّ (رضي الله عنه) فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: طريق مظلم لا تسلكه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: بحر عميق لا تلجه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: سرّ الله قد خفي عليك فلا تفشه، قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال عليّ عليه السّلام: أيّها السائل إن الله خلقك كما شاء أو كما شئت؟. فقال: كما شاء.
قال: فيبعثك يوم القيامة كما شاء أو كما شئت؟. قال: كما شاء. قال: أيّها السائل ألك مع الله مشيئة أو فوق الله مشيئة أو دون الله مشيئة؟ فإن زعمت أن لك دون الله مشيئة فقد اكتفيت عن مشيئة الله، وإن زعمت أنّ لك فوق الله مشيئة فقد زعمت أن مشيئتك غالبة على مشيئة الله، وإن زعمت أن لك مع الله مشيئة فقد ادعيت الشركة، ألست تسأل ربّك العافية؟ قال: بلى. قال: فمن أي شيء تسأله، أمن البلاء الذي ابتلاك به، أم من البلاء الذي ابتلاك به غيره؟. قال: من البلاء الذي ابتلاني به. قال: ألست تقول: لا حول ولا قوّة إلّا بالله؟ قال: بلى. قال: فتعلّم تفسيرها؟ قال: لا، علّمني يا أمير المؤمنين مما علمك الله. قال: تفسيرها: أن العبد لا يقدر على طاعة الله ولا يكون له قوّة على معصية الله في الأمرين جميعا إلّا بالله، أيّها السائل إن الله عزّ وجلّ [يصح ويداوي، منه الداء ومنه الدواء] أعقلت عن الله أمره. قال: نعم. قال علي (رضي الله عنه) : الآن أسلم أخوكم قوموا فصافحوه. ثم قال: لو وجدت رجلا من القدرية لأخذت برقبته فلا أزال أطأ عنقه حتّى أكسرها فإنّهم يهود هذه الأمّة ونصاراها ومجوسها «1» . وقال المزني: سمعت الشافعي يقول: وما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن «2» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ يعني صدقة التطوّع والنفقة في الخير
[سورة البقرة (2) : الآيات 255 إلى 257]
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ [ ... ] «1» وَلا خُلَّةٌ ولا صداقة وَلا شَفاعَةٌ إلّا بإذن الله، قرأها كلّها بالنصب ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وقرأ الباقون كلّها بالرفع والتنوين، وكلا الوجهين سائغ في [العربيّة] «2» . وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنّهم وضعوا العبادة في غير موضعها. [سورة البقرة (2) : الآيات 255 الى 257] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الآية. عن أبيّ بن كعب قال: سألني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا المنذر أي آية في كتاب الله عزّ وجلّ أعظم» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قالها ثلاثا ثم سألني، فقلت: الله ورسوله أعلم، ثم سألني فقلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فضرب في صدري ثم قال: «هنيئا لك العلم يا أبا المنذر والذي نفسي بيده إنّ لها لسانا تقدّس الملك عند ساق العرش» [185] «3» . عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ آية الكرسي دبر كلّ صلاة مكتوبة كأن الذي يتولّى قبض نفسه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتّى استشهد» «4» . روى إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكّل الناجي إنّ أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر، فذهب يوما وفتح الباب فإذا التمر قد أخذ منه ملء كفّ، ثم دخل يوما آخر وقد أخذ منه ذلك، ثم دخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه مثل ذلك، قال: فذكر ذلك أبو هريرة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أيسرّك أن تأخذه» ؟
قال: نعم. قال: «فإذا فتحت الباب فقل سبحان من سخّرك لمحمد صلّى الله عليه وسلّم» . قال: فذهب ففتح الباب فقال: سبحان من سخّرك لمحمد، فإذا هو قائم بين يديه فقال له: يا عدو الله أنت صاحب هذا؟ قال: نعم، وقال لي: لا أعود، ما كنت آخذه منك إلّا لأهل بيت فقراء من الجن، ثم عاد فذكره للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «أيسرّك أن تأخذه» قال: نعم، قال: «فإذا فتحت فقل مثل ذلك أيضا» ، ففتح الباب فقال: سبحان من سخّرك لمحمد، فإذا هو قائم بين يديه، فقال له: يا عدو الله أليس زعمت أنّك لا تعود؟ قال: دعني هذه المرّة فإنّي لا أعود. فأخذه الثالثة فقال له: أليس عاهدتني أن لا تعود، اليوم لا أدعك حتّى أذهب بك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: لا تفعل فإنّك إنّ تدعني علّمتك كلمة إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى. قال له: لتفعلن؟ قال: نعم، قال: فما هي؟ قال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، حتّى ختمها، فتركه فذهب فلم يعد، فذكر ذلك أبو هريرة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما علمت يا أبا هريرة أنّه كذلك» [186] «1» . عن جعفر بن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السّلام عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عليّ آية نزلت من كنوز العرش خرّ كلّ صنم يعبد في المشرق والمغرب على وجهه» وفزع إبليس. وقال: يحدث في هذه الليلة حدث كبير فانظروني أضرب لكم مشارق الأرض ومغاربها، فأتى يثرب فاستقبله رجل [فتراءى] له إبليس في صورة شيخ. قال: يا عبد الله هل حدث هذه الليلة أو في هذا اليوم شيء؟ قال: نعم، أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه نزلت عليه آية أصبح كلّ صنم خارا على وجهه، فانصرف إبليس إلى أصحابه وقال: حدث بيثرب أعظم الحدث [فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت] «2» ، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما قرأت هذه الآية في دار إلّا هجره الشيطان ثلاثة أيام أو قال ثلاثين يوما ولا يدخله ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة. يا علي علّم ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها» [187] «3» . وعن عطيّة العوفي عن علي رضي الله عنه قال سمعت نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم على أعواد المنبر وهو
يقول: «من قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلّا الموت ولا يواظب عليها إلّا صدّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله» [188] «1» . عن أنس وعن جابر رفعا الحديث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران من دوام على قراءة آية الكرسي دبر كلّ صلاة أعطيته قلوب الشاكرين وأجر النبيين وأعمال الصدّيقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم أمنعه أن أدخله الجنّة إلّا أن يأتيه الموت. قال موسى: إلهي ومن يداوم عليها؟ قال: لا يداوم عليها إلّا نبي أو صدّيق أو رجل قد رضيت عنه أو رجل أريد قتله في سبيلي» . محمد بن كعب الفرضي عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من خرج من منزله فقرأ آية الكرسي بعث الله إليه سبعين ألفا من الملائكة يستغفرون له ويدعون له، فإذا رجع إلى منزله ودخل بيته فقرأ آية الكرسي نزع الله الفقر من بين عينيه» . نافع عن ابن عمر قال: بينا عمر بن الخطاب جالس في مسجد المدينة في جماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم يتذاكرون فضائل القرآن إذ قال قائل منهم: خاتمة براءة، وقال قائل: خاتمة بني إسرائيل، وقال قائل: كهيعص [وقال قائل: طه] فقدّم القوم وأخروا، فقال عليّ عليه السّلام: وأين أنتم يا أصحاب محمد عن آية الكرسي؟ فقالوا له: أخبرنا يا أبا الحسن ما سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول؟ فقال عليّ (رضي الله عنه) : قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يا علي سيّد النبيين آدم، وسيّد العرب محمد ولا فخر، وسيّد الفرس سلمان، وسيّد الروم صهيب، وسيّد الحبشة بلال، وسيّد الجبال الطور، وسيّد الشجر السدر، وسيّد الشهور الأشهر الحرم، وسيّد الأيام يوم الجمعة، وسيّد الكلام القرآن، وسيّد القرآن البقرة، وسيّد البقرة آية الكرسي. يا علي إنّ فيها لخمسين كلمة في كل كلمة خمسون بركة» «2» . عمر بن أبي المقدام قال سمعت أبا جعفر الباقر يقول: «من قرأ آية الكرسي مرّة صرف عنه ألف مكروه من مكروه الدنيا وألف مكروه من مكروه الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر» . قوله تعالى اللَّهُ إلها، رفع بالابتداء وخبره في لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وقيل: هو رفع بالإيجاب والتحقيق كقوله عزّ وجلّ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ «1» . والْحَيُّ من له الحياة، وهي الصفة التي يكون الموصوف بها حيّا مخالفا للجمادات والأموات وهو على وزن فعل مثل الحذر والطمع، فسكنت الياء وأدغمت. والْقَيُّومُ فيعول من القيام وفيه ثلاث لغات: القيام وهي قراءة عمر بن مسعود والنخعي والأعمش، والقيّم وهي قراءة علقمة، والْقَيُّومُ وهي قراءة الباقين، وكلّها لغات بمعنى واحد، والأصل: قيوم وقيوام وقيّوم كما يقال: ما في الدار ديّور وديّار ودير. والْقَيُّومُ: المبالغ في القيام على خلقه. قال مجاهد: الْقَيُّومُ: القائم على كلّ شيء، سعيد بن جبير: الذي لا نرى له، الضحاك: الدائم، أبو روق: الذي لا يلي، الربيع: القيّم على كلّ شيء يحفظه ويرزقه، الكلبي: القائم عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، أبو عبيد: الذي لا يزول. قال أحية: لم يخلق السماء والنجوم والشمس معها قمر يقوم قدره المهيمن القيّوم والحشر والجنّة والجحيم إلّا لأمر شأنه عظيم «2» . قتادة عن أنس إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يدعوا: يا حيّ يا قيّوم ، وكان ابن عباس يقول: أعظم أسماء الله عزّ وجلّ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وهو دائما أهل الخير. يدلّ عليه ما روى القاسم عن أبي إمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «إنّ اسم الله الأعظم لفي سور من القرآن ثلاث: البقرة وآل عمران وطه» «3» . قال بعضهم: فنظرت في هذه السور الثلاث فرأيت فيها اسما ليس في شيء من القرآن: في آية الكرسي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. وفي آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ «4» . وفي طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ «5» . لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ، قال المفسّرون: السّنة: النعاس، وهو النوم الخفيف وهو ريح تجيء من قبل الرأس لينة فتغشي العين، ورجل وسنان إذا كان بين النائم واليقظان يقال له: وسن يوسن وسنا وسنة فهو وسنان. قال ابن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت «1» ... في عينه سنة وليس بنائم وَلا نَوْمٌ والنوم هو المستثقل المزيل للقوّة والعقل، فنفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنّه آفة ولا يجوز عليه الآفات ولأنّه تغيّر ولا يجوز عليه تغيّر الأحوال، ولأنّه قهر والله تعالى قاهر غير مقهور، ولأنّه للاستراحة ولا يناله تعب فيسترح ولأنّه أخ الموت. محمد بن المنكدر عن جابر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أينام أهل الجنّة؟ قال: لا: «النوم أخ الموت ولا يموت أهل الجنّة» «2» ولأنّه لو نام العقل ولو غفل لاختلّ ملكه وتدبيره. أبو عبيدة عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخمس «3» كلمات فقال: «إنّ الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ولكنّه يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» «4» . عكرمة عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحكي عن موسى عليه السّلام على المنبر قال: «وقع في نفس موسى هل ينام الله عزّ وجلّ، فأرسل الله إليه ملكا [فأرّقه «5» ثلاثا ثم] أعطاه قارورتين في كلّ يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما، قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ويحبس أحدهما عن الأخرى حتّى نام نومه واصطكت يداه فانكسرت القارورتان» «6» . قال: ضرب الله تعالى مثلا أن الله سبحانه لو نام لم يستمسك السماء والأرض. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بأمره، قال أهل الإشارة: في هذه الآية جذب بها قلوب عباده إليه عاجلا وآجلا فسبحان من لا وسيلة إليه. الآية: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قال مجاهد وعطاء والحكم والسدي: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا وَما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة. الضحاك والكلبي: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني الآخرة لأنّه يقدمون عليها وَما خَلْفَهُمْ الدنيا لأنّهم يخلفونها ابن جريح: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني ما كان قبل خلق الملائكة وَما خَلْفَهُمْ وما يكون بعد خلقهم.
وقيل: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني ما فعلوه من خير وشرّ وَما خَلْفَهُمْ وأمامهم ما فعلوه. وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي علم الله إِلَّا بِما شاءَ أن يعلّمهم ويطلعهم عليه وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي ملأ وأحاط به، واختلفوا في الكرسي، فقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد: علمه، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كراسة. ومنه قول الراجز في صفة قانص: حتى إذا ما جاءه تكرّسا يعني: علم. ويقال للعلماء: الكراسيّ. قال الشاعر: يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين نتوب «1» وقال بعضهم: سلطانه وملكه وقدرته. والعرب تسمّي أصل كلّ شيء الكرسي. يقال: فلان كريم الكرسي أي الأصل. قال العجاج: قد علم القدوس مولى القدس ... أن أبا العباس أولى النفس بمعدن الملك الكريم الكرسي «2» قال الثعلبي: رأيت في بعض التفاسير كُرْسِيُّهُ: سرّه. وأنشدوا فيه: مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه ... وهل بكرسيّ علم الغيب مخلوق «3» وزعم محمد بن جرير الطبري أن الكرسي: الأجل، أي وسع [أجله] السماوات والأرض. وقال أبو موسى والسدّي وغيرهما: هو الكرسي بعينه، وهو لؤلؤ، وما السماوات السبع في الكرسي إلّا كدراهم سبعة ألقيت في ترس «4» .
وقال عليّ ومقاتل: كلّ قامة من الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع وهو بين يدي العرش، ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكلّ ملك أربعة وجوه أقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمس مائة عام: ملك على صورة سيّد البشر آدم عليه السّلام وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة، وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل من دون الله، وملك على صورة سيّد الأنعام وهو الثور وهو يسأل للأنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل من دون الله، وملك على صورة سيّد السباع وهو الأسد يسأل الرزق للسباع من السنة إلى السنة، وملك على صورة سيّد الطير وهو النسر يسال الله الرزق للطيور من السنة إلى السنة. أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أيّما آي أنزل عليك أعظم؟ قال: «آية الكرسي» . ثم قال: «يا أبا ذر ما السماوات السبع مع الكرسي إلّا كحلقة [من حديد] «1» ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة» «2» . وفي بعض الأخبار أن بين حملة العرش وبين حملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور، غلظ كلّ حجاب مسيرة خمس مائة عام، لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش. قال الحسن البصري: الكرسي هو العرش بعينه. وحكى الأستاذ أبو سعيد عبد الملك عن أبي عثمان الزاهد عن بعض المتقدّمين: أنّ الكرسي اسم ملك من الملائكة أضافه إلى نفسه تخصيصا وتفضيلا فنبّه به عباده على عظمته وقدرته. فقال: إن خلقا من خلقي [وسع] «3» السماوات والأرض فيكف تقدر قدرتي وتعرف عظمتي. والله أعلم. وَلا يَؤُدُهُ أي لا يثقله ولا يجهده ولا يشق عليه. قالت الخنساء: وحامل الثقل بالأعباء قد علموا ... إذا يؤود رجالا بعض ما حملوا وقيل: يَؤُدُهُ أي يسقطه من ثقله.
قال الشاعر: إليّ وما سحروا عداة منّا ... عند الحمار يؤودها العقل حِفْظُهُما حفظ السماوات والأرض وَهُوَ الْعَلِيُّ الرفيع فوق خلقه في التدبير والقوّة والقدرة لا بالمسافة والمكان والجهة الْعَظِيمُ فلا شيء أعظم منه. قال المفسّرون: سبب نزول هذه الآية أنّ الكفّار كانوا يعبدون الأصنام ويقولون هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ الآية. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يكنّى (أبو الحصين) وكان له ابنان فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت فلما أراد الرجوع إلى المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانيّة فتنصّرا وخرجا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اطلبهما، فانزل الله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أبعدهما الله فهما أوّل من كفر» فوجد أبو الحصين في نفسه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ «1» الآية. قال: وكان هذا قبل أن يؤمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتال أهل الكتاب ثم نسخ قوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة. وهكذا قال ابن مسعود وابن زيد: أنّها منسوخة بآية السيف، وقال الباقون: هي محكمة. سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مثقلا لا يعيش لها ولد ونذورا فتنذر لئن عاش لها ولد لتهوّدنّه، فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا، فسكت عنهم صلّى الله عليه وسلّم فنزلت: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. الآية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد خيّر أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فاجعلوهم معهم» . قال: وكان الفصل ما بين الأنصار واليهود إجلاء بني النضير فمن لحق بهم اختارهم ومن أقام اختار الإسلام. وقال المفسّرون: كان لرجل من الأنصار من بني سالم ابنان فتنصّرا قبل أن يبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام فأتاهما أبوهما فلزمهما وقال: لا أدعكما حتّى تسلما، فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ الآية، فخلّى سبيلهما «2» .
ابن أبي [حاتم] عن مجاهد قال: كان ناس مسترضعين في اليهود- قريظة والنظير- فلما أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإجلاء بني النضير فقال نسائهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولتذنبن بذنبهم فمنعهم أهلوهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت هذه الآية لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. قتادة والضحاك وعطاء وأبو روق والواقدي: معنى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ بعد إسلام العرب إذا قبلوا الجزية، وذلك أن العرب كانت أمّة أميّة لم يكن لهم دين ولا كتاب فلم يقبل عنهم إلّا الإسلام أو السيف وأكرهوا على الإسلام فلم يقبل منهم الجزية، ولما أسلموا ولم يبق أحد من العرب إلّا دخل في الإسلام طوعا أو كرها، أنزل الله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فأمر أن يقاتل أهل الكتاب والمجوس والصابئين على أن يسلموا أو أن يقرّوا بالجزية فمن أقرّ منهم بالجزية قبلت منه وخلّى سبيله ولم يكره على الإسلام. وقال مقاتل: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يقبل الجزية إلّا من أهل الكتاب، فلما أسلمت العرب طوعا أو كرها، قبل الخراج من غير أهل الكتاب فكتب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المنذر بن ساوي وأهل هجر يدعوهم إلى الإسلام: «إن من شهد شهادتنا وصلّى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا وكان بديننا فذلك المسلم الذي له ذمّة الله وذمّة رسوله، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ومن أبي الإسلام فعليه الجزية» . فكتب المنذر إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّي قرأت كتابك على أهل هجر فمنهم من أسلم ومنهم من أبى، فأمّا اليهود والمجوس فأقرّوا الجزية وكرهوا الإسلام فرضي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهم بالجزية، فقال منافقوا أهل المدينة: زعم محمد أنّه لم يؤمر بأخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب فما باله قبله من مجوس هجر وقد ردّ ذلك على آبائنا وإخواننا حتّى قتلهم، فشق ذلك على المسلمين، فذكروا ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ يعني بعد إسلام العرب. وروى شريك عن عبد الله بن أبي هلال عن وسق قال: كنت مملوكا لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكنت نصرانيّا وكان يقول: يا وسق أسلم فإنّك لو أسلمت لولّيتك بعض أعمال المسلمين فإنّه ليس يصلح أن يلي أمرهم من ليس على دينهم، فأبيت عليه فقال: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فلما مات أعتقني، وقال ابن أبي نجيح: سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني: يا جرير أسلم، ثم قال: هكذا كان يقال: [أم لا يكرهون] «1» .
وقال الزجاج وغيره: هو من قول العرب: أكرهت الرجل إذا نسبته إلى الكره كما يقال: أكفرته وأفسقته وأظلمته إذا نسبته إليها. قال الكميت: وطائفة قد أكفروني بحبّكم ... وطائفة قالوا مسيء ومذنب «1» ومعنى الآية: لا تقولوا لمن دخل بعد الحرب في الإسلام: أنّه دخل مكرها، ولا تنسبوا فمن دخل في الإسلام إلى الكره يدلّ عليه قوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً «2» . قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ قد ظهر الكفر من الإيمان والهدى من الضلالة والحق من الباطل، عن ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «من أطاع الله ورسوله فقد رشد» «3» . وعن مقاتل بن حسّان قال: زعم الضحاك أن الناس لما دخلوا في الإسلام طوعا أو كرها ولم يبق من عدو نبيّ الله من مشركي العرب أحد إلّا دخلوا في الإسلام طوعا أو كرها وأكمل الدين نزل: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ من شاء أسلم ومن شاء أعطى الجزية. وقرأ الحسن ومجاهد والأعرج الرَّشَدُ بفتح الراء والشين وهما لغتان كالحزن والحزن والبخل والبخل. وقرأ عيسى بن عمر: الرُّشُدُ بضمّتين. وقرأ الباقون بضم الراء وجزم الشين وهما لغتان كالرعب والرعب، والسحت والسحت. فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ يعني الشيطان، قاله ابن عمرو ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقيل: هو الصنم، وقيل: الكاهن، وقيل: هو كلّ ما عبد من دون الله. وقال أهل المعاني: الطاغوت: كلّ ما يغطي الإنسان، وهو فاعول من الطغيان زيدت التاء فيه بدلا من لام الفعل، كقوله: حانوت وتابوت. وقال أهل الإشارة: طاغوت كلّ امرئ نفسه بيانه قوله إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «4» الآية. وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ عن سعيد قال: الإيمان: التصديق، والتصديق أن يعمل العبد مما صدّق به من القرآن.
وعن ابن عباس قال: أخبر الله تعالى إنّ الإيمان هو العروة الوثقى ولا يقبل عمل إلّا به، وعن ابن عباس أيضا قال: أخبر الله تعالى أنّ الإيمان لا إله إلّا الله. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ تمسك واعتصم بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى بالعصمة الوثيقة الحكمة لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي ناصرهم ومعينهم وقيل محبهم وقيل متولي أمرهم لا يكلهم إلى غيره. يقال: توليت أمر فلان وولّيته ولاية بكسر الواو، وقيل: أولى وأحق بهم لأنّه يربّهم، وقال الحسن: ولي هداهم. يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من الكفر والضلالة إلى الإيمان والهداية، وكذلك كانوا في علم الله عزّ وجلّ قبل أنّ يخلقهم، فلما خلقهم مضى فيهم علمه فآمنوا. وقال الواقدي: كلّ شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنّه أراد به الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «1» فإنّه يعني به الليل والنهار. قال ابن عباس: هؤلاء قوم كفروا بعيسى عليه السّلام ثم آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فأخرجهم [من الكفر] بعيسى إلى إيمانهم بالمصطفى وسائر الأنبياء (عليهم السلام) ، وقال غيره: هو عام لجميع المؤمنين، وقال ابن عطاء: هذه الآية [تغنيهم من] صفاتهم بصفة فيصيرون قائمين بالحق للحق مع الحق. الواسطي: يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها كالرضا والصدق والتوكّل والمعرفة والمحبّة. أبو عثمان: يخرجهم من رؤية الأفعال إلى رؤية المنن والأفضال، وقيل: يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصيلة والقربة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ هكذا قرأه العامة وقرأ الحسن الطواغيت على الجمع. قال أبو حاتم: العرب تجعل الطاغوت واحدا وجمعا ومذكّرا ومؤنّثا. قال الله تعالى في الواحد والمذكّر يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ «2» . وقال في المؤنّث: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها «3» وقال في الجمع: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ. قال ابن عباس: يعني بالطاغوت الشيطان.
قال مقاتل يعني كعب بن الأشرف، ويحيى بن أخطب وسائر رؤوس الضلالة يُخْرِجُونَهُمْ ويدعونهم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ، دليله قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «1» يعني أدعوهم. فإن قيل: ما وجه قوله يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ وهم كفّار لم يكونوا في نور قط وكيف يخرجونهم ممّا لم يدخلوا فيه. فالجواب ما قال مقاتل وقتادة: هم اليهود كانوا مؤمنين بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به وجحدوا ما وجدوه في كتبهم من نعته وصفته ونبوّته بيانه قوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «2» فذلك خروجهم من النور يعني بإيمانهم بمحمد قبل البعث، ويعني بالظلمات كفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بعد البعث، والإدخال والإخراج الى الله عزّ وجلّ لا إلى غيره إلّا على سبيل الشريعة والتفريع. قال الله عزّ وجلّ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ «3» ، وأجراها أهل المعاني على العموم في جميع الكفّار. وقالوا: منعه إياهم من الدخول فيه إخراج، وهذا كما يقول الرجل لأبيه: أخرجتني من مالك ولم يكن فيه، فقال الله تعالى إخبارا عن يوسف: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «4» ولم يكن أبدا على دينهم حتّى تركه قال الله تعالى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ «5» ولم يكن فيه قط. وقال امرؤ القيس: ويأكلون البدل قد عاد احما قط ... قال له الأصوات ذي كلا نجلى «6» وقال آخر: أطعت النفس في الشهوات حتّى ... أعادتني عسيفا عبد عبد «7» ولم يكن عبدا قط. وقال الغنوي: فإنّ تكن الأيام أحسن مرّة ... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب «8»
[سورة البقرة (2) : الآيات 258 إلى 259]
[سورة البقرة (2) : الآيات 258 الى 259] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أي خاصم وجادل وأصلها من الحجّة، وهو نمرود بن كنعان بن سخاريب بن كوش بن سام بن نوح وهو أول من وضع التاج على رأسه وتجبّر في الأرض وادّعى الربوبيّة أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي لأنّ أتاه الله الملك فطغى، وموضع (أن) نصب بنزع حرف الصفة. العلاء بن عبد الكريم الأيامي عن مجاهد. قال: ملك الأرض مؤمنان وكافران، فأمّا المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، وأمّا الكافران فنمرود وبخت نصر. واختلفوا في وقت هذه المناظرة، فقال مقاتل: لما كسّر إبراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه بالنار، فقال له: من ربّك الذي تدعونا إليه؟ قال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النار. عبد الرزاق عن معمّر بن زيد بن أسلم: أن أوّل جبار في الأرض كان نمرود بن كنعان وكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام. قال: فخرج إبراهيم عليه السّلام يمتار. فإذا مرّ به أناس قال: من ربّكم؟ قالوا: أنت، حتّى مرّ به إبراهيم قال: من ربّك، قال: الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. كما ذكره الله تعالى. قال: فردّه بغير طعام فرجع إبراهيم عليه السّلام إلى أهله فمرّ على كثيب من رمل أعفر فقال: ألا أخذ من هذا فأتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم، فأخذ منه فأتى به أهله فوضع متاعه ثم نام فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام رآه أحد فصنعت له منه فقرّبت إليه وكان عهد بأهله ليس لهم طعام.
فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به، فعرف أنّ الله رزقه فحمد الله. قال: ثم بعث الله ملكا إلى الجبّار أن آمن بي فأتركك على ملكك، فقال نمرود: وهل ربّ غيري؟! فجاءه الثانية فقال له مثل ذلك، فأبى عليه، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه وقال: لا أعرف الذي تقول، ألربك جنود؟ قال: نعم. قال: فليقاتلني إنّ كان ملكا فإنّ الملوك يقاتل بعضهم بعضا. قال له الملك: نعم إن شئت، قال: قد شئت. قال: فاجمع جندك إلى ثلاثة أيام حتّى تأتيك جنود ربّي. قال: فجمع الجبّار جنوده. فأوحى الله عزّ وجلّ إلى خزنة البعوض أن افتحوا منها ففتحوا بابا من البعوض، فلما أصبح اليوم الثالث نظر نمرود إلى الشمس فقال: ما بالها لا تطلع، وظنّ أنّها أبطئت، فقال الملك: حال دونها جنود ربّي. قال: فأحاطت بهم البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق من الناس والدواب إلّا العظام ونمرود كما هو لم [يصبه] «1» شيء. فقال له الملك: أتؤمن الآن؟ قال: لا. فأمر الله عزّ وجلّ بعوضة فقرصت شفته السفلى فشربت وعظمت، ثم قرصت شفته العليا فشربت وعظمت، ثم دخلت منخره وصارت في دماغه وأكلت من دماغه حتّى صارت مثل الفأرة فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، فأرحم الناس به من كان يجمع يده ثم يضرب به رأسه فعذّبه الله أربعمائة سنة كما ملك أربعمائة سنة. قال الله عزّ وجلّ: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وهو جواب سؤال سابق غير مذكور تقديره: قال له: من ربّك؟ قال إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
قرأ الأعمش وحمزة وعيسى: رَبِّي الَّذِي بإسكان الياء، وقرأ الباقون بفتحه لمكان الألف واللام. فقال نمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قرأ أهل المدينة (أنا) بالمدّ في جميع القرآن، وهو لغة قوم يجعلون الوصل فيه كالأصل. وأنشد الكسائي: أنا سيف العشرة فاعرفوني ... حميد قد تذرّيت السناما «1» وقال آخر: أنا عبيد الله [يميني] عمر ... خير قريش من مضى ومن غبر إلّا رسول الله والشيخ الأغر والأصل في (أنا) أن تفتح النون وابتغي لها الوقت فكتبت ألفا على نيّة الوقف فصار: أنا. وأكثر العرب يقول في الوقف: أنّه. قال أكثر المفسّرين: دعا نمرود برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر فسمّى ترك القتل إحياء. كقوله: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً «2» أي لم يقتلها. وقال السدي في قوله تعالى: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قال: أخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا فلا يطعمون ولا يسقون حتّى إذا أشرفوا على الهلاك أطعم اثنين وسقاهما وترك اثنين فماتا، فانتقل إبراهيم إلى حجّة أخرى لا عجزا لأن له أن يقول: فأحي من أمتّ إن كنت صادقا، بل إيضاحا بالحجّة فقال: قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ كلّ يوم مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي تحيّر ودهش وانقطعت حجّته. يقال: رجل مبهوت، أي مدهوش. قال الشاعر: ألا إنّ لرئاها فجأة ... فأبهت حتّى ما أكاد أسير وقرأ محمد بن السميقع اليماني: فَبَهَتَ بفتح الباء والهاء أي بهته إبراهيم. تصديقه قوله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ «3» أي تدهشهم.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى الحجّة أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هذا عطف على معنى الآية الأولى تقديره: هل رأيت كالذي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، أو هل رأيت كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ. قال بعض نحاة البصرة: (الكاف) صلة كأنّه قال: ألم ير إلى الذي أو الذي. واختلفوا في ذلك المارّ من هو، فقال قتادة والربيع وعكرمة وناجية بن كعب وسليمان بن بريدة والضحاك والسدي وسليم الخواص: هو عزير بن شرحيا. وقال وهب بن منبّه وعبد الله بن عبيد بن عمير: هو أرميا بن خلفيا وكان من سبط هارون ابن عمران، وهو الخضر. وقال مجاهد: هو رجل كافر شكّ في البعث. واختلفوا في القرية التي عليها، فقال وهب وعكرمة وقتادة والربيع: هي بيت المقدّس، وقال الضحاك: هي الأرض المقدّسة، وقال ابن زيد: الأرض التي أهلك الله فيها الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ. وقال الكلبي: هي دير سائداباذ، وقال السدي: هي سلماباذ، وقيل: دير هرافيل، وقيل: قرية العنب وهو على فرسخين من بيت المقدس. وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة، يقال: خوى البيت يخوى خوى مقصورا إذا سقط، وخوى البيت بالفتح خواء ممدود إذا خلا. عَلى عُرُوشِها سقوفها وأبنيتها واحدها عرش وجمعه القليل: أعرش، وكلّ بناء عرش، يقال: عرش فلان، إذا بنى فهو يعرش ويعرش عرشا، قال الله: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ «1» أي يبنون. ومعنى الآية: إنّ السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها. وقيل: (على) بمعنى مع، أي خاوية مع عروشها. قال الشاعر: كأن مصفحات في ذراه ... وأبراجا عليهن المآلي «2» أي معهن. نظيرها في سورة الكهف والحجّ «3» .
قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن وهب بن منبّه: إن الله سبحانه وتعالى قال لأرميا عليه السّلام حين بعثه نبيّا إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن خلقتك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك في رحم أمّك قدّستك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبّأتك ولأمر عظيم أحببتك. فبعث الله أرميا إلى ناشئة بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده ويأتيه بالخبر من الله تعالى، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل فركبوا المعاصي واستحلّوا المحارم، فأوحى الله تعالى إلى أرميا أن ذكّر قومك نعمي وعرّفهم أحداثهم فادعهم إليّ. فقال أرميا: إنّي ضعيف إنّ لم تقوّني عاجز إن لم تنصرني. فقال الله تعالى: أنا ألهمك، فقام أرميا فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله عزّ وجلّ في الوقت خطبة بليغة طويلة بيّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية. وقال في آخرها: وإنّي أنا الله بعزتي لأقضين لهم فتنة يتحيّر فيها الحليم ولأسلطنّ عليهم جبّارا قاسيا ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرحمة يتّبعه عدد مثل سواد الليل المظلم. فأوحى الله تعالى إلى أرميا: إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث، أهل بابل وهم من ولد يافث بن نوح، فلمّا سمع ذلك أرميا صاح وبكى وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه فلما سمع الله تضرّع أرميا وهو الخضر عليه السّلام وبكاه ناداه: يا أرميا أشق عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به. فقال الله عزّ وجلّ: وعزّتي لا أهلك بني إسرائيل حتّى يكون الأمر في ذلك من قبلك، ففرح بذلك أرميا وطابت نفسه، وقال: والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك. وكان ملكا صالحا. فاستبشر وفرح وقال: إن يعذّبنا ربّنا فبذنوب كثيرة لنا وإنّ عفا عنّا فبرحمته. ثم إنّهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلّا معصية وتماديا في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا، فسلّط الله عليهم بخت نصّر فخرج في ستمائة ألف راية تريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى الخبر الملك فقال لأرميا: أين ما زعمت أن الله أوحى إليك؟ فقال أرميا: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وأنا به واثق. فلما قرب الأجل وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله إلى أمريا ملكا قد تمثّل له رجلا من بني إسرائيل.
فقال: يا نبي الله أستعينك في أهل رحمي وصلت أرحامهم ولم أت إليهم إلّا حينا ولا يزيدون مع إكرامي إياهم إلّا اسخاطا لي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فقعد بين يديه، فقال له أرميا: أو ما ظهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال: يا نبي الله والذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى أهل رحمة إلّا قدّمتها إليهم وأفضل. فقال النبيّ: أرجع إلى أهلك وأحسن إليهم واسأل الله تعالى الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم، فقام الملك فمكث أياما وقد نزل بخت نصر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد ففزع بني إسرائيل وشقّ عليهم. فقال الملك لأرميا: يا نبي الله أين ما وعدك الله؟ قال: إنّي بربّي واثق. ثم أقبل الملك إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس فضحك واستبشر بنصر ربّه الذي وعده فقعد بين يديه وقال: أنا الذي أنبأتك في شأن أهلي مرّتين. فقال النبيّ: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله كلّ شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم أصبر عليه فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضى الله عزّ وجلّ به. فقال النبيّ: على أي عمل رأيتهم؟ قال: عمل عظيم من سخط الله فغضبت لله ولك وأتيتك لأخبرك وإنّي أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلّا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. فقال أرميا: يا مالك السماوات والأرض إنّ كانوا على حق وصواب فابقهم وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم. فلما خرجت الكلمة من فم أرميا أرسل الله عزّ وجلّ صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف سبعة أبواب من أبوابها. فلما رأى ذلك أرميا صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه، وقال: يا مالك السماوات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟، فنودي أنّه لم يصبهم الذي أصابهم إلّا بفتياك ودعائك، فاستيقن النبيّ أنّها فتياه التي أفتى بها، وأنه رسول ربه.
فطار أرميا حتّى خالط الوحوش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرّب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كلّ رجل منهم ترسه ترابا ثم يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتّى ملاؤه، ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس كلّهم فاجتمع عنده كلّ صغير وكبير من بني إسرائيل واختار منهم مائة ألف صبي فقسّمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كلّ رجل منهم أربعة أغلمة، وفرّق بخت نصّر من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق: فثلثا أقرّ بالشام، وثلثا أسر، وثلثا قتل، فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بظلمهم. فلما ولّى بخت نصّر عنهم راجعا إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصير عنب في زكرة وسلّة تين حتّى أتى إيليا فلما وقف عليها ورأى خرابها قال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟! وقال الذين قالوا إن هذا المارّ كان عزيزا: إن بخت نصّر لما خرّب بيت المقدس وأقدم بسبي بني إسرائيل إلى أرض بابل كان فيهم عزير وكان من علماء بني إسرائيل، ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود. فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار حتّى نزل على دير هرقل على شط دجلة، فطاف في القرية فلم ير فيها أحد وعلم بخبرها، فأكل من الفاكهة وعصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلّة وفضل العصير في زق فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها «1» . لم يشك في البعث ولكن قالها تعجبّا. رجعنا إلى حديث وهب: قال: ربط أرميا حماره بحبل جديد فألقى الله عليه النوم، فلمّا نام نزع منه الروح مائة سنة وأمات حماره، وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد وذلك ضحى، ومنع الله السباع والطير لحمه. فلمّا مضى من موته سبعون سنة أرسل الله عزّ وجلّ ملكا إلى ملك من بني إسرائيل عظيم يقال له: [يوسك] فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تنفر قومك فتعمّر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتّى تعود أعمر ما كان، فانتدب الملك ألف قهرمان مع كلّ قهرمان ثلاثمائة ألف عامل وجعلوا يعمّرونها، وأهلك الله تعالى بخت نصّر ببعوضة دخلت دماغه [ ... ] «2» الله تعالى من بقي من بني إسرائيل ولم يمت ببابل وردّهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه، فعمّروه ثلاثين سنة وكثروا حتّى صاروا كأحسن ما كانوا عليه، فلما مضت المائة أحيا الله تعالى منه عينيه وسائر جسده ميّت، ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره وإذا عظامه متفرّقة بيض تلوّح، فسمع صوتا من السماء: أيّها العظام البالية إنّ الله يأمرك
أن تجتمعي، فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض. ثم نودي: إنّ الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا، فكان كذلك، ثم نودي: إنّ الله يأمرك أن تحيي، فقام بأذن الله ونهق الحمار. وعمّر الله أرميا، فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه «1» . قالَ كَمْ استفهام عن مبلغ العدد لَبِثْتَ قرأ ابن محيص والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي: لبثّ ولبثّم بالإدغام في جميع القرآن. الباقون بالإظهار. فمن أدغم فلا يجاوره في المخرج والمشاكلة في الهمس، ومن أظهر [فلإظهارها] «2» في المصحف، وكلاهما غريبان فصيحان ومعناه: كم مكثت وأقمت هاهنا. يقال: لبث يلبث لبثا والباثا «3» . قالَ لَبِثْتُ يَوْماً وذلك إنّ الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس، فقال: لَبِثْتُ يَوْماً وهو يرى إنّ الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقيّة من الشمس فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بمعنى بل بعض يوم، لأن قوله بَعْضَ يَوْمٍ رجوع عن قوله: لَبِثْتُ يَوْماً كقوله: أَوْ يَزِيدُونَ «4» . قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ يعني التين وَشَرابِكَ يعني العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ قرأ حمزة والكسائي بحذف الهاء وصلا وكذلك في قوله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «5» . وقرأ الباقون بالهاء فيها وصلا ووقفا. وذكر أبو حاتم عن طلحة لَمْ يَتَسَنَّهْ بإدغام التاء في السين وزعم أنّه في حرف أبيّ كذلك ومعناه: لم تغيّره السنون. فمن أسقط الهاء في الوصل حول الهاء صلة زائدة، وقال: أصله لم يتسنّى فحذف الياء بالجزم وأبدل منها هاء في الوقف، وهذا على قول من جعل الهاء في السنة زائدة. وقال: أصلها يسنوه وجمعها سنوات والفعل منه سانيت مساناة وتسنّيت تسنّيا، إلّا أن الواو يردّ إلى الباقي التفعّل والتفاعل، كقولهم: التداعي والتداني لأن الياء أخف من الواو. وقال أبو عمر: وهو من التسنن بنونين، وهو التغيير كقوله: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ «6» أي
متغيّر ثم عوّضت عن إحدى النونين كقول الشاعر: فهلا إذ سمعت بحثت عنه ... ولم تمس الحكومة بالتظنّي أراد بالتعيّن. قال العجّاج: تفصّي البازي إذ البازي كسر أراد تفضض. وتقول العرب: نتلعى، إذا خرجوا في اجتناء نبت ناعم يقال له المقاع. قال الله تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «1» أي دسّسها. ومن أثبت الهاء في الحالين جعلها هاء أصليّة لام الفعل، وعلى هذا قول من جعل السنة سنهية وتصغيرها سنيهة والفعل منه المسانهة. قال الشاعر: ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح «2» فإن قيل: أخبر عن شيئين اثنين ثم قال: لَمْ يَتَسَنَّهْ ولم يثنه، قيل: لأن التغيير راجع إلى أقرب اللفظين وهو السنوات، واكتفى بذكر أحد المذكورين عن الآخر لأنّه في موضع الفاني كقوله الشاعر: [عقاب عقبناه كان وظيفه ... وخرطوعة إلّا على سنان فلوج] «3» ولم يقل سنانان فلوجان، ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود: فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنّه. وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قال أكثر العلماء: في الآية تقديم وتأخير، أي وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه ولنجعلك آية للناس وأنظر إلى حمارك، ويحتمل أن يكون [المعنى] : فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وأنظر إلى حمارك. وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً. فأمّا تفسير الآية والقراءات فيها فقرأ خارجة والأعرج وعيسى بن عمر وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي حمارك والحمار بالإمالة، الباقون بالتفخيم، وقوله تعالى: كَيْفَ نُنْشِزُها.
قرأ أبي بن كعب وعبد الله بن عامر والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: نُنْشِزُها بالزاء وضم النون وكسر الشين. وروى أبو العالية عن زيد بن ثابت قال: إنّما هي راء قرؤها زاء أي أنقطها. وكذلك روى معاوية بن قرّة عن ابن عباس بالزاي واختاره أبو عبيدة. وانشاز الشيء: رفعه ونقله وإزعاجه، فقال: أنشزته فنشز، أي رفعته فارتفع، ومنه نشز المرأة على زوجها ونشز الغلام، أي ارتفع، فمعنى الآية: كيف نرفعها من الأرض فنردّها إلى أماكنها من الجسد ونركّب بعضها على بعض. قال ابن عباس والسدي: نخرجها، والكسائي: فننبتها ونعظّمها. قتادة وعطاء وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: ننشرها بالراء وضمّ النون وكسر الشين، وأختاره أبو حاتم، ومعناه: نحييها. فقال: أنشر الله الميّت إنشارا فينشر هو نشورا، قال الله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ. وقال: هُمْ يُنْشِرُونَ «1» ، وقال: بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً «2» وقال: كَذلِكَ النُّشُورُ «3» . وَإِلَيْهِ النُّشُورُ «4» . وقال حارثة بن بدر الغداني: فأنشر موتاها وأقسط بينها ... فبان وقد ثابت إليها عقولها وقال الأعشى في اللازم: حتّى يقول الناس ممّا رأوا ... يا عجبا للميّت الناشر «5» وقرأ الحسن والمفضّل ننشرها بالراء وفتح النون وضمّ الشين. قال الفرّاء: ذهب إلى النشر والطي. وقال بعضهم: هو من الإحياء أيضا، يقال: أنشر الله الميّت ونشره إذا أحياه، قال أبو حاتم: وليس بالمعروف. وقرأ النخعي بالزاء وفتح النون وضم الشين. قال أبو حاتم ذلك غلط، وقال غيره: يقال نشزه [ونشطه] وأنشزه بمعنى واحد. ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي نكسوها ونواريها به كما نواري الجسد بالثوب، واختلفوا في معنى الآية، فقال بعضهم: أراد به عظام حماره وذلك أن الله تعالى أمات حماره ثم أحياه خلقا
سويّا وهو ينظر. قال السدي: إنّ الله أحيا عزيرا ثم قال انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، فبعث الله عزّ وجلّ ريحا فجاءت بعظام الحمار من كلّ سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع واجتمعت فركّب بعضها في بعض وهو ينظر فصار حمارا من عظام ليس فيه لحم ولا دم، ثم كسا العظام لحما ودما فصار حمارا ليس فيه روح، ثم أقبل ملك يمشي حتّى أخذ منخر الحمّار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله. ومعنى الآية على هذا القول: وانظر إلى لحم حمارك وإلى عظامه كيف ننشزها، فلما حذف الهاء من العظام أبدل الألف و ... وعلى هذا أكثر المفسّرين. وقال آخرون: أراد به عظام هذا الرجل نفسه، وذلك أنّ الله تعالى لم يمت حماره فأحيا الله عينيه، ورأسه وسائر جسده ميّت، ثم قال له: انظر إلى حمارك، فنظر فرأى حماره قائما واقفا كهيئة يوم ربطه حيّا لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى الرقية في عنقه جديدا لم تتغيّر. وتقدير الآية على هذا القول: فانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشزها. وهذا قول الضحاك وقتادة والربيع وابن زيد. وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ فعلنا ذلك [لنجعلك] . وإن شئت جعلت الواو مفخّمة زائدة، كقول الشاعر الأسود بن جعفر: فإذا وذلك لا مهاة لذكره ... والدهر يعقب صالحا بفساد «1» أي فإذا ذلك. ومعنى الآية: فعلنا هذا بك لنجعلك آية للناس، أي عبرة ودلالة على البعث بعد الموت، قاله أكثر المفسّرين. وقال الضحاك وغيره: هذه الآية أنّه عاد إلى قريته شابا وإذا أولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية. وروى قتادة عن كعب وعن الحسن ومقاتل وجويبر عن الضحاك عن ابن عباس، وعبد الله ابن إسماعيل السدي عن أبيه عن مجاهد عن ابن عباس قالوا: لمّا أحيا الله عزيرا بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتّى أتى محلّته فأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر منازله، فانطلق على وهم منه حتّى أتى منزله فإذا بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة كانت عرفته وكفلته فلما أصابها الكبر أصابها الزمانة فقال لها
عزير: يا هذه أهذا منزل عزير؟ قالت: نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت: ما رأيت أحدا من كذا وكذا سنة يذكر عزيرا وقد نسيه الناس، قال: فإنّي أنا عزير. قالت: سبحان الله إنّ عزيرا قد فقدناه من مائة سنة فلم نسمع بذكره. قال: فإنّي أنا عزير كان الله عزّ وجلّ أماتني مائة سنة ثم بعثني. قالت: فإنّ عزيرا كان مستجاب الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية والشفاء، فادع الله حتّى يردّ عليّ بصري حتّى أراك فإنّ كنت عزيرا عرفتك، قال: فدعا ربّه ومسح يده على عينيها ففتحت وأخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله، فأطلق الله عزّ وجلّ رجليها فقامت صحيحة بإذن الله كأنّها نشطت من عقال، فنظرت فقالت: أشهد إنّك عزير، فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم، وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثمانية عشر سنة وبني بنيه شيوخ في المجلس فنادت: هذا عزير قد جاءكم، فكذّبوها. فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربّه عزّ وجلّ فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي وزعم إنّ الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه. قال: فنهض الناس فأقبلوا إليه، فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير. قال [قتادة ومقاتل] والسدي والكلبي: هو أن عزيرا رجع إلى قريته وقد أحرق بخت نصّر التوراة ولم يكن من الله تعالى عهد بين الخلق فبكى عزير على التوراة، فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الإناء فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، وقد علّمه الله التوراة وبعثه نبيّا. فقال: أنا عزير، ولم يصدّقون. وقال: حدّثنا آباؤنا إنّ عزيرا مات بأرض بابل. فقال: أنا عزير بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم. فقالوا: أملها علينا إن كنت صادقا، فأملاها عليهم من ظهر قلبه «1» . وقال رجل منهم: حدّثني أبي عن جدّي أنّه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم لأبي، فإنّ أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم، فأروه، فأخرجها لهم، فعارضوها بما أملى عزير فما اختلفا في حرف، ولم يقرأ التوراة منذ أنزلت عن ظهر قلبه إلى هذا اليوم غير عزير.
[سورة البقرة (2) : آية 260]
فقالوا: ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعد ما نسخت وذهبت إلّا أنّه ابنه، فعندها قالوا: عزير ابن الله، وسنذكر هذه القصّة بالاستقصاء في سورة التوبة إن شاء الله. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ذلك عيانا قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قرأ ابن عباس وأبو رجاء وحمزة والكسائي: قالَ أِعْلَمْ موصولا مجزوما على الأمر بمعنى قال الله له أعلم، يدلّ عليه قراءة عبد الله والأعمش: قل اعلم، وقرأ الباقون قالَ أَعْلَمُ معطوفا مرفوعا على الخبر عن عزير أنّه قال لمّا رأى ذلك: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. عن المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب قال: ليس في الجنّة كلب ولا حمار إلّا كلب أصحاب الكهف وحمار أرميا الذي أماته اللَّهُ مِائَةَ عامٍ. [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى الآية إن قيل: ما السبب في مسألة إبراهيم ربّه عزّ وجلّ أن يريه كيف يحيي الموتى، وما وجه ذلك، وهل كان إبراهيم شاكّا في إحيائه الموتى حتّى قال: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي؟ فالجواب عنه من وجوه: قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج: كان سبب ذلك السؤال أنّ إبراهيم أتى على دابة ميّتة، قال ابن جريج: كانت جيفة حمار بساحل البحر، قال عطاء: بحيرة الطبريّة، قالوا: فرآها وقد توزّعتها [دواب] البر والبحر، وكان إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها فما وقع منها يصير في الماء، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت منها فما وقع منها يصير ترابا، فإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلن منها فما سقط قطعته الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم عليه السّلام تعجّب منها وقال: يا رب قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع وحواصل الطيور وأجواف دواب البر فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك فأزداد يقينا، فعاتبه الله عزّ وجلّ فقال: قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بإحياء الموتى قالَ بَلى يا رب علمت وآمنت ولكن ليس الخبر كالمعاينة فذلك قوله: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي يسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة. فعلى هذا القول أراد إبراهيم عليه السّلام أن يصير له علم اليقين عين اليقين، كما أن الإنسان يعلم الشيء ويتيقنه ولكن يحب أن يراه من غير شك له فيه، كما أن المؤمنين يحبّون رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ورؤية الجنّة ورؤية الله تعالى مع الإيمان بذلك وزوال الشك فيه. قال ابن زيد: مرّ إبراهيم عليه السّلام بحوت ميّت نصفه في البر ونصفه في البحر فما كان في
البحر فدواب البحر تأكله وما كان في البر فدواب البر تأكله، فقال له الخبيث إبليس: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بذهاب وسوسة إبليس منه ويصير الشيطان خاسرا صاغرا. وقال بعضهم: إن إبراهيم عليه السّلام لما احتجّ على نمرود وقال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. وقال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ وقتل ذلك الرجل وأطلق الآخر. قال إبراهيم: فإنّ الله عزّ وجلّ يحيي بأن يقصد إلى جسد ميّت فيحييه ويجعل الروح فيه. فقال له نمرود: أنت عاينت هذا، فلم يقدر أن يقول نعم رأيته، فانتقل إلى حجّة أخرى، فقال إنّ الله عزّ وجلّ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ «1» ، ثم سأل ربّه فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي حتّى إذا قال لي قائل: أنت عاينت؟ أقول: نعم قد عاينت ولا أحتاج إلى الانصراف لأي حجّة أخرى، وليعلم نمرود إنّ الإحياء كما فعلت لا كما فعل هو. وهذا معنى قول محمد بن إسحاق عن ابن يسارة. روى في الخبر: إنّ نمرود قال لإبراهيم عليه السّلام: أنت تزعم إن ربّك يحيي الموتى وتدعوني إلى عبادته فسل لربّك يحيي الموتى إنّ كان قادرا وإلّا قتلتك. فقال إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بقوّة حجّتي ونجاتي من القتل، فإن عدو الله توعدني بالقتل إنّ لم تحيي له ميّتا. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: لما اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، سأل ملك الموت أن يأذن له فيبشّر إبراهيم بذلك، فأذن له فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار، فدخل داره وكان إبراهيم عليه السّلام أغير الناس، إذا خرج أغلق بابه، فلمّا دخل وجد في داره رجلا فثار إليه ليأخذه فقال له: من أذن لك أن تدخل داري؟ فقال ملك الموت: أذن لي ربّ هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت، وعرف أنّه ملك الموت. فقال: من أنت؟ قال: ملك الموت جئت أبشّرك بأن الله عزّ وجلّ أتخذك خليلا، فحمد
الله تعالى وقال له: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعائك ويحيي الموتى بسؤالك، ثم أنطلق ملك الموت. فقال إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بعلمي أنّك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك. واتخذتني خليلا. محمد بن مسلم عن سعيد بن المسيّب وأبي عبيدة عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يرحم الله إبراهيم نحن أحق بالشك منه قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» ثم قرأ إلى آخر الآية «1» . محمد بن إسحاق بن خزيمة قال سمعت أبا إبراهيم المزني يقول: معنى قوله عليه السّلام «نحن أحق بالشك من إبراهيم» إنّما شك إبراهيم أيجيبه الله عزّ وجلّ إلى ما يسأل أم لا. عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا القاسم النصرآباذي سئل عن هذه الآية فقال: حنّ الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه، فذلك قوله عزّ وجلّ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ. يعني أنت مؤمن شهد له بالإيمان، كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح «2» يعني أنتم كذلك. قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ ليسكن قَلْبِي بزيادة اليقين والحجّة، وحقيقة الخلّة وإجابة الدعوة. قال الله تعالى لإبراهيم عليه السّلام: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ مختلفة أجناسها وطباعها ليكون أبلغ في القدرة، وخصّ الطائر من سائر الحيوان لخاصيّة الطيران، واختلفوا في ذلك الطير ما هي. فقال ابن عباس: أخذ طاوسا ونسرا وغرابا وديكا. مجاهد وعطاء بن يسار وابن جريج وابن زيد: كانت غرابا وديكا وطاوسا وحمامة. سعيد بن أيوب عن سعيد بن الحرث الغراب عن أبي هريرة السناني: أنّها الطاوس والديك والغراب والحمامة.
قال عطاء الخراساني: أوحى الله عزّ وجلّ لنبيّه أن أحضر أربعة من الطير: بطّة خضراء وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر. فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ قرأ عليّ بن أبي طالب. كرّم الله وجهه. وأبو الأسود الدؤلي وأبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعكرمة والأعرج وشيبة ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم والكسائي وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: بضم الصاد، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم: اضممهنّ ووجّههنّ إليك. يقال: صرت الشيء أصوره إذا أملته. قال امرؤ القيس: وأفرع ميّال يكاد يصورها ... وعجز كدعص أثقلته البوايص. وقال الطرمّاح: عفائف الأذيال أو أن يصورها ... هوى والهوى للعاشقين صروع «1» أي يميلها هوى. ويقال: رجل أصور إذا كان مائل العنق. ويقال: إنّي إليكم لأصور، أي مشتاق مائل، وامرأة صوراء، والجمع صور، مثل عوداء وعود. قال الشاعر: الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور «2» وقال عطاء وعطيّة وابن زيد والمؤرخ: معناه: أجمعهن واضممهن، يقال: صار يصور صورا إذا جمع، ومنه قيل: [إني إليكم لأصور] «3» . قال الشاعر: وجاءت خلعة دهس صفايا ... يصوّر عنوقها أحوى زنيم «4» أي بضم خلعة والخلعة خيار المال، ودهس على لون الدهاس وهو الرمل. صفايا غزار معجبة «5» .
قال أبو عبيدة وابن الأنباري: معناه: قطّعهن وأصغر القطع. قال به ابن الحمير: فلما جذبت الحبل أطّت نسوعه ... بأطراف عيدان شديد أسورها فأدنت لي الأسباب حتّى بلغتها ... بنهض وقد كاد ارتقائي يصورها قال رؤبة: صرنا به الحكم واعيا الحكما ... أي قطعنا الحكم به وقرأ علقمة وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير وطلحة وقتادة وأبو جعفر ويحيى بن رئاب والأعمش وحمزة وخلف: فَصِرْهُنَّ بكسر الصاد، ومعناه: قطّعهن وفرّقهن. يقال: صار يصير صيرا، إذا قطع، وانصار الشيء ينصار انصارا إذا انقطع. قالت الخنساء: فلو تلاقي الذي لاقته مضر ... لظلت الشم «1» منها وهي تنصار «2» أي مقطّع مصدّع وتمهيد. وأنشد أبو سهيل محمد بن محمد الأشعث الطالقاني في العزائم: وغلام رأيته صار كلبا ... [ ... ] «3» ساعتين صار غزالا وقال الفرّاء: هو مقلوب من صرت أصري صريا إذا قطعت فقدمت هاويا كما يقال: عوث وعاث يعني قطعهم ثم قلب فقيل صار. قال الشاعر: يقولون إن الشام يقتل أهله ... فمن لي إذ لم آته بخلود «4» تغرب آبائي فهلا صراهم من الموت إن لم يذهبوا وجدودي «5» وقال بعضهم: معناه أملهنّ، وهي لغة هذيل وسليم. وأنشد الكسائي: وفرع يصير الجيد وحف كأنّه ... على الليت قنوان الكروم الدوالح «6» أي الجيد يميله من كثرته.
وعن ابن عباس فيه روايتان: فَصُرْهُنَّ مفتوحة الصاد مشددة الراء مكسورة من التصرية وهي الجمع ومنه المصرّاة. والثاني: فَصُرْهُنَّ بضم الصاد وفتح الراء وتشديدها من الصرّة وهي في معنى الجمع والشدّ أيضا. فمن تأوّله على القطع والتفريق، ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره: فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن. ومن فسّره على الضم ففيه إضمار معناه: فصرهن إليك، ثم قطعهنّ فحذفه فأكتفى بقوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً لأنّه يدلّ عليه، وهذا كما يقال: خذ هذا الثوب واجعل على كلّ رمح عندك منه علما، يريد قطّعه واجعل على كلّ رمح علما. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ، لفظه عام ومعناه خاص لأنّ أربعة من الطير لا يبلغ الجبال كلّها، ولا كان إبراهيم عليه السّلام يصل إلى ذلك فهذا كقوله عزّ وجلّ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «1» كقوله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ «2» . جُزْءاً قرأ عاصم رواية أبي بكر والمفضّل جُزُءاً مثقلا مهموزا حيث وقع. وقرأ أبو جعفر جُزُّءاً مشدّدة الزاء، وقرأ الباقون مهموزا مخفّفا، وهي لغات معناها: النصيب والبعض. قال المفسّرون: أمر الله تعالى إبراهيم عليه السّلام أن يذبح تلك الطيور بريشها ويقطّعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض. ففعل ذلك إبراهيم ثم أمره أن يجعل أجزاءها على الجبال. واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال، قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن أبي إسحاق: أمر بأن يجعل كلّ طائر أربعة أجزاء ثم يعمد إلى أربعة أجبل فيجعل على كلّ جبل ربعا من كلّ طائر ثم يدعوهن: تعالين بإذن الله. هذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ لإبراهيم وأراه إياه، يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة فكذلك أبعث الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها. وقال ابن جريج والسدي: جزّأها سبعة أجزاء فوضعها على سبعة أجبل ففعل ذلك وأمسك رؤسهن عنده، ثم دعاهن: تعالين بأمر الله سبحانه، فجعل كل قطرة من دم طير تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكلّ عظم يصير إلى الآخر، وكلّ بضعة تذهب إلى الأخرى، وإبراهيم ينظر حتّى لقيت كلّ جثة بعضها بعضا في السماء بغير رأس، ثم أقبلن إليّ فكلّما جاء طائر مال برأسه فإنّ كان رأسه دنا منه وإن لم يكن رأسه تأخّر حتّى يلقي كلّ طائر برأسه.
[سورة البقرة (2) : الآيات 261 إلى 264]
فذلك قوله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً هو مصدر، أي يسعين سعيا، وقيل: نصب بنزع حرف الصفة، أي بالسعي، واختلفوا في معنى السعي، فقال بعضهم: هو الإسراع والعدو، وقال بعضهم: مشيا على أرجلهن كقوله سبحانه في سورة القصص: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «1» نظيره في سورة الجمعة: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «2» أي فامضوا. والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبلغ في الحجّة وأبعد من الشبهة لأنّها لو طارت لتوهم متوهم أنّها غير تلك الطير أو أن أرجلها غير سليمة والله أعلم. وقال بعضهم: هو بمعنى الطيران، وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله يَأْتِينَكَ سَعْياً هل يقال لطائر إذا طار سعي؟ قال: لا. قلت: فما معنى قوله: يَأْتِينَكَ سَعْياً؟ قال: معناه: يأتينّك وأنت تسعى سعيا. قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا الحسن الأقطع وكان حكيما يقول: صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لكلّ آية ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ومطلع» [189] «3» . وظاهر الآية ما ذكره أهل التفسير، وبطنها: إن إبراهيم عليه السّلام أمر بذبح أربعة أشياء في نفسه بسكين [الأياس] كما ذبح في الظاهر الأربعة الأطيار بسكين الحديد، فالنسر مثل لطول العمر [والأجل] ، والطاوس زينة الدنيا وبهجتها، والغراب الحرص، والديك الشهوة. قال الله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 264] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية فيها إضمار واختصار تقديرها: مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم، فإن شئت قلت: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ. فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ زارع حبّة أَنْبَتَتْ أخرجت سَبْعَ سَنابِلَ جمع سنبلة، أدغمها أبو عمرو أبو [غزية] وحمزة والكسائي، وأظهرها الباقون. فمن أدغم فلأن التاء والسين مهموزتان، ألا ترى أنهما متعاقبان. أنشد أبو عمرو: يا لعن الله بني السعلاة ... عمرو بن ميمون لئام النات «1» أراد لئام الناس فحوّل السين تاء. ومن أبرز فلأنهما كلمتان وهو الأصل واللغة الفاشية. فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ أبو جعفر والأعمش: يتركان خمس مائة ومائة، حيث كانت استخفافا «2» . وقرأ الباقون بالمد. فإن قلت: هل رأيت سنبلة فيها مائة حبة، أو هل بلغك ذلك؟ قيل: لا ننكر ذلك ولا يستحيل، فإن يكن موجودا فهو ذلك وإلّا فجائز أن يكون [معناه كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل] «3» في كلّ سنبلة مائة حبّة أن جعل الله سبحانه ذلك فيها، ويحتمل أن يكون معناه: أنّها إذا بذرت أنبتت مائة حبّة، فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبّة مضاهيا لها، لأنّه كان عنها، وكذلك ما قاله الضحاك قال: أنبتت كلّ سنبلة مائة حبّة. وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ما بين سبع وسبعين وسبعمائة إلى ما شاء الله عزّ وجلّ ممّا لا يعلمه إلّا الله. وَاللَّهُ واسِعٌ غني لتلك الأضعاف عَلِيمٌ بمن ينفق. قال الضحاك في هذه الآية: من أخرج درهما [ابتغاء] مرضاة الله فله في الدنيا لكلّ درهم سبعمائة درهم خلفا عاجلا، ولقي ألف درهم يوم القيامة. قال الكلبيّ في قوله الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية: نزلت في عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) وعبد الرحمن بن عوف، أمّا عبد الرحمن فإنّه جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال: كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها ربّي عزّ وجلّ.
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك في ما أمسكت وفيما أعطيت» «1» . فأمّا عثمان فقال: عليّ جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهّز المسلمين ألف بعير بأحلاسها وأقتابها وتصدق برومة «2» ركية كانت له على المسلمين فنزلت فيهما هذه الآية «3» . قال عبد الرحمن بن سمرة: جاء عثمان (رضي الله عنه) بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. قال: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدخل يده فيها ويقبلها ويقول: «ما ضرّ ابن عفّان ما عمل بعد اليوم» . قال أبو سعيد الخدري: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رافعا يده يدعو لعثمان (رضي الله عنه) «يا رب عثمان بن عفّان رضيت عنه فأرض عنه» وما زال يدعو رافعا يديه حتّى طلع الفجر فأنزل الله تعالى فيه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله. ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وهو أن يمنّ عليه بعطائه ويعد نعمه عليه يكدّرها يواصل المنّة النعمة. يقال: من يمنّ منّة ومنّا ومنيّة إذا أنعم وأعطى. قال الله تعالى: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ «4» أي أعط ثم كثر ذلك حتّى صار ذكر النعمة والاعتداد بها منّة. وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بإظهار العطيّة وذكرها لمن لا يجب وقوفه عليها وما أشبه ذلك من القول الذي يؤديه. قال سفيان والمفضّل في قوله: مَنًّا وَلا أَذىً: هو أن يقول أعطيتك فما شكرت. قال الضحاك: أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتّبعه منا وأذى. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلا شيئا وظننت أنّ سلامك يثقل عليه، فكفّ سلامك عنه. قال ابن زيد: فشيء خير من السلام؟ قال: وقالت امرأة لأبي: يا أبا أسامة تدلّني على رجل يخرج في سبيل الله حقّا فإنّهم لا يخرجون إلّا ليأكلوا الفواكه، فعندي جعبة وأسهم فيها فقال: الله لا بارك الله لك في جعبتك ولا في أسهمك فقد أذيتهم قبل أن تعطيهم. فحظر الله عن عباده المن بالصنيعة وأختص به صفتا لنفسه لأن منّ العباد تعيير وتكدير
ومنّ الله عزّ وجلّ إنعام وإفضال وتذكير. وأنشد معاد بن المثنّى العنبري عن أبيه محمود بن الورّاق: أحسن من كلّ حسن ... في كلّ حين وزمن صنيعة مربوبة ... خالية من المنن «1» قال الثعلبي: أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي قال: أنشدنا أبو ذر القرطبي: ما تم معروفك عند أمري ... كلّفته المعرف إعظامكا إنّ من البر فلا تكذبن ... إكرام من أظهر إكرامكا والمن للمنعم نقص فلا ... تستفسدن بالمنّ إنعامكا والعزّ في الجود وبخل الفتى ... مذلّة أحببت إعلامكا قال: وأنشدني محمد بن القاسم قال: أنشدني محمد بن طاهر قال: أنشدني أبو علي البصري: وصاحب سلفت منه إليّ يد ... أبطا عليه مكافاتي فعاداني لما تيقّن أنّ الدهر حاربني ... أبدى الندامة فيما كان أولاني «2» وقال آخر: أفسدت بالمن ما قدّمت من حسن ... ليس الكريم إذا أعطى بمنّان «3» قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام حسن وردّ على السائل جميل، وقيل: [ ... ] «4» حسن. وقال الكلبي: دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب. قال الضحاك: قول في إصلاح ذات البين. وَمَغْفِرَةٌ أي مغفرة منه عليه لما علم خلّته وفاقته. قاله محمد بن جرير، وقال الكلبي والضحاك: تجاوز عن ظلمه، وقال: يتجاوز عنه إذا استطال عليه عند ردّه علم الله تعالى إنّ الفقير إذا ردّ بغير نوال شقّ عليه ذلك مما يدعو إلى بذاء اللسان أو إظهار الشكوى، وعلم ما يلحق المانع منه، فحثّه على الصفح والعفو وبيّن أن ذلك خَيْرٌ له مِنْ صَدَقَةٍ يدفعها إليه يَتْبَعُها أَذىً أي منّ وتعيير السائل بالسؤال أو شكاية منه أو عيب أو قول يؤذيه. وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقة العباد، ولو شاء لأغنى جميع الخلق ولكنّه أعطى الأغنياء لينظر كيف شكرهم [وأخلى الفقراء] لينظر كيف صبرهم، وذلك قوله عزّ وجلّ:
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ «1» بالفرض والصدقة والمعروف «2» . حَلِيمٌ إذ لم يعجّل على من يمنّ ويؤذي بصدقته. وعن عبد الرحمان السليماني مولى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ثم ردّوا عليه بوقار ولين أو بذل يسير أو بردّ جميل فإنّه قد يأتيكم من ليس بأنس ولا جان ينظرون كيف صنيعتكم فيما خوّلكم الله عزّ وجلّ» [190] «3» . وعن بشر بن الحرث قال: رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في المنام فقلت: يا أمير المؤمنين تقول شيئا لعلّ الله عزّ وجلّ ينفعني به. فقال: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبة في ثواب الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله عزّ وجلّ. فقلت: يا أمير المؤمنين زدني، فولّى وهو يقول: قد كنت ميّتا فصرت حيّا ... وعن قليل تصير ميتا فاضرب بدار الفناء بيتا ... وابن بدار البقاء بيتا «4» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى أي لا تحبطوا أجور صدقاتكم وثواب نفقاتكم بالمنّ على السائل. وقال ابن عباس: بالمنّ على الله تعالى والأذى لصاحبها. ثم ضرب لذلك مثلا فقال: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ أي كإبطال الذي ينفق ماله رِئاءَ النَّاسِ مراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقولوا أنّه كريم سخي صالح وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن كفره غير مرائي فَمَثَلُهُ أي مثل هذا المنافق المرائي كَمَثَلِ صَفْوانٍ الحجر إلّا ملس. قال الشاعر: مالي أراك كأنّي قد زرعت حصا ... في عام جدب ووجه الأرض صفوان أما لزرعي آبان فأحصده ... كما يكون لوقت الزرع آبان وهو واحد وجمع، فمن جعله جمعا قال: واحده صفوانة، بمنزلة تمرة وتمر ونخلة ونخل.
ومن جعله واحدا قال: جمعه صفي وصفى. قال الشاعر: مواقع الطير على الصفي وقال الزعري: صَفْوانٍ بفتح الفاء، وجمعه صفوان مثل كروان وكروان وورشان وورشان. عَلَيْهِ أي على ذلك الصفوان تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ وهو المطر الشديد العظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً وهو الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه. قال تابّط شرا: ولست بحلب جلب ريح «1» وقرّة ... ولا بصفا صلد عن الخير معزل «2» وهو من الأرض ما لا ينبت، ومن الرؤوس ما لا شعر عليه. قال رؤبة: لمّا رأتني حلق المموّه ... براق أصلاد الجبين الأجلة «3» يعني الأجلح. وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي، يعني: إن الناس يرون في الظاهر إنّ لهؤلاء أعمالا كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كلّه وبطل لأنّه لم يكن لله عزّ وجلّ كأنّه لم يكن كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب. فَتَرَكَهُ صَلْداً أجرد لا شيء عليه لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ على ثواب شيء مِمَّا كَسَبُوا عملوا في الدنيا لأنّهم لم يعملوه لله تعالى وطلب ما عنده وإنّما عملوه رياء الناس وطلب حمدهم فصار ذلك معظم من أعمالهم «4» . وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ نظيره قوله تعالى في وصف أعمال الكفّار: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «5» . وقوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ «6» الآية.
[سورة البقرة (2) : الآيات 265 إلى 267]
عكرمة عن ابن عباس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يسمع أهل الجمع: أين الذين يعبدون الناس قوموا وخذوا أجوركم ممن عملتم له فإنّي لا أقبل عملا خالطه شيء من الدنيا» [191] «1» . عبد الله المدني قال: بلغني أنّ رجلا دخل على معاوية قال: مررت بالمدينة فإذا أبو هريرة جالس في المسجد، حوله حلقة يحدّثهم فقال: حدّثني أبو القاسم ثم استعبر فبكى فقال: حدّثني خليلي أبو القاسم ثم استعبر فبكى فقال: حدّثني خليلي أبو القاسم ثم بادره الرجل فقال: إنّي رجل غريب لست من أهل البلد وقد أردت أن تحدّث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك تخنقك العبرة فأخبرني هذا الذي أردت أن تحدّث به، قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل قد كان خوّله مالا فيقال كيف صنعت فيما خوّلناك؟ فقال: أنفقت وأعطيت، فقال: أردت أن يقال فلان سخي فقد قيل لك فماذا يغني عنك. ثم يؤتى برجل شجاع فيقال له: ألم أشجّع قلبك؟ قال: بلى، فيقال: كيف صنعت؟ قال: قاتلت حتّى أحرقت مهجتي، فيقال له: أردت أن يقال فلان شجاع وقد قيل فماذا يغني عنك، ثم يؤتى برجل قد أوتي علما فيقال له: ألم أستحفظك العلم؟ قال: بلى، فيقال: كيف صنعت، فيقول: تعلّمت وعلّمت، فيقال: أردت أن يقال فلان عالم وقد قيل فماذا يغني عنك، ثم قال: أذهبوا بهم إلى النار» . [سورة البقرة (2) : الآيات 265 الى 267] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ طلب رضا الله وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ قال الشعبي والكلبي والضحاك: يعني تصديقا من أنفسهم يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم يعلمون أن ما أخرجوا خيرا لهم ممّا تركوا. السدي وأبو صالح وأبو روق وابن زيد والمفضّل: على يقين إخلاف الله عليهم. قتادة:
احتسابا بإيمان من أنفسهم، عطاء ومجاهد: مثبّتون أي لا يضيّعون أموالهم، وكذلك قرأ مجاهد: وتثبيتا لأنفسهم. قال الحسن: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت إن كان لله أعطى وإن خالطه شيء أمسك، وعلى هذا القول يكون التثبيت بمعنى التثبت كقوله عزّ وجلّ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «1» أي تبتّلا. سعيد بن جبير وأبو مالك: تخفيفا في ذنبهم. ابن كيسان: إخلاصا وتوطينا لأنفسهم على طاعة الله عزّ وجلّ في نفقاتهم، الزجاج: ينفقونها مقرّين بأن الله عزّ وجلّ رقيب عليهم. وأصل هذه الكلمة من قول السائل: ثبت فلان في هذا الأمر إذا حققه وثبت عليه وعزمه وقوي عليه بذاته. فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا «2» كَمَثَلِ جَنَّةٍ أي بستان. قال الفراء: إذا كان في البستان نخل فهو جنّة، وإذا كان كرم فهو فردوس. وقول مجاهد: كمثل حبّة بالحاء والباء بِرَبْوَةٍ قرأ السليمي والعطاردي والحسن وعاصم وابن عامر: بِرَبْوَةٍ بفتح الراء هاهنا وفي سورة المؤمنين وهي لغة بني تميم. وقال أبو جعفر وشيبة ونافع وابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو ويعقوب وأيوب بضم الراء فيهما. واختاره أبو حاتم وأبو عبيد لأنّها أكمل اللغات وأشهرها، وقول ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي وابن أبي إسحاق: بربوة، وقرأ أشهب العقيلي: برباوة بالألف وكسر الراء فيها. وهي جميعا المكان المرتفع المستوي الذي تجري فيه الأنهار ولا يخلو من الماء. وإنّما سمّيت ربوة لأنّها ربت [وطابت] وعلت، من قولهم ربا الشيء يربو إذا انتفخ وعظم، وإنّما جعلها بربوة لأن النبات عليها أحسن وأزكى. أَصابَها وابِلٌ مطر شديد كثير فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: أُكُلَها بالتخفيف والباقون بالتشديد وهو الثمر. قال المفضّل: الأكل: كثرة ما في الشيء ممّا يجود ويقوى به، يقال: ثوب كثير الأكل، أي كثير الغزل. ومعناه: وأعطت ثمرها ضعفين والضعف في الحمل. قال عطاء: حملت في سنة من الريع ما تحمل غيرها في سنتين. قال عكرمة: حملت في السنة مرّتين. فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي فطشّ وهو أضعف المطر وألينه.
قال السدي: هو الندى. أبو سلام عبد الملك بن سلام عن زيد بن أسلم في قوله فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ قال: هي أرض مصر إن لم يصبها مطر زكت وإن أصابها مطر ضعفت، وهذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ لعمل المؤمن المخلص، يقول: كما أن هذه الجنّة تريع في كلّ حال ولا تخلف ولا تخيّب صاحبها سواء قلّ المطر أو كثر، كذلك يضاعف الله عزّ وجلّ ثواب صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمنّ ولا يوذي سواء قلّت نفقته وصدقته أو كثرت فلا تخيب بحال. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هذه الآية متصلة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى. الآية أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وإنّما قال: أَصابَهُ فردّ الماضي على المستقبل لأن العرب تلفظ توددت مرّة مع (لو) وهي الماضي فتقول: وددت لو ذهبت عنّا، ومرّة مع (أن) وهي للمستقبل فتقول: وددت أن تذهب عنّا، و (لو) و (أن) مضارعان في معنى الجزاء، ألا ترى أنّ العرب فيما جمعت بين (لو) و (أن) قال الله تعالى: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ «1» . الآية كما تجمع بين (ما) و (أن) وهما جحد. قال الشاعر ما أن رأيت ولا سمعت بمثله ... كاليوم طالي أينق جرب «2» فلما جاز ذلك صلح أن يقال: فعل بتأويل يفعل ويفعل بتأويل فعل، وان ينطق ب (لو) عنها ما كان (أن) وب (أن) مكان (لو) . فمعنى الآية: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ لو كان لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ أولاد صغار ضُعَفاءُ عجزة فَأَصابَها إِعْصارٌ وهي الريح العاصف التي تهب من الأرض إلى السماء كأنّها عمود. قال الكميت: [تسدي الرياح بها ذيلا وتلحمه ... ذا معتو من دقيق الترب موّار في منخل جاء من هيف يمانيه ... بالسافيات وفي غربال إعصار] وجمعه أعاصير.
قال يزيد بن المقرّع الحميري. أناس أجارونا وكان جوارهم ... أعاصير من فسو «1» العراق المبذر «2» وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق المرائي، يقول: عمل هذا المرائي لي حسنة لحين الجنّة فينتفع بها كما ينتفع صاحب الجنّة بها وإذا كبر وضعف وصار له أولاد صغار أصاب جنته إعصار فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ أخرج ما كان إليها وضعف عن إصلاحها لكبره وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ولم يجد هو ما يعود على أولاده به، ولا أولاده ما يعودون به على أبيهم فينتفي هو وأولاده فقرا عجزه متحيّرين لا يقدرون على حيلة، فكذلك يبطل الله على هذا المنافق والمرائي حين لا مستعتب له ولا توبة ولا إقالة من عبرتهما وديونهما. قال عبيد بن عمير: [ضربت مثلا للعمل يبدأ فيعمل عملا صالحا فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات، ثم يسيء في آخر عمره] ، فيتمادى في الإساءة حتّى يموت على ذلك، فيكون الأعصار الذي فيه نار التي أحرقت الجنة مثلا لإساءته التي مات [وهو] عليها «3» . كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا تصدّقوا مِنْ طَيِّباتِ خيار وجياد نظير قوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «4» . ابن مسعود ومجاهد: حلالات، دليله قوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «5» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «6» . قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم بينكم أرزاقكم وإن الله طيّب لا يقبل إلّا طيبا، لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدّق منه، فيقبل منه ولا ينفق منه، فيبارك له فيه ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده إلى النار، وأن لا يمحو السيء بالسيء ولكنّه يمحو السيء بالحسن والخبيث لا يمحو به الخبيث» «7» . ما كَسَبْتُمْ بالتجارة والصناعة من الذهب والفضّة. قال عبيد بن رفاعة: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر التجّار أنتم فجّار إلا من
أتقى وبرّ وصدّق وقال هكذا وهكذا وهكذا» «1» . وقال قيس بن عروة الغفاري: كنّا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة نسمّي أنفسنا السماسرة فسمّانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باسم هو أحسن من اسمنا فقال: «يا معشر التجّار، إنّ هذا البيع يحضره اللهو والكذب واليمين فشوبوه بالصدقة» «2» . مكحول عن أبي إمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخير عشرة أجزاء أفضلها التجارة إذا أخذ الحق وأعطاه» وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي في السابياء «3» » «4» . ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر قريش لا يغلبنّكم هذه الموالي على التجارة وإنّ البركة في التجارة وصاحبها لا يفتقر إلّا تاجر حلّاف مهين» . عاصم ابن أبي النجود عن أبي وائل قال: درهم من تجارة أحب إليّ من عشرة من عطائي. الأعمش عن أبي إبراهيم عن عائشة قالت: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» [192] «5» . وقال سعيد بن عمير: سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أي كسب الرجل أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده وكلّ بيع مبرور» . محمد بن الراضبي قال: مرّ إبراهيم النخعي على امرأة من مزاد وهي تغزل على بابها فقال: يا أم بكر أما كبرت أما آن لك أن تلقي هذا، قالت: كيف ألقيه وقد سمعت عليّا (رضي الله عنه) يقول: إنّه من طيّبات الرزق. وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني الحبوب والثمار التي تقتات وتدخر مما يجب فيه الزكاة. عمر بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أم معبد حائطا، فقال: «يا أم معبد من غرس هذا، أمسلم أم كافر؟» قالت: بل مسلم، قال: «فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طائر إلّا كانت له صدقة إلى يوم القيام» «6» . هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قال التمسوا «7» الرزق في خبايا الأرض» .
قال مالك بن دينار: قرأت في التوراة: طوبى لمن أكل من ثمرة يديه. وَلا تَيَمَّمُوا قرأ ابن مسعود: ولا تأمموا بالهمز. وقرأ ابن عباس: وَلا تُيَمِّمُوا مضمومة التاء مكسورة الميم الأولى يعني لا توجّهوا. وقرأ ابن كثير: (وَلا تَيَّمَّمُوا) بتشديد الياء وفتحها فيها وفي أخواتها وهي أحدى وثلاثون موضعا في القرآن رد الساقط وأدغم لأن في الأصل تاءان تاء المخاطبة وتاء الأمر فحذفت تاء الفعل. وقرأ الباقون: وَلا تَيَمَّمُوا مفتوحة مخففة. وهي كلّها لغات بمعنى واحد، يقال: أممت فلانا وتيممته وتأممته، إذا قصدته وعمدته. قال الأعشى ميمون بن قيس: تيممت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمه ذي شزن «1» السدي عن علي بن ثابت عن الفراء قال: نزلت هذه الآية في الأنصار كانت تخرج إذا كان جذاذ النخل من حيطانها أقناء من التمر والبسر فيعلقونه على حبل بين أسطوانتين في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان الرجل يعمد فيخرج قنو الحشف «2» وهو يظن أنّه جائز عنه في كثرة ما يوضع من الأقناء فنزل فيمن فعل ذلك. وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ يعني القنو الذي فيه الحشف ولو كان أهدى لكم ما قبلتموه «3» . عن باذان عن ابن عباس في هذه الآية قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «إنّ لله في أموالكم حقّا فإذا بلغ حق الله في أموالكم فأعطوا منه» وكان الناس يأتون أهل الصدقة بصدقاتهم ويضعونها في المسجد فإذا اجتمعت قسّمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم. قال: فجاء رجل ذات يوم. بعد ما رقّ أهل المسجد وتفرّق هامهم. بعذق حشف فوضعه في الصدقة، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبصره فقال: «من جاء بهذا العذق الحشف» قالوا: لا ندري يا رسول الله. قال: «بئسما صنع صاحب هذا الحشف» فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عليّ بن أبي طالب والحسن ومجاهد والضحاك: كانوا يتصدّقون بشرار ثمارهم
ورذالة أموالهم فيعزلون الجيّد ناحية لأنفسهم، فأنزل الله تعالى وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ يعني الردي من أموالكم، والخشف من التمر، والعفن والزوان من الحبوب، والزيوف من الدراهم والدنانير. وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ محل أن نصب بنزع حرف الصفة، يعني: بأن تغمضوا فيه. وقرأ الزهري: تَغْمُضُوا بفتح التاء وضم الميم. وقرأ الحسن بفتح التاء وكسر الميم، وهما لغتان غمض يغمض ويغمض. وقرأ قتادة تغمضّوا فيه من التفعيل وقرأ أبو مجلن: تُغمَضوا بفتح الميم وضم التاء يعني إلّا أن تغمض لكم. وقرأ الباقون: تُغْمِضُوا. والإغماض: غض البصر وإطباق جفن على جفن. قال روبة: أرق عينيّ عن الإغماض ... برق سرى في عارض نهّاض «1» وأراد هاهنا التجويز والترخص والمساهلة، وذلك إن الرجل إذا رأى ما يكره أغمض عينه لئلّا يرى جميع ما يفعل، ثم كثر ذلك حتّى جعل كلّ تجاوز ومساهلة في البيع إغماضا. قال الطرمّاح: لم يفتنا بالوتر قوم وللضيم ... رجال يرضون بالإغماض «2» قال علي والبراء بن عازب: معناه: لو كان لأحدكم على رجل حقّ فجاءه بهذا، لم يأخذه إلّا وهو يرى أنّه قد أغمض عن بعض حقّه . وهي رواية العوفي عن ابن عباس. وروى الوالبي عنه: ولستم بآخذي هذا الردي لو كان لأحدكم على الآخر حقّ بحساب الجيّد حتّى تنقصوه. الحسن وقتادة: لو وجدتموه بياعا في السوق ما أخذتموه بسعر الجيّد حتّى يغمّض لكم من ثمنه. وروي عن الفراء أيضا قال: لو أهدي ذلك لكم ما أخذتموه إلّا على استحياء من صاحبه وغيظ أنّه بعث إليك بما لم يكن فيه حاجة، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! أخبر الله تعالى أن أهل السهمان شركاء ربّ المال في ماله فإذا كان ماله كلّه جيّدا فهم
[سورة البقرة (2) : الآيات 268 إلى 271]
شركائه في الجيّد فأمّا إذا كان المال كلّه ردئا فلا بأس بإعطاء الردي لأن الواجب فيه ذلك إلّا أن تتطوع. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن نفقاتكم وصدقاتكم حَمِيدٌ محمود في أفعاله. وعن معبد بن منقذ ان أبا شريح الكعبي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيتموني أتصدّق شرّ ما عندي فاكووني واعلموا إنّي مجنون. [سورة البقرة (2) : الآيات 268 الى 271] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي بالفقر فحذف الباء كقول الشاعر: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نسب «1» ويقال: وعدته خيرا ووعدته شرّا، قال الله تعالى في الخير: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها «2» وفي الشر: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «3» فإذا لم يذكر الخير والشرّ قلت في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته وأنشد أبو عمرو: وإنّي وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف أيعادي ومنجز موعدي «4» والفقر: سوء الحال وقلّة اليد، وفيه لغتان: الفقر والفقر كالضعف والضعف. وأصله من كسر الفقار، يقال: رجل فقّار وفقير، أي مكسور فقار الظهر. قال الشاعر: وإذا تلسنني ألسنتها ... إنني لست بموهون فقر «5» ومعنى الآية: إنّ الشيطان يخوّفكم بالفقر ويقول للرجل أمسك مالك فإن تصدّقت افتقرت. وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي البخل ومنع الزكاة. وزعم مقاتل [بن حيان] أنّ كلّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلّا في هذه الآية.
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ أي يجازيكم، وعد الله إلهام وتنزيل، ووعد الشيطان وساوس وتخيّل. مَغْفِرَةً مِنْهُ لذنوبكم وَفَضْلًا أي رزقا وخلفا وَاللَّهُ واسِعٌ غني عَلِيمٌ يقال: مكتوب في التوراة: عبدي أنفق من رزقي، أبسط عليك من فضلي. يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ قال السدي: هي النبوّة. ابن عباس وقتادة وأبو العالية: علم القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه. الضحاك: القرآن والحكم فيه. وقال: في القرآن مائة وتسع آيات ناسخة ومنسوخة، وألف [آية] «1» حلال وحرام، ولا يسع المؤمنين تركهن حتّى يتعلّموهن فيعلموهن، ولا تكونوا كأهل النهروان تأوّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة وإنّما نزلت في أهل الكتاب، جهلوا علمها فسفكوا بها الدماء وشهدوا علينا بالضلال وانتهبوا الأموال. فعليكم بعلم القرآن فإنّه من علم فيما أنزل لم يختلف في شيء منه نفع وأنتفع به. مجاهد: أما أنّها ليست بالنبوّة ولكنّها القرآن والعلم والفقه. وروى ابن أبي نجيح: الإصابة في القول والفعل. ابن زيد: العقل. ابن المقفّع: كلّ قول أو فعل شهد العقل بصحّته. إبراهيم: الفهم. عطاء: المعرفة بالله عزّ وجلّ. ربيع: خشية الله. سهل بن عبد الله التستري: الحكمة: السنة. وقال بعض أهل الإشارة: العلم الرباني. وقيل: إشارة بلا علّة، وقيل: إشهاد الحق تعالى على جميع الأحوال. أبو عثمان: هو النور المفرّق بين الإلهام والوسواس. وقيل: تجريد السرّ لورود الإلهام. القاسم: أن يحكم عليك خاطر الحق ولا تحكم عليك شهوتك. بندار بن الحسين وقد سئل عن قوله تعالى يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ. فقال: سرعة الجواب مع إصابة الصواب. وقال أهل اللغة: كلّ فضل جرّك من قول أو فعل وهي أحكام الشيء المفضّل. [ ... ] «2» الحكمة الرد إلى الصواب، وحكمة الدابة من ذلك لأنّها تردّها إلى القصد. منصور بن عبد الله قال: سمعت الكتابي يقول: إنّ الله بعث الرسل بالنصح لأنفس خلقه، فأنزل الكتب لتنبيه قلوبهم وأنزل الحكمة لسكون أرواحهم، والرسول داع إلى الله، والكتاب داع
إلى أحكامه، والحكمة مشيرة إلى فضله. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ قرأ الربيع بن خيثم: توتي الحكمة ومن تؤت الحكمة بالتاء فيها. وقرأ يعقوب وَمَنْ يُؤْتِ بكسر التاء أراد من يؤته الله. وقرأ الباقون وَمَنْ يُؤْتَ بفتح التاء على الفعل المجهول. ومَنْ في محل الرفع على اسم ما لم يسم فاعله، والحكمة خبرها. الحسن بن دينار عن الحسن في قوله: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ هو الورع في دين الله عزّ وجلّ. فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ يتعظ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ذوي العقول، واللب من العقل ما صفا من دواعي الهوى. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ فيما فرض الله عليكم أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ أو ما أوجبتموه أنتم على أنفسكم فوفّيتم به. والنذر نذران: نذر في الطاعة، ونذر في المعصية. فإذا كان لله فالوفاء به واجب وفي تركه الكفّارة، وما كان للشيطان فلا وفاء ولا كفارة. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ويحفظه حتّى يجازيكم به. وإنّما قال يَعْلَمُهُ ولم يقل يعلمها لأنّه ردّه إلى الآخر منها كقوله وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً «1» . قاله الأخفش، وإن شئت حملته على ما، كقوله تعالى: ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ «2» ولم يقل بها. وَما لِلظَّالِمِينَ الواضعين النفقة والنذر في غير موضعها بالرياء والمعصية مِنْ أَنْصارٍ أعوان يدفعون عذاب الله عزّ وجلّ عنهم، والأنصار: جمع نصير، مثل شريف وأشراف وحبيب وأحباب. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وذلك أنهم قالوا: يا رسول الله صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فأنزل الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أي تظهروها وتعلنوها فَنِعِمَّا هِيَ أي نعمت الخصلة هي. وما في محل الرفع وهِيَ لفظ في محل النصب كما تقول: نعم الرجل رجلا، فإذا عرفت رفعت فقلت: نعم الرجل زيد. فأصله نعم ما فوصلت وأدغمت، وكان الحسن يقرأها فنعم ما مفصولة على الأصل، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع غير ورش وعاصم برواية أبي بكر. وأبو عمرو وأبو بحرية: فنِعْما بكسر النون وجزم العين ومثله في سورة النساء، واختاره أبو عبيدة ذكر أنّها لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر بن
العاص: «نعمّا بالمال الصالح للرجل الصالح» «1» هكذا روي في الحديث. وقرأ ابن عامر ويحيى بن ثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بفتح النون والعين فيهما. وقرأ طلحة وابن كثير ويعقوب وأيوب بكسر النون والعين واختاره أبو حاتم، وهي لغات صحيحة، ونعم ونعم لغتان جيدتان، ومن كسر النون والعين اتبع الكسرة الكسرة لئلا يلتقي ساكنان: سكون العين وسكون الإدغام. وَإِنْ تُخْفُوها تسرّوها وَتُؤْتُوهَا تعطوها الْفُقَراءَ في السر فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وأفضل، وكلّ مقبول إذا كانت النيّة صادقة ولكن صدقة السر أفضل. وفي الحديث: «صدقة السر تطفي غضب الرب وتطفي الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وتدفع سبعين بابا من البلاء» . حفص بن عاصم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: الإمام العدل، وشاب نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل قلبه معلّق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إنّي أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لم تعلم يمينه ما ينفق شماله، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» «2» [193] . وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ شهر بن حوشب عن ابن عباس أنّه قرأ وَيُكَفِّرُ بالياء والرفع على معنى يكفّر الله. وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ويعقوب: بالنون ورفع الراء على الاستئناف، أي نحن نكفّر على التعظيم. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع والأعمش وحمزة والكسائي وأيوب وأبو حاتم: بالنون والجزم معا على الفاء التي في قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن موضعها جزم الجزاء. مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أدخل (من) للتبعيض، وعلّته: المشيئة ليكون العباد فيها على وجل ولا يتّكوا. وقال نحاة البصرة: معناه: الاسقاط، تقديره: ونكفّر عنكم سيئاتكم. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وقال أهل هذه المعاني: هذه الآية في صدقة التطوّع لإجماع العلماء ان الزكاة المفروضة إعلانها أفضل كالصلاة المكتوبة. فالجماعة أفضل من أفرادها وكذلك سائر الفرائض لمعنيين: أحدهما ليقتدي به الناس. والثاني إزالة التهمة لئلّا يسيء الناس به الظن ولا رياء في الغرض، فأمّا النوافل والفضائل فإخفاؤها أفضل لبعدها من الرياء والآفات، يدل عليه ما روى عمّار الذهبي عن أبي جعفر أنّه قال في قوله إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ
[سورة البقرة (2) : الآيات 272 إلى 273]
قال: يعني الزكاة المفروضة، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ يعني التطوّع. وعن معد بن سويد الكلبي يرفعه: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الجهر بالقراءة والإخفاء بها فقال: «هي بمنزلة الصدقة فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» . كثير بن مرّة عن عقبة بن عامر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسرّ بالقرآن كالمسر بالصدقة والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة» [194] «1» . وروى علي بن طلحة عن ابن عباس في هذه قال: جعل الله عزّ وجلّ صدقة التطوّع في السر تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وصدقة الفريضة تفضل علانيتها بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل. [سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 273] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ قال الكلبي: اعتمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرة القضاء وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر، فجاءتها أمّها قتيلة وجدّتها تسألانها وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما شيئا حتّى أستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية أن تتصدّق عليهما فأعطتهما ووصلتهما. قال الكلبي: ولها وجه آخر وذلك إنّ ناسا من المسلمين كانت لهم رضاع في اليهود وكانوا ينفقونهم قبل أن يسلموا فلما أسلموا كرهوا أن ينفقونهم وأرادوهم أن يسلموا، فاستأمروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فأعطوهم بعد نزولها. وقال سعيد بن جبير: كانوا يتصدّقون على فقراء أهل الذمّة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تتصدّقوا إلّا على أهل دينكم» [195] «2» . فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها.
وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وأراد بالهدى: التوفيق والتعريف لأنّه كان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدى البيان والدعوة. وعن عمر بن عبد العزيز قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رأى رجلا من أهل الذمّة يسأل على أبواب المسلمين فقال: ما أنصفناك يأخذوا منك الجزية ما دمت شابا ثم ضيّعناك اليوم، فأمر أن تجرى علية قوته من بيت المال. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ شرط وجزاء، والخير هاهنا المال وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ شرط كالأوّل لذلك حذف النون منها [في الموضعين] . يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه، كأن معناه: يؤدّى إليكم، فكذلك أدخل إلى وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تظلمون من ثواب أعمالكم شيئا. وأعلم إنّ هذه الآية في صدقة التطوّع، أباح الله أن يتصدّق المسلم على المسلم والذمّي، فأمّا صدقة الفرض فلا يجوز إلّا للمسلمين، وهما أهل السهمين الذين ذكرهم الله تعالى في سورة التوبة، ثم دلّهم على خير الصدقات وأفضل النفقات، فقال الله تعالى: لِلْفُقَراءِ واختلف العلماء في موضع هذا اللام، فقال بعضهم: هو مردود على موضع اللام من قوله فَلِأَنْفُسِكُمْ كأنّه قال: وما تنفقوا من خير فللفقراء وإنّما تنفقون لأنفسكم ثوابها راجع إليكم، فلمّا اعترض الكلام قوله فَلِأَنْفُسِكُمْ وأدخل الفاء التي هي جواب الجزاء فيها، تركت أعادتها في قوله لِلْفُقَراءِ إذ كان معنى الكلام مفهوما. وقال بعضهم: خبر محذوف تقديره: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ صفتهم كذا، حق واجب، وهم فقراء المهاجرين وكانوا نحوا من أربعمائة رجل ليس لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر جعلوا أنفسهم في المسجد يتعلّمون القرآن بالليل ويرضخون بالنهار [ ... ] «1» وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [فخرج] «2» يوما على أصحاب الصفّة فرأى فقرهم وجهدهم فثبّت قلوبهم فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفّة، فمن بقي من أمّتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنّهم من رفقائي» . وروي إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إلى سعيد بن عامر بألف درهم فجاء كئيبا حزينا فقالت له امرأته: حدث أمر، قال: أشدّ من ذلك، ثم قال: أريني درعك الخلق فشقّه وجعله صررا ثم قام يصلّي ويبكي إلى الغداة، فلما أصبح قام بالطريق فجعل [ينفق كل] صرّة حتّى أتى
على آخرها، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يجيء فقراء المهاجرين يوم القيامة للحساب فيقولون هل أعطيتمونا شيئا فتحاسبوننا عليه فيدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمس مائة عام، حتّى إنّ الرجل من الأغنياء ليدخل في غمارهم فيؤخذ فيستخرج، فأراد عمر أن يجعلني ذلك الرجل وما يسرّني إنّي كنت ذلك الرجل وإن لي الدنيا وما فيها» [196] «1» . أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حبسوا ومنعوا في طاعة الله لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً سيرا فِي الْأَرْضِ وتصرّفا فيها للتجارة وطلب المعيشة، نظيره قوله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ «2» . قال الشاعر: قليل المال يصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد وحفظ المال أيسر من بغاه ... [وضرب] في البلاد بغير زاد «3» قال قتادة: معناه: حبسوا أنفسهم في سبيل الله عزّ وجلّ للغزو والعبادة ف لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ ولا يتفرّغون إلى طلب المعاش. وقال ابن زيد: من كثرة ما جاهدوا لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ، فصارت الأرض كلّها حربا عليهم لا يتوجّهون جهة إلّا ولهم فيها عدو. وقال سعيد: هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصاروا زمنى فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض، واختاره الكسائي، قال: أُحْصِرُوا من المرض، فلو أراد الحبس لقال: حصروا، وإنّما الإحصار من الخوف أو المرض، والحصر الحبس في غيرهما «4» . يَحْسَبُهُمُ قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة والأعمش وحمزة وعاصم يحسب وبابه بفتح السين في جميع القرآن. والباقون بالكسر. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقيل إنّها لغة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه وافد بني المشفق قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا وصاحب لي فذكر حديثا فقال صلّى الله عليه وسلّم للراعي: «أذبح لنا شاة» ، ثم قال: «لا تحسبن أنا أنّما ذبحناها من أجلكم- ولم يقل يحسبن أنا إنما ذبحناها لك-، ولكن لنا مائة من الغنم فإذا زادت
شاة ذبحنا شاة لا نريد أن تزيد على المائة» [197] «1» . الْجاهِلُ بأمرهم وحالهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ من تعففهم عن السؤال، والتعفف: [التفعل] من العفّة وهو الترك، يقال: عفّ عن الشيء إذا كفّ عنه، وعفيف إذا تكلّف في الإمساك. قال رؤبة: فعفّ عن إسرارها بعد الغسق وقال محمد بن الفضل: يمنعهم علوّ همّتهم رفع جوابهم إلى مولاهم. تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ قرأ حمزة والكسائي بالإمالة. الباقون بالتفخيم، والسيما والسيميا: العلّامة التي يعرف بها الشيء، وأصلها من السّمة، واختلفوا في السيميا التي يعرفون بها. فقال مجاهد: هو التخشّع والتواضع. الربيع والسدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر. الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع والضر، ابن زيد: رثاثة ثيابهم فالجوع خفي على الناس، يمان: النحول والسكينة. الثوري: فرحهم بفقرهم واستقامة أحوالهم عند موارد البلاء عليهم، [المرتضى] : غيرتهم على فقرهم وملازمتهم إياه. أبو عثمان: إيثار ما يملكون مع الحاجة إليه. قال بعضهم: تطيب قلوبهم وبشاشة وجوههم وحسن حالهم ونور أسرارهم وجولان أرواحهم في ملكوت ربّهم. لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً قال عطاء: يعني إذا كان عنده غداء لا يسأل عشاء، فإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء. وقال أهل المعاني: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً ولا غير إلحاف لأنّه قال مِنَ التَّعَفُّفِ، والتعفف ترك السؤال أصلا وقال أيضا: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ ولو كانت المسألة من شأنهم لما كان [للنبي صلّى الله عليه وسلّم] إلى معرفتهم بالعلامة والدلالة حاجة، إذ السؤال يغني عن حالهم وهذا كما قلت في الكلام: قال ما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلّك لم تر مثله قليلا ولا كثيرا، قال الله عزّ وجلّ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ «2» وهم كانوا لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا. وأنشد الزجاج: على لا حب لا يهتدى لمنارة «3» ... إذا ساقه العود النباطي جرجرا «4»
معناه: ليس له منار فيهتدي له. كذلك معنى الآية: ليس لهم سؤال فيقع فيه، الحاف، والإلحاف: الإلحاح واللجاج في السؤال، وهو مأخوذ من لحف الحبل وهو خشونته، كأنّه استعمل الخشونة في الطلب. روى هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) يقول: «من سأل وله أربعون درهما فقد ألحف» [198] «1» . قال هشام: قال الحسن: صاحب الخمسين درهما [غني] عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنّما المسكين المتعفّف» . اقرءوا إن شئتم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [199] «2» . الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ يحب أن يرى أثر النعمة على عبده، ويكره البؤس والتبأوس، ويحب الحليم المتعفّف من عباده ويبغض الفاحش البذي السائل اللحف» [200] «3» . وعن قبيصة بن مخارق قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم استعنته في حمالة فقال: «أقم عندنا حتّى تأتينا الصدقة فإما أن نحملها وإما أن نعينك فيها، وأعلم إنّ المسألة لا تحل إلّا لثلاثة: لرجل يحمل حمالة عن قوم فسأل فيها حتّى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته حاجة فأذهبت ماله فسأل حتّى يصيب سدادا من عيش أو قواما من عيش ثم يمسك، ورجل أصابته فاقة حتّى شهد له ثلاثة من ذوي الحجا من قومه فسأل حتّى يصيب سدادا أو قواما من عيش ثم يمسك، فما سوى ذلك من المسائل سحت يأكله صاحبه يا قبيصة سحتا» «4» . وروى قتادة عن هلال بن حصن عن أبي سعيد الخدري قال: أعوزنا مرّة فقيل لي: لو أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته، فانطلقت إليه معتفيا، فقال أوّل ما واجهني به: «من استعفف عفّه الله ومن استغنى أغناه الله ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئا نجده» . قال: فرجعت إلى نفسي فقلت: ألا استعفف فعفّني الله، فرجعت فما سألت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا بعد ذلك من حاجة حتّى مالت علينا الدنيا فغرقتنا «5» إلّا من عصمه الله محمد صلّى الله عليه وسلّم «6» إنّ الله
[سورة البقرة (2) : الآيات 274 إلى 276]
عزّ وجلّ كره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ونهى عن عقوق الأمّهات ووأد البنات وعن منع وهات «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي الوسطى ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، ومن سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة كدوحا أو خموشا أو خدوشا «2» في وجهه» . قيل: وما غناه يا رسول الله؟ قال: «خمسون درهما أو عدّها من الذهب» «3» . وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ قال فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وعليه يجازيه. [سورة البقرة (2) : الآيات 274 الى 276] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً الآية. مجاهد عن ابن عباس قال: كان عند عليّ بن أبي طالب- كرّم الله وجهه- أربعة دراهم لا يملك غيرها، فتصدق بدرهم سرّا، ودرهم علانيّة، ودرهم ليلا ودرهم نهارا، فنزلت الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية «4» . وعن يزيد بن روان قال: ما نزل في أحد من القرآن ما نزل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يسبق الدرهم مائة ألف» قالوا: يا رسول الله وكيف يسبق الدرهم مائة ألف؟ قال: «رجل له درهمان فأخذ أحدهما وتصدّق به، ورجل [ ... ] «5» فأخرج من غرضها مائة ألف فتصدّق بها» «6» . وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: لما أنزل الله عزّ وجلّ لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى أصحاب الصفة حتّى أغناهم، وبعث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في جوف الليل بوسق من تمر- والوسق ستون صاعا-
وكان أحب الصدقتين إلى الله عزّ وجلّ صدقة عليّ رضي الله عنه فأنزل الله فيهما الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية، فعنى بالنهار عَلانِيَةً صدقة عبد الرحمن بن عوف وبِاللَّيْلِ ... سِرًّا صدقة عليّ رضي الله عنه «1» . وقال أبو امامة وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي ورباح بن يزيد: هم الذين يمتطون «2» الخيل في سبيل الله ينفقون عليها بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً، نزلت فيمن لم يرتبط الخيل تخيلا ولا افتخارا، يدلّ عليه ما روى سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً قال: «نزلت في أصحاب الخيل» . قال غريب: والجن لا يقرب بيتا فيه عتيق من الخيل، ويروى أنه أشار إلى بعض خيل كانت في الخيانة فأشار إلى عتاق تلك الخيل فقال: هؤلاء الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ. الآية. وعن حبس بن عبد الله الصنعاني أنّه قال: حدّث ابن عباس في هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فقال: في علف الخيل «3» . وعن أبي سريح عمّن حدّثه عن أبي الفقيه أنّه قال: من حبس فرسا كان ستره من النار، [وسقطت منه حسنة] «4» ، وكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين تلا هذه الآية، وإذا مرّ بفرس أعجف سكت. شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أرتبط فرسا في سبيل الله فأنفق عليه احتسابا، كان شبعه وجوعه وريّه وظمؤه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة» . عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المنفق في سبيل الله على فرسه كالباسط كفّيه بالصدقة» [201] «5» . فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ قال الأخفش [ ... ] «6» : إنّه جعل الخبر بالفاء إذا كان الاسم الذي وصل به [ ... ] «7» ، لأنّه في معنى من وجواب من بالفاء في الجزاء، ومعنى الآية: من أنفق فله أجره. عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا ومعنى الربا: الزيادة على أصل المال في غير بيع يقال: ربي الشيء إذا زاد، وأربى عليه و [عامل] عليه إذا زاد عليه
في الربا. قال عمر رضي الله عنه: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثل بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلّا مثل بمثل، ولا تبيعوا الذهب بالذهب أحدهما غائب والآخر حاضر، وإن استنظرك حتّى يلج بيته فلا تنظره إلّا يدا بيد هات وهذا أني أخاف عليكم الربا «1» . قالوا: وقياس كتابته بالياء لكسرة أوّله، وقد كتبوه في القرآن بالواو. قال الفراء: إنّما كتبوه كذلك لأنّ أهل الحجاز تعلّموا الكتابة من أهل الحيرة ولغتهم الربوا، فعلّموهم صورة الحرف على لغتهم فأخذوه كذلك عنهم. وكذلك قرأها الضحاك [الربوا] بالواو. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة مكان كسرة الراء. وقرأ الباقون بالتفخيم بفتحة الباء، قالوا: اليوم فأنت فيه [بالخيار إن شئت] كتبته على ما في المصحف موافقة له، وإن شئت بالياء وإن شئت بالألف. ومعنى قوله الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا [يأكلونه] حق الأكل لأنّه معظم الأمر. والربا في أربعة أشياء: الذهب، والفضّة، والمأكول، والمشروب. فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلّا مثلا بمثل ويدا بيد، وإذا اختلف الصنفان جاز التفاضل في النقد وحرّم في النسيئة، ولا يجوز صاع بر بصاعين لا نقدا ولا نسيئة لأنّهما جنس واحد، وكذلك الذهب بالذهب مثقال باثنين لا نقدا ولا نسيّة، وكذلك الفضّة بالفضّة، وكذلك صاع بر بصاعين شعير وصاع شعير بصاعين بر نقدا ولا يجوز نسيئة. ويجوز مثقال بعشرين درهما أو أقل أو أكثر نقدا ولا يجوز نسيئة، وجماع ما شايع الناس عليه ثلاثة أشياء: أحدهما: ما يعتدي به ممّا كان مأكولا أو مشروبا. والثاني: ما كان ثمنا للأشياء وقيمة للمتلفات وهو الذهب والفضّة فهذان فيهما الربا فلا يجوز بيع شيء متفاضلا نقدا ونسيئة، والصنف الثالث: ما عدا هذين مما لا يؤكل ولا يشرب ولا يكون ثمنا، فلا ربا فيه فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا نقدا ونسيئة. فهذا جملة القول فيما فيه الربا على مذهب الشافعي. وقال مالك: كلّ ثمن أو يقتات أو ما يصلح به القوت فهو الذي فيه الربا «2» . وقال أهل العراق: كلّ مكيل أو موزون فيه الربا. وقال أهل الحجاز ما روي محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار وعبد الله بن عبك قالا: جمع المنزل بين عبادة بن الصاحب ومعاوية، فقال عبادة: نهانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر، وقال أحدهما: والملح بالملح، وقال الآخر: إلّا مثلا بمثل ويدا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر ويدا بيد كيف شئنا. قال أحدهما: فمن ناد أو ازداد فقد أربى.
قوله تعالى: لا يَقُومُونَ يعني يوم القيامة من قبورهم إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ أي يصرعه ويخبطه الشَّيْطانُ وأصل الخبط الضرب والوطء ويقال ناقة خبوط، التي تطأ الناس وتضرب بقوائمها الأرض. قال زهير: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطي يعمر فيهرم «1» مِنَ الْمَسِّ الجنون. يقال: مسّ الرجل وألس فهو ممسوس ومالوس، إذا كان مجنونا، وأصله مسّ الشيطان إياه. ومعنى الآية: إنّ آكل الربا يبعثه الله يوم القيامة مجنونا [] «2» وذلك علامة أهل الربا يبعثون وفيهم خبل من الشيطان. قاله قتادة. أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قصّة الإسراء، قال: «فانطلق بي جبرائيل إلى رجال كثير كلّ رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدّين على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غُدُوًّا وَعَشِيًّا. قال: فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة [لا يسمعون ولا يعقلون] فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فتميل بطنه فيصرع فلا يستطيعون أن يبرحوا حتّى يغشاهم آل فرعون فيطؤونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البرزخ بين الدنيا والآخرة» . قال: «وآل فرعون يقولون اللهمّ لا تقم الساعة أبدا قال: ويوم يقال لهم: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «3» قال: قلت: يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» «4» . حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسري به رأى في السماء رجالا بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أي ذلك الذي نزل بهم لقولهم هكذا واستحلالهم إياه. وذلك إنّ أهل الجاهليّة كان أحدهم إذا أجلّ ماله على غريمه فطالبه بذلك يقول الغريم لصاحب الحقّ: زدني في الأجل وامهلني حتّى أزيدك في مالك فيفعلان ويقولان: سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند محل المال لأجل التأخير. فكذّبهم الله تعالى فقال:
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ تذكير وتخويف. قال السدي: أمّا الموعظة فالقرآن، وإنّما ذكر الفعل لأنّ الموعظة والوعظ واحد. وقرأ الحسن: فمن جاءته موعظة كقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «1» . مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى من أكل الربا فَلَهُ ما سَلَفَ أي ما مضى من ذنبه قبل النهي فهو مغفور له وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ يعني النهي إن شاء عصمه حتّى يثبت على الانتهاء وان شاء خذله حتّى يعود، وقيل: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فيما يأمره وينهاه ويحلّ له ويحرّم عليه وليس إليه من أمر نفسه شيء. وفيه يقول محمود الورّاق: إلى الله كلّ الأمر في كلّ خلقه ... وليس إلى المخلوق شيء من الأمر وَمَنْ عادَ بعد التحريم والموعظة إلى أكل الربا مستحلّا له فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الربا سبعون بابا أهونها عند الله كالذي ينكح أمّه» [202] «2» . وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده «3» . الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أراد الله بقرية هلاكا أظهر فيهم الربا» «4» . يَمْحَقُ اللَّهُ أي ينقصه ويهلكه ويذهب ببركته وإن كان كثيرا كما يمحق القمر. وعن عبد الله بن مسعود رفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلّة» [203] «5» . وروي جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: يَمْحَقُ اللَّهُ يعني لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حجّا ولا صلة. وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أي يزيدها ويكثرها ويبارك فيها في الدنيا ويضاعف الأجر والثواب في العقبى وإن كانت قليلة، قال عزّ من قائل: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «6» .
[سورة البقرة (2) : الآيات 277 إلى 281]
القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلّا الطيّب ويأخذها بيمينه ويربيها كما يربّي أحدكم مهره أو [فصيله] حتّى أن اللقمة لتصير مثل أحد» «1» وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ «2» . يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ قال يحيى بن معاد: لا أعرف حبّة تزن جبال الدنيا إلّا الحبّة من الصدقة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ بتحريم الربا مستحل له أَثِيمٍ [متماد في الإثم] «3» . [سورة البقرة (2) : الآيات 277 الى 281] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا قال عطاء وعكرمة: نزلت هذه الآية في العبّاس بن عبد المطلب وعثمان بن عفّان وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر: لا يبقى ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقّكما كلّه فهذا لكما أن تأخذا النصف وتؤخّرا النصف وأضعف لكما فقبلا، فلمّا جاء الرجل طلبا الزيادة، فبلغ ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنهاهما وأنزل الله هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما. وقال السدي: نزلت في العبّاس عبد المطلب وخالد بن الوليد وكانا شريكان في الجاهليّة يسلّفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير. ناس من ثقيف. ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وإنّ كلّ ربا من ربا الجاهليّة موضوع وأوّل الربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب، وكلّ دم من دم الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحرث ابن عبد المطلب. كان مرضعا في بني ليث قتله هذيل» . وقال مقاتلان: أنزلت في أربعة أخوة: من ثقيف مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، وهم
بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وكانوا يداينون المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانوا يربون، فلما ظهر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الطائف وصالح ثقيفا أسلم هؤلاء الأربعة الأخوة وطلبوا رباهم من بني المغيرة، فقالت بنو المغيرة: والله ما نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله ورسوله عن المؤمنين، فما يجعلنا أشقى الناس بهذا، فاختصموا إلى عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. وكان عامل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على مكّة وقال: «أبعثك على أهل الله» فكتب عتّاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقصّة الفريقين وكان ذلك مالا عظيما فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا وذر لفظ تهديد، وقرأ الحسن ما بقي بالألف وهي لغة طيئ، ويقول للحجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة. قال الشاعر منهم: لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا ... على الأرض قيسي يسوق الأباعرا «1» إِنْ كُنْتُمْ إذا كنتم مُؤْمِنِينَ كقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ «2» فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فإنّ لم تذروا ما بقي من الربا فَأْذَنُوا قرأ الأعمش وعاصم وحمزة رواية أبي بكر فَآذَنُوا ممدودا على وزن آمنوا وقرأ الباقون فَأْذَنُوا مقصورا مفتوح الذال، وهي قراءة علي واختيار أبي عبيد وأبي حاتم. فمن قصر معناه: فاعلموا أنتم واسمعوا، يقال: أذن الشيء يأذن أذنا وأذانة إذا سمعه وعلمه. قال الله: وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ «3» . ومن مدّ معناه: فاعلموا غيركم. قال الله تعالى: قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ «4» . وأصل الكلمة من الأذن أي أقعوه في الأذان. بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لا تأكل الربا: خذ سلاحك للحرب. وروى الوالبي عنه قال: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه، فحقّ على إمام المسلمين أن يستتيبه فإنّ نزع وإلّا ضرب عنقه. وقال أهل المعاني: حرب الله النار وحرب رسوله السيف وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ بطلب الزيادة وَلا تُظْلَمُونَ النقصان عن رأس المال. وروى آبان والمفضّل عن عاصم بضم التاء الأولى وفتح الثانية. قال أهل المعاني أنّها شرط التوبة لأنّهم أن لم يتوبوا كفروا بردّ حكم الله واستحلال ما حرّم الله فيصير مالهم فيأ للمسلمين. فلما نزلت هذه الآيات
ذكر حكم الآية
قالت بنو عمرو [بن عمير لبني المغيرة:] بل نتوب إلى الله فإنّه ليس لنا يدان بحرب الله وحرب رسوله فرضوا برأس المال وسلّموا لأمر الله فشكى بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن ندرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا فأنزل الله: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ رفع الكلام باسم كان ولم يأت لها بخبر وذلك جائز في النكرة. يقول العرب: إنّ كان رجل صالح فأكرمه، وقيل: كان لمعنى وقع الحدث وحينئذ لا يحتاج إلى الخبر. وقرأ أبي وابن مسعود وابن عباس: إنّ كان ذا عسرة على إضمار الإسم وان الغريم أو المطلوب ذا عسرة. وقرأ آبان بن عثمان: ومن كان ذا عسرة لهذه الغلّة. وقرأ الأعمش: وإن كان معسر وهو دليل قراءة العامّة. والعسرة: الفقر والضيق والشدّة. وقرأ أبو جعفر: عسُرة بضم السين، وهما لغتان. فَنَظِرَةٌ أمر في صيغة الخبر، والفاء فيه لجواب الشرط تقديره: فعليه نظرة، أي قال: واجب نظره بالنصب على معنى فلينظر نظرة لكان صوابا كقوله فَضَرْبَ الرِّقابِ، والنظرة: الإنظار. وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة: فناظرة بكسر الضاد ورفع الراء والهاء أي منتظرة. وقرأ عطاء بن أبي رباح: فنظْرة ساكنة الظاء وهي مصدر يجوز أن يكون من النظر والانتظار جميعا. إِلى مَيْسَرَةٍ قرأ عطاء وشيبة ونافع وحميد بن محيص: مَيْسُرَةٍ بضم السين والتنوين. وقرأ عمر وعلي وأبو رجاء والحسن وقتادة وعبد الله بن مسلم وأبو جعفر وأبن كثير وابن عامر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: مَيْسَرَةٍ بالتنوين وفتح السين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّها اللغة السائرة. وقرأ مجاهد وأبو سراح الهذلي: (ميسُره) بضم السين مضافا هو مثله روى زيد عن يعقوب، وروى الأعمش عن عاصم عن زرّ عن عبد الله أنّه كان يقرأها: فناظروه إلى ميسورة، وكلّها لغات معناها اليسار والغنى والسعة. وَأَنْ تَصَدَّقُوا رؤوس أموالكم على المعسر فلا تطالبونه بها خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وقرأ عاصم: تَصَدَّقُوا بتخفيف الصاد. الباقون بتشديده. ذكر حكم الآية أمر الله تعالى بانظار المعسر فمتى ما أعسر الرجل وتبيّن إعساره، فلا سبيل لرب المال إلى مطالبته بماله إلى أن يظهر يساره، فإذا ظهر يساره كان عليه توفير الحق إلى ربّ المال وعلم أنّ الحقوق [تخلف] وكلّ حق لزم الإنسان عوضا عن مال حصل في يده مثل قرض أو ابتياع
في فضل إنظار المعسر
سلعة، فإذا ادّعى الإعسار لزمته البيّنة على الإعسار لأنّ الأصل فيه استغناؤه بحصول ما صار في يده، وكلّ حق لزمه من غير حصول مال في يده كالمهر والضمان، فإذا ادّعى الإعسار لزم ربّ المال أمامه البيّنة على كونه موسرا لأن الأصل في الناس الفقر، وإذا لم يعلم له حالة استغناء كان الحكم فيه البقاء على أصل ما كان عليه إلى أن يتبيّن يساره. وقال الحسن: إذا قال: أنا معدم، فالقول قوله مع يمينه وعلى غرامه إظهار ماله ببيّنة أو عيان. وكان أبو حنيفة يرى أن يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه في السرّ، فإنّ تبيّن أنّه معسر خلّى عنه. ودليل من قال: لا يحبس، حديث أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل في ثمار فكثر دينه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا ما وجدتم ليس لكم إلّا ذلك» . وكان أبو هريرة على قضاء المدينة فأتاه رجل بغريم فقال: أريد أن تحبسه. قال: هل تعلم له عين مال نأخذه منه فنعطيك؟ قال: لا، قال: فهل تعلم له أصل مال فنبيعه ونعطيك؟ قال: لا، قال: فما تريد، قال: أريد أن تحبسه، قال: «لكنّي ادعه يطلب لك ولنفسه وعياله فإذا أيسر لزمه قضاء الدين» . سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) : «من مشى إلى غريمه بحقّه صلت عليه دواب الأرض ونون الماء وكتب الله عزّ وجلّ بكلّ خطوة شجرة يغرس له في الجنّة وذنبا يغفر له فإنّ لم يفعل ومطل فهو متعدّ» [204] «1» . أبو الزياد الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الظلم مطل الغنى فإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع» [205] «2» . في فضل إنظار المعسر زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أنظر معسرا أو وضع له، أظلّه الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» «3» ، وعن ابن عمر قال: قال رسول
فصل في الدين
الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحب أن يستجاب دعوته ويكشف كربته فلييسّر على المعسر» [206] «1» . ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: أتى الله عزّ وجلّ بعبده يوم القيامة فقال أي ربّ ما عملت لك خيرا قط أريدك به إلّا إنّك رزقتني مالا فكنت أتوسّع على المعسر. وأنظر المعسر، فيقول الله عزّ وجلّ: أنا أحق بذلك منك فتجاوزوا عن عبدي. قال: فقال أبو مسعود الانصاري: فاشهد على رسول الله أنّه سمعه منه. الأعمش عن أبي داود عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة» ثم قال بعد ذلك: «من أنظر معسرا كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة» قال: فقلت: يا رسول الله قلت: من أنظر معسرا فله بكلّ يوم صدقة، ثم قلت: من أنظر معسرا كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة. قال: «إن قولي بكل يوم صدقة قبل الأجل، وقولي بكل يوم مثل الذي أنظره صدقة بعد الأجل» وعن سعيد بن أبي سعيد عن أخيه عن أبيه: أن جابر بن عبد الله خرج إلى غريم له يتقاضاه فقال هاهنا [حقّي] ، فقالوا: لا فتنحّى فلم يلبث أن خرج مستحييا منه فقال: ما حملك على أن تحبسني حقّي وتغيّب وجهك عنّي؟ قال: العسرة، قال: قال الله: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ، فأخرج كتابه فمحاه. فصل في الدّين جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ مع الدائن حتّى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله عزّ وجلّ» قال: فكان عبد الله بن جعفر يقول لخازنه: أذهب فخذ لنا بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلّا والله عزّ وجلّ معي منذ سمعت هذا الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» . عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أدان دينا وهو ينوي أن لا يؤدّيه فهو سارق» [207] «3» . عثمان بن عبد الله عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: إنّ رجلا أتى به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي عليه، فقال: «صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه دينا» قال أبو قتادة: فأنا أكفل به، قال: «بالوفاء» ، قال بالوفاء فصلّى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهما أو سبعة عشر درهما.
فصل في تفصيل آخر ما نزل من القرآن
وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أعوذ بالله من الكفر والدين» فقال رجل: يا رسول الله يعدل الدين بالكفر؟ قال: «نعم» «1» . وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الدين راية الله في الأرض، فإذا أراد أن يذلّ عبده ابتلاه بالدين وجعله في عنقه» «2» . وعن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من خطيئة أعظم عند الله بعد الكبائر من أن يموت الرجل وعليه أموال الناس دينا في عنقه لا يوجد لها قضاء» . يزيد بن أبي خالد عن ابن أيوب عن أنس بن مالك: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إياكم والدين فإنّه هم بالليل ومذلّة بالنهار» «3» . وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قرأ أبو بحرية وابو عمرو وسلام ويعقوب: تَرْجِعُونَ بفتح التاء واعتبروا بقراءة أبيّ (فاتقوا يوما تصيرون فيه إلى الله) . وقرأ الآخرون بضمّ التاء اعتبارا بقراءة عبد الله. (واتقوا يوما تردّون فيه إلى الله) . ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قال: هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال جبرائيل: ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة. سفيان عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال: [هذه] آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فصل في تفصيل آخر ما نزل من القرآن قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «4» قال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) : «ليتني أعلم متّى يكون ذلك» «5» فأنزل الله تعالى سورة النصر، فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) بعد نزول هذه السورة يسكت من التكبير والقراءة فيقول فيها: «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» فقيل: إنّك لم تكن تقوله يا رسول الله قبل هذا، قال: «إنّها نفسي نعيت إلي» ثمّ بكى بكاء شديدا فقيل: يا رسول الله أو تبكي من الموت وقد عفا الله
[سورة البقرة (2) : آية 282]
لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، قال: «فأين هول المطلع فأين ضيق القبر وظلمة اللحد فأين القيامة والأهوال» فعاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة أشهر ثم لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ «1» إلى آخرها فسمّى آية الصيف. ثم نزل عليه وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «2» الآية فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما، ثم نزلت عليه آيات الربا، ثم نزلت بعدها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وهي آخر آية نزلت من السماء، فعاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها أحدا وعشرين يوما. قال ابن جريج: تسع ليال. سعيد بن جبير ومقاتل: سبع ليال ثم مات يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأوّل حين زاغت الشمس سنة أحدى عشرة من الهجرة وأحدى من ملك أردشير شيرون بن أبرويز بن هرمز بن نوشروان. [سورة البقرة (2) : آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ قال ابن عباس: لمّا حرّم الله الربا، أباح السلم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ أي داين بعضكم بعضا، والدين ما كان مؤجّلا والعين ما كان حاضرا، يقال: دان فلانا يدينه، إذا أعطاه الدين فهو دائن، والمعطا مدين ومديون. قوله إِذا تَدايَنْتُمْ يدخل فيه الدين والنسيئة والسلم وما كان مؤجّلا من الحقوق. فإنّما قال: بِدَيْنٍ والمداينة لا تكون إلّا بدين لأنّ المداينة قد [تكون] «3» مجازاة وتكون معاطاة فأبان ذلك وقيّده بقوله بِدَيْنٍ. وقيل: هو بمعنى التأكيد كقوله: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «4» وقوله:
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «1» . إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت معلوم فَاكْتُبُوهُ أي اكتبوا الذي تداينتم به بيعا كان أو قرضا لئلّا يقع فيه جحود ولا نسيان ولا تدافع. واختلفوا في هذا الكتابة، هل هي واجبة أم لا؟ فقال بعضهم: فرض واجب، قال ابن جريج: من أدان فليكتب، ومن باع فليشهد. وهذا القول اختيار محمد بن جرير الطبري، يدلّ عليه ما روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم: رجل كانت عنده امرأة سيئة الخلق فلم يطلّقها. ورجل كان له دين فلم يشهد، ورجل أعطى سفيها مالا، وقد قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ «2» » . قال قوم: هو أمر استحباب وتخيير فإن كتب فحسن وإن ترك فلا بأس. كقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «3» . وقوله: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «4» . هو اختيار الفراء. وقال آخرون: كان كتاب الدين والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ «5» وهو قول الشعبي. ثم بيّن كيفيّة الكتابة فقال عزّ من قائل: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وقرأ الحسن وَلْيَكْتِبْ بكسر اللام، وهذه اللام، لام الأمر ولا يؤمر بها غير الغائب، وهي إذا كانت مفردة فليس فيها إلّا الحركة، فإذا كانت قبلها واو أو فاء أو ثم، فأكثر العرب على تسكينها طلبا للخفّة ومنهم من يكسرها على الأصل. ومعنى الآية: وَلْيَكْتُبْ كتاب الدين. بيع البائع والمشتري والطالب والمطلوب. كاتِبٌ بِالْعَدْلِ أي بالحق والإنصاف فلا يزيد فيه ولا ينقص منه ولا يقدّم الأجل ولا يؤخّره ولا يكتب به شيئا يبطل به حقّا لأحدهما لا يعلمه هو. وَلا يَأْبَ ولا يمتنع كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وذلك إنّ الكتّاب كانوا قليلا علي عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
واختلف العلماء في وجوب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد، فقال مجاهد والربيع: واجب على الكاتب أن يكتب إذ أمر. وقال الحسن: ذلك في الموضع الذي لا يقدر فيه على كاتب غيره فيضر صاحب الدين إن امتنع، فإذا كان كذلك فهو فريضة، وإن قدر على كاتب غيره فهو في سعة إذا قام به غيره. وقال الضحاك: كانت هذه عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. السدي: هو واجب عليه في حال فراغه. وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. المديون والمطلوب يقرّ على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه، والإملال والإملاء لغتان فصيحتان جاء بهما القرآن. قال الله تعالى: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «1» . أصل الإملال: إعادة الشيء مرّة بعد مرّة والإلحاح عليه. قال الشاعر: ألّا يا ديار الحيّ بالسبعان ... أملّ عليها بالبلى الملوان «2» ثم خوّفه فقال: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً. أي لا ينقص من الحقّ الذي عليه شيئا، يقال: بخسه حقّه وبخسه إذا أنقصه ونظائرها في القرآن كثيرة. فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. يعني وإن كان المطلوب الذي عليه المال سَفِيهاً. جاهلا بالمال. قاله مجاهد، وقال الضحاك والسدي: طفلا صغيرا أَوْ ضَعِيفاً. أو شيخا كبيرا. السدي وابن زيد: يعني عاجزا أحمق أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ. لخرس أو عيّ أو غيبة أو عجمة أو زمانة أو حبس لا يمكنه حضور الكتاب أو جهل ماله عليه فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ. أي قيّمه ووارثه. ابن عبّاس والربيع ومقاتل: يعني فليملل وليّ الحق وصاحب الدين لأنّه أعلم بدينه بِالْعَدْلِ بالصدق والحق والإنصاف وَاسْتَشْهِدُوا. هذا السين للسؤال والطلب شَهِيدَيْنِ. شاهدين مِنْ رِجالِكُمْ. يعني الأحرار البالغين دون العبيد والصبيان ودون أحرار الكفّار. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وسفيان وأكثر الفقهاء. وأجاز شريح وابن سيرين بشهادة العبد وهو قول أنس بن مالك. وأجاز بعضهم شهادتهم في الشيء التافه. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ. يعني فإنّ لم يكن الشاهدان رجلين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ. أو فليشهد رجل وامرأتان.
وأجمع الفقهاء على أنّ شهادة النساء جائزة مع الرجال في الأموال، واختلفوا في غير الأموال. وكان مالك والأوزاعي والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأحمد لا يجزونها إلّا في الأموال. وكان أبو حنيفة وسفيان وأصحابهما يجيزون شهادتين مع الرجل في كلّ شيء ما عدا الحدود والقصاص. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ. يعني من كان مرضيّا في ديانته وأمانته وكفائته. قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: من أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا فأجبناه عليه ومن أظهر لنا شرّا ظننا به شرّا وأبغضناه عليه، وإذا حمد الرجل جاره وقرائبه ورفيقه فلا تشكّوا في صلاحه. وقال إبراهيم النخعي: العدل: من لم يظهر منه ريبة. وقال الشعبي: العدل: من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج. وقال الحسن: هو من لم يعلم له خزية. وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرّب عليه شهادة زور ولا التابع مع أهل البيت- يعني الخادم لهم-[ولا الظنين في ولاء ولا قرابة] » «1» . وجملة القول فيمن تقبل شهادته: أن تجتمع فيه عشر خصال: يكون حرّا بالغا مسلما عدلا عالما بما يشهد به ولا يجز بشهادته إلى نفسه منفعة ولا يدفع عن نفسه مضرّة ولا يكون معروفا بكثرة الغلط ولا يترك المروءة ولا يكون عنده لين [ولا] يشهد عليه عبده، فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال كان مقبول القول جائز الشهادة. وتقبل شهادة النساء على الانفراد لا رجل معهن في أربع مواضع: عيوب النساء وهو ما يكون عيبا في موضع هي عورة منها- في الحرّة في جميع بدنها إلّا وجهها وكفّيها، ومن الأمة ما بين سرّتها إلى ركبتها- وفي الرضاع، وفي الولادة، وفي الاستهلال. ولا خلاف في ذلك كلّه إلّا في الرضاع. وان أبا حنيفة ذهب إلى أنّ شهادة النساء على الانفراد لا تقبل فيه حتّى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان. وأمّا صفة الشهادة فروى طاوس عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الشهادة فقال: «ترى الشمس» ؟ قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع» «2» وعن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكرموا الشهود فإنّ الله عزّ وجلّ يستخرج بهم
الحقوق ويدفع بهم الظلم» [208] «1» . خارجة بن نور عن عبد الرحمن بن عبيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حبس ذكر حقّ بعد ما تقبض ما فيه ثلاثا فعليه قيراط من الإثم» [209] . أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى. قرأ الأعمش وحمزة: «إِنْ» بكسر الألف (فتذكرُ) رفعا، ومعناه الجزاء والابتداء، وموضع (تَضِلَّ) جزم للجزاء إلّا أنّه لا يتبيّن في التضعيف (فَتُذَكِّرَ) رفع لأن ما بعد فاء الجزاء مبتدأ. وقراءة العامّة بنصب الألف، فالفاء على الاتصال بالكلام الأوّل وموضع (أَنْ) نصب بنزع حرف الصفة يعني لأنّ، و (تَضِلَّ) محلّه نصب بأن (فَتُذَكِّرَ) مسوّق عليه. ومعنى الآية: فرجل وامرأتان كي تذكّر إحداهما الأخرى إنّ ضلّت. وهذا من المقدّم والمؤخّر، كقولك: إنّه ليعجبني أن يسأل فيعطى، يعني: يعجبني أن تعطي السائل إذا سأل لأن العطاء تعجّب لا السؤال. قال الله: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا «2» الآية. ومعناه: لولا أن يقولوا إذا أصابتهم مصيبة: هلّا أرسلت إلينا رسولا. ومعنى قوله (أَنْ تَضِلَّ) : أي تنسى، كقوله: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى «3» . وقوله: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ «4» وحَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا «5» وذهاب قول العرب: ضلّ الماء في اللبن، وقال الله: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «6» وقرأ عاصم الجحدري: أن تُضلّ أحداهما بضمّ التاء وفتح الضاد على المجهول، وقرأ زيد بن أسلم: فتذكّر من المذاكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأبو حاتم وقتيبة: فتذكر خفيفه، وقرأ الباقون مشددا. وذكّر وأذكر بمعنى واحد كما يقال: نزّل وأنزل وكرّم وأكرم، وهما معها الذكر الذي هو [ضد] النسيان قال الشاعر: تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا غربها أفل «7»
قال أبو عبيد: حدثت عن سفيان بن عينية أنّه قال: هو من الذكر، يعني أنّها إذا شهدت مع أخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر. قلت: هذا القول لا يعجبني لأنّه معطوف على النسيان والله أعلم. وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا. قال بعضهم: هذا في محمل الشهادة وهو أمر إيجاب. قال قتادة والربيع: كان الرجل يطوف في الحيّ العظيم فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتّبعه أحد منهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الشعبي: هو مخيّر في تحمّل الشهادة إذا وجد غيره، فإن شاء شهد وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره فترك إلّا ما فرض عليه. وقال بعضهم: هذا أمر ندب وهو مخيّر في جميع الأحوال إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد. وهو قول عطاء وعطيّة. وقال أبو بحريّة: قلت للحسن: أدعى إلى الشهادة وأنا كاره، قال: فلا تجب ولا تشهد إن شئت. وقال مغيرة: قلت لإبراهيم: إنّي أدعى إلى الشهادة وإنّي أخاف أن أنسى، قال: فلا تشهد أن تحب. وقال بعضهم: هذا في إقامة الشهادة وأدائها، ومعنى الآية: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لإقامة الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك. وهو قول مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي، وروى سفيان عن جابر عن عامر قال الشاهد بالخيار ما لم يشهد. وقال الحسن والسدي هذه الآية في الأمرين جميعا في التحمّل والاقامة إذا كان فارغا. وَلا تَسْئَمُوا. ولا تملّوا يقال: سئمت أسأم سأما وسأمة، قال زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم وقال لبيد: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد وأن في محلّ النصب من وجهين: إن شئت جعلته مع الفعل مصدرا وأوقعت السآمة عليه، تقديره: ولا تسأموا كتابته، وإن شئت نصبت بنزع حروف الصفة، تقديره: ولا تسأموا من أن تكتبوه، والهاء راجع إلى الحق. وقرأ السلمي: ولا يسأموا بالياء. صَغِيراً. كان الحقّ أَوْ كَبِيراً. قليلا كان المال أو كثيرا، وانتصاب الصغير والكبير من وجهين: أحدهما على الحال والقطع من الهاء، والثاني أن تجعله خبرا لكان وأضمر، يعني: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً كان الحق أَوْ كَبِيراً
إِلى أَجَلِهِ . إلى محلّ الحق ذلِكُمْ. الكتاب أَقْسَطُ. أعدل عِنْدَ اللَّهِ. لأنّه أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه وَأَقْوَمُ. وأصوب لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى. وأحرى وأقرب إلى أَلَّا تَرْتابُوا. تشكّوا في الشهادة ومبلغ الحق والأجل إذا كان مكتوبا، نظير قوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها «1» وهو أفعل من الدنو، ثم استثنى فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً. قرأها عاصم بالنصب على خبر كان وأضمر الاسم، مجازه: إلّا أن تكون التجارة تجارة، والمبايعة تجارة. وأنشد الفراء: لله قومي أي قوم بحرة ... إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا «2» أي إذا كان اليوم يوما. وأنشد أيضا: أعينيّ هل تبكيان عفاقا ... إذا كان طعنا بينهم وعناقا «3» أراد إذا كان الأمر. وقرأ الباقون بالرفع على وجهين: أحدهما: أن يكون معنى الكون الوقوع، أراد: إلّا أن تقع تجارة، وحينئذ لا خبر له. والثاني: أن يجعل الاسم في التجارة والخبر في الفعل، وهو قوله تعالى: تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ تقديره: إلّا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم، ومعنى الآية: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً يدا بيد تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ليس فيها أجل ولا نسيئة. فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها. يعني التجارة وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ. قال الضحاك: هو عزم من الله عزّ وجلّ، والاشهاد واجب في صغير الحق وكبيره نقده ونسأه ولو على باقة بقل وهو اختيار محمد بن جرير. وقال أبو سعيد الخدري: الأمر فيه إلى الامانة. قال الله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. وقال الآخرون: هو أمر ندب إن شاء أشهد وإن لم يشاء لم يشهد ثم قال: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. هو نهي الغائب، وأصله يضارر فأدغمت الراء في الراء ونصبت لحق التضعيف لاجتماع الساكنين، والفتح أخفّ الحركات فحركت إليه. وأما تفسير الآية، فأجراها بعضهم على الفعل المعروف، وقال: أصله يضارر بكسر الراء وجعل الفاعل الكاتب والشهيد، معناه: وَلا [يُضَارَّ] كاتِبٌ فيكتب ما لم يملل عليه يزيد أو ينقص
[سورة البقرة (2) : الآيات 283 إلى 286]
أو يحرّف، وَلا شَهِيدٌ فيشهد ما لم يشهد عليه أو يمتنع من إقامة الشهادة، وهذا قول طاوس والحسن وقتادة وابن زيد. وأجراه آخرون على الفعل المجهول وجعلوا الكاتب والشهيد مفعولين وقالوا: أصله لا يضار. ومعنى الآية: هو أن الرجل يدعوا الكاتب أو الشهيد وهما على حاجة مهمّة فيقولان: إنا مشغولان فاطلب غيرنا، فيقول الذي يدعوه: إن الله أمر كما أن تجيبا في الكتابة والشهادة ويلحّ عليهما ويشغلهما عن حاجتهما فنهى الله عزّ وجلّ [عن مضارتهما] وأمر أن يطالب غيرهما. وقال الربيع بن أنس: لما نزلت هذه الآية وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا. كان أحدهما يجيء إلى الكاتب فيقول له: أكتب، فيقول: إنّي مشغول، أو لي حاجة فانطلق إلى غيري، فيلزمه ويقول: إنّك قد أمرت بالكتابة، فلا يدعه فيضاره بذلك وهو يجد غيره. وكذلك يفعل مع الشاهد، فأنزل الله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. ودليل هذا التأويل قراءة عمر وأبيّ وابن مسعود ومجاهد: ولا يضارر كاتب ولا شهيد بإظهار التضعيف على وجه ما لم يمنع [وَلا يُضَارَّ] . وقرأ أبو جعفر: ولا يضارْ، مجزوما مخفّفا القى راء واحدة أصلا، وقرأ الحسن ولا يضارِّ بكسر الراء مشدّدا. وَإِنْ تَفْعَلُوا. ما نهيتكم عنه من الضراء فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ. خروج عن الأمر وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. [سورة البقرة (2) : الآيات 283 الى 286] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً. قرأ ابن عباس وأبو العالية ومجاهد: كتابا،
وقالوا: ربّما وجد الكاتب ولم يجد المداد ولا الصحيفة، وقالوا: لم تكن [قبيلة] من العرب إلّا كان فيهم كاتب ولكن كانوا لا يقدرون على القلم والدواة. وقرأ الضحاك: كتّابا على جمع الكاتب. وقرأ الباقون: كاتِباً على الواحد وهو الأنسب مع المصحف. فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ. قرأ ابن عباس وإبراهيم وزر بن حبيش ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: فرُهُن بضم الراء والهاء. وقرأ عكرمة والمنهال وعبد الوارث: فرُهْن بضم الراء وجزم الهاء، وقرأ الباقون: فَرِهانٌ وهو جمع الرهن، ذلك [نحو] فعل وفعال، وحبل وحبال وكبش وكباش، وكعب وكعّاب. والرهن جمع الرهان: جمع الجمع، قاله الفراء والكسائي. وقال غيرهما وأبو عبيدة: هو جمع الرهن. قالوا: ولم نجد فعلا يجمع على فعل إلّا ثمانية أحرف: خلق وخلق، وسقف وسقف، وقلب وقلب، [وجد وجد بمعنى الحظ، وثط وثط، وورد وورد،] ونسر ونسر. ورهن ورهن. قال الأخطل وعمرو بن أبي عوف: [ ... ] «1» به حتّى يغادره العقبان والنسر. وأنشد الفراء: حتّى إذا بلّت حلاقيم الحلق ... أهوى لأدنى فقرة على شفق وقال أبو عمرو: وإنّما قرأنا (فرهن) ليكون قرفا [بينها وبين] رهان الخيل، وأنشد لقعنب ابن أم الصاحب: بانت سعاد وأمسى دونها عدن ... وغلّقت عندها من قلبك الرهن «2» أي وحب لها. والتخفيف والتثقيل في الرهن لغتان مثل كتّب وكتب ورسّل ورسل. ومعنى الآية: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً الآن للكتابة فارتهنوا ممن تداينونه رهونا ليكون وثيقة لكم بأموالكم. وأجمعوا: إن الرهن لا يصح إلّا بالقبض، وقال مجاهد: ليس الرهن إلّا في السفر عند عدم الكاتب. وأجاز غيره في جميع الأحوال. ورهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم درعه عند يهوديّ. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. مدني. حرف أبيّ، فإن أمن. يعني: فإن كان الذي عليه
الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن منه شيئا لثقته وحسن ظنّه فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ. أفتعل من الأمانة، وهي الثقة كتبت همزتها واوا لاضمام ما قبلها أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ. في أداء الحق. ثم رجع إلى خطاب الشهود فقال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ. إذا دعيتم إلى إقامتها، وقرأ السلمي: ولا يكتموا بالياء ومثله يعملون. ثم ذكر وعيد كتمان الشهادة فقال عزّ من قائل: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ. فاجر قلبه وهو ابتداء وخبر. وقرأ إبراهيم بن أبي عيلة: فإنّه أثم قلبه على وزن أفعل أي جعل قلبه أثما. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. من بيان الشهادة وكتمانها. روى مكحول عن أبي بردة عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كتم الشهادة إذا دعي، كان كمن شهد بالزور» «1» . لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. الآية. اختلف العلماء في هذه الآية، فقال قوم: هي خاصة. ثم اختلفوا في وجه خصوصها، فقال بعضهم: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها يعني: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ. أيّها الشهود من كتمان الشهادة أَوْ تُخْفُوهُ. الكتمان يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. وهو قول الشعبي وعكرمة ورواية مجاهد ومقسم عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله فيما قبله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ. وقال بعضهم: نزلت هذه الآية فيمن يتولّى الكافرين من المؤمنين. يعني: وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفّار أو تستروه يحاسبكم الله. وهو قول مقاتل والواقدي. يدلّ عليه قوله في آل عمران: [قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ. من ولاية الكفّار يَعْلَمْهُ اللَّهُ] «2» يدلّ عليه ما قبله. وقال آخرون: هذه الآية عامّة. ثم اختلفوا في وجه عمومها، فقال بعضهم: هي منسوخة. روت الرواية بألفاظ مختلفة. قال: لمّا نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله والله ما نزلت آية أشد علينا من هذه الآية وإنّا لا نسر أن يكون لأحدنا الدنيا وما فيها وإنّا لمأخوذون ما نحدّث به أنفسنا هلكنا والله، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هكذا نزلت» . قالوا: هلكنا وكلّفنا من العمل ما لا نطيق. قال: «فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام سَمِعْنا وَعَصَيْنا، بل قولوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا» [210] .
واشتد ذلك عليهم فمكثوا بذلك حولا، فأنزل الله عزّ وجلّ الفرج والراحة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. فنسخت الآية ما قبلها. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ قد تجاوز لأمّتي ما حدّثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلّموا به» «1» . وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة وعائشة وابن عباس برواية سعيد بن جبير وعطاء، ومن التابعين وأتباعهم محمد بن سيرين ومحمد بن كعب وموسى بن عبيدة وقتادة والكلبي وشيبة. قال سعيد بن مرجانة: بينما نحن جلوس عند عبد الله بن عمر إذ تلا هذه الآية وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. فقال ابن عمر: إن أخذنا الله بها لنهلكن، ثم بكا حتّى سمع. قال ابن مرجانة: فذكرت ذلك لابن عباس فقال: يغفر الله لأبي عبد الرحمن فقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد فأنزل الله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. وكانت الوسوسة ممّا لا طاقة للمسلمين بها، فصار الأمر إلى القول والفعل به فنسخت تلك الآية. وقال بعضهم: هذه الآية محكمة غير منسوخة، لأن النسخ والأخبار غير جائز إلّا في خبر فيه أمر أو نهي أو شرط. ثم اختلفوا في وجه تأويلها فقال قوم من أهل المعاني: قد اثبت الله عزّ وجلّ للقلب كسبا فقال: بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ. وكلّ عامل مأخوذ بكسبه ومجازى على عمله، [فلا تظنّ] الله عزّ وجلّ بتارك عبدا يوم القيامة أسرّ أمرا أو أعلنه من حركة في جوارحه أو [همسة] في قلبه دون أن يعرّفه إياه ويخبره به، ثم يغفر ما شاء لمن يشاء ويعذّب من شاء بما يشاء. معنى الآية: وإن تظهروا ما في أنفسكم من [المعاصي] فتعملوه أي تضمروا إرادتها في أنفسكم فتخفوها يخبركم به ويحاسبكم عليه، ثم يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء. وهذا معنى قول الحسن، والربيع، وقيس بن أبي حازم، ورواية الضحاك عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «2» . وقال آخرون: معنى الآية إن الله تعالى يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم وأخفوه، ويعاقبهم عليه غير أن معاقبته إيّاهم على ما أخفوه ممّا لم يعملوها، بما يحدث في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون بها، وهذا قول عائشة، روي بأنّها سئلت عن هذه الآية فقالت: ما سألت عنها أحد فقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا
عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمّى والنكبة حتّى الشوكة والبضاعة يضعها في [جيبه] فيفقدها فيفرغ لها فيجدها في جيبه، حتّى أن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكيس [211] «1» » . يدلّ عليه قوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ «2» يعني في الدنيا. وقال مجاهد: في رواية منصور وابن أبي جريج قال: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ. يعني من اليقين والشك. وقال جعفر بن محمد: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ. يعني الإسلام أَوْ تُخْفُوهُ. يعني الإيمان. وقال بعضهم: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ. يعني ما في قلوبكم ممّا عرفتم وعقدتم عليه أَوْ تُخْفُوهُ. فلا تبدوه وأنتم مجمعون وعازمون عليه، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، فأمّا ما حدّثتم به أنفسكم ممّا لم تعزموا عليه فإن ذلك ممّا لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ولا يؤاخذ به. ودليل هذا التأويل قوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ «3» . وعن عبد بن المبارك قال: قلت لسفيان: ليؤاخذ العبد بالهمّة، قال: إذا كان عزما أخذ بها. وعن عمرو بن جرير قال: خرجت وأنا شاب لأمر هممت به، فمررت بأبي طالب القاص والناس مجتمعون عليه وكان أوّل شيء تكلّم به أن قال: أيّها الهامّ بالمعصية علمت أن خالق الهمّة مطّلع على همّتك، قال: فخررت والله مغشيّا عليّ، فما أفقت إلّا عن توبة. وعن إسماعيل بن أبي خالد قال: أصابت بني إسرائيل مجاعة فمرّ رجل على رمل فقال: [وددت] أن هذا الرمل دقيق لي فأطعمه بني إسرائيل، فأعطي على نيّته «4» . وعن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان رجل يطوف على العلماء، يقول: من يدلّني على عمل لا أزال منه عاملا لله عزّ وجلّ فإنّي أحب أن لا تأتي عليّ ساعة من الليل والنهار إلّا وأنا عامل، فقيل له: قد وجدت حاجتك فأعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهمّ بعمله إنّ الهامّ بعمل الخير كعامله. وهذا يعني قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نيّة المؤمن خير من عمله» [212] «5» لأن العمل ينقطع والنيّة لا تنقطع.
وقال محمد بن علي: معنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ. من الأعمال الظاهرة أَوْ تُخْفُوهُ من الأحوال الباطنة، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. العابد على أفعاله والعارف على أحواله. وقال بعضهم: إنّ الله يقول يوم القيامة: [يَوْمَ] تُبْلَى السَّرائِرُ وتخرج الضمائر، وأن كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلّا ما ظهر منها، وأنا مطّلع على سرائركم ما لم يعلموه ولم يكتبوه فأنا أخبركم بذلك وأحاسبكم عليه لتعلموا أنّه لا يعزب عنّي مثقال ذرة من أعمالكم ثم أغفر لمن شئت وأعذّب من شئت. فأمّا المؤمنون فيخبرهم بذلك ويغفر لهم ولا يؤاخذهم بذلك إظهارا لفضله، وأمّا الكافرون فيخبرهم بها ويعاقبهم عليها إظهارا لعدله. فمعنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ فتعملوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممّا أضمرتم وأسررتم وأردتم، يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ويخبركم ويعرّفكم إياه، فيغفر للمؤمنين ويعذّب الكافرين. وهذا معنى قول الضحاك والربيع ورواية العوفي والوالبي عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. ولم يقل: يؤاخذكم، والمحاسبة غير المعاقبة، والحساب ثابت والعقاب ساقط، وممّا يؤيّد هذا حديث النجوى وهو ما روى قتادة عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمرو إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى، فقال: سمعت نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يدنو المؤمن من ربّه حتّى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول: هل أذنبت ببعض كذا، فيقول: ربّ أعرف، فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا، فيقول الله: أنا الذي سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم لم يطلع على ذلك ملكا مقرّبا ولا نبيّا مرسلا. وأمّا الكفّار والمنافقون فينادون على رؤوس الأشهاد هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» «1» . الأعمش عن معرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى الرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، فيعرض عليه، فيقال: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا وهو يقرّ ولا ينكر ويخبأ عنه كبار ذنوبه وهو منها مشفق فيقول: أعطوه مكان كلّ سيّئة عملها حسنة، فيقول: إنّ لي ذنوبا ما أراها هاهنا» [213] . قال: قال أبو ذر: فلقد رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه «2» . وقال الحسين بن مسلم: يحاسب الله عزّ وجلّ المؤمنين يوم القيامة بالمنّة والفضل، والكافرين بالحجّة والعدل.
فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. رفعهما أبو جعفر وابن عامر وابن محيصن والحسن وعاصم ويعقوب وأختاره أبو حاتم، ونصبها ابن عباس، وجزمها الباقون فالجزم على النسق والرفع على الابتداء أي فهو يغفر، والنصب على الصرف، وقيل: على إضمار (أن) الخفيفة. وروى طاوس عن ابن عباس: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ. الذنب العظيم وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ. على الذنب الصغير لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» . وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ. الآية. روى طلحة بن مصرف عن مرّة عن عبد الله قال: لمّا أسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى به إلى سدرة المنتهى، فأعطى لنا الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك [بالله] من أمّته شيئا إلّا المقحمات «2» . وعن علقمة بن قيس عن عقبة بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزل الله عزّ وجلّ آيتين من كنوز العرش كتبهما الرحمن عزّ وجلّ قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من [يقولها] بعد العشاء الآخرة مرّتين أجزأتا عنه قيام الليل: آمَنَ الرَّسُولُ. إلى آخر السورة» . وروى أبو قلابة عن أبي الأشعث الهمداني عن النعمان بن بشير عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل فيه آيتين فختم بهما سورة البقرة، فلا يقرآن في دار فيقربها شيطان ثلاث ليال» «3» . وروى عبد الرحمن عند ابن زيد عن ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفياه» [214] «4» . موسى بن حذيفة عن ابن المنكدر قال: حدّثنا حديثا رفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «في آخر سورة البقرة آيات أنهنّ قرآن وأنّهن دعاء وأنّهن يرضين الرحمن» «5» وفي الحديث: أنّه قيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن بيت ثابت بن أويس بن شمّاس يزهر الليلة كالمصابيح، قال: «لعلّه يقرأ سورة البقرة» ، فسئل ثابت فقال: قرأت سورة البقرة. آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ، قيل: إن هذه الآية نزلت حين شقّ على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما يوعدهم الله عزّ وجلّ به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «لعلّكم تقولون سَمِعْنا وَعَصَيْنا كما قالت بنو إسرائيل؟» فقالوا: بل نقول سَمِعْنا وَأَطَعْنا، فأنزل الله عزّ وجلّ ثناء عليهم وإخبارا عنهم: آمَنَ الرَّسُولُ أي صدّق بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ قال قتادة: لمّا أنزلت آمَنَ الرَّسُولُ «1» ، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وحق له أن يؤمن» . وَالْمُؤْمِنُونَ. وفي قراءة عليّ وعبد الله: وآمن المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ . وحّد الفعل على لفظ كلّ، المعنى: كلّ واحد منهم آمن، فلو قال: آمنوا، لجاز لأن (كلّ) قد تجيء في الجمع والتوحيد، فالتوحيد قوله عزّ وجلّ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ «2» والجمع قوله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ «3» وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «4» . وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ [قرأ] «5» ابن عباس وعكرمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وكتابه. على الواحد بالألف. وقرأ الباقون: (كُتُبِهِ) بالجمع، وهو ظاهر كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ. والتوحيد وجهان: أحداهما: إنّهم أرادوا القرآن خاصّة، والآخر: إنّهم أرادوا جميع الكتب. يقول العرب: كثر اللبن وكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، يريدون الألبان والدراهم والدنانير. يدلّ عليه قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ «6» . وَرُسُلِهِ. جمع رسول. وقرأ الحسن وابن سلمة بسكون السين لكثرة الحركات، وكذلك روى العباس عن ابن عمرو، وروى عن نافع وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. مخفّفين، الباقون بالإشباع فيها على الأصل. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ كما فعلت اليهود والنصارى، وفي مصحف عبد الله لا نفرّقن. قرأ جرير بن عبد الله وسعيد بن جبير وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ويحيى بن يعمر والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب: لا يفرّق بالياء على معنى لا نفرّق الكلّ، فيجوز أن يكون خبرا عن الرسول.
وقرأ الباقون بالنون على إضمار القول تقديره: وقالوا لا نفرّق كقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ «1» وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ «2» يعني فيقال لهم: أكفرتم. وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا «3» أي يقولون: ربّنا. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ «4» أي يقولون: ما نعبدهم. وما يقتضي شيئين فصاعدا، وإنّما قال (بين أحد) ولم يقل آحاد لأن الآحاد يكون للواحد والجميع «5» . قال الله فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «6» . وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما أحلّت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم» [215] «7» . قال رؤبة: ماذا [أمور] الناس ديكت دوكا ... لا يرهبون أحدا رواكا وَقالُوا سَمِعْنا. قولك وَأَطَعْنا. أمرك خلاف قول اليهود. وروى حكيم بن جابر أن جبرائيل عليه السّلام أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت آمَنَ الرَّسُولُ. فقال: إن الله عزّ وجلّ قد منّ عليك وعلى أمّتك فاسأل تعطى، فسأل رسول الله عزّ وجلّ فقال: غفرانك. غُفْرانَكَ. وهو نصب على المصدر أي أغفر غفرانك، مثل قولنا: سبحانك أي نسبّحك سبحانك. وقيل معناه: نسألك غفرانك. رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. ظاهر الآية قضاء الحوائج، وفيها إضمار السؤال والحاجة، كأنّه قال لهم: تكلّفنا إلّا وسعنا، فأجاب الله فقال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. والوسع: اسم لما يسع الإنسان وما [يشقّ] عليه. وقيل: [يشق] ويجهد. وقرأ إبراهيم ابن أبي عبلة الشامي: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وَسِعَها. بفتح الواو وكسر
السين على الفعل، يريد: إلّا وسعها أمره، أو أراد إلّا ما وسعها فحذف (ما) . واختلفوا في تأويله، فقال ابن عطاء والسدي وأكثر المفسّرين: أراد به حديث النفس، وذلك أنّ الله تعالى لمّا أنزل: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. جاء المؤمنون [عامة] وقالوا: يا رسول الله هذا لنتوب من عمل الجوارح، فكيف نتوب من الوسوسة وكيف نمتنع من حديث النفس؟ فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. أي طاقتها، وكان حديث النفس مما لم يطيقوا. قال ابن عباس في رواية أخرى: [ ... ] «1» المؤمنون خاصّة وسّع الله عليهم أمر دينهم. ولم يكلّفهم إلّا ما هم له مستطيعون، فقال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ «2» ، وقال: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «3» ، وقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «4» . قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجري بهراة قال: سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي قال: سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول: سئل سفيان بن عيينة عن قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها. فقال: إلّا يسرها لا عسرها، ولم يكلّفها طاقتها ولو كلّفها طاقتها لبلغ المجهود منها. قال الثعلبي: وهذا قول حسن لأنّ الوسع ما دون الطاقة، فقال بعض أهل الكلام: يعني إلّا ما يسعها ويحل لها، كقول القائل: ما يسعك هذا الأمر؟ أي ما يحلّ الله لك؟ فبيّن الله تعالى أن ما كلّف عباده فقد وسعه لهم والله أعلم. لَها ما كَسَبَتْ. أي للنفس ما عملت من الخير والعمل الصالح، لها أجره وثوابه وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. من الشرّ بالعمل السيء عليها وزره. رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا. لا تعاقبنا. قال أهل المعاني: وإنّما خرج على لفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأنّ المسيء قد أمكر وطرق السبيل إليها وكأنّه أعان عليه من يعاقبه بذنبه ويأخذه به فشاركه في أخذه إِنْ نَسِينا. جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو.
قال الكلبي: كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا ممّا أمروا به وأخطئوا، عجّلت لهم العقوبة فيحرّم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب، فأمر الله تعالى نبيّه والمؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك. وقال بعضهم: هو من النسيان الذي هو الترك والإغفال. قال الله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ. والأوّل أجود. أَوْ أَخْطَأْنا. جعله بعضهم من القصد والعمد، يقال: خطيء فلان إذا تعمّد يخطأ خطأ وخطأ. قال الله: إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً. وأنشد [أمية بن أبي الصلت] «1» : عبادك يخطئون وأنت ربّ ... يكفّيك المنايا والحتوم «2» وجعله الآخرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو وهو الأصح لأن ما كان عمدا من الذنب غير معفو عنه، بل هو في مشيئة الله تعالى ما لم يكن كفرا. قال عطاء: إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. يعني إن جهلنا أو تعمّدنا له. وقال ابن زيد: إِنْ نَسِينا شيئا ممّا افترضته علينا، أَوْ أَخْطَأْنا شيئا ممّا حرّمته علينا. وقال الزهري: سمع عمر رجلا يقول: اللهمّ [اغفر] لي خطاياي، فقال: إن الخطايا مغفور ولكن قل: اللهمّ أغفر لي عمدي. قال النبطي: وحدّثنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن شنبة قال: حدّثنا عبد الله بن المصفّى السكري قال: حدّثنا محمد بن المصلّى المحمدي، قال: حدّثنا الوليد قال: حدّثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» . رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. قال بعضهم: يعني عهدا وعقدا وميثاقا لا نطيق ذلك ولا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقصه كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا. يعني اليهود فلم يقوموا به فأهلكتهم وعذّبتهم، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل والسدي والكلبي وابن جريج والفراء، ورواية عطيّة وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس، يدلّ عليه قوله: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي «3» أي عهدي.
وقال بعضهم: الأصر: الثقل، أي لا تشقق علينا ولا تشدد ولا تغلظ الأصر علينا كما شددت على من كان قبلنا من اليهود، وذلك أن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربح أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها، ومن أصاب منهم ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه، ونحوها من الأثقال [والأغلال] التي كانت عليهم. وهذا معنى قول عثمان بن عطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة والمؤرخ والقتيبي وابن الأنباري يدلّ عليه قوله: ويضع عنهم إصرهم والأثقال التي كانت عليهم «1» . وقال ابن زيد: معناه: لا تحمل علينا ذنبا ليس فيه توبة ولا كفّارة وإلّا يفعل في هذه كلّها العقد والأحكام، ويقال للشيء الذي تعقد به الأشياء: الأصر، ويقال: بينه وبين فلان أصرة رحم، وما تأصرني، أي ما [يعطفني عليه عهد ولا قرابة] «2» . وقال: أنشدني أبو القاسم السدوسي، قال: أنشدني السميع بن محمد الهاشمي، قال: أنشدنا أبو الحسن العبسي، قال: أنشدنا العباس بن محمد الدوري الشافعي: إذا لم تكن لامرئ نعمة ... لدي ولا بيننا آصره [ولا لي] في ودّه حاصل ... ولا نفع في الدنيا ولا الآخرة وأفنيت عمري على بابه ... فتلك إذا صفقة خاسرة «3» رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. أي لا تكلّفنا من الأعمال مالا نطيق، هذا قول قتادة والضحاك والسدي وابن زيد. وقال بعضهم: هو حديث النفس والوسوسة. وعن أبي ثوبان عن أبيه عن مكحول في قوله تعالى: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. قال [ ... ] «4» وعن أبي القاسم عن مالك الشامي أن أبا إدريس الحولاني كان يأتي أصحابه ويقول: اللهمّ أعذني و [ ... ] «5» جرف إلى جهنم. سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم في قوله تعالى وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. قال: المشقة. وعن أبي القاسم عبد الله بن يحيى بن عبيد قال: سمعت أبا القاسم عبد الله بن أحمد قال: سمعت محمد بن عبد الوهاب وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. قال: يعني العشق. قال
خباب: حضرت مجلس ذي النون المصري في فسطاطه، فتكلّم ذلك اليوم في محبّة الله فمات أحد عشر نفسا في المجلس، فصاح لا يحل من المزيد بر فقال: يا أبا القيس ذكرت محبّة الله فاذكر محبّة المخلوقين، فتأوّه ذو النون تأوّها شديدا ومدّ يده إلى وجهه ووقف منتصبا وقال له: خلقت قلوبهم واستعبرت عيونهم وتألّفوا السهاد، وفارقوا الرقاد فليلهم طويل نومهم وقليل أحزانهم لا تعد وهمومهم لا تعقد، أمورهم عسيرة ودموعهم غزيرة باكية عيونهم قريحة جفونهم. [عاداهم] الرفاق والأهل والجيران. وقال يحيى: لو تركت العقوبة بيدي يوم القيامة ما عذّبت العشّاق لأن ذنوبهم اضطرارا لا اختيارا. قال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير، وقال بعضهم: هو شماتة الأعداء. وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: قيل لأيّوب عليه السّلام: ما كان أشق عليك في طول بلائك؟ قال: شماتة الأعداء. وأنشد ابن الأعرابي: كلّ المصائب قد تمرّ على الفتى ... فتهون غير شماتة الحسّاد إنّ المصائب تنقضي أيامها ... وشماتة الأعداء بالمرصاد وقيل: هو القطيعة والفرقة نعوذ بالله منها. وقيل: قطع الأوصال أيسر من قطع الوصال، وقال النظّام: لو كان للبين صورة لما [راع] الذنوب ولهدّ الجبال ولجمر الغضا أقل من [ ... ] «1» ولو عذّب الله سبحانه أهل النار بالفراق لاستراحوا إلى [حرّ العذاب] . وَاعْفُ عَنَّا. أي تجاوز واصفح عن تقصيرنا وذنوبنا. وَاغْفِرْ لَنا. واستر علينا ذنوبنا وتجاوز عنها ولا [تعاقبنا] وَارْحَمْنا. فإنا لا ننال العمل لطاعتك ولا ترك معصيتك إلّا برحمتك، وقيل: وَاعْفُ عَنَّا من المسخ، وَاغْفِرْ لَنا عن السيئات، وَارْحَمْنا من القذف. وقيل: وَاعْفُ عَنَّا، من الأفعال، وَاغْفِرْ لَنا من الأقوال، وَارْحَمْنا من العقود والأضمان. وقيل: وَاعْفُ عَنَّا الصغائر، وَاغْفِرْ لَنا الكبائر، وَارْحَمْنا بتثقيل الميزان مع إفلاسنا. وقيل: وَاعْفُ عَنَّا في سكرات الموت، وَاغْفِرْ لَنا في ظلمة القبر، وَارْحَمْنا في ظلمة القبر. أَنْتَ مَوْلانا. أي ناصرنا وحافظنا ووليّنا ووال بنا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. عطاء عن سعيد عن ابن عباس في قول الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ. إلى قوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. قال: قد غفرت لكم لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا. قال: لا أواخذكم رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً. قال: لا أحمل عليكم. وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ. قال: لا أحمّلكم وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم
ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين. وروى سفيان عن أبي إسحاق عن رجل عن معاذ بن جبل أنّه كان إذا ختم البقرة قال: آمين. يتلوه سورة آل عمران. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وصلّى الله على محمد خير الأوّلين والآخرين وعلى آله الطيّبين الطاهرين أجمعين وسلّم. قال مسروق: نعم كنز الصعلوك سورة البقرة وآل عمران يقرأهما من آخر الليل. وقال وهب بن منبّه: من قرأ ليلة الجمعة سورة البقرة وآل عمران كان له نور ما بين عجيبا إلى غريبا. وعجيبا الأرض السابعة وغريبا العرش. وقال مسروق: من قرأ سورة البقرة في ليلة توّج بها. وفي الحديث السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن. سؤال: فإنّ قيل: أيجوز أن يحمّل الله أحدا مالا يطيق؟. قال الزجاج: قيل له: إن أردت ما ليس في قدرته، فهو محال، وإن أردت ما يثقل عليه، فلله تعالى أن يفعل من ذلك ما شاء لأن الذي كلّفه بني إسرائيل من قتل أنفسهم ثقل عليهم. وهذا كقولك: ما أطيق كلام فلان، فليس المعنى ليس في قدرتك ولكن معناه أن يثقل عليك. فإن قيل: هل يجوز على العادل أن يكلّف فوق الوسع؟. قيل: قد أخبر عن سعته ورحمته وعطفه على خلقه كما نفى الظلم عن نفسه، وإن كان لا يتوهّم منه الظلم بحال. وقال قوم: لو كلّف فوق الوسع لكان له لأن الخلق خلقه والأمر أمره، ولكنّه أخبر أنّه لا يفعله والسلام.
محتوى الجزء الثاني من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء الثاني من كتاب تفسير الثعلبي تكملة سورة البقرة فصل في معنى الإخلاص 6 ذكر حكم الآيات 54 حكم الآية 55 فصل في حكم الآية 66 حكم الآية 96 في افراد الحج 97 في القران 98 حكم الآية 104 تفصيل حكم الآية 191 صفة قتل داود جالوت 217 ذكر حكم الآية 286 في فضل إنظار المعسر 287 فصل في الدّين 288 فصل في تفصيل آخر ما نزل من القرآن 289
الجزء الثالث
الجزء الثالث سوره آل عمران روي أنّها أربعة عشر ألف حرف، وخمس مائة وخمسة وعشرون حرفا، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانين كلمة، ومائتا آية. فضلها: روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس» [1] «1» . زرّ بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم» [2] «2» . رويعن أبي إسحاق عن سليم بن حنظلة، قال: قال عبد الله بن مسعود: «من قرأ آل عمران فهو غني» . يحيى بن نعيم عن أبيه عن أبي المعرش عن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «تعلّموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان، وإنهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين شفعاء له جزاء حتى يدخلاه الجنّة» [3] «3» . إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي الحرين عن أبي عبد الله الشاميّ، قال: «من قرأ سورة البقرة وآل عمران في ليلة الجمعة يبدل له يوم القيامة جناحات يطير بهما على الصراط» [4] «4» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)
أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر الزبير، ومحمد بن مروان عن الكلبي، وعبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع بن أنس، قالوا: نزلت هذه في وفد نجران، وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدّرون عن رأيه، واسمه عبد المسيح. والسيّد [عالمهم] وصاحب رحلهم واسمه [الأيهم ويقال: شرحبيل] «1» وأبو حارثة بن علقمة الذي يعتبر حبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد شرف فيهم ودرّس كهنتهم من حسن عمله في دينهم، وكانت ملوك الروم قد شرّفوه [وموّلوه وبنو له] الكنائس لعلمه واجتهاده. فقدموا على رسول الله المدينة ودخلوا مسجده- حين صلى العصر- عليهم ثياب الحبرة وأردية مكفوفة بالحديد، في جمال رجال بلحرث «2» بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما رأينا وفدا مثلهم! وقد حانت صلاتهم فقاموا وصلّوا في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلّوا الى المشرق. فكلّم السيد والعاقب رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أسلمنا. قالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام [ادّعاء كما] «3» لله ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير. قالا: إن لم يكن ولد لله فمن [أبيه] «4» وخاصموه جميعا في عيسى عليه السلام، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: [إنّه لا يكون ولد إلّا وشبه أباه. قالوا: بلى، قال: ألستم] تعلمون أن ربّنا حي لا يموت وإنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ؟ قالوا: بلى.
قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم؟ قالوا: لا. قال: فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون إنّ عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة حملها، ثم غذي كما يغذى الصبي، وكان يطعم ويشرب ويحدث، قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا. فأنزل الله تعالى فيهم صدر سورة آل عمران الى بضع وثمانين آية منها. فقال عزّ من قائل: الم قرأ ابن جعفر بن زبير القعقاع المدني ال م مفصولا، ومثلها جميع حروف التهجّي المفتح بها السور. وقرأ ابن جعفر الرواسي والأعشى والهرحمي: الم اللَّهُ مقطوعا والباقون موصولا مفتوح الميم. فمن فتح الميم ووصل فله وجهان: قال البصريون: لالتقاء الساكنين حركت إلى أخف الحركات. وقال الكوفيون: كانت ساكنة لأن حروف الهجاء مبنية على الوقف فلمّا تلقاها ألف الوصل وأدرجت الألف فقلبت حركتها وهي الفتحة الى الميم. ومن قطع فله وجهان: أحدهما: نية الوقف ثم قطع الهمزة للابتداء، كقول الشاعر: لتسمعنّ وشيكا في ديارهم ... الله أكبر يا ثارات عثمانا «1» والثاني: أن يكون أجراه على لغة من يقطع ألف الوصل. كقول الشاعر: إذا جاوز الاثنين سرّ ... فإنه بنت وتكثير الوشاة قمين «2» ومن فصل وقطع فللتفخيم والتعظيم تعالى اللَّهُ ابتداء وما بعده خبر، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نعت له، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ قرأ إبراهيم بن أبي عبلة: نَزَلَ بتخفيف (الزاي) ، الْكِتابُ: برفع الباء، وقرأ الباقون: بتشديد الزاي ونصب الباء على التكثير لأنّ القرآن كان ينزل نجوما شيئا بعد شيء والتنزيل يكون مرّة بعد مرّة، وقال: (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) لأنهما نزلتا
دفعة نَزَّلَ عَلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ القرآن بِالْحَقِّ: بالعدل، والصدق، مُصَدِّقاً: موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ: لما قبله من الكتب في التوحيد، والنبوّات، والأخبار، وبعض الشرائع. وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قال البصريون: أصلها ووريه دوجله وحرقله فحوّلت الواو الاولى تاء وجعلت الياء المفتوحة ألفا فصارت توراة، ثم كتبت بالياء على أصل الكلمة، وقال الكوفيون: هي تفعله والعلة فيه ما ذكرنا مثل (توصية) ، و (توفية) فقلبت الياء ألفا كما يفعل طيئ، فيقول للجارية: جاراة، وللناصية: ناصاة، وأصلها من قولهم: «وري الزند» إذا أخرجت ناره وأولته أنا، قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ «1» ، وقال: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً «2» فتسمى تورية لأنه نور وضياء دلّ عليه قوله تعالى: وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ «3» قاله الفراء، وأكثر العلماء، وقال [المؤرج:] هي من التورية وهي كتمان الشيء والتعريض لغيره. ومن الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إذا أراد شيئا وري بغيره» [5] . وكان أكثر التورية معارض وتلويحا من غير إيضاح وتصريح، وقيل: هي بالعبرانية «نوروثو» ومعناه: الشريعة. والإنجيل أفضل من [النجل] وهو الخروج، ومنه سمّي الولد «نجلا» لخروجه. قال الأعشى: أنجب أزمان والداه به ... إذ نجّلاه فنعم ما نجلا «4» فسمي بذلك لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا. ويقال: هو من المتنجل، وهو سعة الجن، يقال: قطعته نجلا أي: واسعة فسمي بذلك لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم نورا وضياء، وقيل: هو بالسريانية «انقليون» ومعناه: الشريعة: وقرأ الحسن الْأَنْجِيلَ بفتح الهمزة، يصححه الباقون بالكسر مثل: الإكليل. مِنْ قَبْلُ رفع على الغاية والغاية هاهنا قطع الكتاب عنه كقوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وقال زهير: وما كان من خير أتوه ... فإنّما توارثه آباء آبائهم قبل «5»
هُدىً لِلنَّاسِ هاد لمن تبعه، ولم ينته لأنّه مصدر وهو في محل النصب على الحال والقطع. وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ الفرق بين الحق والباطل، قال السدي: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: وأنزل التوراة والإنجيل والفرقان هدى للمتقين. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ذكرا وأنثى، قصيرا وطويلا، أسودا وأبيضا، حسنا وقبيحا، سعيدا وشقيا. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ متقنات مبينات مفصلات. هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله الذي يعمل عليه في الأحكام ويجمع الحلال والحرام ويفرّغ لأهل الإسلام، وهنّ آيات التوراة والإنجيل والقرآن، وفي كل كتاب يرضى به أهل كل دين، ولا يختلف فيه أهل كل بلد. والعرب تسمي كلّ شيء فاضل جامع يكون مرجعا لقوم، كما قيل للّوح المحفوظ: أم الكتاب، والفاتحة: أمّ القرآن، ولمكّة: أمّ القرى وللدماغ: أمّ الرأس، وللوالدة: أم، وللراية: أم، وللرجل الذي يقوم بأمر العيال: أم، وللبقرة والناقة أو الشاة التي يعيش بها أهل الدار: أم، وكان عيسى (عليه السلام) يقول للماء: «هذا أبي» ، وللخبز: «هذه أمّي» لأنّ قوام الأبدان بهما. وإنّما قال أُمُّ الْكِتابِ ولم يقل أمّهات الكتب لأنّ الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة، وكلام الله واحد. وقيل: معناه كلمة واحدة ف هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ كما قال: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً «1» أي كل واحد منهما آية. وَأُخَرُ: جمع أخرى ولم يصرف لأنّه معدول عن أواخر، مثل عمر، وزفر وهو قاله الكسائي. وقيل: ترك أخراه لأنّه نعت مثل جمع، وكسع لم يصرفا لأنّهما نعتان.
وقيل: لأنّه مبني على واحدة في ترك الصرف وواحدة اخرى غير مصروف. مُتَشابِهاتٌ: تشبه بعضها بعضا، واختلف العلماء في المحكم والمتشابه كليهما فقال قتادة والربيع والضحاك والسدي: «المحكم: الناسخ الذي يعمل له» . «والمتشابه: المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به، هي رواية عطية عن ابن عباس» . روى علي ابن أبي طلحة عنه قال: «محكمات القرآن ناسخة، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به» . والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأمثاله واقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. زهير بن معاوية عن أبي إسحاق قال: قال ابن عباس: قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ قال: هي الثلاث الآيات في سورة الأنعام قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «1» إلى آخر الآيات الثلاث، نظيرها في سورة بني إسرائيل وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «2» الآيات. وقال مجاهد، وعكرمة: «المحكم: ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه [يصدّق] بعضها بعضا» . قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكم: ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد. والمتشابه: ما أحتمل من التأويل أوجها. وقال ابن زبير: من المحكم ما ذكر الله تعالى في كتابه من قصص الأنبياء (عليهم السلام) ، وفصلت وتنته لمحمد صلى الله عليه وسلّم وأمّته، كما ذكر قصة نوح في أربع وعشرين آية منها، وقصة هود في عشر آيات، وقصّة صالح في ثمان آيات، وقصة إبراهيم في ثمان آيات، وقصة لوط في ثمان آيات، وقصة شعيب في عشر آيات، وقصة موسى في آيات كثيرة. وذكر [آيات] حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أربع وعشرين آية. والمتشابه: هو ما أختلف به الألفاظ من قصصهم عند التكرير، كما قال في موضع من قصة نوح: قُلْنَا احْمِلْ «3» وقال وفي موضع آخر: فَاسْلُكْ «4» .
وقال في ذكر عصا موسى: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى «1» ، وقال في موضع آخر: ثُعْبانٌ مُبِينٌ «2» ونحوها. وإن بعضهم قال: «المحكم: ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه» . «والمتشابه: ما ليس لأحد الى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه» وذلك نحو الخبر عن وقت خروج الدجّال، ونزول عيسى، وطلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدّنيا، ومحوها. وقال أبو فاختة: «المحكمات التي هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ فواتح السور منها يستخرج القرآن الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ «3» منها استخرجت البقرة، والم اللَّهُ «4» استخرجت آل عمران. وقال ابن كيسان: «المحكمات حجتها واضحة، ودلائلها لائحة، لا حاجة بمن سمعها الى طلب معانيها في المتشابه الذي شك علمه، بالنظر فيه يعرف العوّام تفصيل الحق فيه من الباطل» . وقال بعضهم: «المحكم ما أجمع على تأويله، والمتشابه ما ليس معناه واضح» . وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب. وقال الشعبي: رأيت في بعض التفاسير «5» أنّ المتشابه هو [ما خفي لفظه والمحكم ما كان لفظه واضح وعلى هذا القرآن كلّه] «6» محكم من وجه على معنى [بشدّة] [.....] «7» ، قال الله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «8» . والمتشابه من وجه فهو إنّه يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا. وقال ابن عبّاس في رواية شاذان: المتشابه حروف التهجّي في أوائل السّور، وذلك بأنّ حكام اليهود هم حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف ونظراءهما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له حيي:
بلغنا أنّه أنزل عليك (الم) أأنزلت عليك؟ قال: نعم، فإن كان ذلك حقّا فإنّي أعلم من هلك بأمّتك وهو إحدى وسبعون سنة فهل أنزلت عليك غيرها؟ قال: نعم والى المص «1» ، قال: هذه أكبر من تلك هي إحدى وستون ومائة سنة فربما غيرها؟ قال: نعم الر «2» قال: هذه أكثر من مائة وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندري أبكثيره نأخذ أم بقليلة؟ ونحن ممّن لا يؤمن بهذا ، فأنزل تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: أي ميل عن الحق، وقيل: شك. فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ: اختلفوا في معنى هذه الآية، فقال الربيع: هم وفد نجران خاصموا النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: ألست تعلم أنّه كلمة الله وَرُوحٌ مِنْهُ؟ قال: بلى، قالوا: فحسبنا ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الكلبي: هم اليهود [أجهل] هذه الأمّة باستخراجه بحساب الجمل. وقال ابن جري: هم المنافقون. [قال] الحسن: هم الخوارج. وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ قال: إن لم يكونوا آخرون فالسبابيّة ولا أدري من هم. وقال بعضهم: هم جميع المحدثة. وروي حمّاد بن سلمة وأبو الوليد يزيد بن أبي ميثم وأبوه جميعا عن عبد الله بن أبي مليكة الفتح عن عائشة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الّذين يسألون عمّا تَشابَهَ مِنْهُ ويجادلون فيه الّذين عنى الله عزّ وجلّ فاحذروهم ولا تخالطوهم [6] «3» . ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ: طلب الشرك قاله الربيع، والسدي، وابن الزبير، ومجاهد: ابتغاء الشبهات واللبس ليضلّوا بها جهّالهم. وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: تفسيره وعلمه دليله قوله تعالى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً «4» . وقيل: ابتغاء عاقبته، وطلب مدة أجل محمّد، وأمته من حساب الجمل، دليله قوله تعالى
ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا «1» أي عاقبته، وأصله من قول العرب: تأول الفتى إذا انتهى. قال: الأعشى: على أنّها كانت تأوّل حبها ... تأوّل ربعي السقاب فأصحبا «2» يقول: هذا السجي لها فانقرت لها وابتغتها، قال الله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها. فقال قوم: الواو في قوله الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو العطف، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم وهم مع علمهم يقولون: آمَنَّا بِهِ. وهو قول مجاهد والربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، واختيار القتيبي قالوا: معناها يعلمونه ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ فيكون قوله: يَقُولُونَ، حالا والمعنى: الراسخون في العلم قائلين آمنّا به. قال ابن المفرغ الحميري: أضربت حبك من امامه ... من بعد أيام برامه الريح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في الغمامة «3» أراد والبرق لا معا في غمامه وتبكي شجوه أيضا، ولو لم يكن البرق يشرك الريح في البكاء لم يكن لذكر البرق ولمعانه معنى. ودليل هذا التأويل قوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ «4» . ثم قال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «5» الآية. ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ «6» : أي والذين تبؤوا الدار، ثم قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. ثم أخبر عنهم أنّهم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا «7» الآية. ولا شك في أنّ قوله: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف على قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ
، وانّهم يشاركون للفقراء المهاجرين والأنصار في الفيء ويَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا من جملة الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ. فمعنى الآية وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم مع استحقاقهم الفيء يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا «1» أي قائلين على الحال. فكذلك هاهنا في يَقُولُونَ رَبَّنا أي ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. ومما يؤيد هذا القول أنّ الله تعالى لم ينزل كتابه إلّا لينتفع له مبارك، ويدل عليه على المعنى الذي اراده فقال: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ «2» ، وقال: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «3» . والمبين الظاهر، وقال: بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ «4» . فوصف جميعه بالتفصيل والتبيين وقال: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «5» . ولا يجوز أن تبيّن ما لا يعلم، وإذا جاز أن يعرفه الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قوله لا يعلمه إلّا الله، جاز أن يعرفه الربانيون من أصحابه. وقال: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «6» ولا تؤمر باتّباع ما لا يعلم ولأنّه لو لم يكن للراسخين في العلم هذا لم يكن لهم على المعلمين والجهال فضل لأنهم ايضا يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: ولأنّا لم نر من المفسرين على هذه الغاية [قوما] يوفقوا عن شيء من تفسير القرآن وقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلّا الله، بل أعزوه كله وفسروه حتى حروف التهجي وغيرها. وكان ابن عباس يقول: في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم. وقرأ مجاهد هذه الآية وقال: أنا ممّن يعلم تأويله. وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلم ولا أعلم أربعة: غِسْلِينٍ، وحَناناً، والأوّاه، والترقيم. وهذا إنّما قال ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسّرها. وقال آخرون: الواو في قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو الاستئناف وتم الكلام، وانقطع عند قوله: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. ثم ابتدأ وقال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ... وَالرَّاسِخُونَ أبتداء وخبره في يَقُولُونَ، وهذا قول عائشة وعروة بن الزبير، ورواية طاوس عن ابن عباس، واختيار الكسائي والفراء والمفضّل بن سلمة ومحمد بن جرير قالوا: إنّ الراسخين لا يعلمون تأويله، ولكنهم يؤمنون به. والآية راجعة على هذا التأويل الى العلم بما في أجل هذه الأمة ووقت قيام الساعة، وفناء الدنيا، ووقت طلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى (عليه السلام) ، وخروج الدجال، ويأجوج ومأجوج، وعلم الروح ونحوها مما استأثر الله لعلمه ولم يطلع عليه أحد من خلقه. وقال بعضهم: [اعلم أنّ المتشابه من الكتاب قد] «1» أستأثر الله بعلمه دوننا، ونفسّره نحن، ولم نتعبد بذلك. بل ألزمنا العمل بأوامره واجتناب نواهيه، ومما يصدّق هذا القول قراءة عبد «2» الله أنّ تأويله لا يعلم إلّا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وفي حرف [] «3» الراسخون في العلم آمنّا به. ودليله أيضا ما روي عن عمر بن عبد العزيز، إنّه قرأ هذه الآية ثم قال: انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن الى أن قالوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا «4» . وقال أبو نهيك الأسدي: إنّكم تصلون هذه الآية وإنّها مقطوعة وهذا القول أقيس العربيّة وأشبه مظاهر الآية والقصة والله أعلم. والرَّاسِخُونَ: الداخلون في العلم الذين أتقنوا علمهم، واستنبطوه فلا يدخلهم في معرفتهم شك، وأصله من رسوخ الشيء في الشيء وهو ثبوته وأوجب فيه يقال: (رسخ الإيمان في القلب فلان) فهو يرسخ رسخا ورسوخا وكذلك في كل شيء ورسخ رصخ، وهذا كما يقال: مسلوخ ومصلوخ قال الشاعر: لقد رسخت في القلب منك مودة ... للنبي أبت آياتها أن تغيرا «5» وقال بعض المفسّرين من العلماء: الراسخون علما: مؤمني أهل الكتاب، مثل عبد الله بن سلام و [ابن صوريا وكعب] . [قيل:] الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هم بعض الدارسين علم التوراة. وروي عن أنس بن مالك [وأبي الدرداء وأبي أمامة] : أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل من
[سورة آل عمران (3) : الآيات 8 إلى 14]
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ؟ فقال: «من برّت يمينه، وصدق لسانه واستقام قلبه، وعف بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم» [7] «1» . وقال وهيب: سمعت مالك بن أنس يسأل عن تفسير قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ من هم؟ قال: العالم العامل بما علم تبع له. وقال نافع بن يزيد: كما أن يقال الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ المؤمنون بالله، المتذللون في طلب مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا [يحقّرون] من دونهم «2» . وقال بعضهم: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: من وجد في عمله أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله تعالى، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه «3» . وقال ابن عباس ومجاهد والسدي بقولهم: (آمَنَّا بِهِ) سمّاهم الله تعالى: الراسخين في العلم فرسوخهم في العلم قولهم: آمَنَّا بِهِ أي بالمتشابه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، ما علمناه وما لم نعلمه. قال المبرد: زعم بعض الناس أن (عِنْدِ) هاهنا صلة ومعناه كل من ربّنا. وَما يَذَّكَّرُ: يتعظ بما في القرآن. إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: ذووا العقول ولبّ كل شيء خالصه [فلذلك قيل للعقل لب] . [سورة آل عمران (3) : الآيات 8 الى 14] رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا: أي ويقول الراسخون كقوله في آخر السورة: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا «1» أي ويقولون ربنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا لا تملها عن الحق والهدى، كما ازغت قلوب اليهود والنصارى، والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ. يقال: زاغ- يزيغ- ازاغة إذا مال. وزاغ- تزيغ- زيغا- وزيوغا- وزيغانا إذا حال. بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا: وفقنا لدينك، والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك. وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً: وآتنا من لدنك رحمة وتوفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الهدى والإيمان. وقال الضحاك: تجاوزا ومغفرة الصّدق [.....] «2» على شرط السنة. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ: تعطي. وفي الآية ردّ على القدرية. وروي عن أسماء بنت يزيد: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر في دعائه: «اللهم [يا] مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» [8] «3» . قالت: فقلت: يا رسول الله وإنّ القلوب لتقلب؟. قال: نعم ما خلق الله من بني آدم من بشر إلّا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه، وإن شاء أقامه على الحق، فنسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنّه هو الوهاب «4» . قالت: قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى قولي: «اللهم ربّ محمّد النبي، اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلّات الفتن ما أحييتني» [9] «5» . وعن أبي موسى الأشعري قال: وإنما مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض «6» . خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلب في اليوم سبع مرات «7» .
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ: [بالبعث ليوم القيامة] «1» وقيل: اللام بمعنى في أيّ يوم. لا رَيْبَ فِيهِ: لا شك فيه وهو يوم القيامة [ ... ] «2» عند ما قرأ الآية [ ... ] «3» ولذلك انصرف عن الخطر الى الخبر. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وهو مفعال من الوعد. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ قرأ السلمي (يغني) بالياء المتقدمة من الفعل ودخول [الحائل] بين الاسم والفعل. وقرأ الحسن (لن يغني) بالياء وسكون الياء الأخيرة «4» كقول الشاعر: كفى باليأس من أسماء كافي ... وليس لسقمها إذا طال شافي وكان حقّه أن يقول: كافيا، فأرسل الياء، وأنشد الفرّاء في مثله: كأن أيديهنّ بالقاع القرق ... أيدي جوار يعاطين الورق القرق والقرقة لغتان في القاع «5» . ومعنى قوله (لن يغني) : أي لن ينفع، ولن يدفع وإنما سمى المال غنى لأنه ينفع الناس ويدفع عنهم الفقر والنوائب. عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً. قال الكسائي وقال أبو عبيدة: معناه عند الله شيئا، من بمعنى الحال. أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ نظم الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ: عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون، وكفّار الأمم الخالية عاقبناهم ف لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ. وأما معنى كَدَأْبِ: فقال [ابن عباس] وعكرمة ومجاهد والضّحاك وأبو روق والسدّي وابن زيد: كمثل آل فرعون [مع موسى] يقول كعب اليهود: لكفر آل فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. ربيع والكسائي وأبو عبيدة: كسنّة آل فرعون. الأخفش: كأمر آل فرعون. قال امرؤ القيس:
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل «1» وهذا أصل الحرف يقال: دائب في الأمر أو أبة دأبا ودائب [ويدأ ودءوبا] إذا أدمنت العمل ونعيته. وأدأب السير أدآبا، فإنّما يرجع معناه الى النّساب والحاك والعادة. قال الشاعر «2» : لأرتحلن بالفجر ثمّ لادئبنّ قال سيبويه: موضع الكاف رفع لأن الكاف للتشبيه تقوم مقام الاسم، وتقديره: دأبهم كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كدأب الأمم الماضية كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ: فعاقبهم. بِذُنُوبِهِمْ: نظيره قوله فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ «3» . وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ: قرأ إسحاق وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلق بالياء فيهما، الباقون بالتاء، فمن قرأهما بالياء فعلى الأخبار عنهم أنّهم يحشرون ويقلبون، ومن قرأهما بالتاء فعلى الخطاب أي قلّ لهم إنكم ستغلبون وتحشرون وكلا الوجهين [صحيح] لأنه لم يوح إليهم، وإذا كان المخاطب بالشيء غير حاضر وكانت مخاطبته [في] الكلام بالتاء على الخطاب، وبالياء على الأخبار والأعلام كما تقول: (قل لغير الله ليضربن ولتضربن) . واختلف المفسرون في المعنى لهذه الآية من هم؟ فقال مقاتل: هم مشركو مكّة، ومعنى الآية قيل لكفّار مكّة: سَتُغْلَبُونَ يوم بدر وَتُحْشَرُونَ في الهجرة، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم للكافرين يوم بدر: «إنّ الله غالبكم وحاشركم الى جهنّم» [10] . دليل التأويل قوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «4» . وقال بعضهم: المراد بهذه الآية اليهود. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ يهود أهل المدينة قالوا لمّا هزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشركين يوم بدر: هذا والله النبي الأمّي الذي بشّرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته
وصفته، وأنّه لا تردّ له راية، وأرادوا تصديقه واتّباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى الى وقفة أخرى به، فلمّا كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكّوا وقالوا: لا والله ما هو به فغلب عليهم الشقاء ولم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد الى مدة لم تنقض فنقضوا ذلك العهد من أجله. وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا الى أهل مكّة، أبي سفيان وأصحابه، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتكون كلمتنا واحدة، ثم رجعوا الى المدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وقال محمد بن إسحاق عن رجاله لمّا أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا ببدر، وقدم الى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: «يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم قد عرفتم إنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» [11] «1» . فقالوا: يا محمّد لا يغرنّك أن لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة، لك والله لو قاتلناك لعرف منا البأس، فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا «2» : يعني اليهود سَتُغْلَبُونَ وتهزمون وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ في الآخرة، وهذه رواية عكرمة، وسعيد بن جبير عن أبن عباس. قال: أهل اللغة اشتقاق جهنّم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر. وَبِئْسَ الْمِهادُ يعني النار قَدْ كانَ ولم يقل كانت لأنّ (آيَةٌ) تأنيثها غير حقيقي، وقيل: ردّها الى البيان أي: قد كان لكم بيان فذهب الى المعنى وترك اللفظ كقول امرؤ القيس: برهرهة رأدة رخصة ... كخرعوبة البانة المنقطر «3» ولم يقل المنفطرة لأنّه ذهب الى القضيب، وقال الفراء: ذكّره لأنّه فرق بينهما بالصفة فلما حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ذكّر الفعل وأنّثه: إنّ امرؤا غرّه منكره واحدة بعدي ... وبعدك في الدنيا لمغرور وكل ما جاء في القرآن من هذا النحو، فهذا وجهه، فمعنى الآية قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ: أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم سَتُغْلَبُونَ.
فِي فِئَتَيْنِ: فرقتين وجماعتين وأصلها في الحرب من بعضهم بقي الى بعض. الْتَقَتا يوم بدر. فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: طاعة لله وهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، على عدّة أصحاب طالوت الّذين جازوا معه النهر وما جاز معه إلّا مؤمن، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون رجلا من الأنصار. وكان صاحب راية النبي صلّى الله عليه وسلّم والمبارزين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكانت الإبل في جيش النبي صلّى الله عليه وسلّم سبعين بعيرا والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمر الكندي، وفرس لمرثد بن أبي فهد العنزي «1» ، وكان معهم من السلاح: ستة أدرع وثمانية سيوف وجميع من أستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلا من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وَأُخْرى وفرقة أخرى كافِرَةٌ: وهم مشركو مكّة ورأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلا مقاتلا وكانت خيلهم مائة فرس، وكان حرب بدر مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان سبب ذلك أعين بن سفين، واختلف القرّاء في هذه الآية، قرأها منهم فِئَةٌ بالرفع على معنى منهما فئة أو إحداهما فئة. وقرأ الزهري بالخفض على البدل من الفئتين. وقرأ ابن السميقع: فما!، على المدح. وقرأ مجاهد: يقاتل بالياء ردّه الى القوم وجهان على لفظه، وقرأ الباقون بالتاء. يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ قرأ أبو رجاء وأبو الحرث والحسن، وأبو جعفر، وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب بالتاء واختاره أبو حاتم، الباقون بالياء، والباقون ممن قرأ بالتاء بمعناه ترون يا معشر اليهود والكفار أهل مكّة مثلي المسلمين. ومن قرأ بالياء فاختلف في وجهه فجعل بعضهم الخطاب للمسلمين، ثم له تأويلان أحده: ما يرى المسلمون المشركين مثلهم في العدد، ثم ظهر العدد القليل على العدد الكثير بخمس أمثال فتلك الآية فإن قيل كذا جاز أن يقول مثليهم وهم قد كانوا ثلاثة أمثالهم، فالجواب أن يقول: هذا مثل وعندك عبد محتاج إليه وإلى مثله، احتاج إلى مثليه فأنت محتاج الى ثلاثة، ويقول: معي ألف وأحتاج الى مثليه فأنت محتاج الى ثلاثة آلاف، فإذا نويت أن يكون الألف داخلا في المثل كان المثل والاثنان ثلاثة.
قاله الفرّاء: التأويل الآخر أن معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم الله في أعينهم حتى رأتها ستمائة وستة وعشرون، وكانوا ثلاثة أمثالهم تسعمائة وخمسين، ثم قلّلهم في أعينهم في حالة أخرى حتى رأتها مثل عدد أنفسهم. قال ابن مسعود: في هذه الآية نظرنا الى المشركين فرأيناهم يضاعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا ولا واحدا، ثم قللهم الله في أعينهم حتى رأتهم عددا يسيرا أقل عددا من أنفسهم. وقال ابن مسعود أيضا: لقد قلّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل الى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا، وقال بعضهم: الروية راجحة الى المشركين يعني: يرى المشركون المؤمنين مثليهم قلّلهم الله في أعينهم قبل القتال يعني في أعين المشركين ليجترؤوا عليهم ولا ينصرفوا، فلمّا أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا وقلّلهم في أعين المؤمنين ليجتروا فذلك قوله: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا «1» الآية. محمّد أبي الفرات عن سعيد ابن أبي آوس في قوله: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ قال: كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم؟ قالوا: ثلاثمائة وبضعة عشرة، قالوا: ما كنّا نراكم إلّا تضاعفون علينا، قال: وذلك ممّا نصر به المسلمون. وقرأ السلمي يُرَوْنَهُمْ بضم الياء على ما لم يسمي فاعله وإن شئت على معنى الظن. رَأْيَ الْعَيْنِ أي في رأي العين نصب ونزع حرف الصفة وإن شئت على المصدر أي ترونهم رأي العين، أي: في نظر العين يقال: رأيت الشيء رأيا ورؤية ورؤيا ثلاث مصادر إلّا أنّ الرؤيا أكثر ما يستعمل في المنام ليفهم في رأى العين بمعنى النظر إذا ذكر. وقال الأعشى: فلما رأى لا قوم من ساعة ... من الرأي ما أبصروه وما أكتمن وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ: يقوي بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ: التي ذكرت لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ: لذوي العقول، وقيل: لمن أبصر الجمعين. زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ: جمع شهوة وهي نزوع عن النفس إليه، وإنّما حرّكت الهاء في الجمع ليكون فرقا بين جمع الاسم وبين جمع النعت لأنّ النعت لا تحرك نحو: ضخمة،
ضخمات، وحبلة حبلات، والاسم يحرك مثل: تمرة وتمرات، هو نفقة الجيل ونفقات، فإذا كان ثاني الاسم تاء أو واوا، فأكثر العرب على تسكينها [استثقالا] لتحريك الياء والواو كقولك: بيضة وبيضات، جوزة وجوزات. وعن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النّار بالشهوات» [12] «1» . مِنَ النِّساءِ: بدأ بهنّ لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب الى الافتان. وَالْبَنِينَ: عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للأشعث بن قيس: هل لك من ابنة حمزة من ولد؟ قال: نعم لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني حيلة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لئن قلت ذلك إنّهم لثمرة القلوب وقرّة الأعين وإنّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة «2» . وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ: المال الكثير بعضه على بعض. ابن كيسان: المال العظيم، أبو عبيدة: تقول العرب هو أن لا يحدّ. وقال الباقون: فلا محدود، ثم اختلفوا فيه، فروى أبو صالح عن أبي هريرة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القنطار: إثنا عشر ألف أوقية» [13] «3» . وعن يزيد الرقاشي قال: دخلت أنا وثابت وناس معنا الى أنس بن مالك فقلنا له: يا أبا حمزة ما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قيام الليل؟ قال أنس: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ في ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية أعطي قيام ليلة كاملة، ومن قرأ مائتي آية ومعه القرآن فقد أدّى حقّه، ومن قرأ خمسمائة آية الى أن يبلغ ألف آية كان كمن تصدّق بقنطار قبل أن يصبح، قيل: وما القنطار؟ قال: ألف دينار. سالم بن أبي الجعد عن معاذ بن جبل قال: القنطار ألف ومائتا أوقيّة، وهو قول ابن عمر ومثله روي زر بن حبيش عن أبي بن كعب: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» [14] «4» . وروى عطية عن ابن عباس وعبد الله بن عمر عن الحكم عن الضحاك: «إنّ القنطار ألف ومائتا مثقال» .
ومثله روى يونس عن الحسن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. روي حمزة عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القنطار ألف دينار» [15] «1» . سعيد بن جبير عن عكرمة: هو مائة ألف ومائة من، ومائة [رطل] ومائة مثقال ومائة درهم، ولقد جاء الإسلام يوم جاء [وبمكة] «2» مائة رجل. [وعن سفيان عن] إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال: القنطار: مائة رطل «3» . فقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال. أبو نظرة: مسك ثور ذهبا أو فضّة. سعيد بن المسيّب وقتادة: ثمانون ألفا. ليث عن مجاهد القنطار: سبعون ألفا. شريك: أربعون ألف مثقال. الحسن: القنطار دية أحدكم. ومثله روى الوالبي عن ابن عباس وجويبر عن الضحّاك قال: إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار دية أحدكم. وعن أبي حمزة الثمالي قال: القنطار بلسان أفريقيا والأندلس ثمانية آلاف جروال من ذهب أو فضة. وروى الثمالي عن السدي قال: أربعة آلاف مثقال. قال الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أنّ القناطير [مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه] وأصلها من الإحكام يقال: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سمّيت القنطرة المقنطرة «4» . قال الضحاك: الْمُقَنْطَرَةِ: المحصّنة المحكمة. قتادة: هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض كأنّها المدفونة يقال: قنطر إذا كثر. السدي: المخزونة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير. قال الفراء: المضعّفة كأن القنطار ثلاثة والْمُقَنْطَرَةِ تسعة.
أبو عبيدة: هو مفعللة من القنطار مثل قولك ألف مؤلّف. مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ: قيل سمّي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، والفضّة لأنّه تنفض أي تفرق. وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ: الخيل جمع هو لا واحد له من لفظه. واحده «فرس» كالقوم والنساء والرهط والجيش ونحوها. واختلف العلماء في معنى «الْمُسَوَّمَةِ» فقال مجاهد، وسعيد بن جبير، والربيع: هي الراعية. ومثله روى عطيّة عن ابن عباس والحسن: هي المرعيّة يقال: سامت الخيل يسوم سوما، فهي سائمة، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة، وسوّمتها تسويما فهي مسوّمة. قال الله: فِيهِ تُسِيمُونَ «1» . وفيه قول الأخطل: مثل ابن بزعة أو كآخر مثله ... أولى لك ابن مسيمة الآجال «2» يعني: ابن الإبل. حبيب بن أبي ثابت، وابن أبي نجيع عن مجاهد: المطهّمة الحسان ليث عنها المصوّرة، وعن عكرمة: تسويمها حسنها «3» . السدّي: هي الرايعة، وكلها بمعنى واحد. أبو عبيدة، والحسن، والأخفش، والقتيبيّ: المعلّمة. ومثله روى الوالبي عن ابن عباس. قتادة: شيباتها وألوانها، المؤرّج المكويّة، المبرد: المعرفة في البلدان. ابن كيسان: اليحلق وكلها قد قسارية وأصلها من السومة، والمسيما وهي العلامة. يقال: سومت الخيل تسويما إذا علمتها. قال الله تعالى: بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «4» . قال النابغة في صفة الخيل: بسمر كالقداح مسوّمات ... عليها معشر اشبها جنّ «5» وقال الأعشى: وفرسان الحفاظ بكل ثغر ... يقودون المسوّمة العرابا
فصل في الخيل
وقال ابن زيد وأبان بن ثعلب: المسومة: المعدّة للحرب والجهاد. قال لبيد: ولعمري لقد بلي كليب ... كلّ قرن مسوّم القتال قال الثعلبي: ورأيت في بعض التفاسير: أنّها الهماليخ. فصل في الخيل «صفة خلقها» روى الحسن بن علي عن أبيه علي (عليه السّلام) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله لما أراد أن يخلق الخلق قال للريح الجنوب: إنّي خالق منك خلقا. فأجعله عزّا لأوليائي، ومذلة على أعدائي، وجمالا لأهل طاعتي، فقال الريح: أخلق. فقبض منها قبضة فخلق فيها فرسا. فقال له: خلقتك عربيا وجعلت الخير معقودا بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، عطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطير بلا جناح، وأنت للطلب وأنت للهرب، وسأجعل على ظهرك رجالا يسبّحوني ويحمدونني، ويهلّلوني ويكبّروني، تسبّحين إذا سبّحوا، وتهلّلين إذا هلّلوا، وتكبّرين إذا كبّروا» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من تسبيحة، وتحميدة وتمجيدة، وتكبيرة يكبّرها صاحبها وتسعه إلّا وتجيبه بمثلها» [16] «1» . ثم قال: «لما سمعت الملائكة صفة الفرس عاتبوا خالقها قالت: ربّ نحن ملائكتك نسبّحك، ونحمدك فماذا لنا؟ فخلق الله لها خيلا بلقاء أعناقها كأعناق البخت، قال: فلما أرسل الفرس الى الأرض فاستوت قدماه على الأرض صهل، فقيل: بوركت من دابّة أذلّ بصهيله المشركين، أذل به أعناقهم، أملأ منه آذانهم، وأرعب به قلوبهم. فلما عرض الله على آدم من كل شيء قال: أختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس. فقال له: اخترت عزّك وعزّ ولدك خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا. [يلقح فينتج منه أولادك أبد الآبدين] بركتي عليك وعليه ما خلقت خلقا أحبّ الي منك ومنه» [17] «2» . فضلها: روى أبو صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة» [18] «3» .
شأنها:
وعن سعيد بن عروبة عن قتادة عن آنس قال: لم يكن شيء أحبّ الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد النساء من الخيل. وعن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ليس من فرس عربي إلّا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم خولتني من خولتني من بني آدم، وجعلتني له، فاجعلني أحبّ ماله وأهله إليه، أو من أحب ماله وأهله إليه» [19] «1» . شأنها: عن أبي وهب الحسيني، وكانت له صحبة قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلّم «وارتبطوا الخيل، وامسحوا نواصيها وأكفالها، وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار، وعليكم بكل كميت أغرّ «2» محجّل أو أشقر محجل، أو أدهم أغرّ محجّل» [20] «3» . وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي يكره الشكال «4» من الخيل ، قال أبو عبد الرحمن: الشكال من الخيل أن يكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة أو يكون ثلاث قوائم مطلقة، ورجل محجلة، وليس تكون الشكال إلا في الرجل «5» . وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار» [21] «6» . وجوهها: زيد بن أسلم عن أبي صالح التمار عن أبي هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر. ولرجل وزر، فأما الذي هو له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرّفن كانت أن آثارها وأرواثها حسنات له. ولو أنّها مرّت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها منه كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر. ورجل ربطها تقنّنا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها وظهرها فهي لذلك ستر. ورجل ربطها فخرا ورياء ونوى لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر» [22] «7» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 15 إلى 22]
وعن خباب بن الإرث قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخيل ثلاثة فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان فأمّا فرس الرحمن فما اتخذ في سبيل الله، وقتل عليه أعداء الله، وأما فرس الإنسان فما استبطن ويحمل عليه، واما فرس الشيطان فما روهب ورهن عليه وقومر عليه» [23] «1» . وَالْأَنْعامِ: جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، جمع لا واحد له من لفظه. وَالْحَرْثِ: يعني الزرع. ذلِكَ: الذي ذكرت. مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا: لا عتاد المعاد والعقبى. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ: أي المرجع مفعل من أب، يؤوب أوبا مثل المتاب. زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عبد الله بن الأرقم وهو يقول لعمر (رضي الله عنه) : يا أمير المؤمنين إنّ عندنا حلية من حلية جلود وآنية من ذهب وفضّة فما رأيك فيها. فقال عمر: إذا رأيتني فارغا فائتني، فقال: يا أمير المؤمنين إنّك اليوم فارغ. قال: فما نطلق معه، فجيء بالمال. فقال: أبسطه قطعا، فبسط ثم جيء بذلك المال وصبّ عليه ثم قال: «اللهم إنّك ذكرت هذه المال فقلت: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «2» ثم قلت لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «3» اللهم إنا لا نستطيع أن لا نفرح بما آتينا، اللهم أنفقه في حق، وأعوذ بك منه، قال: فأتى بابن له يحمله، يقال له عبد الرحمن، فقال: يا أبه هب لي خاتما. قال: اذهب الى أمك تسقيك سويقا، فلم يعطه شيئا. [سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 22] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ: أخبركم. بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ: الذي ذكرت تم الكلام هاهنا. ثم ابتدأ فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ: تقع خبر حرف الصلة. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ: قرأ العامة بكسر الراء. وروى أبو بكر عن عاصم: بضم الراء من الرضوان في جميع القرآن وهو لغة قيس وغيلان، وهما لغتان كالعدوان والعدوان والطغيان والطغيان. زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله عزّ وجل لأهل الجنة: «يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربّنا وسعديك والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك» . فيقول: «ألا أعطكم أفضل من ذلك» فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» [24] «1» . وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إن شئت جعلته محل (الَّذِينَ) على الجر ردا على قوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا «2» . وإن شئت رفعته على الابتداء كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ «3» . ثم قال في صفتهم مبتدئا: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ. رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا صدّقنا. فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا: أسترها علينا وتجاوزها عنا. وَقِنا عَذابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ: في أداء الأمر، وعن ارتكاب الزنى وعلى الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ. وان شئت نصبتها وأخواتها على المدح، وإن شئت خفضتها على النعت. وَالصَّادِقِينَ: في إيمانهم، قال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم فصدقوا في السر والعلانية وَالْقانِتِينَ: المطيعين المصلين.
وَالْمُنْفِقِينَ: أموالهم في طاعة الله. وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لله ملكا ينادي: اللهم اعط منفقا خلفا، واعط ممسكا تلفا» [25] «1» . وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ: قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والكلبي والواقدي: يعني المصلين بالأسحار. نظير قوله وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «2» أي يصلّون. وقال يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي الزهري قال: قلت لزيد بن اسلم: من الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ؟ قال: هم الذين يشهدون الصبح «3» . وكذلك قال ابن كيسان: يعني صلاة الصّبح في المسجد. وقال الحسن: صلّوا الصلاة الى السحر ثم استغفروا. قال نافع: كان ابن عمي يحيي الليل، ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة، وإذا قلت: نعم، فيستغفر الله ويدعوا حتى الصبح «4» . وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر يتهجّد في المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو ابن مسعود (رضي الله عنه) . وروى صالح وحماد بن سلمة عن ثابت وأبان وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله عزّ وجل يقول: «إني لأهمّ بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت الى عمّار بيوتي والى المتهجدين والى المتحابين فيّ، والى الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ صرفت عنهم» [26] «5» . محمد بن زاذان عن أم سعد قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ ثلاثة أصوات يحبهم الله عزّ وجلّ صوت الديك، وصوت الذي يقرأ القرآن، وصوت الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» [27] «6» . حمّاد بن سلمة عن سعيد الجريري قال: بلغنا أنّ داود نبي الله سأل جبرائيل (عليه السلام) : أي الليل أفضل؟ فقال: ما أدري إلا أنّ العرش يهتز من السحر «7» .
وقال سفيان الثوري: إنّ لله ريحا يقال لها: الصبّحية تهب وقت الأسحار تحمل الأذكار والاستغفار الى الملك الجبّار. قال سفيان انّه إذا كان من أوّل الليل، نادى مناد: ألا ليقم العابدون، فيقومون فيصلّون ما شاء الله، ثم ينادي منادي في شطر الليل: ليقم القانتون، فيقومون كذلك يصلّون الى السحر. فإذا كان نادى مناد: ألا ليقم المستغفرون، فيقومون فيستغفرون، ويقوم آخرون يصلّون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: اللهم ليقم الغافلون فيقومون، من فراشهم كأنهم نشروا من قبورهم. وقال لقمان لابنه: «يا بني لا يكون الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم. شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش وكنت اختلف إليه. فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر الى البصرة قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية. ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قالها مرارا. قلت: لقد سمع. فما شيئا فصلّيت معه وودعته، ثم قلت: آية سمّعتك نردّدها فما بلغك فيها؟ قال: والله لا أحدث بها الى سنة. فلبثت على بابه ذلك اليوم، وأقمت سنة، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد مضت السنة، فقال: حدثنا أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يجيء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد. أدخلوا عبدي الجنة» [28] «1» . خالد بن زيد عن يزيد الرقاسي عن أنس بن مالك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قرأ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية.. عند منامه خلق الله عزّ وجلّ له سبعين ألف ملك يستغفرون له الى يوم القيامة» [29] «2» . وعن الزبير بن العوام قال: قلت: لأدنونّ هذه [العشية] من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي عشية عرفه حتى أسمع ما يقول، فحبست ناقتي من ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناقة رجل كان الى جنبه. فسمعته يقول: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية. فما زال يردّدها حتى دفع. يعقوب عن جعفر عن سعيد بن جبير قال: كان حول الكعبة ثلاث مائة وستون صنما. فلما نزلت شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية، خرّوا سجّدا.
قال الكلبي: قدم حبران من أهل الشام على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة صفة مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يخرج آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفاه بالصفة والنعت. فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟ قال: إنا محمد وأحمد قالا: إنا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنّا بك وصدّقناك. فقال: بلى. قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله هذه الآية شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الآية.. فأسلم الرجلان. واختلف القرّاء في هذه الآية. فقرأ أبو نهيك وأبو الشعثاء: شَهِدَ اللَّهُ بالرفع والمدّ على معنى: هم شهداء يعني: الذين مرّ ذكرهم. وروى المهلّب عن محارب بن دثار: شَهِدَ اللَّهَ منصوبة على الحال والمدح. وقرأ الآخرون: شَهِدَ اللَّهُ على الفعل أي بيّن لأن الشهادة تبيين. وقال مجاهد: حكم الله، الفرّاء وأبو عبيدة: قضى الله، المفضّل: لعلم الله. ابن كيسان: شَهِدَ اللَّهُ بتدبيره العجيب، وصنعه المتقن، وأموره المحكمة من خلقه أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وهذا كقول القائل: ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد ... وفي كل شيء له آية تدل على أنّه واحد «1» وقيل لبعض الأعراب: ما الدليل على أنّ للعالم صانعا؟ فقال: إنّ البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، وهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلّان على الصانع الخبير. قال ابن عباس: «خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، وشهد بنفسه لنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان ولم تكن سماء ولا أرض ولا برّ ولا بحر، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» [30] . وقرأ ابن مسعود: (أنّ لا آله إلا هو ... ) وقرأ ابن عباس: شَهِدَ اللَّهُ إِنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: بكسر الألف جعله خبرا مستأنفا معترضا في الكلام على توهم الفاء، كأنه قال: فإنّه لا إله إلّا هو، قاله أبو عبيدة والمفضّل، وقال بعضهم: كسره لأن الشهادة قول وما بعد القول يكون مكسورا على الحكاية فتقديره قال الله: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَالْمَلائِكَةُ: قال المفضّل: معنى شهادة الله للإخبار والإعلام، ومعنى شهادة ملائكة
الله والمؤمنين الإقرار كقوله: الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا «1» أي أقررنا فنسق شهادة الملائكة، وَأُولُوا الْعِلْمِ على شهادة الله تعالى. والشهادتان مختلفتان معنى لا لفظا كقوله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ «2» والصلاة من الله «الرحمة» ومن الملائكة «الاستغفار والدعاء» ، وَأُولُوا الْعِلْمِ: يعني الأنبياء (عليهم السلام) . وقال ابن كيسان: يعني المهاجرين والأنصار. مقاتل: مؤمني أهل الكتاب، عبد الله بن سلام: وأصحابه: نظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «3» ، وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ «4» . وقال السدي والكلبي: يعني علماء المؤمنين كلهم. فقرّب الله تعالى شهادة العلماء بشهادته لأن العلم صفة الله العليا ونعته العظمى. والعلماء أعلام الإسلام والسابقون الى دار السلام وسرج الأمكنة وحجج الأزمنة. وروى صفوان عن سليم عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ساعة من عالم متّكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما» [31] «5» . المسيب بن شريك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه لله حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وتذكره لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل الجنة والنار، والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة، والميراث في الخلوة، والدليل على السرّاء والضرّاء، والسلاح على الأعداء، والقرب عند الغرباء، يرفع الله به أقواما ويجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم، ويبيّن آثارهم، ويرموا أعمالهم، وينهى الى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلواتهم تستغفر لهم، وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها، ألا فإن العلم خير أنقاب عن الصمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأحرار، ومجالس الملوك، والفكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، به يعرف الحلال والحرام، وبه توصّل الأرحام، إمام العمل والعقل تابعه، يلهم السعد أو يحرم إذا شقي» [32] «6» .
قائِماً بِالْقِسْطِ: أي بالعدل ونظام الآية «شهد الله قائما بالقسط» . وهو نصب على الحال. وقال الفرّاء: هو نصب على القطع كأن أصله القائم، وكذلك هو في (عبد الله) فلما قطعت الألف واللام نصب لقوله تعالى: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» . وقال أهل المعاني في قوله: قائِماً بِالْقِسْطِ: أي مدبّر، رازق، مجازي بالأعمال كما يقال: فلان قائم بأمري: أي مدبّر له متعهد لأسبابه، وقائم بحق فلان: أي بحاله. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: كرّر لأنّ الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت في محل الحكم. وقال جعفر الصّادق: الأولى [وصف وتوحيد] والثانية رسم وتعليم يعني قولوا: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «2» . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ: يعني [بالدين الطاعة والملّة] لقوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «3» . وفتح الكسائي ومحمد بن عيسى الاصفهاني ألف (إنّ) ردا على (أنّ) الأولى في قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ يعني: شهد الله أنّه، وشهد أن الدين عند الله الإسلام، وكسر الباقون على الابتداء. والإسلام [من السلم: الإيمان و] الطاعة يقال: أسلم أي: دخل في السلم. وذلك كقولهم: أستى وأربع وأمحط واخبت: أي دخل فيها. سفيان: قال قتادة: في قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قال: [شهادة] أن لا إله إلا الله. والإقرار بأنّها من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله ودلّ عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا جزى إلّا به. وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية، قال الربيع: إنّ موسى (عليه السلام) لما حضرته الوفاة دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل، واستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليها، واستخلف يوشع بن نون. فلمّا مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين حتى أوقعوا بينهم الدماء، ووقع الشر والإختلاف وذلك مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني: بيان ما في التوراة بَغْياً بَيْنَهُمْ: أن طلبها للملك والرئاسة والتحاسد والمناقشة فسلط الله عليهم الجبابرة.
وقال بعضهم: أراد وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، يعني: بيان نعته وصفته في كتبهم. وقال محمد بن جعفر عن الزبير: نزلت هذه الآية في نصارى نجران ومعناها: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ هو الإنجيل في أمر عيسى (عليه السلام) ، وفرّقوا القول فيه إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ، بأن الله واحد، وأنّ عيسى عبده ورسوله بَغْياً بَيْنَهُمْ: أي للمعاداة والمخالفة. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ: لا يحتاج الى عقد وقبض يد. وقال الكلبي: نزلت في يهوديين تركوا اسم الإسلام وتسمّوا باليهودية والنصرانية، قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ قال: دين الله هو الإسلام بغيا منهم فلمّا وجدا نظيره قوله: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «1» فقالت اليهود والنصارى: لسنا على ما سميتنا به يا محمد إنّ اليهودية والنصرانية سبّ هو الشرك، والدين هو الإسلام ونحن عليه. فَإِنْ حَاجُّوكَ: خاصموك يا محمد في الدين، فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ: أي انقدت [لأمر الله] لِلَّهِ: وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي، إنّما خص الوجه لأنّه أكرم جوارح الإنسان، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه التي هي دون وجهه. وقال الفرّاء: معناه أخلصت عملي لله. يقال: أسلمت الشيء لفلان وسلمته له، أي دفعته إليه [......] «2» ومن هذا يقال: أسلمت الغلام إلى [....] «3» وفي صناعة كذا. أي أخلصت لها. والوجه: العمل كقوله: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ: أي قصده وعمله. وقوله: إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى «4» . وَمَنِ اتَّبَعَنِ: «من» في محل الرفع عطفا على التاء في قوله: أَسْلَمْتُ أي: ومن اتبعني أسلم كما أسلمت. وأثبت بعضهم «5» ياء قوله: اتبعني على الأصل، وحذفه الآخرون على لفظ ينافي المصحف [إذا وقعت فيه بغير ياء] . وأنشد:
كفاك كفّ ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف دما «1» وقال آخر: ليس تخفى يسارتي قدر يوم ... ولقد يخف شيمتي إعساري «2» وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ: يعني العرب (أَأَسْلَمْتُمْ) : لفظ استفهام ومعناه أمر، أي أسلموا كقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: أي نهوا، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا: فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسلمنا. فقال للنصارى: أتشهدون أنّ عيسى كلمة من الله وعبده ورسوله، فقالوا: معاذ الله. وقال لليهود: إنّ عزير هو عبد الله ورسوله، قالوا: معاذ الله فذلك قوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ. بتبليغ الرسالة، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ: عالم بمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن بالله وبأهل الثواب وبأهل العقاب. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ: يجحدون، بِآياتِ اللَّهِ: بحجّة وأعلامه، وقيل: هي القرآن، وقيل: هم اليهود والنصارى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ قرأ الحسن ويُقَتِّلُونَ بالتشديد فهما على تكثر. وقرأ حمزة: (وتقاتلون الّذين يأمرون) اعتبارا بقراءة مسعود (وقاتلوا الذين يأمرون به) ، ووجه هذه القراءة يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وقد «قاتلوا الذين يأمرون» لأنه غير جائز عطف الماضي على المستقبل وفي حرف. أي: ويقتلون النبيين بغير حق والذين يأمرون بالقسط، قال مقاتل: أراد به ملوك بني إسرائيل. وقال معقل بن أبي سكين، وابن جريح: كان الوحي يأتي الى أنبياء بني إسرائيل، ولم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون. فيقوم رجال فمن اتّبعهم وصدقهم فيذّكرون قومهم فيقتلون أيضا. فهم الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ. وعن قبيصة بن دويب الخزاعي عن أبي عبيدة الجرّاح قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبيا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف» ، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ إلى قوله: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا في أول النهار ساعة واحدة، فقام مائة وإثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل فأمروا من قبلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر
[سورة آل عمران (3) : الآيات 23 إلى 32]
فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم، فهم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فأنزل الآية فيهم» [33] . وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس القوم قوم يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وبئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتمان» [34] «1» . فَبَشِّرْهُمْ.. أخبرهم بعذاب أليم، وإنما أدخل الفاء [في خبرها] «2» لأنه قوله: (الَّذِينَ) موضع الجزاء [ «وإنّ» لا تبطل معنى الجزاء لأنّها بمزلة الابتداء عكس: ليت] «3» . وقيل: أدخل الفاء على الغاء أن وتقديره: «الذين يكفرون ويقتلون فبشّرهم بعذاب أليم رجيح. أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ: ذهبت وبطلت. وقرأ أبو واقد والجرّاح: «حَبَطَتْ» بفتح التاء مستقبلة «تحبط» بكسر الباء وأصله من «الحبط» وهو أن ترعى الماشية [بلا دليل ورديع] «4» فتنتفخ من ذلك بطونها، وربّما ماتت منه، ثم جعل كل شيء يهلك حبطا. ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا إذ يلم» [35] «5» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 32] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ: أي نصيبا وحظا من الكتاب. يعني: اليهود يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ. واختلفوا في هذا الكتاب الذي أخبر الله تعالى إنّهم يدعون إليه فيعرضون عنه. فقال قوم: هو القرآن. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: إنّ الله عزّ وجلّ جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنّهم على غير دين الهدى فأعرضوا عنه. وقال قتادة: هم أعداء الله اليهود. دعوا الى حكم القرآن واتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم فأعرضوا، وهم يجدونه مكتوبا في كتبهم.
السّديّ: دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهود إلى الإسلام، فقال له النعمان بن أبي أوفى: هلمّ يا محمّد نخاصمك إلى الأحبار، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل الى كتاب الله. فقال: بل الى الأحبار. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الآخرون: هي التوراة. روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت المقدس على جماعة من اليهود، فدعاهم الى الله عزّ وجلّ. فقال له نعيم بن عمر وابن الحارث بن فهد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملّة إبراهيم. قالا: إنّ إبراهيم كان يهوديا. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأسلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم، فأبيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا، وكانا في شرف منهم، وكان في كتابهم الرجم. فكرهوا رجمهما لحالهما وشرفهما، ورجوا أن يكون عند رسول الله رحمة في أمرهما، فرفعوا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم عليهما بالرجم، فقال له النعمان ابن أبي أوفى ونخري بن عمر: جرت علينا يا محمد. ليس عليهما الرجم، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم. قالوا: قد أنصفتنا. قال فمن أعلمكم؟ فقالوا: رجل أعمى يسكن فدك، يقال له ابن صوريا، فأرسلوا إليه، فقدم المدينة وكان جبرائيل (عليه السلام) قد وصفه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله: لأنت ابن صوريا؟ قال: نعم. قال: أنت أعلم اليهود؟ قال كذلك يزعمون، قال: فدعا رسول الله بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب. فقال له: أقرأ. فلما أتى آية الرجم وضع كفه عليه وقرأ ما بعدها. فقال ابن سلام: يا رسول الله قد جاوزها ووضع كفه عليها، وقام ابن سلام الى ابن صوريا فرفع كفه عنها، ثم قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اليهوديان المحصنان إذا زنيا، وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها» [36] «1» . فأمر رسول الله باليهوديين فرجما، فغضب اليهود لذلك غضبا شديدا، وانصرفوا. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظا من التوراة. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ، فقد علمهم أنّها في التوراة. وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ: أي فكيف يصنعون لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ: وهو يوم القيامة. وَوُفِّيَتْ: ذكرت. كُلُّ نَفْسٍ: برّ أو فاجر. ما كَسَبَتْ: أي جزاء ما عملت من خير أو شر. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ: لا ينقصون من حسناتهم ولا يزداد على سيئاتهم. روى الضحاك عن ابن عباس، قال: «أوّل راية ترفع لأهل الموقف ذلك اليوم من رايات الكفار راية اليهود، فيقمعهم الله على رؤوس الاشهاد ثم يأمر بهم الى النار» . قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، قد روى الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما أراد الله أن ينزّل فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وشَهِدَ اللَّهُ، وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ... إلى بِغَيْرِ حِسابٍ تعلقن بالعرش، وليس بينهن وبين الله حجاب، وقلن: يا رب تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ونحن متعلقات بالطيور والعرش. فقال تعالى: وعزّتي وجلالي ما من عبد قرأكنّ في دبر كل صلاة مكتوبة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه، وإلّا نظرت له بعيني في كل يوم سبعين مرة، وإلّا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلّا أعذته من كل عدو ونصرته عليه، ولا يمنعه دخول الجنة إلّا الشرك» .
وقال معاذ بن جبل: أحتبست عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما لم أصلّ معه الجمعة. فقال: يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟ قلت: يا رسول الله كان ليوحنا اليهودي عليّ أوقية [من تبر] ، وكان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك. فقال: «أتحب يا معاذ أن يقضي الله دينك؟» . قلت: نعم يا رسول الله. قال: قل اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ.. إلى قوله: بِغَيْرِ حِسابٍ، وقل: «يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها تعطي منها ما تشاء وتمنع منها ما تشاء، أقض عني ديني. فإن كان عليك ملئ الأرض ذهبا قضاه الله عنك» [37] «1» . قال قتادة: ذكر لنا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس، وأنس بن مالك: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة ووعد أمته ملك فارس والروم. قالت: المنافقين واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس، هم أعزّ وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، قال: خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخندق في عام الأحزاب. ثمّ قطع أربعين ذراعا بين كلّ عشرة، قال: فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منّا. وقال الأنصار: سلمان منّا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سلمان منّا أهل البيت» [38] . قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعا، فحفرنا حتى بلغنا الصدى أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقّت علينا. فقلنا يا سلمان: آت إلى رسول الله وأخبره خبر هذه الصخرة. فإمّا أن نعدل عنها فإنّ المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمر، فإنّا لا نحب أن نجاوز خطة. قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو ضارب عليه قبّة تركية. فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك فإنّا لا نحب أن نجاوز خطك، قال: فهبط رسول الله مع سلمان الخندق وبقينا نحن التسعة على شفة الخندق. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، يعني المدينة، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح، وكبّر المسلمون، ثم ضربها صلّى الله عليه وسلّم فكسرها،
وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تكبير فتح، وكبّر المسلمون معه. فأخذ بيد سلمان ورقى. فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط! فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله [بأبينا أنت وأمّنا وقد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبّر فنكبّر ولا نرى شيئا غير ذلك] «1» قال: ضربت ضربتي الأولى، فبرق الذي رأيتم، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل (عليه السلام) أنّ أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور بصرى من أرض الروم كأنّها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل (عليه السلام) أنّ أمتي ظاهرة عليها. [ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبرائيل أنّ أمتي ظاهرة عليها] «2» فأبشروا. فاستبشر المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعود صدق بأن وعدنا النصر بعد الحصر. [فطبقت الأحزاب فقال: المسلمون: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ «3» الآية] . وقال المنافقون: ألا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنّها تفتح لكم وأنتم إنّما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، قال: فأنزل القرآن: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «4» وأنزل الله في هذه القصة قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «5» . واختلف النحاة في وجه دخول الميم في هذا الاسم وأصله (الله) وفي نصبه. وقال بعضهم: إنّما أدخل الميم في آخره بدلا من حرف النداء المحذوف من أوله لأنّ أصله (يا الله) فحذفت حرف النداء وأدخلت الميم خلفا منه. كما قالوا: فم، ودم، وزرقم محذوف وستهم، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف «6» . واحتجوا بأنّ نحوها من الأسماء والنعوت إذا حذف منها حرف أبدل مكانه ميم، ولمّا كان المحذوف من هذا الاسم حرفين كان البدل ميمين، فأدغمت إحداها في الأخرى فجاء التشديد
لذلك، وفي سائر أخواتها مخففة لأنّ المحذوف حرف واحد ثم نصب لحق التضعيف. وأنكر الآخرون هذه القول وقالوا: سمعنا العرب يدخل الميم فيه مع ياء النداء وأنشد الفرّاء: وما عليك أن تقولي كلما ... سبّحت أو هللت يا اللهمّ ما اردد علينا شيخنا مسلما ... فإنّنا من خيره لن نعدما «1» قالوا: ونرى أنّما أصله الله في الدعاء. بمعنى (يا الله) ضم إليها أمّ وحذف حرف النداء. يراد يا الله آتنا الخير أي: أقصدنا به ثمّ ضرب في الكلام حتى اختلطت به. فحذفت الهمزة استخفافا كقولهم: هلمّ إلينا كان أصله هل لم إلينا، أي أقصد أو أسرع. ثم كثرت هذه اللفظة حتى قالوا: لاهم بمعنى اللهم، وربما خفضوا ميمها أيضا، والله أعلم. وقال أبو رجاء العطاردي: هذه الميم في قوله: (اللهم) : تجمع سبعين اسما من أسمائه عزّ وجلّ مالك الملك. قال الله تعالى في بعض الكتب: أنا الله مالك الملوك ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإذا العباد أطاعوني جعلت عليهم رحمة، وإذا العباد عصوني جعلت عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، قال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني ملك النبوة، الكلبي: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: محمد وأصحابه، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: أبي جهل وصناديد قريش. وقال معتصم: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: العرب. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: الروم والعجم وسائر الأمم. السدّي: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: آتى الله الأنبياء وأمر العباد بطاعتهم. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: نزع من الجبّارين وأمر العباد بخلافهم. وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: آدم وولده، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ إبليس وجنده. وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: داود. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: جالوت. وقيل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: صخرا. وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: سليمان (عليه السلام) كان يطعم الخبز الجواري ويأكل خبز الشعير، وكان يلبس المرقعة ولم ينظر أربعين سنة إلى السماء تخشّيا لله. وكان يدخل المسجد فيرتاد فقيرا يقعد بجنبه، ويقول: مسكين جالس مسكينا وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: ملك النفس حتى يغلبه هواه ويتخذه إلها. كما قال الله عزّ وجل أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «1» . وقال الشاعر: ملكت نفسي فذاك ملك ... ما مثله للأنام ملك فصرت حرا بملك نفسي ... فما لخلق عليّ ملك. آخر: من ملك النفس فحر [ضاهي] «2» ... والعبد من يملكه هواه وقيل: هو ملك العافية. قال الله تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً «3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أصبح منكم آمنا في سربه. معافى في بدنه، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» [39] «4» . وقيل: هو القناعة. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ملوك أمتي القانع يوما بيوم، فمن أوتي ذلك فلم يقبله بقبوله ولم يصبر عليه شاكرا قصر عمله، وقل عقله» [40] . وعن ابن المبارك قال: دخلت على سفيان الثوري بمكة، فوجدته مريضا شارب دواء، وبه غم شديد فسلمت عليه، وقلت: ما لك يا عبد الله؟ فقال: أنا مريض شارب دواء وبي غم شديد، فقلت: أعندك بصلة؟ قال: نعم، فقلت: آتيني بها فأتاني بها، فكسرتها ثم قلت: شمّها فشمّها فعطس عند ذلك فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فسكن ما به، فقال لي: يا بن المبارك أنت فقيه وطبيب. أو قال: عالم وطبيب، فقلت له: مجرّب يا أبا عبد الله. قال: فلمّا رأيته سكن ما به وطابت نفسه. قلت: إني أريد أن أسألك حديثا. فقال: سل ما شئت. فقلت: أخبرني ما الناس؟ قال: الفقهاء. قلت: فما الملوك؟ قال: الزّهاد. قلت: فما الأشراف؟ قال: الأتقياء. قلت: فما الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الأحاديث ليستأكلوا به أموال الناس. قلت له: أخبرني رحمك الله: ما السفلة؟ قال: الظلمة. ثم ودّعته وخرجت من عنده. قال: يا ابن المبارك عليك بهذا الخبر فإنه موجود رخيص قبل أن يغلوا فلا يوجد بالثمن. وقال عبد العزيز بن يحيى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: يعني الملك على المهين وقهر الشيطان. كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم» [41] «5» .
وقال تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: يعني ملك المعرفة، كما آتى السحرة: وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، كما نزع من إبليس وبلعام. الحسين بن الفضل: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ: يعني ملك الجنة كما آتى المؤمنين قال الله تعالى: وَمُلْكاً كَبِيراً «1» ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ: كما نزع من الكفار وأهل النّار. أبو عثمان: أراد (بالملك) : توفيق للإيمان والطاعة. وحكى الأستاذ أبو سعيد الواعظ: إنّه سمع بعض زهّاد اليمن يقول: هو قيام الليل. الشبلي: الاستغناء بالمكون عن الكونين. الواسطي: افتخر الملوك بالملك. فأخبرهم الله تعالى أنّ الملك [زائل] «2» عندهم لقوله تعالى: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ. قالت الحكماء في هذه الآية: هذا إخبار عن كمال القدرة. وأنّ القادر على الكمال هو القادر على الشيء وضده، فأخبر أنّه قادر على أن يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: قال عطا: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: المهاجرين والأنصار، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: فارس والروم. وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: محمدا وأصحابه حين دخلوا مكة وعشرة آلاف ظاهرين عليها، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: أبا جهل وأصحابه حين حزّوا رؤوسهم وألقوا في القليب. وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالإيمان والمعرفة. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالخذلان والحرمان. وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالتمليك والتسليط. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بسلب الملك وتسليط عدوه عليه. الورّاق: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بقهر النفس ومخالفة الهوى. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: باتباع الهوى. الكياني: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بقهره الشيطان. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بقهر الشيطان لنا. وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالقناعة والرضا. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالخزي والطمع. قال الثعلبي (رحمه الله) : وسمعت السلمي يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: سمعت الزبير بن عبد الواحد يقول: سمعت بنان الحمّال يقول: الحرّ عبد ما طمع. والعبد حر ما قنع.
وقال وهب: خرج الغنى والعز يجولان فلقيا القناعة فاستقرا «1» . وقال عيسى (عليه السلام) لأصحابه: لأنتم أغنى من الملوك. قالوا: كيف يا روح الله ولسنا نملك شيئا؟ قال: أنتم ليس عندكم شيء ولا تريدونها، وعندهم أشياء ولا تكفيهم. وللشافعي (رضي الله عنه) : ألّا يا نفس أن ترضي بقوت ... فأنت عزيزة أبدا غنية دعي عنك المطامع والاماني ... فكم أمنية جلبت منيّة «2» وقال الآخر: أفادتني القناعة كل عز ... وهل عزّ «3» أعزّ من القناعة فصيّرها لنفسك رأس مال ... وصيّرها مع التقوى بضاعة «4» وقيل: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ: بالإخلاص، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالرياء. وقال الحسن بن الفضل: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالجنة والرؤيا. وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ: بالنار والحجاب. بِيَدِكَ الْخَيْرُ: يعني الخير والشر، فأكتفي بذكر الخير فإنّه الأفضل والأغلب كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «5» : أي الحر والبرد إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ: [أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر] حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة [وهو أطول ما يكون] ، والليل تسع ساعات، [وهو أقصر ما يكون] «6» . وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ: حتى يكون الليل خمس [عشر] «7» ساعة، والنهار تسع ساعات فما نقص عن هذا زيد في الآخر نظير قوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ «8» .
قال سعيد بن جبير: يوم وليلة ويوم وليلة عند خلق السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم قرأ: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قال ابن مسعود وابن جبير ومجاهد وقتادة والضحّاك وإبراهيم والسدّي وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الرحمن بن زيد: يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الحيوان. عكرمة والكلبي: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، أي الفرخ من البيضة ويخرج البيضة من الطير. أبو مالك: يخرج النخلة من النواة، ويخرج النواة من النخلة، ويخرج السنبلة من الحبة والحبّة من السنبلة. الحسن: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد يدل عليه قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ.. «1» . معمر عن الزهري: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة، فقال: من هذه؟ قالت: إحدى خالاتك، فقال: إن خالاتي بهذه البلاد [كثير] أي خالاتي هذه؟ قالت: هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال: «سبحان الله الذي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» [42] . وكانت امرأة صالحة. وكان مات أبوها كافرا «2» . الفرّاء: يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب. وقال أهل الإشارة: يخرج الحكمة من قلب الفاجر حتى لا تستقر فيه، والسّقطة من لسان العارف. وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان الحجّاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد ظفروا «3» بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن جهيمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومخاطبتهم وملازمتهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقال المقاتلان: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودّة لكفار مكة فنهاهم الله عزّ وجل عن ذلك.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم. وروى يوسف بن داود الضبي عن بعضهم، قال: لا يتخذوا المؤمنين بالرفع خبرا عنهم وفيه معنى النهي كقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ «1» . جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدريا تقيا، وكان له حلفاء من اليهود، فلمّا خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهرتهم على العدوّ، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ الآية «2» . وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ: أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم، وإظهارهم على عدّة المسلمين، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ: وفيه اختصار، أي ليس من دين الله في شيء. وقال الحسن والسدّي: ليس من الولاية في شيء، فقد بريء الله منه، ثم استثنى فقال: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً: يعني: إلّا أن تخافوا منهم مخافة. وقرأ أبو العالية عن الحسن، والضحاك وأبو رجاء وجابر بن زيد وحميد بن مجاهد: تقية على وزن نقية، [وخالفهما] أبو حاتم قال: لأنهم كتبوها بالياء مثل حصاة ونواة إلّا بالألف. قرأ حمزة والكسائي وخلف: «تقية» بالاحتجاج فكان الياء. وقرأ الباقون «تُقاةً» بالتضميم. وأختاره أبو عبيدة. وقرأ الأخفش: «تقاءة» مثل تكأة ويؤده ونحوها، وهي مصدر [أتقى] ومثال تقيه تقاة وتقية وتقي وتقوى «3» ، وإذا قلت: أتقنت كان مصدره الاتقاء، وإنّما قال: «تَتَّقُوا» من الأتقياء، ثم قال: «تُقاةً» «4» ولم يقل اتّقاء لأن العرب إذا كان بالكلمتين واحدا واختلف ألفاظها أخرجوا مصدر أحد اللفظين مصدر اللفظ الآخر فيقولون: التقيت فلانا لقاء حسنا. وقال القطامي في وصف غيث: قد لجّ بجانب الجبلين ... «5» .. ... ركام يحفر الترب احتفارا
ولم يقل حفرا قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1» . وقال: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «2» . وأما معنى الآية فقال المفسرون: نهى الله عزّ وجلّ المؤمنين عن ملاطفة الكافرين وموالاتهم ومداهنتهم ومبايعتهم إلّا أن يكون الكفّار ظاهرين غالبين، أو يكون المؤمن في قوم كفّار ليس فيهم غيره، ويخافهم ويداريهم باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه من غير أن يسفك دما حراما، أو مالا حراما، أو يظهر الكافرين على عورة المؤمنين، فالمتّقي لا يكون إلّا مع خوف القتل وسلامة النية كفعل عمار بن ياسر. عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب، قال: ورد رجل على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة فقال: ما أراني إلّا قد هلكت، قال: مالك؟ قال: قد عذّبني قريش. فقلت: ما قالوا؟ قال: كيف كان قلبك؟ قال: مطمئن، قال: فإن عادوا لك فعد لهم مثل ذلك، قالها ثلاث مرات. المسيب بن عبيدة عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: خالطوا النّاس ونائلوهم وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا يكون به ريبة. وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد «3» : أنا كنت أحبّ إلى أبيك منك، وأنت أحبّ إليّ من أبي «4» ولذا أوصيك بخصلتين: خالص المؤمن وخالق «5» الكافر فإنّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن، ويحق عليك أن تخالص المؤمن «6» . وروي عن جعفر بن محمد الصادق أنّه قال: التقية واجبة، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستر بالسارية منه لئلا يراني . وقال: الرياء مع المؤمن شرك ومع المنافق في داره عبادة. وأنكر قوم التقيّة اليوم: فقال معاذ بن جبل عن مجاهد: كانت التقيّة في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأمّا اليوم فقد أعزّ الله عزّ وجل الإسلام، فليس ينبغي لأهل الإسلام أن يتّقوا من عدوهم.
وقال يحيى البكاء: قلت لسعيد بن جبير في أيام الحجّاج: إنّ الحسن كان يقول لكم: التقيّة باللسان والقلب مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. قال سعيد: ليس في الإسلام تقيّة إنّما التقيّة في أهل الحرب. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ: أي يخوّفكم الله على موالاة الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة المأمور من نفسه. قال المفسرون: من عذاب نفسه وعقوبته وبطشه. وقال أهل المعاني: معناه ويحذّركم الله إيّاه لأن الشيء والنفس والذات والإسم عبارة عن الوجود، ونفس الشيء هو الشيء بعينه كقوله: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» : أي ليقتل بعضكم بعضا. وقال الأعشى: يوما بأجود نائلا منه إذا ... نفس البخيل تجهمت سؤالها «2» أراد إذا البخيل تجهم سؤاله. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ: قلوبكم من مودة الكفّار. أَوْ تُبْدُوهُ: من موالاتهم قولا وفعلا، يَعْلَمْهُ اللَّهُ: وقال الكلبي: أي ستروا ما في قلوبكم لرسول الله من التكذيب، ويظهرون بحربه. وقال: يَعْلَمْهُ اللَّهُ ويحفظ عليكم حتى يحاربكم به ويعاقبكم عليه، ثم قال: وَيَعْلَمُ: رفع على الاستئناف كقولهم: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ «3» بالرفع. وقوله: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «4» ، ثم قال: وَيُحِقُّ الْحَقَّ: وكيف يخفى عليه موالاتكم الكافرين وميلكم إليهم، مودّة بالقلب: أي معونة بالقلب والفعل. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ: نصب يوما، نزع حرف الصفة أي في يوم. وقيل: نصب بإضمار فعل، أي: اذكروا واتقوا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً: موفرا لم يبخس منه شيء. قراءة العامة بنصب الضاد على المفعول قد صدّهم قوله:
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً «1» : وقرأ عبيد عن عمير مُحْضِراً بكسر الضاد يريد أن عمله يحضره الجنّة يسرع به من الحضور أو الحضر. وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ: جعل بعضهم خبرا في موضع النصب، وأعمل فيها الوجود وجعل عملت صلة لها، أي: ويجد عملها، وجعله بعضه خبرا مستأنفا، وحينئذ يجوز في تَوَدُّ الرفع، والجزم، دليل هذا التأويل: قراءة عبد الله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ. لَوْ أَنَّ بَيْنَها: بين النفس وَبَيْنَهُ: يعني بين السوء أَمَداً بَعِيداً: والأمد: الأجل والغاية الّتي ينتهي إليها. قال الله: أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً «2» ، وقال: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ «3» . قال النابغة: ألا لمثلك أو من أنت سابقة ... بسبق الجواد إذا ستويا على الأمد قال السدي: أَمَداً بَعِيداً أي: مكان بعيد. مقاتل: كما بين المشرق والمغرب. قال الحسن: ليس أحدهم أن لا يلقى عمله أبدا ولا يودّ لو أن يعلمه. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ: أي بالمؤمنين منهم. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الآية، قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّهم يحبّون الله، فقالوا: يا محمّد إنّا نحب ربّنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وجعل اتّباع نبيه علما لحبّه تعالى. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها. فقال: يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام. فقالت له قريش: يا محمّد إنّا نعبدها حبّا لله، لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، فقال الله تعالى: قُلْ يا محمّد إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وأنا رسوله إليكم وحجّته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ اليهود لمّا قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، أنزل الله هذه الآية، فلمّا نزلت عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 33 إلى 43]
روى محمد بن إسحاق عن محمّد بن جعفر عن الزبير: قال: نزلت في نصارى أهل نجران وذلك أنّهم قالوا: إنّا نعظم المسيح ونعبده حبّا لله سبحانه وتعظيما له، فقال الله: قُلْ يا محمّد: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وكان عظيم قولكم في عيسى حبّا لله سبحانه وتعالى وتعظيما له فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، أي: اتّبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله، وحب المؤمنين لله إتباعهم أمره وقصدهم طاعته ورضاه، وحبّه عزّ وجلّ للمؤمنين [منّة] عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم وذلك قوله: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو أحمد محمد بن ابراهيم الصريمي قال: أنشدنا علي بن محمد قال: أنشدني الحسن بن إبراهيم البجلي لعبد الله بن المبارك: تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ... هذا لعمري في الفعال قبيح لو كان حبّك صادقا لأطعته ... إنّ المحب لمن يحبّ مطيع «1» عروه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشرك أخفّ من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبّ على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلّا الحبّ في الله والبغض في الله قال الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «2» [43] . فلما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبي [لأصحابه: إنّ محمّدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبّه] كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم «3» ، فنزل: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا: أعرضوا عن طاعتهما. فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ: لا يرضى فعلهم ولا شيء لهم ولا يغفر لهم. وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ومن أطاع الإمام فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى الإمام فقد عصاني» [44] «4» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 43] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ: قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم ومنهاجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: يعني: إنّ الله اصطفى هؤلاء الّذين قالوا بالإسلام، وأنتم على غير دين الإسلام، واصطفى [افتعل] من الصفوة وهو الخالص من كل شيء، يعني: اختاروا واستخلصوا آدم أبو البشر ونوحا شيخ المرسلين، وآل إبراهيم وآل عمران. قال بعضهم: أراد بآل إبراهيم وآل عمران: إبراهيم وعمران نفسهما، كقوله عزّ وجلّ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ «1» : يعني موسى وهارون (عليهم السلام) . قال الشاعر: ولا تبك ميتا بعد ميّت أحبّه ... علي وعبّاس وآل أبي بكر «2» يعني: أبا بكر. قال الباقون: آلَ إِبْراهِيمَ: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإنّ محمّدا (عليه السلام) من آل إبراهيم وآل عمران. وقال مقاتل: هو عمران بن يصهر بن فاهاث «3» بن لاوي بن يعقوب وآله موسى وهارون. قال الحسن ووهب بن منبه: هو عمران بن أشهم بن أمون من ولد سليمان بن داود وآله مريم وعيسى.
وقيل: هو عمران بن ماتان «1» ، وامرأته حنّة «2» ، وخصّه من الأنبياء لأنّ الأنبياء والرسل بقضّهم وقضيضهم من نسلهم. عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً: نصب على حال قاله الأحفش. الفرّاء على [القطع] لأنّ الذريّة نكرة وآل إبراهيم وآل عمران معرفة «3» . الزجّاج: نصب على البدل. وقيل: على النكرة أي اصطفى ذريّة بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ: وقيل: على الحال أي بعضها من ولد بعض. وقال أبو روق: بعضها على دين بعض «4» . وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: قال الحروي: لمّا مات الحسن البصري وكان مماته عشية الجمعة، فلمّا صلّى النّاس الجمعة حملوه، فلم [تترك الصلاة] في المسجد الجامع بالبصرة منذ كان الإسلام إلّا يوم ممات الحسن، فإن الناس اتّبعوا جنازته فلم يبق أحد يصلّي في المسجد صلاة العصر. قال الجزائري: سمعت مناديا ينادي: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، واصطفى الحسن البصري على أهل زمانه. الأعمش عن أبي وائل، قال: قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ، فقال ابن عباس ومقاتل: هو عمران بن مايان وليس هو بعمران أبو موسى وبينهما ألف وثلاثمائة سنة، وكان بنو مايان «5» رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم. وقال ابن إسحاق «6» : هو عمران بن أشهم بن آمون بن ميثا بن حوقتا بن إحرين بن يونام بن عواريا بن إمضيا بن ياوس بن جربهوا بن يارم بن صف شاط بن لمساين بن يعمر بن سليمان بن داود (عليه السلام) . إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً: أي جعلت الذي في بطني محرّرا نذرا منّي لك، والنذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة كان ذلك أو بغير شريطة.
قال الله فقولي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً «1» : أي أوجبت. وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» [45] . قال الأعشى: غشيت لليلي بليل خدورا ... وطالبتها ونذرت النذورا «2» ومن هذا قولهم: نذر فلان دم فلان: أي أوجبت على نفسه قتله. وقال جميل: فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ... وحموا لقائي يابثين لقوني مُحَرَّراً: أي عتيقا خالصا لله خادما للكنيسة حبيسا عليها مفرغا لعبادة الله ولخدمة الكنيسة، لا يشغله شيء من الدنيا وكلّما أخلص فهو محرّر، يقال: حرّرت العبد إذا أعتقته، وحرّرت الكتاب إذا أخلصته وأصلحته فلم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاحه، ورجل حرّ إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه متعلق، والطين الحر الذي خلص من الرمل والحصاة والعيوب. ومُحَرَّراً: نصب على الحال. وقال الكلبي وابن إسحاق وغيرهما: فإن الحر رجل إذا حرّر وجعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم، ثم يخيّر فإن رغب أن يقيم فيها أقام، وإن أحبّ أن يذهب ذهب حيث شاء، فإن أراد أن يخرج بعد التخير لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من [الأنبياء] والعلماء إلّا ومن نسل محرّرا ببيت المقدس، ولم يكن محرّرا إلّا الغلمان، وكانت الجارية لا تكلف ذلك ولا تصلح له لمّا يمسها من الحيض والأذى، فحرّرت أمّ مريم ما في بطنها. وكان القصة في ذلك أنّ زكريّا وعمران تزوجا أختين، وكانت إيشاع «3» بنت فاقود أم يحيى عند زكريّا وحنّة بنت فاقود أم مريم عند عمران، وقد كان أمسك على حنّة الولد حتى أيست وعجزت، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت لذلك شهوتها للولد، ودعت الله أن يهب لها ولدا وقالت: اللهم لك عليّ إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه نذرا وشكرا، فحملت بمريم فحرّرت ما في بطنها ولا تعلم ما هو، فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت! أرأيت إن كان ما في
بطنك أنثى [والأنثى عورة] لا تصلح لذلك فوقعا جميعا في همّ من ذلك، فهلك عمران وحنّة حامل بمريم. فَلَمَّا وَضَعَتْها: أي ولدتها وإذا هي جارية، فالهاء في قوله: وَضَعَتْها راجعة إلى النذيرة أي مريم من حنّة، لذلك أنّث. قالَتْ: عذرا وكانت ترجوا أن تكون غلاما ولذلك حررت. رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى: اعتذار إلى الله عزّ وجلّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ: [ما ظنّت] «1» عن السدي، وقرأ [العامّة بتسكين التاء] وقرأ علي وأبو ميثم النجفي وابن عامر وأبو بكر ويعقوب: وُضَعَتْ بضمّ التاء جعلوها من كلام أمّ مريم «2» . وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى: في خدمة الكنيسة والعبّاد الذين فيها لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس والأذى. وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ: وهي بلغتهم: [الخادمة والعبادة، وكانت أجمل النساء في وقتها وأفضلها] «3» . روى أبو زرعة عن أبي هريرة إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد» [46] «4» . وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ: آمنها وأجيرها بك. وَذُرِّيَّتَها: وأولادها. مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ: الطريد اللعين المرمي بالشهب. ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مولود إلّا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إيّاه إلّا مريم وابنها» [47] ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «5» . سعيد عن قتادة قال: «كل أدمي طعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم وأمه جعل بينهما حجاب فأصاب الطعن الحجاب ولم ينفذ إليها منه شيء» [48] .
قال: وذكر لنا أنّهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيبه سائر بني آدم. وقال وهب بن منبه: «لمّا ولد عيسى (عليه السلام) أتى الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام منكّسة، فقال: هذا لحادث حدث، وقال: مكانكم، فطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئا، ثم جاء البحار فلم يجد شيئا، ثمّ طار أيضا فوجد عيسى قد ولد، وإذا الملائكة قد حفّت حوله فلم يصل إليه إبليس فرجع إليهم، فقال: إنّ نبيا قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلّا أنا بحضرتها إلّا هذه، فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة «1» . فَتَقَبَّلَها: أي تقبل الله من حنّة مريم ورضيها مكان المحرر، يقال: قبل ولأن الشيء إذا رضيه يقبله قبولا بالفتح مصدر، مثل الزارع والزروع والقبول، ولم يأت غير هذه الثلاثة، والقياس الضم مثل الدخول والخروج، قاله أبو عمرو الكسائي والأئمّة، وقال بعضهم: معنى التقبّل: التكفّل في التربية والقيام بشأنها. وقال الحسن: قبوله إيّاها أنه ما عذّبها ساعة من نهار ولا ليل «2» . رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ: ولم يقل بتقبّل وهذا النوع يقال له: المصدر على غير المصدر. قال الفرّاء: مثل قولك تكلمت كلاما. قال الفطامي: وخير الأمر ما استقلّت فيه وليس بأن يتبعه اتباعا. وقال آخر: وإن مشيتم تعاودنا عوادا، ولم يقل: تعاودوا. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: ولم يقل: إنباتا. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ يقول: سلك بها طريق السعداء وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: يعني سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان. وكانت تنبت في اليوم كمثل ما ينبت المولود في عام واحد. ابن جريج: أَنْبَتَها ربها في غذائه ورزقه نَباتاً حَسَناً حتى تمت امرأة بالغة تامة. وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا: قال المفسرون: أخذتها أمّ مريم حين ولدتها، فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، فوضعتها عند الأحبار أولاد هارون وهم يومئذ يكونون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها [لأن] عندي خالتها.
فقال له الأحبار: لا تفعل ذلك فإنّها لو تركت وحقّ الناس بها لتركت لأمها التي ولدتها، ولكنّا نقرع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين «1» رجلا إلى نهر جاري. قال السدي: هو نهر الأردن، فألقوا أقلامهم في الماء، فارتفع قلم زكريا فوق الماء وانحدرت أقلامهم [ورسبت] في النهر، قاله ابن إسحاق وجماعة. وقال السدي وجماعة: بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جريان «2» الماء [فذهب بها الماء] ، فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا ضمّها إلى نفسه وقام بأمرها. قال ابن إسحاق: فلمّا كفّلها زكريا ضمّها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء بنى لها محرابا: أي غرفة في المسجد، وجعل بابه إلى وسطها، لا يرقى إليها إلّا بسلّم مثل باب الكعبة، فلا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كلّ يوم. كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً: يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير أوانها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف غضّا طريّا. قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا فإنّها كانت إذا رزقها الله شيئا وسألت عنه قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. «3» [أخبرنا عبد الله بن حامد بإسناده عن جابر بن عبد الله: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقام أيّاما لم يطعم طعاما، حتى شقّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه، فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئا، فأتى فاطمة رضي الله عنها فقال: «يا بنيّة هل عندك شيء آكل فإنّي جائع؟» فقالت: لا والله بأبي أنت وأمّي، فلمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين وبضعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطّت عليه وقالت: لأوثرنّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة من طعام، فبعثت حسنا وحسينا إلى جدّهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجع إليها، فقالت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك، قال: «فهلمّي به» ، فأتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّها من بركة الله، فحمدت الله تعالى وصلّت على نبيّه،
فقال (عليه السلام) : «من أين لك هذا يا بنيّة؟» قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فحمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل، فإنّها كانت يرزقها الله رزقا حسنا فسئلت عنه قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ] «1» . فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى علي رضي الله عنه، ثم أكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل بيته جميعا حتى شبعوا. قالت فاطمة: وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل الله فيها بركة وخيرا [49] «2» . قال أهل التفسير: فلما رأى زكريا ذلك قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب ولا فعل أحد لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي غلاما على الكبر، فطمع في الولد وذلك إن أهل بيته كانوا قد انقرضوا، وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد. قال الله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ: أي فعند ذلك. و «هنا» إشارة إلى الغاية كما أن «هذه» إشارة إلى الحاضر. والكاف: اسم المخاطب وكسرت اللام لالتقاء الساكنين. قال المفضل بن سلمة: أكثر ما يقال هنالك في الزمان وهناك في المكان وقد جعل هذا مكان هذا. دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ: فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه. قالَ رَبِّ: أي يا رب فحذف حرف النداء من أوله والياء من آخره، استغني بكسر الباء عن الياء. هَبْ لِي: أعطني، مِنْ لَدُنْكَ: من عندك. وفي لدن أربع لغات «3» : لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون وهو أفصحها، ولد بفتح اللام وضم الدال وحذف النون، ولدن بفتح اللام وسكون الدال وفتح النون، ولدن بضم اللام وجزم الدال وفتح النون. قال الفرّاء: وهي يخصّص بها على الإضافة، وترفع على مذهب مذ «4» ، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين:
ما زال مهري مزجر الكلب منهم ... لدن غدوة حتى دنت لغروب «1» ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً: نسلا مباركا تقيّا صالحا رضيّا، والذرية تكون واحدا أو جمعا ذكرا أو أنثى، وهو هاهنا واحد يدل عليه قوله: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا «2» ، ولم يقل أولياء وإنّما أنث طيبة لتأنيث لفظ الذرية. كما قال الشاعر: أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال «3» فأنث ولدته لتأنيث لفظ الخليفة، فكما قال آخر: فما تزدري من حية جبلية سكات ... إذا ما غض ليس بأدردا «4» فأنث الجبلية لتأنيث لفظ الحية ثم رجع إلى المعنى، فقال: غض لأنه أراد حية ذكرا والحية تكون الذكر والأنثى، وإنّما جوّز هذا فيما لم يقع عليه فلأن من الأسماء كالدابة والذرية والخليفة فإذا سمي بشيء من ذلك رجل هو كان من معنى رجلان، لم يجز تأنيث فعله ولا نعته فلا تقول من ذلك: حدثنا مغير الضبي، ولا يجوز حدثتنا مغيرة الضبية. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ: أي سامعه وقيل مجيبه، لقوله تعالى: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ: أي فأجيبون. وقولهم: سمع الله لمن حمده: أي أجابه. وأنشد: دعوت الله حتى خفت ألا ... يكون الله يسمع ما أقول «5» : أي بكيت قتادة عن أنس بن مالك قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيما رجل مات وترك ذرية طيبة أجرى الله عليه مثل أجر عملهم لا ينقص من أجورهم شيئا» [50] «6» . فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ: قرأ يحيى وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: فناداه بالياء، وأبو عمارة وأبو عبيدة، وقرأ الباقون: بالتّاء واختاره أبو حاتم: فإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار إن شئت أنّثت وإن شئت ذكّرت، إلّا أنّ من قرأ بالتاء فلأجل تأنيث الملائكة للفظ والجمع مع إن الذكور إذا تقدم فعلهم وهو جماعة كان التأنيث فيه أحسن وأفصح كقوله: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا «7» ، ومن ذكّر خلها.
روى القاسم بن سلام عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم، قال: كان عبد الله يذكّر الملائكة في القرآن، قال أبو عبيدة: إنما يرى [أن] الله اختار ذلك خلافا على المشركين في قولهم: الملائكة بنات الله فأراد بالتذكير هاهنا إكذابهم. وروى الشعبي أن ابن مسعود قال: إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء وذكّروا القرآن «1» . وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: إذا كان الحرف في القرآن تاء وياء فأجعلوها ياء. وأراد بالملائكة هاهنا: جبريل وحده وذلك أنّ زكريا الحبر الكبير الذي تعهد بالقربان، وبفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينا هو قائم في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرونه أن يأذن لهم في الدخول، إذ هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه وهو جبريل: يا زكريا أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى فذلك قوله: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ: يعني جبريل وحده نظيره قوله في هذه السورة وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ «2» : يعني جبريل وحده، وقوله في النحل: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ» : يعني جبريل ما يروح بالوحي لأنّ الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل (عليه السلام) ، يأت عليه قوله ابن مسعود، فناداه جبريل وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ: وهذا جائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم: ركب فلان في السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وخرج على بغال البريد، وإنما على بغل واحد، وسمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد نظير قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ «4» : يعني نعيم بن مسعود. إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ «5» : يعني أبا سفيان ونحوها كثرة. وقال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيسا فيجوز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه، فلمّا كان جبريل رئيس الملائكة وكل ما يبعث إلّا ومعه جمع منهم فهي على هذا. وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ: يعني في المسجد، نظيره قوله: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ «6» : أي المسجد، وقوله: إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «7» : أي المسجد، وهو مفعال من الحرب، قيل: سمي بهذا لأنّه تحارب فيه الشيطان، كما قيل: مضمار للميدان الذي تضمر فيه الخيل، وأمال ابن عامر المحراب في جميع القرآن، وفخّمه الآخرون.
أَنَّ اللَّهَ قرأ ابن عامر وعيسى بن عمرو والأعمش وحمزة: بكسر الألف على إضمار القول تقديره: فنادته الملائكة فقالت: إن الله لأن النداء قول. وقرأ الباقون: بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال: فنادته الملائكة أن الله يبشرك. وقرأ عبد الله: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ يا زكريا إن الله يبشرك: اختلف الفرّاء في مستقبل هذا الفعل وجملها في القرآن عشرة: موضعين هاهنا وفي التوبة يُبَشِّرُهُمْ «1» ومريم وفي الحجر إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ «2» ، وفَبِمَ تُبَشِّرُونَ «3» وفي سبحان والكهف وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «4» ، وفي مريم موضعين: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ ولِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وفي حم عسق: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ «5» فهذه عشرة مواضع اتّفقوا على واحد منها إنها مشددة، وهو قوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ واختلفوا في التسعة الباقية فقرأها: حمزة كلها بفتح الباء وجزم الياء وضم الشين وتخفيفها. وقرأ يحيى بن رئاب والكسائي خمسة منها مخففة، موضعين هاهنا وفي سبحان والكهف وعسق. وخفّف ابن كثير وأبو عمرو منها حرفا واحدا وهو قوله: في حم، عسق ... ذلِكَ النبي الَّذِي يَبْشُرُ اللَّهُ عِبادَهُ. وقرأها كلها حميد بن قيس: بضم الياء وجزم الباء وكسر الشين وتخفيفها. الباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديده، فمن خفّف الشين وضم الباء وهو من أبشر يبشر، قال الشاعر: يا أمّ عمرو أبشري بالبشرى ... موت ذريع وجراد عظلي «6» ومن قرأ بتخفيف الشين مع فتح الباء فهو من بشر يبشر، وهو لغة أهل تهامة وقراءة ابن مسعود. قال الشاعر: نشرت عوالي إذا رأيت حيفة ... ماسك من الحجّاج تعلى كتابها
وقال الفرّاء: وإذا رأيت الباهشين «1» إلى العلى ... غبرا أكفهم بقاع ممحل فأعنهم وأبشر بما بشروا به ... وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل «2» روي عبد الرحمن بن أبي حماد عن معاذ الكوفي، قال: من قرأ يُبَشِّرُهُمْ مثقلة فإنّه من البشارة ومن قرأ يبشرهم مخفّفة بنصب الياء فإنّه من السرور، يسرّهم «3» ، وتصديق هذه القراءة ما روى ابن زيد بن أسلم عن أبيه: إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لرجل: إن الله يبشرك بغلام فولدت امرأته غلاما. ومن قرأ بالتشديد من بشر يبشر بشيرا وهو أعرب اللغات وأفصحهم. قال جرير: يا بشر حق لوجهك التبشير ... هلا غضبت لنا وأنت أمير «4» ودليل التشديد: إنّ كلّ ما في القرآن من هذا الباب من فعل واجب أو أمر فهو بالتثقيل لقوله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ «5» ، وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ «6» ، قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ «7» . بِيَحْيى: هو اسم لا يجري لمعرفته، والمزايد في أوله مثل: يزيد ويعمر ويشكر وأماله قوم لأجل الياء وفخّمه الآخرون، وجمعه «يحيون» مثل موسون وعسون، واختلفوا فيه لم سمي «يحيى» . قال ابن عباس: لأن الله أحيا به عقر أمه. قتادة: لأن الله أحيا قلبه بالإيمان. بعضهم: لأن الله أحيا قلبه بالنبوة. الحسن بن الفضل: لأن الله أحياه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية. ما روى عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما من أحد إلّا ويلقى الله عز وجل قد همّ بخطيئة قد عملها إلّا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها. قال الثعلبي: [سمعت] الأستاذ أبا القاسم بن حبيب يقول: سمي بذلك لأنه أستشهد والشهداء أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من هوان الدنيا على الله إن يحيى بن زكريا قتلته امرأة» [51] «1» . قال الثعلبي: وسمعت أبا منصور [الجمشاذي] يقول: عن عمر بن عبيد الله المقدسي: أوحى الله إلى إبراهيم الخليل: أن قل ليسارة وكذلك كان اسمها: أني مخرج منكما عبدا لا يموت بمعصيتي اسمه حيي فهبي له من اسمك حرفا، فوهبت له أول حرف من اسمها فصار يحيى وصارت امرأة إبراهيم سارة. مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ: نصب على الحال مِنَ اللَّهِ: يعني عيسى (عليه السلام) سمي كلمة لأن الله قال له: كُنْ من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة لأنه كان بها، ويحيى أول من آمن بعيسى فصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني خالة، ثم قتل يحيى قبل أن يرفع عيسى (عليهما السلام) . وقال أبو عبيدة وعبد العزيز بن يحيى: بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وآياته، يقول: أنشدني كلمة فلان: أي قصيدته. وَسَيِّداً: من فيعمل نحو ساد يسود أصله يسود، وهو الرئيس الذي يتّبع وينتهى إلى قوله. قال المفضل: أراد سيدا في الدين. شريك عن أبي روق عن الضحاك قال: السيد الحسن الخلق. وروى شريك بإسناده أيضا عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: السيد هو الذي يطيع ربه عز وجل. سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم. قتادة: سيد في العلم والصوم، سعيد بن جبير: الحليم، الضحّاك: التقي، عكرمة: الذي لا يغضب، مجاهد: الكريم على الله، ابن زيد: الشريف الكبير، سفيان الثوري: الذي لا يحسد. روى يوسف بن الحسين الرازي عن ذي النون المصري قال: الحسود لا يسود. قال الخليل بن أحمد: مطاعا. الزجّاج: هو الذي ينوي وبكل شيء من الخير أقرانه. أحمد بن عاصم: السيد القانع بما قسم له. أبو بكر الورّاق: الراضي بقضاء الله تعالى.
محمد بن علي الترمذي: المتوكل على الله. أبو زيد البسطامي: هو الذي قد عظمت همته ونبل قدره، لم يحدث نفسه بدار الدنيا، وقيل: هو السخي. روى ابن الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس غير أنّه بخيل جبان. قال: وأيّ داء أدوى من البخل، بل سيدكم عمرو بن جموح «1» . روى عبد الله بن عباس: إنه كان قاعدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه بضعة عشر رجلا عليهم ثياب السفر، فسلموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى القوم، ثم قالوا: من السيد منكم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فعرفوا أنه رسول الله، فقالوا: فما في أمتك سيد، قال: بلى رجل أعطى مالا حلالا ورزق سماحة، وأدنى الفقراء وقلت شكايته «2» . وروى أن أسد بن عبد الله قال لرجل من بني شيبان: بلغني أن السودد فيكم رخيص. فقال: أما نحن فلا نسود إلّا من يعطينا رحله، ويفرش لنا عرضه، ويعطينا ماله. فقال: والله إن السودد فيكم لغال. وَحَصُوراً: أصله من الحصر وهو الحبس، يقال: حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحصرت من كذا أحصر إذا امتنع منه، وحصر فلان في قرأته إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، ومنه إحصار العدو. قال الله تعالى: وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً «3» : أي محبسا. ويقال للرجل الذي يكتم السر ويحبسه ولا يظره حصر. قال جرير: ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا ... حصرا بسرك يا أميم ضنينا «4» فالحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبي الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ، فهو على هذا القول: مفعول بمعنى فاعل يعني: أنه يحصر نفسه عن الشهوات. وقال سعيد بن المسيب والضحّاك: هو العنّين الذي لا ماء له، ودليل هذا التأويل ما روى أبو صالح عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلّا يحيى بن زكريا فإنه كان سَيِّداً وَحَصُوراً» [52] .
وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ: ثم أهوى النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: «كان ذكره مثل هذه القذاة» [53] «1» . وقال المبرد: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل، وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور. قال الأخطل: وشارب مربح بالكأس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوار «2» فلما نادت الملائكة زكريا بالبشارة قالَ رَبِّ: يا سيدي قاله لجبرائيل (عليه السلام) ، وهذا هو قول الكلبي وأكثر المفسرين. وقال الحسن بن الفضل: إنّما قال زكريا لله يا رب لا لجبرائيل. أَنَّى يَكُونُ: من أين يكون، لِي غُلامٌ: ابن. وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ: قال أبو حمزة والفرّاء والمورّخ بن المفضّل: هذا من المقلوب: أي قد بلغت الكبر كما يقال: بلغني الجهد: أي إني في جهد، ويقول هذا القول لا يقطعني أي لا يبلغ [بي] ما أريد [أن] يقطعه، وأنشد المفضل: كانت فريضة ما زعمت ... كما كانت الزناء فريضة الرجم «3» وقيل معناه: وقد نالني الكبر وأدركني وأخذ مني وأضعفني. قال الكلبي: كان يوم بشر بالولد ابن اثنين وتسعين سنة، وقيل: ابن تسع وتسعون سنة «4» ، فذلك قوله: وَامْرَأَتِي عاقِرٌ: أي عقيم لا تلد، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عقر بضم القاف، يعقر عقرا وعقارة، وقيل: تكلم حتى أعقر بكسر القاف يعقر عقرا إذا أبقى فلم يقدر على الكلام. وقال عامر بن الطفيل: ولبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا ... جبانا فما عذري لدى كل محضر «5» وإنما حذف الهاء لاختصاص الإناث بهذه، وقال به تارة الخليل «6» .
وقال سيبويه: للنسبة أي ذات عقر، كما يقال: امرأة مرضع أي ذات ولد رضيع وكل [ ... ] «1» امرأتي عنى عاقر، وشخص عاقر. وقال عبيد: عاقر مثل ذات رحم، أو خانم مثل من [ينحب] . قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ: فإن قيل: لم تنكر زكريا ذلك وسأل الآية بعد ما بشرته به الملائكة أكان ذلك [شكّ في صدقهم] أم أنّ [ذلك منه استنكارا لقدرة ربّه] «2» ؟ وهذا لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان فكيف الأنبياء (عليهم السلام) ؟ قيل: إن الجواب عنه ما روى عكرمة والسدي: إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان، فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعته ليس من الله، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من الله لأوحاه إليك خفيا، كما (ناداك) خفيا وكما يوحى إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعا للوسوسة. والجواب الثاني: إنه لم يشك في الولد وإنما شك في كيفيته والوجه الذي يكون منه الولد فقال: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ: أي فكيف يكون لي ولد؟ أتجعلني وامرأتي شابين؟ أم ترزقنا ولدا على كبرنا؟ أم ترزقني من امرأتي أو غيرها من النساء؟ قال ذلك مستفهما لا منكرا، وهذا قول الحسن وابن كيسان. قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً: علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكرا لك. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ: تكف عن الكلام. ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً: تقبل بكلمتك على عبادتي وطاعتي لا أنه حبيس لسانه عن الكلام، ولكنه نهي عنه يدل عليه قوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ. قال بعض أهل المعاني وقال أكثر المفسرين: عقد لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مساءلة الملائكة إياه، فلم يصدر على الكلام ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً: إشارة. قال الفرّاء: ويكون الرمز باللسان من غير أن يبين، وهو الصوت الخفي شبه الهمس. وقرأ الأعمش: رَمَزاً: بفتح الميم وهو الصلاة كالطلب به. وقال عطا: أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلّا رمزا. وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: يعني جبرئيل وحده.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 44 إلى 54]
يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ: بولادة عيسى من غير أب. وَطَهَّرَكِ: من [مسيس] الرجل «1» . وقال السدي: كانت مريم لا تحيض. وَاصْطَفاكِ: بالتحرير في المسجد، عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ: عالمي زمانها ولا يحرر غيرها. يا مَرْيَمُ اقْنُتِي: أطيعي وأطيلي الصلاة، لِرَبِّكِ: كلمت به الملائكة شفاها. قال [الأوزاعي] : لمّا قالت لها الملائكة ذلك، قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دما وقيحا «2» . وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 44 الى 54] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) ذلِكَ: الذي ذكرت من حديث زكريا ومن حديث ويحيى ومريم وعيسى، مِنْ أَنْباءِ: أخبار، الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ: ردّ الكناية إلى ذلك فلذلك ذكر. وَما كُنْتَ: يا محمد، لَدَيْهِمْ: عندهم، إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ سهامهم وقداحهم للاقتراع في الماء واحدها: قلم، وقيل: [أقلامهم التي كانوا يكتبون بها] «3» التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء. أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ: [....] «4» .
وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ: في كفالتها. إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ وقرأ أبو السماك «1» وهب بن يزيد العدوي: (بِكِلِمَةٍ) مكسورة الكاف مجزومة اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ. اسْمُهُ: رد كناية إلى عيسى وكذلك ذكر. وقيل: رده إلى الكلام لأن الكلمة والكلام واحد. الْمَسِيحُ: قال بعضهم: هو فعيل بمعنى المفعول يعني: أنه مسح من الأقذار وطهر. وقيل: مسح بالبركة. وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن «2» . وقيل: لأنه مسح القدمين لا أخمص له. وقيل: مسحه جبرئيل بجناحه من الشيطان حتى لم يكن للشيطان فيه سبيل في وقت ولادته. وقال بعضهم: هو بمعنى الفاعل مثل عليم وعالم، وسمي ذلك لأنه كان يمسح المرضى فيبرءون بإذن الله. قال الكلبي: سمي بذلك لأنه كان يمسح عين الأعمى فيبصره. وقيل: سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض يخوضها ولا يقيم في مكان، وعلى هذا القول الميم فيه زائدة. وقال أبو عمرو بن العلاء: المسيح الملك. وقال أبو تميم النخعي: المسيح الصديق، فإما هو المسّيح بكسر الميم وتشديد السين، وقال غيره: هذا قول لا وجه له بل الدجال مسيح أيضا فعيل بمعنى مفعول لأنه ممسوح إحدى العينين كأنها عين طافية، ويكون بمعنى [السائح] «3» لأنه يسيح في الأرض فيطوف الأرض كلها إلّا مكة والمدينة وبيت المقدس. قال الشاعر:
إنّ المسيح يقتل المسيحا «1» عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً: نصب على الحال، أي شريفا [ذا جاه وقدر] «2» . فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى ثواب الله وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صغيرا قبل [أوان] «3» الكلام. روى ابن أبي [نجيح] عن مجاهد قال: قالت مريم (عليها السلام) : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدثته. فإذا شغلني عنه إنسان سبّح في بطني وأنا أسمع «4» . وَكَهْلًا: قال مقاتل: يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء. وقال الحسن بن الفضل: (كَهْلًا) بعد نزوله من السماء. وقال ابن كيسان: أخبرهما أنّه يبقى حتّى يكتهل. وقيل: يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ: صبيّا وَكَهْلًا نبيّا [ولم يتكلّم في المهد من الأنبياء] «5» إلّا عيسى (عليه السلام) ، فكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة. وقال مجاهد: وَكَهْلًا أي عظيما والعرب تمدح بالكهولة لأنّها أعظم؟ على في احتناك السنّ، واستحكام العقل، وجودة الرأي والتجربة. وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي فهو من العباد الصالحين. قالَتْ رَبِّ يا سيّدي بقولها لجبرئيل أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يعني رجل. قالَ كَذلِكِ اللَّهُ: كما تقولين يا مريم ولكن الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً: [ ... ] «6» . فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ: كما يريد. قال بعض أهل المعاني: ذكر القول هاهنا بيان وزيادة إلى ذكره ليتعارف النّاس به سرعة كون الشيء فيما بينهم. وقال آخرون: هذا وقع على الموجود في علمه وإرادته وتحت قدرته وإن كان معدوما في ذاته.
ونصب بعض القرّاء النون في قوله فَيَكُونُ على جواب الأمر بالفاء، ورفع الباقون على إضمار (هو) أي فهو يكون. وقيل: على تكرير الكلام تقديره: فإنّما يقول له كن فيكون. وَيُعَلِّمُهُ: قرأ أهل المدينة ومجاهد وحميد والحسن وعاصم: بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله تعالى كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ: قد جرى ذكره عزّ وجلّ. وقال المبرد: ردّوه على قوله إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ ... وَيُعَلِّمُهُ وقرأ الباقون بالنون على التعظيم، واحتجّ أبو عمرو في ذلك لقوله ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ... الْكِتابَ: أي الكتابة والخط والعلم. وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا: أي ونجعله رسولا. إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ: فترك ذكره لأن الكلام عليه، كقول الشاعر: ورأيت بعلك «1» في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا «2» أي وحاملا رمحا. وأنشد الفرّاء لرجل من عبد القيس: علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همالة عيناها «3» يعني سقيتها ماء باردا. قال الأخفش: وإن شئت جعلت الواو في قوله (وَرَسُولًا) مضخمة والرسول حالا للهاء، تقديره: ويعلّمه الكتاب رسولا «4» ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى (عليه السلام) «5» . روى محمد بن إسكندر عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل» . [54] «6» فلمّا بعث قال لهم: [ ... ] «7» .
قال الكسائي: وإنمّا فتح لأنّه أوقع الرسالة عليه وقيل: بأنّي أو لأنّي. قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ: والآية مِنْ رَبِّكُمْ: يصدّق قولي ويحقق رسالتي. قال الخليل والفرّاء: أصلها بآيّة بتشديد الياء فثقل عليهم التشديد فأبدلوا لانفتاح ما قبل التشديد وتقديرها فعله. وقال الكسائي: هي في الأصل أبيه مثل فاطمة فحذفت أحدى الياءين فلمّا قال ذلك عيسى لبني إسرائيل. قالوا: وما هي؟ قال: إنّي، قول نافع بكسر الألف على الاستئناف وإضمار القول. وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأنّي. أَخْلُقُ: أي أصور وأقدّر. لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ: قرأ الزهري وأبو جعفر: كهيّة بتشديد الياء. والآخرون بالهمزة. والهيئة الصورة المهيّأة، وهي من قولهم هيأت الشيء إذا قصرته وأصلحته. وقرأ أبو جعفر (الطائر) بالألف، والباقون بغير ألف. فَأَنْفُخُ فِيهِ: أي في الطين. فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ: قرأه العامة على الجمع لأنّه خلق طيرا كثيرا. وقرأ أهل المدينة: (طائرا) على الواحد ذهبوا إلى نوع واحد من الطير، لأنه لم يخلق غير الخفّاش، وإنمّا خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقا، ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثديا وأسنانا وهي تحيض وتطير. وقال وهب: كان يطير ما دام النّاس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميّتا ليتميّز فعل الخلق من خلق الله، وليعلموا أنّ الكمال لله تعالى. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ: أي أشفيهما وأصححهما فقال: أبرأ الله المريض من أبرأ- وبرىء- هو يبرأ- وبريء- مبرأ- برأوا فيهما جميعا. واختلفوا في الأكمه: فقال عكرمة والأعمش، ومجاهد والضحّاك: [هو الذي] يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل. ابن عباس وقتادة: هو الذي ولد أعمى ولم يبصر ضوء قط، الحسن والسّدي: هو [الأعمى، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه هو الذي يولد أعمى وهو الذي يعمى وان كان بصيرا] «1» هو المعروف من كلام العرب يقال: كمهت عينه تكمه كمها وكمهتها أنا إذا أعميتها.
قال سويد بن أبي كاهل: كمهت عيناه حتى ابيضّتا ... فهو يلحى نفسه لمّا نزع «1» قال رؤبة: وكيد مطال وخصم [مبده] «2» هدجن فإن تكلم [ ... ] «3» الأكمه هرّجت بالسّبع وقد صحت به، والأبرص الذي به وضح. وإنمّا خصّ هذين لأنهما عميان وكان [الغالب] على زمن عيسى الطبّ فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك داعيا لا دواء له. وقال وهب: ثم اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه. إنّما كان يداويهم بالدّعاء على شرط الإيمان. وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ: قيل: أحيا أربعة أنفس: عازر «4» وكان صدّيقا فأرسل أخته إلى عيسى أنّ أخاك عازر يموت فأته وكان بينه وبين داره ثلاثة أيّام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره وهو في صخرة مطبقة. فقال عيسى: اللهم ربّ السموات السّبع والأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك وأخبرهم أنّي أحيي الموتى بإذنك فأحيي عازر. قال: فقام عازر وودكه تقطر، فخرج من قبره وبقي وولد له. وابن العجوز مرّ به ميّتا على عيسى (عليه السلام) على سرير يحمل فدعا الله عيسى (عليه السلام) فجلس على سريره ونزّل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له. والبنت العاقر «5» قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت فبقيت وولد لها. وسام بن نوح دعا عيسى (عليه السلام) باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه. فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكني دعوتك باسم الله الأعظم. قال: ولم يكونوا
يشيبون في ذلك الزّمان. وكان سام قد عاش خمسمائة سنة وهو شاب، ثم قال: مت. فقال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت. فدعا الله عزّ وجلّ ففعل. قال الكلبي: كان عيسى (عليه السلام) يحيي الأموات ب: يا حىّ يا قيّوم. وَأُنَبِّئُكُمْ: أخبركم، بِما تَأْكُلُونَ: ممّا أعاينه، وَما تَدَّخِرُونَ: وما ترزمونه، فِي بُيُوتِكُمْ: حتى تأكلوه، وهو يفعلون من دخرت وقرأ مجاهد وأيوب السختياني: تذخرون، بالذال المعجمة وسكونها وفتح الخاء من ذخر يذخر ذخرا. قال الكلبي: فلما أبرأ عيسى الأكمه والأبرص وأحيى الموتى قالوا: هذا سحر، ولكن أخبرنا بما نأكل وما ندّخر وكان يخبر الرجل بما أكل من غدائه وبما يأكل في عشائه. وقال السدي: كان عيسى (عليه السلام) إذا كان في الكتّاب يحدّث الغلمان بما يصنع أبوهم، ويقول للغلام انطلق، فقد أكل أهلك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا. فينطلق الصبي إلى أهله، ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون له من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فحبسوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم. قالوا: ليسوا عندنا. فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون. ففتحوا عليهم، فإذا هم خنازير «1» ، ففجئنا لذلك في بأس [ ... ] «2» بنو إسرائيل، فلمّا خافت عليه أمه حملته على حميّر لها، وخرجت به هاربة إلى مصر. وقال قتادة: إنّما هذا في المائدة وكان خوانا ينزل عليهم إنّما كانوا كالمنّ والسلوى، وأمر القوم أن لا يخونوا لا يخبئوا لغد، وحذّرهم البلاء إن فعلوا ذلك [ ... ] «3» وخونوا. فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منه. فمسخهم الله خنازير. إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت لكم. لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقاً عطفها على قوله: وَرَسُولًا. لِما بَيْنَ يَدَيَّ: لما قبلي. مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ: من اللحوم والشحوم. وقالوا أيضا: يعني كل الذي حرّم عليهم من الأطبّاء، و (بعض) يكون بمعنى «كل» ويكون كقول لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها «4»
أي كل النفوس. وقال آخر: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض «1» يريد بعض الشر أهون من كله. وقرأ إبراهيم النخعي: حرم مثل كرّم أي [صار حراما] . وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: يعني ما ذكرنا من الآفات، وأما تعدّها لأنّها جنس واحد في [الدلالة] . على رسالته. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى: [ ... ] . وقال أبو عبيد: عرف. مقاتل: رأى. نظر. قرأه ضحّاك: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ. وقوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا. مِنْهُمُ الْكُفْرَ: وأرادوا قتله استنصر عليهم وقال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ: قال السدي: كان بسبب ذكر أنّ عيسى (عليه السلام) لمّا [بعثه الله] إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمّه يسيحون في الأرض، فنزل في قرية [على رجل فضافهم] «2» وأحسن إليهم، وكان كبير المدينة جبّار معتد. فجاء ذلك الرجل يوما مهتما حزينا، فدخل منزله، ومريم عند امرأته فقالت: ما شأن زوجك أراه كئيبا؟ قالت: لا تسأليني. قالت: أخبريني لعلّ الله يفرّج كربته. قالت: إنّ لنا ملكا [يجعل على كل رجل يوما يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر] . فإن لم يفعل عاقبه، واليوم نوبتنا وليس لذلك [عندنا سعة] . قالت: فقولي له لا تهتم، فإنّي آمر ابني فيدعو له، فيكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى في ذلك. فقال عيسى: إن فعلت ذلك كان في ذلك شر، قالت: لا تبال، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا. قال عيسى: فقولي له إذا اقترب ذلك فأملأ قدورك وخوابيك، ففعل ذلك. فدعا الله عيسى فحوّل القدر لحما ومرقا وخبزا وما في الخوابي خمرا لم ير النّاس مثله قط. فلمّا جاء الملك أكل فلمّا شرب الخمر قال: من أين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا. قال الملك: فإنّ خمري
أوتى بها من هذه الأرض وليست مثل هذه. قال: هي من أرض أخرى، فاختلط على الملك فشدد عليه. قال: أنا أخبرك، عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إيّاه. وإنّه دعا الله تعالى [فجعل الماء خمرا] وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيّام. وكان أحبّ الخلق إليه. فقال: إنّ رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرا ليستجابنّ له حتى يحيي ابني، فدعا عيسى فكلّمه في ذلك. فقال عيسى: لا تفعل، فإنه إن عاش كان شرا، فقال الملك: لا أبالي، أليس أراه، فلا أبالي ما كان. فقال عيسى: فإن أحييته تتركوني وأمّي نذهب حيث نشاء. قال: نعم. فدعا الله فعاش الغلام. فلمّا رآه أهل مملكته قد عاش بادروا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه. فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا. وذهب عيسى وأمّه فمرّا بالحواريين وهم يصطادون السمك. فقال عيسى: ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك. قال: أفلا [تمشون] حتى نصطاد النّاس؟ قالوا: كيف ذلك. قالَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله. فآمنوا به وانطلقوا معه. فهم الحواريون وذلك قوله فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «1» . قال السدي وابن جريج والكسائي: مع الله، تقول العرب: الذّود إلى الذّود إبل. وقال النابغة. فلا تتركوني بالوعيد كأنني ... إلى النّاس مطليّ به القار أجرب «2» أي مع الناس. وقال آخر «3» : ولوح ذراعين في بدن «4» ... إلى جؤجؤ رهل المنكب «5» أي مع جؤجؤ. نظيره قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «6» : أي مع أموالكم. وقال الحسن وأبو عبيدة [من أنصاري في السبيل إلى الله] «7» ، تعني في: أي من أعواني في الله؟: أي في ذات الله وسبيله.
وقال طرفة: وإن ملتقى «1» الحيّ الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الكريم المضمّد «2» «3» أي في ذروة. وقال أبو ذؤيب: بأري التي تأري اليعاسيب «4» أصبحت ... إلى شاهق دون السماء ذؤابها درجها «5» قالَ الْحَوارِيُّونَ: اختلفوا فيهم: فقال السدّي: كانوا ملّاحين يصطادون السمك. وكذلك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا صيّادين سمّوا حواريين لبياض ثيابهم. وقال أبو أرطأة: كانوا قصّارين سمّوا بذلك لأنّهم كانوا يحوّرون الثياب أي يبيّضونها. وقال عطاء: سلّمت مريم عيسى إلى أعمال سري، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قوما قصارين وصبّاغين، فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه. فاجتمع عنده ثياب، وعرض له سفر. فقال لعيسى: إنّك قد تعلّمت هذه الحرفة، وأنا خارج في سفر إلى عشرة أيّام، وهذه ثياب مختلفة الألوان، وقد أعلمت على كل صنف منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغا منها وقت قدومي. فخرج وطبخ عيسى (عليه السلام) جبّا واحدا على لون واحد أدخله جميع الثياب. وقال لها: كوني بإذن الله على ما أريد منك. فقدم الحواري والثياب كلها في جبّ واحد فقال: ما فعلت؟ قال: قد فرغت منها. قال: أين هي؟ قال: في الجب. قال: كلّها؟ قال: نعم. قال: كيف تكون كلها أحمر في جبّ واحد؟ فقد أفسدت تلك الثياب. قال: قم فانظر. فأخرج عيسى ثوبا أحمر وثوبا أصفر وثوبا أخضر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها. فجعل الحواري يتعجب ويعلم أنّ ذلك من الله، وقال للنّاس: تعالوا وانظروا إلى ما صنع. فآمن به وأصحابه فهم الحواريون. وروى يوسف الفريابي عن مصعب قال: الحواريون إثنا عشر رجلا اتّبعوا عيسى بن مريم،
وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده الأرض سهلا كان أو جبلا فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين فيأكلوهما، وإذا عطشوا قالوا: يا روح الله قد عطشنا، فيضرب بيده إلى الأرض فيخرجون منه ماء فيشربون. قالوا: يا روح الله من أفضل منّا إذا شئنا أطعمنا وإذا شئنا سقينا وآمنّا بك فاتّبعناك؟ قال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. قال: فصاروا يغسلون الثياب بالكراء. وقال الضحّاك: سمّوا حواريين لصفاء قلوبهم. وقال عبد الله بن المبارك: سمّوا حواريين لأنّهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة ونورها وحسنها. قال الله تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «1» . وأصل الحور عند العرب شدة البياض. يقال: رجل أحور وامرأة حوراء، شديد بياض نفلة العينين. ويقال للدقيق الأبيض: الحواري، وكل شيء بيّضته فقد حوّرته. ويقال للبيضاء من النساء حواريّة. قال ابن [حلّزة] «2» : فقل للحواريات يبكين غيرنا ... ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح «3» وقال الفرزدق: فقلت أنّ الحواريات تغطية «4» ... إذا زيّن «5» من تحت الجلابيب «6» وقال ابن عون: صنع ملك من الملوك طعاما. فدعا النّاس إليه، وكان عيسى على قصعة، فكانت القصعة لا تنقص. فقال له الملك: من أنت؟ قال: أنا عيسى بن مريم. قال: إنّي آتك ملكي هذا واتبعك، فانطلق واتبعه ومن معه فهم الحواريون. وقال الكلبي وأبو روق: الحواريون أصفياء عيسى وكانوا إثنا عشر رجلا. الحسن: الحواريون الأنصار والحواري الناصر. النضر بن شميل: الحواريون: خاصة الرجل. عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: الحواري: الوزير.
وعن روح بن القاسم قال: سألت قتادة عن الحواريين فقال: هم الذين تصلح لهم الخلافة. والحواري في كلام العرب الضامن خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه. يدل عليه ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ نبيّ حواري وحواريي الزبير بن العوّام» [55] «1» . وروى أبو سفيان بن معمر قال: قال قتادة: إنّ الحواريّين كلهم من قريش. أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعباس وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عروة وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام. قال: الحواريون وأسماؤهم في سورة المائدة. نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ: أعوان دين الله ورسوله. آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ: من كتابك. وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى. فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين شهدوا لأنبيائك بالصّدق. قال عطاء: مع النبيّ لأنّ كل نبيّ شاهد أمّته [....] «2» مع محمّد وأمّته «3» . وَمَكَرُوا: يعني كبار بني إسرائيل الذين أحسّ عيسى منهم الكفر ودبّروا في قتل عيسى. والمكر ألطف التدبير. وذلك أنّ عيسى بعد إخراج قومه إيّاه وأمّه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهمّوا بقتله وتواطأوا على القتل. فذلك مكرهم به. وقال أهل المعاني: المكر. السعي في الفساد في ستر ومداجاة، وأصله من قول العرب: مكر الليل. وَمَكَرَ اللَّهُ: قال الفرّاء: المكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة، وهو من الله استدراجه العباد. قال الله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ «4» قال ابن عباس: معناه كلّما أحدثوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة.
قال الزجاج: مكر الله مجازاتهم على مكرهم فسمّى باسم الابتداء كقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «1» ، وقوله: وَهُوَ خادِعُهُمْ «2» . وقال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا «3» قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله البغدادي يقول: سأل رجل جنيدا «4» كيف رضي المكر لنفسه، وقد عاب به غيره؟ فقال: لا أدري ما يقول ولكن لسيد بني [.....] «5» الطبرانية: فديتك قد جعلت على هواكا ... فنفسي لا تنازعني سواكا أحبك لا ببعضي بل بكلي ... وإن لم يبق حبك لي حراكا ويقبح [من] سواك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا «6» فقال الرجل: أسألك عن آية من كتاب الله وتجيبني بشعر الطبرانية فقال: ويحك قد أجبتك إن كنت تعقل. إن تخليته إيّاهم مع المكر به. مكر منه بهم، ومكر الله تعالى خاص بهم في هذه الآية إلقاء الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل وصلب ورفع عيسى إلى السماء. قال ابن عباس: إنّ ملك بني إسرائيل أراد قتل عيسى، وقصده أعوانه. فدخل خوخة فيها كوّة، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السماء. فقال الملك: لرجل منهم خبيث أدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى فخرج إلى النّاس فخبرّهم أنّه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنّوا أنّه عيسى. وقال وهب: طرقوا عيسى في بعض الليل فأسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فلمّا أرادوا صلبه أظلمت الأرض وأرسل الله الملائكة فحالوا بينهم وبينه وصلبوا مكانه رجلا يقال له يهودا وهو الذي دلّهم عليه. وذلك أنّ عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم، ثم قال: ليكفرنّ أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة. فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه. فأتى
[سورة آل عمران (3) : الآيات 55 إلى 64]
أحد الحواريين إلى الجنود فقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له مائتين درهما فأخذها ودلّهم عليه فألقى الله عليه شبه عيسى لمّا دخل البيت. فرفع عيسى، وأخذ الذي دلّهم عليه فقال: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه، وهم يظنّون أنّه عيسى. فلمّا صلب شبه عيسى جاءت أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأ لها ابنة من الجنون. تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى فقال لهما: علام تبكيان؟ فقالتا: عليك. فقال: إنّ الله قد رفعني ولم يصبني إلّا خير وأنّ هذا الصّبي شبّه لهم. فلما كان بعد سبعة أيّام. قال الله عزّ وجلّ لعيسى: اهبط على مريم في المحراب موضع لأمّه في خبائها فإنّها لم يبك عليك أحد بكاها، ولم يحزن عليك أحد حزنها. ثم لتجمع لك الحواريين حيث هم في الأرض. دعاه الله تعالى فأهبط الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريين حيث هم في الأرض دعاه الله تعالى ثم رفعه إليه. وتلك الليلة هي الليلة التي يدخن فيها النّصارى، فلمّا أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أفضل المعاقبين. قال أهل التواريخ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاثة عشر سنة ودارت بعيسى بيت اللحم من أرض أورشليم لمضي خمسة وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل. ولإحدى وخمسين سنة مضت من ملك الكلدانيين وأوحى الله عز وجلّ لأمّه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين، وعاشت أمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 55 الى 64] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ اختلفوا في معنى التوفّي هاهنا:
فقال كعب والحسن والكلبي ومطر الوراق «1» ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريج وابن زيد: معناه: إنّي قابضك. وَرافِعُكَ: من الدّنيا. إِلَيَّ: من غير موت، يدلّ عليه قوله فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني إلى السماء وأنا حيّ لأنّ قومه إنّما تنصّروا بعد رفعه لا بعد موته. وعلى هذا القول للتوفّي تأويلان: أحدهما: إنّي رافِعُكَ إِلَيَّ وافيا لن ينالوا منك. من قولهم: توفّيت كذا واستوفيته أي أخذته تامّا. والآخر: إنّي مسلّمك، من قولهم: توفيت منه كذا أي سلّمته. وقال الربيع بن أنس: معناه أنّي منيمك ورافعك إليّ من قومك، يدل عليه قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «2» : أي ينيمكم لأنّ النوم أخو الموت، وقوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «3» . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: إنّي مميتكم، يدلّ عليه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «4» ، وقوله وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ «5» وله على هذا القول تأويلان: أحدهما: ما قال وهب: توفّى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه. والآخر: ما قاله الضحّاك وجماعة من أهل المعاني: إنّ في الكلام تقديما وتأخيرا، معناه إنّي رافعك إليّ ... وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ومتوفّيك بعد إنزالك من السماء كقوله عز وجلّ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى «6» . وقال الشاعر: ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السّلام «7» أي عليك السلام ورحمة الله.
وقال آخر: جمعت وعيبا نخوة ونميمة ... ثلاث خصال لسن من ترعوي أي جمعت نخوة ونميمة وعيبا. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأنبياء إخوة لعلّات شتّى ودينهم واحد، وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم لأنّه لم يكن بيني وبينه نبيّ، وإنّه عامل على أمّتي وخليفتي عليهم، إذا رأيتموه فاعرفوه فإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره ممطر وإن لم يصبه بلل، بين ممصّرتين يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال، وليسلكنّ الروحاء حاجّا أو معتمرا أو كلتيهما جميعا، ويقاتل النّاس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملك كلها ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذّاب الدجّال، ويقع في الأرض الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الأغنام، ويلعب الصبيان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضا، ويلبث في الأرض أربعين سنة» [56] «1» . وفي رواية كعب: «أربعا وعشرين سنة، ثم يتزوج ويولد، ثم يتوفى ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه في حجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم» [57] «2» . وقيل للحسن بن الفضل: هل تجد نزول عيسى (عليه السلام) في القرآن. فقال: نعم. قوله: وَكَهْلًا، وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنّما معناه وَكَهْلًا بعد نزوله من السماء. وعن محمد بن إبراهيم أنّ أمير المؤمنين أبا جعفر حدّثه عن الآية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف تهلك أمّة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي في أوسطها» «3» [58] . وقال أبو بكر محمد بن موسى الواسطي: معناه إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عن شهواتك وحطوط نفسك، ولقد أحسن فيما قال لأنّ عيسى لمّا رفع إلى السّماء صار حاله كحال الملائكة. وَرافِعُكَ إِلَيَّ: قال البشالي والشيباني: كان عيسى على [....] «4» فهبّت ريح فهرول عيسى (عليه السلام) فرفعه الله عزّ وجلّ في هرولته، وعليه مدرعة من الشعر. قال ابن عباس: ما لبس موسى إلا الصوف وما لبس عيسى إلا الشعر حتى رفع.
وقال ابن عمر: رأينا النبي صلّى الله عليه وسلّم يتبسم في الطواف فقيل له في ذلك. فقال: استقبلني عيسى في الطواف ومعه ملكان. وقيل: معناه رافِعُكَ بالدرجة في الجنّة ومقرّبك إلى الإكرام وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا: أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم. وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ: قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي: هم أهل الإسلام الذين اتّبعوا دينه وسنّته من أمّة محمّد فو الله ما اتّبعه من دعاه ربا فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا: ظاهرين مجاهرين بالعزة والمنعة والدليل والحجة. الضحّاك ومحمد بن أبان: يعني الحواريّين فوق الذين كفروا، وقيل: هم الرّوم. وقال ابن زيد: وجاعل النّصارى فوق اليهود. فليس بلد فيه أحد من النّصارى إلا وهم فوق اليهود، واليهود مستذلّون مقهورون، وعلى هذين القولين يكون معنى الاتّباع الادّعاء والمحبة لا اتّباع الدّين والملّة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ: من الدين وأمر عيسى (عليه السلام) . فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا: بالقتل والسّبي والذّلّة والجزية وَالْآخِرَةِ: بالنار. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ: قرأ الحسن وحفص ويونس: بالياء، والباقون بالنون. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذلِكَ: أي هذا الذي ذكرته. نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هو القرآن. وقيل: هو اللوح المحفوظ، وهو معلّق بالعرش في درّة بيضاء، والحكيم: هو الحكم من الباطل. قال مقاتل: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ الآية: وذلك أنّ وفد نجران قالوا: يا رسول الله مالك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إنّه عبد؟ قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول. فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله؟ فأنزل الله عز وجلّ إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ في كونه خلقا من غير أب
كَمَثَلِ آدَمَ في كونه خلقا من غير أب ولا أم خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ : تم الكلام. ثُمَّ قالَ لَهُ: يعني لعيسى. كُنْ فَيَكُونُ: يعني فكان. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ: قال الفرّاء: رفع لخبر ابتداء مضمر يعني هو الحق أي هذا الحق. وقال أبو عبيدة: هو استئناف بعد انقضاء الكلام وخبره في قوله: مِنْ رَبِّكَ، وقيل بإضمار فعل أي حال الحق، وإن شئت رفعته بالضمّة ونويت تقديما وتأخيرا تقديره من ربّك الحق كقولهم: منك يدك، وإن كان مثلا. فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمّته لأنّه لم يكن ينهاه في أمر عيسى. فَمَنْ حَاجَّكَ: خاصمك وجادلك بأمر يا محمد. فِيهِ: في عيسى. مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ: بأنه عبد الله ورسوله. فَقُلْ تَعالَوْا: قرأ الحسن وأبو واقد الليثي وأبو السمّاك العدوي: تَعالُوا بضم اللام، وقرأ الباقون بفتحها والأصل فيه تعاليوا لأنّه تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضّمة على الياء فسكنت ثم حذفت وبقيت [اللام على محلّها وهي عين الفعل] «1» ضم فإنّه نقل حركة الياء المحذوفة التي هي لام الفعل إلى اللام. قال الفرّاء: معنى تعال كأنّه يقول ارتفع. نَدْعُ: جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم فيه سقوط الواو. أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ: وقيل: أراد نفوسهم، وقيل: أراد الأزواج. ثُمَّ نَبْتَهِلْ: نتضرّع في الدّعاء. قاله ابن عباس. مقاتل: نخلص في الدعاء. الكلبي: نجهد ونبالغ في الدّعاء. الكسائي وأبو عبيدة: نلتعن بقول: لعن الله الكاذب منّا، يقال: عليه بهلة الله، وبهلته: أي لعنته. قال لبيد: في قدوم سادة من قولهم نظر الدهر إليهم فابتهل.
فَنَجْعَلْ: عطف على قوله: نبتهل. لَعْنَتَ اللَّهِ: مصدر. عَلَى الْكاذِبِينَ: منّا ومنكم في أمر عيسى، فلمّا قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر في أمرنا ثمّ نأتيك غدا. فخلا بعضهم ببعض، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما لاعن قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن نعلم ذلك لنهلكنّ. فإن رأيتم إلّا البقاء لدينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرّجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد غدا رسول الله محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي (رضي الله عنه) خلفها وهو يقول لهم: إذا أنا دعوت فأمّنوا. فقال أسقف نجران: يا معشر النّصارى إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم. فأبوا. قال: فإنّي أنابذكم بالحرب. فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنّا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي سكّة ألفا في صفر وألفا في رجب. فصالحهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ذلك. وقال: والذي نفسي بيده إنّ العذاب قد نزل في أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولا ستأصل الله نجران وأهله حتّى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا «1» . قال الله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ إلى فَإِنْ تَوَلَّوْا: أعرضوا عن الإيمان. فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ: الّذين يعبدون غير الله ويدعون النّاس إلى عبادة غيره. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ الآية. قال المفسرون: قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم فأتاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد إنّا اختلفنا في إبراهيم ودينه فزعمت النصارى أنّه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى النّاس به. وقالت اليهود: بل كان يهوديا وأنّهم على دينه وأولى النّاس به. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفا وأنا على دينه فأتبعوا دينه الإسلام. فقالت اليهود: يا محمد ما تريد إلا أن نتّخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا. وقالت النصارى: والله يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 65 إلى 74]
فأنزل الله تعالى قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ عدل بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ وكذلك كان يقولها ابن مسعود قال: دعا فلان إلى السّواء أي إلى النصف، وسواء كل شيء وسطه. قال الله فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «1» ، وإنّما قيل للنصف سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها. وسواء نعت للكلمة إلا أنّه مصدر والمصادر لا تثنّى ولا تجمع ولا تؤنث. فإذا فتحت السين مدّت، وإذا كسرت أو ضمّت قصرت. كقوله عزّ وجلّ: مَكاناً سُوىً «2» : أي مستو به ثم فسّر الكلمة فقال: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ: محل (أن) رفع على إضمار هي «3» . قال الزجاج: محلّه رفع [بمعنى أنه لا نعبد] «4» ، وقيل: محله نصب بنزع حرف الصفة معناه: بأن لا نعبد إلا الله. وقيل: محله خفض بدلا من الكلمة أي تعالوا أن لا نعبد إلّا الله. وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ: كما فعلت اليهود والنصارى. قال الله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال عكرمة: هو سجود بعضهم لبعض. وقيل معناه: لا تطع في المعاصي أحدا، وفي الخبر من أطاع مخلوقا في معصية الله فكأنّما سجد سجدة لغيره. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: أنتم لهم اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ: مخلصون بالتوحيد، وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية إلى قيصر وملوك الروم، «من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم ... سلام عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى. «أمّا بعد.... فإنّي أدعوك إلى الإسلام أسلم تسلم. أسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فلن تملكوا إلا أربع سنين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، يا أهل الكتاب تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ الآية» [59] «5» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 74] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ: وتزعمون أنه كان على دينكم اليهودية والنصرانية، وقد حدثت اليهودية بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل. وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ: بعد مهلك إبراهيم بزمان طويل، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة. أَفَلا تَعْقِلُونَ: بعرض حجّتكم وبطلان قولكم. ها أَنْتُمْ: قرأه أهل المدينة بغير همز ولا مدّ إلا بقدر خروج الألف الساكنة، وقرأ أهل مكّة مهموزا مقصورا على وزن هعنتم، وقرأ أهل الكوفة بالمدّ والهمز، وقرأ الباقون بالمدّ دون الهمز. واختلفوا في أصله فقال بعضهم: أصله أنتم والهاء تنبيها. وقال الأخفش: أصله أأنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم: هرقت وأرقت. هؤُلاءِ: مبني على الكسر، وأصله أولاء فدخلت عليه هاء التنبيه، وفيه لغتان: القصر والمد، ومن العرب من يعضها. أنشد أبو حازم «1» : لعمرك أنا والأحاليف هؤلا ... لفي محنة أطفالها لم تفطم «2» وهؤلاء ها هاهنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء. حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ: يعني في أمر محمد، لأنهم كانوا يعلمونه مما يجدون من نعته في كتابهم فحاجّوا به بالباطل. فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ: من حديث إبراهيم فليس في كتابكم أنّه كان يهوديا أو نصرانيا.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ: نزّه إبراهيم (عليه السلام) وبرّأه من ادعائهم فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً: فالحنيف الّذي يوحّد ويحج ويضحّي ويختن ويستقبل القبلة وهو أسهل الأديان وأحبّها إلى الله وأهله أكرم الخلق على الله. وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: قال ابن عباس: قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وأنّه كان يهوديا وما بك إلّا الحسد لنا، فأنزل الله هذه الآية «1» . روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويونس بن بكير عن محمد بن إسحاق رفعه. دخل حديث بعضهم في بعض. قالوا: لما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة، وقالوا: إنّ لنا في الّذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأرا بمن قتل منكم ببدر. فاجمعوا مالا وهدوه إلى النجاشي لعلّه يدفع إليكم من عنده من قومكم، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط بالهدايا، الأدم وغيره. فركبا البحر وأتيا الحبشة فلمّا دخلا على النجاشي سجدا له، وسلّما عليه وقالا له: إنّ قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبّون، وإنّهم بعثونا إليك لنحذّرك هؤلاء القوم الّذين قدموا عليك لأنّهم قوم رجل كذّاب خرج فينا فزعم أنّه رسول الله، ولم يبايعه أحد منّا إلا السفهاء وإنّا كنّا قد ضيّقنا عليهم الأمر. وألجأناهم إلى شعب أرضنا لا يدخل إليهم أحد. ولا يخرج منهم أحد. قد قتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليه الأمر. بعث إليك ابن عم له ليفسد عليك دينك وملكك ورعيّتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا: وآية ذلك أنّهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها النّاس رغبة عن دينك وسنّتك. قال: فدعاهم النّجاشي فلمّا حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب الله. فقال النّجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه. ففعل جعفر. فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمّته. فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه. فقال: ألا تسمع كيف يدخلون بحزب الله وما أجابهم النجاشي. فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له. فقال عمرو: ألا ترى إنّهم يستكبرون أن يسجدوا لك. فقال لهم النّجاشي: ما منعكم ألّا تسجدوا لي وتحيّوني بالتحيّة التي يحيّيني بها من أتى من الآفاق. قالوا: نسجد لله الّذي خلقك
وملكك- قال- وإنما كان للملك التحية لنا ونحن الأوثان. فبعث الله فينا نبيا صادقا، وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا. وهو السلام تحية أهل الجنّة. فعرف النّجاشي أن ذلك حق فيما جاء في التوراة والإنجيل. قال: أيّكم الهاتف: يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا. قال: تكلّم. قال: إنّك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحبّ أن أجيب عن أصحابي فمن هذين الرّجلين أن يتكلّم أحدهما وينصت الآخر. فتسمع محاورتنا. فقال عمرو لجعفر: تكلّم. فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين. أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنّا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم. فقال النجاشي: أعبيد هم يا عمرو أم أحرار؟ قال: لا، بل أحرار كرام. فقال النجاشي: نجّوا من العبودية، ثم قال جعفر: سلهما هل أهرقنا دما بغير حق؟ فاقتصّ منّا. فقال عمرو: لا ولا قطرة. فقال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال النّاس بغير حق فعلينا إيفاؤها. فقال النّجاشي: قل يا عمرو. وإن كان قنطارا. فعليّ قضاؤه قال: لا ولا قيراط. قال النّجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنّا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا، وتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره. ولزمناه نحن فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الّذي اتبعتموه؟ قال جعفر: أمّا الدين الذي كنّا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنّا نكفر بالله ونعبد الحجارة. وأما الذي تحولنا إليه فدين الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له. فقال النجاشي: يا جعفر تكلّمت بأمر عظيم فعلى رسلك. فأمر النجاشي فضرب بالناقوس. فاجتمع إليه كل قسّيس وراهب. فلمّا اجتمعوا عنده قال النّجاشي: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى. هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّا مرسلا؟ فقالوا: اللهم نعم. قد بشرّنا به عيسى (عليه السلام) فقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: هيه: أي هات ماذا يقول لكم هذا الرّجل؟ وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟ فقالوا: يقرأ علينا كتاب الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأمر بحسن الجوار، وصلة الرحم، ويأمر للوالدين واليتيم، ويأمر بأن نعبد الله وحده لا شريك له. فقال: اقرأ عليّ شيئا ممّا يقرأ عليكم. فقرأ عليهم سورة العنكبوت والرّوم. فغاضت أعين النّجاشي وأصحابه من الدمع. وقالوا: يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطّيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النّجاشي. فقال: إنّهم يشتمون عيسى وأمّه. فقال النّجاشي: ما تقولون في هذا؟ فقرأ جعفر عليهم سورة مريم فلمّا أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النّجاشي نفسه من سواكه قدر ما يقذي العين وقال: ما زاد المسيح على ما يقولون. ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون من سبّكم أو
آذاكم غرّم، ثم قال: أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم (عليه السلام) قال عمرو للنّجاشي: ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرّهط وصاحبهم الّذي جاءوا من عنده ومن اتبعه، ولكنّكم أنتم المشركون. ثم ردّ النّجاشي على عمرو وأصحابه المال الّذي حملوه، وقال: إنّما هديّتكم رشوة إلي. فاقبضوها، ولكنّ الله ملّكني ولم يأخذ مني رشوة. قال جعفر: فانصرفنا فكنّا في خير دار، وأكرم بلد وأنزل الله ذلك اليوم في خصومتهم على رسوله وهو في المدينة «1» إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ: على مثله. وَهذَا النَّبِيُّ: يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. روى مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لكلّ نبيّ ولاء من النبيّين وإنّ وليّي منهم أبي وخليل ربّي ثم قرأ الآية إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ ... » [60] . وَدَّتْ: تمنّت. طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.... الآية: نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمّار ابن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم، قد مضت هذه القصة في سورة البقرة. وَدَّتْ: تمنّت. طائِفَةٌ: جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود. لَوْ يُضِلُّونَكُمْ: يزلّونكم عن دينكم ويردّوكم إلى الكفر. وقال ابن جرير: يهلكونكم كقول الأخطل يهجو جرير بن عطية: كنت القذى في موج أكدر مزبد ... قذف الآتي به فضّل ضلالا «2» أي هلك هلاكا. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ. يا أَهْلَ الْكِتابِ: يعني اليهود والنّصارى. لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ: يعني القرآن وبيان نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: إنّ نعته مذكور في التوراة والإنجيل. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ: تخلطون الْحَقَّ بِالْباطِلِ: الإسلام باليهوديّة والنصرانيّة. وقال ابن زيد: التوراة الّتي أنزل الله على موسى بالباطل الّذي غيّرتموه، وحرّفتموه، وضيّعتموه، وكتبتموه بأيديكم.
وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: أنّ محمدا رسول الله ودينه حقّ. وقرأ أبو مجلز: تلبّسون بالتشديد. وقرأ حسن بن عمير: تلبسوا وتكتموا بغير نون ولا وجه له. وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا: الآية. قال الحسن والسّدي: تواطأ إثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عربية، وقال بعضهم لبعض: أدخلوا دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا آخر النهار وقولوا: إنّا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم، وقالوا: إنّهم أهل الكتاب وهم أعلم به منّا فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، وقالوا: إنّهم أهل. وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: هذا في تبيان القبلة لما صرفت إلى الكعبة. فشقّ ذلك على اليهود لمخالفتهم. فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالّذي أنزل على محمد من أمر الكعبة، وصلّوا إليها أول النّهار ثمّ اكفروا آخر النّهار، وارجعوا إلى قبلتكم الصّخرة لعلّهم يقولون أهل الكتاب هم أعلم منّا فيرجعون إلى قبلتنا، فحذّر الله نبيّه مكر هؤلاء وأطلعه على سرّهم. فأنزل: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ: أوّله وسمّي الوجه وجها لأنّه أحسنه، وأول ما يواجه به الناظر فيرى، ويقال لأول الشيب وجهه. قال الربيع بن زياد: من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار «1» وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ: يشكّون. يَرْجِعُونَ: عن دينهم. وَلا تُؤْمِنُوا: ولا تصدّقوا. إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ: هذا من كلام اليهود أيضا بعضهم لبعض ولا تؤمنوا ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم أي وافق ملّتكم وصلّى إلى قبلتكم واللام في قوله لِمَنْ: صلة. يعني ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم اليهوديّة كقول الله تعالى قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ «2» قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ الآية: اختلف القرّاء والعلماء فيه، فقرأت العامّة: أن يؤتى بالفتح من الألف وقصرها ووجه هذه القراءة إنّ هذا الكلام معترض بين
كلامين وهو خبر عن الله تعالى أنّ البيان وما يدلّ قوله قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ متصل بالكلام الأوّل إخبارا عن قول اليهود بعضهم لبعض، ومعنى الآية: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ، ولا تؤمنوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من العلم والحكمة والحجّة في المنّ والسلوى، وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات. ولا تؤمنوا أن يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لأنّكم أصحّ دينا منه، وهذا معنى قول مجاهد والأخفش. وقال ابن جريج وابن زيّاب: قالت اليهود لسفلتهم: لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ كراهية أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ وأيّ فضل يكون لكم عليهم حيث علموا ما علمتم وحينئذ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ: يقولون عرفتم أنّ ديننا حقّ فلا تصدّقوهم لئلّا يعلموا مثل ما علّمتم ولا يحاجّوكم عند ربكم، ويجوز أن يكون على هذا القول لا مضمرا كقوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «1» يكون تقديره وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ لئلّا يؤتى أحد من العلم مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ وألا يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ. وقرأ الحسن والأعمش: إن يؤتى بكسر الألف ووجه هذه القراءة إنّ هذا كلّه من قول الله بلا اعتراض وأن يكون كلام اليهود تاما عند قوله إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ومعنى الآية: قُلْ يا محمد إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى ما يؤتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا أمّة محمد أَوْ يُحاجُّوكُمْ، يعني إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم وقوله: عِنْدَ رَبِّكُمْ أي عند فضل ربّكم لكم ذلك ويكون (أنّ) على هذا القول بمعنى الجحد والنفي. وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن وأبي مالك ومقاتل والكلبي. وقال الفرّاء: ويجوز أن يكون (أو) بمعنى حتّى كما يقال: تعلّق به أو يعطيك حقّك أي حتى يعطيك حقّك. وقال امرؤ القيس: فقلت له لا تبك عينك «2» إنّما ... نحاول ملكا أو نموت فنعذرا «3» أي حتى نموت. والمعنى لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ما أعطى أحدا مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدّين والحجّة حتّى يحاجّوكم عند ربّكم. وقرأ ابن كثير: أن يؤتى بالمدّ وحينئذ يكون في الكلام إختيار تقديرها: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونهم ولا تؤمنون بهم وهذا قول قتادة والربيع.
وإلّا هذا من قول الله عز وجلّ: قُلْ لهم يا محمد إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ لما أنزل كتابا مثل كتابكم وبعث نبيّا مثل نبيّكم حسدتموه وكفرتم به. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الآية. قال أبو حاتم: إنّ معناه الآن فحذف لام الجزاء استخفافا وأبدلت مدّه كقراءة من قرأ: أَنْ كانَ ذا مالٍ أي الآن كان. وقوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ويكون أو بمعنى أن لأنّها حرفا شك وجزاء ويوضع أحدهما موضع الآخر وتقدير الآية: وإن يحاجّوكم يا معشر المؤمنين عند ربّكم فقل يا محمد: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ ونحن عليه. ويحتمل أن يكون الجميع خطابا للمؤمنين ويكون نظم الآية: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ يا معشر المؤمنين [فلا تشكّو عند تلبيس اليهود] «1» ف قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ. وإن حاجّوكم ف قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ. فهذه وجوه الآيات باختلاف القرآن. ويحتمل أن يكون تمام الخبر عن اليهود عند قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فيكون قوله وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ إلى آخر الآية من كلام الله عزّ وجلّ. وذلك إنّ الله تعالى مثبّت لقلوب المؤمنين ومشحذ لبصائرهم لئلّا يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم أي: ولا تصدّقوا يا معشر المؤمنين إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ولا تصدّقوا أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الدين والفضل، ولا تصدّقوا أن يُحاجُّوكُمْ في دينكم عِنْدَ رَبِّكُمْ فيقدرون على ذلك ف إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ: فتكون الآية كلّها خطاب الله عز وجلّ للمؤمنين عند تلبيس اليهود عليهم لئلّا يزلّوا ولا يرتابوا والله أعلم. يدل عليه قول الضحّاك قال: إنّ اليهود قالوا: إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في ديننا فبيّن الله تعالى أنّهم هم المدحضون أي المغلوبون، وإنّ المؤمنين هم الغالبون. وقال أهل الإشارة في هذه الآية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإنّ من لا يوافقكم لا يرافقكم. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ: بنبوّته ودينه ونعمته. مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ: وقال أبو حيّان: إجمال القول يبقى مع رجاء الرّاجي وخوف الخائف.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 إلى 85]
[سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 85] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: الآية: قال أكثر المفسّرين: نزلت هذه الآية في اليهود كلّهم، أخبر الله تعالى إنّ فيهم أمانة وخيانة. والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل. فإن قيل: فأيّ فائدة في هذه الأخبار وقد علمنا أنّ النّاس كلّهم لم يزالوا كذلك منهم الأمين ومنهم الخائن. قلنا: تحذير من الله تعالى للمؤمنين أن يأتمونهم على أموالهم أو يغترّوا بهم لاستحلالهم أموال المؤمنين. وهذا كما روي في الخبر: أتراعون عن ذكر الفاجر؟ اذكروه بما فيه كي يحذره النّاس. وقال بعضهم: الأمانة راجعة إلى من أسلم منهم، والخيانة راجعة إلى من لم يسلم منهم. وقال مقاتل: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من الذّهب فأدّاه إليه فمدحه الله. وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ: في مخاض بن عازورا وذلك أنّ رجلا من قريش استودعه دينارا فخانه.
وفي بعض التفاسير: إنّ الّذي يؤدّي الأمانة في هذه الآية هم النصارى، والذين لا يؤدّونه هم اليهود. وفي قوله تَأْمَنْهُ: قراءتان. قرأ الأشهب العقيلي: تيمنه بكسر التاء وهي لغة بكر وتميم، وفي حرف ابن مسعود ما لك لا تيمنّا. وقراءة العامّة تَأْمَنْهُ بالألف. والدينار أصله دنّار فعوّض من إحدى النّونين ياء طلبا للخفّة لكثرة استعماله، يدلّ عليه أنّك تجمعه دنانير. وفي قوله يُؤَدِّهِ وأخواته خمس قراءات. فقرأها كلّها أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة: ساكنة الهاء. وقرأ أبو جعفر ويعقوب: مختلسة مكسورة. وقرأ سلام: مضمومة مختلسة. وقرأ الزهري: مضمومة مشبعة. وقرأ الآخرون: مكسورة مشبعة فمن سكّن الهاء فإنّ كثيرا من النحاة خطّئوه، لأن الجزم ليس في الهاء إذا تحرك ما قبلها والهاء اسم المكنّى والأسماء لا تجزم. قال الفرّاء: هذا مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها فيقول: ضربته ضربا شديدا، كما يسكّنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع. وأنشد: لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع ... مال إلى أرطأة حقف «1» فاضطجع «2» وقال بعضهم: إنّما جاز إسكان الهاء في هذه المواضع لأنّها وضعت في موضع الجزم وهو الياء الذاهب، ومن اختلس فإنّه اكتفى بالضمّة عن الواو وبالكسر عن الياء وأنشد الفرّاء: أنا ابن كلاب وابن أوس ... فمن يكن قناعه مغطيّا فإنّي لمجتلى «3» وأنشد سيبويه: فإن يكن غثّا أو سمينا فإنّه ... سيجعل عينيه لنفسه مغمضا ومن أشبع الهاء فعلى الأصل لما كان الحرف ضعيفا قوي بالواو في الضم وبالياء في الكسر.
قال سيبويه: يجيء بعد هاء المذكّر واو كما يجيء بعد هاء المؤنّث ألف. ومن ضمّ الهاء فعلى الأصل لأنّ أصل الهاء الضمّة مثل هو، وهما وهم، ومن كسر فقال لأنّ قبله ياء وإن كان محذوفا فلأنّ ما قبلها مكسور. إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً: قرأ يحيى وثابت والأعمش وطلحة بكسر الدّال، والباقون بالضّم. من ضمّ فهو من دام. يدوم، ومن لغة العالية. ومن كسر فله وجهان، قال بعضهم: هو أيضا من دام يدوم إلا أنّه على وزن فعل. يفعل، يقول دمت تدوم مثل مت. تموت، قاله الأخفش. وليس في الأفعال الثلاثيّة فعل- يفعل بكسر العين في الماضي وضمّها في الغابر من الصحيح الآخر فإنّ فضل. يفضل، ونعم. ينعم، ومن المعتلّ متّ. أموت ودمت. أدوم وهما لغة تميم. قال أكثر العلماء: من كرام- يدام- فعل- يفعل مثل خاف- يخاف، وهاب يهاب. قائِماً: قال ابن عبّاس: ملحا. مجاهد: مواظبا. سعيد بن جبير: مرابطا. قتادة: قائما تقتضيه. السّدي: قائما على رأسه. العتيبي: مواظبا بالاقتضاء وأصله إنّ المطالب للشيء يقوم فيه والتّارك له يقعد عنه، ودلالة قوله: أُمَّةٌ قائِمَةٌ أي: عاملة بأمر الله غير تاركة. أبو روق: يعترف بما دفعت إليه ما دمت قائما على رأسه، فإن سألته إيّاه في الوقت حينما تدفعه إليه يردّه عليك وإن أنظرته وأخّرته أنكر وذهب به وذلك الاستحلال والخيانة. بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ: أي في حال العرب. نظيره هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «1» ... سَبِيلٌ: إثم وحرج. دليله قوله: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ «2» وذلك إنّ اليهود قالوا لا حرج علينا في حبس أموال العرب قد أحلّها الله لنا لأنّهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلّون ظلم من خالفهم في دينهم يقولون لم يجعل الله لهم في كتابنا حرمة. الكلبي: قالت اليهود إنّ الأموال كلّها كانت لنا فما كانت في أيدي العرب منها فهو لنا وإنّما ظلمونا وغصبونا ظلما فلا سبيل علينا في أخذنا إيّاه منهم.
الحسن وابن جريج ومقاتل: بايع اليهود رجالا من المسلمين في الجاهلية فلمّا أسلموا تقاضوهم بقيمة أموالهم فقالوا: ليس لكم علينا حقّ ولا عندنا قضاء لكم تركتم الدّين الذي كنتم عليه وانقطع العهد بيننا وبينكم، وادّعوا إنّهم وجدوا ذلك في كتابهم فكذّبهم الله تعالى فقال: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. وفي الحديث: لما نزلت الآية قال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنّها موفاة «1» إلى البرّ والفاجر» «2» [61] . وروى أبو إسحاق الهمداني عن صعصعة: إنّ رجلا سأل ابن عباس فقال: إنّا نصيب في الغزو من أموال أهل المدينة الدّجاجة أو الشاة قال ابن عبّاس: ويقولون ماذا قال: يقولون: ليس علينا بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «3» إنهم إذا أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ثمّ قال الله تعالى ردّا عليهم: بَلى: أي ليس كما قالوا ولكن مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ: الذي عاهد الله في التوراة من الإيمان بمحمّد والقرآن وأداء الأمانة. والهاء في قوله بِعَهْدِهِ راجعة إلى الله عزّ وجلّ قد جرى ذكره في قوله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. ويجوز أن تكون عائدة إلى أَوْفى. وَاتَّقى: من الكفر والخيانة ونقض العهد. فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ: من هذه صفته. وعن الحسن: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاثة من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وزعم أنّه مؤمن، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» [62] «4» . وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ائتمن على أمانة فأدّاها ولو شاء لم يؤدّها زوّجه الله من الحور العين ما شاء» [63] «5» . الحسن عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «التّاجر الصّدوق الأمين مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» [64] «6» . وهب عن حذيفة قال: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر،
حدّثنا: «إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجّال، ونزل القرآن فتعلّموا من القرآن وتعلّموا من أصل السّنة» [65] «1» . ثم حدّثنا عن رفعهما فقال: «ينام الرّجل النومة فينزع الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فتراه منتثرا وليس فيه شيء» . ثم أخذ حذيفة حصاة فدحرجها على ساقه قال: فيصبح النّاس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتّى يقال له: فلان رجلا أمينا، وحتّى يقال للرّجل: ما أجلده، ما أعقله، وأظرفه وما في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان. ولقد أتى عليّ حين ولا أبالي أيّكم بايعت لئن كان مسلما ليردّن على إسلامه ولئن كان يهوديا أو نصرانيا ليردّن على ساعيه فأنا اليوم فما كنت لأبايع رجلا منكم إلّا فلانا وفلانا «2» . وقيل: أكمل الدّيانة ترك الخيانة، وأعظم الجناية خيانة النّاس. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا: اختلفوا في نزول هذه الآية: فقال عكرمة: نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رئيس اليهود كتبوا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمّد صلى الله عليه وسلّم وبدّلوه وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا إنّه من عند الله لئلا يفوتهم الرّشى والمأكل التي كانت لهم على أتباعهم. وقال الكلبي: إنّ ناسا من علماء اليهود أولي فاقة كانوا ذوي حظ من علم التوراة فأصابهم سنة. فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه فسألهم كعب: هل تعلمون أنّ هذا الرّجل رسول الله في كتابكم؟ فقالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا. قالوا: فإنّا نشهد إنّه عبد الله ورسوله، قال كعب: قد كذبتم عليّ فأنا أريد أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيرا كثيرا. قالوا: فإنّه شبّه لنا. فرويدا حتى نلقاه. قال: فانطلقوا فكتبوا صفة سوى صفته، ثم أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلّم فكتموه ثم رجعوا إلى كعب، فقالوا: قد كنّا نرى رسول الله فأتيناه، فإذا هو ليس بالنعت الّذي نعت لنا وأخرجوا الّذي كتبوه. ففرح بذلك كعب، ومكرهم فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، نظيرها قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا «3» الآية. وروى منصور بن أبي وائل قال: قال عبد الله: من حلف على عين يستحقّ بها مالا وهو فيها فاجر لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان. فأنزل الله تعالى تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية. وقال الأشعث بن قيس: فيّ نزلت، وكانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «شاهداك أو يمينه» . فقلت: إنّه إذا يحلف ولا يبالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من حلف على عين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» [66] «1» . فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ... الآية. وقال ابن جريج: إنّ الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أرض كانت في يده لذلك ليعزّره في الجاهلية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أقم بيّنتك؟» . قال الرجل: ليس يشهد لي على الأشعث بن قيس أحد. قال: «لك يمينه» [67] . فقام الأشعث وقال: أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فردّ إليه أرضه وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة مخافة أن يبقى في يده شيء من حقّه فهو لعقب ذلك الرجل من بعده «2» . وروى بادان عن ابن عباس قال: نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي استعدى عليه عبدان بن أشرع فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحلف، فلمّا همّ أن يحلف نزلت هذه الآية. فامتنع امرئ القيس أن يحلف وأقرّ لعبدان بحقّه ودفعه إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لك عليها الجنّة. وقال مجاهد والشعبي: أقام رجلا سلعته أوّل النّهار فلمّا كان آخره جاء رجل فساومه فحلف لقد منعها أوّل النّهار من كذا ولولا المساء لما باعها به. فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ: أي يستبدلون بعهد الله وإيفاء الأمانة وَأَيْمانِهِمْ الكاذبة ثَمَناً قَلِيلًا. أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ: ونعيمها وثوابها وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ كلاما ينفعهم ويسرّهم. قاله المفسرون، وقال المفضل: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ: بقبول حجّة يحتجّون بها. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ: أي لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ولا يحسن إليهم ولا يكلمهم خيرا. يقال نظر فلان لفلان، ونظر إليه إذا رحمه وأحسن إليه. قال الشاعر: فقلت انظري ما أحسن النّاس كلّهم ... لبني غلّة صدبان قد شفّه الوجد وعن أبي عمرو الجوني قال: ما نظر الله إلى شيء إلا رحمه ولو قضى أن ينظر إلى [أهل] النّار لرحمهم، ولكن قضى أن لا ينظر إليهم. روى عبد الله بن كعب عن أبي أمامة الخازني: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النّار وحرّم عليه الجنّة» ، فقال رجل وإن كان شيئا يسيرا قال: «وإن كان قضيبا من أراك» [68] «3» .
وروى محمد بن زيد القرشي عن عبد الله بن أبي أمامة الخازني عن عبد الله بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس. والذي نفسي بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح بعوضة إلا كانت وكنة في قلبه إلى يوم القيامة» [69] «1» . وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: رجل على فضل ما بالطريق فمنع ابن السّبيل، ورجل بايع رجلا لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفي له وإلّا لم يف له، ورجل يساوم سلعته بعد العصر. فحلف بالله لقد أعطي بها كذا وكذا فصدّقه الآخر وأخذها. وروى الحارث الأعور عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم واليمين الفاجرة. فإنّها تدع الدّيار بلاقع من أهلها» [70] «2» . وروى معمّر في رجل من بني تميم عن أبي الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «اليمين الفاجرة تعقم الرحم» [71] «3» . العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب» [72] «4» . وَإِنَّ مِنْهُمْ: يعني من أهل الكتاب الذين تقدّم ذكرهم وهم اليهود. لَفَرِيقاً: طائفة وهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصّف، وحيي بن الأخطب، وأبو ياسر وحيي وسبعة بن عمرو الشاعر. يَلْوُونَ: قرأ أهل المدينة يُلَوُّونَ مضمومة الياء مفتوحة اللام مشدّدة الواو على التكثير. وقرأ حميد: يلون بواو واحدة على نية الهمز، ثم ترك الهمزة ونقل حركتها إلى اللام. وقرأ الباقون بواوين ولام ساكنة مخففة ومعناها جميعا يعطفون أَلْسِنَتَهُمْ: بالتحريف المتعنّت وهو ما غيّروا من صفة محمد صلى الله عليه وسلّم وآية الرّجم. يقال: لوى لسانه عن كذا أي غيّره، ولوى الشيء عمّا كان عليه إذا غيّره إلى غيره، ولوى فلانا عن رأيه، إذا أماله عنه، ومنه: ليّ الغريم، قال النابغة الجعدي:
لوى الله علم الغيب عم سواءه ... ويعلم منه ما مضى وتأخرا «1» ونظيره قوله: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ... الآية. لِتَحْسَبُوهُ: لتظنّوا ما حرّفوا مِنَ الْكِتابِ: الذي أنزله الله. وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ... وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ: إنّهم كاذبون. وروى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: إنّ الآية نزلت في اليهود والنّصارى جميعا والذين هم حرّفوا التوراة والإنجيل، وضربوا كتاب الله بعضه ببعض وألحقوا به ما ليس منه فأسقطوا منه الدين الحنفي، فبيّن الله تعالى كذبهم للمؤمنين. ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ الآية. قال الضحّاك ومقاتل: ما كانَ لِبَشَرٍ يعني عيسى (عليه السلام) أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ يؤتى الحكمة. نزلت في نصارى أهل نجران. وقال ابن عباس وعطاء: ما كانَ لِبَشَرٍ يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ: يعني القرآن وذلك أنّ أبا رافع القرظي من اليهود والرئيس من نصارى أهل نجران قالا: يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» [73] «2» . فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الحسن: بلغني أنّ رجلا قال: يا رسول الله نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحق لأهله» [74] «3» . فأنزل الله ما كانَ لِبَشَرٍ: يعني ما ينبغي لبشر ، كقوله وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً «4» وكقوله ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا «5» : يعني ما ينبغي. وقال أهل المعاني: هذه اللام منقولة وأن بمعنى اللام، وتقدير الآية: ما كان لبشر ليقول ذلك. نظير قوله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ «6» : أي ما كان الله ليتخذ ولدا وقوله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «7» أي ما كان لنبىّ ليغلّ. والبشر جميع بني آدم لا واحد من لفظه: كالقوم والجيش، ويوضع موضع الواحد والجمع.
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ: يعني الفهم والعلم، وقيل أيضا الأحكام عن الله تعالى، نظير قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ «1» . ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ: نصب على العطف، وروى محبوب عن أبي عمرو: ثمّ يقولُ بالرفع على الاستئناف. كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ: قال ابن عباس: هذه لغة مزينة تقول للعبيد عباد. وَلكِنْ كُونُوا: أي ولكن يقول كونوا، فحذف القول. رَبَّانِيِّينَ: اختلفوا فيه: فقال عليّ وابن عباس والحسن والضحّاك: كونوا فقهاء علماء. مجاهد: فقهاء وهم دون الأحبار. أبو رزين وقتادة والسّدّي: حكماء علماء، وهي رواية عطية عن ابن عباس. وروى سعيد بن جبير عنه: فقهاء معلّمين. وقال مرّة بن شرحبيل: كان علقمة من الرّبانيّين الذين يعلّمون النّاس القرآن. وروى الفضل بن عياض عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: حكماء أتقياء. ابن زيد: ولاة النّاس، وقادتهم بعضهم متعبدين مخلصين. عطاء: علماء حكماء نصبا لله في خلقه. أبو عبيد: لم يعرف العرب الرّبانيّين. أبو [عبيد] : سمعت رجلا عالما يقول: الرّباني: العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي. العارف بأنباء الأمّة وما كان وما يكون. المؤرّخ: كونوا ربّانيّين تدينون لربّكم، كأنّه فعلاني من الربوبية. وقال بعضهم: كان في الأصل ربّي، فأدخلت الألف للتضخيم وهو لسان السريّانية، ثم أدخلت النون لسكون الألف كما قيل: صنعاني وبحراني وداراني. المبّرد: الرّبانيون: أرباب العلم واحدها ربّان وهو الذي يرث العلم ويربّب النّاس أي يعلّمهم ويصلحهم فيقوم بأمرهم، والألف والنون للمبالغة. كما قالوا: ريّان وعطشان وشبعان وغوثان ونعسان من النّعاس ووسنان ثم ضمّ إليه ياء النسبة كما قيل. وقال الشاعر: لو كنت مرتهنا في الحقّ أنزلني ... منه الحديث وربّاني أحباري «2» وقد جمع علي (رضي الله عنه) هذه الأقاويل أجمع فقال: هو الّذي يربى علمه بعمله. وقال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس: مات ربّاني هذه الأمّة.
بِما كُنْتُمْ: معناه الوجوب أي: بما أنتم. كقوله وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً «1» : أي وامرأتي، وقوله مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «2» أي من هو في المهد صبيّا. تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ: قرأ السلمي والنخعي وابن جبير والضحّاك وأهل الكوفة: تُعَلِّمُونَ بالتشديد من التعليم، واختاره أبو عبيدة، وقرأ الباقون تعلمون بالتخفيف من العلم، واختاره أبو حاتم، وقال أبو عمرو: وتصديقها وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ فلم يقل يدرسون وقرأ الحسن تُعَلِّمُونَ، التاء والعين وتشديد اللام على معنى تعلمون، وقرأ أبو عبيدة: تُدْرِسُونَ من أدرس يدرس. وقرأ سعيد بن جبير: تُدَرِّسُونَ من التدريس. الباقون: يدرسون من الدرس أي يقرءون، نظيره في سورة الأعراف وَدَرَسُوا ما فِيهِ «3» . جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حرّ ولا عبد مملوك إلّا ولله عزّ وجلّ عليه حقّ واجب أن يتعلّم من القرآن ويتفقّه فيه، ثم تلا هذه الآية وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» «4» . وَلا يَأْمُرَكُمْ: قرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة: وَلا يَأْمُرَكُمْ بالنصب عطفا على قوله ثُمَّ يَقُولَ. وقيل: على إضمار أنّ وهو على هذه القراءة مردود على البشر. وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف والانقطاع من الكلام الأوّل، يدلّ عليه قراءة عبد الله وطلحة ولن يأمركم ثمّ اختلفوا فيه، فقرأ الأكثر على معناه وَلا يَأْمُرَكُمْ الله. وقال ابن جريح: وَلا يَأْمُرَكُمْ محمد عليه الصّلاة والسّلام، وقيل: وَلا يَأْمُرَكُمْ البشر. أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً: كقول قريش وبني مليح حيث قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود والنّصارى حيث قالوا في المسيح وعزير ما قالوا. أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: على ظهر التعجّب والإنكار، يعني: لا يفعل هذا. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ، قرأ سعيد بن جبير لَمَّا بتشديد الميم، وقرأ يحيى بن رئاب والأعمش وحمزة والكسائي بجرّ اللام وتخفيف الميم. وأما الباقون: بفتح اللام وتخفيف الميم، فمن فتح اللام وخفّف الميم فقال الأخفش: هي
لام الابتداء أدخلت على ما الخبر كقول القائل: لزيد أفضل منك، وما آتيتكم والذي بعده صلة له وجوابه في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ فإن شئت جعلت خبر ما. من كتاب الله. وتقول من زائدة معناها: لما آتيتكم كتاب وحكمة، ثم ابتدأ فقال: ثُمَّ يعني: ثم يجيئكم، وإن شئت قلت: ثم أن جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ: اللام لام القسم تقديره: والله لتؤمننّ به. فأكّد في أول الكلام بلام التأكيد، وفي آخر الكلام بلام القسم. وقال الفرّاء: من فتح اللام جعلها لاما زائدة لقوله: اليمين إذا وقعت على جملة صيّرت فعل ذلك الجزاء على هيئة فعل، وصيّرت جوابه كجواب اليمين، والمعنى: أي كتاب آتيتكم ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به، للّام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ. وقال المبرّد والزجّاج: هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء كما تدخل على أن، ومعناه: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ، اللام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ جواب الجزاء كقوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ «1» ونحوه. وقال الكسائي: لَتُؤْمِنُنَّ: متصل بالكلام الأول وجواب الجزاء في قوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ، ومن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الذي، ومعناه: الذي آتيتكم يعني: أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي أمامهم من كتاب وحكمة ثم أن جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ من بعد الميثاق لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف، وهو كما نقول في الكلام أخذت ميثاقك لتفعلن كذا وكذا كأنك قلت: استحلفتك لتفعلن. وقال صاحب النظم: من كسر اللام فهو بمعنى بعد يعني: بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة، كقول النابغة: توهّمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع «2» أي: بعد ستة أعوام، ومن شدد الميم فمعناه: حين آتيتكم لقوله تعالى آتَيْتُكُمْ. قرأ أهل الكوفة: آتيناكم على التعظيم، وقرأ الآخرون: آتَيْتُكُمْ على التفريد، وهو الاختيار لموافقة الخط كقوله: وَأَنَا مَعَكُمْ «3» والقول مثمر في الآية على الأوجه الثلاثة تقديرها: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) . واختلف المفسّرون في معنى هذه الآية، فقال قوم: إنّما أخذ الميثاق على الأنبياء أن
يصدق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، فذلك معنى آخر بالتصديق، وهذا قول سعيد بن جبير وطاوس وقتادة والحسن والسدّي، يدل عليه ظاهر الآية، وقال علي (رضي الله عنه) : لم يبعث الله نبيا. آدم ومن بعده. إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بأخذ العهد على قومه لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه ، وقال آخرون: إنّما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين، وهو قول مجاهد والربيع. قال مجاهد: هذا خلط من الكتاب وهو من قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، قالوا: ألا ترى إلى قوله ثم جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وإنّما كان محمد صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين. وقال بعضهم: إنّما أخذ الميثاق على النبيين وأممهم [ليؤمنن به] ، ففرد الأنبياء عن ذكر الأمم لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على الأتباع، وهذا معنى قول ابن عباس وهذا أولى بالصواب. قال الله: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي وقبلتم على ذلك عهدي، نظير قوله تعالى: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ «1» أي فاقبلوه، وقوله تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي لا يقبل منها فداء، وقوله: يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يقبلها، قالُوا أَقْرَرْنا. قال الله: فَاشْهَدُوا على أنفسكم وعلى أتباعكم وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ عليكم وعليهم. قال ابن عباس: فَاشْهَدُوا: يعني فاعلموا، قال الزجّاج: فَاشْهَدُوا أي فبيّنوا لأن الشاهد هو الذي عين دعوى المدّعى، وشهادة الله للنبيين بيّنوا أمر نبوتهم بالآيات والمعجزات، وقال سعيد بن المسيب: قال الله تعالى للملائكة: فَاشْهَدُوا عليهم، فتكون كناية عن غير مذكور. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الإقرار والإشهاد فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ العاصون، الخارجون عن الإيمان. أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ الآية. قال ابن عباس: اختصم أهل الكتاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم (عليه السلام) كل فرقة زعمت أنّه أولى بدينه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وهو قراءة الحسن وحميد ويعقوب وسلام وسهل وصفوان بالياء لقوله: فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
، وقرأ أبو عمرو: يَبْغُونَ بالياء وترجعون بالتاء، قال: لأن الأول خاص والثاني عام ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى، وقرأ الباقون: بالتاء فيهما على الخطاب لقوله: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ. وَلَهُ أَسْلَمَ خضع وانقاد من في السموات والأرض طَوْعاً والطوع الانقياد والاتباع بسهولة من قولهم: فرس طوع العنان، أي منقاد وَكَرْهاً والكره: ما كان بمشقة وإباء من النفس، كرها بضم الكاف وهما مصدران وضعا موضع الحال، كأنّه قال: وله أسلم من في السموات والأرض طائعين وكارهين، واختلفوا في قوله طَوْعاً وَكَرْهاً، فروى أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً قال: «الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض» [75] «1» . وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا أصحابي فإنّ أصحابي أسلموا من خوف الله، وأسلم الناس من خوف السيف» [76] «2» . وقال الحسن والمفضّل: الطوع لأهل السموات خاصة، وأهل الأرض منهم من أسلم طوعا ومنهم من أسلم كرها. ابن عباس: عبادتهم لله أجمعين طوعا وكرها وانقيادا له. الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً قال: كل بني آدم أقرّ على نفسه أنّ الله ربّي وأنا عبده، فهذا الإسلام لو استقام عليه، فلمّا تكلّم به صار حجة عليه، ثم أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومنهم من شهد أنّ الله ربّي وأنا عبده، ثم أخلص العبودية فهذا الذي أسلم طوعا، وقال الضحّاك: هذا حين أخذ منه الميثاق وأقرّ به. مجاهد: طَوْعاً: ظل المؤمن وَكَرْهاً: ظل الكافر، يدلّ عليه قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ «3» ، وقوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ «4» . الشعبي: هو استعاذتهم به عند اضطرارهم، يدلّ عليه قوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «5» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 86 إلى 92]
قتادة: المؤمن أسلم طائعا والكافر كارها فإما المؤمن فأسلم طائعا فنفعه ذلك وقبل منه، وأما الكافر فأسلم كارها في وقت البأس والمعاينة حتى لا يقبل منه ولا ينفعه، يدل عليه قوله: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا «1» . الكلبي: طَوْعاً: الذين ولدوا في الإسلام، وَكَرْهاً: الذين أجبروا على الإسلام. عكرمة: وَكَرْهاً: من اضطرته [الحجة] إلى التوحيد، يدلّ عليه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «2» ، وقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3» . ابن كيسان: وَلَهُ أَسْلَمَ أي خضع مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيما صيّرهم عليه وصوّرهم فيه وما يحدث فهم لا يمتنعون عليه، كرهوا ذلك أو أحبوه. وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «4» الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا فليقرأ في أذنها هذه الآية. قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ إلى قوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية نزلت في اثني عشر رجلا ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة ولحقوا بمكة كفارا منهم: الحرث بن سويد الأنصاري أخو الحلاس بن سويد، وطعمة بن أشرف الأنصاري، ومقيس بن صبابة الليثي، وعبد الله بن أنس بن خطل من بني تميم بن مرة، ووجوج بن الأسلت، وأبو عاصم بن النعمان، فأنزل الله فيهم: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ. [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 92] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ: لفظه استفهام ومعناه جحد، أي لا يهدي الله. قال الشاعر: كيف نومي على الفراش ولمّا ... تشمل الشام غارة شعواء «1» أي لا نوم لي، نظير قوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ «2» : أي لا يكون لهم عهد، وقيل: معناه كيف يستحقون العبادة؟ وقيل: معناه كيف يهديهم الله للمغفرة إلى الجنّة والثواب؟ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «3» أي لا يرشدهم ولا يوفقهم، وهو خاص فيمن علم الله عز وجل منهم، وأراد ذلك منهم، وقيل: معناه: لا يثيبهم ولا ينجيهم [إلى الجنة] . أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ ... «4» إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وذلك أنّ الحرث بن سويد لما لحق بالكفار ندم، فأرسل إلى قومه أن اسألوا رسول الله هل له من توبة؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «5» لما كان، فحملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه، فقال الحرث: إنّك والله ما علمت لصدوق، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصدق منك، وأنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة، فرجع الحرث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه. وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه ولحق بالروم فتنصّر، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً.... قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني: نزلت هذه الآية في اليهود، كَفَرُوا بعيسى (عليه السلام) والإنجيل بَعْدَ إِيمانِهِمْ بأنبيائهم وكتبهم، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. أبو العالية: نزلت في اليهود والنصارى، كَفَرُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لما رأوه وعرفوه بَعْدَ إِيمانِهِمْ بنعته وصفته في كتبهم، ثُمَّ ازْدادُوا ذنوبا في حال كفرهم. مجاهد: نزلت في الكفار كلهم، أشركوا بعد إقرارهم بأنّ الله خالقهم، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه. الحسن: كلّما نزلت عليم آية كفروا بها فازدادوا كفرا. قطرب: كما ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد رَيْبَ الْمَنُونِ.
الكلبي: نزلت في أحد عشر أصحاب الحرث بن سويد، لما رجع الحرث قالوا: نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا، فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا، فينزل فينا ما نزل في الحرث، فلمّا فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلت توبته، فنزل فيمن مات منهم كافرا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية، فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وقد سبقت حكمة الله تعالى في قبول توبة من تاب؟ قلنا: اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: لن يقبل توبتهم عند الغرغرة والحشرجة. قال الحسن وقتادة وعطاء: لن يقبل توبتهم لأنّهم لا يؤمنون إلّا عند حضور الموت، قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ... الآية. مجاهد: لن يقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر. ابن عباس وأبو العالية: لن يقبل توبتهم ما أقاموا على كفرهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً أي حشوها، وقدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها ذهبا، نصب على التفسير في قول الفراء. وقال المفضّل: ومعنى التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم، كقولك: عندي عشرون، فالعدد معلوم والمعدود مبهم، وإذا قلت: عشرون درهما فسّرت العدد، وكذلك إذا قلت: هو أحسن الناس، فقد أخبرت عن حسنه ولم تبين في أي شيء هو، فإذا قلت: وجها أو فعلا منه فإنّك بيّنته ونصبته على التفسير، وإنّما نصبته لأنّه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، فلمّا خلا من هذين نصب لأنّ النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه، وقال الكسائي: نصب ذهبا على إضمار من، أي من ذهب كقولهم: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي من صيام. وَلَوِ افْتَدى بِهِ: روى قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم، فيقال لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك» [77] «1» ، قال الله: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ «2» . لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ: يعني الجنّة، قاله ابن عباس ومجاهد وعمر بن ميمون والسدّي، وقال عطية: يعني الطاعة. أبو روق: يعني الخير، مقاتل بن حيان: التقوى، الحسن: لن يكونوا أبرارا.
حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ: أي مما تهوون ويعجبكم من كرائم أموالكم وأحبّها إليكم طيّبة بها أنفسكم، صغيرة في أعينكم. مجاهد والكلبي: هذه الآية منسوخة، نسختها آية الزكاة. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: أراد بهذه الآية الزكاة يعني: حتى تخرجوا زكاة أموالكم، وقال عطاء: لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحّاء أشحّاء، تأملون العيش، وتخشون الفقر، وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله يبتغي به وجه الله تعالى فإنّه من الذي عنى الله سبحانه بقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ حتى التمرة. وروي أنّ أبا طلحة الأنصاري كان من أكثر الأنصار نخلا بالمدينة، وكان أحب أمواله إليه بئر ماء «1» ، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلمّا نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إنّ الله يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإنّ أحبّ أموالي إليّ بئر ماء وإنّها صدقة أرجو برّها وذخرها عند الله عز وجل، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بخ بخ، ذلك مال رابح لك وقد عرفت «2» ما قلت، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين» [78] «3» . فقال له: أفعل يا رسول الله، فقسّمها في أقاربه وبني عمّه. وروى معمّر عن أيوب وغيره قال: لما نزلت: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ جاء زيد بن حارثة بفرس كانت له يحبّها وقال: هذه في سبيل الله، فحمل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد. فكان زيدا واجدا في نفسه وقال: إنّما أردت أن أتصدق به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إنّ الله قد قبلها منك» [79] «4» . وقال حوشب: لمّا نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ قالت امرأة لجارية لها لا تملك غيرها: أعتقك وتقيمين معي غير أنّي لست أشرط عليك ذلك، فقالت: نعم، فلمّا أعتقتها ذهبت وتركتها فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته به فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دعيها فقد حجبتك عن النار، وإذا سمعت بسبيي قد جاءني فأتيني» [80] . وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قالوا: كتب عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) أن يبتاع جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فقال سعد بن أبي وقاص: فدعا بها
عمر فأعجبته فقال: إنّ الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فأعتقها. وروى حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال: خطرت على قلبي هذه الآية: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ ... فتذكرت ما أعطاني الله، فما كان شيء أعجب إليّ من فلانة فقلت: هي حرة لوجه الله، ولولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله عز وجل لنكحتها. ويقال: ضاف أبا ذر الغفاري ضيف فقال للضيف: إنّي مشغول فاخرج إلى أبواء فإنّ لي بها إبلا فأتني بخيرها، فذهب وجاء بناقة مهزولة فقال له أبو ذر: جئتني بشرها، فقال: وجدت خير الإبل فحلها فتذكرت يوم حاجتكم إليه، فقال أبو ذر: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي مع أنّ الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ. وعن رجل من بني سليم يقال له عبد الله بن سيدان عن أبي ذر قال: في المال ثلاث شركاء: القدر لا يستأمرك أن تذهب بخيرها أو شرها من هلاك أو موت أو فعل، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم، والثالث أنت فإن استطعت أن لا يكون أعجب إليك مالا فإنّ الله عز وجل يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإنّ هذا الجمل كان مما أحب من مالي فأحببت أن أقدّمه لنفسي. وروي عن ربيع بن خيثم أنّه وقف سائل على بابه، فقال: أطعموه سكرا فقيل: ما يصنع هذا بالسكّر فنطعمه خبزا فهو أنفع له، فقال: ويحكم أطعموه سكّرا فإنّ الربيع يحب السكّر. وروي عن الربيع بن خيثم أيضا أنّه جاءه سائل في ليلة باردة، فخرج إليه فرآه كأنّه مقرور قال: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فنزع برتشا له وأعطاه إياه وذكر أنّه كساه عروة. وبلغنا أن زبيدة أم جعفر اتخذت مصحفا في تسعين قطعة كتب بالذهب على الرق وجعلت ظهورها من الذهب مرصعة بالجواهر، فبينما هي تقرأ القرآن ذات يوم فقرأت هذه الآية، فلم يكن شيء أحبّ إليها من المصحف، فقالت: عليّ بالصاغة، فأمرت بالذهب والجواهر حتى بيعت وأمرت حتى حفرت الآبار وأشرف الحياض بالبادية. وقال أبو بكر الورّاق: دلّهم بهذه الآية على الفتوة، وقال: لن تنالوا برّي بكم إلّا ببرّكم إخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم وما تحبّون، فإذا فعلتم ذلك نالكم برّي وعطفي. وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ: أي فإنّ الله يجازي عليه لأنّه إذا علمه جازى عليه، وتأويل (ما) تأويل الشرط والجزاء وموضعها نصب لينفقوا، المعنى: وأي شيء ينفقون فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 إلى 103]
[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 103] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ الآية. قال أبو روق والكلبي: كان هذا حين قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أنا على ملة إبراهيم» . فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه» [81] «1» فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرّمه فإنّه كان محرّما على نوح وإبراهيم هاجرا حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم: كُلُّ الطَّعامِ المحلل لكم اليوم كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ. إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ وهو يعقوب عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ. واختلف المفسّرون في ذلك الطعام، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وأبو مجلز: هي العروق وكان [سبب] ذلك أنّ يعقوب (عليه السلام) اشتكى عرق النساء، وكان أصل وجعه ذلك، ما روى جويبر ومقاتل عن الضحاك أنّ يعقوب بن إسحاق كان قد نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم، فتلقّاه ملك من الملائكة فقال له: يا يعقوب إنّك رجل قوي، هل لك في الصراع؟ فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه، ثم غمزه الملك غمزة فعرض له عرق النساء من ذلك، ثم قال: أما أنّي لو شئت أن أصرعك لفعلت، ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنّك قد كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحا ذبحت آخر ولدك، وجعل الله لك بهذه الغمزة مخرجا، فلمّا قدمها يعقوب أراد ذبح ابنه ونسي قول الملك، فأتاه الملك فقال: أنا غمزتك هذه الغمزة للمخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب (عليه السلام) من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيص وكان رجلا بطّيشا قويا، فلقيه ملك فظنّ [يعقوب] أنّه لصّ فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب ثم صعد إلى السماء ويعقوب ينظر إليه، فهاج به عرق النساء ولقي من ذلك بلاء شديدا وكان لا ينام بالليل من الوجع [ويبيت] وله زقاء أي صياح، فحلف يعقوب (عليه السلام) لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقا ولا طعاما فيه عرق، فحرّمها على نفسه فجعل بنوه يبتغون العروق يخرجونها من اللحم «1» ، وقال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي: كان ذلك لحمان الإبل وألبانها. وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس أن عصابة حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشهدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه عليه، فنذر لله لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحبّ الطعام والشراب إلى نفسه، وكان أحبّ الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها» [82] «2» فقالوا: اللهم نعم. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أصاب يعقوب عرق النساء ووصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل، فحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل، فقالت اليهود: إنّا حرّمنا على أنفسنا لحوم الإبل لأنّ يعقوب حرّمها وأنزل الله تحريمها في التوراة فأنزل الله هذه الآية. وقال الحسن: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ لحوم الجزور تعبدا لله عز وجل فسأل ربّه عز وجل أن يجيز له ذلك، فحرّمه الله على ولده، وقال عكرمة: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ زائدة الكبد والكليتين والشحم إلّا ما على الظهور، وروى ليث عن مجاهد قال: حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ لحوم الأنعام ثم اختلفوا في هذا الطعام المحرّم على إسرائيل بعد نزول التوراة، وقال السدي: إنّ الله لما أنزل التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمونها قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب (عليه السلام) ، وقال عطية: إنّما كان ذلك حراما عليهم لتحريم إسرائيل ذلك عليهم وذلك أنّ إسرائيل قال حين أصابه عرق النساء: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد، ولم يكن ذلك محرّما عليهم في التوراة. وقال الكلبي: لم يحرّمه الله عليهم في التوراة وإنّما حرّم عليهم بعد التوراة لظلمهم وكفرهم، وكان بنو إسرائيل كلما أصابوا ذنبا عظيما حرّم الله عليهم طعاما طيبا، أو صبّ عليهم
رجزا وهو الموت، وذلك قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1» ، وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ إلى قوله وَإِنَّا لَصادِقُونَ «2» . وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك علينا حراما، ولا حرّم الله عليهم في التوراة وإنّما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتّباعا لأبيهم، وأضافوا تحريمه إلى الله فكذّبهم الله تعالى فقال: قُلْ لهم يا محمد فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها حتى يتبين أنّه كما يقول لا كما قلتم، فلم يأتوا، فقال الله فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «3» . وروى أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عرق النساء يأخذ أليّة كبش عربي لا صغير ولا كبير فيقطع صغارا فيخرج أهالته فيخرج على ثلاث قسم، ويأكل كل يوم على ريق النفس «4» ، قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة فشفاهم الله «5» . وروى شعبة أنّه رأى شيخا في زمن الحجاج بن يوسف يقول لعرق النساء: أقسم عليك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينّك بنار أو لألحقنك بموسى، قال شعبة: فإنّه يقول ذلك ويمسح على ذلك الموضع فيبرأ بإذن الله. قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ الآية. قال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقال اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنّها مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وقرأ ابن السميقع: وَضَعَ بفتح الواو والضاد يعني وضعه الله لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وليس ذلك في بيت المقدس وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وليس ذلك في بيت المقدس وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وليس ذلك في بيت المقدس. واختلف العلماء في تأويل قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ فقال بعضهم: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند ما خلق الله السماء والأرض فخلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الأرض فدحيت الأرض من تحتها، هذا قول عبد الله بن عمرو ومجاهد وقتادة والسدي.
وقال بعضهم: هو أوّل بيت وضع: بني في الأرض، يروى أنّ علي بن الحسين سئل عن بدء الطوفان، فقال: إنّ الله تعالى وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور الذي ذكره الله، وقال للملائكة: طوفوا به ودعوا العرش، فطافت الملائكة به وتركوا العرش، وكان أهون عليهم، ثم أمر الله الملائكة الذين يسكنون في الأرض أن يبنوا له في الأرض بيتا على مثاله وقدره، فبنوا، واسمه الضراح، وأمر من في الأرض من خلقه أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. وقيل: هو أول بيت بناه آدم في الأرض، قاله ابن عباس. وقال الضحاك: إنّ أول بيت وضع فيه البركة وأحسن من الفردوس الأعلى. وروى سماك عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي (رضي الله عنه) فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت كان في الأرض؟ قال: لا، فأين كان قوم نوح وعاد وثمود، ولكنه أول بيت مبارك وهدى وُضِعَ لِلنَّاسِ. وقيل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ يحج إليه لله، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقيل: هو أول بيت جعل قبلة للناس. وقال الحسن والكلبي والفراء: معناه: إن أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه، يدل عليه قوله: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «1» يعني مساجدهم وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً، وقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ «2» يعني المساجد. إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه سئل عن أول مسجد وُضِعَ لِلنَّاسِ، قال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس» [83] «3» ، وسئل: كم بينهما قال: أربعون عاما حيث ما أدركتك الصلاة فصلّ فثم سجد للذي ببكة. قال الضحاك والمدرج: هي مكة، والعرب تعاقب بين الباء والميم، فتقول: سبد رأسه وسمد، واغبطت عليه الحمى واغمطت، وضربة لازم ولازب. وقال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة: بكة: المسجد والبيت، ومكة: الحرم كله. وقال الآخرون: مكة اسم البلد كله، وبكة موضع البيت والمطاف، وسمّيت بكة لأن الناس يتباكون فيها: أي يزدحمون، يبكي بعضهم بعضا، ويصلي بعضهم بين يدي بعض، ويمر بعضهم بين يدي بعض، لا يصلح ذلك إلّا بمكة.
قال الراجز: إذا الشريب أخذته أكه ... فخلّه حتى يبك بكه «1» قال عطاء: مرّت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت فدفعها، فقال أبو جعفر الباقر: إنّها بكة يبك بعضهم بعضا. وقال عبد الرحمن بن الزبير: سميت بكة لأنّها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها، فلم يقصدها جبار يطلبها إلّا وقصمه الله، وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول العرب: مكت الفصيل ضرع أمّه وامتكّه إذا امتص كل ما فيه من اللبن، قال الشاعر: مكّت فلم تبق في أجوافها دررا «2» عن الحسين عن ابن عباس قال: ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدة ترفع فيها الحسنات بكل واحدة مائة ألف ما يرفع بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض يكتب لمن صلّى فيها ركعة واحدة بمائة ألف ركعة ما يكتب بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يكتب لمن تصدّق فيها بدرهم] واحد يكتب له مائة ألف درهم ما يكتب بمكة، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يكتب] لمن فيها شراب الأحبار ومصلى الأخيار إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ما مس شيئا أحد فيها إلّا كانت تكفير الخطايا إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة إذا دعا فيها آمن له الملائكة فيقولون: آمين آمين ليس إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة [.......] «3» إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة يكتب لمن نظر إلى الكعبة من غير طواف ولا صلاة عبادة الدهر وصيام الدهر إلّا بمكة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ورد إليها جميع النبيين [ما قد] صدر إلى مكة، وما أعلم بلدة يحشر فيها من الأنبياء والأبرار والفقهاء والعباد من الرجال والنساء ما يحشرون من مكة أي يحشرون وهم آمنون يوم القيامة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كل يوم من روح الجنّة ورائحتها ما ينزل بمكة حرسها الله «4» . مُبارَكاً: نصب على الحال وَهُدىً لِلْعالَمِينَ: لأنه قبلة المؤمنين فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ: قرأ ابن عباس: آية بينة. مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [.......] «5»
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً. [حدثنا ابن حميد قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله المزني عن أبي عبد الرحمن بن عسيلة الضابحى عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشّيتم شيئا من ذلك] «1» . فأخذتم [بحدّه] في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذّبكم وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، فلمّا انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ، وكان أول مقرئ بالمدينة، وكان منزله على أسعد بن زرارة، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا فازجرهما، فإنّ أسعد ابن خالتي، ولولا ذاك لكفيتك، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني الأشهل، وكلاهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حرسه ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في حائط، فلمّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيّد قومه قد جاءك والله، فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس نكلّمه، قال: فوقف عليهما مشتّما، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفّهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكرهه، قال: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلّمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. قال: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهّله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتطهّر ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهّر ثوبه، وشهد بشهادة الحق، ثم قام وصلّى ركعتين، ثم قال لهما: إنّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلمّا نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم، فلمّا وقف على
النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلّمت الرجلين، فو الله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما، فقالا: لا نفعل إلّا ما أحببت. وفي الحديث أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنّهم عرفوا أنّه ابن خالتك ليحقروك، فقام سعد مغضبا مبادرا للذي ذكره له، فأخذ الحربة منه، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا، فلمّا رآهما مطمئنين عرف أنّ أسيدا إنّما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما مشتّما ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره، وقد قال لمصعب: جاءك والله سيد قومه إن تبعك لم يخالفك منهم أحد، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته قد كفاك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم في إشراقه وتسهّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهّر ثوبك وتشهد بشهادة الحق، ثم تصلّي ركعتين، فقام فاغتسل فطهّر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلمّا رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلمّا وقف عليه قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلّا مسلما ومسلمة ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسيد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلّا وفيها رجال ونساء من المسلمين إلّا ما كان من بني أمية بن زيد وحطمة ووائل وواقف [وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة وذلك أنه] «1» كان فيهم أبو قيس الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا: إنّ مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية. قال كعب بن مالك- وكان شهد ذلك-: فلمّا فرغا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه، فكنّا نكتم عمّن معنا من المشركين من قومنا أمرنا، وكلّمناه وقلنا له: يا جابر إنّك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنّك ترغب بك عمّا أنت فيه أن نكون حطبا للنار غدا، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه
بميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهد معنا العقبة وكان تقيا، فبتنا تلك الليلة في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنتسلّل مستخفين تسلل القطا، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بني النجّار، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أمّ منيع، واجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى جاء ومعه عمّه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلّا أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له فلمّا جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج. وكانت العرب إنما يسمّون هذا الحي من الأنصار: الخزرج خزرجها وأوسها. إنّ محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلّا الانقطاع لكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له ما دعوتموه إليه و [مانعوه] «1» ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن دعوه فإنّه في عز ومنعة. قال: فقلنا: سمعا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، وخذ لنفسك ولربك ما شئت. قال: فتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام وقال: «أبايعكم على أن تمنعوني عمّا تمنعون منه نساءكم» . قال: فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة [وإنّا] «2» ورثناها كابرا عن كابر. قال: فاعترض القول. والبراء يكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الناس حبالا. يعني اليهود. وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك [الله] أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم وأنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم بما فيهم، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم عليه السلام» [84] «3» ، فأخرجوا اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس» . قال عاصم بن عمر بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال العباس بن
عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ إنّكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة؟ وأشرافكم قتل أسلمتموه، فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون بالعهد له فيما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: «الجنة» . قالوا: ابسط يدك. فبسط يده فبايعوه، فأول من ضرب على يده البراء بن معرور، ثم تتابع القوم. قال: فلما بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب «1» هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا والله زنا العقبة اسمع أي عدو الله، أما والله لأفرغن لك» . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إلى رحالكم» . فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم» . قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا [ف] غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا وقالوا: يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، فإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه. وصدقوا لم يعلموا. وبعضنا ينظر إلى بعض، فقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ. وأنت سيد من ساداتنا. مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إليّ وقال: والله لتنتعلنّهما، فقال أبو جابر: والله أخفظت الفتى فاردد إليه نعليه. قال: قلت: لا أردهما، قال: والله صلح، والله لئن صدق لأسلبنه. قال: ثم انصرف أبو جابر إلى المدينة، وقد شدّدوا العقد، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «إنّ الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها» [85] «2» . فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم الأنصار، فكان ممن هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة، ثم عبد الله بن
جحش. ثم تتابع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إرسالا إلى المدينة، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة إلى أن أذن، فقدم المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، ورفع عنهم العداوة القديمة، وألّف بينهم، وذلك قوله وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يا معشر الأنصار إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قبل الإسلام فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام فَأَصْبَحْتُمْ: فصرتم، نظيره قوله في المائدة: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» وقوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ «2» وفي حم السجدة فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» وفي الكهف: أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً «4» . بِنِعْمَتِهِ: بدينة الإسلام إِخْواناً في الدين والولاية، نظيره قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «5» . وعن أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى هاهنا. وأشار بيده إلى صدره. حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» [86] «6» . أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» ، وشبك بين أصابعه «7» . الشعبي عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: المؤمنون كرجل واحد. قال: «المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر» [87] «8» . وَكُنْتُمْ يا معشر الأوس والخزرج عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. قال الراجز: نحن حفرنا للحجيج سجله ... نابتة فوق شفاها بقله ومعنى الآية: كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلّا أن تموتوا على كفركم، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإيمان. قال: وبلغنا أنّ أعرابيا سمع ابن عباس وهو يقرأ هذه
[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 إلى 115]
الآية فقال: والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها. فقال ابن عباس: خذوه من غير فقيه. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 115] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي ولتكونوا أمة من صلة، كقوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» ، ولم يرد اجتناب رجس الأوثان وإنما فاجتنبوا «2» الأوثان وإنها رجس. واللام في قوله وَلْتَكُنْ لام الأمر. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ: الإسلام وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعنا ابن الزبير يقرأ: (ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون على ما أصابهم) . وروي مثله عن عثمان [........] «3» . فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر روى حسان بن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه» [88] «4» .
وعن عبد الله بن عمر عن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله تعالى، وأوصلهم لأرحامه» [89] . عن ابن عباس قال: قلنا: يا رسول الله، ما نعمل نأتمر بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلّا ائتمرنا به، وننتهي عن المنكر حتى لا يبقى من المنكر شيء إلّا انتهينا عنه، ولم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر، فقال: «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله» [90] «1» . الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان منها نصيب فأخذ رجل منهم فأسا فجعل ينقر في موضعه، وقال له أصحابه: أي شيء تصنع، تريد أن تغرق وتغرقنا؟ قال: هو مكاني، فإن أخذوا على يده نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا» [91] «2» . وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن شنأ المنافقين وغضب لله عز وجل غضب الله تعالى له» [92] . وقال أبو الدرداء: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ويستنصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم. وقال حذيفة اليماني: يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وقال الثوري: إذا كان الرجل محبّبا في جيرانه محمودا عند القوم فاعلم أنه مداهن «3» . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا. الآية. قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمّة. عن عبد الله بن شدّاد قال: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب حمص أو دمشق فقال لهم كلاب النار، كلاب النار. مرتين أو ثلاثة. شرّ قتلى تظل السماء وخير قتلى قتلاهم. [قيل] : أشيء من قبل رأي رأيته أو شيء سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: «إن هو من جل رأي رأيته، إني إذن لجريء إن لم أسمعه من رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا مرة أو مرتين. حتى عدّ سبع مرات. ما حدثت به. فقال رجل فإني رأيتك دمعت عيناك. قال: هي رحمة رحمتهم إنهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، ثم قرأ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا إلى قوله بَعْدَ إِيمانِكُمْ ثم قال: هم الحرورية «1» . وروى قبيصة عن جابر أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما نزل بباب من أبواب دمشق يقال له الجابية، حمد الله فأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمقامي فيكم ثم قال: «من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ «2» وهو من الاثنين أبعد» [93] «3» . يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، ... يَوْمَ نصب على الظرف، أي في يوم، وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول وقرأ يحيى بن وثّاب (تِبيض وتِسود) . بكسر التاءين. على لغة تميم. وقرأ الزهري: (تبياض وتسواد) . فأما الذين [اسوادت] «4» . و [المعنى] «5» تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين. وقيل: يوم تبيض وجوه المخلصين، وتسود وجوه المنافقين. وقال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه قريظة والنضير. سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم مما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، وهو قوله تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى «6» ، فإذا انتهوا إليه حزنوا فيسود وجوههم من الحزن. ويبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم، فيأتهم الله عز وجل فيسجد له من كان سجد في دار الدنيا مطيعا مؤمنا، ويبقى أهل الكتاب والمنافقون كأنهم لا يستطيعون السجود ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضا، والمنافقون وأهل الكتاب قيام كأن في ظهورهم السفافيد فإذا نظروا إلى وجوه المؤمنين وبياضها حزنوا حزنا شديدا واسودت وجوههم فيقولون: ربنا سوّدت وجوه من يعبد غيرك فما لنا مسودة وجوهنا ف وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ فيقول الله للملائكة: انظروا كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ.
وقال أهل المعاني: ابيضاض الوجوه: إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وثواب الله عز وجل، واسودادها حزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعذاب الله تعالى يدل عليه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «1» . الآية. وقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «2» ، وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ «3» ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ «4» . ثم بين حالهم ومآلهم فقال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ، فيه اختصار يعني: فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ واختلفوا فيه فروى الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب أنهم كل من كفر بعد إيمانه بالله يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) وقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «5» ، فيعرفهم الله عز وجل يوم القيامة بكفرهم فيقول: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يوم الميثاق. قال الحسن: هم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم. وقال يونس بن أبي مسلم: سألت عكرمة عن هذه الآية فقال: لو فسرتها لم أخرج من تفسيرها ثلاثة أيام، ولكني سأجمل لك: هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم، مصدقين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث، ولما بعث كفروا به، فذلك قوله أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ. وقال الآخرون: هم من أهل ملتنا. قال الحارث الأعور: سمعت عليا (رضي الله عنه) على المنبر يقول: «إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة، وإنّ الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار» [94] . ثمّ قرأ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ الآية. ثم نادى الذين كفروا بعد الإيمان [أَكَفَرْتُمْ] ، يدل عليه حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يأتي على أمتي زمان يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا» [95] «6» . وقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج. وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم. ودليل هذه التأويلات قوله: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «7»
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليردنّ الحوض من صحبتي أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولن: أصحابي، أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» [96] «1» . وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ هؤلاء أهل طاعته والوفاء بعهده، فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ: جنّة الله هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ فيعاقبهم بلا جرم. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ. الآية. قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن ابن الصيف ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله تعالى هذه الآية. سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ هم الذين هاجروا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. وروى جويبر عن الضحاك قال: هم أصحاب محمد خاصة الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل بطاعتهم. يدل عليه ما روى السدي أن عمر الخطاب قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا. وعن عمر بن الحصين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني ولمن رأى من رأى من رأى «2» من رآني» [97] «3» . الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» [98] «4» . وقال آخرون: هم جمع المؤمنين من هذه الأمة وقوله: كُنْتُمْ يعني أنتم كقوله: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «5» أي من هو في المهد. وإدخال (كان) واسقاطه في مثل هذا المعنى واحد، كقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا «6» وقال في موضع آخر: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «7» . وقال محمد بن جرير «8» : هذا بمعنى التمام، وتأويله: خلقتم ووجدتم خير أمة.
وقال: معنا كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عند الله في اللوح المحفوظ، أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال قوم: للناس من صلة قوله: خَيْرَ أُمَّةٍ: يعني أنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: معناه كنتم خير الناس للناس يجيئون بهم في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام. قتادة هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر نبي قبله بالقتال فيسبون من سبي الروم والترك والعجم فيدخلونهم في دينهم، فهم خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. مقاتل بن حيان: ليس خلق من أهل الأديان ولا يأمرون من سواهم بالخير وهذه الآية يأمرون كل أهل دين وأنفسهم لا يظلم بعضهم بعضا، بل يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم خير أمم الناس. وقال آخرون: قوله: لِلنَّاسِ من صلة قوله: أُخْرِجَتْ ومعناه ما أخرج الله للناس أمّة خيرا من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فهم خير أمة أقامت وأخرجت للناس، وعلى هذا تتابعت الأخبار. روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: «إنكم تتمّون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» [99] «1» . وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، منها ثمانون من هذه الأمة» [100] «2» . نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أمة إلّا وبعضها في النار، وبعضها في الجنّة، وأمتي كلّها في الجنة» [101] «3» . ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» [102] «4» . وعن أنس قال: أتى رسول الله أسقف فذكر أنه رأى في منامه الأمم كانوا يمنعون على الصراط [.......] «5» حتى أتت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم غرّا محجلين قال: فقلت: من هؤلاء الأنبياء؟ قالوا: لا، قلت: مرسلون؟ قالوا: لا، فقلت: ملائكة؟ قالوا: لا، فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم غرّا محجلين عليهم أثر الطهور، فلما أصبح الأسقف أسلم.
عن سعيد بن المسيب، عن عمر، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» [103] «1» . وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أمتي أمة مرحومة، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلا من الكفّار فيقول: هذا فداؤك من النار» [104] «2» . وعن أنس قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا بصوت يجيء من شعب، قال: «يا أنس، انطلق فانظر ما هذا الصوت» ، قال: فانطلقت فإذا برجل يصلي إلى شجرة فيقول: «اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المتاب عليها» . فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأعلمته ذلك فقال: «انطلق فقل له إن رسول الله يقرئك السلام ويقول: من أنت؟» . فأتيته فأعلمته ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أقرىء منّي رسول الله السلام وقل له: أخوك الخضر يقول [أسألك] «3» أن يجعلني من أمتك المرحومة المغفور لها المستجاب لها المتاب عليها» [105] «4» . وقيل لعيسى (عليه السلام) : يا روح الله، هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال: «علماء حلماء حكماء، أبرار أتقياء، كأنهم من العلم أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلّا الله» «5» . وبلغنا أن كعب الأحبار قيل له: لم لم تسلم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وأسلمت على عهد عمر؟ فقال: لأن أبي دفع إلي كتابا مختوما، وقال: لا تفكّ ختمه. فرأيت في المنام أيام عمر (رضي الله عنه) قائلا قال لي: إن أبي خانك في تلك الصحيفة، ففككتها فإذا فيها نعت أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا، فسألوه عن تفسيرها، فقال: هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل، وحكم الله لهم بالجنّة، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمّهاتهم. وقال يحيى بن معاذ: هذه الآية مدحة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن ليمدح قوما ثم يعذبهم.
ثم ذكر مناقبهم فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إلى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً. الآية. قال مقاتل: إنّ رؤوس اليهود كعبا وعديا والنعمان وأبا رافع وأبا ياسر وكنانة وأبو صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه: فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلّا أذى باللسان يعني وعيدا وطعنا. وقيل: دعاء إلى الضلالة. وقيل: كلمة الكفر إن يسمعوها منهم يتأذّوا بها وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين، وهو جزم بجواب الجزاء، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ استأنف «1» لأجل رؤوس الآي لأنها على النون، كقوله وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «2» . تقديرها: ثم هم لا ينصرون. وقال في موضع آخر: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا «3» إذ لم يكن رأس آية. قال الشاعر: ألم تسأل الربع القديم فينطق أي فهو ينطق. قال الأخفش: قوله لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء خارج من أول الكلام، كقول العرب: ما اشتكى شيئا إلّا خيرا، قال الله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً «4» ولأن هذا الأذى لا يضرهم. ومعناه لكن آذى. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا: حيثما وجدوا ولقوا، يعني: حيث ما لقوا غلبوا واستضعفوا وقتلوا فلا يؤمنون إِلَّا بِحَبْلٍ: عهد من الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ: محمد والمؤمنين يردون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار، يعني: إلّا أن يعتصموا بحبل، كقول الشاعر: رأتني بحبليها فصدّت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق أي أقبلت بحبليها. وقال آخر: حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خامل أدنو لصيد قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد
يعني: رآني مقيد [بقيد] «1» . وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ إلى لَيْسُوا سَواءً. الآية. قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود قالت رؤوس اليهود: ما آمن بمحمد إلّا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خسرتم حيث استبدلتم بدينكم دينا غيره «2» ، فأنزل الله تعالى لَيْسُوا سَواءً وسواء يقتضي شيئين اثنين فصاعدا، واختلفوا في وجه هذه الآية فقال قوم: في الكلام إضمار تقديره: ليسوا سواء «3» . مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وأخرى غير قائمة فتزلّ الأخرى لاكتفائه بذكر أحد الفريقين كقول أبي ذؤيب: عصيت إليها القلب إني لأمرها ... مطيع فما أدري أرشد طلابها أراد: أرشد أم غيّ، فحذفه لدلالة الكلام عليه. وهذا قول مجموع مقدم كقولهم: (أكلوني البراغيث) و (ذهبوا أصحابك) . وقال: تمام القول عند قوله: لَيْسُوا سَواءً وهو وقف لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قولهم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ثم قال لَيْسُوا سَواءً يعني المؤمنين والفاسقين، ثم وصف الفاسقين فقال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، ثم وصف المؤمنين فقال: أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الآية. فهو مردود على أول الكلام، وهو مختار محمد بن جرير «4» والزجاج، قال: وإن شئت جعلت قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ابتداء لكلام آخر لأنّ ذكر الفريقين قد جرى، ثمّ قال: ليس هذان الفريقان سواء وهم، ثمّ ابتدأ فقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. قال ابن مسعود: معناها لا يستوي اليهود وأمة محمد القائمة بأمر الله تعالى يعني الثابتة على الحقّ المستقيم. ابن عباس: أُمَّةٌ قائِمَةٌ مهتدية قائمة على أمر الله لن تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيّعوه. مجاهد: عادلة، السدي: مطيعة قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. وقيل: قائمة في الصلاة. قال الأخفس أمة قائمة أي ذو أمّة قائمة، والأمّة: الطريقة، من قولهم: أممت الشيء أي قصدته. قال النابغة: وهل يأتمن «5» ذو أمّة وهو طائع. أي ذو طريقة.
ومعنى الآية ذوا «1» طريقة مستقيمة. يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ يقرءون كتاب الله. قال مجاهد: يتبعون، يقال: تلاه، أي اتّبعه. قال الشاعر: قد جعلت دلوي تسيلينني ... ولا أريد تبع القرين «2» إني لم أردهما [ ... ] «3» . أي تستتبعني. آناءَ اللَّيْلِ، أي ساعاته، وإحداها إني مثل نحي وأنحاء وإنى مثل معى. قال الشاعر: حلو ومر كعطف القدح شيمته ... في كل إني قضاء الليل ينتعل «4» أي تسليه آناء الليل بأمر مضى فيه ولم يتأخر. قال الراجز في اللغة الأخرى: لله درّ جعفر أي فتى ... مشمّر عن ساقه كلّ إنى وقال السدي: آناءَ اللَّيْلِ جوفه. الأوزاعي عن حسان عطية قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أن يشق على أمّتي لفرضتهما عليهم» [106] «5» . وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يصلون لأنّ التلاوة لا تكون في الركوع والسجود، نظيره قوله: وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي يصلّون وفي القرآن: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ «6» أي صلوا، وقوله: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا «7» . واختلفوا في نزول الآية ومعناها فقال بعضهم: هي قيام الليل عن مجمع بن يحيى الأنصاري عن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب فقال: إنا نجد كلاما من كلام [الرب] «8» أيحسب راعي إبل وغنم، إذا جنه الليل انخذل بكن وهو قائم وساجد آناء الليل.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 إلى 129]
ابن مسعود: هو في صلاة العتمة، يصلونها ومن حولهم من أهل الكتاب لا يصلونها. عاصم عن زرين عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، قال: «أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله عز وجل ذه الساعة غيركم» [107] «1» ، فأنزل الله هذه الآية: لَيْسُوا سَواءً حتى بلغ قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. وروى الثوري عن منصور قال: بلغنا أنها نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء. وقال عطاء في قوله: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الآية. تزيد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى (عليه السلام) وصدقوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم، منهم أسعد ابن زرارة والبراء بن معرور ومحمّد بن مسلمة وأبو قيس هرمة «2» بن أنس، وكانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقرّون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فصدقوه ونصروه. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، قرأ الأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وحفص وخلف: بالياء فيهما، اخبار عن الأمة القائمة. وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة. وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على الخطاب كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وهي اختيار أبي حاتم. وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا: الياء والتاء. ومعنى الآية وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ: فلن يقدروا ثوابه، ولن يجحدوا جزاءه بل يشكر [لهم] «3» ويجازون عليه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: المؤمنين. [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 129] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وإنما خص الأولاد لأنهم أقرب الأنساب إليه وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ، إنما جعلهم من أصحابها لأنهم من أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها كصاحب الرجل الذي لا يفارقه، وقرينه الذي لا يزايله. يدل عليه قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ. َلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا ، قال يمان: يعني نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد على عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. مقاتل: يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم ورؤسائهم كعب وأصحابه. مجاهد: يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم. وضرب الله مثلا فقال مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ ، قال ابن عباس: يعني السموم الحارة التي تقتل، ومنه خلق الله الجان. ابن كيسان: الصر ريح فيها صوت ونار. سائر المفسرين: برد شديد. ابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ : زرع قوم لَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية ومنع حق الله عز وجل أَهْلَكَتْهُ . ومعنى الآية: مثل نفقات الكفار في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها وقت حاجتهم إليها بعد ما كانوا يرجون من عائدة نفعها كمثل زرع أصابه ريح بارد أو نار فأحرقته وأهلكته، فلن ينتفع أصحابه منه بشيء بعد ما كانوا يرجون من عائدها نفعه، قال الله تعالى: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والمعصية ومنع حق الله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ. الآية. عن أبي أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ قال: «هم الخوارج» [108] «1» .
قال ابن عباس: كان رجل من المسلمين يواصل رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم. مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادفون المنافقين ويخالطونهم، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ: أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم. والبطانة: مصدر يوضع موضع الاسم فسمي بها الواحد والاثنان والجميع والمذكر والمؤنث، قال الشاعر: أولئك خلصائي نعم وبطانتي ... وهم عيبتي من دون كلّ قريب وإنّما ما قيل لخليل الرجل: بطانة تشبيها لما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطّلاعه من أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه محل ما ولي جسده من ثيابه. ثم ذكر العلة في النهي عن مباطنتهم وعرفهم ما هم منطوون عليه من الغش والخيانة والبغي والغوائل فقال عز من قائل: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، أي لا يقصّرون ولا يتركون عهدهم وطاقتهم فيما يورّثكم فوق الشر والفساد. يقال: ما ألوته خيرا أو شرا أي ما قصرت في فعل ذلك. ومنه قول ابن مسعود في عثمان: ولم تأل عن خير لأخرى باديه «1» وقال امرؤ القيس: وما المرء مادامت حشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا آل «2» أي مقصّر في الطلب. الخبال: الشر والفساد، قال الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «3» ونصب خَبالًا على المفعول الثاني لأن الإلو تتعدى إلى مفعولين. وإن شئت: المصدر، أي يخبلونكم خبالا. وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال، كما يقال أوجعته ضربا أي بالضرب وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي تمنوا ضرّكم وشركم وإثمكم وهلاككم. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ قراءة العامة بالتاء لتأنيث البغضاء. ومعنى الآية قد ظهرت امارة العداوة مِنْ أَفْواهِهِمْ بالشتيمة والوقيعة في المسلمين. وقيل: باطلاع المشركين على أسرار المؤمنين. وقيل: هو مثل قوله: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «4» .
وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من العداوة والخيانة أَكْبَرُ أعظم، قد بينا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ عن الأزهر بن راشد قال: كان أنس بن مالك يحدّث أصحابه، فإذا حدّثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يفسّره لهم، فحدثهم ذات يوم وقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا» [109] «1» . فأتوا الحسن فأخبروه بذلك، فقال: إنّما «2» قوله: «لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا» ، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم محمدا. وأما قوله: «لا تستضيئوا بنور «3» المشركين» ، فإنّه يقول لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم. وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية. وقال عياض الأشعري: وفد أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فقال: إن عندنا كاتبا حافظا نصرانيا من حاله كذا وكذا. فقال: ما لك قاتلك الله؟ أما سمعت قول الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ الآية، وقوله لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ «4» ؟ هلا اتخذت حنيفيّا! قال: قلت: له دينه ولي ديني، ولي كتابته، لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلّهم الله ولا أدنيهم إذ قصاهم الله «5» . ها أَنْتُمْ أُولاءِ، ... ها تنبيه، وأَنْتُمْ كناية للمخاطبين من الذكور، أُولاءِ اسم الجمع المشار إليه تُحِبُّونَهُمْ خبر عنهم. ومعنى الآية: أنتم أيها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاع والقرابة والجوار، وَلا يُحِبُّونَكُمْ هم لما بينكم من مخالفة الدين. هذا قول أكثر المفسرين. وقال المفضل: معنى يُحِبُّونَهُمْ تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، ولا تبخلون عليهم بدعائهم إلى الجنة، وَلا يُحِبُّونَكُمْ هم لأنهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك. أبو العالية ومقاتل: هم المنافقون يحبهم المؤمنون بما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم. قتادة: في هذه الآية والله إنّ المؤمن ليحب المنافق ويلوي إليه ويرحمه، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه «6» . وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ يعني بالكتب كلها ولا يؤمنون هم بكتابكم، ف إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا
وكان بعضهم مع بعض عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ يعني أطراف الأصابع، واحدتها أنملة وأنملة. بضم الميم وفتحها. مِنَ الْغَيْظِ والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم. وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن ثم عضّ، قال الشاعر: إذا رأوني أطال الله غيظهم ... عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم «1» وقال أبو طالب: وقد صالحوا قوما علينا أشحّة ... يعضّون غيضا خلفنا بالأنامل قال الله تعالى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إن قيل: كيف لا يموتون والله تعالى إذا قال لشيء كن فيكون؟ فالجواب: أن المراد ابقوا بغيضكم إلى الممات فإن مناكم عن الاسعاف محجوبة. وقال محمد بن جرير: خرج هذا الكلام مخرج الأمر وهو دعاء أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه يدعو عليهم بالهلاك كمدا ممّا بهم من الغيظ، قل يا محمد: اهلكوا بغيظكم «2» : إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب من خير وشر. روى عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: ذكر أصحاب الأهواء فقال والذي نفسي بيده لئن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إليّ من أن يجاورني رجل منهم «3» . يعني صاحب هوى، ولقد دخلوا في هذه الآية: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ الآية. إِنْ تَمْسَسْكُمْ، قرأ السلمي بالياء. الباقون بالتاء. يعني: إن تصبكم أيها المؤمنون حَسَنَةٌ بظفركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم وتتابع من الناس في الدخول في دينكم وخفض في معاشكم تَسُؤْهُمْ: تحزنهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ مساءة بإخفاق سريّة لكم، أو إصابة عدوّ فيكم أو اختلاف يكون منكم «4» ، أو حدث ونكبة يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا وتخافوا ربّكم لا يَضُرُّكُمْ: لا ينقصكم كَيْدُهُمْ شيئا. واختلفت القراءة فيه فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: لا يَضِرُكُمْ. بكسر الضاد [وراء] خفيفة. واختاره أبو حاتم، يقال: ضار يضير ضيرا مثل باع يبيع بيعا، ودليله في القرآن: لا ضَيْرَ «5» . وهو جزم على جواب الجزاء.
وقرأ الضحاك بضم الضاد وجزم الراء خفيفة من (ضار يضور) ، وذكر الفرّاء عن الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ذلك ولا يضورني. وقرأ الباقون: بضم [الضاد، والراء] «1» مشددة، واختاره. وهو من (ضرّ يضرّ ضرا) ، مثل (ردّ يرد ردّا) . وفي رائه وجهان: أحدهما: أنه أراد الجزم وأصله لا يضرركم فأدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة اتباعا لأقرب الحركات إليها وهي الضاد طلبا للمشاكلة كقولهم: مرّ يا هذا. والوجه الثاني: أن يكون (لا) بمعنى ليس ويضمر الفاء فيه، تقديره: وإن تصبروا وتتّقوا فليس يضركم. قاله الفرّاء وأنشد: فإن كان لا يرضيك حتى تردني ... إلى قطري لا إخالك راضيا «2» إن الله بما تعملون قرأ الأعمش والحسن: بالتاء. الباقون بالياء مُحِيطٌ عالم. وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ. الآية. نظم الآية: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ولكن الله تعالى ينصركم عليهم كما نصركم بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، وإن أنتم لم تصبروا على أمري ولم تتقوا نهيي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم يوم أحد حيث خالفتم أمر الرسول ولم تصبروا، فاذكروا ذلك اليوم أو غدا بينكم تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ واختلفوا في هذا اليوم الذي عنى الله تعالى بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فقال الحسن: هو يوم بدر. وقال مقاتل: هو الأحزاب. وقال سائر المفسرين: هو أحد، وهو أثبت. يدل عليه قوله في عقبه: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وهذا إنما كان يوم أحد. قال مجاهد والكلبي والواقدي: غدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال: «تأخر» . وذلك أن المشركين نزلوا بأحد. على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما. يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول. ولم يدعه قط قبلها. واستشاره، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار: يا رسول الله، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلّا أصاب منّا، ولا دخلها علينا إلّا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا.
فأعجب رسول الله بهذا الرأي. وقال بعض أصحابه: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا. فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة فو الذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة. فقال: «بما؟» . فقال: بأني أشهد أن لا إله إلّا الله، وأني لا أفر من الزحف، قال: «صدقت» . فقتل يومئذ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد رأيت في منامي بقرا فأوّلتها خيرا، ورأيت في ذباب «1» سيفي ثلما فأوّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها» [110] «2» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة [فيقاتل] «3» في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا. فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا: بئسما صنعنا نشير على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والوحي يأتيه؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال صلّى الله عليه وسلّم: « [إنه ليس لنبي] «4» أن يلبس [لامته] «5» أن يضعها حتى يقاتل» [111] «6» . وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس، فراح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد يوم الجمعة بعد ما صلّى بأصحابه الجمعة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان من أمر حرب أحد ما كان، فذلك قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ ، قرأ يحيى بن ثاب: (تبوي) المؤمنين خفيفة غير مهموزة من (أبوى يبوي) مثل (أروى يروي) . وقرأ الباقون: مهموزة مشددة يقال: بوأت تبوئة، وأبويتهم إبواء، إذا أوطنتهم، وتبوّءوا إذا تواطنوا، قال الله تعالى أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً «7» ، وقال وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
والتشديد أفصح وأشهر، وتصديقه قوله تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ «1» ، وقال لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «2» . وقرأ ابن مسعود: تبوئ للمؤمنين. مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، أي مواطن وأماكن، قال الله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «3» ، وقال: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ «4» . وقرأ أشهب: (مقاعد للقتال) . وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا: تجبنا وتضعفا وتتخلّفا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم بنو أسامة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد في ألف رجل، وقيل: تسعمائة وتسعين رجلا، وقال الزجاج: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أحد وقت القتال ثلاثة آلاف، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أبيّ الخزرجي ثلث الناس فرجع في ثلاثمائة، وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال: أنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أبي: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ناصرهما وحافظهما. وقرأ ابن مسعود: (والله وليهم) لأنّ الطائفتين جمع، كقوله هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ «5» . وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وقال جابر بن عبد الله: ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا، وقد أخبرنا الله أنه ولينا. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ قال الشعبي: كانت بدر بئر رجل يقال له بدر فسميت باسم صاحبها. قال الواقدي: ذكرت قول [الشعبي] «6» لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا: فلأي شيء سميت الصفراء؟ ولأي شيء سميت الجار؟ هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع. قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه قط أحد غيرنا، وما هو وهؤلاء من بلاد جهينة، إنما هو من بلاد غفارة «7» .
ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم
التقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمشركون بها، وكان أول قتال قاتل فيه نبي الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الضحاك: بدر ماء بمنى على طريق مكة بين مكة والمدينة. وقد مدحت القول في غزوات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه وجيزا مجملا فإنّه باب يعظم نفعه وبالله التوفيق. ذكر مغازي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميع ما غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ستّ وعشرون غزوة، فأول غزوة غزاها غزوة ودّان، وهي غزوة الأبواء، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى بطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماء لبني سليم، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر، ثم غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان إلى نجد، ثم غزوة نجران: موضع بالحجاز فوق الفرع، ثم غزوة أحد ثم غزوة الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نجد، ثم غزوة بدر الأخيرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة بني قردة، ثم غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة الفتح: فتح مكة، ثم غزوة حنين لقي فيها، ثم غزوة الطائف حاصر فيها، ثم غزوة تبوك. قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر الكبرى، وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة، وأحد في شوال سنة ثلاث، والخندق، وبني قريظة في شوال سنة أربع، وبني المصطلق، وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر سنة ست، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين في شوال سنة ثمان. فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر وآخرها تبوك. ذكر سراياه صلّى الله عليه وسلّم روي عن مقسم قال: كانت السرايا ستّا وثلاثين، وهي غزوة عبيدة بن الحارث إلى حنا من أسفل ثنية المرة وهو ما بالحجارة «1» ، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية الفائض. وبعض الناس يقدم غزوة حمزة على غزوة عبيدة. وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار «2» من أرض الحجاز، ثم غزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة، وغزوة زيد بن حارثة القردة ماء من مياه نجد، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيع لقوا فيها، وغزوة منذر بن عمرو بئر معونة لقوا فيها، وغزوة أبي عبيدة الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق، وغزوة عمر بن
الخطاب تربة من أرض بني عامر، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث الكديد لقوا فيها الملوح، وغزوة علي بن أبي طالب إلى أبي عبد الله بن سعد من أهل فدك، وغزوة ابن أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم أصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عكاشة بن محصن العمرة، وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطن ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد لقوا فيها فقتل فيها مسعود بن عروة، وغزوة محمد بن مسلمة أخي بني حارثة إلى القرطاء موضع من هوازن، وغزوة بشير بن سعد بن كعب بن مرة لفدك، وغزوة بشير بن سعد أيضا إلى حيان بلد من أرض خيبر، وغزوة زيد بن حارثة الجموم من أرض بني سليم، وغزوة زيد أيضا جذام من أرض حسمي لقوا فيها، وغزوة زيد أيضا إلى طرف من ناحية نخل من طريق العراق، وغزوة زيد أيضا وادي القرى لقي بني فزارة، وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين إحداهما التي أصاب فيها بشرا «1» اليهودي، وغزوة عبد الله بن عتيك إلى حنين فأصاب بها أبا رافع بن أبي الحقيق. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث محمد بن مسلمة وأصحابه فيها من أحد وبدر إلى كعب بن الأشرف فقتلوه، وبعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وهو بنخلة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليغزوه فقتله، وغزوة الأمراء: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام فأصيبوا بها، وغزوة كعب بن عمرو الغفاري ذات الطلاح من أرض الشام فأصيب بها هو وأصحابه جميعا، وغزوة عيينة بن حذيفة بن بدر الفزاري العنبر من بني تميم، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث أرض بني مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك وحليفا لهم من جهينة، قتله أسامة بن زيد، وهو الذي قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأسامة فيه: «من لك؟ من لك لا إله إلّا الله؟» [112] . وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بلي «2» وعذرة وغزوة، [أبي قتادة] «3» وأصحابه إلى بطن إضم قبل الفتح لقوا فيها، وغزوة الخيط إلى سيف البحر وعليهم أبو عبيدة الجراح وغزوة عبد الرحمن بن عوف. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ: جمع ذليل مثل عزيز وأعزة ولبيب وألبّة. وأراد هاهنا قلّة العدد، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ واختلفوا في هذه الآية: فقال قتادة: [ ... ] «4» يوم بدر أمدهم الله بألف، ثم صاروا ثلاثة
آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. يدل عليه قوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ «1» ، الآية، وقوله: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا إلى قوله مُسَوِّمِينَ، فصبر المؤمنون يوم بدر، واتّقوا الله فأمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم، فهذا كله يوم بدر. الحسن: فهؤلاء الخمسة آلاف رد للمؤمنين إلى يوم القيامة. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلّا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عددا ومددا. وقال عمر بن أبي إسحاق: لما كان يوم أحد انجلى عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبقي سعد بن مالك يرمي، وفتى شاب ينبل له فلمّا فني النبل أتاه به فنثره فقال: ارم أبا إسحاق، ارم أبا إسحاق. كرتين. فلما انجلت المعركة سئل عن الرجل فلم يعرف «2» . وقال الشعبي: بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إلى قوله مُسَوِّمِينَ، فلما بلغ الكرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدّهم أمدّهم الله أيضا بخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف. وقال آخرون: إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته فاتقوا محارمه أن يمدّهم في حروبهم كلها فلم يصبروا ولم يتقوا إلّا في يوم الأحزاب فأمدهم الله تعالى حتى حاصروا قريظة. قال عبد الله بن أوفى: كنا محاصري بني قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم فلم يفتح علينا فرجعنا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغسل، فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل (عليه السلام) فقال: «يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها؟» . فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثمّ نادى فينا فقمنا كالّين متعبين لا نعبأ بالسير شيئا حتى أتينا بني قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة، ففتح الله لنا فتحا يسيرا وانقلبنا بنعمة الله وفضل. وقال قوم: إنما كان هذا يوم أحد، وعدهم الله عز وجل المدد إن صبروا، فلم يصبروا فلم يمدوا ولا بملك واحد [و] لو أمدّوا لما هزموا. وهو قول عكرمة والضحاك. وكان هذا يوم أحد حين انصرف أبو سفيان وأصحابه وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخاف أن يدخل المشركون المدينة، فبعث علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فقال: «اخرج على آثار القوم فانظر ما يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد أجبنوا الخيل وركبوا وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأناجزنهم» .
قال علي (رضي الله عنه) : «فخرجت في آثارهم أنظر ما يصنعون، فإذا هم قد أجبنوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني، فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم لما بي من الفرح وانصرفوا إلى مكة وانصرفنا إلى المدينة، فأنزل الله تعالى في ذلك أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ» «1» يعني أن انصرفوا إليكم ودخلوا المدينة. وفي قراءة أبي (ألا يكفيكم أن يمدكم ربكم) ، أي يعطيكم ويعينكم. قال المفضل: [كل] «2» ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمده يمده إمدادا، وكل ما كان على جهة الزيادة قيل: مدّه يمدّه مدّا، ومنه قوله: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ «3» . وقال بعضهم: المد في الشر، والإمداد في الخير. يدل عليه قوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «4» وقوله وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا «5» . وقال في الخير أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ «6» وقال: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ. وقال وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «7» . وقال: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ «8» . وقال: وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ «9» ، وقال: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ «10» ، مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ «11» مُنْزَلِينَ. قرأ أبو حيوة: بكسر الزاي، مخفّفا، يعني منزلين النصر. وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وعمر ابن ميمون وابن عامر مشددة مفتوحة الزاي على التكثير. وتصديقه قوله: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ «12» . وقوله: مُسَوِّمِينَ. وقرأ الآخرون: بفتح الزاي خفيفة. ودليله قوله: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا «13» وقوله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها «14» . وتفسير الإنزال: جعل الشيء من علو إلى سفل، ثم قال: بَلى وهو تصديق لقول الله تعالى وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. إِنْ تَصْبِرُوا لعدوّكم وَتَتَّقُوا معصية ربكم.
وَيَأْتُوكُمْ من المشركين، مِنْ فَوْرِهِمْ هذا «1» قال عكرمة والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن زيد: من وجههم هذا، وهو رواية عطية عن ابن عباس. مجاهد والضّحاك وزاذان: من غضبهم هذا، وكانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر ممّا لقوا، وأصل الفور: القصد إلى الشيء والأخذ فيه بحدّه، وهو من قولهم: فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت وَفارَ التَّنُّورُ «2» ، قال الشاعر: تفور علينا قدرهم فيديمها ... ويفثأها عنا إذا حميها غلا بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب: بكسر الواو، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون: بالفتح، واختاره أبو عبيد، فمن كسر الواو أراد أنّهم سوّموا خيلهم، ومن فتح أراد به أنفسهم، والسّومة: العلامة التي يعلّم بها الفارس نفسه في الحرب، واختلفوا في هذه السّمة الموصوفة بها الملائكة في هذه الآية ما هي، فقال عمير بن إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه يوم بدر: «تسوّموا، فإن الملائكة قد تسوّمت «3» بالصوف الأحمر في قلانسهم ومغافرهم» . الضحاك وقتادة: [بالعهن] «4» في نواصيها وأذنها. مجاهد: كانت مجزوزة أذناب خيلهم وأعرافها ونواصيها [معلّمة] ، الربيع: كانوا على خيل بلق، عليّ وابن عباس رضي الله عنهم: كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم ، هشام بن عروة الكلبي: عمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وقال عبد الله بن الزبير: إن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء وعمامة صفراء يوم بدر، فنزلت الملائكة يوم بدر مسوّمين بعمائم صفر «5» . وروى الزبير بن المنذر عن جدّه أبي أسيد وكان بدريّا قال: لو كان بصري فرّج عنه، ثم ذهبتم معي إلى بدر لأريتكم الشعب التي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم «6» ، وقال عكرمة: كانت عليهم سيماء القتال، السديّ: سيماء المؤمنين. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني: هذا الوعد والمدد إِلَّا بُشْرى لتستبشروا به. وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ ولتسكن قلوبكم إليه، فلا تجزع من كثرة عدوّكم وقلّة عددكم. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لأن العزّ والحكم له وهو: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نظيرها في
الأنفال، ثم قال: واستعينوا بالله وتوكلوا عليه لِيَقْطَعَ طَرَفاً. نظم الآية: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ... لِيَقْطَعَ طَرَفاً، أي: ليهلك طائفة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا نظيره قوله: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «1» أي: أهلك، وفي الأنفال: وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ «2» ، وفي الحجر: أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ «3» ، السديّ: معناه ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقتل من سادتهم وقادتهم يوم بدر سبعين، وأسر منهم سبعين. أَوْ يَكْبِتَهُمْ بالخيبة فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لم ينالوا شيئا ممّا كانوا يرجون من الظفر بكم. وقال الكلبي: أَوْ يَكْبِتَهُمْ: أو يهزمهم بأن يصرعهم لوجوههم. المؤرّخ: يخزيهم. النضر بن شميل: يغيظهم، المبرّد: يظفر عليهم، السديّ: يلعنهم، أبو عبيدة: يهلكهم، قالوا: وأهل النظر [يرون] «4» التاء منقلبة عن الدال، لأن الأصل فيه يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، يقال: قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، ويقول العرب للعدوّ: أسود الكبد، قال الأعشى: فما أجشمت من إتيان قوم ... هم الأعداء والأكباد سود «5» كأنّ الأكباد لمّا احترقت بشدّة العداوة اسودّت، والتاء والدال يتعاقبان، كما يقال: هرت الثوب وهرده، إذا خرقه، يدل على صحة هذا التأويل قراءة لاحق بن حميد: أو يكبدهم، بالدّال. لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية، فقال عبد الله بن مسعود: أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يدعوا على المدبرين عنه من أصحابه يوم أحد، وكان عثمان منهم، فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك وتاب عليهم، فأنزل هذه الآية ، وقال عكرمة وقتادة: أدمى رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمية وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان حتفه أن سلّط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله. وشجّ عتبة بن أبي وقاص رأسه، وكسر رباعيته فدعا عليه، وقال: «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا» قال: وما حال عليه الحول حتى مات كافرا، فأنزل الله هذه الآية «6» . وقال الكلبي والربيع: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وقد شجّ في وجهه وأصيبت رباعيته، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يلعن المشركين ويدعو عليهم، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه
الآية، لعلمه فيهم أن كثيرا منهم سيؤمنون ، يدلّ عليه ما روى أبو بكر بن عياش، عن حميد، عن أنس قال: لمّا كان يوم أحد شجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فوق حاجبه وكسرت رباعيته وجرح في وجهه، فجعل يمسح الدم في وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم» «1» ، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ، وقال سعيد بن المسيّب. والشعبي. ومحمد بن إسحاق بن يسار: لمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اشتدّ غضب الله على من دمى وجه نبيّه» «2» . علت عالية من قريش على الجبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « [اللهم إنه] لا ينبغي لهم أن يعلونا» ، فأقبل عمر ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم، ونهض رسول الله إلى صخرة ليعلوها وقد كان ظاهر بين درعين فلم يستطع، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوجب طلحة الجنة» «3» ، فوقفت هند والنسوة معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجدعنّ الآذان والأنوف، حتى أخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيّا، وبقرت من كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع فلفظتها، ثم علت صخرة مشرفة فصرخت: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان من عتبة لي من صبر ... أبي وعمي وأخي وبكري شفيت صدري وقضيت نذري ... شفيت وحشي من غليل صدري «4» قالوا: وقال عبد الله بن الحسن: قال حمزة: اللهم إن لقينا هؤلاء غدا فإنّي أسألك أن يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني، فتقول لي يوم القيامة: فيم فعل بك هذا؟ فأقول: فيك. فلمّا كان يوم أحد قتل فبقر بطنه وجدعت أذنه وأنفه، فقال رجل سمعه: أمّا هذا فقد أعطي في نفسه ما سأل في الدنيا، والله يعطيه ما سأل في الآخرة. قالوا: فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف وقطع المذاكير، قالوا: لئن أدالنا الله عليهم لنفعلنّ بهم مثل ما فعلوا، ولنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال عطاء: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أحد أربعين يوما يدعو على أربعة من ملوك كندة: مسرح، وأحمد، ولحي، وأخيهم العمردة، وعلى معن من هذيل، يقال لهم: لحيان، وعلى بطون من سليم وعلى ذكوان وعصبة والقارة، وكان يقول: «اللهم أشدد وطاءك على مضر
واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» «1» ، فأجاب الله دعاه وقحطوا حتى أكلوا أولادهم وأكلوا الكلاب والميتة والعظام المحرقة، فلمّا انقضت الأربعون نزلت هذه الآية. وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم ألعن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أميّة» «2» ، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ «3» وأسلموا فحسن إسلامهم. الزهري عن سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في صلاة الفجر حين رفع رأسه من الركوع: «ربّنا لك الحمد اللهم العن فلانا وفلانا» ، دعا على ناس من المنافقين فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية «4» . وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في بئر معونة وهم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أميرهم المنذر بن عمرو، وبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، ليعلّموا الناس القرآن والعلم، فقتلهم جميعا. عامر بن الطفيل: وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فلما قتل رفع بين السماء والأرض، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا وحزن عليهم شهرا فنزلت لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وهذه الآية وإن كانت لفظا للعموم، فالمراد منها الخصوص تقديرها: ليس لك من الأمر بهواك شيء. واللام في قوله: (لَكَ) بمعنى (إليّ) كقوله: إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ «5» وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «6» ونحوهما. أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ... لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وهو وجه حسن. وقال بعضهم: (أَوْ) بمعنى (حتى) يعني: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم. ثم قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلى أَضْعافاً مُضاعَفَةً. قرأ أبو جعفر وشيبة: مضعّفة. عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً «7» هو أن الرجل كأن يكون له على الرجل مال فإذا حل الأجل طلبه من
صاحبه فيقول المطلوب أخّر عنّي فأزيدك على مالك فيفعلان ذلك فوعظهم الله تعالى. فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ في أمر الربا فلا تأكلوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ثم خوفهم فقال: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وفيه دليل على أن النار مخلوقة ردّا على الجهمية، لأن المعدوم لا يكون معدا وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لكي ترحموا فلا تعذبوا وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الآية. قال عطاء: إن المسلمين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله عزّ وجلّ منّا وكانوا إذا أذنبوا أصبحت كفارة ذنوبهم مكتوبة في عتبة بابهم: اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا، فسكت عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله تعالى وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي سابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة. وحذف أهل المدينة والشام الواو منه. واختلفوا في العلة الجالبة لهذه المغفرة: فقال ابن عباس: سارعوا إلى الإسلام، أبو العالية وأبو روق: إلى الهجرة، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إلى أداء الفرائض ، عثمان بن عفان: الإخلاص، أنس بن مالك: هي التكبيرة الأولى، سعيد بن جبير: إلى أداء الطاعة، يمان: إلى الصلاة الخمس، الضحاك: إلى الجهاد عكرمة: إلى التوبة، مقاتل: إلى الأعمال الصالحة، أبو بكر الوراق: إلى اتّباع الأوامر والانتهاء عن الزواجر، سهل بن عبد الله: إلى السنّة، بعضهم: إلى الجمع والجماعات. وَجَنَّةٍ يعني إلى جنة عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي عرضها كعرض السماوات والأرض كقوله ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1» أي كبعث نفس واحدة. قال الشاعر: حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق «2» يريد صوت عناق. ودليل هذا التأويل قوله في سورة الحديد: كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «3» يعني لو بسطت ووصل بعضها إلى بعض إنما أخص العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأغلب أكثر من عرضه يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها. يدل عليه قول الزهري إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلّا الله كقوله مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها «4» فوصف البطانة بحسن ما يعلم من الزينة إذ معلوم أن الظواهر يكون أحسن وأنفس من البطائن.
وقال أكثر أهل المعاني: لم يرد العرض الذي هو ضد الطول وإنما أراد سعتها وعظمها، كقول العرب: هو أعرض من الدهنا، أي أوسع. وقال جرير: لجّت أمامة في لومي وما علمت ... عرض السماوة روحاتي ولا بكري «1» وأنشد الأصمعي: يجبن بنا عرض الفلاة ... وما لنا عليهنّ إلّا وخدهن سقاء «2» وقال آخر: كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفه حابل «3» وعلى هذا التمثيل لا يريد أنها كالسماوات والأرض لا، وغير معناه كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم، لأنهما لا بد زائلتان كقوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «4» لأنهما لا بد زائلتان. وقال يعلي بن مرة: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمص شيخا كبيرا قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلا عن يساره قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية، فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت إليّ تدعوني إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] فأين النار؟ فقال رسول الله: «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار» [113] «5» . وروى طارق بن شهاب: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه قالوا: أرأيت قولكم وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فأين النار؟ فأحجم الناس، فقال عمر (رضي الله عنه) : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار، وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: إنما لمثلها في التوراة. وسئل أنس بن مالك عن الجنة: أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: أي أرض وأي سماء تسع الجنة؟ قيل: وأين هي؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش. وقال قتادة: كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع، وأن جهنم تحت الأرضين السبع.
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ثم وصفهم فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يعني في العسر واليسر والشدة والرخاء، فأول خلق من أخلاقهم الموجدة هو الحب والسخاء، ولهذا أخبرنا أحمد بن عبد الله، [ثنا زيد بن عبد العزيز أبو جابر ثنا جحدر ثنا بقية ثنا الأوزاعي عن الزهري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] «1» : «الجنة دار الأسخياء» «2» . وروى الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار» [114] «3» . فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ آية بينة على الواحد أراد مقام إبراهيم وحده، وقال: أثر قدميه في المقام آية بينة. وقرأ الباقون: آياتٌ بالجمع أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر، وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من أن يهاج فيه، لأنه حرم، وذلك بدعاء إبراهيم (عليه السلام) حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً «4» وكان في الجاهلية من دخله ولجأ إليه آمن من الغارة والقتل ولم يزده الإسلام إلّا شدة. وكتب أبو الخلد إلى ابن عباس: أن أول من لاذ بالحرم الحيتان الصغار والكبار هربا من الطوفان، وقيل: مَنْ دَخَلَهُ عام عمرة القضاء مع محمد صلّى الله عليه وسلّم كانَ آمِناً دليله قوله: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «5» . وقال أهل المعاني: صورة الآية خبر ومعناها أمر تقديرها: ومن دخلوه فأمنوه، كقوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «6» أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا. وقيل: (وَمَنْ دَخَلَهُ) لقضاء النسك معظما له عارفا لحقه متقربا إلى الله عزّ وجلّ كانَ آمِناً يوم القيامة وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» «7» [115] أي في نهار يوم القيامة. يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً يقول: من حجه ودخله كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك.
وروى زياد بن أبي عياش عن يحيى بن جعدة في قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قال: من النار. وقال جعفر الصادق (رضي الله عنه) : مَنْ دَخَلَهُ على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كانَ آمِناً من عذابه. وقال أبو النجم القرشي الصوفي: كنت أطوف بالبيت فقلت: يا سيدي، قلت: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من أي شيء؟ فسمعت من ورائي [قائلا] يقول: آمنا من النار، فالتفت فلم أر شيئا. ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أبان بن عياش عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات في أحد الحرمين بعثه الله عزّ وجلّ مع الآمنين» «1» [116] . وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة» «2» [117] . وروى شقيق بن سلمة عن ابن مسعود قال: وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم على ثنية المقبرة وليس هما يومئذ مقبرة، وقال: «بعث الله من هذه البقعة من هذا الحرم كله سبعين ألفا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ... بِغَيْرِ حِسابٍ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر» «3» . وبه عن عبد الرحمن بن زيد العمى عن أبيه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام، وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام» «4» [118] . وقال وهب بن منبه: مكتوب في التوراة: إن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم: اذهبوا إلى البيت الحرام فزموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذهب ثم يمدونه وملك ينادي: يا كعبة الله سيري فتقول: لست بسائرة حتى أعطي سؤلي. فينادي ملك من جو السماء: سلي تعط. فتقول الكعبة: يا رب شفّعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين. فيقول الله: قد أعطيتك سؤلك. قال: فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين، فيجتمعون حول الكعبة يلبّون ثم يقول الملائكة: سيري يا كعبة الله، فتقول: لست بسائرة حتى أعطي سؤلي، فينادي ملك من جو السماء: سلي تعط، فتقول الكعبة: يا رب
عبادك المؤمنين الذين وفدوا إليّ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ شعثا غبرا، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقا إليّ زائرين مسلمين طائعين، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وتشفّعني فيهم وتجمعهم حولي، فينادي الملك: إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصرّ على الذنوب الكبائر حتى وجبت له النار، فتقول الكعبة: إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام. فيقول الله: قد شفّعتك فيهم وأعطيتك سؤلك. فينادي منادي من جو السماء: ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس. فيعتزلون، فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار يطوفون ويلبون، ثم ينادى ملك من جو السماء: ألا يا كعبة الله سيري. فتقول الكعبة: لبيك لبيك والخير بيديك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ثم [يمدّونها] إلى المحشر «1» . وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قال عكرمة: لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «2» قالت اليهود: فنحن مسلمون فأمروا أن يحجوا إن كانوا مسلمين، واللام في قوله لله لام الإيجاب والإلزام، أي قد فرض وأوجب على الناس حجّ البيت. قرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي: حِجُّ، بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة. وقرأ ابن أبي إسحاق جميع ما في القرآن بالكسر، وهي لغة أهل نجد. وقرأ الباقون: بالفتح كل القرآن، وهي لغة أهل الحجاز. واختيار أبي عبيد، وأبي حاتم، فهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد. وقال الحسن الجعفي الفتح [المصدر] والكسر اسم الفعل، ثم قال: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا اعلم أن شرائط وجوب الحج تسعة أشياء هي: البلوغ والعقل والإسلام والحرية لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه» «3» [119] . ولقوله صلى الله عليه وسلّم: «أيّما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه حجة أخرى، وأيّما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى» [120] «4» . وأراد بالهجرة هاهنا: الإسلام وتخلية الطريق، وهي أن يكون الطريق آمنا مسلوكا، لا مانع فيه من عدو ونحوه، فإن كان غير مسلوك لم يجب الحج.
والدليل عليه: أنه لو كان محرما فحصره العدو، فله أن يحل منه، فإذا جاز له الخروج منه بالحصر فبان بعض «1» الدخول فيه، والقصد إليه مع وجود الحصر أولى وأحرى، وإمكان المسير وهو أن يكون في الوقت سعة ممكنة فيه الحج، فإذا وجد شرائط الحج وهو [....] «2» وقد بلغ الحاج إلى [الكرقة] «3» مثلا، فلا يجب عليه، لأنه جعل شرائطه في وقت تعذر فعله فيه، فهو كالصبي الذي يبلغ في أثناء نهار الصيام، فلا يجب عليه صوم ذلك اليوم، وزاد كاف وراحلة مبلغة وقوة بدنية واختلف أقاويل الفقهاء في تفصيل هذه الشرائط الثلاثة. فقال الشافعي (رضي الله عنه) : الاستطاعة وجهان: أن يكون مستطيعا بدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج، والثاني: أن يكون معضوبا «4» في بدنه لا يثبت على مركبه، وهو قادر على من يطعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وغير أجرة، وأما المستطيع بالمال: فقد لزمه فرض الحج بالسنّة، لحديث الخثعمية، فأما المستطيع بنفسه: فهو القوي الذي لا يلحقه مشقة غير محتملة في الكون على الراحلة، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج، فإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما يسقط فرض الحج عنه، فإن كان قادرا على المشي مطبقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة ونحوهما، فالمستحب له أن يحج ماشيا، رجلا كان أو امرأة. قال الشافعي: والرجل أقل عذرا من المرأة، لأنه أقوى وهذا على طريق الاستحباب لا على طريق الإيجاب، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج، لأنه يصير كلّا على الناس، وهذا الذي ذكرت من أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج، وهو قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس ومن التابعين الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق، دليلهم ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما السبيل إلى الحج؟ قال: «الزاد والراحلة» [121] «5» . ومثله روى ابن مسعود وابن عباس وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك. روى الحرث عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ملك زادا وراحلة تبلغانه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، فإن الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «6» [122] .
قال ابن عمر: قام رجل فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: «الزاد والراحلة» قال: فما الحاج؟ قال: « [الشعث التفل] » «1» قال: فما أفضل الحج؟ قال: «العج «2» والثج» «3» [123] . وقال مالك: إذا قدر على المشي ووجد الزاد والراحلة لزمه الحج بلا خلاف، وإن لم يجد الزاد والراحلة وقدر على المشي نظر، فإن كان مالكا للزاد فعليه فرض الحج لكل حال، وإن لم يكن مالكا للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق اختلف هذا باختلاف حال الرجل، فإن كان من أهل المروات وممّن لا يكسب بنفسه لم يجب عليه، وإن كان ممن يكسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج، وهكذا إذا كان عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج، فأوجب مالك على المطبق للمشي الحج إذا لم يكن له زاد وراحلة، وهذا قول عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة. وقال الضحاك: إن كان شابا صحيحا ليس له مال، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجته، فقال: له قائل ما كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت. فقال: لو أن لبعضهم ميراثا بمكة أكان تاركه بل كان ينطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا «4» أي مشاة. قالوا: ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان، فوجب أن لا يكون من فرض وجوبها الزاد والراحلة كالصلاة والصيام، فإذا [تقرر] أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج على قول أكثر أهل العلم، فوجب أن يبيّن كيفية اعتبار الراحلة والنفقة، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس. وأما الراحلة: فهي ما لا يلحقه مشقة شديدة في الركوب عليها، وأما النفقة: فإن كان ذا أهل وعيال يجب عليه نفقتهم، فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور والحج فرض على التراخي، وكان تقديم إنفاق العيال أولى وأهم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقوت» «5» [124] فإذا لم يكن له أهل وعيال فلا بد من نفقته لذهابه، وهل يعتبر فيه الرجوع أم لا؟ فيه قولان للفقهاء:
قال بعضهم: لا يعتبر، لأنه ليس عليه كثير مشقة في تركه القيام ببلده، لأنه لا أهل له فيه ولا عيال له، فكل البلاد له وطن. وقال الآخرون: يعتبر، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، لأنه قال في الإملاء: لا يجب عليه الحج حتى يكون له نفقته ذاهبا وجائيا. فأطلق ولم يفرّق، وهذا أولى بالصواب، لأن الإنسان يستوحش بفراق وطنه كما يستوحش بفراق مسكنه، ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرّب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن، فإن كان له عقار يستغله أو ثياب أو أثاث ونحوها، لزمه فرض الحج وبيع العقار ورقاب الأموال وصرفها في الحج فأما المسكن والخادم. قال الشافعي: في الأم: فإذا كان له مسكن وخادم له نفقة أهله بقدر غيبته لزمه الحج. وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن، لأنه قدّمه على نفقة أهله، فكأنه قال: بعد هذا كله. وقال أصحابه: يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويشتري مسكنا وخادما لأهله، فأما إذا كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن ربحها قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا؟ قال أبو العباس بن شريح: لا يلزمه ذلك وتبقى البضاعة على ما هي عليه ولا يحج من أصلها، لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته. وقال الآخرون: بل عليه أن يحج من أصل البضاعة، وهو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور، لأنه لا خلاف أنه لو كان له عقار يكفيه غلته لزمه بيع أصل العقار في الحج، وكذلك البضاعة، وجملته أن فرض الحج يتعلق بما يتعلق به فرض زكاة الفطر، فما وجب بيعه في زكاة الفطر وجب بيعه في الحج، فهذا القول في أحد وجهي الاستطاعة، فأما الوجه الآخر: فهو أن يكون مغصوبا في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب بحال، أو يكون فضو الخلقة ابتداء، أو يكون مريضا مزمنا شديدا لا يرجى برؤه، أو يكون شيخا كبيرا ضعيفا ولكن يكون قادرا على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه، فهذا أيضا مستطيع استطاعة ما. وهو على وجهين: أحدهما: أن يكون قادرا على مال يستأجر عليه من يحج، فإنه يلزمه فرض الحج، وهذا قول علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) روى عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج: جهّز رجلا يحج عنك. وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعبد الله بن المبارك وأحمد بن المبارك وإسحاق. والثاني: أن يكون قادرا على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه، فهذا أيضا يلزمه الحج عند الشافعي وابن حنبل وابن راهوية.
وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه الحج ببذل الطاعة بحال. وقال مالك: إذا كان مغصوبا سقط عنه فرض الحج أصلا، سواء كان قادرا على من يحج بالمال أو بغير المال، أو كان عاجزا فلا يلزمه فرض الحج، ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج، ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال بل إن أوصى أن يحج عنه حج بعد موته عنه من الثلث وكان تطوعا، واحتج بقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «1» فأخبر أنه ليس له إلّا ما سعى فمن قال له ما سعى غيره، فقد خالف ظاهر الآية ويقول عزّ وجلّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «2» وهذا غير مستطيع، لأن الحج هو القصد إلى البيت بنفسه ومن طريق الاعتبار هو أنه غير متمكن من الحج بنفسه، فوجب أن لا يلزمه الحج عن نفسه، كما لو كان مغصوبا لا مال له، ولأن كل عبادة لا يدخلها النيابة مع القدرة عليها، فوجب أن لا يدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة وعكسه الزكاة، ودليل الشافعي وأصحابه ما روى الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، فهل يجزي أن أحج عنه؟ فقال: «نعم» ، فقالت: فهل ينفعه ذلك؟ فقال (عليه السلام) : «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزي؟» قالت: نعم، قال: «فدين له! أحق» «3» [125] . فأوجب النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها نفسها له بأن تحج عنه، فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى، فأما إن بذل له المال دون الطاعة، والصحيح أن لا يلزمه قبوله والحج به عن بنفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعا، وأما من به مرض يرجى زواله كالبرسام والحمى الشديدة وغيرهما فلا يجوز له أن يحج عنه، لأنه لم ييأس عن الحج بنفسه فلم يحج له، كالصحيح وعكسه المغصوب. وقال أبو حنيفة: يجوز له أن يحج عن نفسه ولو حج عنه وبرأ سقط عنه فرض الحج والله أعلم. وَمَنْ كَفَرَ. قال الحسن وابن عباس وعطاء والضحاك: جحد فرض الحج. مجاهد: هو ما أن حج لم يره برا وإن قعد لم يره مأثما. وروى سفيان عن منصور عنه وَمَنْ كَفَرَ بالله واليوم الآخر، يدل عليه ما روى ابن عمر
فصل في إيجاب الحج
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في قوله: وَمَنْ كَفَرَ قال: «من كفر بالله واليوم الآخر» «1» . وقال سعيد بن المسيب: نزلت في اليهود حيث قالت: الحج إلى [ ... ] «2» واجب. الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الأديان كلهم فخطبهم، وقال: «إن الله عزّ وجلّ كتب عليكم الحج فحجّوا» فآمنت إليه أهل ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل، وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «3» . عطاء بن السائب: (وَمَنْ كَفَرَ) بالبيت. ابن زيد: (وَمَنْ كَفَرَ) بهذه الآيات التي ذكرها الله في قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ. قال السدي: أما مَنْ كَفَرَ فهو من وجد ما يحج عنه ثم لم يحج حتى مات فهو كفره به. فصل في إيجاب الحج قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة مالكم وحجّوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم» «4» [126] . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «حجّوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة» «5» [127] . وقال ابن مسعود: حجّوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلّا نفقت «6» . وروى عبد الرحمن بن أبي سابط عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» «7» [128] . وحدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات ولم يحج لم يقبل الله منه يوم القيامة عملا ... » [129] . شعبة عن قتادة عن الحسين قال: قال عمر (رضي الله عنه) : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ إلى تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصرفون عن دين الله مَنْ آمَنَ. وقرأ الحسن: تَصِدُّونَ، بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان، صدّ وأصدّ مثل صل اللحم وأصل، وخمّ وأخم. ودليل قراءة العامة قوله تعالى: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى «1» وقوله: وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2» ونظائرهما. تَبْغُونَها تطلبونها عِوَجاً زيغا وميلا، والكلام حال على الفعل، مجازه: لم تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجا. قال أبو عبيدة: العوج بالكسر في الدين والقول والعمل، والعوج بالفتح في الجدار والحائط وكل شخص قائم وَأَنْتُمْ شُهَداءُ الآن في التوراة مكتوب: إن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام، وإن فيه نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال زيد بن أسلم: مرّ شاس ابن قيس اليهودي. وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الطعن في المسلمين شديد الحسد لهم. على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: لقد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه قال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم
يوم بعاث وما كان قيله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قبطي أحد بني حارثة من الأوس، وحيان بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددتها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا وقالا: قد جعلنا السلاح موعدكم الظاهرة وهي حرة، وخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها على بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: «يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم إليه كفارا الله الله» [130] فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيدهم من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين. فأنزل الله في شأن شاس بن قيس «1» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني الأوس والخزرج إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني شاسا وأصحابه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ. قال جابر بن عبد الله: ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله علينا فأومى إلينا بيده فكففنا وأصلح الله ما بيننا فما كان من شخص أحبّ إلينا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما رأيت قط يوما أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم، ثم قال على وجه التعجب وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ يعني ولم تكفرون وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ من القرآن وَفِيكُمْ رَسُولُهُ محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال قتادة: في هذه الآية علمان بيّنان: نبي الله وكتاب الله، فأمّا نبي الله فقد مضى وأمّا كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة، فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ أي يمتنع بالله ويتمسك بدينه وطاعته فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق واضح. وقال ابن جريج: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ) أي يؤمن بالله، وأصل العصم والعصمة المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصم. قال الفرزدق: أنا ابن العاصمين بني تميم ... إذا ما أعظم الحدثان نابا «2» والممتنع معتصم. فقال: اعتصمت الشيء واعتصمت به وهو الأفصح.
قال الشاعر: يظل من خوفه الملاح معتصما ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد «1» وقال آخر: إذا أنت جازيت الإخاء بمثله ... وآسيتني ثم اعتصمت حباليا «2» وقال حميد بن ثور يصف رجلا حمل امرأة بذنبه: وما كاد لما أن علته يقلها ... بنهضته حتى أكلان واعتصما يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ. قال مقاتل بن حيان: كان بين الأوس والخزرج في الجاهلية وصال حتى هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فأصلح بينهم، فافتخر بعد ذلك منهم رجلان: ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة، ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمة له ورضى الله بحكمه في بني قريظة، وقال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الكلام بينهما فغضبا، فقال الخزرجي: أما والله لو تأخر الإسلام قليلا وقدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم لقتلنا ساداتكم، واستعبدنا آبائكم ونكحنا نسائكم بغير مهر. فقال الأوسي: قد كان الإسلام متأخرا زمانا طويلا فهلّا فعلتم ذلك، فقد ضربناكم حتى أدخلناكم الديار، وأنشدا الأشعار وتفاخرا وتأذيا، فجاء الأوس إلى الأوسي والخزرج إلى الخزرجي ومعهم سلاح، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فركب حمارا وأتاهم فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا. وقال عطاء: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صعد المنبر وقال: «يا معشر المسلمين ما لي أوذى في أهلي» . يعني الطعن في قصة الإفك، وقال: «ما علمت على أهلي إلّا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلّا معي» . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله وأكفيك أمره وأنصرك عليه، إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكنه احتملته الحمية فقال لسعد
ابن معاذ: كذبت لعمر الله. فقال سعد: والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ودعوا بالسلاح، فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكنوا، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1» . عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حَقَّ تُقاتِهِ أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر» [131] «2» . وقال أبو عثمان: أن لا يعصى طرفة عين. مجاهد: أن يجاهدوا حَقَّ جِهادِهِ. ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم. الحسن: هو أن تعطيه فيما تعبده. قال الزجاج: أي اتقوا فيما يحق عليكم أن تتقوه واسمعوا وأطيعوا. قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله ومن يقوى على هذا وشق عليهم فأنزل الله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «3» فنسخت هذه الآية. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ إلّا هذا. وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. قال طاوس: معناه اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا، وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مؤمنون. وقيل: مخلصون مفوضون أموركم إلى الله عزّ وجلّ. وقال المفضل: المحسنون الظن بالله. وروى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرّت على أهل الأرض معيشتهم فكيف بمن هو طعامه» «4» . وعن أنس بن مالك قال: لا يتقى الله عبد حَقَّ تُقاتِهِ حتى يخزن من لسانه وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً أصل الحبل السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة، ولذلك سمّي الأمان حبلا، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف.
وقال الأعشى بن ثعلبة: وإذا تجوزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها «1» واختلفوا في الحبل المعني بهذه الآية: فقال ابن عباس: تمسكوا بدين الله. وروى الشعبي عن ابن مسعود أنه قال في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً قال الجماعة. وقال ابن مسعود: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير ممّا تحبون في الفرقة. وقال مجاهد وعطاء: بالعهد. قتادة والسدي والضحاك: هو القرآن، يدل عليه ما روى عن الحرث أنه قال: دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث، فأتيت عليا كرم الله وجهه فقلت: ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث؟ فقال: وقد فعلوا؟ فقلت: نعم، فقال: أما أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنها ستكون فتنة» قال: قلت: فما الخروج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته إلّا أن قالوا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «2» من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خذها إليك يا أعور» [132] «3» . وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول الم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة» [133] «4» .
وروى سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان قال: دخلنا على زيد بن أرقم فقلنا له: لقد صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصليت خلفه؟ قال: نعم، وإنه خطبنا فقال: «إني تارك فيكم كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة» [134] «1» . وروى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحد هما أكبر من الآخر كتاب الله جل جلاله من السماء وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض» [135] «2» . فقال مقاتل بن حيان: (بِحَبْلِ اللَّهِ) أي بأمره وطاعته. أبو العالية: بإخلاص التوحيد لله عزّ وجلّ. ابن زيد: بالإسلام. وَلا تَفَرَّقُوا كما تفرقت اليهود والنصارى. وروى الأوزاعي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن امتي ستفترق على اثنى وسبعين فرقة كلها في النار إلّا واحدة» فقيل يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ قال فقبض يده، وقال: «الجماعة» [136] ثم قرأ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا «3» . وروى أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد: نحن حبل الله الذي قال الله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. أخبرني محمد بن كعب القرظي عن أبي سعيد: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله رضى لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا: رضى لكم أن تعبدوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وأن تعتصموا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لمن ولّاه الله أمركم، وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال» «4» [137] . وعن عبد الله بن بارق الحنفي عن سماك- يعني الحنفي- قال: قلت لابن عباس: قوم يظلموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا ألا تمنعهم؟ فقال: لا يا حنفي أعطهم صدقتهم وإن أتاك أهدل الشفتين منتفش المنخرين- يعني زنجيا- فأعطه، فنعم القلوص قلوص يأمن بها المرؤوس عروسه ووطنه- يعني امرأته- وقربة اللبن يا حنفي الجماعة الجماعة، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها أما سمعت قول الله: جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً. قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار قال: كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب سمير وحاطب، وذلك أن سميرا هو سمير بن زيد ابن مالك أحد بني عمرو بن عوف، قيل: حليفا لملك بن عجلان، [والآخر من] «1» الخزرج يقال له: حاطب بن أبحر من مزينة، فوقعت بين القبيلتين الحرب، فزعم العلماء بأيام العرب أن تلك الحرب والعداوة تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم، واتصلت تلك العداوة إلى أن أطفأها الله بالإسلام وألّف بينهم برسوله صلّى الله عليه وسلّم وكان سبب ألفتهم وارتفاع وحشتهم أن سويد بن صامت أخا بني عمرو بن عوف قدم مكة حاجا أو معتمرا وكان سويد إنما تسميه قومه الكامل لجلادته وشعره ونسبه وشرفه وحكمته، فقدم سويد مكة وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعث وأمر بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فتصدّى له حين سمع به، فدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام. فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما الذي معك؟» قال: مجلة لقمان، يعني حكمته، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعرضها عليّ» فعرضها عليه فقال: «إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل، هذا قرآن أنزله الله عليّ نورا وهدى» [138] فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعده عنه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث وكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيش أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاهم فجلس إليهم فقال: «هل لكم إلى خير ممّا جئتم له؟» قالوا: وما ذلك؟ قال: «أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى [الله أن يعبدوا الله و] لا يشركوا بالله شيئا وأنزل عليّ الكتاب» [139] ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا: أي قوم هذا والله خير ممّا جئتم به، فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت أياس وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين بني الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا، وهم ستة نفر أسعد بن زرارة، وعوف بن عفراء، ورافع بن ملك، وقطبة بن عارف، وعقبة ابن عامر، وجابر بن عبد الله.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 إلى 138]
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أنتم؟» قالوا: نفر من الخزرج، قال: «أمن موالي اليهود؟» قالوا: نعم، قال: «أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟» [140] . قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، قال: وكان ممّا صنع الله لهم به في الإسلام أن يهودا كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل أوثان وشرك، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيّنا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولئك النفر ودعاهم إلى الله، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم لك وستقدم عليهم فتدعوهم إلى حربهم، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا. فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشاهم فيهم تبق لهم دار من دور الأنصار إلّا وفيها ذكر من رسول الله حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا وهم أسعد بن زرارة، وعوف ومعوّذ ابنا عفراء ورافع بن مالك بن العجلاني الخزرجي وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو فهؤلاء خزرجيون، وأبو الهيثم بن التيهان واسمه ملك وعويمر بن ساعدة من الأوس، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بيعة النساء على أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يزنوا إلى آخر الآية ثم قال: «إن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا من ذلك [فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم] «1» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «السخي الجهول أحبّ إلى الله من العالم البخيل» «2» [141] . عبد السلام بن عبد الله عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «السماح شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة، والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار» «3» [142] . [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 138] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أي الجامعين الغيظ عند امتلاء أنفسهم منه، والكافين غضبهم عن
إمضائه يردّون غيظهم وحزنهم إلى أجوافهم ويصبرون فلا يظهرون، وأصل الكظم: حبس الشيء عن امتلائه، يقال: كظمت القربة إذا ملأتها، وما يقال لمجاري الماء: كظائم، لامتلائها بالماء وأخذ بها كظامة، ومنه قيل: أخذت بكظمه، يعني بمجاري نفسه، ومنه كظم الإبل وهو حبسها جررها في أجوافها ولا تجتر، وإنما يفعل ذلك من الفزع والجهل. قال أعشى باهلة يصف رجلا نحّارا للإبل وهي تفزع منه: قد تكظم البزل «1» منه حين تبصره ... حتى تقطع في أجوافها الجرر «2» ومنه قيل: رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئا غضبا وغما وحزنا. قال الله تعالى: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ «3» وقال: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ «4» وقال: إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ «5» وقال: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ «6» . وقال عبد المطلب بن هاشم: فحضضت قومي فاحتبست قتالهم ... والقوم من خوف المنايا كظم «7» وفي الحديث: «ما من جرعة أحمد عقبانا من جرعة غيظ مكظومة» [143] «8» . وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كظم الغيظ وهو يقدر على إنفاذه دعاه الله يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيّره من أي الحور يشاء» [144] «9» . أنشدنا أبو القاسم محمد بن حبيب قال: أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال: أنشدنا ابن أبي الزنجي ببغداد قال: أنشدنا العرجي: وإذا غضبت فكن وقورا كاظما ... للغيظ تبصر ما تقول وتسمع فكفى به شرفا تصبر ساعة ... يرضى بها عنك الإله وترفع «10» أي يرفع قدرك.
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ. قال الرباحي والكلبي: عن المملوكين، وقال زيد بن أسلم ومقاتل: عمّن ظلمهم وأساء إليهم، وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عند ذلك: «إن هؤلاء في أمتي قليل إلّا من عصم الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت» «1» [145] . وعن أبي هريرة أن أبا بكر (رضي الله عنه) كان مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبتسم، ثم ردّ أبو بكر (رضي الله عنه) عنه بعض الذي قال، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله شتمني وأنت تبتسم ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت، فقال: «إنك حين كنت ساكتا كان معك ملك يرد عنك فلما تكلمت وقع الشيطان فلم أكن لأقعد في مقعد يقعده الشيطان،. ثمّ قال.: يا أبا بكر ثلاث كلّهن حق: أنه ليس عبد يظلم بمظلمة فيعفوا عنها إلّا أعز الله نصره، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد به كثرة إلّا زاده الله قلة وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة إلّا زاده الله بها كثرة» [146] «2» . وقال عروة بن الزبير: لن يبلغ المجد أقوام وإن كرموا ... حتى يذلوا، وإن عزّوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مشرقة ... لا صفح ذل ولكن صفح أحلام «3» وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. قال مقاتل: يعني إن هذه الأشياء إحسان ومن فعل ذلك فهو محسن وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. قال الحسن: الإحسان أن يعمّ ولا يخص كالريح والشمس والمطر. سفيان الثوري: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، فإن الإحسان إلى المحسن [مزاجرة] «4» كلمة السوق خذ وهات. السقطي: الإحسان أن يحسن وقت الإمكان، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان. أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو العباس عبد الله بن محمد الجماني: ليس في كل ساعة وأوان ... تتهيأ صنائع الإحسان
فإذا أمكنت فبادر إليها ... حذرا من تعذر الإمكان «1» ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت قصورا مشرفة على الجنة فقلت يا جبرئيل لمن هذه؟ قال: ل الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» [147] «2» . إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية. قال ابن عباس: قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا ذنب ذنبا أصبحت كفارة ذنبهم مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك وأذنك، افعل كذا، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بخير من ذلك» فقرأ عليهم هذه الآيات «3» . وقال عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فهل لك فيه؟ قالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها، فقالت له: اتق الله، فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية. وقال مقاتل والكلبي: آخا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله، فاشترى لهم اللحم ذات يوم، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها فدخلت المرأة بيتا فتبعها فاتقته بيدها، فقبّل يدها ثم ندم وانصرف، فقالت له: والله ما حفظت غيبة أخيك ولا نلت حاجتك، فخرج الأنصاري ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله. فقالت: لا أكثر الله في الاخوان مثله ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائبا مستغفرا، وطلبه الثقفي حتى وجده، فأتى به أبا بكر (رضي الله عنه) رجاء أن يجدا راحة عنده فخرجا، وقال الأنصاري: هلكت، قال: وما أهلكك؟ فذكر له القصة، فقال أبو بكر: ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم، ثم لقى عمر (رضي الله عنه) فقال: مثل ذلك، فأتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له مثل مقالتهما، فأنزل الله تعالى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً هي صفة لاسم متروك تقديره: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني قبيحة خارجة عمّا أذن الله فيه، وأصل الفحش القبيح والخروج عن الحد، ولذلك قيل للمفرط في الطول أنه فاحش الطول، والكلام القبيح غير [القصد] فالكلام فاحش والمتكلم به مفحش.
قال السدي: يعني بالفاحشة هاهنا الزّنا، يدل عليه ما روى حماد بن ثابت عن جابر وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال: زنى القوم وربّ الكعبة، أو ظلموا أنفسهم بالمعصية. وقال مقاتل والكلبي: وهو ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل. الأصم: فعلوا فاحشة الكبائر أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالصغائر، وقيل: فَعَلُوا فاحِشَةً فعلا وظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قولا. ذَكَرُوا اللَّهَ قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله عزّ وجلّ، مقاتل والواقدي: تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه، مقاتل بن حيان: ذَكَرُوا اللَّهَ باللسان عند الذنوب فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ أي وهل يغفر الذنوب إلّا الله وما يغفر الذنوب إلّا الله فلذلك رفع. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا واختلفوا في معنى الإصرار: فقال أكثر المفسرين: معناه لم يقيموا ولم يدوموا ولم يثبتوا عليه، ولكنهم تابوا وأقرّوا واستغفروا. قتادة: إيّاكم والإصرار، فإنما هلك المصرون الماضون قدما قدما في معاصي الله، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله، ولا يتوبون من ذنب أصابوه، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك. وقال الحسن: إتيان العبد ذنبا عمدا إصرارا، السدي: الإصرار السكوت وترك الاستغفار، وفي الخبر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» «1» [148] . وروى عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس كبيرة بكبيرة مع الاستغفار وليس صغيرة بصغيرة مع الإصرار» «2» [149] وأصل الإصرار الثبات على الشيء. قال الحطيئة: يصف الخيل: عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا ... غلالتها بالمحصدات أصرّت «3» أي ثبتت على عدوّها، نظم الآية: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ... وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ... ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ. قال ابن عباس والحسن ومقاتل وابن يسار: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنها معصية.
الضحاك: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن الله يملك مغفرة ذنوبهم. السدي: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم قد أذنبوا. وقيل: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن الإصرار ضار، فإن ترك الإصرار خير من التمادي، كما قيل: أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه ... إن الجحود الذنب ذنبان «1» وقال الحسين بن الفضل: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن لهم ربّا يغفر الذنوب، وإنما اقتبس هذا من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أذنب ذنبا وعلم أن له ربّا يغفر الذنوب غفر له وإن لم يستغفر» «2» [150] . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله عزّ وجلّ: من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي» «3» [151] . وقال عبيد بن عمير: في بعض الكتب المنزلة: يا بن آدم إنك ما دعوتني وما رجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي. وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مرّ رجل ممّن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر إليها فحدث نفسه بشيء ثم قال: أنت أنت وأنا أنا، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب ثم خرّ لله ساجدا، فقيل له ارفع رأسك فأنا العواد بالمغفرة وأنت العواد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له» «4» [152] . وقيل: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم إن استغفروا غفر لهم وإن التوبة تمحق الحوبة. أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي إلى الْعامِلِينَ ثواب المطيعين. يقال: أوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) أن يا موسى ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل، يا موسى كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي. وقال شهر بن حوشب: طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب. وقال ثابت البناني: بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية إلى آخرها. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ، قال ابن زيد: أمثال. المفضّل: أمم، والسنّة الأمّة. قال الشاعر:
[سورة آل عمران (3) : الآيات 139 إلى 145]
ما عاين الناس من فضل كفضلكم ... ولا رأوا مثلكم في سالف السنن «1» وقال بعضهم: معناه أهل السنن، وقال عطاء: شرائع، الكلبي: قد مضت لكل أمة سنّة ومنهاج إذا ابتغوها رضي الله عنهم، مجاهد: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ بالهلاك فيمن كذب قبلكم، والسنّة في اللغة: المثال المتبع والإمام المؤتم به، فقال: سنّ فلان سنّة حسنة أو سنّة سيئة إذا عمل عملا يقتدى به من خير أو شر. قال لبيد: من معشر سنّت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنّة وإمامها «2» قال سليمان بن قبة: وإن الألى بالطف من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التآسيا «3» ومعنى الآية: قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية المكذبة الكافرة سنن بإمهالي واستدراجي إياهم حتى بلغ الكتاب فيهم أجلي على الذي أجلته لأدلة أنبيائي وإهلاكهم. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ آخر أمرهم الْمُكَذِّبِينَ منهم، وهذا في يوم أحد. يقول: فإذا أمهلهم واستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأوليائه وهلاك أعدائه، هكذا قال ابن إسحاق هذا الذي ذكرت. هذا القرآن بَيانٌ لِلنَّاسِ عامة وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ من الجهالة لِلْمُتَّقِينَ خاصّة. [سورة آل عمران (3) : الآيات 139 الى 145] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا الآية، هذا تعزية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد، وحثّ منه إياهم على قتال عدوهم، ونهى عن العجز والفشل فقال: وَلا تَهِنُوا أي ولا تضعفوا ولا تخيبوا يا أصحاب محمد على جهاد أعدائكم بما قاتلوكم يوم أحد من القتل والقرح وَلا تَحْزَنُوا على ظهور أعدائكم وعلى ما أصابكم من المصيبة والهزيمة، وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة، ومن الأنصار سبعون رجلا. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي لكم تكون العاقبة والنصر والظفر. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني إذ كنتم، ولأنكم مؤمنون. قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشعب فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلوا عليهم الجبل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تعل علينا اللهم لا قوة لنا إلّا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر» «1» [153] فأنزل الله تعالى هذه الآية، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل، فرموا خيل المشركين حتى هزموهم وعلا المسلمون الجبل، فذلك قوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «2» . وقال الكلبي: نزلت هذه الآية بعد يوم أحد، حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يخرج إلّا من شهد معنا بالأمس» «3» واشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ودليله قوله عزّ وجلّ: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ «4» الآية. وقيل: (وَلا تَهِنُوا) لما نالكم من الهزيمة (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الغنيمة (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بقضاء الله ووعده. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ الآية. قال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كئيبا حزينا جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها وأبيها مقتولين وهي تلدم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أهكذا يفعل برسولك؟» «5» [154] فأنزل الله تعالى إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ جرح يوم أحد فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوم بدر.
وقرأ محمد بن السميقع: قَرَحٌ فتح القاف والراء على المصدر. وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وخلف: بضم القاف حيث كان، وهي قراءة ابن مسعود. وقرأ الباقون: بفتح القاف، وهي قراءة عائشة واختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، قالا: لأنهما لغة تهامة والحجاز، لغتان مثل الجهد والوجد والوجد. وقال بعضهم: القرح بالفتح الجراحات واحدتها قرحة، والقرح بالضم وجع الجراحة. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فيوما عليهم ويوما لهم وذلك أنّ الله عزّ وجلّ أدل المسلمين من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وأدال المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا منهم خمسة وسبعين. قال أنس بن مالك: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن ، ونظير هذه الآية قوله: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ «1» يوم أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها يوم بدر، يعني المثلى والأسرى. عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما كان يوم أحد صعد أبو سفيان الجبل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس لهم أن يعلونا» [155] قال: فمكث أبو سفيان ساعة ثم قال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة اين ابن الخطاب؟ فقال عمر (رضي الله عنه) : هذا رسول الله وهذا أبو بكر وها أنا عمر. فقال أبو سفيان: يوما بيوم وأن الأيام دول والحرب سجال. فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال: إنكم لتزعمون ذلك فقد خبنا إذا وخسرناهم. قال أبو سفيان: أما إنكم سوف تجدون قتلاكم مثلى ولم يكن ذلك على رأي سراتنا ثم ركبته حمية الجاهلية، فقال: أما إنه إذا كان ذلك لم نكرهه. قال الثعلبي: أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو الحسن الكارزي قال: أنشدنا محمد بن القاسم الجمحي: أرى الناس قد أحدثوا شيمة ... وفي كل حادثة يؤتمر يهينون من حقروا فقره ... وإن كان فيهم تقي أو تبر
فيوما علينا ويوما لنا ... ويوم نساء ويوما نسر «1» وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني وإنما كانت هذه المداولة لِيَعْلَمَ اللَّهُ ليرى الله الذين كفروا منكم ممّن نافقوا فيهزأ بعضهم من بعض. وقيل: معناه وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن يكلّفهم وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ يكرم أقواما بالشهادة، وذلك أن المسلمين قالوا: أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة. فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني يطهّرهم من ذنوبهم وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ يفنيهم ويهلكهم وينقصهم ثم عزّاهم فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ... (وَيَعْلَمَ) نصب على الظرف، وقيل: بإضمار أن الخفيفة. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ وذلك أنهم تمنوا أن يكون لهم يوم كيوم بدر فأراهم الله تعالى يوم أحد فذلك قوله: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ أي أسبابه وآثاره وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية. قال أهل التفسير وأصحاب المغازي: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل الشعب في سبعمائة رجل وأمر عبد الله بن جبير. أحد بني عمر. وعمر بن عوف. وهو أخو خوات بن جبير. على الرماة وهم خمسون رجلا. فقال: «أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنّا بالنبل لا نؤتا من خلفنا وإن كان لنا أو علينا، ولا تبرحوا مكانا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار وكانت هند تقول: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق الدر في المخانق ... والمسك في المفارق إن تقبلوا نعانق ... ونفرّق النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق «2» وكان أبو عامر عبد عمرو بن الصيفي أول من لقيهم بالأحابيش وعبيد أهل مكة، فقاتلهم قتالا شديدا حتى حميت الحرب. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني» فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري وكان رجلا شجاعا يحتال عند الحرب، فلما أخذ السيف اعتمّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل ألّا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها لمشية يبغضها الله إلّا في هذا الموضع» ثم حمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على المشركين فهزموهم [156] «1» . وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش، فأنزل الله نصره على المؤمنين. قال الزبير بن العوّام: فرأيت هندا وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدادهن ما دون أخدهن شيء، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب. واختلفوا، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال بعضهم: ما بقي من الأمر شيء، ثم انطلقوا عامتهم ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأوا ظهورهم خالية، صاح في خيل المشركين ثم حمل على أصحاب النبي من خلفهم، فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله، وتفرّق عنه أصحابه، فأقبل عبد الله بن قمية يريد قتل رسول الله فذب مصعب بن عمير. وهو صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، ويوم أحد وكان اسم رايته العقاب. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل مصعب دونه، قتله ابن قمية فرجع وهو يظن أنه قتل رسول الله، فقال: إني قتلت محمدا وصاح صارخ: ألا أن محمدا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوا الناس ويقول: «إليّ عباد الله إليّ عباد الله» [157] فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه وأصيبت يد طلحة بن عبد الله فيبست، وقى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانها فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدركه أبي بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت، فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا فقال: «دعوه» حتى إذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها. قال رسول الله: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» [158] فلما كان يوم أحد ودنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول: قتلني محمد، واحتمله أصحابه فقالوا: ليس عليك
شيء، فقال: بلى، لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي: أقتلك إن شاء الله، فلو بزق عليّ بعد هذه المقالة لقتلني. فما لبث إلّا يوما حتى مات بموضع يقال له صرف «1» . فقال حسان بن ثابت في ذلك: لقد ورث الضلالة عن أبيه ... أبي حين بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رم عظم ... وتوعده وأنت به جهول يقول فكيف يحيى الله هذا ... وهذا العظم عار ومستحيل «2» [وقد قتلت بنو النجار منكم ... أمية إذا يغوث: يا عقيل وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا ... أبا جهل لأمهما الهبول وأفلت حارث لما شغلنا ... بأسر القوم، أسرته فليل] «3» وقال حسان بن ثابت أيضا: ألا من مبلغ عني أبيّا ... فقد ألقيت في جوف السعير تمنى بالضلالة من بعيد ... وقول الكفر يرجع في غرور فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ ... كريم الأصل ليس بذي فجور له فضل على الأحياء طرّا ... إذا نابت ملمّات الأمور «4» قالوا: وفشا في الناس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قتل، فقال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا والقوا بأيديهم، وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك وسمي أنس: يا قوم إن كان محمد قد قتل فإن ربّ
محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل، ثم إن رسول الله انطلق إلى الصخرة وهو يدعوا الناس، فأول من عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك فقال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليّ أن اسكت، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي على الفرار فقالوا: يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فأنزل الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ومحمد هو المستغرق بجميع المحامد، لأن الحمد لا يستوجبه إلّا الكامل، والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلّا المستولي على الأمد في الكمال، وأكرم الله عزّ وجلّ نبيّه وصفيّه باسمين مشتقين من اسمه تعالى: محمد وأحمد، وفيه يقول حسان بن ثابت: ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه ... والله أعلى وأمجد قد شق له من اسمه ليجله ... فذو العيش محمود وهذا محمد نبي أتانا بعد يأس وفترة من الدين ... والأوثان في الأرض تعبد فأرسله ضوءا منيرا وهاديا ... يلوح كما لاح الصقيل المهنّد «1» روى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش وشتمهم يسبون مذمّما وأنا محمد» [159] «2» . وروى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سمّيتم الولد محمدا فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها فما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلّا خيرا لهم وما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه أحمد أو محمد إلّا قدّس في كل يوم ذلك المنزل مرتين» «3» [160] . وعن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الرجل: إنما أدعوا ذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي» «4» [161] . وروى محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجمعوا بين
اسمي وكنيتي أنا أبو القاسم الله يعطي وأنا أقسم» «1» ثم رخص في ذلك لعلي وابنه» [162] . وروى ليث عن محمد بن بشير عن محمد بن الحنفية عن علي (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ولد لك غلام نحلته اسمي وكنيتي» «2» [163] . أَفَإِنْ ماتَ على فراشه أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ رجعتم إلى دينكم الأول الكفر وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فيرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده وإنما يضر نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ المؤمنين. روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي، وأن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه، كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات قال: فأقبل أبو بكر (رضي الله عنه) حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيت عائشة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسجّى ببردة خيبر، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم قال: بأبي أنت وأمي، أما الموتة التي كتبها الله عزّ وجلّ عليك فقد ذقتها ثم لم تصبك بعدها موتة أبدا، ثم ردّ الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال: على رسلك يا عمر فأنصت قال: فأبى إلّا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. فقال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تلاها أبو بكر يومئذ، قال: فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم. قال أبو هريرة: قال عمر: والله ما هو إلّا أن سمعت أن أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت أن رسول الله قد مات. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني وما ينبغي لنفس أن تموت. وقال الأخفش: اللام في قوله: (لِنَفْسٍ) مقتولة تقديره: ما كانت نفس لتموت (إلّا بإذن الله) بعلم الله، وقيل: بأمره.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 146 إلى 155]
كِتاباً مُؤَجَّلًا يعني أنّ لكل نفس أجلا هو بالغه ورزقا مستوفيه، لا يقدر أحد على تقديمه وتأخيره. قال مقاتل: من اللوح المحفوظ، ونصب الكتاب على المصدر يعني: كتب الله كتابا مؤجلا، كقوله: رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ «1» وصُنْعَ اللَّهِ وكِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وقيل: هو إغراء أي: آمنوا بالقدر المقدور. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها يعني ومن يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله، ونظيرها قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ «2» الآية. وقال أهل المعاني: الآية مجملة ومعناها: نؤته من نشاء ما قدرناه له، دليله قوله عزّ وجلّ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ «3» نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة. وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أي الموحدين المطيعين. والقراءة بالنون لقوله تعالى: نُؤْتِهِ مِنْها. قرأ الأعمش: وسيجزي بالياء، يعني الله سبحانه. وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» «4» [164] . [سورة آل عمران (3) : الآيات 146 الى 155] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ. قرأ الحسن وأبو جعفر: (كاين) مقصورا بغير همزة ولا تشديد حيث وقع. وقرأ مجاهد وابن كثير وشيبة: (وكأين) مهموزا ممدودا مخففا على وزن فاعل، وهو اختيار أبي عبيد، اعتبارا بقول أبي بن كعب لزر بن حبيش: (كاين) بعد سورة الأحزاب. فقال: كذا آية. وقرأ ابن محيصن: (كأي) ممدودا بغير نون. وقرأ الباقون: (وَكَأَيِّنْ) مشدودا بوزن كعيّن، وهي لغة قريش واختيار أبي حاتم، وكلها لغات معروفة بمعنى واحد. وأنشد المفضل: وكائن ترى في الحي من ذي صداقة ... وغيران يدعو ويله من حذاريا «1» وقال في التشديد: كأين من أناس لم يزالوا ... أخوهم فوقهم وهم كرام «2» وجمع الآخر بين اللغتين، فقال: كأين أبدنا من عدوّ يغزنا ... وكأين أجرنا من ضعيف وخائف «3» ومعناه كم، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهام، ولم يقع التنوين صورة في الخط إلّا في هذا الحرف خاصة.
قتل. قرأ قتادة وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (قتل) : وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي حاتم. وقرأ الآخرون: (قاتَلَ) ، وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد، فمن قرأ (قاتَلَ) فلقوله: فَما وَهَنُوا ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعد ما قتلوا، ولقول سعيد بن جبير: ما سمعنا أن نبيا قط قتل في القتال. وقال أبو عبيد: إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل خاصة لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعم. ومن قرأ (قتل) فله ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون القتل واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قراءة (قتل) فيكون في الآية إضمار معناه ومعه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه، ويقول: خرجت معي تجارة، أي ومعي. والوجه الثاني: أن يكون القتل نال النبي ومعه من الربيين، ويكون وجه الكلام: قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني فلان، وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله: فَما وَهَنُوا راجعا إلى الباقين الذين لم يقتلوا. والوجه الثالث: أن يكون القتل للربيين لا غير. رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، قرأ ابن مسعود وأبو رجاء والحسن وعكرمة: (رُبِّيُّونَ) بضم الراء، وهي لغة بني تميم. الباقون: بالكسر، وهي اللغة الفاشية [العالية] . والربيون جمع الربّية وهي الفرقة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع. السدي: جموع كثير. قال حسان: وإذا معشر تجافوا عن الحق ... حملنا عليهم ربيا «1» ابن مسعود: الربيون الألوف، الضحاك: الربية الواحدة ألف، الكلبي: الربية الواحدة عشر ألف، الحسن: فقها علما صبرا، ابن زيد: هم الأتباع، والرابيون: هم الولاة، والربيون: الرعية، وقال بعضهم: هم الذين يعبدون الرب، والعرب تنسب الشيء إلى الشيء فيغير حركته
كما يقول بصريّ منسوب إلى بصرة، فكذلك رِبِّيُّونَ منسوب إلى الربّ، وقال بعضهم: مطيعون منيبون إلى الله فَما وَهَنُوا. قرأه العامة: بفتح الهاء، وقرأ قعنب أبو السماك العدوي: بكسر الهاء، فمن فتحه فهو من وهن يهن وهنا، مثل وعد يعد وعدا، قاله المبرد وأنشد: إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو جلد وبطش أيد عزّت ولم تكسر وإن هي بددت ... قالوهن والتكسير للمتبدد «1» ومن كسر فهو من وهن يهن، مثل ورم يرم قاله أبو حاتم. فقال الكسائي: هو من وهن يوهن وهنا، مثل وجل يوجل وجلا. قال الشاعر: طلب المعاش مفرق بين الأحبة والوطن ... ومصير جلد الرجال إلى الضّراعة والوهن «2» ومعنى الآية: ف ما ضَعُفُوا عن الجهاد لما نالهم من ألم الجراح، وقيل: الأصحاب وما عجزوا لقتل نبيّهم. قال قتادة والربيع: يعني ما ارتدّوا عن بصيرتهم ودينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بالله، السدي: وما ذلّوا، عطاء: وما تضرّعوا، مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم، أبو العالية: وما جبنوا، المفضل والقتيبي: وما خشعوا، ومنه أخذ المسكين لذله وخضوعه وهو مفعيل منه، مثل معطير من العطر ومنديل من الندل، وهو دفعه من واحد إلى آخر، وأصل الندل السوق، ولكنهم صبروا على أمر ربّهم وطاعة نبيّهم وجهاد عدوهم. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ. قرأ الحسن وابن أبي إسحاق: (قَوْلُهُمْ) بالرفع على اسم كان وخبره في قوله: أَنْ قالُوا. وقرأ الباقون: بالنصب على خبر كان والاسم في أن، قالوا تقديره: وما كان قولهم إلّا قولهم كقوله: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ «3» وما كانَ حُجَّتَهُمْ «4» ونحوهما، ومعنى الآية: وَما كانَ قَوْلَهُمْ عند قتل نبيّهم إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا يعني خطايانا الكبار، وأصله مجاوزة الحد وَثَبِّتْ أَقْدامَنا كيلا تزول وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد فَآتاهُمُ اللَّهُ، وقرأ الجحدري: فأثابهم الله من
الثواب، ثَوابَ الدُّنْيا النصرة والغنيمة وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ الأجر والجنة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود والنصارى، فقال علي (رضي الله عنه) : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ، يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله تعالى فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فتنقلبوا مغبونين ثم قال بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وحافظكم على دينكم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. سَنُلْقِي. قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلّا الشريد وتركناهم رجعوا. فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به. وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله وما نزّل الله تعالى فيها. سَنُلْقِي قرأ أيوب السختياني: سيلقي بالياء يعني الله عزّ وجلّ لقوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ، قرأ الباقون: بالنون على التعظيم أي سنقذف، فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الخوف وثقل عينه، أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وخففها الآخرون. بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ هو (ما) المصدر، تقديره باشراكهم بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة وبيانا وعذرا وبرهانا، ثم أخبر عن مصيرهم فقال: وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ مقام الكافرين. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ، قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، فقال ناس من أصحابه: من أين أصابنا وقد وعدنا بالنصر، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعد بالنصر والظفر، وهو قوله: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الآية، وقول رسول الله للرماة: «لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزل غالبين ما ثبتم» «1» [165] ، والصدق يتعدى إلى مفعولين كالمنع والغصب ونحوهما، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل حنين وهو جبل عن يساره، وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا» «2» [166] . وأقبلوا المشركون وأخذوا في القتال، فجعل الرماة يرشفون بالنبل والمسلمون يضربونهم
بالسيف حتى ولوا هاربين وانكشفوا منهزمين، فذلك قوله: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي تقتلونهم قتلا ذريعا سريعا شديدا. قال الشاعر: حسسناهم بالسيف حسّا فأصبحت ... بقيتهم قد شردوا وتبددوا «1» وقال أبو عبيدة: الحس الاستيصال بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد، وسنة حسوس إذا أتت على كل شيء. قال روبة: إذا شكونا سنة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر اليبيسا «2» حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، قال بعض أهل المعاني: يعني إلى أن فشلتم، جعلوا (حَتَّى) غاية بمعنى إلى، وحينئذ لا جواب له. وقال الآخرون: هو بمعنى فلما وفي الكلام تقديم وتأخير قالوا: وفي قوله: وَتَنازَعْتُمْ مقحمة زائدة، ونظم الآية: حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم وفشلتم أي جبنتم وضعفتم، ومعنى التنازع الاختلاف، وأصله من نزع القوم الشيء بعضهم من بعض، وكان اختلافهم أن الرماة تكلموا حين هزم المشركون وقالوا: انهزم القوم فما مقامنا، وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة وانطلق الباقون ينهبون، فلما نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح فصارت دبورا بعد ما كانت صبا، وانتفضت صفوف المسلمين، فاختلطوا وجعلوا يقتتلون على غير شعار، فقتل بعضهم بعضا وما يشعرون من الدهش، ونادى إبليس ألا إن محمدا قد قتل، وكان ذلك سبب هزيمة المؤمنين. مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يا معشر المؤمنين ما تحبون هو الظفر والغنيمة مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الذين تركوا المركز فاقبلوا إلى النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعني الذين ثبتوا مع ابن جبير حتى قتلوا. وقال عبد الله بن مسعود: ما شعرت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد فنزلت هذه الآية ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي ردّكم عنهم بالهزيمة لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، قاله أكثر المفسرين، ونظيره: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ «3» .
وقال الكلبي: يعني تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ يعني ولقد عفونا عنكم إذ تصعدون هاربين. قرأه العامة: (تُصْعِدُونَ) بضم التاء وكسر العين. وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن والحسن وقتادة بفتح التاء. وقرأ ابن محيصن وشبل: إذ يصعدون ويلوون بالياء، يعني المؤمنين. ثم رجع إلى الخطاب فقال وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ على البلوى. قال أبو حاتم: يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره، والإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدّرج، قال المبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب. قال الأعشى: إلّا أيهذا السائلي أين أصعدت ... فإنّ لها من بطن يثرب موعدا «1» وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في كل سفر والانحدار والرجوع منه يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك، إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر وانحدرنا إذا رجعنا. وأنشد أبو عبيدة: لقد كنت تبكين على الإصعاد ... فاليوم سرحت وصاح الحادي «2» ودليل قراءة العامة قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للمنهزمين: «لقد ذهبتم فيها عريضة» «3» [167] . وقرأ أبي بن كعب: إذ تصعدون في الوادي، ودليل فتح التاء والعين ما روى أنهم صعدوا في الجبل هاربين وكلتا القراءتين صواب، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. وقال المفضل: صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد. ولا يلوون على أحد يعني ولا يعرجون ولا يقيمون على أحد منكم، لا يلتفت بعض إلى بعض هربا. وقرأ الحسن: ولا يلون بواو واحدة اتباعا للخط، كقولك: استحببت واستحبت على أحد.
قال الكلبي: يعني على محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي في آخركم ومن ورائكم إليّ عباد الله فأنا رسول الله من بكّر فله الجنة، يقال: جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس وأقرى الناس وأخراة الناس وأخريات الناس، فجاز لكم جعل الإنابة بمعنى العقاب وأصلها في الحسنات كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1» . قال الشاعر: أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا» يعني بالسود: القيود والسياط وكذلك معنى الآية، جعل مكان الثواب الذي كنتم ترمون غمّا بغمّ. قال الحسن: يعني بغم المشركين يوم بدر. وقال آخرون: الباء بمعنى على، أي غمّا على غمّ، وقيل: غَمًّا بِغَمٍّ، فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والغم الثاني ما نالهم من القتل والهزيمة، وقيل: الغم الأول انحراف خالد ابن الوليد عليهم بخيل من المشركين، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه فقال: «أنا رسول الله» [168] ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفرح النبي حين رأى في أصحابه من يمتنع، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، ثم أشرف عليهم، فلما نظر المسلمون إليهم، همّهم ذلك وظنّوا أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض» [169] ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعا «3» . لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ (ما) في موضع خفض أي: ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة حين أنساكم ذلك هذا الغم، وهمّكم ما أنتم فيه غما قد أصابكم قبل. فقال الفضل: (لا) صلة معناه: لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم في خلافكم إياه، وترككم المركز كقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «4» .
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ، روى عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم، والله لا نسمع قول مصعب بن عمير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلّا كالحلم يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا ، فأنزل الله تعالى ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ يا معشر المؤمنين وأهل اليقين، أَمَنَةً يعني أمنا، وهي مصدر كالعظمة والغلبة، وقرأ ابن محيصن: أَمْنَةً بسكون الميم. نُعاساً بدل من الأمنة يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، قرأ ابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (تغشي) بالتاء ردا إلى الأمنة، وقرأ الباقون: بالياء ردا إلى النعاس، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأن النعاس يلي الفعل، فالتذكير أولى به ممّا بعد منّه. قال ابن عباس: آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد فرق، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام، ونظيره في سورة الأنفال في قصة بدر. روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلّا وهو يميد تحت جحفته من النعاس. قال أبو طلحة: وكنت ممّن ألقي عليه النعاس يومئذ، وكان السيف يسقط من يدي فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي من النوم فآخذه. وَطائِفَةٌ يعني المنافقين، وهب بن قشير وأصحابه، وهو رفع على الابتداء وخبرها في قوله: يَظُنُّونَ ... قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي حملتهم على الهمّ، يقال: أمر مهم، ومنه قول العرب: همّك ما أهمّك. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي لا ينصر محمدا، وقيل: ظنوا أن محمدا قد قتل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كظن أهل الجاهلية والشرك يَقُولُونَ هَلْ لَنا أي ما لنا، لفظ استفهام ومعناه هل مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ يعني النصر قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. قرأ أبو عمرو ويعقوب: (كُلُّهُ) على الرفع بالابتداء وخبره في قوله: لِلَّهِ وصار هذا الابتداء والجملة خبرا لإنّ، كما يقول: إن عبد الله وجهه حسن، فيكون عبد الله مبتدأ ووجهه ابتداء ثانيا وحسن خبره، وجملة الكلام خبر للابتداء الأول. وقرأ الباقون: (كُلَّهُ) بالنصب على البدل، وقيل: على النعت. وروى مجاهد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يعني به التكذيب بالقدر، وذلك أنّهم يظنوا في القدر، فقال الله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني القدر خيره وشرّه من الله وهو قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا
[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 إلى 168]
هاهُنا وذلك أنّ المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولمّا قتل رؤساؤنا، فقال الله: قل لهم: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ لخرج. وقال ابن أبي حيوة: (لَبُرِّزَ) بضم الباء وتشديد الراء على الفعل المجهول. الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ، قرأ قتادة: القتال إِلى مَضاجِعِهِمْ مصارعهم، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ليختبر الله ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ يخرج ويطهّر ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب من خير أو شر إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا انهزموا مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين والمشركين إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ. قال المفضل: حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلّة وهي الخطيئة. وقال القتيبي: طلب زلتهم، كما يقال: استعجلت عليها، أي طلبت عجلته، واستعجلته طلبت عمله، وقيل: أزل واستزل بمعنى واحد. وقال الكلبي: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ حينما كسبوا، أي بشؤم ذنوبهم، قال المفسرون: بتركهم المراكز، وقال الحسن: ما كَسَبُوا قبولهم من إبليس وما وسوس إليهم من الهزيمة. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. وروى إبراهيم بن إسحاق الزهري، أن جعفر بن عون حدثهم أن زائدة حدثهم عن كليب ابن وائل قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان أكان شهد بدرا؟ قال: لا، قال: أكان شهد بيعة الرضوان؟ قال: لا، قال: أفكان من الذين تولّوا يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ؟ قال: نعم، فقيل له: إن هذا يرى أنك قد عبته، فقال: عليّ به، أمّا بدر فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ضرب له بسهمه، وأما بيعة الرضوان فقد بايع [له] «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير من يد عثمان، وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان [فإن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] فاذهب فاجهد عليّ جهدك «2» . [سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 168] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ في النفاق، وقيل: في النسب إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ ساروا وسافروا فيها لتجارة أو غيرها أَوْ كانُوا غُزًّى غزاة فقتلوا، والغزي جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض ونصب، وأحدها غاز مثل قائم وقوم، وصائم وصوم، وشاهد وشهد وقائل وقول، ومن الناقص مثل هاب وهبي وعاف وعفي. لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً يعني قولهم وظنهم حزنا فِي قُلُوبِهِمْ والحسرة الاغتمام على فائت كان تقدر بلوغه. قال الشاعر: فوا حسرتي لم أقض منهما لبانتي ... ولم أتمتع بالجوار وبالقرب «1» ثم أخبر أن الموت والحياة إلى الله لا يتقدمان لسفر ولا يتأخران لحضر فقال: وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. قرأ ابن كثير وطلحة والأعمش والحسن وشبل وحمزة والكسائي وخلف: (يعملون) بالياء، الباقون: بالتاء. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ. قرأ نافع وأكثر أهل الكوفة ما كان من هذا الباب: بكسر الميم، وقرأ الآخرون: بالضم، فمن ضمّه فهو من قال: يموت كقولك من كان يكون كنت، ومن قال يقول قلت، ومن كسر فهو من مات يمات متّ كقولك من خاف يخاف خفت ومن هاب يهاب هبت.
لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ في العاقبة وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الغنائم. قرأه العامة: (تجمعون) بالتاء لقوله: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ... أَوْ مُتُّمْ، وقرأ حفص: بالياء على الخبر عن الغالبين، يعني خير ممّا يجمع الناس من الأموال. وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ... أَوْ مُتُّمْ ... لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ في العاقبة فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي فبرحمة من الله (ما) صلة كقوله عزّ وجلّ: فَبِما نَقْضِهِمْ «1» وعَمَّا قَلِيلٍ «2» وجُنْدٌ ما هُنالِكَ «3» . وقال بعضهم: يحتمل لأن تكون (ما) استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم أي سهّلت لهم أخلاقك وكثر احتمالك، ولم يسرع إليهم فيما كان منهم يوم أحد. يقال: لآن له يلين لينا وليانا إذا رقّ له وحسن خلقه. وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا يعني جافيا سيء الخلق قاسي القلب قليل الاحتمال، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ، والأنثى فظة، والجمع فظاظ. وأنشد المفضل: وليس بفظ في الأداني والاولى ... يؤمون جدواه ولكنه سهل «4» وقال آخر: أموت من الضر في منزلي ... وغيري يموت من الكظة ودنيا تجود على الجاهلين ... وهي على ذي النهى فظة «5» غَلِيظَ الْقَلْبِ، قال الكلبي: فَظًّا في القول غَلِيظَ الْقَلْبِ في الفعل. لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لنفروا وتفرقوا عنك يقال: فضضتهم وانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا. قال أبو النجم يصف إبلا: مستعجلات القبض غير جرد ... ينفض عنهنّ الحصى بالصّمد «6» وأصل الفض الكسر، ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك، قال أهل الإشارة في هذه الآية: منه العطاء ومنه الثناء.
فَاعْفُ عَنْهُمْ تجاوز عنهم ما أتوا يوم أحد وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ حتي أشفعك فيهم وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي استخرج آراءهم فأعلم ما عندهم، وهو مأخوذ من قول العرب: وشرت الدابة وشورته، إذا استخرجت جريه وأعلمت خبره وتفنن لما يظهر من حالها مستورا، وللموضع الذي يشور فيه أيضا يتولد، وقد يكون أيضا من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشار ومشتار إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه. وقال عدي بن زيد: في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار «1» واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحي عليه ووجوب طاعته على أمته بما أحبوا وكرهوا. فقال بعضهم: هو خاص في المعنى وإن كان عاما في بعض اللفظ، ومعنى الآية: وشاورهم فيما يسر عندك فيه من الله عهد، ويدل عليه قراءة ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر. قال الكلبي: يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكان الحرب عند الغزو. وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شقّ عليهم، فأمر الله النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشاورهم في الأمر الذي يريده، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم وأطيب لأنفسهم، وإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم وأن القوم إذا عزموا وأرادوا بذلك وجه الله تعالى عزم الله لهم على الأرشد. قال الشافعي (رضي الله عنه) : ونظير هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البكر تستأمر في نفسها» «2» [170] إنما أمرنا استئذآنها لاستطابة نفسها وإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها. وكمشاورة إبراهيم (عليه السلام) ابنه حين أمر بذبحه. وقال الحسن: قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده، ودليل هذا التأويل ما روى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما شقي عبد قط بمشورة وما سعد باستغناء برأي» «3» [171] ، يقول الله عزّ وجلّ:
فصل في التوكل
وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فبالله وكتابه ورسوله غنى عن المشورة، ولكن الله عزّ وجلّ أراد أن تكون بيّنة فلا يبرم أمر الدين والدنيا حتى تشاوروا، وقد أثنى الله على [أهل] المشاورة فقال: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ «1» . روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير من ظهرها» «2» [172] . أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني عمي: إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه وإن ناب أمر عليك التوى ... فشاور لبيبا ولا تعصه ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه إذا المرء أضمر خوف الإله ... تبين ذلك في شخصه «3» وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر الضرير، قال أبو سلمة المؤدب: شاور صديقك في الخفي المشكل ... واقبل نصيحة ناصح متفضل فالله قد أوصى بذلك نبيّه ... في قوله شاورهم وتوكل «4» فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لا على مشاورتهم. وقرأ جعفر الصادق (رضي الله عنه) وجابر بن زيد: (فَإِذا عَزَمْتُ) بضم التاء أي عزمت لك ووفقتك وأنشدتك فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ، والتوكل التفعل من الوكالة يقال: وكّلت الأمر إلى فلان فتوكل أي ضمنه وقام به، فمعنى قوله: (توكل) أي قم بأمر الله وثق به واستعنه. فصل في التوكل اختلفت عبارات العلماء في معنى التوكل وحقيقة المتوكل: فقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه: أول مقام التوكل، أن يكون العبد بين يدي الله
كالميت بين يدي الغاسل، يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير، والمتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحبس. أبو تراب النخشبي: التوكل الطمأنينة إلى الله عزّ وجلّ. بشر الحافي: الرضا، وعن ذي النون وقد قال له رجل: يا أبا الفيض ما التوكّل؟ قال: خلع الأرباب وقطع الأسباب. فقال: زدني فيه حالة أخرى. فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية. وقال إبراهيم الحواص: حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء ممّا سوى الله، ابن الفرجي: ردّ العيش لما يوم واحد وإسقاط غم غد، وعن علي الروذباري قال: مراعاة التوكل ثلاث درجات: الأولى منها: إذا أعطى شكر وإذا منع صبر. والثانية: المنع والإعطاء واحد. والثالثة: المنع مع الشكر أحب إليه، لعلمه باختيار الله ذلك له. وروى عن إبراهيم الخواص أنه قال: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصا حسنا فقلت: أجني أم إنسي؟ فقال: بل جنيّ. فقلت: إلى أين؟ فقال: إلى مكة. قلت: بلا زاد؟ قال: نعم، فينا أيضا من يسافر على التوكل. فقلت له: ما التوكل؟ قال: الأخذ من الله. ذو النون أيضا: هو انقطاع المطامع. سهل أيضا: معرفة معطي أرزاق المخلوقين ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون السماء عنده كالصفر والأرض عنده كالحديد، لا ينزل من السماء مطر ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى ما ضمن له من رزقه بين هذين. وعن بعضهم: هو أن لا يعصي الله من أجل رزقه. وقال آخر: حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهدا غيره. الجنيد (رحمه الله) : التوكل أن تقبل بالكلية على ربّك، وتعرض ممّن دونه. النوري: هو أن يفني تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلا ومدبرا، قال الله عزّ وجلّ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا «1» وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالربّ الجليل، كاكتفاء الخليل بالخليل حين لم ينظر إلى عناية جبرئيل. وقيل: هو السكون عن الحركات اعتمادا على خالق الأرض والسماوات.
وقيل لبهلول المجنون: متى يكون العبد متوكلا؟ قال: إذا كان النفس غريبا بين الخلق، والقلب قريبا إلى الحق. وعن محمد بن عمران قال: قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟ قال: أربع خلال: علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست أشغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال فأنا مستحي منه. وعن أبي موسى [الوبيلي] «1» قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ، لم تخف مع الله شيئا. قال أبو موسى: [ذهبت] إلى أبي يزيد البسطامي: أسأله عن التوكل، فدخلت بسطام ودفعت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟ فقلت: افتح الباب، فقال: لو زرتني لفتحت لك الباب، [وإذا] جاء الجواب من الباب فانصرف: لو أن الحيّة المطوقة بالعرش همّت بك لم تخف مع الله شيئا. قال أبو موسى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل «2» فأقمت بها سنة، ثم اعتقدت الزيارة فخرجت إلى أبي يزيد فقال: زرتني مرحبا بالزائرين [لا] أخرجك، قال: فأقمت عنده شهرا لا يقع لي شيء إلّا أخبرني قبل أن أسأله فقلت له: يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك أخرج بها من عندك. قال لي: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة، حدثتني أمّي أنها كانت حاملة بي وكانت إذا قدمت لها القصعة من حلال امتدت يدها وأكلت، وإذا قدمت من حرام جفت فلم تأكل، اجعلها فائدة وانصرف. فجعلتها فائدة وانصرفت. وروى طاوس اليماني (رحمه الله) قال: رأيت أعرابيا قد جاء براحلة له فأبركها وعقلها، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إن هذه الراحلة وما عليها في ضمانك حتى أخرج إليها. فخرج الأعرابي وقد أخذت الراحلة وما عليها، فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنه ما سرق مني شيء وما سرق إلّا منك. فقال طاوس: فنحن كذلك مع الأعرابي إذا رأينا رجلا من رأس أبي قبيس يقود الراحلة بيده اليسرى ويمينه مقطوعة معلقة في عنقه، حتى جاء إلى الأعرابي وقال له: هاك راحلتك وما عليها. فقيل له: وما حالك؟ فقال: استقبلني فارس على فرس أشهب في رأس أبي قبيس فقال: يا سارق مدّ يدك فمددتها فوضعها على حجر ثم أخذ آخر فقطعها به وعلقها في عنقي وقال: انزل فرد الراحلة وما عليها إلى الأعرابي.
وعن أبي تميم الحبشاني قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا» «1» [173] . روى محمد بن كعب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزّ وجلّ ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق ممّا في يديه» «2» [174] . وكان عمر (رضي الله عنه) يتمثل بهذين البيتين: هوّن عليك فإن الأمور ... بأمر الإله مقاديرها نفس ليأتيك مصروفها ... ولا عادك عنك مقدورها «3» إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يعينكم الله من عدوكم فَلا غالِبَ لَكُمْ في يوم بدر وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ يترككم ولا ينصركم، والخذلان: القعود عن النصرة والاستسلام للهلكة والمكروه، ويقال للبقرة والظبية إذا تركت ولدها وتخلفت عنها: خذلت فهو خذول. قال طرفة: خذول تراعي ربربا بخميلة ... تناول أطراف البرير وترتدي «4» وأنشد: نظرت إليك بعين جارية ... خذلت صواحبها على طفل «5» وقرأ أبو عبيد بن عمير: (وَإِنْ يُخْذِلْكُمْ) بضم الياء وكسر الذال، أي نجعلكم مخذولين ونحملكم على الخذلان والتخاذل كما فعلتم بأحد. فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ الآية. روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: أخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وروى جويبر بن الضحاك عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما وقع في يده غنائم هوازن يوم حنين غلّه رجل بإبرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز، وطلبوا الغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا فهو له، وأن لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّم يوم بدر، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟» قالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بل ظننتم أن نغل ولا نقسم» «1» [175] فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى بعضهم عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث طلائع فغنمت، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقسم للطلائع، فلما قدمت الطلائع قالوا: قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية. قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي (عليه السلام) وقد غلّ طوائف من أصحابه. وفي بعض التفاسير: أن الأقوياء ألحّوا عليه يسألونه عن المغنم، فأنزل الله عزّ وجلّ وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ فيعطي قوما ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية ولا يحرم أحدا. وقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذا في الوحي يقول: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ويكتم شيئا من وحي الله عزّ وجلّ رغبة أو رهبة أو مداهنة، وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. فأما التفسير فقرأ السلمي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وعاصم: (يَغَلُّ) بفتح الياء وفتح الغين، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة. وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الغين وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي حاتم، فمعناه أن يخون، والمراد به الأمة. وقال بعض أهل المعاني: اللام فيه منقولة، معناه: ما كان النبي ليغل، وما كان الله عزّ وجلّ أن يتخذ من ولد، أي ما كان الله ليتخذ من ولد. وقال بعضهم: هذا من ألطف التعريض لها بأن [برأ ساحة] النبي صلّى الله عليه وسلّم من الغلول، دلّ على أن الغلول في غيره، ونظيره قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» وهذا معنى قول السدي. وقال المفضل: معناه ما كان يظن به ذلك ولا يشبهه ولا يليق به، فاحتج أهل هذه القراءة بقول ابن عباس: كيف لا يكون له أن يغل وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء يقتل
ومن قرأ بضم الياء فله وجهان: أحدهما: أن يكون من الغلول، أي ما كان النبي أن يغل، أي أن يخان، يعني أن تخونه أمّته. والوجه الآخر: أن يكون من الإغلال، معناه ما كان لنبي أن يخون أو ينسب إلى الخيانة أو يوجد خائنا أو يدخل في جملة الخائنين، فيكون أغل وغلل بمعنى واحد، كقوله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ «1» وقوله: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «2» . وقال المبرد: تقول العرب: أكفرت الرجل بمعنى جعلته كافرا ونسبته إلى الكفر وحملته عليه ووجدته كافرا ولحقته بالكافرين. وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قال الكلبي: يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له: انزل فخذه، فينزل فيحمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم كلفه أن ينزل إليه فيخرجه فيفعل ذلك. وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما خطيبا فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره وقال: «لا ألقينّ أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم بصامت يقول: يا رسول الله اغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة «3» يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، ولا ألقينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخنق يقول: يا رسول الله أغنني؟ فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك» » [176] . وحدث سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل يقال له كركرة فمات، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هو في النار» فوجدوا عليه عباءة قد غلّها «5» . وحدث الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الأزد يقال له أبو اللبيبة «6» على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي له، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال العامل يبعث فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليّ، أفلا يجلس في بيت أبيه أو أمّه وينظر ما يهدى إليه، والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ منه شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة له خوار أو شاة يثغر- ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة إبطيه فقال-: اللهم قد بلغت» «1» [177] . وعن زيد بن خالد: أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم توفي يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صلّوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: «إن صاحبكم غلّ في سبيل الله» ففتشنا متاعه لذلك، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين «2» . وعن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر فلم يغنم ذهبا ولا ورقا إلّا الثياب والمتاع قال: فتوجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو وادي القرى وقد أهدي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقال له مدعم فبينا مدعم يحطّ رجل رسول الله إذ جاءه سهم فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» . فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «شراك من نار أو شراكان من نار» «3» [178] . وعن عبيد الله بن عمير قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيجمعه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة فقال: «أسمعت قد نادى ثلاثا؟» قال: نعم، قال: «فما منعك أن تجيء به» فاعتذر إليه، فقال: «كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك» «4» . وعن صالح بن محمد بن مائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غلّ فسئل سالم عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا وجدتم الرجل قد غلّ فاحرقوا متاعه واضربوه» قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسأل رجل سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه «5» . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد حرقوا متاع الغال وضربوه وفي بعض الروايات ومنعوه سهمه. وعن صالح بن محمد قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر
وعمر بن عبد العزيز فغلّ رجل متاعا، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بترك الغلول كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ فغلّ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هُمْ دَرَجاتٌ يعني ذو درجات عِنْدَ اللَّهِ. وقال ابن عباس: يعني أن من اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ ومن باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ مختلف المنازل عند الله تعالى، فلمن اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ الكرامة والثواب العظيم، ولمن باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ المهانة والعذاب الأليم. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ. لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. قال بعضهم: لفظ الآية عام ومعناها خاص، إذ ليس حي من أحياء العرب إلّا وقد قلّدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس فيهم نسب إلّا بني تغلب، فإن الله طهّره منهم لما فيهم من دنس النصرانية إذ ثبتوا عليها، وبيان هذا التأويل قوله: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ «1» . وقال الآخرون: (هو) أراد به المؤمنين كلهم، ومعنى قوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ بالإيمان والشفقة لا بالنسب كما يقول القائل: أنت نفسي، يدل عليه قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ «2» الآية. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ وقد كانوا من قبل بعثه، وهو رفع على الغاية لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. أَوَلَمَّا أوحين أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها ببدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين قُلْتُمْ أَنَّى هذا من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا والوحي ينزل علينا وهم مشركون. وروى عبيدة السلماني عن علي قال: جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك للناس فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى بها على قتال عدونا، منّا عدتهم فليس في ذلك ما نكره، قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى يوم بدر «3» ، فمعنى قوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ على هذا التأويل أي: بأخذكم الفداء واختياركم القتل. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَما أَصابَكُمْ يا معشر المؤمنين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ بأحد
[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 إلى 178]
من القتل والجرح والهزيمة والمصيبة فَبِإِذْنِ اللَّهِ بقضائه وقدره وعلمه وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليميّز، وقيل: ليرى، وقيل: لتعلموا أنتم أن الله عزّ وجلّ قد علم ما فيهم وأنتم لم تكونوا تعلمون ذلك وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأجل دين الله وطاعته أَوِ ادْفَعُوا عن أهلكم وبلدتكم وحريمكم. وقال السدي والفراء وأبو عون الأنصاري: أي كثروا سواد المسلمين، ورابطوا إن لم تقاتلوا، كون ذلك دفعا وقمعا للعدو قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ وهم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة، قال الله: هُمْ لِلْكُفْرِ أي إلى الكفر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي في الإيمان يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وذلك أنهم كانوا ينكرون الإيمان ويضمرون الكفر، فبيّن الله عزّ وجلّ نفاقهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ. الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في النسب لا في الدين، وهم بهذا واحد وَقَعَدُوا يعني وقعد هؤلاء القاعدون عن الجهاد لَوْ أَطاعُونا وانصرفوا عن محمد وقعدوا في بيوتهم ما قُتِلُوا قُلْ لهم يا محمد فَادْرَؤُا فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إن الحذر لا يغني عن القدر. [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 178] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الآية. قال بعضهم: نزلت هذه الآية في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا، ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين، وقال آخرون: نزلت في شهداء أحد، وكانوا سبعين رجلا، أربعة من المهاجرين، حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار. وروى ابن الزبير وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب
إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تزور أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلمّا وجدوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم، ورأوا ما أعد الله تعالى لهم من الكرامة. قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا، كي يرغبوا في الجهاد ولا ينكلوا عنه، فقال الله تعالى: أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً إلى قوله أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» [179] «1» . قال قتادة والربيع: ذكر لنا أنّ رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يا ليتنا نعلم ما فعل بإخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مسروق: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية فقال: جعل الله عزّ وجلّ أرواح شهداء أحد في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، قال: فأطلع الله تعالى عليهم اطلاعة فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ قالوا: ربّنا ألسنا نسرح في الجنة في أيّها شئنا، ثم اطلع عليهم الثانية فقال: هل تشتهون من شيء فأزيدكموه؟ فقالوا: ربّنا أليس فوق ما أعطيتنا شيئا إلّا أن نحب أن تعيدنا أحياء، ونرجع إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى فيك قال: لا. فقالوا: فتقرئ نبيّنا منّا السلام وتخبره بأن قد رضينا ورضي عنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال جابر بن عبد الله: قتل أبي يوم أحد وترك عليّ بنات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألّا أبشرك يا جابر» قلت: بلى يا نبي الله قال: «إنّ أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله وكلمه كلاما فقال: يا عبد الله سلني ما شئت قال: أسألك أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانيا، فقال: يا عبد الله إني قضيت أن لا أعيد خليقة إلى الدنيا. قال: يا ربّ فمن يبلّغ قومي ما أنا فيه من الكرامة. قال الله تعالى: أنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية» «2» [180] . حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلّا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى» «3» [181] . وقال بعضهم: نزلت في شهداء بئر معونة، وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن
إسحاق بن يسار عن أبيه عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وعبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة- وكان سيد بني عامر بن صعصعة- على رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة وأهدى إليه هدية، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقبلها وقال: «يا أبا براء أنا لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك» [182] ثم عرض عليه، وأخبره بما له فيها وما وعد الله المؤمنين من الثواب، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني أخشى عليهم أهل نجد» فقال أبو براء: أنا لهم جار. أي هم في جواري- فابعثهم ليدعوا الناس إلى أمرك. فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلا من خيار المسلمين، فيهم الحارث بن الضمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهير مولى أبي بكر، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد، فساروا حتى نزلوا بين معونة- وهي أرض بين أرض بني عامر- وحرة بني سليم، فلما نزلوها قال بعضهم لبعض: أيّكم يبلغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن ملحان: أنا، فخرج بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبي عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء، فلما أتاهم حرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال حرام: يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم وإني أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فزت وربّ الكعبة. ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا. فاستصرخ قبائل من بني سليم عصبة ورعيل وذكوان فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوهم في رجالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف ثم قاتلوهم حتى قتلوا من آخرهم إلّا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق «1» . وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف، فلم ينبههما على مصاف أصحابهما إلّا الطير يحوم على العسكر فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا، فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أميّة: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني
لا أرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه، فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فقال رسول الله: «هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا» [183] فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسببه وجواره، وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة. وروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة: أن عامر بن الطفيل كان يقول: من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه، قالوا: هو عامر بن فهيرة «1» . قالوا وقال حسان بن ثابت يحرض أبي براء على عامر بن الطفيل: فتى أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد نهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في الحدثان بعدي أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد «2» وقال كعب بن مالك في ذلك. لقد طارت شعاعا كل وجه ... خفارة ما أجار أبو براء بني أم البنين أما سمعتم ... دعاء المستغيث مع النساء وتنويه الصريخ بلى ولكن ... عرفتم أنه صدّق اللقاء «3» فلما بلغ ربيعة من البراء قول حسان وقول كعب بن مالك، حمل على عامر بن الطفيل وطعنه فخر عن فرسه فقال: هذا عمل أبي براء، إن متّ فدمي لعمي ولأتبعنّ به وإن أعش فسأرى فيه الرأي. وقال إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك قال: أنزل الله تعالى في شهداء بئر معونة قرآنا بلّغوا قومنا عنا إنا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا ورضينا عنه، ثم نسخت ورفعت بعد ما قرأناها زمانا وأنزل الله عزّ وجلّ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الآية. وقال بعضهم: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرورا تحسروا على الشهداء وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فأنزل الله عزّ وجلّ تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم وَلا تَحْسَبَنَّ ولا تظنن وروى هشام عن أهل الشام: (يحسبن)
بالياء. وقرأ الحسن وابن عامر: (الذين قتّلوا) مشددا، (أَمْواتاً) كموت من لم يقتل في سبيل الله، ونصب أَمْواتاً على المفعول الثاني، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين، فإذا قلت: حسبت زيدا، لا يكون كلاما تاما حتى تقول: قائما أو قاعدا بَلْ أَحْياءٌ تقديره: بل هم أحياء. وقرأ ابن أبي عبلة: أحياءً نصبا أي أحسبهم أحياء عِنْدَ رَبِّهِمْ. وقال بعضهم: يعني أحياء في الدنيا حقيقة «1» ، وقيل: [في العالم] وقيل: بالثناء والذكر، كما قيل: موت التقي حياة لا فناء لها ... قد مات قوم وهم في الناس أحياء «2» وقيل: ممّا هم أحياء. رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ويأكلون ويتنعمون كالأحياء، وقيل: إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ويشتركون في فضل كل مجاهد يكون في الدنيا إلى يوم القيامة، لأنهم سلوا أمر الجهاد، فيرجع أجر من يقتدي بهم إليهم، نظيره قوله: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً «3» الآية، وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة، كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء. وقيل: لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض. يقال: أربعة لا تبلى أجسادهم: الأنبياء والعلماء والشهداء وحملة القرآن. وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السلميين، كانا قد خرّب السيل قبرهما وكانا في قبر واحد وهما من شهداء أحد، وكان قبرهما ممّا يلي السيل، فحفر عنهما ليغيّروا عن مكانهما فوجدا لم يتغيرا، كأنهما ماتا بالأمس، وكان قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين يوم أحد وبين يوم حفر عنهما ستة وأربعون سنة. وقيل: سمّوا أحياء لأنهم لا يغسّلون كما لا يغسل الأحياء. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زمّلوهم في كلومهم ودمائهم، اللون لون الدم والريح ريح المسك» «4» [184] . وقال عبيد بن عمر: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انصرف يوم أحد مرّ على مصعب بن عمير
وهو مقتول فوقف عليه ودعا ثم قرأ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا «1» الآية، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن رسول الله يشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم وسلّموا عليهم، فو الذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردّوا عليه، يُرْزَقُونَ من ثمار الجنة وتحفها» «2» [185] . فَرِحِينَ نصب على الحال والقطع من قوله يُرْزَقُونَ. وقرأ ابن السميقع: (فارحين) بالألف، وهما لغتان كالفره والفاره والحذر والحاذر والطمع والطامع والبخل والباخل. بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من ثوابه وَيَسْتَبْشِرُونَ يفرحون، وأصله من البشرة، لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في بشرة وجهه بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على منهاجهم من الإيمان والجهاد، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا لحقوا بهم فصاروا من كرائم الله عزّ وجلّ إلى مثل ما صاروا هم إليهم، فهم لذلك مستبشرون. وقال السدي: يؤتى الشهيد بكتاب فيه من تقدم عليه من إخوانه وأهله فيقال: تقدم فلان عليك يوم كذا وتقدم فلان يوم كذا، فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يعني بأن لا خوف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ يعني وبأن الله في محل الخفض على قوله: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ. وقرأ الكسائي والفرّاء والمفضل ومحمد بن عيسى: (وَإِنَّ اللَّهَ) بكسر الألف على الاستثناء، ودليلهم قراءة ابن مسعود والله (لا يضيع أجر المؤمنين) . قال الكلبي باسناده: إن العبد إذا لقى العدو في سبيل الله، فتح له باب من السماء وأطلعت عليه زوجتاه من الحور العين، فإذا أقبل على العدو يقاتلهم قالتا: اللهم وفقه وسدّده، وإذا أدبر عن العدو قالتا: اللهم أعف وتجاوز، فإذا قتل يباهي الله عزّ وجلّ به الملائكة فيقول لهم: انظروا إلى عبدي بذل نفسه ودمه ابتغاء مرضاتي، فتقول الملائكة: يا ربّ أفلا تذهب فتنصره على من يريد قتله؟ فيقول لهم: خلّوا عن عبدي، فقد سهر ونصب في طلب مرضاتي، أحبّ لقائي وأحببت لقاءه. فينزل إليه زوجتاه من الحور العين، ويأمر الله الملائكة أن يأتوه من آفاق الأرض، فيحبونه ويبشرونه بالجنة والكرامة من الله تعالى، فإذا فعلوا ذلك بعث الله إليهم:
أن خلّوا بين عبدي وبين زوجته حتى يستريح، فتقول زوجتاه: لقد كنا إليك بالأشواق، ويقول لهما مثل ذلك. وعن الحسين بن علي (عليه السلام) قال: بينما علي بن أبي طالب يخطب الناس ويحثهم على الجهاد إذ قام إليه شاب وقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله؟ قال: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناقته العضباء ونحن منقلبون من غزوة، فسألته عمّا سألتني عنه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله تعالى لهم براءة من النار، فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة، فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحية من سلخها، يوكل عزّ وجلّ بكل رجل منهم أربعين ألف ملك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يعمل حسنة إلّا ضعفت له، وكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله عزّ وجلّ ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، اليوم مثل عمر الدنيا، فإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم، فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوّقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها ويدعون الله لهم بالنصرة والتثبت، ونادى مناد: الجنة تحت ظلال السيوف، فتكون الضربة والطعنة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله تعالى إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة، وإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحبا بالروح الطيب التي أخرجت من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ويقول الله تعالى: أنا خليفته في أهله، من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني، ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس، سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام يملأ نورها ما بين الخافقين، في كل غرفة سبعون بابا، على كل باب سبعون مصراعا من ذهب، وعلى كل باب سبعون غرفة مسبلة، وفي كل غرفة سبعون خيمة، في كل خيمة سبعون سريرا من ذهب قوائمها الدر والزبرجد، مزمولة بقضبان الزمرد، على كل سرير أربعون فراشا، غلظ كل فراش أربعون ذراعا، على كل فراش زوجة من الحور العين عُرُباً أَتْراباً» «1» . فقال الشاب: يا أمير المؤمنين أخبرني عن العروبة؟ قال: «هي الغنجة الرضية المرضية الشهية، لها ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة، صفر الحلي بيض الوجوه، عليهن تيجان اللؤلؤ،
على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكواب والأباريق، وإذا كان يوم القيامة يخرج من قبره شاهرا سيفه تشخب أوداجه دما، اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يخطو في عرصة القيامة. فو الذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم، ممّا يرون من بهائهم، حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألف من أهل بيته وجيرته، حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جوارا فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد، فينظرون إلى الله في كل يوم بكرة وعشية» «1» . وروى مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي: رجل كانت له صحبة قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويؤمن الفزع الأكبر وعذاب القبر، ويحلّى بحلية الإيمان» «2» [186] . ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته فأتاه رجل أسود فقال: يا رسول الله إني أسود قبيح الوجه منتن الريح لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟ قال: «في الجنة» قال: فحمل عليهم فقاتل حتى قتل، قال: فجاء رسول الله (عليه السلام) حتى وقف على رأسه فقال: «لقد بيّض الله وجهك وطيّب ريحك وأكثر مالك» ثم قال: «لقد رأيت زوجتيه من الحور العين في الجنة تنازعانه جبة له من صوف، ليدخلا بينه وبين جبته» «3» [187] . أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يجد الشهيد من القتل في سبيل الله إلّا كما يجد أحدكم مسّ القرصة» «4» [188] . وفي غير هذا الحديث: «عضة نملة أشد على الشهيد من مس السلاح» «5» [189] . وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله عبادا يصونهم عن القتل والزلازل والأسقام، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم ويحييهم في عافية ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش، ويعطيهم منازل الشهداء» «6» [190] . الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا عن
المسلمين من أحد فبلغوا الروحاء، ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا: لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلّا الشريد، تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يذهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، فقال: «ألا عصابة تشدد لأمر الله تطلب عدوها فإنها أنكأ للعدو وأبعد للسمع» فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجروح والقروح الذي أصابهم يوم أحد، ونادى منادي رسول الله: ألا لا يخرجن فيها أحد إلّا من حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهم، ولست بالذي أؤثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتخلف على أخواتك، فتخلفته عليهن، فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج معه، وإنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرعبا للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم فينصرفوا، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا، حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال. وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير: يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدّك يعني أبا بكر والزبير لمن الذين قال الله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ. وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب: أن رجلا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من بني عبد الأشهل كان شهد أحدا، قال: شهدت أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذّن مؤذّن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلنا: لا تفوتنا غزة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فو الله ما لنا دابة نركبها وما منّا إلّا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكنت أيسر جرحا من أخي وكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، فمرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم، ثم خرج من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء، قد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: قد أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرّن على بقيتهم فلنفرغن منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه بطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال:
فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنأتي على بقيتهم. قال: فإني والله أنهاك عن ذلك فقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا. قال: وما قلت؟ قال: قلت: كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا خرق معاذيل فظلت عدوا أظن الأرض مائلة ... لمّا سمعوا برئيس غير مخذول فقلت: وي لابن حرب من لقائكم ... إذا تغطمطت البطحاء بالجيل إني نذير لأهل السير ضاحية ... ولكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وحش قنابله ... وليس يوصف ما أثبت بالقيل قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومرّ به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلّغون محمدا عني برسالة أرسلكم بها وأحمّل لكم إبلكم هذه زبيبا بسوق عكاظ إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم، قال: فإذا جئتموه فأخبروه إنا قد أجمعنا إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومرّ الركب برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان. فقال رسول الله وأصحابه: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد الثالثة إلى المدينة وقد ظفر في وجهه بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غرة الجمحي ، هذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد وعكرمة: نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف: يا محمد موعدنا بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك بيننا وبينك إن شاء الله» [191] فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية من الظهران، ثم ألقى الله عزّ وجلّ الرعب في قلبه قبل الرجوع، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: يا نعيم إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى، وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلّا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جرأة، ولأن يكون الخلف من جهتهم أحبّ إليّ من أن يكون من قبلي، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنّا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو يضمنها.
قال: فجاء سهيل فقال له نعيم: يا أبا يزيد أتضمن لي هذه الفرائض فانطلق إلى محمد واثبطه. قال: نعم، فخرج نعيم حتى قدم المدينة فوجد الناس يتجهزون بميعاد أبو سفيان، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها. قال: بئس الرأي رأيتم، أتوكم في دياركم وقراكم فلم يفلت منكم إلّا شريد، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، والله لا يفلت منكم أحد. فكره أصحاب رسول الله الخروج، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي» [192] فأما الجبان فرجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون: قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. يريدون أن يرعبوا المسلمين، فيقول المؤمنون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، حتى لقوا بدر. وهو ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام. فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر ينتظر أبا سفيان، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة، فسماهم أهل مكة جيش السويق وقالوا: إنما خرجتم تشربون السويق، فلم يلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أحدا من المشركين ببدر، ووافوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوها وأصابوا الدرهم والدرهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين «1» . فذلك قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. ومحل (الَّذِينَ) خفض على صفة المؤمنين تقديره وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ المستجيبين لله والرسول ومعنى الاستجابة: الاجابة والطاعة، نظيره قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي» فليطيعوا لي مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي نالهم الجراح والكلوم، وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ بطاعة رسول الله وإجابته إلى الغزو وَاتَّقَوْا معصيته وطاعته أَجْرٌ عَظِيمٌ ثواب كثير الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ومحل (الَّذِينَ) خفض أيضا مردود على الذين الأول، وأراد (بالناس) نعيم ابن مسعود في قول مجاهد ومقاتل وعكرمة والواقدي، وهو على هذا التأويل من العام الذي أريد به الخاص، نظيره قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ «3» يعني محمدا وحده، وقوله: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «4» يريد الرجال وحده. وقال ابن إسحاق وجماعة: يريد ب (الناس) الركب من عبد القيس وقد مضت قصتهم. وقال السدي: لما تجهز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه للمسير إلى ميعاد أبي سفيان، أتاهم
ذكر بعض ما ورد في الأخبار في زيادة الإيمان ونقصانه
المنافقون وقالوا: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم فعصيتمونا، وقد أتوكم في داركم وقاتلوكم وظفروا، فإن أتيتموهم في ديارهم لا يرجع أحد منكم. فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وقيل: (الناس) ساروا الناس في هذه الآية هم المنافقون. وقال أبو معشر: دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة، فسألهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبي سفيان فقالوا: قد جمعوا لكم جموعا كثيرة فاجتنبوهم. فقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فأنزل الله تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني أولئك القوم من بني هذيل إِنَّ النَّاسَ يعني أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فخافوهم واحذروهم، فإنه لا طاقة لكم بهم فَزادَهُمْ ذلك إِيماناً يعني تصديقا ويقينا وقوة وجرأة. ذكر بعض ما ورد في الأخبار في زيادة الإيمان ونقصانه روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» «1» [193] . عطاء: إنما مجادلة أحدكم في الحق، فيكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار. قال: فيقولون: ربّنا إخواننا كانوا يصلّون معنا ويصومون معنا ويحجّون معنا فأدخلتهم النار. قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من قد عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيخرجونهم فيقولون: ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا. قال: ثم يقول لهم: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول فمن كان في قلبه ذرة «2» . وعن سهل بن حنيف قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قميص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا: فماذا أولت يا رسول الله؟ قال: «الدين» «3» [194] . وعن هذيل بن شرحبيل عن عمر (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض أو بإيمان هذه الأمة لربح به» «4» [195] .
وعن ابن سابط قال: كان عبد الله بن رواحة يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول: تعالوا نؤمن ساعة تعالوا نزدد إيماننا، تعالوا نذكر الله تعالى، [تعالوا نذكره بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته] «1» . وعن عبد الله بن عمرو بن هند قال: قال علي كرم الله وجهه: إن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضا، حتى يبيضّ القلب كله، وإن النفاق يبدأ نقطة سوداء في القلب، وكلما ازداد النفاق ازدادت سوادا، حتى يسوّد القلب كله، والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض القلب ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود القلب. وعن عمير بن حبيب بن خماشة قال: الإيمان يزيد وينقص. فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا ربّنا وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيقنا فذلك نقصانه. وعن محمد بن طلحة عن زبيد عن زر قال: كان عمر ممّا يأخذ الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: قم بنا نزدد إيمانا. وعن محمد بن فضيل عن أبيه عن سماك عن إبراهيم عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه: امشوا بنا نزدد إيمانا. وعن الحرث بن عمير عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزيد وينقص. وعن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: الإيمان يزداد وينقص. الحرث بن الحصين عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزداد وينقص. أبو حذيفة: إن عمر بن عبد العزيز قال: الإيمان يزيد وينقص. سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال: ما نقصت أمانة عبد قط إلّا نقص من إيمانه. وعن عثمان بن سعد الدارمي قال: سألت محمد بن كثير العبدي عن الإيمان فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان سفيان يقوله؟ قال: نعم بلا شك. وقال: سألت أبا حذيفة موسى بن مسعود عن الإيمان قال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان سفيان يقوله؟ قال: نعم. قال: وسألت عارم بن الفضل عن الإيمان، فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، قلت: أكان حماد بن يزيد يقوله؟ قال: نعم.
قال: وسألت أبا الوليد الطيالسي عن الإيمان، فقال: قول وعمل ونية، قلت: أيزداد وينقص؟ قال: نعم. قال: وسألت سليمان بن حرب عن الإيمان، فقال: مثل ذلك. قال: وسمعت مسلم بن إبراهيم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. قال: وسألت علي بن عبد الله المديني عن الإيمان، قال: قول وعمل ونية، قلت: أينقص ويزداد؟ قال: نعم يزداد وينقص حتى لا يبقى منه شيء. قال: وسألت عمر بن عون الواسطي عن الإيمان فقال: مثل ذلك. قال: وسمعت يحيى بن يحيى يقول: الإيمان قول وعمل والناس يتفاضلون في الإيمان. قال: وسألت أحمد بن يونس عن الإيمان. قال: هو عمل يزيد وينقص. قال: وسألت عبد الله بن محمد [الطفيل] وكان متّقيا عن الإيمان فقال: هو قول وعمل يزيد وينقص، فأروه عني. قال: وسألت أبا بويه الجيلي عن الإيمان فقال: قول وعمل يزيد وينقص. قال: وسمعت محبوب بن موسى الأنطاكي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومن كره الاستثناء فقد أخطأ السنّة. قلت: أكان أبو إسحاق الفراري يقوله؟ قال: كان أبو إسحاق يخرج من المصيصة «1» من لا يقول الإيمان يزيد وينقص. قال: وسمعت محبوب بن موسى يقول: سمعت يوسف بن أسباط يقول: الإيمان يزيد وينقص. قال: وسمعت الحسين بن عمر السجستاني يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. قال الحسن: وكان وكيع بن الجراح وعمر بن عمارة وابن أبي برزة وزهير بن نعيم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. قوله تعالى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي كافينا وثقتنا، والنون والألف مخفوضتان بالإضافة كقولك: حسب زيد درهم، لان حسب اسم وإن كان في مذهب الفعل ألا ترى ضمة الثانية. قال الشاعر: فتملأ بيتنا إقطا وسمنا ... وحسبك من غنى شبع وريّ «2»
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي الموكول إليه الأمور، فعيل بمعنى مفعول. قال الواقدي: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي المانع. نظيره قوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا «1» أي مانعا، وقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا «2» . عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كان آخر ما تكلم به رسول الله إبراهيم (عليه السلام) حين ألقي في النار: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» «3» [196] . وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين رجلين فقال المقضي عليه: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يحمد على الكيس ويلوم على العجز، وإذا غلبك أمر فقل: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» «4» [197] . فَانْقَلَبُوا فانصرفوا ورجعوا، نظيره قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ «5» أي رجعوا. بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي بعافية لم يلقوا بها عدوا وبراء جراحهم وَفَضْلٍ بربح وتجارة، وهو ما أصابوا من السوق فربحوا لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ينالهم سوء ولا أذى ولا مكروه وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة الله وطاعة رسوله، وذلك أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يعني ذلك الذي قال لكم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، من فعل الشيطان ألقى في أفواههم يرهبوهم ويجبنوا عنهم يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أي يخوفكم بأوليائه، أي أولياء إبليس حتى يخوّف المؤمنين بالكافرين. وقال السدي: يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم، نظيره قوله عزّ وجلّ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً «6» أي ببأس، وقوله: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ «7» وتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ «8» أي بيوم الجمع
يخوف الناس أولياءه، كقول القائل: ويعطى الدراهم ويكسي الثياب، بمعنى هو يعطي الناس الدراهم ويكسي الناس الثياب. يدل عليه قراءة ابن مسعود: (يخوف الناس أولياءه) . وروى يحيى بن اليمان عن طلحة عن عطاء أنه كان يقرأ إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. وروى محمد بن مسلم بن أبي وضاح قال: حدثنا علي بن خزيمة قال: في قراءة أبي بن كعب: يخوفكم بأوليائه. فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ في ترك أمري إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين بوعدي فإني المتكفل لكم بالنصر والظفر وَلا يَحْزُنْكَ. قرأ نافع: (يَحْزُنُكَ) بضم الياء وكسر الزاي، وكذلك جميع ما في القرآن من هذا الفعل، إلّا التي في الأنبياء لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «1» فإنه بفتح الياء وضم الزاي، وضده أبو جعفر، وقرأ ابن محيصن كلها بضم الياء وكسر الزاي. الباقون كلها بالفتح وضم الزاي، وهما اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان، حزن يحزن وأحزن يحزن إلّا أن اللغة العالية الفصيحة: حزن يحزن وأحزنته قال الشاعر: مضى صحبي وأحزنني الديار «2» الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. قرأه العامة: هكذا، وقرأ طلحة بن مصرف: يسرعون. قال الضحاك: هم كفار قريش، وقال غيره: هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار. إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بمسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم أهله يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ نصيبا في ثواب الآخرة، فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وفي هذه الآية ردّ على القدرية. إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ استبدلوا الكفر بالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فإنهم يضرون أنفسهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. قراءة حمزة وأبي بحتريه: بالتاء. الباقون: بالياء، فمن قرأ بالياء ف (الَّذِينَ) في محل الرفع على الفاعل تقديره: ولا يحسبن الكفار أن إملاءنا خير لهم.
ومن قرأ بالتاء، قال الفراء: هو على التكرير في المعنى، ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ولا تحسبن إنما نملي، لأنك إذا أعلمت الحسبان في الذين لم يجز أن يقع على إنما، وهو كقوله: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً «1» يعني هل ينظرون إلّا أن تأتيهم بغتة، وقيل: موضع إنما نصب على البدل من الذين. كقول الشاعر: فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدّما «2» فرفع (هلك) على البدل، من الأول، والإملاء الإمهال والتأخير والإطالة في العمر والإنسان في الأجل، ومنه قوله تعالى: وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «3» أي حينا طويلا ويقال: عشت طويلا، أي تمليت حينا، وأصله من الملاوة والملا وهما الدهر. قال الشاعر: وقد أراني للغوالي مصيدا ... ملاوة كأن فوقي جلدا «4» والملوان: الليل والنهار. قال تميم بن مقبل: ألا يا ديار الحي ... بالسبعان أمل عليها بالبلى «5» ثم قال أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ نمهلهم لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ نزلت هذه الآية في مشركي قريش. قال مقاتل: قال عطاء: في قريظة والنضير. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» ، قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله» «6» [198] . وقال ابن مسعود: ما من نفس برّة ولا فاجرة إلّا والموت لها، فأما الفاجرة فمستريح ومستراح منه، وقرأ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ الآية، وأما البرّة فقرأ نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 179 إلى 186]
[سورة آل عمران (3) : الآيات 179 الى 186] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ، اختلفوا في نزولها: فقال الكلبي: قالت قريش: يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار، والله عليه غضبان وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا من يؤمن بك ومن لا يؤمن بك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال السدي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت عليّ أمّتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم (عليه السلام) وأعلمت من يؤمن بي ومن لا يؤمن» فبلغ ذلك المنافقين واستهزؤا وقالوا: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر به ممّن لم يخلق بعد، ونحن معه ولا يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام على المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال [القوم] «1» حملوني وطعنوا في حلمي، لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلّا أنبأتكم» [199] . فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: «حذافة» ، فقام عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبك نبيّا فاعف عنّا عفا الله عنك. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ... ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟» ثم نزل عن المنبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» .
فقالت أم حذافة له: ويحك ما أردت إلّا أن تعرضني لرسول الله. فقال: كان الناس قد آذوني فيك فأحببت أن أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن كانوا صدقوا رضيت وسكت، وإن كذبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفّوا عني. وقال أبو العالية: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمنين والمنافقين، فأنزل الله عزّ وجلّ ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ واختلفوا في حكم الآية ونظمها: فقال بعضهم: الخطاب للكفار والمنافقين من الكفر والنفاق حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين. وقال آخرون: الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم، ومعنى الآية: ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وعلى هذا القول هو من خطاب التلوين، رجع من الخبر إلى الخطاب كقوله: وَجَرَيْنَ بِهِمْ «1» . وكقول الشاعر: يا لهف نفسي كان جلدة خالد ... وبياض وجهك للتراب الأعفر «2» وهذا قول أكثر أهل المعاني، واللام في قوله: لِيَذَرَ لام الجحد، وهي في تأويل كي، ولذلك نصب ما بعدها حتى يميّز. قرأ الحسن وقتادة وأهل الكوفة: بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون: بفتح الياء مخففا. يقال: بان الشيء يميّزه ميزا وميّزه تميّزا، إذا فرّقه وامتاز وانماز هو بنفسه. قال أبو معاذ يقال: مزت الشيء أميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين، فإذا كانت أشياء قلت: ميّزتها تمييزا، ومثله إذا جعلت الشيء الواحد شيئين، قلت: فرّقت بينهما، ومنه فرق الشعر، فإن جعلت أشياء قلت: فرقه وفرقها تفريقا، ومعنى الآية: حتى يميّز المنافق من المخلص فيميّز الله المؤمنين يوم أحد من المنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قتادة: حتى يميّز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد، ونظيرها في سورة الأنفال. ابن
كيسان ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الإقرار حتى نفرض عليهم الجهاد والفرائض التي فيها تخليصهم، ليميّز بها بين من يثبت على إيمانه مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ. الضحاك: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في أصلاب الرجال وأرحام النساء، يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرّق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين. وقال بعضهم: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ وهو المذنب، مِنَ الطَّيِّبِ وهو المؤمن، يعني حتى يحط الأوزار من المؤمن ما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة. وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي يختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ بالغيب فيطلعه على بعض علم الغيب، نظيره قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1» . وقال السدي: وما كان الله ليطلع محمدا صلّى الله عليه وسلّم على الغيب ولكن الله اجتباه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. وروى الفضل بن موسى عن رجل قد سمّاه قال: كان عند الحجاج منجم فأخذ الحجاج حصيات لم يعدّهن وقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب فأصاب المنجم، ثم اعتقله الحجاج، فأخذ حصيات لم يعدّهن فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب وحسب ثم أخطأ ثم حسب أيضا فأخطأ، فقال: أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك؟ قال: فما الفرق بينهما؟ قال: إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب فحسبت وأصبت، وإن هذا لم يعرف عددها فصار غيبا ولا يعلم الغيب إلّا الله. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ. من قرأ بالياء جعل هو [ابتداء] وجعل الاسم مضمرا وجعل الخير خيرا بحسبان تقديره: ولا تحسبن الباخلون البخل خيرا لهم، فاكتفا بذكر (يَبْخَلُونَ) من البخل كما تقول في الكلام: قد قدم زيد فسررت به، وأنت تريد سررت بقدومه. قال الشاعر: إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف «2» أي جرى إلى السفه ونظير هذا قوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ» هو
ابتداء والحق خبر كان، وقوله: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ «1» . ومن قرأ بالتاء فعلى التكرير والبدل، كما ذكرنا في آية الإملاء «2» ، قال الله تعالى: بَلْ هُوَ يعني البخل شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ. قال المبرد: السين في قوله: سَيُطَوَّقُونَ سين الوعيد وتأويلها: سوف يطوقون، واختلفوا في معنى الآية: فقال قوم: معناها فجعل ما بخل به وما يمنعه من الزكاة حيّة تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه، تقول: أنا مالك، فلا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغل، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي [وائل] وابن مالك وابن فرعة والشعبي والسدي، ويدل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلّا جعل له شجاع في عنقه يوم القيامة» [200] ثم قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصداق من كتاب الله تعالى سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «3» . وعن رجل من بني قيس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل الله إيّاه فيبخل به عنه إلّا أخرج الله له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه» [201] ثم تلا وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ «4» الآية. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد يكون له مال فيمنعه من حقه ويضعه في غير حقه إلّا مثله الله شجاعا أقرع منتن الريح لا يمر بأحد إلّا استعاذ منه حتى دنا من صاحبه، فإذا دنا من صاحبه أعوذ بالله منك، قال: لم تستعيذ مني وأنا مالك الذي كنت تبخل به في الدنيا فيطوقه في عنقه فلا يزال في عنقه حتى يدخله الله جهنّم» وتصديق ذلك في القرآن سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «5» [202] . فقال إبراهيم النخعي: معناه يجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقا من نار. مجاهد: يكلفون يوم القيامة أن يأتوا ممّا بخلوا به في الدنيا من أموالهم يوم القيامة. المؤرّخ: يلزمون أعمالهم مثل ما يلزم الطوق بالعنق، يقال: طوق فلان عمله مثل طوق الحمامة.
عن يسار بن سعد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مانع الزكاة يوم القيامة في النار» «1» [203] . هشام بن عروة عن أبيه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تخالط الصدقة مالا إلّا أهلكته» «2» [204] . عن عكرمة عن جبير بن مهاجر عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما حبس قوم الزكاة إلّا حبس الله عنهم القطر» «3» [205] . وعن الحسن البصري قال: كان أعرابي صاحب ماشية، وكان قليل الصدقة فتصدق بعريض من غنمه، فرأى فيما يرى النائم كأنما وثبت عليه غنمه كلها فجعل العريض يحامي عنه، فلما انتبه قال: والله لئن استطعت لأجعلن أتباعك كثيرا. قال: وكان بعد ذلك يقسم. قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحسين بن محمد قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله قال: أنشدنا العلائي قال: أنشدني المهدي بن سابق: يا مانع المال كم تضمن به ... أتطمع بالله في الخلود معه هل حمل المال ميت معه ... أما تراه لغيره جمعه «4» ابن سعيد عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونبوته، وأراد بالبخل كتمان العلم الذي أتاهم الله، يدل عليه قوله تعالى في سورة النساء: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «5» الآية، ومعنى قوله: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ أي يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى: يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «6» ، وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم، نظيره قوله: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «7» . وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء، الباقون: بالتاء. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ.
قال الحسن ومجاهد: لما نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» قال اليهود: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ يستقرض منّا وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، [والقائل فنحاص بن عازوراء] «2» عن ابن عباس. وروى الحسن: أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب «3» . قال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق: كتب النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فدخل أبو بكر (رضي الله عنه) ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم، ومعه حبر آخر يقال له: أشيع، فقال أبو بكر (رضي الله عنه) لفنحاص: اتق الله وأسلم إنك لتعلم أن محمدا قد جاءكم بالحق من عند الله يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «4» فأمن وصدّق واقرض اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب. قال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربّنا يستقرضنا أموالنا ولا يستقرض إلّا الفقير من الغني، فإن كان ما تقول حقا فإن الله إذا لفقير ونحن أغنياء، ولو كان غنيا ما أعطاناه ربّي، فغضب أبو بكر (رضي الله عنه) وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا محمد أنظر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «ما الذي حملك على ما صنعت؟» [206] فقال يا رسول الله: إن عدوّ الله قد قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص، فأنزل الله عزّ وجلّ ردا على فنحاص وتصديقا لأبي بكر (رضي الله عنه) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا من الإفك والفرية على الله عزّ وجلّ فنجازيه به «5» . وقال مقاتل وابن عبيد: سيحفظ عليهم، الكلبي: سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوا في الدنيا، الواقدي: سيؤمن الحفظة من الكتاب، نظيره قوله: وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ «6» . قرأ حمزة والأعمش والأعرج: بياء مضمومة.
وقتلهم برفع اللام ويقول بالياء، اعتبارا بقراءة عبد الله ويقال ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار، والنار اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة، والحريق اسم للملتهبة منها، وهو بمعنى المحرق كما يقال: عذاب أليم وضرب وجيع. ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيعذب بغير ذنبه الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا الآية. قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن تابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل علينا كتابا، فإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فإن جئتنا به صدقناك «1» ، فأنزل الله عزّ وجلّ الَّذِينَ قالُوا يعني وسمع الله قول الذين قالوا ، ومحل (الَّذِينَ) خفض ردّا على الذين الأول إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا وأوصانا في كتبه على ألسنة رسله. أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ أي لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ فيكون ذلك دلالة على صدقه، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عزّ وجلّ من زكاة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة مثل الرفعان من الرّفع [والغنيان] من الغنى، ويكون اسما ومصدرا فمثال الاسم: السلطان والبرهان، ومثال المصدر: العدوان والخسران. وكان عيسى بن عمر يقرأ: قُرُبان فبضم الراء والقاف كما يقال في جمع ظلمة: ظلمات، وفي جمع حجرة: حجرات. قال المفسرون: كانت القرابين والغنائم تحل لبني إسرائيل، فكانوا إذا قرّبوا قربانا وغنموا غنيمة فإن تقبل منهم ذلك جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف، فتأكل ذلك القربان وتلك الغنيمة وتحرقهما، فيكون ذلك علامة القبول، وإذا لم يقبل بقي على حاله. وقال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطائب اللحم فيضعونها في وسط البيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربّه، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فتنزل نار فتأخذ ذلك القربان فيخر النبي ساجدا فيوحي الله عزّ وجلّ إليه بما شاء. قال السدي: إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة: من جاءكم من أحد يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ حتى يأتيكم المسيح ومحمد، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان، قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم قُلْ يا محمد قَدْ جاءَكُمْ يا معشر اليهود رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ يعني زكريا
ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء، وأراد بذلك أسلافهم، فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم، ومعنى الآية تكذيبهم يا محمد إياك مع علمهم بصدقك، كقتل آبائهم الأنبياء مع الإتيان بالقربان والمعجزات، ثم قال معزيا نبيه صلّى الله عليه وسلّم فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وبالزبر أي الكتب المزبورة يعني المكتوبة أصلها من زبرت أي كتبت، واحدها زبور مثل رسول ورسل، وكل كتاب فهو زبور. قال امرؤ القيس: لمن طلل أبصرته فشجاني ... كخط زبور في عسيب يماني «1» وقال بعضهم: هو الكتاب الحسن حكاه المفضل وأنشد. عرفت الديار كخط الدويّ ... يحبره الكاتب الحميري «2» وقرأ ابن عامر: وبالزبر بزيادة باء، وكذلك هو في مصاحفهم. وقال عكرمة ومقاتل والواقدي: يعني بالزبر أحاديث من كان قبلهم، نظيرها في سورة الحج والملائكة. وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ الواضح المضيء كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. قرأه العامة: بالإضافة، وقرأ الأعمش: (ذائقةٌ) بالتنوين، (الموتَ) نصبا، وقال: لأنها لم تذق بعد. وقال أمية بن الصلت: من لم يمت عبطة يمت هدما ... للموت كأس والمرء ذائقها «3» أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما خلق الله عزّ وجلّ آدم (عليه السلام) اشتكت الأرض إلى ربّها لما أخذ منها، فواعدها أن يرد منها ما أخذ منها، فما من أحد إلّا يدفن في الثرى التي خلق منها» [207] «4» . وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ توفون جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ إن خيرا فخير وإن شرا فشر فَمَنْ زُحْزِحَ نجا وأزيل عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ظفر بما يرجوا ونجا ممّا يخاف وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يعني منفعة ومتعة، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى، قاله أكثر المفسرين.
وقال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي، الحسن: كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له. قتادة: هي متاع متروكة توشك أن تضمحل بأهلها، فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم، والغرور الباطل، ونظيرها في سورة الحديد. عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، ويأتي الناس ما يحب أن يؤتى إليه» «1» [208] . أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها فاقرءوا إن شئتم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» «2» . لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ الآية. قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وفنحاص، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر الصديق (رضي الله عنه) إلى فنحاص بن عازورا سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه كتابه، وقال لأبي بكر: «لا تفتت عليّ بشيء حتى يرجع» ، فجاءه أبو بكر (رضي الله عنه) وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال: قد أحتاج ربّكم إلى أن يمده، فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا تفتت بشيء حتى يرجع» ، فكفّ ونزلت هذه الآية «3» . وقال الزهري: نزلت في كعب بن الأشرف وذلك أنه كان يهجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويسب المؤمنين ويحرض المشركين على النبي وأصحابه في شعره وينسب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من لي بابن الأشرف» . فقال محمد بن سلمة الأنصاري: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: «فافعل إن قدرت على ذلك» فرجع محمد بن سلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلّا ما تعلق نفسه، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاه فقال: «لم تركت الطعام والشراب؟» قال: يا رسول الله قد قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا؟ قال: «إنما عليك الجهد» فقال: يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول، قال: «قولوا ما
بدا لكم فأنتم في حل من ذلك» فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلاحة بن وقش. وهو ابو نائلة وكان أخا كعب من الرضاعة. وعباد بن بشر بن وقش والحرث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر فمشى معهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بقيع الغرقد ثم وجّههم وقال: «انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم» «1» [209] . ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك في ليلة مقمرة، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدّموا أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة فتناشدا الشعر وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك بحاجة أريد ذكرها لك فأكتم عليّ. قال: أفعل. قال: كان قدوم هذا الرجل بلاء، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس. فقال كعب: أنا ابن الأشرف أما والله لقد أخبرتك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا. فقال أبو نائلة: إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك ونحسن في ذلك. قال: ترهنوني أبناءكم؟ قال: إنّا نستحي أن يعير أبناؤنا. فقال: هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين. قال: أترهنونني نساءكم؟ قالوا: أنت أجمل الناس ولا نأمنك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك، ولكنّا نرهنك الحلقة- يعني السلاح- ولقد علمت حاجتنا اليوم إلى السلاح. فقال: نعم ائتوني بسلاحكم، فأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا جاءوا بها، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته، وأخذت امرأته بناحيتها وقالت: إنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة. قال: إن هؤلاء لو وجدوني نائما ما أيقظوني وإنه أبو نائلة أخي. قالت: فكلمهم من فوق الحصن. فأبى عليها إلّا أن ينزل إليهم، فتحدث معهم ساعة ثم قالوا: يا بن الأشرف هل لك أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه. قال: إن شئتم فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شمّ يده فقال: ما رأيت كالليلة طيب عروس قط. قال: إنه طيب أم فلان، يعني امرأته ثم مشى ساعة ثم عاد بمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة فعاد لمثلها، ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال: اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا «2» .
[سورة آل عمران (3) : الآيات 187 إلى 195]
قال محمد بن سلمة: فذكرت معولا في سيفي، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلّا أوقدت عليه نارا. قال: فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، ووقع عدو الله وقد أصيب الحرث بن أوس في رأسه بجرح أصابه بعض أسيافنا. قال: فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحرث ونزفه، الدم فوقفنا ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه، فجئنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر الليل وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه، وتفل على جرح صاحبنا ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدو الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» فوثب محيصة بن مسعود على سنينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله، وكان حويصة بن مسعود إذ ذلك لم يسلم، وكان أسنّ من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه وهو يقول: أي عدو الله قتلته، أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله. فقال محيصة: والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك قال: فو الله إن كان لأول إسلام حويصة، وفقال: لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم. قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة «1» ، فأنزل الله في شأن كعب بن الأشرف لَتُبْلَوُنَّ لتخبرن واللام للتأكيد، وفيه معنى القسم، والنون تأكيد القسم. فِي أَمْوالِكُمْ بالحوادث والعاهات والخسران والنقصان. وَأَنْفُسِكُمْ بالأمراض، وقيل بمصائب الأقارب والعشائر. قال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم وباعوا رباعهم وعذبوهم. قال الحسن: هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة. وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني اليهود والنصارى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي العرب، أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من حق الأمور وجدّ الأمور وخيرها، قال عطاء: من حقيقة الإيمان. [سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 195] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم لتبيّننه للناس ولا يكتمونه. قرأ عاصم وأبو عمر وأهل مكة: بالياء فيهما واختاره أبو عبيد. الباقون: بالتاء واختاره أبو حاتم، فمن قرأ بالتاء فعلى إضمار القول، أي قال: ليبيننه، ودليله قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ «1» ومن قرأ بالياء فلقوله: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به. وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني المأكل فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ. قال قتادة: هذا لميثاق الله أخذ على أهل مكة ممّن علم شيئا فليعلّمه، وإيّاكم وكتمان العلم فإنه هلكة. وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا لجاهل أن يسكت على جهله، قال الله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية، وقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «2» . ثابت بن البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه قال: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ. أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كتم علما عن أهله ألجم يوم القيامة لجاما من نار» » . وعن الحسن بن عمارة قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألقيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني؟ فقال: أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. فقال: حدثني. فقلت: حدثني الحكم ابن عيينة عن نجم الجزار قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا» قال: فحدثني بأربعين حديثا «4» .
لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ... يحسبن بالياء، قرأه حميد بن كثير وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وأبو عمرو، وغيرهم بالتاء، فمن قرأه بالياء فمعناه: ولا يحسبن الفارحون منجيا لهم من العذاب، ومن قرأ بالتاء فمعناه: ولا تَحْسَبَنَّ يا محمد الفارحين بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ، وخبره في الباء. وقوله: لا تَحْسَبَنَّ بالتاء، وفتح الباء إعادة تأكيد. وقرأ الضحاك وعيسى: (لا تَحْسَبُنَّ) بالتاء وضم الباء، أراد محمدا وأصحابه. وقرأ محمد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر: بالياء وضم الباء خبرا عن الفارحين، أي فلا تحسبن أنفسهم، واختلفوا فيه فيمن نزلت هذه الآية. روى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: يا رسول الله لو خرجت إلى الغزو لغزونا معك، فإذا خرج (عليه السلام) خلفوا عنه وفرحوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، فإذا قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان وهو يومئذ أمير المدينة فقال مروان لرافع: في أي شيء أنزلت هذه الآية: لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا؟ فقال رافع: أنزلت في أناس من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر تخلفوا عنهم، فأنكر مروان وقال: ما هذا؟ فجزع رافع من ذلك وقال لزيد بن ثابت: أنشدك الله هل تعلم ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال زيد: نعم، فخرجا من عند مروان، فقال زيد لرافع وهو يمزح معه: أما تحمد في ما شهدت لك وقال رافع: وأي شيء هذا؟ أحمدك على أن تشهد بالحق؟ قال زيد: نعم قد حمد الله على الحق أهله. وقال عكرمة: نزلت في فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار، يفرحون بإضلالهم الناس، وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وقولهم إنهم علماء وليسوا بأهل علم لم يحملوهم على هدى ولا خير. الضحاك والسدي: هم يهود أهل المدينة كتبوا إلى يهود اليمن والشام وأطراف الأرض: أن محمدا ليس برسول فاثبتوا على دينكم. فاجتمعت كلمتهم على الكفر بمحمد والقرآن ففرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله الذي جمع كلمتنا فنحن على دين إبراهيم ونحن أهل العلم الأول، وليسوا كذلك. مجاهد: هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس تبديلهم الكتاب، وجهدهم إياه عليه. سعيد بن جبير: هم اليهود فرحوا بما أعطى الله إبراهيم وهم براء من ذلك.
وروى ابن أبي مليكة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أنّ مروان بن الحكم قال لمولاه: يا أبا رافع اذهب إلى ابن عباس وقل له: إن كان كل امرئ منا يفرح بما أوتي وأحب أن يحمد لما لم يفعل معذبا لنغدين جميعا. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية، إنما دعاء رسول الله اليهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما قد سألهم عنه، فاستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بكتمانهم إياه ذلك، فنزلت هذه الآية. قتادة ومقاتل: أتت يهود خيبر النبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نحن نعرفك ونصدقك وإنّا على رأيكم ونحن لكم ردأ، وليس ذلك في قلوبهم، فلما خرجوا من عنده قال لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قال: عرفناه وصدقناه، فقال لهم المسلمون: أحسنتم هكذا فافعلوا، فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله لهم هذه الآية. وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال: نزلت في ناس من اليهود جهّزوا جيشا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنفقوا عليهم، وقرأها إبراهيم (بما أوتوا) ممدودا أي أعطوا. وقرأ سعيد بن جبير أوتوا أي أعطوا. قال الله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ. عن عطاء بن أبي رباح قال: دخلت مع ابن عمر إلى عائشة رضي الله عنها فقال ابن عمر: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله؟ فبكت فأطالت ثم قالت: كل أمر رسول الله عجب، أتاني في ليلتي فدخل معي في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال: يا عائشة هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي عزّ وجلّ؟ فقلت: والله يا رسول الله إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك قد أذنت لك، فقام عليه الصلاة والسلام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حجره، ثم رفع يده فجعل يبكي حتى رأيت الدموع قد بلت الأرض، فأتاه بلال بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال: يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ؟ فقال: «يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا» ثم قال: «وما لي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى في هذه الليلة عليّ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. الآية. ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» «1» [210] . وعن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عن أبيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قام من الليل يسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
عمرو بن موسى عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أشدّ آية في القرآن على الجن إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [211] الآية. سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: ما جاءكم به موسى من الآيات؟ فقالوا: عصاه ويده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ادع لنا ربّك يجعل لنا الصفا ذهبا، فأنزل الله تعالى إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية ثم وصفهم فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً. قال علي وابن عباس والنخعي وقتادة: هذا في الصلاة يصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنبه، يسر من الله وتخفيف. وقال سائر المفسرين: أراد به ذكر الله تعالى، ووصفهم بالمداومة عليه، إذ الإنسان قلما يخلوا من معنى هذه الحالات الثلاثة، نظيره قوله في سورة النساء. عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» «1» [212] . ويروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذكر الله تعالى علم الإيمان وبرء من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النيران» «2» [213] . وقال الله تعالى لموسى (عليه السلام) : يا موسى اجعلني منك على بال ولا تنس ذكري على كل حال، وليكن همّك ذكري فإنّ الطريق إليّ. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إنّ لها صانعا قادرا ومدبرا حكيما. روى حماد عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أسري به إلى السماء السابعة فإذا ريح ودخان وأصوات قال: فقلت: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذه الشياطين يحرقون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب. وكان ابن عور يقول: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء الزرع والنبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة. وحكى أن سفيان الثوري صلّى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غشي عليه. وكان سفيان يبول الدم من طول حزنه وفكره.
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بينما رجل مستلقي على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لي ربّا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له» «1» [214] . وقال أبو الأحوص: بلغني أن عابدا يعبد في بني إسرائيل ثلاثين سنة. وكان الرجل منهم إذا تعبّد ثلاثين سنة أظلته غمامة. ولم ير شيئا، فشكى ذلك إلى والده. فقال له: يا بني فكّر هل أذنبت ذنبا منذ أخذت في عبادتك؟ قال: لا، ولا أعلمني هممت به منذ ثلاثين سنة. قال: يا بني بقيت واحدة إن نجوت منها رجوت أن يظلك؟ قال: وما هي؟ قال: هل رفعت طرفك إلى السماء ثم رددته بغير فكرة؟ قال: كثير. قال: من هاهنا أتيت. ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ذهب به إلى لفظ الخلق ولو ردّه إلى السماوات والأرض، لقال: هذه باطلا عبثا هزلا، بل خلقته لأمر عظيم. وانتصاب (الباطل) من وجهين: أحدهما: بنزع الخافض، أي للباطل وبالباطل، والآخر: على المفعول الثاني. سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أهنته. وقال المفضل: أهلكته، وأنشد: أخزى الإله من الصليب عبيده ... واللابسين قلانس الرهبان «2» وقيل: فضحته، نظيره قوله: وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي «3» . واتخذ القائلون بالوعيد هذه الآية جنّة، فقالوا: قد أخبر الله سبحانه أنه لا يخزي النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ثم قال: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فوجب أن كل من دخل النار فليس بمؤمن وأنه لا يخرج منها. واختلف أهل التأويل في هذه الآية: فروى قتادة عن أنس في قوله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال: إنك من تخلد في النار. وروى الثوري عن رجل عن ابن المسيب في قوله: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فقال: هذه خاصة لمن لا يخرج منها. وروى أبو هلال الرّاجي عن قتادة في قوله: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ إنك من تخلد في النار، ولا نقول كما قال أهل حروراء، حدثنا بذلك أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يخرج قوم من النار» «4» [215] .
وقال بعضهم: (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) من خلد فيها ومن لم يخلد فقد أخزيته بالعذاب والهلاك والهوان. قال عمرو بن دينار: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت له: (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ، قال: وما إخزاؤه حين أحرقه بالنار إن دون ذلك لخزيا. وقال أهل المعاني: الخزي يحتمل الحياء، يقال: خزي يخزي، خزاية إذا استحيا. قال ذو الرمّة: خزاية أدركته عند جوليه ... من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب «1» وقال القطامي في الثور والكلاب: حرجا وكر كرور صاحب نجدة ... خزي الحرائر أن يكون جبانا «2» أي يستحي، فخزي المؤمنين الحياء، وخزي الكافرين الذل والخلود في النار. وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ. رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم يُنادِي لِلْإِيمانِ أي إلى الإيمان، كقوله: لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «3» . وقيل: اللام بمعنى أجل. قال قتادة: أخبركم الله عزّ وجلّ عن مؤمني الإنس كيف قالوا وعن مؤمني الجن كيف قالوا، فأما مؤمنوا الجن فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ «4» وأما مؤمنوا الإنس فقالوا رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ ... فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي في جملة الأبرار رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ على ألسنة رسلك كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «5» . وقرأ الأعمش: (رسلك) بالتخفيف. وَلا تُخْزِنا لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنّا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ يعني قيل: ما وجه قولهم: (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) وقد علموا وزعموا أن الله لا يخلف الميعاد، والجواب عنه: إن لفظه الدعاء، ومعناه الخبر تقديره: (واغفر لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) ولا تُخْزِنا، وتؤتينا ما وعدتنا على ألسن رسلك من الفضل
والرحمة والثواب والنعمة، وقيل معناه: واجعلنا ممّن تؤتيهم ما وعدت على ألسنة رسلك ويستحقون ثوابك، لأنهم ما تيقنوا استحقاقهم لهذه الكرامة، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها، ولو كان القوم قد شهدوا بذلك لأنفسهم، لكانوا قد زكّوها وليس ذلك من صفة الأبرار. وقال بعضهم: إنما سألوا ربّهم تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وإعزاز الدين، لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قالوا: قد علمنا أنك لا تخلف وعدك من النصر والظفر على الكفار، ولكن لا صبر لنا على حكمك، فعجّل خزيهم وانصرنا عليهم. ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجز وعده، ومن أوعد على عمل عقابا فهو فيه بالخيار» «1» [216] . عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألني عمرو بن عبيد: أيخلف الله وعده؟ قلت: لا. قال: فيخلف الله وعيده؟ قلت: نعم. قال: ولم؟ قلت: لأن في خلفه الوعد علامة ندم وفي خلفه الوعيد إظهار الكرم، ثم أنشأ يقول: ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي ... ولا أختبي من خشية المتهدد إني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي «2» عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة. وعن يزيد بن أبي حبيب: أن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) قال: من قرأ في ليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ/ إلى آخرها كتبت له بمنزلة قيام ليلة. فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ. روى أبو بكر الهذلي عن الحسن قال: ما زالوا يقولون: ربّنا ربّنا حتى استجاب لهم ربّهم. وروى عن الصادق أنه قال: من حزّ به أمر فقال خمس مرات: ربنا أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد. قيل له: وكيف ذلك؟ قال: اقرؤا إن شئتم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً إلى قوله تعالى الْمِيعادَ. فأما نزول الآية: فقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء بشيء، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال: وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا أَنِّي أي بأني أو لأني، نصب بنزع الخافض. وقرأ عيسى بن عمر: (إني) بكسر الألف، كأنه أضمر القول أو جعل الاستجابة قولا. لا أُضِيعُ لا أحبط ولا أبطل عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ. قال الكلبي: يعني من الدين والنصرة والموالاة، وقيل: حكم جميعكم في الثواب واحد، وقيل: كلكم من آدم وحواء. الضحاك: رجالكم بشكل نسائكم في الطاعة ونساؤكم بشكل رجالكم في الطاعة، نظيرها قوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1» . فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي في طاعتي، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة وآذوهم وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا. قرأ محارب بن دثار: (وقَتَلوا) بفتح القاف وَقاتَلُوا. وعن يزيد بن حازم قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ: (وقتلوا وقتلوا) يعني أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين ثم قتلهم المشركون. وقرأ أبو رجاء والحسن وطلحة: (وقاتلوا وقتّلوا) مشددا. قال الحسن: يعني إنهم قطّعوا في المعركة. وقرأ عاصم وأبو عبيد وأهل المدينة: (وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) يريد أنهم قاتلوا ثم قتلوا. وقرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (وقتلوا وقاتلوا) ولها وجهان: أحدهما وقاتل من بقي منهم، تقول العرب: قتلنا بني تميم، وإنما قتلوا بعضهم. والوجه الآخر: بإضمار (قد) أي وقتلوا وقد قاتلوا. قال الشاعر: تصابى وأمسى علاه الكبر «2» لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قال الكسائي: نصب (ثَواباً) على القطع، وقال المبرد: مصدر ومعناه: لآتينهم ثوابا.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 إلى 200]
وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ. عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يدعوا يوم القيامة بالجنة ويأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيل الله وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب، فتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربّنا نسبح الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا، فيقول الله عزّ وجلّ: هؤلاء عبادي الذين أُوذُوا فِي سَبِيلِي، فيدخل عليهم الملائكة يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» «1» [217] . [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ نزلت في مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما يرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية. وقال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فأنزل الله لا يَغُرَّنَّكَ. وقرأ يعقوب: (يغرنْك) وأخواتها ساكنة النون. وأنشد: لا يغرنك عشاء ساكن ... قد يوافي بالمنيات السحر «2» تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا: ضربهم وتصرفهم في البلاد للتجارات والبياعات وأنواع المكاسب والمطالب، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره، لأنه لم يغيّر لذلك. قال قتادة في هذه الآية: والله ما غرّوا نبي الله ولا وكّل إليهم شيئا من أمر الله تعالى حتى قبضه الله على ذلك، نظيره قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ «3» ، ثم قال: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي هو متاع قليل بلغة فانية ومتعة زائلة، لأن كل ما هو فان فهو قليل.
الأعمش عن عمارة عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إن الدنيا جعلت قليلا فما بقي منه إلّا القليل من قليل. روى سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد الفهري قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع» «1» [218] . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما الدنيا فيما مضى إلّا كمثل ثوب شق باثنين وبقي خيط إلّا وكان ذلك الخيط قد انقطع» «2» [219] . ثُمَّ مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ. قرأ أبو جعفر: بتشديد النون، الباقون: بتخفيفه. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا. قرأ الحسن والنخعي: (نُزْلًا) بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقّله الآخرون، والنزل الوظيفة المقدرة لوقت. قال الكلبي: جزاء وثوابا من عند الله، وهو نصب على التفسير، كما يقال: هو لك صدقه وهو لك هبة، قاله الفراء. وقيل: هو نصب على المصدر، أي انزلوا نزلا، وقيل: جعل ذلك نزلا. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ من متاع الكفار. الحسن عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حصير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من أصحابه فانحرف النبي صلّى الله عليه وسلّم انحرافة فرأى عمر (رضي الله عنه) أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال عمر: وما لي لا أبكي وكسرى قيصر يعيشان فيما يعيشان فيها من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا عمر ألم ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» قال: بلى. قال: «هو كذلك» «3» [220] . وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الآية، اختلفوا في نزولها:
فقال جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة: نزلت في النجاشي ملك الحبشة. واسمه أضحمة وهو بالعربية عطية. وذلك أنه لما مات نعاه جبرئيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» . قالوا: ومن هو؟ قال: «النجاشي» ، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي، وصلّى عليه ركعتين وكبّر أربع تكبيرات واستغفر له، وقال لأصحابه: «استغفروا له» [221] . فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . عطاء: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، وأثني وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يعني التوراة والإنجيل خاشِعِينَ لِلَّهِ خاضعين متواضعين، وهو نصب على الحال والقطع لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني لا يحرّفون كتبهم ولا يكتمون صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأجل المأكلة والرئاسة، كما فعلت رؤساء اليهود أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا. قال الحسن: (اصْبِرُوا) على دينكم فلا تدعوه لشدة ولا رخاء ولا سرّاء ولا ضرّاء، قتادة: (اصْبِرُوا) على طاعة الله، الضحاك ومقاتل بن سليمان: (اصْبِرُوا) على أمر الله عزّ وجلّ، مقاتل ابن حيان: (اصْبِرُوا) على فرائض الله، زيد بن أسلم: على الجهاد، الكلبي: على البلاء. قالت الحكماء: الصبر ثلاثة أشياء: ترك الشكوى، وصدق الرضا، وقبول القضاء. وقيل: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنّة. وَصابِرُوا يعني الكفار، قاله أكثر المفسرين. قال عطاء والقرظي: (وَصابِرُوا) الوعد الذي وعدكم، وَرابِطُوا يعني المشركين، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم، ثم قيل ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمّن وراءه وإن لم يكن له مركب، قال الله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ «2» .
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد [الخازرنجي] يقول: المرابطة اعتقال المبارزين في الحرب، وأصل الربط الشد، ومنه قيل للخيل: الرباط، ويقال: فلان رابط الجأش، أي قوي القلب. قال لبيد: رابط الجأش على كل وجل «1» قال عبيد: داوموا واثبتوا. عن سمط بن عبد الله البجلي عن سلمان الفارسي: أنهم كانوا في جند المسلمين، فأصابهم ضرّ وحصر فقال سلمان لصاحب الخيل: ألا أحدّثك حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيكون لك عونا على الجند، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رابط يوما أو ليلة في سبيل الله كان عدل صيام شهر وصلاته الذي لا يفطر ولا ينصرف من صلاة إلّا لحاجة، ومن مات مرابطا في سبيل الله أجرى الله له أجرة حتى يقضي بين أهل الجنة وأهل النار» «2» [222] . الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رابط يوما في سبيل الله جعل الله عزّ وجلّ بينه وبين النار سبعة خنادق، كل خندق منها كسبع سماوات وسبع أرضين» «3» [223] . وفيه قول آخر وهو ما روى مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن صالح قال: قال لي سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا؟ قال: قلت: لا. قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه، ولكنّه انتظار الصلاة خلف الصلاة. ودليل هذا التأويل ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط» «4» [224] . وقال أصحاب اللسان في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا عند صيام النفس على احتمال الكرب وَصابِرُوا على مقابلة العناء والتعب وَرابِطُوا في دار أعدائي بلا هرب. وَاتَّقُوا اللَّهَ بهمومكم من الالتفات إلى السبب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ غدا بلقائي على بساط الطرب.
السري السقطي: اصْبِرُوا على الدنيا، رجاء السلامة (وَصابِرُوا) عند القتال بالبينات والاستقامة (وَرابِطُوا) هو النفس اللوامة (وَاتَّقُوا) ما يعقب لكم الندامة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) غدا على بساط الكرامة. وقيل: (اصْبِرُوا) على بلائي (وَصابِرُوا) على نعمائي (وَرابِطُوا) في دار أعدائي (وَاتَّقُوا) محبة من سواي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) غدا بلقائي. وقيل: (اصْبِرُوا) على الدنيا (وَصابِرُوا) على البأساء والضراء (وَرابِطُوا) في دار الأعداء (وَاتَّقُوا) إله الأرض والسماء (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في دار البقاء.
سورة النساء
سورة النساء مدنية، وهي ستة عشر ألف وثلاثين حرفا، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعين كلمة ومائة، وست وسبعين آية عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ورث ميراثا، وأعطى من الأجر كمن اشترى محررا وبرىء من الشرك وكان في مشيئة الله من الذين يتجاوز عنهم» «1» [225] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء، ونظيرها في سورة الأعراف والزّمر وَبَثَّ نشر وأظهر مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ تسألون به، وخففه أهل الكوفة على حذف إحدى التائين تخفيفا كقوله: وَلا تَعاوَنُوا «2» ونحوها، وَالْأَرْحامَ. قراءة العامة: نصب أي واتقوا الأرحام إن تقطعوها.
وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وقتادة والأعمش وحمزة: بالخفض على معنى وبالأرحام، كما يقال: سألتك بالله والرحمن، ونشدتك بالله والرحمن، والقراءة الأولى أصح وأفصح، لأن العرب لا يكلأ بنسق بظاهر على المعنى، إلّا أن يعيدوا الخافض فيقولون: مررت به وبزيد، أو ينصبون. كقول الشاعر: يا قوم مالي وأبي ذويب» إلّا أنه جائز مع قوله، وقد ورد في الشعر. قال الشاعر: فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... اذهب فمالك والأيام من عجب «2» وأنشد الفراء لبعض الأنصار: نعلق في مثل السواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف «3» وقرأ عبد الله بن يزيد المقبري: (والأرحامُ) رفعا على الابتداء، كأنه نوى تمام الكلام عند قوله تَسائَلُونَ بِهِ ثم ابتدأ كما يقال: زيد ينبغي أن يكرم، ويحتمل أن يكون إغراء، لأن العرب من يرفع المغري. وأنشد الفراء: أين قوما منهم عمير ... وأشباه عمير ومنهم السفاح لجديرون باللقاء إذا قال ... أخو النجدة السلاح السلاح «4» إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً أي حافظا، قيل: بمعنى فاعل وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية. قال مقاتل والكلبي: نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمه فترافع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ويطع ربّه هكذا فإنه يحل داره» يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ثبت الأجر وبقي الوزر» [226] .
فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر؟ وهو بقي في سبيل الله. فقال: «يثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده، وآتوا خطاب لأولياء اليتيم والأوصياء» «1» [227] . وقوله تعالى: الْيَتامى فلا يتم بعد البلوغ، ولكنه من باب الاستعارة، كقوله: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ «2» ولا سحرة مع السجود، ولكن سمّوا بما كانوا عليه قبل السجود، وقوله: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ أي من كانوا يتامى إِذا بَلَغُوا وآنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً، نظيره: وَابْتَلُوا الْيَتامى «3» ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ يعني لا تستبدلوا مالهم الحرام عليكم بأموالكم الحلال لكم، نظيره قوله: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ «4» واختلفوا في معنى هذا التأويل وكيفيته: فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي والضحاك: كان أولياء اليتامى وأوصيائهم يأخذون الجيد والرفيع من مال اليتامى، ويجعلون مكانه الرديء والخسيس، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف، ويقول: درهم بدرهم، فذلك تبدلهم فنهاهم الله تعالى عنها. عطاء: لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير. ابن زيد: كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث. وقال ابن زيد: (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) لا يورثوهن شيئا فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي أخذه خبيث. مجاهد وباذان: لا تعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي مع أموالكم، كقوله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «5» . وأنشد المفضل سلمة بن الخرشب الأنصاري: يسدون أبواب القباب بضمر ... إلى عنن مستوثقات نقاب الأواصر «6» أي مع عنن. إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً أي إثما عظيما، وفيه ثلاث لغات:
قرأه العامة: حُوباً بالضم، وهي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأهل الحجاز، يدل عليه ما روى أبو عبيد عن عباد بن عباد عن واصل مولى ابن عيينة قال: قلت لابن سيرين كيف يقرأ هذا الحرف: إِنَّهُ كانَ حُوباً أو حَوْبا؟ فقال: إن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن طلاق أم أيوب حوب» «1» [228] . وقرأ الحسن: (حَوْبا) بفتح الحاء وهي لغة تميم. [وقال مقاتل: لغة الحبش] «2» . وقرأ أبي بن كعب: (حابا) على المصدر، مثل القال، ويجوز أن يكون اسما مثل الراد والنار، ويقال للذنب حوب وحاب وللأذناب، كذلك يكون مصدرا واسما، فقال: حاب يحوب حوبا وحوبا وحباية إذا أثم. قال أبو معاذ: نزلنا منزلا قريبا من مدينة، فرمى رجل غطاية صغيرة [فقيل له] : يا حاج لا تقتلها فتصيب حوبا إنها لا تؤذي، ومنه قيل للقاتل حائب، حكاه الفراء عن بني أسد. وقال أمية بن الأسكن الليثي وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه: وإن مهاجرين تكنفاه ... غداتئذ لقد خطئا وحابا «3» وقال آخر: عض على شبدعه الأريب ... فظل لا يلحي ولا يحوب «4» وقال آخر: وابن ابنها منا ومنكم وبعلها ... خزيمة والأرحام وعثاء حوبها «5» أي شديد إثمها. وقال آخر: فلا تبكوا عليّ ولا تحنوا ... بقول الإثم إن الإثم حوب «6» وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى الآية، اختلف المفسرون في تنزيلها وتأويلها:
فقال بعضهم: معناها وإن خفتم ألّا تعدلوا يا معشر أولياء اليتامى فيهن، إذا تزوجتم بهن فانكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم. وروى الزهري عن عروة عن عائشة قال: قلت لها ما قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فقالت: يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها فنهي أن تنكحوهن إلّا أن تقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء. قال الحسن: كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له تزويجها فيقول لها: لا أدخل في رباعي أحدا كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالهنّ، فربما يتزوجهن لأجل مالهن ومن لا يعجبنه ثم نسى صحبتهن ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن، فعاب الله عزّ وجلّ ذلك وأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. عكرمة: كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل، فإذا صار معدما لما يلزمه من مؤن نسائه، مال على مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم: أمسكوا عن النساء ولا تزيدوا على أربع حتى لا يخرجكم إلى أخذ أموال اليتامى، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس، ومعنى رواية عطية عنه. وقال بعضهم: كانوا يتحرجون ويتحوبون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ولا يتعددون فيهن ويتزوجون ما شاءوا، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن حال مال اليتامى أنزل الله وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية، وأنزل أيضا هذه الآية وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يقول: كما خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى وهمّكم ذلك، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر ممّا يمكنكم امساكهنّ والقيام بحقهن، لأن النساء كاليتيم في الضعف والعجز، فما لكم تراقبون الله عزّ وجلّ في شيء وتعصونه في مثله، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي، ورواية الوالبي عن ابن عباس. وقال الحسن أيضا: تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم، فأنزل الله هذه الآية، ورخص فيهن وقصر بهن على عدد، فعليكم العدل فيهن، فإن خفتم يا معشر الأولياء في اليتامى التي أنتم ولاتهن ألّا تقسطوا، فأنكحوهن ولا تزيدوا على أربع، لتعدلوا، فإن خفتم ألّا تعدلوا فيهن فواحدة. قال ابن عباس: قصر الرجال على أربع من النساء من أجل اليتامى. مجاهد: معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى فأموالهم إيمانا وتصديقا، فكذلك تحرجوا عن الزنا، فانكحوا النساء الحلال نكاحا طيبا، ثم بيّن لهم عددا محصورا وكانوا يتزوجون ما شاءوا من غير عدد، فأنزل الله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي أن لا تعدلوا.
وقرأها إبراهيم النخعي: (تَقسطوا) بفتح التاء وهو من العدل أيضا. قال الزجاج: قسط واقسط واحد، إلّا أن الأفصح اقسط إذا عدل، وقسط إذا جار، وإن حملت قراءة إبراهيم على الجور وجعلت لا لغوا صحّ الكلام، واليتامى جمع لذكران الأيتام. فَانْكِحُوا ما. قرأ إبراهيم بن أبي عيلة: (مَن) لأن ما لما لا يعقل ومن لما يعقل، ومن قرأ (ما) فله وجهان: أحدهما: أن ردّه إلى الفعل دون العين تقديره: فانكحوا النكاح الذي يحل لكم من النساء، وهذا كما تقول: خذ من رفيقي ما أردت والإخوان، تجعل (ما) بمعنى (من) ، والعرب يعقب ما من ومن ما. قال الله تعالى وَالسَّماءِ وَما بَناها «1» وأخواتها، وقال: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ «2» الآية. وحكى أبو عمرو بن العلاء: أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا: (سبحان ما يسبّح له الرعد) ، وقال الله: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «3» . طابَ حل لَكُمْ مِنَ النِّساءِ. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش (طاب) : بالإمالة وفي مصحف أبيّ: (طيب) بالياء، وهذا دليل الإمالة. مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولات عن اثنين وثلاث وأربع، فلذلك لا يصرفن، وفيها لغات موحد ومثنى ومثلث ومربع، وأحاد وثناء وثلاث ورباع، وأحد وثنى وثلث وربع، مثل عمر وزفر. وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية، ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلّا بيتا جاء عن الكميت: فلم يستريثوك حتى رميت ... فوق الرجال خصالا عشارا «4» يعني طعنت عشرة.
قالوا: وهاهنا بمعنى [لو للتحقيق] «1» كقوله إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى «2» وقوله أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «3» وهذا إجماع الأمة، وخصائص النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مشتركة. الكلبي عن خميصة بنت الشمردل: أن قيس بن الحرث حدثها أنه كان تحته ثمان نسوة حرائر، قال: فلما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله قد أنزل الله عليك تحريم تزوج الحرائر إلّا أربع حرائر وأن تحتي ثمان نسوة، قال: «فطلّق أربعا وأمسك أربعا» [229] . قال: فرجعت إلى منزلي فجعلت أقول للمرأة التي ما تلد مني يا فلانة أدبري وللمرأة التي قد ولدت يا فلانة أقبلي، فيقول للتي طلق أنشدك الله والمحبة قال: فطلقت أربعا وأمسكت أربعا «4» . فَإِنْ خِفْتُمْ خشيتم، وقيل: علمتم أَلَّا تَعْدِلُوا بين الأربع فَواحِدَةً. قرأ العامة: بنصب. وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر: (فَواحِدَةٌ) بالرفع، أي فليكفيكم واحدة، أي واحدة كافية، كقوله عزّ وجلّ: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ «5» . أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني الجواري والسراري، لأنه لا يلزمكم فيهن من الحقوق والذي يلزمكم في الحرمة، ولا قسمة عليكم فيهن ولا وقت عليكم في عددهن، وذكر الإيمان بيان تقديره أَوْ ما مَلَكَتْ. وقال بعض أهل المعاني: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي ما ينفذ فيه أقسامكم جعله من يمين الحلف لا يمين الجارحة، واحتج بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم» «6» [230] . ذلِكَ أَدْنى أقرب أَلَّا تَعُولُوا. عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا قال: «ألّا تجوروا» «7» [231] .
وروى هشام بن عروة عن عائشة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أن لا تميلوا ، وأكثر المفسرين على هذا. قال مقاتل: هو لغة جرهم، يقال: ميزان عائل، أي مائل. وكتب عثمان بن عفان (رضي الله عنه) إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: أني لست بميزان لا أعول. وأنشد عكرمة لأبي طالب: بميزان صدق لا يغل شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل «1» وقال مجاهد: ذلك أدنى ألّا تضلوا. وقال الفراء والأصم: أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم، وأصل العول المجاوزة، ومنه عول الفرائض. وقال الشافعي: أن لا تكثر عيالكم. وما قال هذا أحد غيره «2» . وإنما يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله. قال أبو حاتم: كان [الشافعي] أعلم بلغة العرب منّا ولعله لغة. قال الثعلبي: قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: سألت أبا عمرو الدوري عن هذا وكان إماما في اللغة غير مدافع فقال: هي لغة حمير. وأنشد: وإنّ الموت يأخذ كل حيّ ... بلا شك وإن أمشى وعالا «3» أي كثرت ماشيته وعياله. قال أبو عمرو بن العلاء: لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحنا. وقرأ طلحة بن مصرف: ألّا تعيلوا، وهو قوة قول الشافعي. وقرأ بعضهم: ألّا تعيلوا من العيلة أي لا تفتقروا. قال الشاعر: ولا يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل «4» وقرأ طاوس: لا تعيلوا من العلة. روى بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» «5» [232] .
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً. قال الكلبي وجماعة من العلماء: هذا خطاب للأولياء، وذلك أن ولي المرأة كان إذا زوّجها غريبا حملوها إليه على بعير ولا يعطونها من مهرها شيء، فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا، وإن كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئا غير ذلك البعير» ، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئا لك النافجة «2» ، يريدون أنه يأخذ مهرها إبلا فيضمها إلى إبله فينتفجها أي يعظمها ويكثرها. قال بعض النساء في زوجها: لا تأخذ الحلوان من بناتها «3» تقول: لا يفعل ما يفعله غيره، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك وأمرهم بأن يدفعوا الحق إلى أهله. قال الحضرمي: كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته لا مهر بينهما، فنهوا عن ذلك وأمرهم بتسميته وأمروا المهر عند العقد. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا شغار في الإسلام» «4» [233] . وقال آخرون: الخطاب للأزواج أمروا بإيفاء نسائهن مهورهنّ التي هي أثمان فروجهنّ، وهذا أصح وأوضح بظاهر الآية وأشبه، لأن الله تعالى خاطب الناكحين فيما قبله، وهذا أصل خطابهم. والصدقات المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال على لفظ الجمع، وهي لغة أهل الحجاز وتميم. يقول صدقة بضم الصاد وجزم الدال، فإذا جمعوا قالوا: صدقات بضم الصاد وسكون الدال، وصدقات بضم الصاد والدال مثل ظلمة وظلمات، وظلمات نظيرها المثلات، لغة تميم مثلة ومثلات ومثلات بفتح الميم وضم الثاء واحدتها مثلة على لفظ الجمع لغة الحجاز. نِحْلَةً قال قتادة: فريضة واجبة، ابن جريح وابن زيد: فريضة مسمّاة. قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة مسماة معلومة، الكلبي: عطية وهبة، أبو عبيدة: عن طيب نفس، الزجاج: تدينا، وفيه لغتان: نحلة ونحلة، وأصلها من العطاء وهي نصب على التفسير وقيل على المصدر. روى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج» «5» [234] .
وعن يوسف بن محمد بن عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن أبيه عن جده صهيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أدان بدين وهو مجمع أن لا يفي به لقى الله عزّ وجلّ سارقا، ومن أصدق امرأة صداقا وهو مجمع على أن لا يوفيها لقى الله عزّ وجلّ زانيا» «1» [235] . فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً يعني فإن طابت نفوسهنّ بشيء من ذلك فوهبن منكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها، فخرجت النفس مفسرة، ولذلك وحدّ النفس، كما يقال: ضاق به ذرعا وقرّ به عينا، قال الله تعالى: وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً «2» . وقال بعض نحاة الكوفة: لفظها واحد ومعناها جمع، والعرب تفعل ذلك كثيرا. قال الشاعر: بها جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب «3» وقال آخر: في حلقكم عظم وقد شجينا «4» وقال بعض نحاة البصرة: إذا ما دنا الليل المضي بذي الهوى «5» والهوى مصدر، والمصادر لا تجمع فَكُلُوهُ أي خذوه واقبلوه هَنِيئاً مَرِيئاً قال الحضرمي: إن أناسا كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء ممّا ساق إلى امرأته، فقال الله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً من غير إكراه ولا خديعة فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً أي سائغا طيبا، وهو مأخوذ من هنّات البعير إذا عالجته بالقطران من الجرب، معناه فكلوه هنيئا شافيا معافيا، هنأني الطعام يهنيني بفتح النون في الماضي وكسره في الغابر يهنيني يهناني على الضد وهي قليلة، والمصدر منهما هنؤ يقال: هنأني ومرأني بغير ألف فيها، فإذا أفردوا قالوا: أمرأني بالألف وقيل الهنيء الطيب المتاع الذي لا ينغصه شيء، والمريء المحمود العاقبة التام الهظم الذي لا يضر ولا يؤذي، يقول: لا تخافون في الدنيا مطالبة ولا في الآخرة تبعة، يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سأل عن هذه الآية فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً قال: «إذا جادت لزوجها بالعطية غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة» «6» [236] .
روى إبراهيم بن عيسى عن علي بن علي عن أبي حمزة قال: (هَنِيئاً) لا إثم فيه (مَرِيئاً) لأداء فيه في الآخرة. وروى شعبة عن علي قال: إذا ابتلى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم يشتر به عسلا، فليشربه بماء السماء فيجمع الله له الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً الآية. اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال قوم: هم النساء. قال الحضرمي: عمد رجل فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق، فأنزل الله تعالى هذه الآية. مجاهد: نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وبين سفهاء من كن أزواجا أو كن أو بنات أو أمهات. جويبر عن الضحاك: النساء من أسفه السفهاء، يدل على صحة هذا التأويل ما روى علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنما خلقت النار للسفهاء. يقولها ثلاثا. ألا وإن السفهاء النساء إلّا امرأة أطاعت قيّمها» «1» [237] . أبان عن ابن عياش عن أنس بن مالك قال: جاءت امرأة سوداء جريئة المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله قل فينا خيرا مرة واحدة، فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شرّ. قال: «أي شيء قلت لكنّ؟» قالت: سمّيتنا السفهاء في كتابه وسمّيتنا النواقص. فقال: «وكفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيهنّ، أما يكفي إحداكنّ إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله، وإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل الله، وإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن بالعشير» [238] . قالت السوداء: يا له فضلا لولا ما تبعه من الشرط «2» . وروى عاصم عن مورق قال: مرّت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارة وهيبة فقال لها ابن عمر: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ. وقال معاوية بن قرة: عوّدوا نساءكم فإنهن سفيهات، إن أطعت المرأة أهلكتك.
وقال آخرون: هم الأولاد، وهي رواية عطية عن ابن عباس. قال الزهري وأبو مالك وابن يقول: لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قوامك بعد الله فيفسده، وقال بعضهم: هم النساء والصبيان. قال الحسن: هي امرأتك السفيهة وابنك السفيه. قتادة: أمر الله بهذا المال أن يخزن فيحسن خزائنه ولا تملكه المرأة السفيهة ولا الغلام السفيه فيبذره، قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «1» . عبيد عن الضحاك: ولا تعطوا نساءكم وأبناءكم أموالكم فيكونوا عليكم أربابا. ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خوّلك الله تعالى وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم. الكلبي: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد، فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله ليفسده. وقال السدي: لا تعط المرأة مالها حتى تتزوج وإن قرأت التوراة والإنجيل والقرآن، ولا تعط الغلام ماله حتى يحتلم. وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو مال اليتيم يكون عندك، يقول: لا تؤته إياه، وأنفق عليه حتى يبلغ، فإن قيل على هذا القول: كيف أضاف المال إلى الأولياء فقال: (أَمْوالَكُمُ) وهي أموال السفهاء؟ قيل: إنما أضاف إليهم لأنها الجنس الذي جعله الله أموالا للناس كقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ «2» وقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «3» ردّها إلى الجنس، أي الجنس الذي هو جنسكم. وقال محمد بن جرير: إنما أضيفت إلى الولاة لأنهم قوامها ومدبروها، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله، هو المستحق للحجر بتضييعه ماله وإفساده وسوء تدبيره. روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه، ورجل أعطى سفيها ماله وقد قال الله وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أي الجهال بموضع الحق. أَمْوالَكُمُ الَّتِي.
قرأ الحسن والنخعي: اللاتي، وهما بمعنى واحد. وأنشد: من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كبرت لذاتي «1» فجمع بين ثلاث لغات. قال الفراء: العرب تقول في جمع النساء: اللاتي، أكثر مما تقولون: التي، ويقولون في جمع الأموال وسائر الأشياء: التي، أكثر ممّا يقولون: اللاتي، وهما جائزان. جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قرأ ابن عمر (قَواما) بالواو وفتح القاف كالدوام، وقرأ عيسى بن عمر (قِواما) بكسر القاف على الفعل، لأن الأصل الواو. وقال الكسائي: هما لغتان ومعناهما واحد، وكان أبو حاتم يفرّق بينهما فيقول: القوام بالكسر الملاك، والقوام بالفتح امتداد القامة. وقرأ الأعرج ونافع: (قيّما) بكسر القاف. الباقون: (قياما) وأصله قواما فانقلب الواو ياء، لانكسار ما قبلها، مثل صيام ونيام، وهن جميعا ملاك الأمر وما يقول به الإنسان، يقال: فلان قوام أهل بيته، وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به. وقال الضحاك: به يقام الحج والجهاد وأعمال البر، وهي فكاك الرقاب من النار. وقال بعضهم: أموالكم التي تقومون بها قياما. وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي أطعموهم وَاكْسُوهُمْ لمن يجب عليكم رزقه ويلزمكم نفقته، والرزق من الله عزّ وجلّ عطية غير محدودة، ومن الناس الإجراء الموظف بوقت محدود، يقال: رزق فلان عياله كذا وكذا، أي أجرى عليهم، وإنما قال: فِيها، ولم يقل: منها، لأنه أراد أن يجعل لهم فيها رزقا، كأنه أوجب عليهم ذلك. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً عدة جميلة. وقال عطاء: (قَوْلًا مَعْرُوفاً) إذا ربحت أعطيتك كذا وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظا. الضحاك: ردوا عليهم ردا جميلا. وقيل: هو الدعاء. قال ابن زيد: إن كان ليس من ولدك ولا ممّن يجب عليك نفقته فقل له قَوْلًا مَعْرُوفاً، قل له عافانا الله وإيّاك بارك الله فيك.
وقال المفضل: قولا لينا تطيب به أنفسهم، وكلما سكنت إليه النفس أحبته من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر وَابْتَلُوا الْيَتامى الآية، نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه ثابتا وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله، فأنزل الله تعالى وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروهم في عقولهم وأبدانهم وحفظهم أموالهم حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي مبلغ الرجال والنساء فَإِنْ آنَسْتُمْ أبصرتم، قال الله: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً «1» . قال الشاعر: آنست نبأة وأفزعها القناص ... عصرا وقد دنا الإمساء «2» في مصحف عبد الله: فإن أحستم بمعنى أحسستم، فحذف إحدى السينين كقولهم: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ «3» . قال الشاعر: خلا إن العتاق من المطايا ... أحسن به فهنّ إليه شوس «4» مِنْهُمْ رُشْداً. قرأه العامة: بضم الراء وجزم الشين. وقرأ السلمي وعيسى: بفتح الراء والشين، وهما لغتان. قال المفسرون: يعني عقلا وصلاحا وحفظا للمال وعلما بما يصلحه. قال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي: إن الرجل يأخذ بلحيته وما بلغ رشده فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا، حتى يؤنس منه رشده. قال الضحاك: لا يعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله. ذكر حكم الآية: اعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن اليتيم الصغير وجواز دفع ماله إليه بشيئين: البلوغ والرشد، بعد أن أمر الأولياء بالابتلاء. ومعنى الابتلاء على ما ذكره جماعة من الفقهاء: الصغير لا يخلو من أحد أمرين: إما أن
يكون غلاما أو جارية، فإن كان غلاما ردّ النظر في نفقة الدار إليه شهرا أو إعطائه شيئا نزرا يتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه فيه، وإن كان جارية ردّ إليها ما يرد إلى ربّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه، وفي الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته واستيفاء الغزل وجودته، فإن رشدا وإلّا بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما «1» ، فأما البلوغ فإنه يكون بأحد خمسة أسباب، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنان يختص بهما النساء، والتي يشترك فيها الرجال والنساء: فالاحتلام وهو إنزال المني، فمتى أنزل واحد منهما فقد بلغ، سواء كان من جماع أو احتلام أو غيرهما، والدليل عليه قوله: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا «2» وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «خذ من كل حالم دينارا أو عد له من المعافر» «3» [239] . واختلف العلماء فيه، فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: إذا استكمل الصبي خمس عشرة سنة أو أنبت حكمنا ببلوغه. وقال أبو حنيفة: إن كانت جارية فبلوغها سبع عشرة سنة، وعنه في الغلام روايتان: أحدهما: تسع عشرة سنة، وهي الأشهر وعليها النظر. وروى اللؤلؤي عنه: ثمان عشرة سنة. وقال مالك وداود: لا يبلغ بالسن ثم اختلفا، فقال داود: لا يبلغ بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة، وقال مالك: بلوغه بأن يغلظ صوته أو تنشق أرنبته. والدليل على أن جدّ البلوغ بالسن خمس عشرة سنة حديث عبد الله بن عمر قال: عرضت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني فلم يرني بلغت أي، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني الله في المقاتلة. والإنبات وهو أن ينبت: في الغلام أو الجارية الشعر الخشن حول الفرج. وللشافعي في الإنبات قولان: أحدهما: أنه بلوغ، والثاني: دلالة البلوغ. وقال أبو حنيفة: لا يتعلق بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه. والدليل على أن البلوغ بالإنبات متعلق بما روى عطية القرظي عن سعد بن معاذ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حكّمه في بني قريظة قال: فمكثت أكشف عنهم فكل من أنبت قتلته، ومن لم ينبت جعلته في الذرّية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» «1» [240] . قال عطية: فكنت ممّن لم ينبت فجعلني في الذرّية. وأما ما يختص به النساء: فالحيض والحبل، يدل عليه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يقبل صلاة حائض إلّا بخمار» «2» [241] فجعلها مكلفة بالحيض، وهذا القول في حدّ البلوغ. فأما الرشد: فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال الشافعي: هو أن يكون صالحا في دينه مصلحا في ماله، والصلاح في الدين أن يكون متجنبا للفواحش التي يفسق بها، وتسقط عدالته كالزنا واللواط والقذف وشرب الخمر ونحوها. وإصلاح المال: أن لا يضيّعه ولا يبذّره ولا يغبن في التصرف غبنا فاحشا، فالرشد شيئان: جواز الشهادة وإصلاح، المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إذا بلغ عاقلا مصلحا لماله، زال الحجر عنه بكل حال، سواء كان فاسدا في دينه أو صالحا فيه. فاعتبروا صلاح المال ولم يعتبروا صلاح الدين. ثم اختلفوا فيه إذا بلغ عاقلا مفسدا لماله: فقال أبو يوسف ومحمد: لا يزول الحجر عنه ويكون تصرفه باطلا إلّا النكاح والعتق، ويبقى تحت الحجر أبدا إلى أن يظهر رشده. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ عاقلا زال الحجر عنه، فإن كان مفسدا لماله منع من تسليم ماله إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها يسلّم المال إليه بكل حال، سواء كان مفسدا له أو غير مفسد. وقيل: إنّ في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسدا ينفذ تصرفه على الإطلاق، وإنما منع من تسليم المال إليه احتياطا لماله، فقال: وجه تحديده بخمس وعشرين سنة أنه قد يحبل منه لاثني عشرة سنة ثم يولد له لستة أشهر ثم يحمل لولده باثني عشر سنة ثم يولد له لستة أشهر فيصير جدا. قال: وأستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّا، وإذا حصل البلوغ والرشد دفع المال إليه سواء تزوج أو لم يتزوج. وقال مالك: إن كان صاحب المال جارية وتبلغ رشيدة، فالحجر باق عليها، وتمنع من مالها حتى تتزوج، وإذا تزوجت يسلّم مالها، إليها ولا يجوز لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها حتى تكبر وتجرّب ثم حينئذ يبعد تصرفها بغير إذنه، واطلاق في الغلام. والذي يدل على
حكم الكلام في الحجر على السفيه
فساد هذا المذهب ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب يوم العيد ثم نزل فذهب إلى النساء فوعظهن فقال: «تصدقن ولو من حليكنّ» «1» [242] فكنّ تتصدقنّ فجعلت المرأة تلقي حرصها وسخائها ، فأمرهنّ عليه السلام بالصدقة وقبلها منهنّ، ولم يفصل بين متزوجة وغير متزوجة ولا بين من تصدقت بإذن زوجها أو بغير إذنه، فهذا القول في الحجر على الصغير، وبيان حكم قوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى، فأما قوله: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الآية. حكم الكلام في الحجر على السفيه فاختلف العلماء فيه: فقال أبو حنيفة ونفر: لا حجر على حر بالغ عاقل بوجه، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا. وهو مذهب النخعي، واحتجوا في ذلك بما روى قتادة عن أنس: أن حيان بن منقذ كان يخدع في البيع فأتى أهله النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن حيان بن منقذ يعقد وفي عقده ضعف فأحجر عليه. فاستدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «لا تبع» فقال: لا أصبر عن البيع، فقال له: «إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا» «2» [243] . فلما سأله القوم الحجر عليه على ما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل، ثبت أنه لا يجوز. قال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما: يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح. والثاني: لا يحجر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، والأظهر من مذهب الشافعي، وهو الذي ذكرناه من الحجر على السفيه، قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر، ومن التابعين شريح وبه قال من الفقهاء: مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وادّعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة، ما روى هشام بن عروة عن أبيه: أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم، فغبن فيها فأراد عليّ أن يحجر عليه، فأتى ابن جعفر إلى الزبير فقال: إني اشتريت وأن عليا يريد أن يأتي حبر المؤمنين فيسأله أن يحجر عليّ.
فقال الزبير: أنا شريكك في البيع، فقال: عليّ عثمان. وقال علي: إن ابن جعفر اشترى كذا وكذا أحجر عليه. وقال الزبير: أنا شريكه في البيع، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير. فثبت من هذه القصة إجماع الصحابة على جواز الحجر، لأن عبد الله بن جعفر خاف من الحجر، والزبير احتال له فيما يمنعه منه، وعليّ سأل ذلك عثمان، وعثمان اعتذر إليه في الامتناع منه. وَلا تَأْكُلُوها يا معشر الأوصياء والأولياء بغير حقها إِسْرافاً والإسراف مجاوزة الحد والإفراط والخطأ ووضع الشيء في غير موضعه، يقال: مررت بكم فسرقتكم، أي فسهوت عنكم وأخطأتكم. قال جرير: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منّ ولا سرف «1» أي خطأ، يعني أنهم يصيبون مواضع العطاء وَبِداراً مبادرة أَنْ يَكْبَرُوا أن في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذرا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم، ثم بيّن ما يحل لهم من مالهم، فقال عز من قائل: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا عن مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ عن مال اليتيم، فلا يجوز له قليلا ولا كثيرا، والعفة الامتناع ممّا لا يحل ولا يجد فعله، قال الله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً «2» . وَمَنْ كانَ فَقِيراً محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ واختلف العلماء فيه: فقال بعضهم: المعروف القرض، نظيره قوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ «3» يعني القرض، ومعنى الآية: تستقرض من مال اليتيم فإذا أيسر قضاه، فإن لم يقدر على قضائه فلا شيء عليه. وقال به سعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبي العالية، وأكثر الروايات عن ابن عباس. قال مجاهد: ليستسلف منه فيتجر فيه فإذا أيسر أدى، ودليل هذا التأويل ما روى إسرابيل وسفيان عن إسحاق عن حارثة بن مصرف قال: قال عمر بن الخطاب: ألا إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت فإن افتقرت أكلت بالمعروف وإن أيسرت قضيت.
وقال الشعبي: لا تأكله إلّا أن تضطر إليه كما تضطر إلى الميتة. وقال آخرون: (بِالْمَعْرُوفِ) هو أن يأكله من غير إسراف ولا قضاء عليه فيما يأكل، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف: فقال عطاء وعكرمة والسدي: يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف في الأكل، ولا يكتسي منه. وقال النخعي: لا يلبس الحلل ولا الكتان، ولكن ما سدّ الجوعة ووارى العورة. وقال بعضهم: هو أن يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا، فإن أكله فلا بد من أن يرده، وهذا قول الحسن وجماعة. قال قتادة: كان اليتيم يكون له الحائط من النخل فيقوم وليّه على صلاحه وسقيه فيصيب من ثمرته ويكون له الماشية، فيقوم وليه على صلاحها وعلاجها فيصيب من جزازها وعوارضها، فأما رقاب المال وأصولها فليس له أن يستهلكها. وقال الضحاك: المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له أن يأكل من ماله شيئا. وروى بكر بن عبد الله بن الأشج عن القاسم بن محمد قال: حضرت ابن عباس، فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس إن لي أيتاما ولهم ماشية، فهل عليّ جناح في رسلها وما يحل لي منها؟ فقال: إن كنت ترد نادتها وتبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها «1» وتفرط لها يوم وردها، فاشرب من فضل ألبانها عنهم غير مضر بأولادها ولا تنهكها في الحلب. قال بعضهم: المعروف هو أن يأخذ من جميع ماله، إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه [وخدمته] وعمله وأجرته، وإن أتى على جميع المال ولا قضاء عليه، وهذا طعمة من الله تعالى له وبه. قالت به عائشة وجماعة من العلماء، وقال محمد بن كعب القرظي مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ: عن مال اليتيم ولا تأكل منه شيئا وأجره على الله وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ يتقرم بتقرم البهيمة، وينزل نفسه بمنزلة الأجير فيما لا بد له منه والتقرم: الالتقاط من نبات الأرض وبقلها، ودليل هذا التأويل ما روى ابن أبي نجيح عن المحسن العوفي عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن في حجري يتيما أفأضربه؟ فقال: «ممّا كنت ضاربا منه ولدك» [244] قال: يا رسول الله أفآكل من ماله؟ قال: «بالمعروف غير متأثل من ماله ولا واقيا مالك بماله» » [245] .
[سورة النساء (4) : الآيات 7 إلى 14]
وأصل المعروف ما تيسر على الإنسان فطابت نفسه به، قال الله تعالى: مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ «1» . فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ هذا أدب من الله تعالى، ليعلم أن الولي قد أدى الأمانة وينقطع عنه الظنّة وتزول عنه الخصومة وليس بفريضة وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً محاسبا ومجازيا وشاهدا. [سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 14] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية، وذلك أن أوس بن ثابت الأنصاري توفى وترك امرأة يقال لها: أم كحة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصيّاه. واختلف في اسميهما فقال الكلبي وقتادة: عرفطة، وقال غيره: سويد وعرفجة. فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا. وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، وإنما كانوا يورثون الرجال الكبار، فكانوا يقولون: لا نعطي إلّا من قاتل على ظهر الخيل
وجاز القسمة. قال: فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في مسجد الفضيح فقالت: يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك عليّ بنات له ثلاثا وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة، فلم يعطياني ولا بناته من المال شيئا وهنّ في حجري، ولا يطعمن ولا يسقين ولا يرفع لهن رأس. فدعاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلأ ولا ينكأ عدوا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انصرفوا حتى أنظر ماذا يحدث الله لي فيهن» «1» [246] فانصرفوا فأنزل الله تعالى هذه الآية. لِلرِّجالِ يعني الذكور من أولاد الميت وأقربائه نَصِيبٌ وحظ وسهم مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من الميراث، والإناث لهن حصّة من الميراث. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ المال أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً حظا معلوما واجبا، نظيرها فيما قال: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً «2» وهو نصب لخروجه مخرج المصدر كقول القائل: لك عليّ حق حقا واجبا، وعندي درهم هبة مقبوضة، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: هو نصب على الخروج، الكسائي: على القطع، الأخفش: جعل ذلك نصيبا فأثبت لهم في الميراث حقا، ولم يبيّن كم هو. - فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة: «لا تفرّقا من مال أوس بن ثابت شيئا، فإن الله تعالى جعل لبناته نصيبا ممّا ترك ولم يبين كم هو، حتى ننظر ما ينزل الله عزّ وجلّ فيهن» ، فأنزل الله عزّ وجلّ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فلما نزلت أرسل رسول الله إلى سويد وعرفجة: «أن ادفعا إلى أم كحة الثمن ممّا ترك وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال» «3» . وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ يعني قسمة المواريث أُولُوا الْقُرْبى الذين لا يرثون وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي فارضوهم من المال قبل القسمة، واختلف العلماء في حكم هذه الآية: فقال قوم: هي منسوخة. وقال سعيد بن المسيب والضحاك وأبو مالك: كانت هذه قبل آية المواريث، فلما نزلت آية الميراث جعلت الميراث لأهلها الوصية ونسخت هذه الآية، وجعلت لذوي القربى الذين يحزنون ولا يرثون اليتامى والمساكين، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس. وقال آخرون: هي محكمة، وهو قول الأشعري والنخعي والشعبي والزهري ورواية عكرمة ومقسم عن ابن عباس. وقال مجاهد: واجبة على أهل الميراث ما طابت بها أنفسهم.
قتادة عن الحسن: ليست بمنسوخة ولكن الناس شحوا وبخلوا. وروى عبد الرزاق عن معمّر عن هشام بن عروة: أن أباه أعطاه من ميراث مصعب حين قسم ماله، قاله الحسن. وقال التابعون: كانوا يعطون التابوت والأواني وباقي المتاع والثياب، والشيء الذي يستحي من قسمته، فإن كان بعض الورثة طفلا، فاختلفوا: فقال ابن عباس والسدي وغير هما: إذا حضر القسمة هؤلاء، فإن كان الميّت أوصى لهم بشيء أنفدت لهم وصيته، وإن كانت الورثة كبارا رضخوا لهم، وإن كانت صغارا اعتذروا إليهم، فيقول الولي والوصي: إني لا أملك هذا إنما هو لهؤلاء الضعفاء الصغار الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق، ولو كان لي من الميراث شيء لأعطيتكم، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم، وإن ماتوا فورثناهم أعطيناكم حقكم، وهذا هو القول المعروف. وقال سعيد بن جبير: هذه الآية ممّا يتهاون به الناس، هما وليان: وليّ يرث وهو الذي يعطي ويكسي، ووليّ لا يرث وهو الذي يقال له قول المعروف. وقال بعضهم: ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار، فإن كانوا كبارا تولوا إعطاءهم، وإن كانوا صغارا تولى إعطاء ذلك وليّهم. روى محمد بن سيرين: أن عبيدة السلماني قسّم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاما لأهل هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. روى قتادة عن يحيى بن يعمر قال: تلك آيات محكمات مدنيات تركهن الناس، هذه الآية وآية الاستئذان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «1» وقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى «2» . وقال بعضهم: هذا على الندب والاستحباب لا على الحتم والإيجاب، وهو أول الأقاويل بالصواب. وقال ابن زيد وغيره: هذا في الوصية لا في الميراث، كان الرجل إذا أوصى قال: فلان ماله أمر أن يوصي بثلث ماله لمن سمّى الله في هذه الآية. وروى ابن أبي مليكة عن أسماء بنت عبد الرحمن وأبي بكر والقاسم بن محمد بن أبي بكر: أخبرا أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسّم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حيّة،
قالا: فلم يترك في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلّا أعطاهم من مال أبيه، وتلا هذه الآية وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. قال القاسم: فذكرت ذلك لابن عباس فقال: ما أصاب، ليس ذلك له إنما ذلك في الوصية. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا الآية. قال أكثر المفسرين: هذا في الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته عند وصيته: أنظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا، فقدّم لنفسك أعتق وتصدق وأعط فلانا كذا وفلانا كذا حتى يأتي على عامّة ماله ويستغرقه ولا يبقي لورثته شيئا، فنهاهم الله عزّ وجلّ من ذلك وأمر هم أن يأمروه أن يبقي لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ولا يجحف بورثته، كما لو كان هذا الميت هو الموصي، لسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة مع ضعفهم، ويجرهم إلى التصرّف والحيلة. وقال مقسم الحضرمي: الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته: اتق الله وأمسك عليك مالك فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصية لأقربائه ولليتامى والفقراء، ولو كان هذا هو الموصي لسرّه أن يوصي لهم. وقال الكلبي: هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول: من كان في حجره يتيم فليحسن إليه، فليقل وليفعل خيرا وليأت إليه ما يحب أن يفعل بذريته من بعده. وهي رواية عطية عن ابن عباس. وقال الشعري: كنّا بالقسطنطينيّة أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محبرين وابن الديلمي وهاني بن مكتوم، وجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، فضقت ذرعا لما سمعت فقلت لابن الديلمي: يا أبا بشير عليّ ودّي أنه لا يولد لي ولد أبدا قال: فضرب بيده على منكبي وقال: يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من قسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلّا وهي خارجة شئنا أو أبينا، ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجّاك الله منه، وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله فيك؟ قلت: بلى فتلا هذه الآية، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً والسديد العدل والصواب من القول إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية. قال مقاتل بن حيان: نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد، ولّي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله عزّ وجلّ فيه إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً حراما بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أخبر عن ماله وأخبر عن حاله، والعرب تقول للشيء الذي يؤدى إلى الشيء: هذا كذا لما يؤدى إليه، مثل قولهم: هذا الموت، أي يؤدي إليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: في الشارب من أواني الذهب والفضة «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» «1» [247] . وقال (عليه السلام) : «البحر نار في نار» «2» [248] أي عاقبتها كذلك، وذكر البطون تأكيدا كما يقال: نظرت بعيني وقلت بلساني وأخذت بيدي ومشيت برجلي وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وقودا. قرأه العامة بفتح الياء، أي يدخلون، تصديقها إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ، وقوله: لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى «3» . وقرأ أبو رجاء والحسن وابن عامر وعاصم وأبو جعفر: بضم الياء، أي يدخلون النار ويحرقون نظيره، قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ «4» وقوله: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً «5» . وقرأ حميد بن قيس: (وسيصلّون) بضم الياء وتشديد اللام، من التصلية، لكثرة الفعل، أي مرّة بعد مرّة، دليله قوله: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ «6» وكل صواب، يقال: صليت الشيء إذا شويته. وفي الحديث: أتى بشاة مصلية، فاصليته ألقيته في النار، وصليته مرّة بعد مرّة ، وصليت بكسر اللام دخلت النار وتصلّيت استدفأت بالنار. قال الشاعر: وقد تصليت حرّ حربهم ... كما تصلّى المقرور من قرس «7» . وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة، ولهب النار ودخانه يخرج من فيه وأذنيه وأنفه وعينيه، يعرفه كل من رآه يأكل مال اليتيم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل إحداهما عالية على منخريه وأخرى على بطنه، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها، ثم يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً» «8» [249] . يُوصِيكُمُ اللَّهُ.
فصل في بسط الآية
فصل في بسط الآية اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالرجولية والقوة، وكانوا يورثون الرجال دون النساء والأطفال، فأبطل الله عزّ وجلّ ذلك بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية، وبدأ الإسلام بالمحالفة قال الله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ يعني الحلفاء فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وأعطوهم حظهم من الميراث، ثم صارت بعد الهجرة، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا «1» فنسخ هذا كله وصارت الوراثة على وجهين: بالسبب والنسب، فأما السبب فهو النكاح والولاء، وهذا علم عريض لذلك. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكم بالفرائض فإنها نصف العلم وهو أول علم ينزع من أمتي» «2» [250] . ولا يمكن معرفة ذلك إلّا بمعرفة الورثة والسهام، وقد أفردت فيه قولا وجيزا جامعا كما يليق بشرط الكتاب والله الموفق للصواب. اعلم أن الميت إذا مات يبدأ أولا بالتجهيز ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه، فما فضل يقسّم بين الورثة، والورثة على ثلاثة أقسام: منهم من يرث بالفرض، ومنهم من يرث بالتعصيب، ومنهم من يرث بهما جميعا، فصاحب الفرض: من له سهم معلوم ونصيب مقدّر، مثل البنات والأخوات والأمهات والجدّات والأزواج والزوجات، وصاحب التعصيب: من يأخذ جميع المال عند عدم أصحاب الفروض، أو يأخذ الفاضل منهم ويكون محروما إذا لم يفضل من أصحاب السهام شيء، مثل الأخ والعم ونحوهما، والذي يرث بالوجهين: هو الأب مع البنت وبنت الابن، يأخذ نصيبه المقدر وهو السدس، ثم يأخذ ما فضل منهما وجملة الورثة سبعة عشر، عشرة من الرجال: الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى العتاق، ومن النساء سبع: البنت وبنت الابن والأم والجدّة والأخت والزوجة ومولاة العتاق، والذين لا يسقطهم من الميراث أحد الستة، الأبوان والولدان والزوجان. والعلة في ذلك: أنه ليست بينهم وبين الميت واسطة، والذين لا يرثون بحال ستة: العبد والمدبّر والمكاتب وأم الولد وقاتل العمد وأهل الملتين، والسهام المحدودة في كتاب الله عزّ وجلّ ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس.
والنصف فرض خمسة: بنت الصلب، وبنت الابن إذا لم يكن بنت الصلب، والأخت للأب والأم، والأخت للأب إذا لم يكن الأخت للأب والأم، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن. والربع فرض اثنين: الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن، والزوجة والزوجات إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن. والثمن فرض واحد: الزوجة والزوجات إذا كان للميت ولد أو ولد ابن. والثلثان فرض كل اثنين فصاعدا ممّن فرضه النصف. والثلث فرض ثلاثة: الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات إلّا في مسألتين: أحد هما زوج وأبوان، والأخرى امرأة وأبوان، فإن للأم فيهما ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج، وهو في الحقيقة سدس جميع المال، والزوجة وهو ربع جميع المال، وفرض الاثنين من ولد الأم ذكورهم وإناثهم سواء، وفرض الجدّ مع الأخوة والأخوات إذا كانت المقاسمة خيرا له من الثلث. والسدس فرض سبعة: بنت الابن مع بنت الصلب، والأخت للأب مع الأخت للأب والأم، والواحد من ولد الأم، والأم إذا كان للبنت ولدا، وولد ابن أو اثنان من الأخوة والأخوات، وفرض الجدة والجدات وفرض الأب مع الولد وولد الابن [....] «1» مع الابن وابن الابن، وأما العصبات فأقربهم البنون ثم بنوهم ثم بنو بنيهم وإن سفلوا [ ... ] «2» أخواتهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، ثم الأب وله ثلاثة أحوال: حال ينفرد بالتعصيب، وهو مع عدم الولد وولد الابن، وحال ينفرد بالفرض، وهو مع الابن أو ابن الابن، وحال يجمع له الفرض والتعصيب، وهو مع البنت وابنة الابن، ثم الجد إن لم يكن له أخوة، وإن كان له أخوة قاسمهم، ثم الأخوة والأخوات للأب والأم، ثم الأخوة والأخوات للأب يقسمون المال بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، والواحدة منهن عصبة مع البنات، وسائر العصبات ينفرد ذكورهم بالتعصيب، دون الإناث، ثم بنو الأخوة للأب والأم، ثم بنو الأخوة للأب، ثم الأعمام للأب والأم، ثم الأعمام للأب، ثم بنو الأعمام للأب والأم، ثم بنو الأعمام للأب، ثم بنو الأعمام للأب والأم، ثم بنو الأعمام للأب، ثم أعمام الأب كذلك، ثم أعمام الجد، على هذا الترتيب لا يرث بنو أب أعلى وبنو أب أقرب منهم موجود، ثم مولى العتق، ثم عصبته على هذا الترتيب، فهذه جملة من هذا العلم.
رجعنا إلى تفسير الآية، اختلف المفسرون في سبب نزولها: فأخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر (رضي الله عنه) وهما يتمشيان، فأغشي عليّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليّ فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أمضي في مالي؟ كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فيّ آية المواريث. وقال عطاء: استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أحد وترك امرأة وابنتين وأخا، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد، وإن سعدا قتل يوم أحد معك شهيدا، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلّا ولهما مال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك» [251] فأقامت حينا ثم عادت وشكت وبكت، فنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى آخرها. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمّهما وقال: «أعط بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك» «1» [252] ، فهذا أول ميراث قسّم في الإسلام. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في أم كحة وقد مضت القصة. وقال السدي: نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئا، فشكت ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله آية المواريث. وقال ابن عباس: كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله ذلك، وأنزل آية المواريث، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لم يرض بملك مقرب ونبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية للوارث» «2» [253] وقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ أي يعهد إليكم ويفرض عليكم فِي أَوْلادِكُمْ أي في أمر أولادكم إذا متم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً يعني المتروكات فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فصاعدا يعني البنات فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ و (فوق) صلة، كقوله عزّ وجلّ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ «3» . وَإِنْ كانَتْ يعني البنت واحِدَةً. قرأه العامة: نصب على خبر كان، ورفعهما أهل المدينة على معنى: إن وقعت واحدة، وحينئذ لا خبر له.
فَلَهَا النِّصْفُ ثم قال: وَلِأَبَوَيْهِ يعني لأبوي الميت، كناية عن غير المذكور لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ أو ولدان، والأب هاهنا صاحب فرض فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ قرأ أهل الكوفة: (فَلِأِمِّهِ) بكسر الهمزة، وقرأ الباقون: بالضم على الأصل. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ اثنين كانا أو أكثر ذكرانا أو إناثا فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ هذا قول عامة الفقهاء، وكان ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة أخوة، وكان يقول في أبوين وأخوين: للأم الثلث وما بقي فللأب، اتبع ظاهر اللفظ. وروى: أن ابن عباس دخل على عثمان فقال: لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس، وإنما قال الله عزّ وجلّ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة؟ فقال عثمان: هل أستطيع نقض أمر قد كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار. وقول ابن عباس في هذا غير مأخوذ به، وأما الآية فإن العرب توقع اسم الجمع على التثنية، لأن الجمع ضمّ شيء إلى شيء، فأقل الجموع اثنان وأقصاها لا غاية له، قال الله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» . وتقول العرب: ضربت من زيد وعمرو، رؤوسهما فأوجعت من إخوتك ظهورهما. وأنشد الأخفش: لما أتتنا المرأتان بالخبر ... أن الأمر فينا قد شهر «2» قال الثعلبي: وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح الزيدي: ويحيى بالسلام غني قوم ... ويبخل بالسلام على الفقير أليس الموت بينهما سواء ... إذا ماتوا وصاروا في القبور «3» مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم: (يوصى) بفتح الصاد، الباقون: بالكسر وكذلك الآخر. واختلفت الرواية فيهما عن عاصم، والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّه جرى ذكر الميت قبل هذا، قال الأخفش: وتصديق الكسر يوصين ويواصون. آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً.
قال مجاهد: في الدنيا، وقرأ بعضهم: (أيهما أقرب لكم نفعا) أي رفع بالابتداء، ولم يعمل فيه ال (ما) قبله، لأنه استفهام و (أقرب) خبره و (نفعا) نصب على التمييز، كأنه يقول: لا يدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتا فيرثه صاحبه، فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه. وقال ابن عباس: أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله عزّ وجلّ يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده في درجته ليقرّ بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ليقرّ بذلك عينيهما. قال الحسن: لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدين والدنيا. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ يعني وللزوجات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ نظم الآية: وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة، وهو نصب على المصدر، وقيل: على الحال، وقيل: على خبر ما لم يسمّ فاعله، تقديرها: وإن كان رجل يورث ماله كلالة. وقرأ الحسن وعيسى: (يُوَرِثُ) بكسر الراء [جعلا] فعلا له. واختلفوا في الكلالة: فقال الضحاك والسدي: هو الموروث. سعيد بن جبير: هم الورثة. النضر بن شميل: هو المال. واختلفوا أيضا في معناه وحكمه: فروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن الكلالة، فقرأ آخر سورة النساء، فردّ عليه السائل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لست بزائدك حتى أزاد» «1» [254] . وروى شعبة عن عاصم الأحوال قال: سمعت الشعبي يقول: إن أبا بكر (رضي الله عنه) قال في الكلالة: أقضي فيها قضاء وأن كان صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان ومني، والله بريء منه: هو ما دون الوالد والولد، يقول: كل وارث دونهما كلالة قال: فلما كان عمر (رضي الله عنه) بعده قال: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر: هو ما خلا الوالد والولد. وقال طاوس: هو ما دون الولد. والحكم: هو ما دون الأب. عطية: هم الأخوة للأم. عبيد بن عمير: هم الأخوة للأب. وقيل: هم الأخوة والأخوات.
قال جابر بن عبد الله: قلت يا رسول الله إنما يرثان أختان لي فكيف بالميراث؟ فنزلت: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. وقال الأخفش: كل من لم يرثه أب أو أم فهو كلالة. وقال أهل اللغة: هو من نكلله النسب إذا أحاط به كالإكليل. قال امرؤ القيس: أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبّي مكلل «1» فسمّوا كلالة، لأنهم أحاطوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم، وأحاطتهم به أنهم ينسبون معه. قال الفرزدق: ورثتم قناة الملك غير كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم «2» وقال بعضهم: وإن أبا المرؤ أحمى وله ... ومولى الكلالة لا يغضب وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ ولم يقل: (ولهما) وقد مضى ذكر الرجل والمرأة على عادت العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما كانا في الحكم سواء، ربّما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعا، يقول: من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما كلها جائز، قال الله عزّ وجلّ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ ونظائرها، وأراد بهذا الأخ والأخت من الأمر، يدل عليه قراءة سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من الأم فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ بينهم بالسوية ذكورهم وإناثهم سواء مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ. قال علي (عليه السلام) : إنكم تقرؤون الوصيّة قبل الدين وبدأ رسول الله بالدين قبل الوصية. وهذا قول عامة الفقهاء، ومعنى الآية الجمع لا الترتيب غَيْرَ مُضَارٍّ مدخل الضرر على الورثة. قال الحسن: هو أن توصي بدين ليس عليه وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ. وقرأ الأعمش: (غير مضار وصية من الله) على الإضافة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ.
[سورة النساء (4) : الآيات 15 إلى 21]
قال قتادة: إن الله عزّ وجلّ كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدر فيه، ولا يصلح مضارة في حياة ولا موت. وفي الخبر من قطع ميراثه في الجنة «1» تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إلى قوله: [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 21] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يعني الزنا، وفي مصحف عبد الله الفاحشة مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ يعني من المسلمين فَإِنْ شَهِدُوا عليها بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فأحبسوهن فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وإنما كان هذا قبل نزول الحدود، كانت المرأة في أول الإسلام لو أذنبت حبست في البيت حتى تموت وإن كان لها زوج كان مهرها له، حتى نزلت قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما «2» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «3» [255] . فنسخت تلك الآية بعض هذه الآية، وهو الإمساك في البيوت وبقي بعضها محكما وهو الاستشهاد وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الرجل والمرأة، المذكر والمؤنث إذا اجتمعا قلب المذكر على المؤنث، والهاء راجعة إلى الفاحشة. قال المفسرون: فهما البكران يزنيان فَآذُوهُما قال عطاء وقتادة والسدي: يعني عيّروهما
وعنفوهما باللسان: أما خفت الله أما استحيت الله حين أتيت الزنا، وأشباهه. مجاهد: سبّوهما واشتموهما. ابن عباس: هو باللسان واليد كأن [يوذي] بالتعيير والضرب بالنعال. فَإِنْ تابا من الفاحشة وَأَصْلَحا العمل فيما بعد فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ولا تؤذوهما، وإنما كان قبل نزول الحدود، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية والإمساك من الآية الأولى بالرجم للبنت والجلد والنفي للبكر، والجلد في القرآن والنفي والرجم في السنة. روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني: إنما أخبراه أن رجلين اختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله أقض بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم؟ فقال: «تكلم» . فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا- قال مالك: والعسيف الأجير- فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديت منه مائة شاة وبجارية، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك، وجلد ابنك مائة وتغريبه عاما» «1» [256] . وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الرجل فان اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها. روى الزهري عن أبي سلمة عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) غرّب في الزنا ولم تزل تلك السنّة حتى غرّب مروان في إمارته. وروى الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله: أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاعترف عنده بالزنا: فأعرض عنه ثم اعترف فاعترض حتى شهد على نفسه أربع مرات، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مجنون؟» قال: لا، قال: «أحصنت؟» قال: نعم، فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجم بالمصلّي، فلما أذاقته الحجارة فرّ، وأدرك فرجمه حتى مات» . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه خيرا ولم يصل عليه. سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله طهّرني، قال: «ويحك إرجع فاستغفر الله وتب إليه» قال: فرجع غير بعيد وقال مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ممّ أطهرك؟» قال: من الزنا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنك مجنون؟» وأخبر أنه ليس به جنون، فقال: «أشرب خمرا» ، فقام رجل فاستشمه فلم يجد منه ريح خمر.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أزنيت أنت؟» قال: نعم فأمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجم، وجاء النبي فقال: «استغفروا لماعز بن مالك» ، فقالوا: أيغفر الله لماعز بن مالك؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد تاب ماعز توبة لو قسّمت بين أمة لوسعتها» «1» [257] . وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنا، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، ألا وقد رجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده. إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ قال الحسن: يعني التوبة التي يقبلها الله، فتكون على بمعنى عند، أقامه مقام صفة. قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: (على) هاهنا بمعنى (من) يقول: إنما التوبة من الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ، اختلفوا في معنى الجهالة: فقال مجاهد والضحاك: هي العمد. وقال الكلبي: لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل عقوبته. وقال سائر المفسرين: يعني المعاصي كلها، فكل من عصى ربّه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته. قتادة: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأوا أنّ كل شيء عصي به ربّه فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. وقال الزجاج: معنى قوله: بِجَهالَةٍ اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، نظيرها في الأنعام مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ «2» ، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ معناه قبل أن يحبطون السوء بحسناته فيحبطها. قال السدي والكلبي: القريب ما دام في صحته قبل المرض والموت. عكرمة وابن زيد: ما قبل الموت فهو قريب. أبو مجلن والضحاك: قبل معاينة ملك الموت. أبو موسى الأشعري: هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة.
زيد بن أسلم عن عبد الرحمن [السلماني] قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم» [258] . قال الثاني: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم» [259] . قال الثالث: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة» [260] . فقال الرابع: وأنا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه» «1» [261] . خالد بن [سعدان] عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه» ثم قال: «إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه» ثم قال: «إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه» ثم قال: «إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه» ثم قال: «إن الساعة لكثير، من تاب قبل موته قبل أن يغرغر بها تاب الله عليه» «2» [262] . المسيب بن شريك عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما هبط إبليس قال وعزتك وعظمتك لا أفارق ابن آدم حتى يفارق روحه جسده فقال الله عزّ وجلّ: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر» «3» [263] . وعن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الربّ تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروا لي» «4» [264] . قال الثعلبي: وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت محمد بن عبد الجبار يقول: يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد قبل موته: ما أسرع ما جئت. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني المعاصي حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
ووقع في النزع قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه ولا من عاص توبته وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ موضع (الَّذِينَ) خفض يعني ولا الذين يتوبون وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي هيّئنا، والاسم منه العتاد. قال عدي بن الرقاع: تأتيه أسلاب الأعزة عنوة ... قسرا ويجمع للحروب عتادها «1» وقال للفرس المعد للحرب: عتّد وعتد. وقال الشاعر الجعفي: حملوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدوا بها عتد وأي «2» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً أي على كره منهن. قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من جنسه فيلقي ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق، إلّا بالصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها منه شيئا، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج فطوّل عليها وضارها، لتفتدي نفسها بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها، فكانوا يفعلون ذلك حتى توفى أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها يقال له: (حصن) . وقال مقاتل بن حيان: اسمه قيس بن أبي قيس، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها بذلك لتفتدي بمالها، وكذلك كانوا يفعلون إذا ورث أحدهم نكاحها، فإن كانت جميلة موسرة دخل بها، وإن لم تكن جميلة طوّل عليها لتفتدي منه، فأتت كبيشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس توفى وورث نكاحي ابنه وقد أضرّني حصن وطوّل عليّ فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله» [265] قالت: فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة، فأتين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في مسجد الفضيح فقلن: يا رسول الله ما نحن إلّا كهيئة كبشة غير أننا لم ينكحنا الأبناء وينكحنا بنو العم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ الآية «3» .
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب: بضم الكاف هاهنا وفي التوبة. والباقون: بالفتح. قال الكسائي: هما لغتان. وقال الفراء: الكره والإكراه، والكره المشقة، فما أكره عليه فهو كره بالفتح، وما كان من قبل نفسه وهو كره بضم الكاف. وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ كفعل أهل الجاهلية «1» . وعن الضحاك: نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة، فيكره أن يزوجها لأجل مالها، فتكون تحته العجوز ونفسه تشوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز بتوقع وفاتها ليرثها مالها وهو معتزل لفراشها. وقال ابن عباس: هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيطوّل عليها ويضارّها لتفتدي بالمهر أو يردّ إليه ما ساق إليها من المهر، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك، ثم قال: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم وعضلهن، لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ، واختلفوا في الفاحشة: فقال بعضهم: هي الزنا. قال الحسن: إن زنت حلّ لزوجها أن يسألها الخلع. قال عطاء: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقال ابن مسعود والضحاك وقتادة: هي النشوز «2» . جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس فقال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» «3» [266] . وقوله مُبَيِّنَةٍ بفتح الياء قاله ابن عباس وعاصم وابن كثير، الباقون: بالكسر. وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. قال الحسن: رجع إلى أول الكلام يعني وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
فصل فيما ورد من الأخبار في الرخص في مغالاة المهر
وقال بعضهم: هو أن يصنع بها كما يصنع له. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وهو ولد صالح أو يعطفه الله عليها بعد ذلك، كذا قاله المفسرون. مكحول الأزدي قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل يستخير الله فيختار له، فيسخط على ربّه عزّ وجلّ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ما لم يكن من قبلها نشوز ولا إتيان فاحشة وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً وهو المال الكثير، وقد مرّ تفسيره فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي من القنطار شيئا أَتَأْخُذُونَهُ استفهام نهي وتوبيخ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً انتصابها من وجهين: أحدهما بنزع الخافض، والثاني بالإضمار، تقديره: تصيبون في أخذه بهتانا وإثما مبينا، ثم قال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ على معنى الاستعظام، كقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ «1» وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ. قال المفسرون: أراد المجامعة، ولكن الله كريم يكني بما شاء عمّا شاء، وأصل الإفضاء الوصول إلى شيء من غير واسطة. وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي: هو قولهم عند العقد: زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. مجاهد: هو كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج وهي كقوله: نكحته. الشعبي وعكرمة والربيع: هو قوله: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فصل فيما ورد من الأخبار في الرخص في مغالاة المهر لقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً عن عطاء الخراساني: قال خطب عمر إلى علي ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنها صغيرة، فقال عمر: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلّا نسبي وصهري» «2» فلذلك رغبت فيها [267] . فقال علي (رضي الله عنه) : إني مرسلها إليك حتى تنظر إلى صغرها فأرسلها إليه، فجاءته
فصل فيمن كره ذلك، والكلام في أقل المهر
فقالت: إن أبي يقول لك هل رضيت النحلة. فقال: رضيتها. قال: فأنكحه ابنته وصدقها عمر أربعين ألف درهم «1» . وعن ابن سيرين: إن الحسن (رضي الله عنه) تزوج بامرأة، فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم. وروى مرشد بن عبد الله البرني عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خير النكاح أيسره» وقال صلّى الله عليه وسلّم لرجل: «أترضى أن أزوجك فلانة؟» [268] قال: نعم، قال للمرأة: «أترضين أن أزوجك فلانا؟» [269] قالت: نعم، فزوج أحدهما بصاحبه، فدخل عليها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا، وكان ممّن شهد الحديبية وله سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد زوّجني بفلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وأني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمها ذلك فباعته بمائة ألف «2» . وعن ضمرة بن حبيب أن أم حبيبة كانت بأرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) وأن رسول الله زوّجها فأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار. وبه عن ابن سيرين عن ابن عباس أنه تزوج سليمة السلمية على عشرة آلاف درهم. حماد بن سلمة عن ابن بشر أن عروة البارقي تزوج بنت هاني بن قبيصة على ألف درهم. وعن غيلان بن جرير أن مطرفا تزوج امرأة على عشرة ألف أواق. فصل فيمن كره ذلك، والكلام في أقل المهر عن ابن سيرين قال: حدثنا أبو العجفا السلمي، قال: سمعت عمر وهو يخطب الناس فحمد الله واثنى عليه وقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، ألا وإن أحدكم ليغلي بصدقة امرأة حتى يبقي لها عداوة في نفسه، فيقول: كانت لك حلق القربة أو عرق القربة. عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من يمن المرأة تيسير صداقها وتيسر رحمها» «3» [270] .
قال عروة: وأنا أقول من عندي من أول شؤمها أن يكثر صداقها. سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: كان صداقنا مذ كان فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرة أواق وهو أربعة دراهم. ثابت البناني عن أنس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى على عبد الرحمن أثر صفرة وقال: «ما هذا؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك أولم ولو بشاة» «1» [271] . يقال: هي خمسة دراهم. وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل عندك من شيء تصدقها إياه؟» قال: ما عندي إلّا إزاري هذا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئا» فقال: ما أجد شيئا. فقال: «التمس ولو خاتما من حديد» ، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل معك من القرآن شيء؟» قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، لسور سمّاها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «زوجتك بما معك من القرآن» «2» [272] . وعن عبد الله بن عامر عن أبيه: أن رجلا تزوج امرأة على نعلين فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أرضيت مالك بهاتين النعلين؟» [273] قال: نعم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلّم «3» . وعن أبي حدرد الأسلمي قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أستعينه في مهر امرأة فقال: «كم تصدقها؟» قلت: مائتي درهم. فقال: «لو كنتم تغرفون من بطحان ما زدتم» «4» [274] . مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعطى في صداق ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل» «5» [275] . وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوج بامرأة على عشرة دراهم. أحمد بن حنبل عن الحسن بن عبد العزيز قال: كتب إلينا ضمره عن إبراهيم بن عبد الله الكناني أن سعيد بن المسيب زوج ابنته على درهمين.
[سورة النساء (4) : الآيات 22 إلى 28]
وكيع عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي شيبة عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من استحل بدرهم فقد استحل» «1» [276] قال وكيع: في النكاح. وعن عبد الله بن يزيد مولى الأسود أن رجلا تسرّ جارية له فكرهها، فقال له رجل: هبها لي، فوهبها له فذكر ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: إن الهبة لم تجز لأحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو أصدقها سوطا لحلت. المغيرة عن إبراهيم قال: السنة في الصداق الرطل من الورق، كانوا يكرهون أن يكون مهر الحرائر مثل مهور البغايا بالدرهم والدرهمان، ويحبون أن يكون عشرين درهما. [سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 28] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ نزلت في حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج بامرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، وفي منصور بن مازن تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة، وفي [أبي مكيل] العدوي تزوج امرأة أبيه.
وقال الأشعث بن يسار: توفى أبو قيس وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدك ولدا وأنت من صالح قومك، ولكني آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أستأمره، فأتته فأخبرته، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعي إلى بيتك» [277] فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ «1» . (ما) بمعنى من، وقيل: ولا تنكحوا النكاح يعني ما نَكَحَ (آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) اسم الجنس ليدخل فيه الحرائر والإماء، أما الحرائر فتحرم بالعقد، والإماء بالوطء. إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ قال المفضّل: يعني بعد ما سلف فدعوه واجتنبوه. قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه كما قد سلف إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً يورث بغض الله، والمقت أشد البغض وَساءَ سَبِيلًا «2» وبئس ذلك طريقا. كانت العرب يقولون لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت ومقي، وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن عمرو بن أمية. السدي عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ فقال: أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى رجل تزوج بامرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو أقتله. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ هي جمع أم، والأم في الأصل أمهه على وزن فعلة، مثل قبرة وحمرة فسقطت الهاء في [التوحيد وعادت] في الجمع كقولهم: شاه ومياه. قال الشاعر: أمهتي خندف والروس أبي «3» وقيل: أصل الأم أمة، وأنشدوا: تقبلتها عن أمة لك طالما ... تثوب إليها في النوائب أجمعا «4» فيكون الجمع حينئذ أمهات. ومثاله في الكلام عمّة وعمّات. وقال الراعي: كانت نجائب منذر ومحرق ... أماتهن وطرقهن فحيلا «5» فحرم الله تعالى في هذه الآية نكاح أربع عشرة امرأة: سبعا بنسب وسبعا بسبب، فأما
النسب قوله: أُمَّهاتُكُمْ فهي أمهات النسبة وَبَناتُكُمْ جمع البنت وَأَخَواتُكُمْ جمع الأخت وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ جمع العمّة والخالة وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ. وأما السبب فقوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وهي أمهات الحرمة كقوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «1» ثم قال: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «2» . وقرأ عبد الله: (واللاي) بغير تاء كقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ «3» . قال الشاعر: من اللاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البرئ المغفلا» عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما حرمته الولادة حرمه الرضاع» «5» [278] . ومالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر عن عميرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «6» [279] . الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي كرم الله وجهه قال: قلت يا رسول الله ما لك تنوق في قريش وتدعنا قال: «وعندك أحد؟» قلت: نعم بنت حمزة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة» «7» [280] . وهب بن كيسان عن عروة عن عائشة: أن أبا القعيس- وهو أفلح- استأذن على عائشة بعد آية الحجاب، فأبت أن تأذن له فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ائذني له فإنّه عمك» فقالت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، قال: «إنه عمك فليلج عليك» «8» . وإنما يحرم الرضاع بشرطين إثنين أحدهما: أن يكون خمس رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، وتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي ممّا يقرأ من القرآن. وروى عبد الله بن الحرث عن أم الفضل: أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الرضاع فقال: «لا تحرم الاملاجة ولا الأملاجتان» «9» [281] .
قال قتادة: المصة والمصتان. والشرط الثاني: أن يكون من الحولين، وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم، وكان أبو حنيفة يرى ذلك بعد الحولين ستة أشهر. ومالك: بعد الحولين شهرا، والدليل على أن ما بعد الحولين من الرضاع بقوله: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «1» وليس بعد الكمال والتمام شيء، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا رضاع بعد الحولين، وإنما الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم» «2» [282] . وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أم المرأة حرام دخل بها أو لم يدخل، وهو قول أكثر الفقهاء، وعليه الحكم والفتيا، وقد شدد أهل العراق فيها حتى قالوا: لو وطأها أو قبّلها أو لامسها بالشهوة حرمت عليه ابنتها. وعندنا إنما يحرم بالنكاح الصحيح، والحرام لا يحرم الحلال، وكان ابن عباس يقرأ (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) ويحلف بالله ما نزل إلّا هكذا ويقول: هي بمنزلة الربائب، فلما كانت الربائب لا يحرمن بالعقد على أمهاتهن دون الوطء، كذلك أمهات النساء لا يحرمن بالعقد على بناتهن دون الوطء، وهو قول علي وزيد وجابر وابن عمر وابن الزبير قالوا: نكاح أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن حلال ، والقول الأول هو الأصح. قال ابن جريح: قلت لعطاء: الرجل ينكح المرأة ثم يراها ولا يجامعها حتى يطلقها، أيحل له أمّها؟ قال: لا، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل. فقلت له: كان ابن عباس يقرأ: (وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن) قال: لا. وروى عمرو بن المسيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل، بها ثم طلقها فإن شاء تزوج بالبنت» . وَرَبائِبُكُمُ جمع الربيبة وهي ابنت المرأة، قيل لها: ربيبة، لتربيته إياها، فعيلة بمعنى مفعولة اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أي في ضمانكم وتربيتكم، يقال: فلان في حجر فلان إذا كان يلي تربيته، ويقال: امرأة طيبة الحجر إذا لم تربّ ولدا إلّا طيب الولد. قال الكميت: الكرمات [نسبة] في قريش ... [وسواهم] والطيبات الحجورا ومنه قيل للحظر حجر، والأصل فيه الناحية، يقال: فلان يأكل في حجره ويريض حجره.
مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أي جامعتموهن فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم. روى الزهري عن عروة: أن زينب بنت أبي سلمة وأمها أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي قالت: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو تحبين ذلك؟» قلت: نعم ليست لك بمخلية وأحب من يشاركني في خير أختي. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ ذلك لا يحلّ لي» . فقلت: والله يا رسول الله إنّا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درّة بنت أبي سلمة فقال: «بنت أم سلمة؟» فقلت: نعم، قال: «والله إنها لو تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لبنت أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن» «1» [283] . وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ يعني أزواج أبنائكم، والذكر حليل، وجمعه أحلّه وأحلّاء، مثل عزيز وأعزة وأعزّاء، وإنما سمّي بذلك لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه، يقال: حلّ وهو حليل، مثل صحّ وهو صحيح، وقيل: سمّي بذلك لأن كل واحد منهما يحلّ حيث يحلّ صاحبه من الحلول وهو النزول، وقيل: لأن كلّ واحد منهما يحل إزار صاحبه، من الحل وهو ضد العقد. قال الشاعر: يدافع قوما على مجدهم ... دفاع الحليلة عنها الحليلا يدافعه يومها تارة ... ويمكنه رجلها أن يشولا الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ دون من تبنيتموهم. قال عطاء: نزلت في محمد صلّى الله عليه وسلّم حين نكح امرأة زيد بن حارثة. وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حرّتين كانتا بالعقد أو أمتين بالوطء إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. قال عطاء والسدي: يعني إلّا ما كان من يعقوب (عليه السلام) ، فإنه جمع بين ليا أم يهوذا وراجيل أم يوسف وكانتا أختين. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ الآية. قال عمرو بن مرّة: قال رجل لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين يسأل عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ فلم يقل فيها شيئا، فقال سعيد: كان لا يعلمها. وقال مجاهد: لو أعلم من يفسّر في هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ.
قال المفسرون: هذه السابعة من النساء اللواتي حرّمن بالسبب. قرأه العامة: (وَالْمُحْصَناتُ) بفتح الصاد، يعني في زوال الأزواج أحصنهنّ أزواجهن. قال أبو سعيد الخدري: نزلت في نساء كنّ يهاجرن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولهنّ أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين، فنهى المسلمين عن نكاحهنّ ثم استثنى فقال: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني السبايا اللاتي سبين ولهم أزواج في دار الحرب، فحلال لمالكهن وطأهن بعد الاستبراء. فقال أبو سعيد الخدري: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين جيشا إلى أوطاس، فلقوا العدو فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين، فكرهوا وطأهنّ وتأثموا من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقرأ علقمة: (وَالْمُحْصِناتُ) بكسر الصاد، ودليله قول عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وعبيدة وأبي العالية والسدي، قالوا: والمحصنات في هذه الآية والعفائف ومعناها: والعفائف من النساء عليكم حرام إلّا ما ملكت إيمانكم منهن بنكاح أو ملك يمين وثمن، وقيل: معناه الحرائر. قال الباقر ويمان: معناه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ عليكم حرام ما فوق الأربع، إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فإنه لا عدد عليكم فيهن. وقال ابن جريج: سألنا عطاء عنها فقال: معنى قوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أن تكون لك أمة عند عبد لك قد أحصنها بنكاح وتنزعها منه إن شئت. كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ نصب على المصدر، أي كتب الله عليكم كتابا، وقيل: نصب على الإغراء، أي الزموا واتقوا كتاب الله عليكم. وقرأ ابن السميقع: كتب الله عليكم أي أوجب، وهذه أربعة عشر امرأة، محرمات بالكتاب. فأما الستّة: فقد حرّمت امرأتين، وهو ما روى هشام عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها» «1» [284] . وَأُحِلَّ لَكُمْ قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة: (وَأَحَلَّ لَكُمْ) بضم الألف. الباقون: بالنصب، وهي قراءة علي وابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، فمن رفع فلقوله: حُرِّمَتْ، ومن نصب، فللقرب من ذكر الله في قوله: كِتابَ اللَّهِ.
ما وَراءَ ما سوى ذلِكُمْ الذي ذكرت من المحرمات أَنْ تَبْتَغُوا بدل من (ما) فمن رفع أحلّ ف (إن) عنده في محل الرفع، ومن نصب ف (إن) عنده في محل النصب. قال الكسائي والفراء: موضعه نصب في القراءتين بنزع الخافض، يعني: لأن تبتغوا وتطلبوا. بِأَمْوالِكُمْ أما بنكاح وصداق أو بملك وثمن مُحْصِنِينَ متعففين غَيْرَ مُسافِحِينَ زانين، وأصله من سفح المذي والمني فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ اختلف في معنى الآية: فقال مجاهد والحسن: يعني ممّا انتفعتم وتلذذتم للجماع من النساء بالنكاح الصحيح. فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن، فإذا جامعها مرّة واحدة فقد وجب لها المهر كاملا. وقال آخرون: هو نكاح المتعة، ثم اختلف في الآية أمحكمة هي أم منسوخة؟ فقال ابن عباس: هي محكمة ورخّص في المتعة، وهي أن ينكح الرجل المرأة بولي وشاهدين إلى أجل معلوم، فإذا انقضى الأجل فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة، وعليها أن تستبري ما في رحمها وليس بينهما ميراث. قال حبيب بن أبي ثابت: أعطاني ابن عباس مصحفا فقال: هذا على قراءة أبي، فرأيت في المصحف (فما استمتعم به منهن إلى أجل مسمى) . وروى داود عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن المتعة فقال: أما تقرأ سورة النساء؟ قلت: بلى، قال: فما تقرأ: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى) ؟ قلت: لا أقرأها هكذا. قال ابن عباس: والله لهكذا أنزلها الله، ثلاث مرّات. وروى عيسى بن عمر عن طلحة بن مصرف أنه قرأ: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى) . وروى عمرو بن مرّة عن سعيد بن جبير: أنه قرأها: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى) . وروى شعبة عن الحكم قال: سألته عن هذه الآية: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أمنسوخة هي؟ قال: لا. قال الحكم: قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنا إلّا شقي. أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال: نزلت هذه الآية (المتعة) في كتاب الله، لم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتمتعنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينهنا عنه، وقال رجل بعد برأيه ما شاء!
قال الثعلبي: قلت ولم يرخص في نكاح المتعة إلّا عمران بن الحصين وعبد الله بن عباس وبعض أصحابه وطائفة من أهل البيت «1» ، وفي قول ابن عباس. يقول الشاعر: أقول للرّكب إذ طال الثواء بنا ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف ناعمة ... تكون مثواك حتى مرجع الناس «2» وسائر العلماء والفقهاء والصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة ومتعة النساء حرام. وروى الربيع بن بسرة الجهني عن أبيه قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عمرته فشكونا إليه العزبة، فقال: «يا أيها الناس استمتعوا من هذه النساء» ثم صحبت غاديا على رسول الله فإذا هو يقول: «يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلّا أن الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة» «3» [285] . وقال خصيف: سألت الحسن عن نكاح المتعة، فقال: إنما كان ثلاثة أيام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نهى الله عزّ وجلّ عنه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الكلبي: كان هذا في بدء الإسلام، أحلّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أيام ثم حرّمها، وذلك أنه كان إذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها أجرها الذي كان شرط لها، ثم قال: زيديني في الأيام فأزيدك في الأجر، فإن شاءت فعلت ذلك، فإذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها الأجر وفارقها، ثم نسخت بآية الطلاق والعدة والممات. وروى الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما أن عليا قال لابن عباس: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الأهلية. وروى الفضل بن دكين عن البراء بن عبد الله القاص عن أبي نضرة عن ابن عباس أن عمر (رضي الله عنه) نهى عن المتعة التي تذكر في سورة النساء فقال: إنما أحل الله ذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والنساء يومئذ قليل، ثم حرّم عليهم بعد أن نهى عنها. وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها لا أجد رجلا ينكحها إلّا رجمته بالحجارة.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث» «1» [286] . وقال ابن أبي مليكة: سألت عائشة عن المتعة فقالت: بيني وبينهم كتاب الله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ «2» . وعن عائشة: والله ما نجد في كتاب الله إلّا النكاح والاستسراء. وقال ابن عمر: المتعة سفاح. عطاء: المتعة حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير. قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن جبير يقول: سمعت أبا علي الحسين بن أحمد الخياط يقول: سمعت أبا نعيم بن عبد الملك بن محمد بن عدي يقول: سمعت [ ... ] «3» يقول: الشافعي يقول: لا أعلم في الإسلام شيئا أحل ثم حرّم ثم أحل ثم حرّم غير المتعة. فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً أي مهورهن، سمّي المهر أجرا، لأنه ثمن البضع وأجر الاستمتاع ألا تراه يتأكد بالخلوة والدخول. واختلفوا في حدّه، فأكثره لا غاية له، وأما أقلّه فقال أبو حنيفة: لا مهر دون عشرة دراهم أو قيمتها من الذهب، لأن الله عزّ وجلّ قال: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ولا يطلق اسم المال على أقل من هذا القدر. وعند الشافعي: لا حدّ له، فأجاز الشيء الطفيف حتى القبضة من الطعام، وكذلك كل عمل أوجب أجرا قليلا كان أو كثيرا، والسورة من كتاب الله عزّ وجلّ أو آية لقوله: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وعن سلمة بن وردان قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من أصحابه، فقال: «يا فلان هل تزوجت؟» قال: لا، وليس عندي ما أتزوج، قال: «أليس معك قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «4» ؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» قال: «أليس معك إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ «5» ؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» قال: «أليس معك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «6» ؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» ، قال: «أليس معك إِذا زُلْزِلَتِ «7» ؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن»
قال: «أليس معك آية الكرسي؟» قال: بلى، قال: «ربع القرآن» ، قال: «تزوج تزوج تزوج» «1» [287] . وقد ذكرت حجج الفريقين فيما قيل. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ يعني فيما تفتدي به المرأة نفسها، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فضلا وسعة. المسيب بن شريك عن عمران بن جرير عن النزال بن سبرة عن ابن عباس قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرّم عليه نكاح الإماء. أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الحرائر، وقرأ الكسائي: (الْمُحْصِناتِ) بكسر الصاد، كل القرآن إلّا في أول هذه السورة، الباقون: بالفتح. الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلى قوله بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ سادتهن ف آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن بِالْمَعْرُوفِ من غير ضمار مُحْصَناتٍ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أحباب يزنون بهن في السر. فَإِذا أُحْصِنَّ قرأ أهل الكوفة: بفتح الألف، على معنى حفظن فروجهن، وقرأ الآخرون: بالضم، على معنى أنهنّ أحصنّ بأزواجهنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ يعني الزنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر إذا زنين مِنَ الْعَذابِ يعني الحدّ، نظيره: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ «2» وهو خمسون جلدة وتغريب نصف سنة على الصحيح من مذهب الشافعي، ويحتاج أن يغرّب الزاني إلى موضع يقصر إليه الصلاة، وللسيد إقامة الحدّ بالزنا على عبده وأمته. سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها، فإن عادت الرابعة فليبعها ولو بضفير أو حبل» «3» [288] . ذلِكَ يعني نكاح الإماء عند عدم الطول لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ يعني الإثم والضرر بغلبة الشهوة وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء متعففين خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. عن يونس بن مرداس وكان خادما لأنس قال: كنت بين أنس وأبي هريرة، فقال أنس: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أحبّ أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر» .
فقال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحرائر صلاح البيت والإماء فساد البيت» «1» [289] . يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي أن يبيّن، (اللام) بمعنى أن، والعرب تعاقب بين لام كي وبين أن فتضع إحداهما مكان الأخرى كقوله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ «2» وقوله: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «3» ، ثم قال في موضع آخر: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «4» ، وقال: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «5» ، ثم قال في موضع آخر: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «6» . وقال الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل «7» يريد أن أنسى، ومعنى الآية: يريد الله أن يبيّن شرائع دينكم ومصالح أمركم. الحسن: يعلمكم ما تأتون وما تذرون. عطاء: يبيّن لكم ما يقربكم منه. الكلبي: ليبيّن لكم أن الصبر من نكاح الإماء خير لكم. وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ شرايع الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ في تحريم الأمهات والبنات والأخوات، كما ذكر في الآيتين. هكذا حرّمها على من كان قبلكم من الأمم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبيّن لكم، قاله الكلبي. وقال محمد بن جرير: يعني يرجع بكم من معصيته التي كنتم عليها قبل هذا إلى طاعته التي أمركم بها في هذه الآية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما يصلح عباده من أمر دينهم ودنياهم حَكِيمٌ في تدبيره فيهم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ إن وقع تقصير منكم في أمره وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً بإتيانكم ما حرّم عليكم، واختلفوا في الموصوفين باتباع الشهوات من هم: فقال السدي: هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم: هم اليهود، وذلك أنهم ينكحون بنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرّمهما الله قالوا: إنكم تحلّون بنات الخالة والعمّة، والخالة والعمّة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت كما تنكحون بنات الخالة والعمّة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
[سورة النساء (4) : الآيات 29 إلى 36]
مجاهد: هم الزناة، يريدون أن تميلوا عن الحق فتكونوا مثلهم تزنون كما يزنون. ابن زيد: هم جميع أهل الكتاب في دينهم. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في نكاح الأمة، إذا لم تجدوا طول الجرة وفي كل أحكام الشرع وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً في كل شيء. طاوس والكلبي وأكثر المفسرين: يعني في أمر الجماع لا يصبر على النساء ولا يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء. قال سعيد بن المسيب: ما آيس الشيطان من بني آدم إلّا أتاه من قبل النساء، وقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشى بالأخرى، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء. مالك بن شرحبيل قال: قال عبادة بن الصامت: ألا ترونني لا أقوم إلّا رفدا ولا آكل إلّا ما لوق لي وقد مات صاحبي منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحكيه عليّ أنه لا سمع له ولا بصر. قال الحسن: هو أن خلقه من ماء مهين بيانه قول الله: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ «1» . ابن كيسان: (خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) يستميله هواه وشهوته ويستطيشه خوفه وحزنه. قال ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «2» ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ» ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ «4» إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «5» ، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ «6» ، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «7» وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ «8» ، ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ «9» [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 36] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بالحرام يعني الربا والقمار والقطع والغصب والسرقة والخيانة. وقال ابن عباس: هو الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول: إن رضيت أخذته وإلّا رددته ورددت معه درهما، ثم قال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً يعني لكن إذا كانت تجارة استثناء منقطع، لأن التجارة ليست بباطل. قرأ أهل الكوفة: (تِجارَةً) بالنصب وهو اختيار أبي عبيد. وقرأ الباقون: بالرفع وهو اختيار أبي حاتم، فمن نصب فعلى خبر كان تقديره: إلّا أن تكون الأموال تجارة. كقول الشاعر: إذا كان طاعنا بينهم وعناقا «1» ومن رفع فعلى معنى الا أن تقع تجارة وحينئذ لا خبر له. كقول الشاعر: فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب «2» ثم وصف التجارة فقال: عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ يرضى كل واحد منهما بما في يديه. قال أكثر المفسرين: هو أن يخبر كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد عقد المبيع حتى يتفرقا من مجلسهما الذي تعاقدا فيه، كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» «3» [290] .
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «البيع عن تراضي بالخيار بعد الصفقة ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلما «1» » [291] . وروى حكيم بن حزام عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما» «2» [292] . وابتاع عمر بن جرير فرسا ثم خير صاحبه بعد البيع، ثم قال: سمعت أبا هريرة يقول: هذا البيع عن تراض. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يعني إخوانكم، أي لا يقتل بعضكم بعضا. قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبي عن جدّي عن علي بن الحسين الهلالي قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول: سأل الفضل بن عياض عن قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قال: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص أنه قال: لما بعثه رسول الله عام ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت ذلك له فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» [293] . قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قول الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً فتيمّمت ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل شيئا «3» . وعن الحسن: أن الحرث بن عبد الله خلا بالنفر من أصحابه وقال: إن هؤلاء ولغوا في دمائهم فلا يحولنّ بين أحدكم وبين الجنة ملء كف من دم مسلم أهراقه، فأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن رجلا ممّن كان قبلكم خرجت به قرحة بيده فأخذ حزة فحزّها بيده حتى قطعها فما رقأ دمها حتى مات فقال ربّكم تعالى: بادرني ابن آدم بنفسه فقتلها فقد حرمت عليه الجنة» «4» [294] . سماك عن جابر بن سمرة: أن رجلا ذبح نفسه فلم يصل عليه النبي صلّى الله عليه وسلم.
حماد بن زيد عن عاصم الأسدي: ذكر بأن مسروقا بن الأجدع أتى صفين فوقف بين الصفين ثم قال: يا أيها الناس أنصتوا، ثم قال: أرأيتم لو أنّ مناديا ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال: إن الله ينهاكم عمّا أنتم فيه، أكنتم مطيعيه؟ قالوا: نعم. قال: فو الله لنزل بذلك جبرئيل على محمد فما زال يأتي من هذا ثم تلا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ الآية ثم انساب في الناس فذهب «1» . وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الذي ذكرت من المحرمات عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ندخله في الآخرة نارا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيّنا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية. اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيرا للصغائر. فروى عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: «أن تزني بحليلة جارك «2» » [295] هذا الحديث من قول الله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «3» الآية. صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضول الماء بعد الري» «4» . الشعبي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكبائر الإشراك بالله، واليمين الغموس، وعقوق الوالدين، وقتل النفس الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، وقول الزور. أو قال. شهادة الزور» «5» [296] . سفيان عن سعد بن إبراهيم عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو قال: من الكبائر أن يشتم الرجل والديه. قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمّه فيسب أمّه. أبو الطفيل عن ابن مسعود قال: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والأياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. عكرمة عن عمار قال: حدثنا طيسلة بن علي النهدي قال: سألت ابن عمر عن الكبائر، فقال: هي تسع قلت ما هن؟ قال: الإشراك بالله تعالى، وقتل المؤمن متعمدا، وعقوق الوالدين
المسلمين، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، والسحر، واستحلال الميتة قبلكم أحياء وأمواتا. وقال جعفر الصادق: الكبائر ثلاث: تركك ملتك، وتبديلك سنّتك، وقتالك أهل صفقتك. وقال فرقد المسيحي: قرأت في التوراة: أمهات الخطايا ثلاث وهي: أول ذنب عصى الله به الكبر، وكان ذلك لإبليس عليه اللعنة، والحرص، وكان ذلك لآدم (عليه السلام) ، والحسد، وكان لقابيل حين قتل هابيل. عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الكبائر أولهنّ: الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنة والانقلاب على الأعراب بعد الهجرة فهذه سبع» «1» [297] . سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن رجلا سأله عن الكبائر السبع، قال: هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع إلّا أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قال: الكبائر عشرون: الشرك بالله عزّ وجلّ، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، واليأس من روح الله، والسحر، والزنا والربا، والسرقة، وأكل مال اليتيم، وترك الصلاة، ومنع الزكاة، وشهادة الزور، وقتل الولد خشية أن يأكل معك، والحسد، والكبر، والبهتان، والحرص، والحيف في الوصية، وتحقير المسلمين. السدي عن ابن مالك قال: ذكروا الكبائر عند عبد الله فقال عبد الله: افتحوا سورة النساء، وكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثون آية فهو كبيرة، ثم قال: مصداق ذلك إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية. وقال ابن سيرين: ذكر عند ابن عباس الكبائر فقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، حتى الطرفة وهي النظرة. سعيد بن جبير عنه: كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئا منها فليستغفر، فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلّا راجعا عن الإسلام أو جاحد فريضة أو مكذبا بقدر. علي بن أبي طلحة عنه: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار وأوعد عليه النار فهي كبيرة. الحسن: الموجبات للحدود.
الضحاك: ما وعد الله تعالى عليه حدّا في الدنيا وعذابا في الآخرة. الحسين بن الفضل: ما سمّاه الله في كتابه القرآن كبيرا أو عظيما، نحو قوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً «1» ، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً «2» ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «3» ، إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ «4» ، سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ «5» ، إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً «6» . مالك بن معول: الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل الشّينة. وكيع: كل ذنب أصرّ عليه العبد فهو كبيرة، وليس من الكبائر ما تاب منه العبد واستغفر منه. أحمد بن عاصم الأنطاكي: الكبائر ذنوب العمد، والسيئات الخطأ، والنسيان، والإكراه، وحديث النفس، المرفوعة من هذه الأمة. سفيان الثوري: الكبائر ما فيه المظالم بينك وبين العباد، والصغائر ما بينك وبين الله تعالى، لأن الله كريم يغفره، واحتجّ بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ينادي يوم القيامة مناد من بطنان العرش يا أمّة محمد إن الله عزّ وجلّ يقول: أمّا ما كان لي قبلكم فقد وهبتها لكم وبقي التبعات، فتواهبوا وادخلوا الجنة برحمتي» «7» [298] . المحاربي: الكبائر ذنوب المذنبين المستحلين مثل ذنب إبليس، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم. السدي: الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار والسيئات مقدماتها، وتبعاتها ما يجتمع فيه الصالح والفاسق، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «العينان تزنيان واليدان تزنيان ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» «8» [299] . وقال قوم: الكبيرة ما قبح في العقل والطبع مثل القتل والظلم والزنا والكذب ونحوها، والصغيرة ما نهى الله عنه شرعا وسمعا. وقال: كل ذنب يتجاوز عنه بفضله يوم القيامة فهو صغيرة، وكل ذنب عذّب عليها بعدله فهو كبيرة. وقيل: الكبائر الذنوب الباطنة والسيئات الذنوب الظاهرة. وقال بعضهم: الصغائر ما يستحقرونه العباد والكبائر ما يستعظمونه فيخافون واقعته.
فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عدد الكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة
وقال أنس بن مالك: إنكم تعملون أعمالا هي أدق من الشعر في أعينكم كنّا نعدّها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكبائر. وقال بعضهم: الكبائر الشرك وما يؤدّي إليه، وما دون الشرك فهو من السيئات، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «1» . فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عدد الكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة أحدها: الإشراك بالله لقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ «2» . الثاني: الأياس من روح الله لقوله: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ «3» الآية. والثالث: القنوط من رحمة الله لقوله: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ «4» . والرابع: الأمن من مكر الله لقوله: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» . والخامس: عقوق الوالدين لقوله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «6» . والسادس: قتل النفس التي حرّم الله لقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «7» . والسابع: قذف المحصنة لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ «8» الآية. والثامن: الفرار من الزحف لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً «9» الآية. التاسع: أكل الربا لقوله: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا «10» الآية. والعاشر: السحر لقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ «11» الآية. والحادي عشر: الزنا: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً «12» . والثاني عشر: اليمين الكاذبة لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «13» .
والثالث عشر: منع الزكاة لقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ «1» الآيتين. والرابع عشر: الغلول لقوله: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ «2» . والخامس عشر: شهادة الزور لقوله: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ «3» الآية. والسادس عشر: الميسر وهو القمار لقوله: الْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ «4» . والسابع عشر: شرب الخمر لقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «5» الآية. والثامن عشر: ترك الصلاة متعمدا لقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ «6» الآية. والتاسع عشر: قطيعة الرحم لقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ «7» وقوله: وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ «8» . والعشرون: الحيف من الوصية لقوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً «9» الآية. والحادي والعشرون: أكل مال اليتيم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «10» الآية. والثاني والعشرون: التعرب بعد الهجرة لقوله: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً «11» . والثالث والعشرون: استحلال الحرم لقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ «12» ، وقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ «13» . والرابع والعشرون: الارتداد لقوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ «14» الآية. والخامس والعشرون: نقض العهد لقوله: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ «15» . فذلك قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ. وقرأ ابن مسعود: كبر ما تنهون عنه، على الواحد، وفيه معنى مع نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ
من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «الصلاة الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر» «1» [300] . وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهي الجنة. وقرأ عاصم وأهل المدينة: (مَدْخلا) بفتح الميم وهو موضع الدخول. وقرأ الباقون: بالضم على المصدر، معنى الإدخال. وروي عن أبي هريرة وعن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس على المنبر ثم قال: «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات ثم سكت فأقبل كل رجل منّا يبكي حزنا ليمين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «ما من عبد يأتي بالصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر إلّا فتحت له أبواب الجنة يوم القيامة حتى أنها لتصطفق» [301] ثم تلا إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ «2» الآية. وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ الآية. يقال: جاءت وافدة النساء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله أليس الله ربّ الرجال والنساء وأنت رسول الله إليهم جميعا، فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكر النساء؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ولا لله فينا حاجة؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ «3» الآية، وقوله: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ «4» . وقيل: لمّا جعل الله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ في الميراث، قالت النساء: نحن أحوج إلى أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم، لأنا ضعفاء وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منّا، فنزّل الله هذه الآية. وقال مجاهد: قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزوا، وإنما لنا نصف الميراث، فليتنا رجال فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة والسدي: لما نزل قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، قال الرجال: إنا لنرجو أن يفضل علينا النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فأنزل الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من الثواب والعقاب وَلِلنِّساءِ كذلك، قاله قتادة، وقال أيضا: هو أن الرجل يجزي بالحسنة عشرة والمرأة تجزي بها عشرا.
وقال ابن عباس: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من الميراث، وللنساء نصيب منه لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والأحراز، فنهى الله تعالى عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد. قال الضحاك: لا يحل لمسلم أن يتمنى مال أحد، ألم يسمع الذين قالوا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ «1» إلى أن قال وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ «2» حين خسف بداره وأمواله يقولون: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا «3» . وقال الكلبي: لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته، ولكن ليقل: اللهم ارزقني مثله، وهو كذلك في التوراة، وذلك قوله في القرآن: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «4» . قرأ ابن كثير وخلف والكسائي: (وسلوا الله) وسل وفسل بغير همزة فنقل حركة الهمزة إلى السين. الباقون: بالهمزة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا الله من فضله فإنه يحبّ أن يسأل وأن من أفضل العبادة انتظار الفرج» » . أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لم يسأل الله عزّ وجلّ من فضله غضب عليه» «6» [302] . هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: سلوا ربّكم حتى الشبع من لم ييسّره الله لم يتيسّر. وقال سفيان بن عيينة: لم يأمر بالمسألة إلّا ليعطي. وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ أي ولكل واحد من الرجال والنساء موالي، أي عصبة يرثونه مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ من ميراثهم له، والوالدون والأقربون على هذا التأويل هم الموروثون، وقيل: معناه ولكل جعلنا موالي، أي قرابة من الذين تركهم، ثم فسّر الموالي فقال: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي هم الوالدان والأقربون خبر مبتدأ محذوف فالمعنى: من تركة الوالدان والأقربون، وعلى هذا القول هم الوارثون وَالَّذِينَ عَقَدَتْ في محل الرفع بالابتداء، والمعاقدة هي المعاهدة بين اثنين.
وقرأ أهل الكوفة: عَقَدَتْ خفيفة بغير ألف أراد عقدت لهم أَيْمانُكُمْ وقرأت أم سعد بنت سعد بن الربيع: (عقّدت) بالتشديد يعني وثقته وأكدته، والأيمان جمع يمين من اليد والقسم، وذلك أنهم كانوا يضربون صفقة البيعة بأيمانهم، فيأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد ويتحالفون عليه، فلذلك ذكر الأيمان. قتادة وغيره: أراد بالذين عاقدت إيمانكم الحلفاء، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك وهدمي هدمك وثاري ثارك وحربي وحربك وسلمي وسلمك وترثني وارثك وتطلب لي وأطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه لذلك قوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي وأعطوهم حظهم من الميراث، ثم نسخ ذلك بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «1» . وقال إبراهيم ومجاهد: أراد فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من النصر والعقل والرفد، ولا ميراث، وعلى هذا القول تكون الآية غير منسوخة لقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «2» ، ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوفوا للحلفاء بعهودهم التي عقدت أيمانكم» [303] . ولقوله (عليه السلام) في خطبته يوم فتح مكة: «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلّا شدة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» «3» [304] . وروى عبد الرحمن بن عوف، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي، فما أحب أن لي حمر النعم وإنّي أنكثه» «4» [305] ، وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار حين أتوا إلى المدينة، وكانوا يتوارثون تلك المؤاخاة، ثم نسخ الله ذلك بالفرائض. وقال سعيد بن المسيّب: نزلت في الذين كانوا يتبنّون أبناء غير هم في الجاهلية، ومنهم زيد مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأمروا في الإسلام [أن] يوصوا إليهم عند الموت بوصية، وردّ الميراث إلى ذوي الرحم، وأبى الله أن يجعله يجعل للمدّعى ميراثا ممّن ادّعاهم وتبنّاهم، ولكن جعل الله لهم نصيبا في الوصية، فذلك قوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وقال أبو روق: نزل قوله: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ. الآية.
في أبي بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن، وكان كافرا، أن لا ينفعه ولا يورثه شيئا من ماله، فلمّا أسلم عبد الرحمن أمر أن يؤتى نصيبه من المال. الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. الآية. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في سعيد بن الربيع بن عمرو. وكان من النقباء. وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير. وهما من الأنصار. وذلك أنها نشزت فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: أفرشته كريمتي ولطمها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لتقتصّ من زوجها» ، فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليرجعوا، هذا جبرئيل» ، وأنزلت هذه الآية، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أردنا أمرا وأراد الله أمرا، فالذي أراد الله خير» «1» [306] ، ورفع القصاص. وقال الكلبي: نزلت في أسعد بن الربيع وامرأته بنت محمد بن مسلم، وذكر نحوها أبو روق: نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها، فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم تستعدي، فأنزل الله تعالى هذه الآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي مسلّطون على تأديب النساء بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس، فلو شجّ رجل امرأته، أو جرحها لم يكن عليه قود، وكان عليه العقل إلّا التي يقتلها فيقتل بها ، قاله الزهري وجماعة من العلماء، وقال بعضهم: ليس بين الزوج والمرأة قصاص إلّا في النفس والجرح. والقوّامون: البالغون في القيام عليهن بتعليمهنّ وتأديبهنّ وإصلاح أمرهنّ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ قيل: بزيادة العقل، وقيل: بزيادة الدّين واليقين، وقيل: بقوة العبادة، وقيل: بالشهادة، قال الله: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، قال القرظي: بالتصرّف والتجارات، وقيل: بالجهاد، قال الله: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «2» ، وقال للنساء: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ «3» ، الربيع: الجمعة والجماعات، قال الحسن: بالإنفاق عليهنّ، قال الله تعالى: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. وقال بعضهم: يمكن للرجل أن ينكح أربع نسوة، ولا يحلّ للمرأة غير زوج واحد، وقيل: هو إنّ الطلاق إلى الرجال وليس إليهنّ منه شيء، وقيل: بالدّية، وقيل: بالنبوّة، وقيل: الخلافة والإمارة، إسماعيل بن عياش [.......] «4» عن بعض أشياخه رفعه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المرأة مسكينة ما لم يكن لها زوج» .
فقيل: يا رسول الله، وإن كان لها مال؟ قال: «وإن كان لها مال، الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» [307] . سعيد [عن أبي سعيد المقبري] «1» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها، ثم تلا صلّى الله عليه وسلّم: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «2» [308] . فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ مطيعات حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ يعني لغيب أزواجهنّ إذا غابوا، وقيل: سرّهم بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بحفظ الله لهنّ، وقرأ أبو جعفر بفتح الهاء، ومعناه: بحفظ من الله في الطاعة، وهذا كقوله عليه السلام: «احفظ الله يحفظك» «3» ، و (ما) على القراءتين [مصدريّة] «4» ، كقوله: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي «5» ، أي يغفر لي ربّي. وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ عصيانهن، وأصله من الحركة فَعِظُوهُنَّ، فإن نزعن عن ذلك وإلّا وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ، وقيل: ولّوهنّ ظهوركم في المضاجع، فإن نزعن وإلّا وَاضْرِبُوهُنَّ ضربا غير مبرح ولا شائن. ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «علّق السوط حيث يراه أهل البيت» «6» [309] . هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي لا [تطلبوا] عليهنّ بالذنوب، قال ابن عينه: لا تكلفوهن الحبّ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما أي خلافا بين الزوجين، فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها يتوسطون، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يعني الزوجين وقيل: الحكمين، يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بالصلاح والألفة، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً. وعن عبيدة السلماني قال: جاء رجل وامرأة عليا (عليه السلام) ، مع كل واحد منهما قيام من النّاس، فقال عليّ: «ما شأن هذين؟» . قالوا: وقع بينهما شقاق. قال عليّ:
فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها. قال: فبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، فقال عليّ للحكمين: «هل تدريان ما عليكما؟ إنّ عليكما إن رأيتما أن يجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن يفرّقا فرقتما» ، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي، فقال الرجل: أمّا الفرقة فلا، قال عليّ: «كذبت والله، لا تنقلب منّي حتى تقرّ بما أقرّت به» «1» . وَاعْبُدُوا اللَّهَ وحّدوا الله وأطيعوه، قالت الحكماء: العبودية ترك العصيان، وملازمة الذلّ والانكسار، وقيل: العبودية أربعة أشياء: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرّضا بالموجود، والصبر على المفقود. وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً برّا بهما وعطفا عليهما. وقرأ ابن جني: (إحسانٌ) بالرفع، أي وجب الإحسان بهما، وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قسوة قلبه، فقال: «إن أردت أن يلين قلبك فاطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم وأطعمه» «2» [310] . وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى: قرأ العامة بالخفض عطفا على الكلام الأول، وقرأ ابن أبي عبلة: وَالْجارَ وما يليه نصبا. والْجارِ ذِي الْقُرْبى ذو القرابة وَالْجارِ الْجُنُبِ البعيد الذي بينك وبينه قرابة، وقال الضحاك: هو الغريب من قوم آخرين، وقرأ الأعمش والفضل: (وَالْجارِ الْجَنْبِ) بفتح الجيم وسكون النون، وهما لغتان: رجل جنب وجنب وجانب وأجنب وأجنبيّ، إذا لم يكن قريبا، وجمعها أجانب، وقال الّاعشى: أتيت حريثا زائرا عن جنابة ... فكان حريث في عطائي جامدا «3» أي عن غربة من غير قربة، ومنه يقال: اجتنب فلان فلانا، إذا بعد منه، ومنه قيل للمجنب: جنب لاعتزاله الصّلاة، وبعده من المسجد حتى يغتسل، وقال نوف البكالي: الْجارِ الْجُنُبِ هو الكافر، وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ يعني الرفيق في السفر، قال ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر وعكرمة وقتادة، عن سعيد بن معروف بن رافع، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «التمسوا الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق» «4» [311] . وقال بعضهم: الْجارِ الْجُنُبِ هو الجار اللاصق داره بدارك، فهو إلى جنبك، وقال علي وعبد الله وابن أبي ليلى والنخعي: هو المرأة تكون معه إلى جنبه. ابن زيد وابن جريح: هو
الذي يلزمك ويصحبك رجاء برّك ورفدك. وقال ابن عباس: إنّي لأستحي أن يطأ الرجل بساطي ثلاث مرات لا يرى عليه أثر من برّي. وقال المهلّب: إذا غدا عليكم الرجل وراح، فكفى به مسألة وتذكرة بنفسه. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ خير الأصحاب عند الله عز وجلّ خيرهم لصاحبه، خير الجيران عند الله خيرهم لجاره» «1» [312] . عثمان بن عطا، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس بمؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه، فأيّما رجل أغلق أبوابه دون جاره، فخافه على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن» . قالوا: يا رسول الله، وما حق الجار؟ قال: «إن دعاك أجبته، وإن أصابته فاقة عدت عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عدته، وإن أصابه مصيبة عزّيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلّا بإذنه، ولا تؤذه بقتار «2» قدرك إلّا أن يغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها، وإن لم تفعل فأدخلها سرّا، ولا يخرج ولدك منها فيغيظ ولده» . ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «الجيران ثلاثة: فمنهم من له ثلاثة حقوق، ومنهم من له حقّان، ومنهم من له حق واحد فأما صاحب الثلاثة الحقوق: فالمسلم الجار ذو الرحم، له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم، وأمّا صاحب الحقّين: فالمسلم الجار له حق الإسلام وحق الجار، وأمّا صاحب الحق الواحد، فالمشرك الجار، له حق الجوار، وإن كان مشركا» «3» [313] . أبو هشام القطان، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آذى جاره فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن حارب جاره فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله عزّ وجلّ» «4» [314] . وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني المماليك، عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفع إلى أبي ذرّ غلاما، فقال: «يا أبا ذرّ أطعمه مما تأكل واكسه مما تلبس» ، قال: لم يكن له سوى ثوب واحد فجعله نصفين، فراح إلى نبي الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: «ما شأن ثوبك هذا؟» ، فقال: إن الفتى الذي دفعته إليّ أمرتني أن أطعمه مما آكل واكسوه مما ألبس، وإنه لم يكن معي إلّا هذا الثوب فناصفته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أشير عليك بأن تعتقه» ، ثم قال رسول الله: «ما فعل فتاك؟» قال: ليس لي فتى فقد أعتقته، قال: «آجرك الله يا أبا ذرّ» «5» [315] .
[سورة النساء (4) : الآيات 37 إلى 42]
الأعمش عن عتيق عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الغنم بركة، والإبل عزّ لأهلها، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والعبد أخوك فإن عجز فأعنه» «1» . وعن عليّ (رضي الله عنه) قال: «كان آخر كلام رسول إله صلّى الله عليه وسلّم الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» «2» [316] . إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. [سورة النساء (4) : الآيات 37 الى 42] الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) الَّذِينَ في محل النصب ردّا على مَنْ وقيل: (المختال الفخور) ، يَبْخَلُونَ البخل في كلام العرب: منع الرجل سائله ما لديه من فضل عنه، وفي الشرع: منع الواجب، وفيه أربع لغات: البخل- بفتح الباء والخاء- وهي قراءة أنس بن مالك وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحمزة والكسائي وخلف والمفضل ولغة الأنصار. والبخل- بفتح الباء وسكون الخاء- وهي قراءة قتادة وعبد الله بن سراقة، وأيّوب السجستاني، والبخل- بضم الباء والخاء- وهي قراءة عيسى بن عمرو. والبخل- بضم الباء وجزم الخاء- وهي قراءة الباقين، واختيار أبي عبيد وأبي مسلم لأنها اللغة العالية، وفي الحديد مثله. وكلّها لغات، ونظيره في الكلام: (أرض جرز، وجرز، وجرز) . واختلف العلماء في نزول الآية ومعناها، فقال أكثرهم: نزلت في اليهود كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلم، ولم يبيّنوها للنّاس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة. يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، قال هذا في العلم ليس للدنيا منه شيء. قال ابن عباس وابن زيد: نزلت في كردم بن زيد وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن يعمر وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت، كانوا يأتون رجالا من الأنصار
ويخالطونهم وينصحونهم، فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا ندري ما يكون، فأنزل الله عزّ وجلّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله: مِنْ فَضْلِهِ يعني المال. وقال يمان: يعني يبخلون بالصدقة. الفضل بن فضالة، عن أبي رجاء قال: خرج علينا عمران بن حصين في مطرف من خزّ لم نره عليه قبل ولا بعد، فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة، أحبّ أن يرى أثر نعمته عليه» «1» [317] . وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلى الأخير، محل الذين نصب عطفا على قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وإن شئت جعلته في موضع الخفض عطفا على قوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ نزلت في اليهود، وقال السدي: في المنافقين، وقيل: في مشركي مكة المتفقين على عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً صاحبا وخليلا، وهو فعيل من الاقتران، قال عدي بن زيد: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي «2» فَساءَ قَرِيناً فبئس الشيطان قرينا، وقد نصب على التمييز، وقيل: على الحال، وقيل: على القطع بإلقاء الألف واللام منه، كما نقول: نعم رجلا، عبد الله، تقديره: نعم الرجل عبد الله، فلمّا حذف الألف واللام نصب، كقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا «3» ، وساءَ مَثَلًا «4» ، وساءَتْ مُرْتَفَقاً «5» ، وساءَتْ مُسْتَقَرًّا» ، وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «7» ، وكَبُرَ مَقْتاً «8» ، قال المفسرون: فَساءَ قَرِيناً أي يقول: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ «9» . وَماذا عَلَيْهِمْ وما الذي عليهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ إلى آخر الآية، وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ؟ فإنّ الله لا يظلم- أي لا يبخس- ولا ينقص أحدا من خلقه من ثواب عمله شيئا مثقال ذرّة مثلا، بل يجازيه بها ويثيبه عليها وهذا مثل يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، فكيف بأكثر منها؟ والمراد من الكلام: لا يظلم قليلا، لأن الظلم مثقال ذرّة لا ينتفع به الظالم، ولا يبين ضرره في المظلوم. وقيل: [ ... ] «10» ، ودليله من التأويل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «11» في الدنيا.
واختلفوا في الذرّة، فقال ابن عباس: هي النملة الحميراء الصغيرة، لا تكاد تبين في رأي العين. وقال يزيد بن هارون: وزعموا أنّ الذرة ليس لها وزن، ويحكى أنّ رجلا وضع خبزا حتى علاه الذرّة يستره، فلم يزد على وزن الخبز شيئا. ودليل هذا التأويل ما روى بشير بن عمرو عن عبد الله أنّه قرأ: (إنّ الله لا يظلم مثقال نملة) . يزيد بن الأصم عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: مِثْقالَ ذَرَّةٍ، قال: أدخل ابن عباس يده في إناء ثم رفعها، ثم نفخ فيها، ثم قال: كلّ واحدة من هؤلاء ذرّة، وقال بعضهم: أجزاء الهباء في الكوّة كلّ جزء منها ذرّة. وقيل: هي الخردلة. وفي الجملة هي عبارة عن أقلّ الأشياء وأصغرها، روى أنس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأمّا الكافر، فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، لم يكن له حسنة» «1» [318] . قتادة: كان بعض أهل العلم يقول: لئن يفضل حسناتي على سيئاتي وزن ذرّة أحبّ إليّ من أن يكون لي الدنيا جميعا. عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا خلص المؤمنون من النار يوم القيامة، وأمنوا فما مجادلة أحدكم صاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدّ من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار» ، قال: «يقولون: ربّنا إخواننا كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا، ويحجّون معنا، فأدخلتهم النار؟ فيقول الله عزّ وجلّ: اذهبوا وأخرجوا من عرفتم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم، لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبه، فيخرجونهم فيقولون: ربّنا أخرجنا من أمرتنا، ثم يقول تعالى: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار، حتى يقول: من كان في قلبه مثقال ذرّة» «2» [319] . وقال أبو سعيد: فمن لم يصدق بهذا فليقرأ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ.... قال: «فيقولون: ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير» . قال: «ثم يقول الله عزّ وجلّ: شفعت الملائكة، وشفعت الأنبياء، وشفعت المؤمنون «3» ، وبقي أرحم الراحمين» ، قال: «فيقبض قبضة من النار. أو قال: «قبضتين» . ممن لم يعملوا له عزّ وجلّ خيرا قط، قد احترقوا حتى صاروا حمما، قال: فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصبّ عليهم
فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيخرجون وأجسادهم «1» مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم: (عتقاء الله عزّ وجلّ) ، فيقال لهم: ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم عندي أفضل من هذا» . قال: «فيقولون: ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين!» . قال: «فيقول: ان لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: ربّنا وما أفضل من ذلك؟» قال: «فيقول: رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا» «2» . وقال آخرون: هذا في الخبر عن ابن [ ... ] «3» عن عبد الله بن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين، ثم نادى مناد من عند الله: ألا من كان يطلب مظلمة إلى أخيه فليأخذ. قال: فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه، فيأخذ منه، وإن كان صغيرا، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ... وَلا يَتَساءَلُونَ «4» ، فيؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأشهاد: الأولين والآخرين، هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق، فليأت إلى جنبه ثمّ يقال له: آت هؤلاء حقوقهم. فيقول: من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة، قالت لملائكة: ربّنا أنت أعلم بذلك منهم، أعطينا كلّ ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرّة من حسنة، فيقول للملائكة: ضاعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل منّي الجنّة، ومصداق ذلك في كتاب الله إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً. وإن كان العبد شقيّا، فتقول الملائكة: إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته، وبقي طالبون كثير، فيقول عزّ وجلّ: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكّوا له صكا إلى النار. فمعنى الآية على هذا التأويل: لا يَظْلِمُ، مِثْقالَ ذَرَّةٍ للخصم على الخصم، بل يثيبه عليها ويضاعفها له، وذلك قوله وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها قراءة العامة حَسَنَةً بالنصب على معنى: وإن يكن زنة الذرّة. وقرأها أهل الحجاز رفعا، بمعنى أن يقع أو يوجد حسنة، وقال المبرّد: معناه وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً باقية يضاعفها. وقرأ الحسن: (نضاعفها) - بالنون- الباقون: بالياء، وهو الصحيح لقوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ وقرأ أبو رجاء وأهل المدينة يضعّفها. الباقون: يضعفها وهما لغتان معناهما التكثير. وقال
أبو عبيده: يُضاعِفْها معناه يجعلها أضعافا كثيرة، ويضعّفها بالتشديد يجعلها ضعفين. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده، قال الكسائي: في (لدن) أربع لغات لدن، ولدى ولد ولدن. ولمّا أضافوها إلى أنفسهم شدّدوا النون. أَجْراً عَظِيماً وهو الجنّة. عن أبي عثمان قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إنّ الله عزّ وجلّ يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة، قال أبو هريرة: لا بل سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يعطيه ألفي ألف حسنة» «1» ، ثم تلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، إلى أَجْراً عَظِيماً [320] . وقال: «إذا قال الله: أجرا عظيما، فمن بعد يدري قدره؟» . فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يعني فكيف يصنعون إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد حق منها، يشهد عليهم بما عملوا، وَجِئْنا بِكَ يا محمد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً؟ نظيره في البقرة «2» والنحل «3» والحج «4» . عاصم عن زر عن عبد الله قال: قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ» . فقرأت «5» سورة النساء، حتى إذا بلغت، فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ دمعت عينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال: «حسبنا» «6» [321] . يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء وتشديد السين، على معنى: تتسوّى فأدغمت التاء بالسين، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما بفتح التاء وتخفيف السين، على حذف تاء تفعل، كقوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ «7» ، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول، قالوا: سوّيت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئا واحدا، وقال قتادة وعبيدة: يعني لو تحركت الأرض فساروا فيها، وعادوا إليها كما خرجوا منها، ثم تسوى عليهم حتى تعلوهم، ابن كيسان: ودّوا أنهم لم يبعثوا طرّا، وإنما نقلوا من التراب وكانت الأرض مستوية بهم. الكلبي: يقول الله عزّ وجلّ للبهائم والوحش والطير والسباع: كنّ ترابا فتسوّى بها الأرض، فعند ذلك يتمنى الكافرون لو كانوا ترابا يمشي
[سورة النساء (4) : الآيات 43 إلى 53]
عليهم أهل الجمع، بيانه قوله عزّ وجلّ: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1» . قال الثعلبي: وحكي أستاذنا أبو القاسم الحسين أنّه سمع من تأول هذه الآية: يعدل بهم ما على الأرض من شيء فدية، بيانه: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ «2» الآية. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً؟: قال عطاء: ودّوا لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وإنّهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا نعته، وقال آخرون: بل هو كلام مستأنف، يعني ويكتمون الله حديثا لأنّ ما عملوا لا يخفى على الله عزّ وجلّ، ولا يقدرون على كتمانه، الكلبي وجماعة: لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً لأنّ خزنة جهنم تشهد عليهم. سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أشياء تختلف عليّ في القرآن، أهو شك فيه؟ قال: لا، ولكن اختلاف في آيات الاختلاف عليك من ذلك، فقال: اسمع، الله عزّ وجلّ يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «3» ، وقال: لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فقد كتموا، فقال ابن عباس: أمّا قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فإنهم لما رأوا يوم القيامة أنّ الله يغفر لأهل الإسلام قالوا: تعالوا فلنشهد فجحد المشركون، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ رجاء أن يغفر لهم فيختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. الحسن: إنّها مواطن، ففي موطن لا يتكلمون ولا يسمع الّا همسا، وفي مواطن يتكلمون ويكذبون، ويقولون: ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، وفي موطن يعترفون على أنفسهم، وهو قوله عزّ وجلّ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ «4» ، وفي موضع آخر يسألون الرحمة، وإنّ آخر تلك المواطن أنّ أفواههم تختم، وجوارحهم تتكلم، وهو قوله تعالى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً. [سورة النساء (4) : الآيات 43 الى 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كانوا يشربون الخمرة، ويشهدون الصلاة وهم نشاوى، فلا يدرون كم يصلّون، ولا يدرون ما يقولون في صلواتهم، فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى نشاوى من الخمر، جمع سكران، وقرأ النخعي: (جنبا) وهما لغتان. حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وتقرؤون في صلاتكم، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصّلاة، حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة. سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى، قال: لم يعن سكر الخمر، إنّما يعني سكر النوم. هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا نعس أحدكم وهو في الصّلاة، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنّه إذا صلّى وهو ينعس، لعلّه يذهب فيستغفر فيسبّ نفسه» «1» [322] . هشام بن عروة أيضا عن أبيه عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا نعس الرجل وهو يصلّي، فلينصرف فلعلّه يدعو على نفسه وهو لا يدري» «2» [323] . همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول، فليضطجع» «3» [324] . وروي عن عبيدة السلماني في هذه الآية أنّه قال: هو الحاقن، دليله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصلينّ أحد كم وهو يدافع الأخبثين «4» » «5» [325] .
وَلا جُنُباً نصب على الحال، يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب، وقرأ إبراهيم النخعي: (جُنْباً) بسكون النون، يقال: رجل جنب، ورجلان وامرأتان جنب، ورجال ونساء جنب، والفعل منه أجنب. يجنب، وأصل الجنابة البعد، فقيل له: جنب لأنّه يجتنب حتى يتطهر، ثم استثنى فقال: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ واختلفوا في معناها، فقال: بعضهم: الّا إن يكونوا مسافرين ولا يجدون الماء فيتيمّموا، وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد والحكم والحسن بن مسلم وابن كثير. وقال الآخرون: معناه إلّا مجتازين فيه للخروج منه مثل أن ينام في المسجد، فيجنب، أو يكون الماء فيه، أو يكون طريقه عليه، فرخص له أن يمرّ عليه ولا يقيم، وعلى هذا القول تكون الصلاة بمعنى المصلّى والمسجد كقوله صَلَواتٌ «1» اي موضع الصلوات، وهذا قول عبد الله وابن المسيّب وابن يسار والضحاك والحسن وعكرمة وإبراهيم وعطاء الخراساني والنخعي والزيدي، يدلّ عليه ما روى الليث عن يزيد بن أبي حبيب أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فيصيبهم الجنابة، ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرّا للماء إلّا في المسجد، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. وأصل العبور: القطع يقال: عبر الطريق والنهر إذا قطعهما وجال فيهما «2» . وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض. إسماعيل عن أبيه عن الحسين عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنّ مسجدي حرام على كلّ حائض من النساء، وعلى كلّ جنب من الرجال إلّا على محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام» «3» [326] . وأراد به مرضا يضرّه مساس الماء كالجدري والجروح والقروح، أو كسر قد وضع عليه الجبائر، فإنّه رخّص له في التيمّم، هذا قول جماعة من الفقهاء، إلّا ما ذهب [إليه] » عطاء والحسن أنه لا يتيمّم مع وجود الماء، واحتّجا بقوله تعالى فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا «5» ، وهذا واجد الماء. وهذا غلط، لما روى عطاء عن جابر قال: خرجنا في سفر وأصاب رجلا معنا حجر فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلمّا قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك، فقال:
«قتلوه قتلهم الله، هلّا سألوا إذا لم يعلموا، فإنّما شفاء العىّ السّؤال، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» «1» [327] . أَوْ عَلى سَفَرٍ طويلا كان أو قصيرا، فله التيمّم عند عدم الماء، فإذا لم يكن مرض ولا سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يعدم فيه الماء [عادة] «2» ، مثل أن يكون في مصر فانقطع الماء عنه رأسا، أو في قرية فانقطع ماؤها، ففيه ثلاث مذاهب: ذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنّ عليه التيمم والصّلاة ويعيد الصّلاة، وذهب مالك والأوزاعي وأبو يوسف إلى إنّه يتيمّم ويصلّي ولا إعادة عليه، وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يتيمّم ولا يصلّي، ولكنّه يصبر حتى يجد الماء ويتوضأ ويصلّي. أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ قرأ الزّهري: (من الغيط) ، والغيط والغوط والغائط كلّها بمعنى واحد، وهي الخبت المطمئن من الأرض، وقال مجاهد: هو الوادي، الحسن: الغور من الأودية، وتصوّب «3» . المؤرّخ: قرارة من الأرض يحفها الكرم ويسترها، وجمعها غيطان، والفعل منه (غاط يغوط) ، مثل (عاد يعود) . وتغوّط يتغوّط، إذا أتى الغائط، وكانوا يتبرّزون هناك فكنّى عن الحديث بالغائط مثل العذرة والحدث، وهو هاهنا كناية عن حاجة البطن. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرأ حمزة والكسائي وخلف: (لمستم) . بغير ألف هاهنا، وفي المائدة «4» - وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالألف فيهما وهو اختيار أبي حاتم. واختلف المفسّرون في معنى اللمس والملامسة، فقال قوم: المجامعة، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وقال سعيد بن جبير: ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع، وقال ناس من العرب: هو الجماع، فأتيت ابن عباس فذكرت له، فقال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: من الموالي. قال: غلب فريق الموالي، إنّ اللمس والمسّ والمباشرة الجماع، لكنّ الله يكنّى عمّا يشاء بما يشاء، وعلى هذا القول إنّما كنّى عن اللمس بالجماع لأنّ اللمس يوصل إليه، كما يقال للسّحاب: سماء، وللمطر: سماء وللكلأ سماء لأنّ بالسحاب يوصل إلى المطر، وبالمطر يوصل إلى الكلأ، قال الشاعر: إذا سقط السّماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا «5» وقال الآخرون: هو التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع، وهو قول ابن مسعود
وابن عمر وأبي عبيدة ومنصور وعبيدة والشعبي والنخعي وحماد والحكم. واختلف العلماء في حكم الآية على خمسة مذاهب، فقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلّق نقض الطهارة به، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة. وقال الأوزاعي: إن كان للمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه، فأجراه مجرى مسّ الفرج. وقال مالك والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه: إذا كان اللمس للشهوة نقض، وإن كان لغير شهوة لم ينقض، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كانت ملامسة فاحشة نقضت وإلّا لم تنقض، والملامسة الفاحشة: ما تحدث الإفساد. وذهبت طائفة إلى إنّ الملامسة لا تنقض الطهارة بحال، وبه قال من الصحابة ابن عباس، ومن التابعين الحسن البصري، وإليه ذهب محمد بن الحسين. وعن الثوري روايتان: إحداهما هذا «1» ، والثانية مثل (قول مالك بدليل الشافعي من الآية) «2» أنّ الملامسة باليد ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه نهى عن بيع الملامسة، واللمس أكثر ما يستعمل في لمس اليد، وأنشد الشافعي: لمست «3» بكفي كفّه طلب «4» الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفّه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فأنفقت «5» ما عندي «6» روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: جسها بيده من الملامسة، ويدل عليه ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل ينال من امرأة لا تحل له ما يناله من امرأته إلّا الجماع، فقال: «يتوضّأ وضوءا حسنا» «7» [328] ، فثبت أنّ اللمس ينقض الوضوء. احتج من لم يوجب الوضوء بالملامسة نفسها، بما روى مالك عن أبي النضر عن أبي
سلمة عن عائشة قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليّ، فإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. وروى عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي وأنا لمعترضة بين يديه اعتراض الجارية «1» حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله. وروي الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة قالت: فقدت النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من غضبك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» «2» . وفي بعض الاخبار: فلما فرغ من صلاته قال لي: «يا عائشة أتاك شيطانك؟» «3» [329] ، قالوا: فلمسته عائشة وهو في الصلاة فمضى فيها. ولأجل هذه الأخبار خصّ من ذكرنا مسّ الشهوة بنقض الوضوء. روى أبو روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقبّل بعض أزواجه ثم يصلّي ولا يتوضأ. وأمّا الغسل وكيفية الملامسة على مذهب الشافعي فهو على ثلاثة أوجه: لمس ينقض الوضوء قولا واحدا، ولمس لا ينقض الوضوء، ولمس مختلف فيه، فالذي ينقض الوضوء ملامسة الرجل المرأة الشابة [ ... ] متعمدا حية كانت أو ميتة، والذي لا ينقضه ملامسة الشعر والسنّ والظفر، والذي اختلف فيه هو أن يلمس فتاة صغيرة، أو امرأة كبيرة، أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحلّ له نكاحها، [وفيه] «4» قولان: أحد هما ينقض الوضوء لأنه لمس متعمد [....] ، والثاني لا ينقض لأنّه لا تدخل للشهوة فيهن، يدلّ عليه ما روي عن أبي قتادة السلمي الانصاري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها. وهذا حكم الملامسة إذا لم يكن «5» حائل، فأمّا إن كانت من دون حائل فإنها تنقض الطهارة سواء كان الحائل صفيقا أو رقيقا ، هذا قول الجمهور. وقال مالك: ينقضها إن كان رقيقا ولا ينقضها إن كان صفيقا، وقال الليث وربيعة: ينقضها
سواء كان صفيقا أو رقيقا، والدليل على أنّها لا تنقض الوضوء إذا كانت من دون حائل ظاهر الآية أَوْ لامَسْتُمُ فإذا لمسها مع الحائل فما لمسها وإنّما لمس الحائل، وعليه إنّه لو حلف ألّا يلمسها ولمسها من وراء حائل لم يحنث. فهذا كلّه حكم اللامس، وأما الملموس فهل ينتقض به طهره أم لا؟ فعلى قولين للشافعي: أحدهما: أنّه ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ. والثاني: لا ينتقض لخبر عائشة: «فوقعت يدي على أخمص قدمي رسول الله صلّى الله عليه وسلم» والله أعلم. قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا اعلم أنّ التيمّم من خصائص هذه الأمة لما روى ربّعي بن خمّاش، عن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، جعلت الأرض لنا مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» «1» [330] . وأما بدء التيمّم فأخبر مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأبواء «2» ، حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي وكنت استعرتها من أسماء، فصلّ، فأخبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بالتماسه فالتمس، فلم يوجد، فأناخ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فباتوا ليلتهم تلك، وأقاموا على النجاسة وليسوا على ماء وليس عندهم ماء، فأتى الناس أبا بكر، فقالوا: ألا ترى إلى عائشة حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غير ماء؟ فجاء أبو بكر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام فعاتبني، وقال: ما شاء الله! وقال: قبّحها الله من قلادة حبست الناس على غير ماء وقد حضرت الصلاة، ثم طعن بيده على خاصرتي فما منعني من التحريك «3» إلّا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان واضعا رأسه على فخذي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله عزّ وجلّ آية التيمّم. قالت: فبعثت البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر جزاكم الله خيرا، فو الله ما نزل بك أمر قط تكرهينه إلّا جعل لك وللمسلمين فيه خير. فأباح الله تعالى التيمّم لخمس شرائط: أحدها: دخول وقت الصلاة، فلا يجوز التيمّم إلّا بعد دخول وقت الصّلاة، وقد يجمع
بالتيمم بين صلاتي فرض، هذا قول عليّ وابن عباس وابن حمزة ومذهب مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل، قالوا: لأنها طهارة ضرورة، فقسناها على المستحاضة، ولأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فأينما أدركتكم الصّلاة فتيمّموا وصلّوا» [331] . وروى أبو إسحاق عن الحريث عن عليّ رضي الله عنه قال: «تيمّموا لكلّ صلاة» «1» [332] . وروي ابن المهدي عن عاصم الأحول عن عمرو بن قيس «2» قال: بل تتيمم لكلّ صلاة وإن لم تحدث. وذهبت طائفة إلى أنّ التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ويصلّي من الحدث الأكبر إلى الحدث لمسا من الفرائض والنوافل، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن والثوري وأبي عبيدة واحتجوا بقول النبي صلّى الله عليه وسلم «الصّعيد الطيّب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج» «3» [333] . والشرط الثاني من الشرائط المبيحة للتيمم: طلب الماء، وكيفيّة الطلب أن يطلبه في رحله فإن لم يجد طلب من أصحابه، فإن لم يجد عندهم طلب يمينا وشمالا ووراء وأمام، فإن كان هناك تلّ صعد ونظر، فإن رأى إنسانا قادما فليتعرّف منه، فإن تيمم قبل الطلب لم يصح عند أكثر الفقهاء. وقال أبو حنيفة: طلب الماء ليس بشرط في جواز التيمم بل مستحب، فان تيمم قبله أجزأه، لأنه لو كان شرطا فيه لكان شرطا في النافلة لعدم الماء، ولما كان التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضا للفريضة دونه، دليلها قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، ولا يقال: لم يجز إلّا لمن طلب الماء، والدليل عليه أنّه لو وكّل وكيلا ليشتري له شيئا فان لم يجد فخيّره فاشترى الشيء الثاني قبل طلبه الأول ضمن. والشرط الثالث: إعوازه بعد طلبه، فأمّا إذا كان بينه وبين الماء حائل من لص أو عدو أو سبع أو جمل صائل أو نار ونحوها فهو عادم للماء، وكذلك إن كان عليه ضرر في إتيانه مثل أن يخاف على رحله إن غاب عنه، وكذلك إن كان الماء في بئر ولم يمكنه الوصول إليه. والشرط الرابع: العذر من مرض أو سفر لقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ. والمرض على ثلاثة أضرب: مرض لا يضرّ استعمال الماء معه، فلا يجوز التيمم معه،
وضرب يخاف معه من استعمال الماء التلف فيجوز معه التيمم، وكذلك إن كان على قرحه دم يخاف إن غسله التلف تيمّم، وأعاد إذا قدر على غسل الدم، وضرب يخاف باستعماله الماء الزيادة في العلّة بطء البرء، والمتعيّن فيه أوجه: الأول: أنه يجوز التيمم، وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: أنه لا يجوز فإن كانت الجراحة في بعض جسده دون بعض، غسل ما لا ضرر عليه وتيمّم، ولا يجزيه أحد هما دون الآخر، وقال أبو حنيفة: إذا كان أكثر بدنه لزمه الوضوء واستعمال الماء، ولم يجزه معه التيمم ولا دونه، وإن كان أكثر بدنه جريحا يسقط عنه فرض الوضوء والغسل ويجزيه التيمم في الجميع. قال: (ولا يجوز الجمع بين استعمال الماء في بعض الأعضاء والتيمم في بعضها) ، وكذلك لو وجد الجنب أو المحدث من الماء ما لا يسع المحدث لوضوئه، ولا الجنب لأغساله، وللشافعي فيه قولان: أحدهما: أنه يسقط فرض استعماله الماء ويكفيه التيمم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمزني. والقول الثاني: يلزمه استعمال القدر الذي وجده، والتيمم كما حدّثته «1» ، وإن كان جنبا غسل به أي أعضائه شاء ثم تيمّم على الوجه واليدين، وإن كان محدثا غسل وجهه ثم يديه على الترتيب ثم تيمّم لما لم يغسل من أعضاء الوضوء، حتى لو غسل جميع أعضاء وضوئه وبقيت لمعة من رجله لم يصبها ماء فإنه يتيمّم لها. وإن انكسر بعض أعضائه فجبرها، فإنه لا يعدو في الجبائر موضع الكسر، ولا يضعها إلّا على وضوء كالخفين، فان وضعها على الطهارة فله أن يمسح على الجبيرة ما دام العذر باقيا ثم هل يلزمه إعادة الصلوات التي صلّاها بالمسح على الجبائر أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: عليه الإعادة. والثاني: لا إعادة عليه، وهو اختيار المزني، والدليل عليه ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده أن حزما انكسر إحدى زنديه فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يمسح على الجبائر ، قال الشافعي: إن صح حديث عليّ قلت به، وهذا مما أستخير الله فيه. وإن وضعها على غير الطهارة وعدا بها إلى غير موضع الكسر ينظر فإن لم يخش تلف يديه أو عضو من أعضائه نزعها، وإن خاف على ذلك لم ينزعها، ولكنه يغسل ما يقدر عليه، ويعيد الصلاة إذا قدر على نزعها. وأمّا السفر فهو أقل ما يقع عليه اسم سفر، طالت أو قصرت لأنّ الله تعالى لم يفرّق
بينهما، دليله ما أخبر الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر: إنّه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمدينة تيمّم فمسح وجهه ويديه وصلّى العصر، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد الصلاة، والجرف قريب من المدينة. والشرط الخامس: النية المكنونة. وقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً عنى: اقصدوا ترابا طيبا، واختلف العلماء في الممسوح به في التيمم على أربعة مذاهب: قال أبو حنيفة: يجوز التيمم بالأرض ومما كان من جنسها، وإن لم يعلق بيده منها شيء، فأجاز بالكحل والزرنيخ والنورة من الجصّ والحجر المسحوق، بل وحتّى الغبار، وحتى فيما لو ضرب يده على صخرة ملساء فمسح أجزاه، فأمّا إن تيمّم بسحالة الذهب والفضة والصفر والرصاص والنحاس لم يجزه، لأنّه ليس من جنس الأرض. قال مالك: يجوز بالأرض وبكلّ ما اتّصل فيها، فأجاز التيمم بأجناس الأرض والشجر، فقال: لو ضرب يده على غيره ثم مسح بها أجزأه. وقال الأوزاعي والثوري: يجوز بالأرض وبكلّ ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها حتى قالا: لو ضرب يديه على الجمد والثلج أجزاه، واحتجوا بما روى عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة، حتى دخلنا على أبي جهيم الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو جهيم: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نحو بئر الجمل فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يرد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه. وذهب الشافعي إلى أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار تعلّق باليد وهو الاختيار لهذا لأن الله عزّ وجلّ قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فالصعيد اسم التراب، والطيب اسم لما ينبت، فأمّا ما لا ينبت من الأرض فليس بطيّب، والدليل عليه قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلم «جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا» [334] ، فخصّ التراب ذلك، والله أعلم. فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً وقد مضى الكلام في الممسوح به، فأما قدر الممسوح وكيفية التيمم، فاختلف الناس فيه على خمسة مذاهب: فقال الزهري: تمسح على الوجه واليدين إلى الآباط والمناكب، واحتجّ بما روى عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس عن عمار بن ياسر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان في سفر ومعه عائشة فضلّ عقدها، فاحتبسوا في طلبه يوما، قال: فنزلت آية التيمم، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، ثم رفعوا
أيديهم، ولم يقبضوا من التراب شيئا، فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ثم بطون أيديهم إلى الآباط. وقال ابن سيرين: ثلاث ضربات: ضربة للوجه، وضربة لليدين، وضربة للمرفقين، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله، ومن التابعين الحسن البصري والشعبي، ومن الفقهاء أبو حنيفة وحنبل ومالك والليث، رضي الله عنهم، واحتجوا بما روى الأعرج عن أبي الصّمة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تيمّم فمسح وجهه وذراعيه. وروى أبو أمامة وابن عمر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» «1» [335] . وروى ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده عن أسلع قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم «ارجل بنا يا أسلع» . فقلت: أنا جنب. فسكت، إلى مكة فنزلت آية التيمّم، فقال: «يكفيك هذا» [336] . فضرب بكفّيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح ذراعيه ظاهر هما وباطنهما. وقال عليّ- كرم الله وجهه-: «هو ضربتان: ضربة للوجه وضربة للكفين» «2» [337] . وذهبت طائفة إلى أنه ضربة واحدة للوجه والكفين، وهو قول سعيد بن المسيّب، والأوزاعي وأحمد وإسحاق، واحتجوا بقول الله تعالى: وَأَيْدِيكُمْ «3» ، قالوا واليد على الإطلاق يتناول الكفّ إلى الكوع، بدليل أنّ السارق تقطع يده إلى الكوع، وقد قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «4» ، فاحتجوا بما روى سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار بن ياسر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في التيمم: «ضربة للوجه والكفين، والتيمّم من الجنابة كالتيمّم من الحدث» [338] . فإذا عدم الجنب الماء تيمّم كما يتيمّم المحدث بلا خلاف فيه إلّا ما روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا: لا يحقّ للجنب التيمّم، ولكنه يصبر إلى أن يجد الماء فيغتسل، وقال مفسّرا قوله عزّ وجلّ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أراد اللمس باليد دون الجماع. وروى الأعمش عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي أنّ رجلا سأل عمر عن جنب لا يجد الماء، فقال: لا يصلّي حتى يجد الماء، فقال عمار بن ياسر: أما تذكر حين بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا وأنت وأجنبت فتمعكت في التراب، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له، فقال: «قد كان يكفيك أن تفعل كذا وكذا» «5» [339] . وضرب بيده على الأرض فمسح
وجهه وبدنه «1» ؟ فقال: اتّق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أذكره أبدا. وروى عمار بن ياسر عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي، قال: كنت عند عمر رضي الله عنه، فسأله إعرابي فقال: إنّا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء، فقال: أمّا أنا فلو كنت لم أصلّ، فقال عمار بن ياسر: أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في الإبل؟ فقال: بلى. قال: فأنت أجنبت فتمعكت في التراب فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له فضحك، وقال: «كان يجزيك هكذا» » . وبسط عمّار كفيه، ووضعهما على الأرض ثم نفض إحداهما بالأخرى فمسح بهما وجهه، ووصل الكفين بشيء من الذراعين يسير، فقال عمر: اتّق الله يا عمار. فقال: يا أمير المؤمنين لو شئت لم اتفوّه به أبدا، قال: لا بل نولّيك [ما تولّيت] «3» . وروى الأعمش عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، الرجل جنب فلا يجد الماء أيصلّي؟ فقال: لا. فقال: أما تذكر قول عمار لعمر: بعثنا النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا وأنت فأجنبت فتمعّكت في التراب، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ذلك له، فقال: «كان يكفيه هكذا» [340] . وضرب بيديه الأرض فمسح وجهه ويديه؟ فقال: لم أر عمر قنع بذلك، قال: فما يصنع بهذه الآية فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً؟ فقال: أما إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لكان أحدهم إذا وجد برد الماء تيمّم بالصعيد «4» ، قال الأعمش: فقلت لشقيق فلم يكن هذا إلّا حبا له ، قال: يدلّ علي أن صلاة الجنب بالتيمّم جايز، ما روى ابن عوف عن أبي رجاء، قال: سمعت عمران بن حصين يقول: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا معتزلا لم يصلّ في القوم، فقال: «يا فلان، ما منعك أن تصلّي مع القوم؟» . فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال: «عليك بالصعيد فإنّه يكفيك» «5» [341] . وروى مسلم عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال: صلّيت خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان رجل جنب، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتيمّم ويصلّي، فلمّا وجد الماء أمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يغتسل ولم يأمره أن يعيد. عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين» «6» [342] .
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني يهود المدينة، وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب ومالك بن دخشم، كانا إذا تكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لويا لسانيهما وعاباه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ مختصر تقديره: ويشترون الضّلالة بالهدى وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا يا معشر المؤمنين، وقرأ الحسن تُضِلّوا، السَّبِيلَ أي عن السبيل. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ منكم، فلا تستنصحوهم فإنهم أعداؤكم، ويجوز أن يكون أَعْلَمُ بمعنى عليم [كقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ «1» عَلَيْهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. مِنَ الَّذِينَ هادُوا، فإنّ شئت جعلتها متصلة بقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ... مِنَ الَّذِينَ هادُوا، وإن شئت جعلتها منقطعة عنها مستأنفة، ويكون المعنى: من الذين هادوا من يحرّفون، كقوله: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «2» اي من له مقام معلوم، وقال ذو الرمّة: فظلوا ومنهم دمعه سابق له ... وآخر يذري دمعة العين بالمهل «3» يريد: ومنهم من دمعه. يُحَرِّفُونَ يغيّرون، الْكَلِمَ وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : «الكلام عن مواضعه، يعني صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآية الرجم» ، وقال ابن عباس: كان اليهود يأتون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويسألونه عن الأمر فيخبرهم، ويرى أنّهم يأخذون بقوله، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه. وَيَقُولُونَ سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أي غير مقبول منك، وقيل: هو مثل قولهم: اسمع لا سمعت. وَراعِنا: وارعنا، وقد مضت القصة في سورة البقرة، لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً قدحا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا مكان راعنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أصوب وأعدل، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خاصة باليهود، آمِنُوا بِما نَزَّلْنا يعني القرآن، مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ قال ابن عباس: كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤساء من أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: «يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فو الله إنّكم تعلمون أنّ الذي جئتكم به لحقّ» «4» [343] ، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد وأنكروا وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها قراءة العامة بكسر الميم، وقرأ أبو رجاء بضمّها، وهما لغتان، قال ابن عباس: يجعلها كخفّ البعير أو كحافر الدابة. قتادة والضحاك: نعميها، ذكر الوجه والمراد به العين فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي نحوّل وجوهها إلى ظهورها، ونجعل أبصارها من جهة أقفائها، وهذه رواية عطية عن ابن عباس. الفرّاء: الوجوه منابت للشعر كوجوه القردة، لأنّ منابت شعور الآدميين في أدبار وجوههم. القتيبي: نمحو آثارها وملامحها من عين وحاجب وأنف وفم، فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي كالأقفاء. فإن قيل: كيف جاز أن يهدّدهم بطمس وجوههم إن لم يؤمنوا، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك؟ فالجواب أن نقول: جعل بعضهم هذا الوعيد باقيا منتظرا، فقال: لا بد من طمس وجوه اليهود أي بالمسخ قبل الساعة، وهذا قول المبرّد، وقال بعضهم: كان هذا وعيدا بشرط، فلمّا أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع الباقين، وقيل: لمّا أنزلت هذه الآية، أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وقال النخعي: قرأ عمر هذه الآية على كعب الأحبار، فقال كعب: يا ربّ أسلمت، يا ربّ أسلمت مخافة أن يشمله وعيد هذه الآية. وقال سعيد بن جبير: الطمس أن يرتدّوا كفارا فلا يهتدوا أبدا. الحسن ومجاهد: من قبل أن نعمي قوما عن الصراط وعن بصائر الهدى، فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها حتى يعودوا إلى حيث جاءوا منه بدءا، وهو الشام. وأصل الطمس: المحو والإفساد والتحويل، ومنه يقال: رسم طاسم، وطامس أي دارس، والريح تطمس الأثر أي تمحوه وتعفوه. أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فنجعلهم قردة وخنازير وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية، قال الكلبي: نزلت في المشركين: وحشي بن حرب وأصحابه، وقال: إنّه لما قتل حمزة، وكان قد جعل له على قتله أن يعتق، ولم يوف له بذلك فلمّا قدم مكة ندم على صنيعه هو أصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّا قد ندمنا على الذي صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول وأنت بمكة: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ «1» ، وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس التي حرّم الله، وزنينا، ولولا هذه الآية لا تبعناك، فنزلت إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ الآيتين- فبعث بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى وحشي وأصحابه، فلمّا قرءوها كتبوا إليه: هذا شرط شديد نخاف ألّا نعمل عملا صالحا فلا نكون من [أهل] هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فبعث بها إليهم فقرؤوها، فبعثوا إليه: إنا نخاف ألّا
نكون من أهل مشيئته، فنزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ... «1» ، فبعث بها إليهم فلما قرءوها دخل هو أصحابه في الإسلام، ورجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبل منهم، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لوحشي: «أخبرني كيف قتلت حمزة؟» ، فلما أخبره قال: «ويحك غيّب وجهك عنّي» «2» [344] ، فلحق وحشي بالشام فكان بها إلى أن مات. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في اليهود إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فمشيئته لأهل التوحيد. أبو مجلز، عن ابن عمر: نزلت في المؤمنين، وذلك أنّه لمّا نزلت يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ- الآية- قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل، فقال: والشرك بالله؟ فسكت ثم قام إليه مرّتين أو ثلاثا، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية ، فأثبتت هذه في الزمر وهذه في النساء. المسيب بن شريك، عن مطرف بن الشخير قال: قال ابن عمر: كنّا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا أنّه من أهل النار، حتى نزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ، فأمسكنا عن الشهادات. عن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: « [لا تزال] المغفرة تحل بالعبد ما لم يرفع «3» الحجاب» . قيل: يا رسول الله، وما [وقوع] «4» الحجاب؟ قال: «الإشراك بالله» [345] ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «5» الآية. مسروق عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنّة ولم يضرّه معه خطيئة، كما لو لقيه وهو يشرك به شيئا دخل النار ولم تنفعه حسنة» «6» [346] . وعن عليّ (رضي الله عنه) عنه قال: «ما في القرآن أرجى إليّ من هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «7» [347] . وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ الآية، قال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود، أتوا بأطفالهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم عدي بن عمرو والنعمان ابن أوفى وصهيب بن زيد، فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: «لا» ، فقالوا:
والله ما نحن إلّا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل، وما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، فكفّرهم الله تعالى، وأنزلت هذه الآية. الحسن والضحاك وقتادة وسفيان والسّديّ: نزلت في اليهود والنصارى ممن قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «2» . مجاهد وعكرمة: هو أنّهم كانوا يقدّمون أطفالهم في الصّلاة يزعمون أنهم لا ذنب لهم، فتلك التزكية. عطية عن ابن عباس: هو أنّ اليهود قالوا: إنّ آباءنا وأبناءنا توفوا، فهم سيشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عبد الله: هو تزكية بعضهم لبعض، وعن طارق ابن شهاب قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن الرجل ليغدو من بيته ومعه دينه، فيلقى الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرّا ولا نفعا، فيقول: والله إنّك لذيت لذيت، فلعله لا يخلو منه شيء، فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء، ثم قرأ عبد الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ. بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي أي يطهّر من الذنوب مَنْ يَشاءُ [ ... ] «3» لذلك وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وهو ما يكون في شق النواة، وقيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ فيكون فعيلا بمعنى مفعول قال الشاعر: يجمع الجيش ذا الألوف فيغزو ... ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا «4» انْظُرْ يا محمد كَيْفَ يَفْتَرُونَ يحيكون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في تفسيرهم كتابه وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ قرأ السلميّ: (ألم تره) في كلّ القرآن، وهي لغة قوم لا يكتفون من الجزم بحذف الحرف حتى يسكنوا حركته، كقول الشاعر: من يهده الله يهتد لا مضل له ... ومن أضل فما يهديه من هادي يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ اختلفوا فيهما، فقال عكرمة: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله. أبو عبيدة: هما كلّ معبود من حجر أو مدر أو صورة أو شيطان، يدل عليه قوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ «5» ، وقوله: الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها «6» . عطية عن ابن عباس: الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام الذين يكونون بين
أيديهم يفترون عنها الكذب ليضلوا النّاس، وقيل: الجبت: الأوثان، والطاغوت: شياطين الأصنام، لكل صنم شيطان يفسّر عنها فيغترّ بها النّاس. أبو عمرو الشّعبي ومجاهد: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. زيد بن أرقم: الجبت: الساحر، ويقال له: الجبس، قلبت سينه تاء، والطاغوت: الشيطان، يدلّ عليه قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ «1» . قال محمد بن سيرين ومكحول: الجبت: الكاهن، والطّاغوت: الساحر، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس. سعيد بن جبير وأبو العالية، الجبت: شاعر بلسان الحبشة، والطّاغوت: الكاهن. عكرمة: كان أبو هريرة كاهنا في الجاهلية ممن أقرّ إليه ناس ممّن أسلم، فنزلت هذه الآية. الضحاك والكلبي ومقاتل: الجبت: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف ودليله قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ «2» . حكى أبو القاسم الحسين، عن بعضهم أنّ الجبت إبليس، والطاغوت أولياؤه، عن قطر بن قيصيه، عن مخارق عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطرق والطيرة والعيافة من الجبت «3» ، والجبت كلّ ما حرّم الله، والطّاغوت هو ما يطغي الإنسان» «4» [348] . وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا قال المفسّرون: خرج كعب ابن الأشرف في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكة: إنّكم أهل كتاب، ومحمد صاحب كتاب ونحن أمية، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، وإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما، ففعل ذلك، فذلك قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ثم قال كعب لأهل مكة: ليجيء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فلنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمد ففعلوا ذلك، فلمّا فرغوا قال أبو سفيان: إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أمّيون لا نعلم فأيّنا أهدى طريقا وأقرب الى الحق؟ أنحن أم محمد؟ فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحاج الكرماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفكّ العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد الحديث. فقال
[سورة النساء (4) : الآيات 54 إلى 63]
كعب: أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمد، فأنزل الله الآية إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «1» : يعني كعبا وأصحابه، يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يعني الصنمين يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أبي سفيان وأصحابه: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا محمد وأصحابه سَبِيلًا أي دينا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ يعني ألهم، والميم صلة نَصِيبٌ حظ مِنَ الْمُلْكِ وهذا على وجه الإنكار، يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم من الملك فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ محمدا وأصحابه نَقِيراً من حسدهم وبخلهم وبغضهم. رفع قوله (يُؤْتُونَ) [.....] «2» . وفي قراءة عبد الله: فإذا لا يؤتوا الناس بالنصب [.....] «3» . واختلفوا في النقير، فقال ابن عباس: هو النقطة في ظهر النواة، ومنها: [.....] «4» مجاهد: حبّة النواة التي وسطها «5» . الضحّاك: يعني النواة الأبيض الذي يكون وسطها. أبو العالية: هو نقر الرجل الشيء بطرف إصبعه، كما ينقر الدرهم وقال: سألت ابن عباس عنه فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعها وقال: هذا هو النقير «6» . [سورة النساء (4) : الآيات 54 الى 63] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
أَمْ يَحْسُدُونَ يعني اليهود النَّاسَ: قال قتادة: يعني العرب حسدوهم على النبوّة وبما أكرمهم الله تعالى به محمد صلّى الله عليه وسلّم. عن محمد بن كعب القرظي قال: سمعت عليا (عليه السلام) على المنبر في قوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: هو رسول الله وأبو بكر وعمر (عليهم السلام) . وقال آخرون: المراد بالناس هنا يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حسدوه على ما أحل الله له من النساء وذلك ما روى علي بن علي عن أبي حمزة الثمالي في قوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني بالناس في هذه الآية نبيّ الله، قالت اليهود: انظروا إلى هذا النبي، والله ما يشبع من طعام، لا والله ماله همّ إلّا النساء، لو كان نبي لشغله أمر النبوة عن النساء، فحسدوه على كثرة نسائه وعيّروه بذلك فقالوا: لو كان نبيّا ما رغب في كثرة النساء، فأكذبهم الله تعالى فقال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، يعني بالحكمة النبوّة. وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فأخبرهم بما كان لداود وسليمان من النساء، فوبّخهم لذلك، فأقرت اليهود لنبي الله (عليه السلام) أنّه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، ثلاثمائة مهرية وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألف امرأة عند رجل، ومائة امرأة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟ وكان يومئذ تسع نسوة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسكتوا «1» . قال الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ يعني بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، يعني عبد الله بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أعرض عنه فلم يؤمن به وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً وقودا. قال السدي: [الآيتان] راجعتان الى إبراهيم (عليه السلام) وذلك أنه زرع ذات سنة وزرع الناس، فهلكت زروع الناس وزكا زرع إبراهيم، واحتاج الناس إليه، وكانوا يأتون إبراهيم (عليه السلام) يسألونه، فقال لهم: من آمن بالله أعطيته، ومن أبى منعته، فمن آمن به أتاه الزرع ومن أبى لم يعطه «2» . عن عمرو بن ميمون الأودي قال: لمّا تعجل موسى (عليه السلام) إلى ربّه عزّ وجل، مرّ
برجل غبطه لقربه من العرش، فسأل عنه، فقال: يا ربّ من هذا؟ فقيل له: لن يخبرك اسمه، وسيخبرك بعمله، كان لا يمشي بالنميمة، ولا يحسد الناس عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وكان لا يعقّ والديه. أبو زياد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» «1» [349] . وعن يوسف بن الحسين الرازي قال: سمعت ذا النون يقول: الحسود لا يسود. الأصمعي قال: قال سفيان لمغني: إنّ الله يقول: «الحاسد عدوّ نعمتي غير راض بقسمتي بين عبادي» . قال الثعلبي: وأنشدت لمنصور الفقيه في معناه: ألا قل لمن كان لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب أسأت على الله في فعله ... إذا أنت لم ترض لي ما ذهب جزاؤك منه الزيادات لي ... وأن لا تنال الذي تطلب «2» إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ندخلهم نارا، وقرأ حميد بن قيس: نصليهم بفتح النون: أي نسوّيهم، وقيل: معناه نصليهم. فنصب نارا على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار. كُلَّما نَضِجَتْ (جُلُودُهُمْ) بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها غير الجلود المحترقة. قال ابن عبّاس: يبدّلون جلودا بيضا كأصناف القراطيس. نافع عن ابن عمر قال: قرأ رجل عند عمر كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قال عمر: أعدها، فأعادها، قال معاذ بن جبل: عندي تفسيرها: بدّلت في ساعة مائة مرّة؟، قال عمر: هكذا سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول. هشام عن الحسن في قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قال: تأكلهم كل يوم سبعين ألف مرّة كلّما أكلتهم فأنضجتهم قيل لهم: عودوا فيعودون كما كانوا. المسيّب عن الأعمش عن مجاهد قال: ما بين جلده ولحمه ودمه دود فأجلدت كجلدة حمر الوحش. الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وضرسه مثل أحد» «3» [350] .
فإن قيل: كيف جاز أن يعذّب جلد لم يعصه قلنا: إنّ المعاصي والألم واقع على نفس. الإنسان لا الجلد، لأن الجلود إنما تألم بالأرواح، والدليل على من يقصد تعذيب الأبدان لا يعذّب [الجلود] قوله: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «1» ، لم يقل ليذوق العذاب. وقيل: معناه: يبدّل جلودا هي تلك الجلود المحترقة، وذلك أنّ غير على ضربين: غير تضاد، وغير تناف، وغير تبديل، فغير تضاد مثل قولك: للصّائغ صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره فيكسره ويصوغ لك خاتما، فالخاتم المصوغ هو الأول ولكن الصياغة تغيّرت والفضّة واحد. وهذا كعهدك بأخ لك صحيحا ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول: فكيف أنت؟ فيقول: أنا على غير ما عهدت، فهو هو، ولكن حاله تغيّرت، ونظير هذا قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ «2» وهي تلك الأرض بعينها إلّا أنها قد بدّلت جبالها وآكامها وأنهارها وأشجارها، وأنشد: فما النّاس بالنّاس الذين عهدتهم ... ولا الدّار بالدّار التي كنت أعرف قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا نصير محمد بن محمد بن مزاحم يقول: سمعت مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول: سمعت جابر بن زيد يقول: سمعت وكيع بن الجراح يقول: سمعت إسرائيل يقول: سمعت الشعبي يقول: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألا ترى ما صنعت عائشة ذمّت دهرها وذلك [أنها] أنشدت بيتي لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتلذّذون مجانة ومذلّة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب «3» فقالت: رحم الله لبيد وكيف لو أدرك زماننا هذا. فقال له ابن عباس: لئن ذمّت [عائشة] دهرها لقد ذمت عاد دهرها، وذلك إنه وجد في خزانة عاد بعد ما هلكت سهم كأطول ما يكون من رماحا عليه مكتوب: وليس لي أحناطي «4» بذي اللوى ... لوى الرمل من قبل النفوس «5» معاد بلاد بها كنا ونحن من أهلها ... إذ الناس ناس «6» والبلاد بلاد «7»
البلاد باقية كما هي إلّا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت «1» . وقالت الحكماء: كما إن الجلد يلي قبل البعث فأنشئ كذلك تبدل [ورجع] . وقال: [السدّيّ] : إنما تبدل الجلود جلودا غيرها من لحم الكافر، يعيد الجلد لحما ويخرج من اللحم جلدا آخر لم يبدّل بجلد لم يعمل خطيئة. وقيل: أراد بالجلود سرابيلهم من قطران سمّيت بها للزومها جلودهم على [المجاورة] كما يقال للشيء [الخاص] بالإنسان هو جلدة ما بين [عضمه] ووجهه فكلما احترقت السرابيل عذّب. قال الشاعر: كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها ... فويل لتيم من سرابيلها الخضر «2» فكنّى عن جلودهم بالسرابيل. قال عبد العزيز بن يحيى: إن الله تعالى أبدل أهل النار جلودا لا تألم ويكون [رماده] عذاب عليهم فكلّما أحرق جلدهم أبدلهم الله تعالى جلدا غيره. يكون هذا عذابا عليهم كما قال: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ «3» فتكون السرابيل تؤلمهم ولا يألم. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إلى قوله ظِلًّا ظَلِيلًا. كثيف لا يسخنه الشمس. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة، فلما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة يوم الفتح، أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المفتاح، فقيل: إنّه مع عثمان، فطلب منه علي (رضي الله عنه) فأجاب: لو علمت إنه رسول الله لم أمنعه المفتاح، فلوى عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) يده، فأخذ منه المفتاح وفتح الباب، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلّى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا أن يردّ المفتاح إلى عثمان، فأوعز إليه ففعل ذلك علي (رضي الله عنه) . فقال له عثمان: يا علي [كرهت] «4» وآذيت ثم جئت ترفق، فقال له: بما أنزل الله تعالى في شأنك؟ وقرأ عليه هذه الآية.
فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله، وأسلم، فجاء جبرائيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه مادام هذا البيت أول لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وهو اليوم في أيديهم. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا أي نعم الشيء أي يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. اختلفوا فيهم، فقال عكرمة: أولي الأمر منكم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ويدلّ عليه ما روى مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر «1» إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض أما في السماء جبرئيل وميكائيل، وفي الأرض أبو بكر وعمر» ! «2» [351] وهما عندي بمنزلة الرأس من الجسد! ومثلهما في الدنيا بالرأفة فمثل أبي بكر كمثل ابراهيم وعيسى، قال إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي «3» . وقال عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «4» الآية. ومثل عمر كمثل موسى ونوح قال موسى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ «5» . وقال نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «6» . وقال أبو بكر [الورّاق] : هم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليهم السلام) ، ويدلّ عليه ما روى [هشيم] عن ابن بشير عن أبي [الزبير عن] جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الخلافة بعدي في أمتي في أربع في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي» [352] . وروي سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لما بنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد، جاء أبو بكر بحجر فوضعه، ثم جاء عمر بحجر فوضعه، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه فقال: هؤلاء ولاة الأمر من بعدي.
عطاء: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بالإحسان، دليل قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الآية. بكر بن عبد الله المزني: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدلّ عليه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» [353] «1» . وعن الحسن: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل أصحابي في الناس مثل الملح في الطعام فلما ذهب فسد الطعام» [354] «2» . جابر بن عبد الله والحسن والضحاك ومجاهد والمبارك بن فضالة وإسماعيل بن أبي خالد: هم الفقهاء والعلماء أهل الدين والفضل الذين يعلّمون الناس معالم دينهم ويأمرونكم بالمعروف وينهونكم عن المنكر، وأوجب الله طاعتهم على العباد. هذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو دليل هذا التأويل. قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ الآية. فقال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعزّ من العلم الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. ابن كيسان: أولو العقل والرأي الذين [يهتمّون] بأمور الناس. قال ابن عباس: أساس الدين بني على العقل وفرضت الفرائض على العقل، وربّنا يعرف بالعقل ويتوسل إليه بالعقل، والعاقل أقرب إلى ربه من جميع المجتهدين بغير عقل، ولمثقال ذرّة من [بر] العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام «3» . وعن إسماعيل بن عبد الملك قال: قال: [الثوري] أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: إذا رأيت عاقلا فكن له خادما. ميمون بن مهران ومقاتل والسدي [والشعبي] : أمراء السرايا. [سعيد بن جبير] عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد في سرية إلى حي من أحياء العرب وكان معه عمار بن ياسر فسار خالد حتى إذا دنا من القوم عرّس لكي ينصحهم فأتاهم [النذير] وهربوا غير رجل كان قد أسلم فأمر أصحابه تهيّأوا للمسير فثم انطلق حتى اتى عسكر خالد فدخل على عمار فقال: يا أبا اليقظان إني مسلم وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا وأقمت كلامي ونافعي ذلك أو أهرب كما هرب قومي.
فقال: أقم فإنّ ذلك نافعك، فانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام، فأصبح خالد وقام على القوم فلم يجد غير ذلك الرجل فأخذه وأخذ ماله فأتاه عمار فقال: خلّ سبيل الرجل فإنه مسلم وقد كنت آمنته وأمرته بالمقام. فقال خالد: إنك تجير عليّ وأنا الأمير، فقال: نعم. أجير عليك وأنا الأمير، وكان في ذلك منهما كلام، فانصرفوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه خبر الرجل فآمنه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأجاز أمان عمار ونهاه بعد ذلك على أمير بغير إذنه. قال: فاستبّ عمار وخالد أمام النبي صلّى الله عليه وسلّم فأغلظ عمار لخالد وغضب خالد وقال: يا رسول الله اتدع هذا العبد يسبني فو الله لولا أنت ما سبّني عمار. وكان عمار مولى لهاشم بن المغيرة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا خالد كف عن عمار فإنه من يسبّ عمارا يسبّه الله ومن يبغض عمارا يبغضه الله» «1» [355] ، فقام عمار وتبعه خالد فأخذ بثوبه وسأله أن يرضى عنه فرضي عنه. وأنزل الله هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر. وقال أبو هريرة وابن زيد: هم الأمراء والسلاطين لما أمروا بأداء الأمانة في الرعيّة، لقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [أمرت الرعية] بحسن الطاعة لهم. وقال عليّ كرم الله وجهه: «حق على الإمام أن يحكم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك حق على الرعية أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوا إذا دعوا» [356] . قال الشافعي (رضي الله عنه) : إن من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف أمارة وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضا طاعة الأمارة، فلما دانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالطاعة لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر «2» . وقال عكرمة: أمهات الأولاد أحرار بالقرآن. قيل له: أي القرآن قال: اعتقهن عمر بن الخطاب. ألم تسمع قول الله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وأن عمر من أولي الأمر! وأنه قال: أعتقها ولدها وإن كان سقطا. عبد الرحمن بن الأعرج وهمام بن منبه وأبو صالح كلهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني» «3» [357] .
وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء فإذا مات نبي قام نبي وانه ليس بعدي نبي» [358] . فقال رجل: فما يكون بعدك؟ قال يكون خلفاء [ويكثر] . قالوا: وكيف نصنع؟ قال: « [أدوا] بيعة الأول فالأول، وأدّوا إليهم مالهم فإن الله سائلهم عن الذي لكم» «1» [359] . علقمة بن وائل عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجل يسأله: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقّنا ويسألوننا حقّهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اسمعوا وأطيعوا فإنّ عليهم ما حمّلوا وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» «2» [360] . وعن أبي إمامة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: في حجة الوداع: «وهو على [الجدعاء] يعني ناقته فدعا في الركاب يتطاول» [361] . قال: ليسمع الناس فقال: ألا تسمعون؟ - يطول بها صوته- فقال قائل من طوائف الناس: ما تعهد إلينا يا رسول الله؟ فقال: «اعبدوا ربكم وصلّوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا أولي الأمر تدخلوا جنة ربكم» «3» [362] . مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ أطع كل أمير وصل خلف كل إمام ولا تسبّنّ أحدا من أصحابي» [363] . هشام عن أبي صالح عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببرّه والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كلّ ما وافق الحقّ وصلّوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم» «4» [364] . فَإِنْ تَنازَعْتُمْ اختلفتم فِي شَيْءٍ من أمر دينكم اختلاف الآراء فيتعاطى كلّ واحد ما يرى خلاف رأي صاحبه وأصله من النزع كان المتنازعين يتحازبان ويتحالفان، ومنه قال: مناوأة: منازعة. قال الأعشى: نازعتم قضب الريحان متكئا ... وقهوة مرّة راووقها خضل «5» فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ يعني إلى كتاب الله وَالرَّسُولِ ما دام حيّا، فإذا مات فإلى سنّته، وقوله:
ذلِكَ خَيْرٌ أي ذلك الردّ خير لكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا جزاء وعاقبة، والتأويل ما يؤول للأمر. أبو المليح الهذلي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا بالقرآن، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا به ولا تكفروا بشيء منه، وما اشتبه عليكم، فردّوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كيما يخبروكم، وآمنوا به وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنّه شافع مشفّع وكامل مصدّق وله بكلّ حرف نور يوم القيامة» «1» [365] . أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا الآية. قال الحسن: انطلق رجل يحاكم آخر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: الآخر لا بل انطلق إلى وثن بيت فلان [فأنزل] الله هذه الآية. قال الشعبي: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي: أحاكمك إلى محمّد، وقال المنافق: لا، فجعل اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنّه علم أنهم لا يقبلون الرشوة ولا يجورون في الحكم، وجعل المنافق يدعو إلى اليهود لأنّه علم أنّهم يقبلون الرشوة ويميلون في الحكم فاختلفا. ثم اتّفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه فأنزل الله تعالى هذه الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في رجل من المنافقين يقال له بسر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال: انطلق بنا إلى محمّد وقال المنافق بل إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي سماه الله الطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلّا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلمّا رأى المنافق ذلك أتى معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاختصما إليه، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق، وقال: انطلق بنا إلى عمر (رضي الله عنه) فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمّد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليكم وأنه تعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال لهما: رويد كما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد وقال. هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهرب اليهودي ونزلت هذه الآية. وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق. وقال السدي: كان ناس من اليهود أسلموا وأبى بعضهم وكانت قريضة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريضة رجلا من بني النضير قتل به وأخذ ديته مائة وسق تمر وإذا
قتل رجل من بني النضير رجلا من قريضة لم يقتل به وأعطى ديته ستّين وسقا من تمر وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أكثر وأشرف من قريضة وهم حلفاء الخزرج. فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. قتل رجل من بني النضير رجلا من قريضة فاختصموا في ذلك. فقالت بنو النضير: قد كنا وأنتم اصطلحنا في الجاهلية على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا، وعلى أن ديتكم ستون وسقا والوسق ستون صاعا وديتنا مائة وسق فنحن نعطيكم ذلك. وقالت الخزرج: هذا شيء كنتم قلتموه «1» في الجاهلية لأنكم كثرتم وقللنا، فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد وليس لكم علينا فضل، وقالت بنو النضير: لا بل نحن على ما كنا. فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي ومالك بن خزيمة، وقال المسلمون من الفريقين: لا بل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم. فقال: أعظموا اللقمة- يعني الرشوة- فقالوا: لك عشرة أوسق قال: لا. بل مائة وسق ديتي فاني أخاف إن نصرت النضيري قتلتني قريظة أو أنصر قريظة قتلتني النضير، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى «2» وقوله وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «3» الآية فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم كاهن [اسلم] إلى الإسلام فأتى وانصرف فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لابنيه: «أدركا أباكما فإنّه إن جاوز عقبة كذا لم يسلم أبدا» [366] فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم مناديا ينادي ذلك الكاهن أسلم قد أسلم «4» ، فذلك قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ يعني الصنم ، وقيل: الكاهن، وقيل: كعب بن الأشرف، وقيل: حيي بن أخطب. وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ إلى قوله: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً إعراضا فكل الفعل بمصدره كقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً وقوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ يعني فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني عقوبة صدودهم، هذا وعيد وتهديد وتم الكلام. ثم ابتدأ الخبر عن فعلهم يعني يتحاكمون إلى الطاغوت وهم يكفرون بالله ومعنى قوله ثُمَّ جاؤُكَ أي يحيوك.
[سورة النساء (4) : الآيات 64 إلى 73]
وقيل: أراد بالمصيبة قتل صاحبهم وذلك أنّ عمر (رضي الله عنه) لما قتل المنافق جاءوا قومه يطلبون الدية ويحلفون «إِنْ أَرَدْنا» ما أردنا بكون إن بمعنى إذ وبمعنى ما، أي ما أردنا بالترافع إلى عمر. إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً. قال الكلبي: إِلَّا إِحْساناً في القول وَتَوْفِيقاً صوابا. ابن كيسان: حقا وعدلا نظيرها وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ في الملأ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وقيل: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ باللسان ولا تعاقبهم، وقيل: توعّدهم بالقتل إن لم يتوبوا من الشرك أعرض عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ يعني في الملأ. وَقُلْ لَهُمْ ... قَوْلًا بَلِيغاً في السر والملأ، وقيل: هذا منسوخ بآية القتال. [سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 73] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً. روى الصادق عن علي (عليهما السلام) قال: قدم علينا امرؤ عند ما دفنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبي عليه الصلاة والسلام وحثا على رأسه من ترابه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت من الله فوعينا عنك وكان فيما أنزل الله عليك وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً فقد ظلمت نفسي فجئتك لتسغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك «1» .
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الآية. نزلت في الزبير بن العوام وخصمه، واختلف في اسمه، فقال الصالحي: ثعلبة بن الحاطب، وقال الآخرون: حاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شراج من الخزة كانا يستقيان به النخل فقال صلّى الله عليه وسلّم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الرجل، فقال: يا رسول الله أكان ابن عمتك؟ فتغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسل يا زبير ثم احبس الماء حتى ترجع الجدد فاستوف حقك ثم أرسل إلى جارك. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى الزبير بالسقي له ولخصمه فلما احفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استوعب الزبير حقه في صريح الحكم. ثم خرجا فمرّا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء بالسقاية؟ فقال: قضى لابن عمته، ولوى شدقه. ففطن به يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله فلولا يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه كانوا أقضى منهم، وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة واحدة في حياة موسى (عليه السلام) فدعانا موسى إلى التوبة منه، وقال: فاقتلوا أنفسكم ففعلنا مع ذلك فقتلنا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت، فأنزل الله تعالى في شأن حاطب ابن أبي بلتعة، وليّه شدقه فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الآية. وقال مجاهد والشعبي: نزلت في قصة بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر (رضي الله عنه) وقد مضت القصة. قوله فَلا يعني ليس الأمر كما يزعمون انهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ويصدون عنك ثم استأنف القسم فقال وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ويجوز أن يكون لأصله كقولهم وهم ممن يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حكما فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه، ومنه الشجر لاختلاف أعضائه وقل يعطي الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض. قال الشاعر: نفسي فداؤك والرماح شواهر ... والقوم في ضنك للقاء قيام «1» ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي ضيقا وشكا مِمَّا قَضَيْتَ ومنه قيل للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج وحرجة وجمعها حراج.
وقال الضحاك: أي إثما يأتون بإنكارهم لما قضيت «1» وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي يخضعوا وينقادوا إليك انقيادا وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا فرضنا وأوجبنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ما أمرنا بني إسرائيل. أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أمرناهم بالخروج من مصر ما فَعَلُوهُ أرجع الهاء إلى فعل القتل والخروج لأن الفعل وإن اختلفت أجناسه فمعناه واحد إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهذه الآية نزلت في قول ثابت بن قيس وكان هو من القليل الذي استثنى الله عز وجل ورفع القليل على ضمير الفاعل بأنهم فعلوه وقلّ على التكرار تقديره: ما فعلوه، تم الكلام. ثم قال: إلّا أنه فعله قليل منهم. كقول عمر بن معدي كرب: فكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان «2» وقرأ أبي بن كعب وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وابن عامر (قليلا) بالنصب، وكذا هو في مصاحف أهل الشام على [النصب] وقيل: فيه إضمار تقديره إلّا أن يكون قليلا منهم. قال الحسن ومقاتل: لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار وابن مسعود وناس صحبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم القليل: والله لو أمرنا لفعلنا، فالحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» «3» [367] . قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً تحقيقا وتصديقا لإيمانهم. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ثوابا. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ نزلت هذه الآية في ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان شديد الحب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغير لونه [ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن] «4» وقلّ لحمه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا ثوبان ما غيّر لونك؟» «5» [368] ؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض، ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، وتوجّست وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني وإن ادخلت الجنة، كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبدا.
فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين» «1» [369] . وقال قتادة ومسروق بن الأجدع: أنّ أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنا لا نراك إلّا في الدنيا فأما في الآخرة فإنك ترفع فوقنا بفضلك فلا نراك، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في الفرائض وَالرَّسُولَ في السنن فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وهم أفاضل أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالشُّهَداءِ وهم الذين استشهدوا في سبيل الله وَالصَّالِحِينَ من صلحاء أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. قال عكرمة: النبيون: محمّد، والصديقون: أبو بكر الصديق، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، والصالحون سائر أصحابه. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً يعني دوما في الجنة كما يقول: نعم الرفقا هم. والعرب تضع الولي في معنى الجمع كثيرا، كقوله: نحن منكم قبلا أي اطيادا، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار ويقولون يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ. وقوله رَفِيقاً نصب على خبر ذلِكَ الْفَضْلُ [احسان] مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً يعني بالآخرة وثوابها. وقيل: بمن أطاع رسول الله وأحبه، وفي هذه الآية دلالة على خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم، وهم النبيون فجعل الروضة الأعلى للنبيين فلم يجز أن يتقدمهم فيها أحد وثنى بذكر الصديقين فلا يجوز ان يتقدمهم أحد غير النبيين ولأن يكون من النبي صديق سرهم، وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر صديقا كما أجمعوا على تسمية محمد رسول الله ولم يجز أن يكونوا غالطين في تسميتهم محمد الرسول كذلك لا يجوز أن يكونون غالطين في تسمية أبي بكر صديقا فإذا صح انه صديق وأنه ثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يجز أن يتقدّمه بعده أحد والله أعلم، وفي قوله الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ دليل على أنّهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل الله خلافا، لما قالت المعتزلة ان العبد إنما ينال ذلك بفعله فلما احسن الله على عباده بما آتاهم من فضله فكان لا يجوز أن يثني على نفسه بما لم يفعله، فثبت ذلك على بطلان قولهم ثم علّمهم مباشرة الحروب، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ من عدوكم أي عدتكم وآلاتكم من
السلاح وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ والحذر والحذر واحد، كالمثل والمثل، والعدل والعدل، والشبه والشبه، فَانْفِرُوا أي اخرجوا ثُباتٍ أي سرايا متفرقين كسرية بعد سرية وجماعة بعد جماعة، والثبات الجماعات في تفرقه واحدها ثبة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين كلّكم مع سلّم واستدل أهل القدر بهذه الآية. بقوله خُذُوا حِذْرَكُمْ قالوا: لولا أن الحذر يمنع عنهم مكايد الأعداء ما كان لأمره بالحذر إياهم معنى. فيقال لهم: الائتمار لأمر الله والانتهاء عن نهيه واجب عليهم لأنهم به يسلمون من معصية الله عز وجل لأن المعصية تزل، فائتمروا وانتهوا عمّا نهوا عنه. وليس في هذه الآية دليل على أن حذرهم ينفع من القدر شيئا، وهذا كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اعقلها وتوكّل» «1» [370] . والمراد به طمأنينة النفس لا أن ذلك يدفع القدر، كذلك في أخذ الحذر فهو الدليل على ذلك، أن الله تعالى أثنى على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله حاكيا عنهم لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا وأمر بذلك رسوله صلّى الله عليه وسلّم كان يصيبهم غير ما قضى عليهم ما كان هذا مني. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. قال بعضهم: نزلت هذه الآية في المؤمنين لأن الله خاطبهم بقوله وَإِنَّ مِنْكُمْ وقد فرق الله بين المؤمنين والمنافقين بقوله ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ. وقال: أكثر أهل التفسير: إنّها نزلت في المنافقين وإنما جمع منهم في الخطاب من جهة الجنس والسبب ومن جهة الإيمان من لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليثاقلن ويتخلفنّ عن الجهاد والغزو. وقيل: معناه ليصدّقن غيره، وهو عبد الله بن أبيّ المنافق وإنما دخلت (اللام) في (من) لمكان (من) كما تقول: إنّ فيها لأخاك فاللام في ليبطئن لام القسم وهي صلة لمن على اعتماد شبه باليمين كما يقال هذا الذي ليقومن وأرى رجلا ليفعلن. فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ عهد إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي حاضرا في تلك الغزاة فيصيبني مثل ما أصابهم، يقول الله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي معرفة. وقال معقل بن حيان: معناه كأن ليس من أهل دينكم وان نظم الآية وقوله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ متصل بقوله فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي فتح وغنيمة لَيَقُولَنَّ هذا المنافق قول نادم حاسد: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزاة فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أي آخذ نصيبا وافرا من الغنيمة.
[سورة النساء (4) : الآيات 74 إلى 78]
وقوله (فَأَفُوزَ) نصب على نحو التمني بالفاء، وفي [التمني] «1» معنى يسرني أن افعل ما فعل كأنه متشوق لذلك النصيب، كما يقول: وددت ان أقوم فمنعني أناس ثم نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد. [سورة النساء (4) : الآيات 74 الى 78] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي انهم يختارون الحياة الدنيا على الآخرة ومعنى يَشْرُونَ يشترون، يقال شريت الشيء أي اشتريت، وحينئذ يكون حكم الآية: آمنوا ثم قاتلوا، لأنه لا يجوز ان يكون الكافر مأمورا بشيء مقدم على الإيمان. وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في المؤمنين المخلفين ومعناه (فليقاتل في سبيل الله الّذين يبتغون الحياة الدّنيا بالآخرة) . ثم قال: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أو من يستشهد أو يعذب أو يظفر فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ في كلا الوجهين أَجْراً عَظِيماً يعني الجنة ثم خصّ المؤمنين على السعي في تخليص المستضعفين مثل وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ أي تجاهدون فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ في موضع الخفض. قال الكلبي: عن أبي صالح عن ابن عباس ومعناه عن المستضعفين وكانوا بمكة يلقون من المشركين أذى كثيرا وكانوا يدعون ويَقُولُونَ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني مكة الظَّالِمِ أَهْلُها أي التي من صفتها إن أهلها ظالمون مشركون وإنّما خفض الظالم لأنه نعت الأهل فلما عاد الأهل إلى القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها كقوله: مررت بالرجل الواسعة داره، ومررت برجل حسنة عينه.
وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً يمنعنا من المشركين فأجاب الله دعاءهم. فلما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة جعل الله لهم النبي وليا فاستعمل عليها عتّاب بن أسيد. فجعله الله لهم نصيرا وكان ينصف للضعيف من الشديد فنصرهم الله به وأعانهم وكانوا أعز بها من الظلمة قبل ذلك. وفي هذه الآية دليل على إبطال قول من زعم أنّ العبد لا يستفيد بالدعاء معنى لأن الله تعالى حكى عنهم إنّهم دعوه وأجابهم وآتاهم ما سألوه ولولا أنّه أجابهم إلى دعائهم لما كان لذكر دعائهم معنى، والله اعلم. الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي طاعته وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ أي في طاعة الشيطان فَقاتِلُوا أيها المؤمنين أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أي حزبه وجنده إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ ومكره وصنيعه ومكر من اتّبعه كانَ ضَعِيفاً كما خذلهم يوم بدر. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ. قال الكلبي: نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجهني وسعد بن أبي وقاص الزهري وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة فيشكون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون يا رسول الله ائذن لنا في قتال هؤلاء فإنّهم آذونا فيقول لهم: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [عنهم] «1» فإني لم أومر بقتالهم» «2» [371] . فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين وأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمسير إلى بدر فلما عرفوا إنه القتال كرهه بعضهم وشق عليهم فأنزل الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ بمكة عن القتال وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بالمدينة أي فرض إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ يعني مشركي مكة كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ أي أكبر خَشْيَةً. وقيل: وأَشَدَّ خَشْيَةً كقوله آية «3» وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لم فرضت علينا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني الموت ألا تركتنا إلى أن نموت بآجالنا. واختلفوا في قوله تعالى إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ فقال قوم: نزلت في المنافقين لأن قوله لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ أي لم فرضت، لا يليق بالمؤمنين، وكذلك الخشية من غير الله.
وقال بعضهم: بل نزلت في قوم من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان منهم الكامل الذي لا يخرجه إيمانه من غلبة الطبع عليه. ومنهم من ينقص عن تلك الحالة فينفّر نفسه عمّا يؤمر به فيما يلحقه فيه الشدة. وقيل: نزلت في قوم كانوا مؤمنين فلما فرض عليهم الجهاد نافقوا عن الجهاد من الجبن، وتخلفوا عن الجهاد. ويدلّ عليه إن الله لا يتعبد الكافر والمنافق بالشرائع بل يتعبدهم أولا بالإيمان ثم بالشرائع فلما نافقوا نبّه الله على أحوالهم. وقد قال الله مخبرا عن المنافقين بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. قُلْ يا محمّد لهم مَتاعُ الدُّنْيا أي منفعتها والاستمتاع بها قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ يعني وثواب الآخرة خَيْرٌ أفضل لِمَنِ اتَّقى الشرك بالله ونبوة الرسول وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. قال ابن عباس وعلي بن الحكم: الفتيل الشق الذي في بطن النواة. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ أي ينزل بكم الْمَوْتُ نزلت في قول المنافقين لما أصيب أهل أحد، لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا فردّ الله عليهم بقوله: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. قتادة: في قصور محصنة، عكرمة: مجصّصة مشيّدة مزيّنة، القتيبي: مطولة. الضحاك عن ابن عباس البروج: الحصون والآطام والقلاع. وفي هذه الآية ردّ على أهل القدر، وذلك أنّ الله حكى عن الكفار أنهم قالوا: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا «1» وقال: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ردّ على الفريقين بقوله: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ فعرّفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلا بد من زوال الروح، ومفارقتها الأجسام. فإن كان ذلك بالقتل، وإلّا فبالموت. خلافا لما قالت المعتزلة من أن هذا المقتول لو لم يقتله هذا القاتل لعاش، فوافق قولهم هذا الكفار، فردّ الله عليهم جميعا إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ الآية. نزلت في المنافقين واليهود، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا، ومزارعنا، منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه، فأنزل الله تعالى وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني اليهود والمنافقين، أي خصب [وريف] «2» ورخص في السعر يَقُولُوا هذِهِ
[سورة النساء (4) : الآيات 79 إلى 84]
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني الجدب وغلاء السعر وقحط المطر يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي من قوم محمد وأصحابه. وقال بعضهم: معناه إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني الظفر والغنيمة، يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ف إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني بالقتل والهزيمة، يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، نزلت الذي حملتنا عليه يا محمد قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي الحسنة والسيئة كلها من عند الله. ثم عيّرهم بالجهل. فقال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ يعني المنافقين واليهود لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أي ليسوا يفقهون قولا إلّا التكذيب بالنعمة. قال الفراء: قوله فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ كذبوا في الكلام، حتى توهّموا إن اللام متصلة بها، وإنهما حرف واحد، ففصلوا اللام في هؤلاء في بعض المصاحف، ووصلوها في بعضها والاتصال بالقراءة، ولا يجوز الوقوف على اللام لأنّها لام خافضة. [سورة النساء (4) : الآيات 79 الى 84] ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي من خير ونعمة فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي بلية وأمر تكرهه فَمِنْ نَفْسِكَ أي، من عندك وأنا الذي قدرتهما عليك، الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به غيره، نظيره. قوله وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من خدش بعود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» «1» [372] .
وروى الهروي عن سفيان بن سعيد عمن سمع الضحاك بن مزاحم يقول: ما حفظ الرجل القرآن ثم نسيه إلّا بذنب، ثم قرأ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال: فنسيان القرآن أعظم المصائب. وقال بعضهم: هذه الآية متصلة بما قبله، وتقديره: فما لهؤلاء القوم لم يكونوا يفقهون حديثا حتى يقولوا: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ؟ وتعلق أهل القدر بهذه الآية وقالوا: نفى الله السيئة عن نفسه بقوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ونسبها إلى العبد، فيقال لهم: إن ما حكى الله تعالى لنبيه من قول المنافقين، إنهم قالوا إذا أصابتهم حسنة، هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ف إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، لم يرد به حسنات الكسب، ولا سيئاته، لأن الذي منك فعل غيرك بك لا فعلك، ولذلك نسب إلى غيرك. كما قال إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ «1» ... وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ «2» وكل هذه سبب من الأسباب لا من الكسب ألا ترى إنه نسبها إلى غيرك، ولم يذكر بذلك ثوابا ولا عقابا، فلما ذكر حسنات العمل والكسب وسيئاتهما نسبهما إليك وذكر فيها الثواب والعقاب. كقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها «3» وكان ما حكى الله عن المنافقين من قولهم في الحسنات والسيئات لم يكن حسنات الكسب ولا سيئاته، ثم عطف عليه قوله ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ إلى نفسك فلم يكن بقوله فَمِنْ نَفْسِكَ مثبتا لما قد نفاه، ولا نافيا لما قد أثبته، لأن ذلك لا يجوز على الحكيم جل جلاله، لكن من السبب الذي استحق هذه المصيبة، وكان ذلك من كسبه، ومنه قوله وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فجعل هذه المصيبة جزاء للفعل فإذا أوقع الجزاء لم يوقعه إلّا على ما نسبه إلى العباد، كقوله جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «4» وقوله وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ليس فيه دليل على إنه لا يريد السيئة ولا يفعلها ولكن ما كان جزاء، فنسبته إلى العبد على [طريق] الجزاء. وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ يا محمد رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على إنك رسول صادق. وقيل فيك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن الحسنة والسيئة كلها من الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «من أطاعني فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ ومن أحبّني [أحبّه الله] «5» » «6» [373] ، فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلّا أن نتّخذه ربا، كما في
حديث النصارى لعيسى، فأنزل الله تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فيما أمر به فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى عنه فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي حافظا ورقيبا. وقال القتيبي: محاسبا، فنسخ الله تعالى هذه الآية الشريفة، وأمره بقتال من خالف الله ورسوله وَيَقُولُونَ طاعَةٌ يعني المنافقين وذلك إنهم كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إنّا آمنّا بك فمرنا من أمرك طاعة، وهم يكفرون به في السر، وقوله (طاعَةٌ) مرفوعة على معنى منّا طاعة وأمرك طاعة وكذلك قوله (لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ) مرفوعة أي قولوا، سمعا وطاعة، وكذلك قوله فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وليست مرتفعة إليهم بل مني مرتفعة على الوجه الذي ذكرت. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي زوّر وموّه وقيل هنا. فقال قتادة والكلبي: بَيَّتَ أي غيّر وبدّل الذي عهد إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويكون السبب معنى التبديل. قال الشاعر: بيّت قولي عبد المليك ... قاتله الله عبدا كفورا «1» وقال القتيبي وأبو عبيدة: (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي قالوا وقدروا ليلا غير الذي أعطوك نهارا، وكل شيء قدّر بليل من شر فهو تبييت. قال عبيدة بن الهمام: أتوني فلم أرض ما بيّتوا «2» ... وكانوا أتوني بشيء نكر لأنكح أيّمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حر بحر «3» وقال النمر بن تولب: هبت لتعذلني بليل أسمعي ... سفها تبيتك الملامة فاهجعي وقال أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش: يقول العرب للشيء إذا قدر قد بيّت، يشبهونه تقدير بيوت [الشعر] . وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي ما يغيرون ويزورون ويقدرون. الضحاك عن ابن عباس: يعني ما تسرّون من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يا محمد فلا تعاقبهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي كفيلا، وثقة، وناصرا بالانتقام لك منهم، فنسخ الله
تعالى قوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ «1» بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالكلام الغليظ. فإن قيل: ما وجه الحكمة في [أعدائه] ذكر مهلهم. ثم قال (بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) فصرف الخطاب من [جلهم] إلى بعضهم. يقال: إذ إنما عبر عن حال من علم الله وبقي على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه صفح عن ذكرهم، وقد قيل: إنه غير عن حال من أحوالهم قد تستّر في أمره، فأما من سمع وسكت فإنه لم يذكرهم، وفي قوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ دليل على إبطال قول من زعم أنّ السنّة تعرض على الكتاب لم يعمل بها وذلك إن كل ما نص الله عز وجل، عليه فإنّما صار فرضا بالكتاب، فإذا عدم النص من الكتاب، وورد به السنّة فوجب إتباعها، ومن خالفها فقد خالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن خالف رسول الله فقد خالف الله، لأن في طاعة الرسول طاعة الله، فمن زعم أنه لم يقبل خبره إلّا بعد أن يعرض على كتاب الله، فقد أبطل كلّ حكم ورد عنه ما لم ينصّ عليه الكتاب. وأما قوله وَيَقُولُونَ طاعَةٌ ففيه دليل على أنّ من لم يعتقد الطاعة فليس بمطيع على الحقيقة، وذلك أن الله تعالى لمّا تحقّق طاعتهم فيما أظهروه، فقال: ويقولون ذلك لأنّه لو كان للطاعة حقيقة إلّا بالاعتقاد لحكم لهم بها [فثبت] أنه لا يكون المطيع مطيعا، إلّا باعتقاد الطاعة مع وجودها. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يعني أفلا يتفكّرون في القرآن، فيرون بعضه يشبه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، وإن أحدا من الخلائق لم يكن يقدر عليه فسيعلمون بذلك إنه من عند الله إذ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أي تفاوتا وتناقضا كثيرا هذا قول ابن عباس. وقال بعضهم: وَلَوْ كانَ هو مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ أي في الإخبار عما غاب عنهم. ما كان وما يكون اخْتِلافاً كَثِيراً، يعني تفاوتا بينا. إذا الغيب لا يعلمه إلّا الله فيعلم بذلك أنه كلام الله وأنّ محمدا رسول الله صادق، وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق إذ هو معرى عن الأخلاق من كل الجهات ولو كان مخلوقا لكان لا يخلو من اختلاف وتفاوت. وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ الآية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون إلى الاستفسار عن حال السرايا فيفشون ويحدّثون به قبل أن يحدّث به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله وَإِذا جاءَهُمْ يعني المنافقين، أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ
[كظفر المسلمين وقتل عدوّهم] «1» أَوِ الْخَوْفِ كالهزيمة والقتل. أَذاعُوا بِهِ أي أشاعوه وأفشوه وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أي وإن لم يحدّثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يحدّث به ويفشيه، وأولي الأمر أهل الرأي من الصحابة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ. الكلبي عن أبي صالح وابن عباس، وعلي بن الحكم عن الضحاك: يَسْتَنْبِطُونَهُ أي يتّبعونه. وقال عكرمة: يحرصون عليه ويسألون عنه، وقال ابن عبيدة والقتيبي: يخرجونه، ويقال: استنبط استنبطه الماء إذا أخرجه. [جويبر] عن الضحاك عن ابن عباس في قوله وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ إنّ المنافقين كانوا إذا أمروا بالقتال لم يطيعوا الله فيما أمرهم به، وإن نهاهم عن محارمه لم ينتهوا عنها، وإن أفضى الرسول إليهم سرا أذاعوا به إلى العدوّ ليلا بتكتّم، فأنزل الله تعالى ردّا عليهم وَلَوْ رَدُّوهُ يعني أمورهم في الحلال والحرام (إِلَى الرَّسُولِ) في التصديق به والقبول (وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) يعني حملة الفقه والحكمة لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يعني الذين يفحصون عن العلم. ثم قال وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا أي معناه لاتّبعتم الشيطان كلّكم. قال الضحاك: هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، يأمرهم بأمر من أمور الشيطان. قال ابن عباس: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن (لا تّبعتم الشيطان إلّا قليل) يعني بالقليل الذي امتحن الله قلوبهم يعني على هذا القول يكون قوله إِلَّا قَلِيلًا مستثنى من قوله لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ. وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير معناه: لعلمه الذين يستنبطونه إلّا قليلا. وقال بعضهم: معناه: إذا أذاعوا به قليلا لم يذع ولم يفش، وهكذا قال الكلبي: واختار الفرّاء أيضا هذا القول. وقال: لأنّ علم الله فاعتبر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكون في بعضهم دون بعض لذلك أستحسن الاستثناء من الإذاعة، وفي هذه الآية دليل ممن يحبون القول بالاجتهاد عند عدم النص. قال الله تعالى وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فالعلم محيط بالاستنباط، ليس تلاوة.
وإذا كان إدراكه بالاستنباط، فقد دل بذلك على أن من العلم ما يدرك بالتلاوة والرواية وهو النص. ومنه ما يدرك منه ومن المعنى، وحقيقة الاعتبار والاستنباط من القياس للحكم بالمعاني المودعة في النصوص غير الحكم بالنصوص فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما التقى هو وأبو سفيان بن حرب يوم أحد وكان من هربهم ما كان، ورجع أبو سفيان إلى مكة فواعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد قال الناس: اخرجوا إلى العدو. فكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم، فأنزل الله تعالى فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي لا تدع جهاد العدو وإنصاف المستضعفين من المؤمنين ولو وحدك. وقيل: معناه لا تلزم فعل غيرك ولا تؤخذ به ولم يرد بالتكليف الأمر لأنه يقتضي على هذا القول ألا يكون غيره مأمورا بالقتال. والفاء في قوله (فَقاتِلْ) جواب عن قوله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً فقاتل وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على القتال أي حثّهم على الجهاد ورغّبهم فيه، فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا معه إلى القتال، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبعين راكبا حتى أتى موسم بدر، فكفّ بهم الله تعالى بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان ولم يكن له أن يوافق، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. وذلك قوله عَسَى اللَّهُ أي لعل الله أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قتال المشركين وصولتهم حين ولّيتم وهي من الله واجب، حيث كان، وقد جاء في كلام العرب بمعنى اليقين. قال ابن مقبل: ظنّي أنهم كعسى «1» ، وهم بنتوفة «2» ... يتنازعون جوائز الأمثال وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً أي أشد صولة وأعظم سلطانا وأقدر على ما يريد وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أو عقوبة. فإن قيل: إذا كان من قولكم: إن عسى من الله واجب فقد قال الله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ونحن نراهم في بأس وشدة، فأين ذلك الوعد؟ فيقال لهم: قد قيل: إن المراد به الكفرة الذين كفّ بأسهم في بدر الصغرى، والحديبية بقوله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ الآية، فإن كان ظاهرها العموم فالمراد منها الخصوص.
[سورة النساء (4) : الآيات 85 إلى 91]
وقيل: أراد به المدة التي أمر الله فيها القتال لزوال الكفر بقوله وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فعند ذلك يكف بأس الذين كفروا، وهو الوقت. حتى ينزل فيه [المهدي] فيكون حكما قسطا ويظهر الإسلام عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وقيل: إن ذلك في القوم قذف الله في قلوبهم الرعب وأخرجهم من ديارهم وأموالهم بغير قتال من المؤمنين لهم وهذا بأس قد كفّه الله عن المؤمنين. وقد قيل: إنه أراد به اليهود والنصارى وهم يعطون الجزية وتركوا المحاربة، وقد كف بأسهم عن المؤمنين إذا صاروا يؤدّون الجزية صاغرين. [سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 91] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً أي يحسن القول في الناس ويسعى في إصلاح ذات البين يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ أي حظ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً فيسيء القول في الناس ويمشي بينهم بالنميمة والغيبة. يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها. قال ابن عباس وقتادة: الكفل الوزر والإثم، وقال الفراء وأبو عبيدة: الحظ والنصيب، مأخوذ من قولهم: اكتفلت البعير إذا [أدرت] على سنامه أو موضع من ظهره كساء وركبت عليه. وقيل له: اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كلّه وإنما شغل شيئا من الظهر. وقال مجاهد: شَفاعَةً حَسَنَةً وشَفاعَةً سَيِّئَةً شفاعة الناس وهم البعض. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً مقتدرا. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: مُقِيتاً أي مقتدرا مجازيا بالحسنة حسنة يقال: أقات أي اقتدر.
قال الشاعر: وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا «1» وأنشد النضر بن [شميل] : ولا تجزع وكن ذا حفيظه ... فأني عليّ ما ثناه لمقيت «2» المبرد: قتّ الشيء أقوته وأقيته أي كففته أمر قوته، ومجاهد: شاهدا، وقال قتادة: حافظا، والمقيت للشيء الحافظ له. وقال الشاعر، في غير هذا المعنى: ليت شعري وأشعرن إذا ما ... قربوها منشورة ودعيت إليّ الفضل أم عليّ إذا حوسبت ... إنّي على الحساب مقيت «3» أي موقوف عليه وقال الفرّاء: المقيت المقتدر أن يعطي كل رجل قوته. وجاء في الحديث: وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت «4» ويقيت ، ثم نزل في قوم بخلوا برد السلام وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها على المسلمين أي زيدوا عليها كقول القائل: السلام عليكم فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله ونحوها، ومن قال لأخيه المسلم: السلام عليكم كتب له بها عشر حسنات، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة، وكذلك لمن ردّ من الأجر. قال ابن عباس: ومن يسلم عشر مرات فله من الأجر عتق رقبة وكذلك لمن ردّ السلام عشر مرات أَوْ رُدُّوها بمثلها على أهل الكتاب وأهل الشرك فإن كان من أهل دينه فليزد عليه بأحسن منها، وإن كان من غير أهل دينه فليقل وعليكم لا يزيد على ذلك. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» «5» [374] . إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً من رد السلام مثله أو بأحسن منه حَسِيباً أي حاسبا مجازيا. وقال مجاهد: حافظا. أبو عبيدة: كافيا مقتدرا، يقال حسبي كذا أي كفاني.
وأعلم إن بكل موضع وجد ذكر كان موصولا بالله فإن ذلك صلح للماضي، والخبر هو المستدل، فإذا كان لغير الله فإنه يكون على خلاف هذا المعنى. ثم نزل في الذين أنكروا البعث اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه، واللام في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ لام القسم ومعناه، والله الذي لا إله إلّا هو أعلم منكم في الموت وفي أحيائكم إلى يوم القيامة. وسمّيت القيامة قيامة، لأن الناس يقومون من قبورهم. قال الله تعالى يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً «1» وقيل: سميت قيامة لقيامهم إلى الحساب. قال الله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أي قولا ووعدا فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية. نزلت هذه الآية في ناس من قريش، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأسلموا فأقاموا بها ثم ندموا على ذلك وأرادوا الرجعة، فقال بعضهم لبعض: كيف نخرج؟ قالوا: نخرج كهيئة البدو فإن فطن بنا قلنا: خرجنا نتنزّه، وإن غفل عنّا مضينا، فخرجوا بهيئة المتنزهين، حتى باعدوا من المدينة. ثم كتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنّا على الذي فارقناك عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، ولكنا [اجتوينا] المدينة، واشتقنا إلى أرضنا. ثم إنّهم خرجوا في تجارة لهم، على الشام، فبلغ ذلك المسلمين، فقال بعضهم: ما يمنعنا أن نخرج إلى هؤلاء الذين رغبوا عن ديننا، وتركوا هجرتنا، وظاهروا على عدوّنا، فنقتلهم ونأخذ مالهم! وقالت طائفة منهم: كيف تقتلون قوما على دينكم، إن لم يذروا ديارهم، وكان هذا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو ساكت لا ينهى واحدا من الفريقين، حتى نزلت هذه الآية والآيات بعدها، فبين الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلّم شأنهم. وقال زيد بن ثابت: نزلت في ناس رجعوا يوم أحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فرقتين فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم، فنزلت فيهم هذه الآية وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي النار خبث الفضة» «3» يعني المدينة. وقال قتادة: ذكرهما أنهما كانا رجلين من قريش بمكة تكلّما بالإسلام ولم يهاجروا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لقيهما ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلين إلى مكة فقال بعضهم: إنّ دماءهما وأموالهما حلال، وقال بعضهم: لا، [جلّ ذلك منا] فأنزل الله تعالى فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ الآية.
وقال عكرمة: هم ناس ممن قد صبوا ليأخذوا أموالا من أموال المشركين فانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم فنزلت فيهم هذه الآية. وقال مجاهد: هم قوم خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ثمّ ارتدّوا بعد ذلك واستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأتوا بضائع لهم يتاجرون فيها، فخاف المسلمون منهم فقائل يقول: هم منافقون، وقائل يقول: هم مؤمنون، فبيّن الله تعالى نفاقهم. وقال الضحاك: هم قوم أظهروا الإسلام بمكة فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يهاجروا فاختلف المسلمون فيهم، فنزلت هذه الآية (فَما لَكُمْ) يا معشر المؤمنين (فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) أي صرتم في المنافقين فئتين فمحلّ ومحرّم، ونصب فِئَتَيْنِ على خبر صار، وقال بعضهم: نصب على إلّا. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أي أهلكهم، ولكنهم تركوهم بكفرهم وضلالتهم بأعمالهم غير الزاكية يقال: أركست الشيء ركسته أي نكسته ورددته، وفي قراءة عبد الله: وإني والله أنكسهم «1» ، وقال ابن رواحة: أركسوا في فتنة مظلمة ... كسواد الليل يتلوها فتن «2» أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا أي ترشدوا إلى الهدى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وقيل: معناه: أيقولون أنّ هؤلاء يهتدون والله قد أضلّهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي دينا وطريقا إلى الهدى وَدُّوا أي تمنّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً شركاء في ذلك مثلهم كفارا، ثمّ أمرهم بالبراءة منهم فقال فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الثانية معكم. قال عكرمة: هي هجرة أخرى وبيعة اخرى، والهجرة على ثلاثة أوجه: أما هجرة المؤمنين أوّل الإسلام فمضى في قوله لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ «3» وقوله وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ، وأما هجرة [المؤمنين] فهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صابرا محتسبا. قال الله حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وأما هجرة المؤمنين فهي أن يهجروا ما نهى الله عنه كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد والهجرة فَخُذُوهُمْ يقول اسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ يعني في الحل والحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يعني ما ينافي العون والنصرة، وقوله لَوْ تُدْهِنُ لم يرد به جوابا التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب بما أراد به الفسق على من نزل وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ وودّوا لو
تكونون سواء مثل قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «1» أي ودّوا لو تدهن وودّوا لو تكفرون، ومثله وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ «2» أي ودّوا لو تغفلون وودّوا لو تميلون، ثم استثنى طائفة منهم فقال إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ أي يتصلون بقوم وينتسبون إليهم يقال: اتصل أي انتسب، وفي قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه» «3» أي من ادعى بدعوى الجاهلية. قال الأعشى: إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم «4» أي إذا انتسب. ويقال: يَصِلُونَ من الوصول أي يلحقون إليهم إلى قوم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد وهم [الأسلميون] وذلك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعنيه ولا يعين عليه حتى أتى ويرى، ومن وصل إلى هلال من قومه أو غيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل الذي لهلال. الضحاك عن ابن عباس: أراد بالقوم الذين بينهم وبينكم ميثاق. بني بكر بن زيد مناة وكانوا في الصلح والهدنة وقوله أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي ضاقت صدورهم عن قتالكم، وهم بنو مدلج جاءوا المؤمنين أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعني من آمن منهم، ويجوز أن يكون معناه إنهم لا يقاتلوكم ولا يقاتلون قومهم فعلم المؤمنون لا عليكم ولا عليهم ولا لكم. وقال بعضهم: وبمعنى الواو. كأنه يقول: إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقت صدورهم عن قتالكم، والقتال معكم، وهم قوم هلال الأسلميون وبني بكر بن زيد [مناة] وقوله أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أي قد حصرت، كقول العرب أي ذهب [نظره] يريدون قد ذهب. قال الفراء: سمع الكسائي بعضهم يقول: أصبحت فنظرت إلى ذات [البساتين] . وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ يعني سلط الله المشركين على المؤمنين عقوبة ونقمة. فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ عند القتال، ويقال يوم فتح مكة فهم يقاتلوكم مع قومهم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي المسالمة والمصالحة فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا أي حجة في قتالهم، وعلى دينهم فأمر الله رسوله بالكف عن هؤلاء سَتَجِدُونَ آخَرِينَ غيرهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 92 إلى 96]
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: هم أسد وغطفان [قدموا] المدينة، وكانوا قد تكلموا بالإسلام، وأقروا بالتوحيد دينا وهم غير مسلمون. وكان الرجل منهم يقول له قومه: بماذا أسلمت؟ فيقول: هذا الرد بهذا العقرب والخنفساء «1» . وإذا لقوا محمدا وأصحابه قالوا: إنا على دينكم، يريدون بذلك الأمن في الفريقين جميعا، فذلك قوله يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ ولا تعرضوا لهم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ولا تعرضوا لهم يرضونكم ويرضونهم. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: التوحيد، الذين كانوا بهذه الصفة كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها يعني إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه ودعوا عليه. ثم بيّن لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أمرهم فقال فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ أي فإن لم يكفّوا عن قتالكم ويعتزلوكم حتى تسيروا [......] «2» وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي المقاد والصلح وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ أي أهل هذه الهدنة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي عهدا وحجة بيّنة في قتالهم. [سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 96] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك إنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة قبل أن يهاجر رسول الله إلى المدينة وأسلم معه، ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله، وأن يبلغ أهل مكة إسلامه، فخرج هاربا من مكة إلى المدينة، ثم قدمها فكان أطما من آطامها فتحصن فيه، فجزعت لذلك امه جزعا شديدا، حين بلغها إسلامه، وخروجه إلى المدينة، فقالت: لابنها الحرث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه، والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتوني به، فخرج في طلبه وخرج معهم الحرث ابن زيد بن أبي أنيسة من الكعبة إلى المدينة، فأتوا بالمدينة، فاتوا عياشا وهو في الأطم «يعني الجبل» فقالا له: انزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وقد حلفت أن لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى ترجع إليها. ذلك عهد الله علينا ان لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له خرج إليهم ثم حلفوا بالله، فنزل إليهم فأخرجوه من المدينة، ثم أوثقوه بنسع فجلده كل رجل منهم مائة جلدة، ثم قدموا به على أمه وهي أسماء بنت مخرمة، فلما دخل قالت: والله لا أفكك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به. ثم تركوه متروكا موثقا في الشمس ما شاء الله ثم أعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحرث بن زيد، فقال له: يا عياش هذا الذي كنت عليه، فو الله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقاله، وقال: والله لا ألقاك خاليا أبدا إلّا قتلتك، ثم أن حارثا بعد ذلك أسلم وهاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وكان عياش يومئذ حاضرا، ولم يشعر بإسلامه فبينا عياش حاضر إذ لقي الحرث بن زيد ولما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس: أي شيء [صنعت] إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله قد كان أمري وأمر الحرث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته «1» ، فنزل عليه قوله تعالى ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أي لا ينبغي لمؤمن أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وليس معنى قوله وَما كانَ على النفي وإنما هو على التحريم والنهي كقوله ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «2» . ولو كان ذلك على النفي لما وجدت مؤمنا قتل مؤمنا قط لأنّ ما نفى الله لم يجز وجوده. كقوله تعالى ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «3» ولا يقدر العباد على إنبات شجرها البتة. وقوله تعالى إِلَّا خَطَأً عندنا ليس من الأول للمعنى. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً البتة إلّا أن المؤمن قد يخطئ في القتل وكفّارة خطأه ما ذكر بعده.
قال أبو عبيدة: العرب تستثني الشيء من الشيء فليس منه على اختصار وضمير، أي ليس مؤمنا على حال، إلّا أن يقتل مخطئا فإن قتله مؤمنا فعليه، كذا وكذا، ومثله قوله الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ «1» واللمم ليس من الكبائر ومعناه إلّا أن يلم بالفواحش والكبائر أي يقرب منها. ومثله قول جرير: من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ ... على الأرض إلّا ذيل برد مرجّل «2» فكأنه قال: لم يطأ على الأرض إلّا أن يطأ ذيل البرد فليس هو من الأرض. وقال أبو خراش الهذلي: أمست سقام خلاء لا أنيس به ... إلّا السباع ومرّ الريح بالغرف «3» الغرف متجر يعمل فيها الغرابيل، وسقام واد لهذيل وكان أبو عمر الهذلي يرتع ذلك ومثله قول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس «4» يقول: إلّا أن يكون بها اليعافير والعيس. وقال بعضهم: إلّا هاهنا معنى لكن فكأنه قال وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ولا عمدا إلّا بحال. لكن إن قتله خطأ فكذا وكذا وهذا كقوله لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً «5» معناه لكن تجارة عن تراض منكم. وقوله وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليه تحرير أي إعتاق رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. قال المفسرون: المؤمنة المصلية المدركة التي حصّلت الإيمان، فإذا لم تكن المؤمنة جبرها الصغيرة المولود فما فوقه ممن ليس بها زمانة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ أي كاملة إلى أهل القتيل الذين يرثهم ويرثونه إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية. فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ الآية على القاتل ولا دية لأهل القتيل، لأنهم كفار محاربون ومالهم في المسلمين وليس بينهم وبين الله عهد، ولا ذمّة وذلك ان الرجل كان يسلم ولا يسلم من تبعه غيره وقومه حرب للمسلمين فيصيبه الرجل.
وروى حمّاد عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه وهم مشركون، فيمرّ بهم جيش من جيش النبي صلّى الله عليه وسلّم [فيقتل فيمن يقتل فيعتق قاتله رقبة ولا دية له] «1» فنزلت هذه الآية فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وليست له دية، وكان الحرث بن زيد قتل مؤمنا من قوم كانوا حربا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية ولكنّه لم يكن بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين قومه عهد ثم قال وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد فأصبتم رجلا منهم فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ على الفاعل فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ لا تفرق بين صيامه تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وجعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن قتله خطئا حَكِيماً فيمن حكم عليه. والدية في الخطأ، مائة من الإبل، عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقّة، وعشرون جذعة، ويكلف العاقلة غير إبله وجعل دونها، وإن لم يكن في بلده إبل كلّف إبل أقرب البلدان إليه، فإن أعوزت الإبل فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قوّمها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكان قد كلف الأعرابي الذهب والورق لأنه لم يجد الإبل ويؤخذ ذلك من القروي لإعواز الإبل «2» . فقال الشافعي في القديم: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق إثنا عشر ألف درهم. وأما [أسنان] المغلظة في شبه العمد والعمد إذا ردّ إلى الدية ليربطون خلفه، [......] «3» حقّه، وثلاثون جذعة «4» . وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية نزلت في معين بن ضبابة الكناني، وذلك إنه وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلا في بني النجار وكان مسلما فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له ذلك فأرسل معه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني فهر، فقال له: ائت بني النجار؟ وأقرأهم السلام وقل لهم: إن رسول الله يأمركم ان علمتم قاتل هشام بن ضبابة فيقتص منه وإن لم تعلموا له قاتلا أن تدفعوا له ديته فأبلغهم الفهري ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: سمعا وطاعة لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدي ديته قال: فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب غرّه الشيطان قال: فوسوس إليه، فقال: أي شيء صنعت تقبل دية أخاك فيكون عليك سبّة أقتل الذي معك فيكون نفسا مكان نفس ومعك الدية.
حكم هذه الآية
قال: فغفل معين الفهري فرماه بصخرة فشدخ رأسه، ثم ركب بعيرا منها وساق بقيّتها راجعا إلى مكة كافرا، فجعل يقول في شعره: قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار، أرباب فارع وأدركت ثاري واضطجعت موسّدا ... وكنت إلى الأوثان، أوّل راجع «1» قول فيه وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها بكفره، وارتداده عن الإسلام. حكم هذه الآية فقالت الخوارج والمعتزلة: إنّها نزلت في المؤمن إذا قتل مؤمنا وهذا الوعيد لاحق به. وقالت المرجئة: إنّها نزلت في كافر قتل مؤمنا، فأما المؤمن إذا قتل مؤمنا فإنه لا يدخل النار. وقالت طائفة من أصحاب الحديث، إنها نزلت في مؤمن قتل مؤمنا وواعد عليه ما لبث إلّا أن يتوب أو يستغفر. وقالت طائفة منهم: كل مؤمن قتل مؤمنا فهو خالد في النار غير مؤيد ويخرج منها بشفاعة وجزاء وزعموا انه لا توبة لمن قتل مؤمنا متعمدا. وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا فإنه لا يكفر بفعله ولا يخرج عن الإيمان، إلّا إذا فعل ذلك على جهة الاستحلال والديانة. فأما إذا لم يفعله على جهة الاستحلال والديانة فإنّ ديته قتيلا ممن قتله وذلك كفارة له، فإن كان تائبا من ذلك ولم يكن منقادا ممن قيل كانت التوبة لهذا كفارة له. وإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا [قود] «2» فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأرضى خصمه بما شاء، وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعدها إن شاء الله لا يخلف وعدا وترك المجازاة بالوعيد يكون تفضلا، وترك المجازاة بالوعد يكون خلفا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والدليل على أن المؤمن لا يصير بقتله المؤمن كافرا ولا خارجا من الإيمان أنّ الله تعالى حين ذكر إيجاب القصاص سمّى القاتل مؤمنا بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى «3» .
والقصاص لا يكون إلّا في قتل العمد فسمّاهم مؤمنين وآخى بينهم كقوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ «1» فلم يرد به إلّا أخوة الإيمان، والكافر لا يكون أخا للمؤمن. ثم قال ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ وذلك لا يلحق الكفار ثم أوجب على المعتدين بعد ذلك عذابا أليما بقوله فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ «2» . ولم يرد مع مثلها الغضب، ولا التخليد في النار ولا يسمى هذا العذاب نارا، والعذاب قد يكون نارا وقد يكون غيرها في الدنيا، ألا ترى إلى قوله يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ «3» يعني القتل والأسر، والدليل عليه قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «4» مخاطبا المقاتلين فخاطب به المصلين ولو كان القتل يخرجهم من الإيمان، لجاز مخاطبتهم به لذلك قال الله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا واقتتال الطائفتين كان على العمد أو على الخطأ، والدليل عليه أيضا ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه كان يبلّغ أصحابه على أن لا يشركوا بِاللَّهِ شَيْئاً ولا يقتلوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وعلى ما في القرآن ممن فعل من ذلك شيئا، فكان عليه أجرا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، ومن كفر بالله فأمره إلى الله عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ولو كان القاتل خارجا عن الإسلام. لم يكن لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم معنى، وروي أنّ مؤمنا قتل مؤمنا متعمّدا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يأمر القاتل بالإيمان من فعله ولو كان [كافرا] أو خارجا عن الإيمان. لأمره أولا بالإيمان. وقال: لطالب الدم أتعفو؟ قال: لا ثم قال أتأخذ الدية؟ قال: لا، فأمره بقتله ثم أعاد عليه مرتين أو ثلاثة حتى قبل الدية ولم يحكم على القاتل بالكفر ، ولو كان ذلك كفرا لبينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن بكفر كان قد حرم بها أهله عليه، ولم يجز على الرسول الإغفال عنه لأنه الناصح، الشفيق، المبعوث بالتأديب والتعليم. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه قال: «ثلاثة من أهل الإسلام. الكفّ عمّن قال: لا إله إلّا الله لا نكفره بذنب [ولا نخرجه من الإسلام بعمل] ، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقوم الساعة، والإيمان بالأقدار» «5» . ودليل آخر على إن القاتل لا يصير كافرا بالقتل وهو أن الكفر من الجحود وأيضا الشرك اضافة، والقاتل لم يجحد ولم قبول الفرائض ولا أضاف إلى الله شركاء، ولو جاز أن يكون كافرا من لم يأت بالكفر فجاز أن يكون مؤمنا من لم يأت بالإيمان [......] «6» .
وقد تكلفت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية. وقيل: إن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا يدخل في النار مؤبدا لأنّ الله تعالى قال: خالِداً فِيها. يقال لهم: إن هذه الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا متعمدا. وقد ذكرنا القصة فيه وسياق الآية وروايات المفسرين [لها] على أنّا لو سلّمنا إنّها نزلت في مؤمن قتل مؤمنا متعمدا، فإنا نقول لهم: لم قلتم إن الخلود هو التأبيد، خبرونا عن قول الله وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ فما معنى الخلد هاهنا في النار، يقولون: إنه المراد به التأبيد في الدنيا. والدنيا تزول وتفنى. ومثله قوله أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «1» وكذلك قوله يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ «2» إنما يعني في الدنيا أفتقولون إنّه أراد به التأبيد؟ فإن قالوا: لا ولا بد منه، فيقال لهم: قد ثبت أن معنى الخلود هو معنى التأبيد، فكذلك يقول العرب: لأودعنّ فلانا في السجن، أفتقولون إنه أراد به التأبيد والسجن ينقطع ويفنى؟ وكذلك المسجون يدخل ويخرج منه فإن قالوا: إن الله لما قال: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ دلّ على كفره لأن الله لا يغضب إلّا على من كان كافرا أو خارجا من الإيمان. قلنا: إن هذه الآية لا توجب عليه الغضب لأن معناه فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ان يغضب عليه ويلعنه، وما ذكر الله من شيء وجعله جزاء لشيء فليس يكون ذلك واجبا كقوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «3» وكم محارب لله ولرسوله لم يحلّ به شيء من هذه المعاني. إلى أن فارق الدنيا. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «4» . ولم يقل: أجزي بكل سيئة بسيئة مثلها. ولو كان المعنيان في ذلك سواء لم يكن إذا لقوله وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «5» معنى، فكذلك هاهنا. ولو كان ذلك على معنى الوجوب.
كان لقوله وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ووجدنا في لغة العرب. إنه إذا قال القائل: جزاؤه كذا ثم لم يجازه لم يكن كاذبا، وإذا قال: أجزيه، ولم يفعل كان كاذبا، فعلم أن منهما فرضا واضحا يدل على صحة هذا التأويل. ما روى العلاء بن المسيب عن عاصم بن أبي النجود عن ابن عباس. قوله فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «1» أي في جزائه إن شاء عذبه وان شاء غفر له. وروى شعبة عن يسار عن أبي صالح قال: فَهُوَ جَزاؤُهُ إن جازاه فهو جزاؤه. روى الحجاج بن الأسود عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: في قوله تعالى: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ قال: جزاؤه إن جازاه [قال: فليس] قوله وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ من الأفعال الماضية. ومتى قلتم أن المراد منه: فجزاؤه ذلك أن جازاه كان من الأفعال المستقبلة؟ يقال لهم: قد يرد الخطاب بصفة الماضي والمراد المستقبل. وهو قوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ «2» . وَحَشَرْناهُمْ «3» وَقالَ قَرِينُهُ «4» كل ذلك يكون مستقبلا، وقد يرد بلفظ المستقبل، والمراد به الماضي كقوله وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ «5» . بمعنى إلّا ان آمنوا، ومثله كثير، وقد قيل في تأويل هذه الآية: إن هذا الوعيد وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مستحلا لقتله، وأما قوله: من زعم أنه لا توبة له فأنه خارج من الكتاب والسنّة. وذلك يغفر الله لهم الذنوب. وأمر بالتوبة منها فقال وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً «6» ونحوه من الآيات. ولم يفصل بين ذنب وذنب، وإذا كان الله قابل التوبة من الكفر فقبول التوبة من القتل أولى. قال الله وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «7» إلى قوله وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً «8» وقال إخوة يوسف اقْتُلُوا يُوسُفَ «9» ثم قال وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ «10» يعني بالتوبة وسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمن كل ذنب يقبل التوبة؟ فقال: نعم، فإن قيل: فلم يقولون في الاخبار التي وردت أنّ القاتل لا توبة له؟ قيل: تأويلها إن صح الخبر بها على أنه إذا لم يرتكب ذنبا ولم يستغفر الله منه ويدل على هذا ما حدّث:
خالد بن دهقان عن أبي زكريا قال: سمعت أم [الدرداء] تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفر إلّا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمدا» «1» [375] . قال خالد بن دهقان: فقال هاني بن كلثوم: سمعت محمود بن ربيع يحدّث عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل مؤمنا ثم اغتبط «2» بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» «3» [376] . قال خالد: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: اغتبط بقتله، قال: هم الذين يقتتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى ولا يستغفر الله منه أبدا. سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لا أعلم للقاتل توبة إلّا أن يستغفر الله. وروى أبو الأشهب عن سليمان بن علي الكلبي عن الحسن أنه قرأ هذه الآية مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ «4» إلى قوله جَمِيعاً. هات يا أبا سعيد، أي علينا كما كانت على بني إسرائيل. فقال: إي والله الذي لا إله إلّا هو ما جعل دماء بني إسرائيل أكرم من دمائنا، فإن قيل: فما تقولون فيما روى سفيان عن المغيرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ «5» قال: ما [نسخها] شيء. وروى الحجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي [بزة] أنه سأل سعيد: هل لمن قتل مؤمنا من توبة؟ فقال: لا، فنزلت عليه الآية وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «6» إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ. قال سعيد: فقرأها عليّ ابن عباس [كما قرأتها] «7» عليّ فقال: هذه مكّية نسختها أي مدنية التي في سورة النساء. وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت قال: لما نزلت هذه الآية التي
في الفرقان وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ «1» عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت في سورة النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ الآية فنسخت الغليظة اللينة يقال: إن الغليظة نزلت بعد اللينة بستة أشهر. نقول ومن الله التوفيق: إن قول المفسرين واختلافهم في الآيتين أيهما أنزلت قبل، وقوله: إن واحدة منها ناسخة والأخرى منسوخة فلا فائدة منه إذ ليس سليما سبيل الناسخ والمنسوخ، لأن النسخ لا يقع في الأخبار، وإنما يقع في الأحكام والآيتان جميعا [خبر أنّ] . فإن تكن الآية التي أنزلت في النساء أولا فإنها مجملة لم يستوف حكمها بالنص. وفسر حكمها في الآية التي في الفرقان. وإن كانت هي في الفرقان نزلت متقدمة. ثم أنزلت التي في النساء فإنه استغنى بتفسير ما في القرآن عن إعادة تفسيرها في النساء والله أعلم. وأما قول من زعم أن من وافى القيامة وهو مرتكب الكبائر. وهو مؤمن لم يضره ذلك فإنه [رادّ] لكتاب الله تعالى لأن الله تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» ، فلم يطلق المغفرة لما دون الشرك بل ردّه إلى المشيئة ليعلم إن منه ما يكون مغفورا أي ما يكون صاحبه معذورا ثمّ يخرج من النار فلا يؤبد فيها، ويؤيد ذلك. قضية الشفاعة وغيرها. فدلت هذه الدلائل على بطلان قول الوعيدية والمرجئة، وصحة قولنا، فهذا حكم الآية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف بن سعد [بن ذبيان] يقال له: مرداس بن نهيك وكان من أهل فدك وكان مسلما لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تريدهم وكان على السرية يومئذ رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين. فلما رأى الخيل خاف أن تكون من غير أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فألجأ غنمه إلى عاقول في الجبل وصعد هو إلى الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبّر فنزل وهو يقول: لا إله إلّا الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أسامة بن زيد بن حارثة فقتله وأخذوا غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا.
وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قتلتموه إرادة ما معه» [377] ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية على اسامة بن زيد فقال: يا رسول الله استغفر لي وقال: «فكيف بلا إله إلّا الله» قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات «1» . قال أسامة: فما رآني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلّا يومئذ ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استغفر لي بعد، ثلاث مرات. فقال: أعتق رقبة. وبمثله قال قتادة، وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه غنم فسلّم عليهم فقالوا: ما سلّم عليكم إلّا متعوّذا، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وروى المبارك عن الحسن أنّ أناسا من المسلمين لقوا أناسا من المشركين فحملوا عليهم فهزموهم قال: فشدّ رجل منهم وتبعه رجل وأراد متاعه فلما غشيه بالسيف. قال: إني مسلم إنّي مسلم وكذّبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه. قال: وكان والله قليلا نزرا. قال: فرفع ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقتلته بعد ما زعم أنه مسلم!، فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «فهلّا شققت عن قلبه؟» «2» . قال: لم يا رسول الله؟ قال: «لتنظر صادقا كان أو كاذبا» قال أو كنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنما ينبئ عنه لسانه» [378] قال: فما لبث القاتل أن مات ودفن فأصبح. وقد وضع إلى جنب قبره، ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثا فلما رأى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الأرض لا تقبله أخذوا رجله وألقوه في بعض تلك الشعاب، قال: فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية. قال الحسن: أما ذاك ما كان أن تكون الأرض [تحبس] من هو شر منه ولكن وعظا لقوم أن لا يعودوا إلى مثل فعله. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي إذا سرتم في الأرض مجاهدين فَتَبَيَّنُوا يعني المؤمن من الكافر، ومن قرأ بالتاء والثاء أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً لأن تحية المؤمن السلام بها يتعارفون وبها يحيي بعضهم بعضا. قال: ابن سيرين: إنما قال: (إِلَيْكُمُ) لأنه سلّم عليهم رجل فقتلوه ومن قرأ السّلام فمعناه المقادة يعني يطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها، ويقال: العرض ما سوى الدراهم والدنانير فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يعني ثوابا كثيرا لمن ترك قتل المؤمن كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا إله إلّا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها، فنهاهم أن يخيفوا أحدا بأمر كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالهجرة فَتَبَيَّنُوا أن تقتلوا مؤمنا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الخير والشر خَبِيراً. روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً، قال: حرّم الله على المؤمن أن يقول لمن عهد أن لا إله إلّا الله: لست مؤمنا، كما حرّم عليهم الميتة فهو آمن على ماله ودمه فلا يردّوا عليه قوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) . زعم ابن [سيرين] هو القول بهذه الآية. وقالوا لما قال الله وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً منعهم من قبلهم بعد اظهارهم الإسلام ولم يكن ذلك إلّا قولهم فلولا أن الإيمان هو القول، وذلك أن القوم لما شكّوا في حال أصله كان هذا القول منه تعوذا؟ فقتلوه والله تعالى لم يجعل إلى عبده غير الحكم بالظاهر. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله» «1» [379] وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط» . ألا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول. ثم لم يكن ذلك ايمانا منهم. وقد تبين من معنى هذه الآية ان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «هلا شققت عن قلبه» «2» [380] فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأنّ حقيقة التصديق بالقول، ولكن ليس للعبد حكم إلّا على ما سمعه منه فقط، وفي هذه الآية ردّ على أهل القدر وهو أنّ الله تعالى أخبر أنه منّ على المؤمنين من بين جميع الخلق. ممن خصّهم بالتوفيق فصاروا مخصوصين بالإيمان وأنّ الله لو خلق الخلق كلّهم للإيمان. كما زعمت القدرية فما معنى اختصاصهم بالمنة من بين الخلق كلّهم، وبالفصل بينهم وبين من قال إنّ المتنعم في الإيمان بالله إذ كانوا مساوين لغيرهم في جميع المعاني فأقروا ولم يعاندوا كما عائد غيرهم منع مساواتهم لهم في جميع المعاني.
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين عن غيرهم في الجهاد أتى عبد الله بن أم مكتوم وعبد الله بن جحش الأسدي. وليس الأزدي. وهما عميان فقال: يا رسول الله ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين فأمر بالجهاد وحالنا على ما ترى ونحن نلبي الجهاد فهل لنا من رخصة فنزل غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ في البصر فهم من الذين جاهدوا مع المجاهدين لزمانتهم. وروى مجاهد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لما نزلت هذه الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال ابن أم مكتوم: اللهم أنزل عذري، فنزلت (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) فوضعت بينهم وكان بعد ذلك يغزو ويقول ادفعوا إليّ اللواء ويقول: أقيموني بين الصفين فإني لا [أستطيع] أن أفرّ. معمر عن ابن شهاب عن زيد بن ثابت قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفخذه على فخذي وقد أملى عليّ لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فعرض ابن أم مكتوم قال: فبقيت فخذ رسول الله على فخذي حتى كادت تتحطّم ونزلت عليه غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وبقية الآية لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عن الغزو أو الجهاد، الذين هم غير أولي الضرر وهم أولي الزمانة والضعف في الدين والبصر، والضرر مصدر، يقال: رجل ضرير من الضرر. وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أولي. الضرر. وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي ليس المؤمنين القاعدون عن الجهاد من غير هم والمؤمنون المجاهدون غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الضرر أقعدهم عنه والضرر رفع على نعت القاعدين، ونصب على الاستثناء فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً أي فضيلة وَكُلًّا يعني المجاهد والقاعد وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ومن يجاهد [الجنّة، وزاد] «1» من فضل المجاهدين فقال وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في سبيل الله درجة، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن [محيريز] في هذه الآية: هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدد [حضر الفرس الجواد المضمر] «2» سبعين خريفا.
[سورة النساء (4) : الآيات 97 إلى 103]
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 103] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية. نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا، منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة. وقيس بن الوليد بن المغيرة وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فلما التقى الناس. ورأوا قلة المؤمنين قالوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ، فقتلوا يوم بدر فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وهزموهم، فذكر الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي يقبض أرواحهم ملك الموت. وقوله تَوَفَّاهُمُ إن نصبت جعلته ماضيا فيكون في موضع النصب وإن نصبت أمسى فيكون على مستقبل ومعنى تَتَوَفَّاهُمُ وأراد بالملائكة ملك الموت لأن الله تعالى قد يحمل الخطاب في موضع ويفسره في موضع فيكون الحكم للمفّسر فيرد عهد الله وقوله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يحتمل أن يكون أراد به ملك الموت واحتمل أن يكون غيره لكنه لمّا فسّره في موضع آخر بقوله قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» علم أن المراد بقوله (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ملك الموت والله أعلم. فإن قيل: فلم أخرجه بلفظ الجماعة؟ قيل: قد يرد الخطاب بلفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله عز وجل (إِنَّا نَحْنُ) ولا عليك إن الله واحد.
ومثله في القرآن كثير وقوله (ظالمي) ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالشرك، والنفاق، ونصب ظالِمِي على الحال من (تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) في حال تحملهم أي شركهم قالُوا يعني الملائكة. فِيمَ كُنْتُمْ أي في ماذا كنتم؟ سؤال تقريع وتوبيخ ويجوز أن يكون معناه: فيمن كنتم أفي المشركين أم في المسلمين؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ أي مقهورين عاجزين فِي الْأَرْضِ يعني أرض مكة فأخرجونا معهم كارهين قالُوا يعني الملائكة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ يعني أرض المدينة واسِعَةً أي آمنة فَتُهاجِرُوا فِيها فتضلّوا بها وتخرجوا من بين أظهر مكة. وروى سليمان بن عمرو عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير في قوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها قال إذا عمل بالمعاصي في أرض فأخرج منها. وروى سليمان بن عمرو عن عباد بن منصور بن الناجي عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب به الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم» «1» [381] . فأكذبهم الله عز وجل وإنّما أنّهم كانوا مستطيعين الهجرة فقال فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ أي منزلهم جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً أي بئس المصير إلى جهنم. ثم استثنى أهل مكة منهم فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ يعني المؤمنين المخلصين المقهورين بمكة لم يستطيعوا الهجرة ومنعوا من اللحوق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتجهزون للحوق به مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ والْمُسْتَضْعَفِينَ نصب على الاستثناء من مأواهم لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً لا يقدرون على حيلة ولا قوة ولا نفقة للخروج منها وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لا يعرفون طريقا إلى الخروج منها وقال: إنّما يعني طريق المدينة قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من الذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا وكنت غلاما صغيرا فَأُولئِكَ الذين هم بهذه الصفة عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ أي يتجاوز وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً وفي هذه الآية دليل على إمكان قول من قال إن الإيمان هو الاقرار فقط وذلك إن هؤلاء القوم كانوا قد أضمروا الإقرار فلم ينفعهم ذلك بعد أن لم تكن سرائرهم موافقه لأقوالهم وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعة الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً. مجاهد: مُراغَماً كَثِيراً: أي متزحزحا على كره. علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، وعليّ بن الحكم عن الضحاك: المراغم: السهول من الأرض إلى الأرض.
أما السعة فسعة من الرزق، وبه قال مقاتل بن حيان. وقال أبو عبيدة: المراغم والمهاجر واحد، يقال: راغمت قومي وهاجرتهم وهو المضطرب، والمذهب في الأرض. قال النابغة الجعدي: كطود يلاذ بأركانه ... عزيز المراغم والمهرب «1» وقال الشاعر: إلى بلد غير داني المحل ... بعيد المراغم والمضطرب «2» قال القيسي: فأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج من قومه مراغما أي مغاضبا لهم ومهاجرا أي مقاطعا عن دينهم، وقيل للمذهب مراغم وللمصير للنبي صلّى الله عليه وسلّم هجرة لأنها كانت هجرة الرجل قومه. وقيل: إن أصله من الرغام وهو التراب أي راغمته أي هاجرته ولم أبال وإن رغم أنفه أي ألصق بالتراب. فلما نزلت هذه الآيات سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير [وضيئا] يقال له: جندع «3» فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله وإني لأجد حيلة وإن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها، والله لا أبقى الليلة بمكة، أخرجوني، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به إلى التسنيم فأدركه الموت بها فصفق يمينه على شماله. ثم قال: هذه لك هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات شهيدا فأتى خبره أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: لو وافى المدينة لكان مهاجرا، وقال المشركون وضحكوا منه ما أدرك هذا ما طلب، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل بلوغه إلى مهاجره فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ أي وجب ثوابه عَلَى اللَّهِ بإيجابه ذلك على نفسه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً كان منه في حال الشرك رَحِيماً بما كان منه في الإسلام. وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي هاجرتم فيها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج وإثم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ يعني من الأربع ركعات إلى ركعتين إِنْ خِفْتُمْ أي علمتم أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في الصلاة إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً مجاهرا بعداوته وقال: [....] عدوا بمعنى أعداء والله «4» أعلم.
حكم الآية
قوله إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ. تمام الكلام هاهنا. ثم أصبح يقصر صلاة المسافر واو العطف فقال: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يريد فإن خفتم وهو حرف شرط وفي القرآن مثل هذا كثير أي خفي الخبر بتمامه ثم عطف عليه حرف منفصل عنه في الباطن وهو في الظاهر كالمتصل كقوله الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ «1» الآية. هذا اعتراف امرأة العزيز ثم وصل بها حكاية أخرى عن يوسف وهو قوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ لأن بعد الاعتراف بالذنب لا معنى لقولها لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ. وفي التفسير: أنّ يوسف لما قال هذه المقالة. قال له جبرئيل (عليه السلام) ولا حين هممت؟ وعندئذ قال يوسف وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي «2» ومثل قوله تعالى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ وقال: ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ «3» افتتاح كلام آخر يريد به النفي لأنه لو كان متصلا بأول الكلام كان معناه [....] «4» . قال: وحمل الآية على نحو ما أشرنا إليه من النظم يفيد زيادة معنى وهو وجوب القصر في السفر من غير خوف نص الآية لأنك متى ما فصلت قوله تعالى أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا متصلا بذكر قصر الصلاة لزمك أن تقول قصر الصلاة في السفر من غير خوف بالسنّة وأن السنّة ناسخة الكتاب، قيل: على زيادة معنى مع استقامة نظمها أولى من حملها على غيرها. حكم الآية اختلف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن بعدهم في إتمام الصلاة في السفر أربع ركعات ولكن أبيح له القصر تخفيفا عنه وإليه ذهب الشافعي، ورجّح الوجوب طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان في غزوة بني لحيان «5» . وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر قالا: إن المشركين لما رأوا أن رسول
كيفية صلاة الخوف
الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه [قاموا إلى] صلاة الظهر يصلّون جميعا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤمهم ندموا على تركهم إلّا كانوا كبرا عليهم فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر. وإذا رأيتموهم قد قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم. فلما قاموا إلى الصلاة العصر نزل جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إنها صلاة الخوف فإن الله يقول وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ مقيما يعني شهيدا معهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا إلى آخر الآية قال: فعلمه جبرئيل صلاة أخرى. فلما قام النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الصلاة وقف أصحابه صفين ثم كبر فكبروا جميعا، ثم إن الصف الآخر استقبلوا العدو بوجوهم يحمون النبي وأصحابه، فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصف الذي معه ركعة وسجدتين ثم قاموا وكبروا وراءهم من غير أن يتكلموا إلى مصاف أصحابهم ونكص آخرون حتى قاموا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى بهم ركعة وسجدتين ثم تشهد وسلّم ثم قام الصف الذي خلفه فرجعوا إلى مصاف أصحابهم، وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتان وأربع سجدات والقوم ركعة وسجدتين وصلّى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين. كيفية صلاة الخوف اختلف العلماء في كيفية صلاة الخوف. فقال الشافعي: إذا صلّى في سفر صلاة الخوف من عدو غير مأمون، صلى الإمام بطائفة ركعة وطائفة فجاءه العدو فإذا فرغ العدو قام فلبث قائما وأطال وأتمم الطائفة للركعة التي بقيت عليها يقرأ بأم القرآن وسورة، ويخفف ويسلم وينصرف فيقف وجاءه العدو، ويأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالسا وتقوم الطائفة تتم لنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام كل واحدة منهما مع إمامها ما أحدثت الأخرى منه. واحتج بقول الله تعالى. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ الآية. فاحتج أيضا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك يوم ذات الرقاع. وروى معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ قال: هذا في الصلاة عند الخوف يقيم الإمام ويقوم معه طائفة منهم وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو فيصلي الإمام بمن معه ركعة ثم يثبت قائما فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ثم ينصرفون حتى يأتوا بأصحابهم فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يجلس الإمام فينظرهم فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ويشهدون ثم يسلم بهم الإمام، فهكذا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع.
ويدل على صحة هذا التأويل أيضا حديث سهل بن أبي خيثمة في صلاة الخوف وكان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يقوم الإمام في صلاة الخوف ويقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهؤلاء ركعة. قال: فإذا صلّى بهم ركعة قاموا مكانهم والإمام قائم فيصلوا ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فيصلي بهم ركعة. ثم قاموا مكانهم فصلّوا ركعة. قال الشافعي: فإن كانت صلاة المغرب فإن صلّى ركعتين بالطائفة الاولى فيثبت قائما وأتموا لأنفسهم فحسن، وإن ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم [فجائز] ثم يأتي بالطائفة الأخرى فيصلي بها بقي عليه ثم يثبت جالسا حتى يقضي ما بقي عليها ثم يسلم بهم. قال: وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالسا في الثانية أو قائما في الثالثة حتى يتم الطائفة التي معه. ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها كما وصفت الأخرى. قال: وإن كان العدو قليلا من ناحية القبلة والمسلمون كثير يأمنوهم في مستوى لا يسترهم شيء إن حملوا عليهم زادهم صلّى بهم الإمام جميعا وركع وسجد بهم جميعا إلّا صف عليه أو بعض صف الوراء وإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوا. وإذا ركع ركع بهم جميعا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولئك إلّا صفا أو بعض صف يحرسونهم فيهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين يحرسونهم ثم يتشهد ويتشهدون ثم يسلم بهم جميعا معا وقال: وهو تأخر منهم يحرسونهم إلى الصف الثاني. ويقدم الثاني فحرسوا فلا بأس، وهذا نحو صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم عسفان. روى شبل عن محمّد بن يوسف عن مجاهد في قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ قال قوم: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان «1» فتوافقوا فصلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربعا ركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على صفوفهم، وأثقالهم وأنزل الله تعالى فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فصلى العصر فصف أصحابه صفين. ثم كبر بهم جميعا ثم سجد الأولون سجدة فالآخرون ثم سجدوا حين قام النبي صلّى الله عليه وسلّم والصف الأقل ثم كبّر بهم وركعوا بهم جميعا فتقدم الصف الآخر وليتأخر الصف الأول فيها فصلوا جميعا كما فعلوا أول مرة وقصر صلاة العصر في ركعتين، وتشهد ، فهذا حديث جابر في صلاة الخوف. عطاء عن جابر قال: صلينا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف وكان العدو بيننا وبين القبلة فأقيمت الصلاة فصففنا خلفه صفين. وكبّر وكبّرنا معه جميعا ثم ركع وركعنا معه ثم رفع رأسه فسجد فلما سجد هو والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو.
وكلما قضى رسول الله السجود هو والصف الذي يليه. قاموا بحذاء الصف المؤخّر بالسجود فسجدوا ثم تأخر الصف المقدم وتقدم الصف المؤخر ثم كبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ركع وركعنا جميعا. ثم رفع رأسه فاستوى قائما فسجد هو والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الاولى، فلما قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم السجود هو والصف الذي يليه سجد الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسلموا جميعا، كما نصنع وسلّم هؤلاء بأقرانهم. قال الشافعي: ولو صلّى بالخلف [....] «1» . فإذا صلّى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم يسلم جائز وهكذا صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ببطن المحل. وروى يحيى بن أبي كبر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أخبره إنه صلى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإحدى الطائفتين ركعتين وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول الله أربع ركعات وصلّى كل طائفة ركعتين. قال المزني: وهذا يدل عندي بوجوب فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له صلّى الله عليه وسلّم فهذا مذهب الشافعي في صلاة الخوف. وقال أبو حنيفة: السنّة أن يفرّق الإمام المسلمين فرقتين، فيصلّي بفرقة ركعة، وفرقة فجاءه العدو ثمّ يتشهّد بالفرقة التي سلّمت فيصلي بركعة وهم في الصلاة فيقفون. وجاءه العدو وجاءت الفرقة الأخرى فصلت مع الإمام الركعة الأخرى. ثم انصرفت وعادت الفرقة الاولى وصلت صلاتها فعادت إلى مواجهة العدو وانصرفت الفرقة الأخرى. وأتمّت صلاتها، وذهب أبو حنيفة في هذا إلى حديث ابن عمر في صلاة الخوف. وهو ما روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يحدث انه صلاها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فصفّ وراءه طائفة وأقبلت طائفة على العدو، فركع [بهم] رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة وسجدتين، [سجد] مثل نصف صلاة الصبح ثم انصرفوا وأقبلوا على العدو وصلت الطائفة الأخرى فصلوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ففعل مثل ذلك، ثم سلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقام كل رجل من الطائفتين فصلى لنفسه ركعة [وسجدتين] «2» . قال نافع عن ابن عمر: فإن كان خوفا أشد من ذلك، فليصلوا قياما وركبانا حيث جهتهم وهذه صلاته بذي قردة.
حديث أبي هريرة في صلاة الخوف
وروي عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف بذي قرد فصف صفا يوازي العدو. وقال: فصلى بالصف الذي معه ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلوا ركعة ثم سلّم فيهم جميعا ثم انصرف وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى ركعتين ولكل واحد من الفريقين ركعة. حديث أبي هريرة في صلاة الخوف وروى عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم انه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم، فقال مروان: متى؟ قال: عام غزوة نجد، قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العصر. وقامت معه طائفة وطائفة اخرى مما يلي العدو، وأظهرهم إلى القبلة فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكبّر الذين معه، والذين يقاتلون العدو جميعا. ثم ركع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة واحدة وركع معه الطائفة التي تليه ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه. والآخرون قيام مما يلي القوم، وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقامت معه الطائفة الذين معه فذهبوا إلى العدو، فقاتلوهم فأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو وركعوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم كما هو. ثم قاموا فركع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد، وسجدوا ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو. فركعوا، وسجدوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعد كما هو فثم سلّم وسلموا جميعا، فصلى رسول الله ركعتين. ولكل رجل من الطائفتين ركعتان. واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون خلاف في هذا بين العلماء إلّا ما حكى عن أبي يوسف والمزني أنهما قالا: لا يصلي صلاة الخوف بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس هذا موضع الكلام طلبهما في هذا بالقدر الذي ذكرت في هذا الموضع ينفع إن شاء الله. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ نزلت هذه الآية في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا محاربا وبني أنمار [فهزمهم الله وأحرزوا الذراري والمال] فنزل رسول الله والمسلمون معه ولا يرون من العدو واحدا فوضع الناس أسلحتهم وأمتعتهم من ناحية [وخرج رسول الله] فمشى لحاجات وقد وضع سلاحه حتى قطع «1» الوادي، [والسنماء ترش] فحال الوادي بين رسول الله وبين أصحابه وجلس رسول الله وهوى بصخرة ليضربه غويرث بن الحرث المحاربي، ثم الحضرمي، فقال أصحابه: يا غويرث. هذا محمد قد انقطع من أصحابه. قال: قتلني الله إن تركته ثم انحدر من الجبل ومعه
[سورة النساء (4) : الآيات 104 إلى 113]
السيف فلم يشعر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده وقال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ قال الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «الله» ثم دعا: اللهم اكفني غويرث بن الحرث بما شئت. ثم أهوى بالسيف على رسول الله ليضربه فانكبّ لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه وبدر سيفه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخذه ثم قال: «من يعصمك الآن يا غويرث» قال: لا أحد. قال: اشهد أن لا إله إلّا الله وأني عبده ورسوله، فقال: لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليه، فأعطاه رسول الله سيفه فقال غويرث: للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنت خير مني. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أجل أنا أحق بك منك ثم رجع غويرث إلى أصحابه» [382] . فقالوا: ويلك لقد رأيناك أهويت بالسيف قائما على رأسه ما منعك منه؟ قال: والله إني أهويت إليه بالسيف لكني لا أدري من زلخني من كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي من بين يديّ فسبقني فأخذه وقال: يا غويرث من يمنعك مني الآن، فقلت: لا ثم قال: اشهد أن لا إله إلّا الله وإني رسول الله وأعطيك سيفك فقلت: لا، ولكني أعطيك موثقا أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا، فردّ السيف إليّ. قال: وسكن الوادي فقطعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وأخبرهم الخبر، وأقرأهم هذه الآية وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا ضرر إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ من عدوكم إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً يهانون فيه. قال الزجاج: الجناح الإثم وأصله من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانبا عن القصد ثمّ قال لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي لا تعدلون عن الحق إن وضعتم أسلحتكم، والأذى مقصور، يقال: أذى يأذي أذى، مثل فرع يفرع فرعا فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ يعني فصلوا لله قِياماً للصحيح وَقُعُوداً للسقيم وَعَلى جُنُوبِكُمْ للجرحى والمرضى لمن لا يستطيعون الجلوس، ويقال: معناه فاذكروا الله بتوحيده وتسبيحه وشكره على كل حال فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يعني صلاة الخوف والمرض والقتال، ورجعتم إلى منازلكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أتموا الصلاة أربعا إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي واجبا مفروضا في الحضر والسفر، فركعتان في السفر وأربع في الحضر، وكتب الله عليهم ووقته أي جعل للأوقات ومنه قوله تعالى وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ووقتت مخففة. [سورة النساء (4) : الآيات 104 الى 113] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ لا تضعفوا في طلب القوم. أبي سفيان وأصحابه يوم أحد وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران. إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ أي تتوجعون وتشتكون من الجراح فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ أي يتوجعون ويشتكون من الجراح كَما تَأْلَمُونَ وأنتم مع ذلك آمنون وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ الأجر والثواب والنصر الذي وعدكم الله وإظهار دينكم على سائر الأديان. ما لا يَرْجُونَ وقيل: [تفسر] الآية: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ أي تخافون من عذاب الله ما لا يخافون. قال الفراء: لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلّا مع الجحد، كقول الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي لا يخافون أيام الله وكذلك قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي لا تخافون لله عظمة، وهي لغة حجازية. قال الشاعر: لا ترتجي حين تلاقي الذائدا ... أسبعة لاقت معا أم واحدا «1» وقال الهذلي: يصف [معتار] العسل ذا النوب وهي النحل. ويروى في بيت نوب عوامل ... إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل «2» . قال: ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ولا خفتك وأنت تريد رجوتك «3» . إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، يقال له طعمة بن أبرق أحد بني ظفر حي من سليم سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، وكان الدقيق ينشر من خرق
في الحراب، حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود، يقال له زيد ابن السمين، والتمست الدرع عند طعمة فلم يوجد عنده، وحلف لهم والله ما أخذها وماله بها من علم فقال أصحاب الدرع، بلى والله لقد أولج علينا فأحضرها وعلينا بأثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق منتشرا فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق. حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه وقال اليهودي: دفعها لي طعمة بن البرق، وشهد له ناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة: أيطلبوا بنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنكلمه في صاحبنا فنعذره ونجادل عنه وإن صاحبنا يرى معذورا فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكلموه في ذلك، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح، وبرىء اليهودي فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فأنزل الله تعالى يعاتبه إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الآيات. وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال: إن طعمة سرق درعا من أنصاري وكان الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان متناثر النخالة منه طول الطريق، فجاء به إلى دار زيد ابن السمين على أثر النخالة [فأخذه] وحمله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهم رسول الله أن يقطع يد زيد اليهودي فأنزل الله تعالى هذه الآية. علي بن الضحاك: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، استودع درعا فجحده صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء قومه فعذروه وأتوا عليه فصدّقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعذرهم وردّ الذين قالوا فيه ما قالوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما تبين خيانته ارتد عن الإسلام ولحق بمكة، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ «1» الآية. وقال مقاتل: إن زيد السمين أودع درعا عند طعمة بن أبرق فجحده طعمة فلما جاء زيد يطلبه أغلق الباب، فأشرف على السطح، فألقى الدرع في دار جاره أبي هلال. ثم فتح الباب فلم يجدوا فيه فصعد السطح فقال: أرى درعا في دار أبي هلال، فلعله درعكم فنظروا وإذا هو ذلك فرفعوه. ثم جمع طعمة قومه وجاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشكوا وقالوا: إنهم قد فضحونا وسرقونا، فعاتبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عز وجل إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بالأمر والنهي والفصل لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي ما علمك الله وأوحى إليك وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أي معينا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ابن عباس قال: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما هممت به من قطع يد زيد. الكلبي: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ يا محمد من همك باليهودي أن تضربه. مقاتل: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ من جدالك الذي جادلت عن طعمة إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ يعني يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ويرمي بها اليهودي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً يعني خائنا في الدرع أَثِيماً في رميه اليهودي وقوله وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. قد قيل فيه: إن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره، كقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ «1» والنبي لا يشك ممّا أنزل الله، فإن قيل: قد أمر بالاستغفار [قلنا] هو لا يوجب وجود الذنب ولا يجب أن يستغفر كما أمر في سورة الفتح بالاستغفار من غير ذنب مقدم. واعلم أن الاستغفار في جميع الأنبياء يعد وجوه منها ثلاثة أوجه: يكون لذنبه مقدم مثل النبوة ويكون لذنب أمته وقرابته ويكون لترك المباح قبل ورود الحضر، ومعناه بالسمع والطاعة لما أمرت به ونهيت عنه وحملت التوفيق عليه يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يستترون ويستحيون من الناس وَلا يَسْتَخْفُونَ أي يستترون ولا يستحيون مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ يعني علمه. إِذْ يُبَيِّتُونَ . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: يعني يقولون، عن سفيان عن الأعمش عن أبي رزين: يولعون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ يعني بأن اليهودي سرقه وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً يعني قد أحاط الله بأعمالهم الحسنة. وتعلقت الجهمية والمعتزلة بهذه الآية، استدلوا منها على إن الله بكل مكان قالوا لمّا قال وَهُوَ مَعَهُمْ ثبت إنه بكل مكان لأنه قد اثبت كونه معهم وقال لهم حق قوله وَهُوَ مَعَهُمْ إنه يعلم ما يقولون ولا يخفى عليه فعلهم لأنه العالم بما يظهره الخلق وبما يستره، وليس في وله وهو معهم ما يوجب انه بكل مكان لأنه قال أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ «2» ولم يرد قوله انه في السماء يعني غير الذات لأن القول: أنّ زيدا في موضع كذا من غير أن يعتد بذكر فعل أو شيء من الأشياء لا يكون إلّا بالذات، وقال تعالى (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ «3» فأخبر أنه [يرفع] الأشياء من السماء ولا يجوز أن يكون معهم بذاته ثم يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، ولو كان قوله (وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضى من القول) ثم أقبل على قوم طعمة وقال ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي يا هؤلاء للتنبيه جادَلْتُمْ أي خاصمتم عن [أبي] طعمة «4» ، ومتى سافر أبي بن كعب عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والمطلب به في اللغة بشدة [المخاصمة] وهو من الجدل وهو [شدّة الفتل وفيه: رجل مجدول الخلق، وفيه: الأجدل للصقر] «5» لأنّه من أشدّ الطيور قوّة.
فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ أي عن طعمة يَوْمَ الْقِيامَةِ لما أخذه الله بعذابه وأدخله النار أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا كفيلا. ثم استأنف وقال وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يعني يسرق الدرع أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ برميه البريء في السرقة، يقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أي شركا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ يعني بما دون الشرك ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي يتوب إلى الله يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً متجاوزا رَحِيماً به حين قبل توبته وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً يعني يمنه بالباطل فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ يقول فإنما يضر به نفسه ولا يؤخذ غير الإثم بإثم الإثم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بسارق الدرع حَكِيماً حكم القطع على طعمة في السرقة وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أي بيمينه الكاذبة، أَوْ إِثْماً بسرقته الدرع، وبرميه اليهودي ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً أي يقذف بما جناه من مأمنه فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً والبهتان أي يبهت الرجل بما لم يفعل. وقال الزجاج: البهتان الكذب الذي يتخير من [عظمه] . وَإِثْماً مُبِيناً ذنبا بينا. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) عبد الله بن أبي بن سلول (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) يعني به عائشة أم المؤمنين حيث كذب عليها وكان من ذلك، وقوله (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ) ولم يقل فيهما وقد ذكر الخطيئة ولم يقل كفرا، يجوز ان يكنى عن النفس والثلاثة والأكثر واحدها مؤنث بالتذكير، والتوحيد لأن الأنفس يقع عليها فعل واحد، فذلك جائز وإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلتها كالواحد، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال الله تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «1» جعله للتجارة ولو أتى بالتذكير فجعل كالفعل الواحد لجاز ثم قال لمحمد وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ بالنبوة وَرَحْمَتُهُ نصرك بالوحي لَهَمَّتْ يقول لقد همّت يعني أضمرت طائِفَةٌ يعني جماعة مِنْهُمْ يعني طعمة أَنْ يُضِلُّوكَ أي يخطؤك وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يقول وما يخطئون إلّا أنفسهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وكان ضره على من شهد بغير حق وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني القرآن والحكمة يعني القضاء بالوحي وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ قبل الوحي وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ من الله عليك عَظِيماً بالنبوة. هذا قول الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، ثم قال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ. عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ يعني به الإسلام والقرآن لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني من ثقيف أَنْ يُضِلُّوكَ وذلك أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد قد جئناك نبايعك على أن لا حشر ولا بعث ولا نكسر أصناما بأيدينا على أن تمتّعنا بالعزّى سنة، فلم يجبهم إلى ذلك وعصمه الله بمنّه وأخبره بنعمته
[سورة النساء (4) : الآيات 114 إلى 117]
عليه انّه في حفظه وكلاءته فلا يخلص إليه أمر يكرهه ، فقال وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني وفد ثقيف وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ يعني لا يستطيعون أن يزيلوا عنك النبوة وقد جعلك الله لها أهلا ثم قال وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعني الاحكام وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من الشرائع وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ أي منّ الله عَلَيْكَ بالإيمان عَظِيماً. [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 117] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس يعني قوم طعمة إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أي حثّ عليها أَوْ مَعْرُوفٍ يعينه بفرض أسباب أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ يعني بين طعمة واليهودي وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القرض بمنح أو هدية ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلب رضاه فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً يعني جنة. وعن ابن سيرين: معنى النجوى في الكلام المفرد به الجماعة، والإنسان سرا كان أو ظاهرا، ومعنى النجوى في لغة خاصة ومنه نجوت الجلد عن البعير وغيره أي ألقيته عنه. قال الشاعر: فقلت أنجوا منها نجا الجلد انه ... سيرضيكما منها سنام وغار به «1» ويقال: نجوت فلانا إذا استنكهته. قال الشاعر: نجوت مجالدا فوجدت منه ... كريح الكلب مات حديث عهد «2» ونجوت الوتر واستنجيته إذا أخلصه. قال الشاعر: فتبازت فتبازخت لها ... كجلسة الأعسر يستنجي الوتر
وأصله كله من النجوة فهو مرتفع من الأرض. قال الشاعر: كمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح «1» فمعنى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ يعني ما دوّن منهم من الكلام (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) يجوز ان يكون في موضع الخفض والنصب والرفع، فوجه الخفض على قولك: لا خير في كثير من نجواهم إلّا فيمن أمر بصدقة. والنجوى هاهنا الرجال المتناجون كما قال: وَإِذْ هُمْ نَجْوى. وقال قائلون: النجوى لمنة فيه فالمنصوب يعلا أن يجعل النجوى فعلا ويكون قوله إلّا استثناء من غير الجنس فيكون وجه النصب ظاهرا. قال النابغة: إلّا الأواري لأياً ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد «2» وقد يكون في موضع رفع فمن نصب على المعرفة. وقال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى نزلت في طعمة بن الأبرق أيضا وذلك إنه لما نزل القرآن فيه وعلم قومه إنه ظالم وخاف هو على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إلى مكة فأنزل الله فيه وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي التوحيد بحدوده وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يقول غير دين المؤمنين دين أهل مكة عبادة الأوثان نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نكله وما أدخره إلى ما تولى في الدنيا وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً فلم ينته طعمة ولم يراجع وتعمد فأدلج على الرجل من بني سليم من أهل مكة فقال له الحجاج: كف أخلاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من البيت فتسبب فيه فلم يستطع أن يدخل فقال رجّحني بمعنى أصبح فأخذ [يتفل] «3» ، فقال بعضهم: دعوه فإنه لجأ إليكم، فتركوه وأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فرد فرارا منهم فسرق بعض بضاعتهم وهرب فطلبوه وأخذوه فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الأحجار ويقال انه ركب البحر إلى جدّة فسرق من السفينة كيسا فيه
دنانير فأمسكوا به فأخذ وألقي في البحر، ويقال إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنما لهم إلى إن مات، فأنزل الله فيه إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فنزل فيه وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما «1» الآية. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ: نزلت هذه الآية في نفر من قريش، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة ودخلوا في الإسلام، فأعطاهم رسول الله ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ورجعوا إلى عبادة الأوثان، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يفارق الرسول، ويعاديه ويحاربه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى يعني من بعد ما وضح له إن محمد عبده ورسوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير طريق المسلمين نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نكله إلى الأصنام يوم القيامة، وهي لا تملك ضرا ولا نفعا ولا ينجيهم من عذاب الله وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ بعبادة الأصنام. وَساءَتْ مَصِيراً يعني بئس المنزل حلوا به يوم القيامة. الضحاك عن ابن عباس: قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قال: إن شيخا من الاعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا نبي الله أني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلّا إني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته، وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ولا توهمت طرفة عين، إني أعجز الله هربا وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند الله؟ فأنزل الله عز وجل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ والشرك ذنب لا يغفر لمن مات عليه وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يعني فقد ذهب عن الطريق وحرم الخير كله. واعلم أن في قوله تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ دليل على قوة حجة الإجماع وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ دليل على فساد قول الخوارج حين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر وذلك قوله عز وجل قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ففرّق بين الشرك وسائر الذنوب وحتم على نفسه بأن لا يغفر الشرك. لو كان الكبيرة كفرا لكان قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ مستوعبا فلما فرّق بين الشرك وسائر الذنوب بان فساد قولهم، وقد بيّن الله تعالى بأنه الشرك في آخر القصة وهو قوله إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وقد علم أن صاحب الكبيرة غير مستحل لها فلم يجز أن يكون حكمه حكم الكافر، وفيه دليل على فساد قول المعتزلة في المنزلة [بين الشرك والإيمان] إذ الله تعالى لم يجعل بين الشرك والإيمان منزلة ولم يجعل الذنوب ضدا للإيمان.
[سورة النساء (4) : الآيات 118 إلى 126]
وكان فيه فساد قول من جعل الكبيرة الكفر، وفيه دليل على فساد قول المرجئة حين قالوا: إن المؤمن لا يعذّب، وإن كان مرتكبا للذنوب. لأن الله أخرج المشرك من المشيئة وجعل الحكم فيه حتما، فلو لم يجز تعذيب المؤمن المذنب لأخرجه من باب الاستثناء وأطلق الحكم فيه كما [علّقه] في الشرك، وفيه دليل على فساد قول الوعيدية وقد ذكرناه من قبل. ثم نزلت في أهل مكة إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً كقوله تعالى وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «1» أي اعبدوني أستجب، لكم يدلّ عليه قوله بعده إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي من دونه، أي من دون الله وكان في كل واحدة فيهن شيطان يتراءى للسدنة والكهنة يكلمهم فذلك قوله وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً «2» وكان المشركون يدعون أصنامهم باسمها وكان هذا قول مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين. ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس: إن يدعون من دونه إلّا أوثانا جمع الوثن فصيّر الواو همزة كقوله أقب ووقب. وأصله وثن وقرئت أنثا على جمع الإناث كمثل مثال ومثل وثمار وثمر. قال الحسن وقتادة وأبو عبيدة: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً يعني أمواتا لا روح فيه خشبة وحجر ومدر ونحوها. وذلك إن الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث يقول من ذلك الأصنام متعجبين، ف إِنْ يَدْعُونَ وما تعبدون إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً والمريد المارد فقيل: بمعنى فاعل. نحو قدير وقادر وهو الشديد العاتي الخارج من الطاعة. يقال: مرد الرجل يمرد مرودا ومراده إذا عتى وخرج من الطاعة وأصل المريد من قول العرب: حدثنا ممرد أي مملس. ويقال: شجرة مردا إذا يتناثر ورقها، ولذلك سمي من لم تنبت لحيته أمرد، أي أملس موضع اللحية. فالمراد: الخارج من الطاعة المتملّص منها. [سورة النساء (4) : الآيات 118 الى 126] لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ يعني إبليس لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً يعني حظا معلوما فما أطاع فيه إبليس فهو مفروضة. قال الفراء ما جعل عليه سبيل، وهو كالمفروض، في بعض التفسير وكل ألف الله عز وجل وسائرهم لإبليس. وأصل الفرض في اللغة القطع ومنه الفرضة في النهر وهي الثلمة تكون فيه «1» يقال معناها بالفراض والفرض، والفرض الجز الذي يكون في الشباك يشد فيه الخيط، والفريض في القوس الجز الذي يشد فيه الوتر، والفريضة في سائر ما افترض الله عز وجل. ما أمر به العباد وجعله أمرا حتما عليهم قاطعا وقوله وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً «2» يعني لهن قطعة من المال. وقد فرضت للرجل أي جعلت له قطعة من المال. قول الشاعر: إذ أكلت سمكا وفرضا ... ذهبت طولا وذهبت عرضا «3» فالفرض هاهنا التمر، وقد سمي التمر فرضا لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة. ثم قال إبليس وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [بمعنى هؤلاء] «4» وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أنّه لا جنة، ولا نار، ولا بعث. وقال بعضهم: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أي ألقي في قلوبهم [الهيمنة] وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ. قال ابن عباس عن الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير: يعني دين الله نظير قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ أي لدين الله. وقال عكرمة وقوم من المفسرين: معناه: فلنغيرنّ خلق الله [بالخضاب] والوشم وقطع الآذان وفقء العيون.
قال أهل المعاني: معنى قوله (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) إن الله خلق الانعام لتركبوها وتأكلوها فحرموها على أنفسهم، وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون فغيروا خلق الله وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا أي ربّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فيطيعوه فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ إلا يلقون خيرا وَيُمَنِّيهِمْ الفقر ألّا ينفقون في خير ولا يصلون رحما، فقال يُمَنِّيهِمْ ان لا بعث ولا جنة ولا نار وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي باطلا أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ يعني مصيرهم جهنم وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي منعا قال عوف: بلغني من المؤمن بكيده من الشيطان بأكثر من مضر لو أبدلهم الله له لمات، وإن قيل خبرونا عن قول إبليس لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً «1» كيف علم ذلك؟ يقال: قد قيل في هذا أجوبة، منها: إن قالوا إنّ الله تبارك وتعالى كان خاطبه بقوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» فعلم إبليس انه ينال من ذرية آدم ما يتمناه. ومنها: ان قالوا إنه لما وسوس لآدم نال منه ما نال، طمع في ولده ولم ينل من آدم جميع ما يتمناه من الغواية فكذلك طمع في بعض ولده وأيس من جميعهم. ومنها ان قالوا ان إبليس قد عاين الجنة والنار وعلم ان الله خلقهما لأن يسكنهما من الناس والشيطان، فعلى هذا التأويل قال لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً «3» وإن قيل: لخبرونا عن إضلال الشيطان هل إليه نجح فعله وإنفاذ أمره أم لا؟ يقال له: معنى إضلاله الدعاء إلى الضلالة والتزين له ولو كانت الضلالة إليه لأضل الخلق جميعا ولذلك منّ به أباهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت الغرف والمساكن خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي وهذا لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. قال قتادة والضحاك: إن المسلمين وأهل الكتاب تناظروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابكم، ونحن أولى بالله منكم، فقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا [يفي] على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله تعالى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية. وقال مجاهد: قالت قريش: لا نبعث ولا نحاسب. وقال أهل الكتاب لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «4» فأنزل الله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
واسم ليس مضمر المعنى لَيْسَ ثواب الله بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ لا ينفعه يمينه وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لمّا نزلت هذه الآية شقّت على المسلمين مشقّة شديدة، وقالوا: يا رسول الله وأيّنا لم يعمل سوءا غيرك وكيف الجزاء؟ فقال: «منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات، ومن يجازي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات، فويل لمن غلب إحداه عشراه. وأما ما كان جزاءه في الآخرة فإنه يؤخر إلى يوم القيامة فيقابل بين حسناته وسيئاته، وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة، فيعطى كل ذي عمل فضله» «1» [383] . وروى إسماعيل عن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير عن أبي بكر الصديق قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أية آية؟» فقال يقول الله لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال: ما علمنا جزينا فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد هلك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تغب ألست يصبك القرف» قال: بلى، قال: «فهو ما يجزون به» «2» [384] . وعن عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية في سورة النساء مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بكر ألا اقرئك آية نزلت عليّ؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «فاقرأنيها فلا أعلم أني وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطّيت لها» فقال: «مالك يا أبا بكر» . فقلت: بأبي أنت وأمّي، وأينا لم يعمل سوءا وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون ذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب» . وأما الآخرون فتجمع ذنوبهم حتى يجزوا يوم القيامة «3» [385] . وقال عطاء: لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ. [قال أبو بكر: يا رسول الله ما أشدّ هذه الآية! قال: «يا أبا بكر إنّك تمرض، وإنّك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك» ، وقال عطاء] :
قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر يا رسول الله، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما هي المصيبات في الدنيا» «1» [386] . وروى عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قلت: إني لأعلم أي آية من كتاب الله نزلت ببعض مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ. قال: إن المؤمن يجازى بأسوإ عمله في الدنيا ثم ذكر أشياء منه المرض والنصب وكان آخرون يذكر نصبه إليك كله كل يجازي بعمله، يا عائشة ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يعذب قالت: فقلت: أليس يقول الله تعالى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: ما ذلك [العرض] إنه من نوقش في العذاب عذب فقال بيده: على المصيبة كان ينكث. وروى ابن ميثم بن يزيد عن عبد الله بن الأرقم قال عن أبي هريرة يقول: لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ بكينا وحزنّا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء، قال: «أما المذنب فمن يده إنها لكم أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسدّدوا إلّا أنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا كفّر الله به خطيئة حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه» «2» [387] . وقال الحسن: في قوله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال: هو الكافر، لا يجزي الله المؤمن يوم القيامة، ولكن المؤمن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته. ثم قرأ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ «3» الآية، وقرأ أيضا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ «4» . قال الثعلبي: وقلت: لولا السيئة لأتي [الجزاء] في الكفار. لقوله في سياق الآية وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ومن لم يكن له في القيامة نصير ولا ولي كان كافرا فإن الله عز وجل قد ضمن بنصرة المؤمنين في الدارين بقوله إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا «5» الآية. ولكن الخطاب متى ورد مجملا وبيّن الرسول [ذلك على] لسانه إذ البيان إليه قال الله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ وأنزل إليهم ثم بين الله تعالى فضل المؤمنين على مخالفيهم فقال وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً الآية يعني تكون في ظهر النواة. عن مسروق قال: لما نزلت هذه الآية لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ
قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء حتى نزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ونزل فيهم أيضا وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً [قد علم ربّنا] مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: يعني أخلص لله عمله، وقيل: فوّض أمره إلى الله، وقيل: مفلح وَهُوَ مُحْسِنٌ أي موحد وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني دين إبراهيم حَنِيفاً مسلما مخلصا. قال ابن عباس: ومن دين إبراهيم الكعبة والصلاة ويطوفون بها وحولها والسعي بين الصفا والمروة ورمى الجمرات وحلق الرأس والموقفان، وسائر المناسك فمن صلّى نحو القبلة وأقرّ بهذه الصفة فقد اتبع ابراهيم (عليه السلام) وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، في قوله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا صفيا وخليلا من [قولهم] : أبا الضيفان يضيف من مرّ به من الناس، وكان منزله على ظهر الطريق، فأصاب الناس سنة وجهدوا عنها واجتمعوا على باب داره يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى ذلك الخليل فسأله الميرة. قال خليله لغلمانه: لو كان إبراهيم إنّما يريده لنفسه احتملنا ذلك له فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رسل إبراهيم إليه فمروا بالبطحاء يعني السهلة، فقالوا: لو انا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس إنا قد جئنا بميرة، إنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة، قال: فملأوا تلك الغرائر سهلة ثم إبراهيم (عليه السلام) وساره نائمة، فأعلموا ذلك، واهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة، وقد ارتفع النهار، فقالت: سبحان الله ما جاء الغلمان فقالوا لها: بلى قالت: فما جاءوا بشيء، قالوا: بلى، فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حواري يكون فأمرت الخبازين فخبزوا وطعموا، قال: فلمّا استيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام، فقال: يا سارة من أين هذا الطعام؟ قالت: من عند خليلك المصري؟ قال: هذا من عند خليلي الله، لا من عند خليلي المصري. قال: فيومئذ اتخذه الله خليلا مصافيا «1» . وقال الزجاج: الخليل الذي ليس في محبته خلل فجائز أن يكون سمي خليل الله بانه الذي أحبه واصطفاه بالجنة تامة. وجائز أن يسمّى خليل الله أي فقير إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلّا إلى الله مخلصا في ذلك.
[سورة النساء (4) : الآيات 127 إلى 130]
قال الله أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ لإن معنى الخليل في اللغة. قد قيل: هو الفقير. قال زهير يمدح حرم بن سنان: فإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم والخلة: الصداقة، والخلة: [الحاجة] ، فإذا جعلنا اشتقاق الخليل من الخلة فهو الإخلال الذي يلحق الإنسان فيما يحتاج إليه، وإن جعلنا من الخلة فهو أصل الصداقة ومعناهما جميعا واحد لأن كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في المودة والحاجة إليه. والخلل: كل فرجة يقع في شيء، والخلال الذي يتخلل به، وإنما سمي خلالا لأنه منع به الخلل من الأسنان، والخل: الطريق في الرمل، معناه إنه انفرجت فيه فرجة، فصارت طريقا في الأرض والخلّ الذي يؤكل إنما سمي خلا لأنه أخل منه طعم الحلاوة وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي لبساطة عمله لجميع الأشياء. [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في بنات أم كحه وميراثهن من أمّهن، وقد مضت هذه القصة في أول السورة. معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: كان الرجل بالجاهلية يكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرّم الله تعالى ذلك ونهى عنه وأنزل هذه الآية. مجاهد والضحاك وقتادة وإبراهيم: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان شيئا، وكانت المرأة تكون دميمة في الجاهلية، دميمة ولها مال فيكره وليّها أن يتزوجها من أجل دمامتها، ويكره أن يزوّجها غيره من أجل مالها، وكان وليّها لا يتزوجها ويحبسها عنده حتى تموت، ويرثها.
سعيد بن جبير: كان وليّ اليتيمة إذا كانت ذات مال وجمال، رغب فيها ونكحها واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال لم ينكحها ولم ينكّحها فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعن عبد الله بن عبيدة قال: جاءت امرأة من الأنصار يقال لها خولة بنت حكيم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول إن أخي توفّي وترك بنات وليس عندهن من الحسن ما يرغب فيهن الرجال ولا يقسم لهن من ميراث أبيهنّ شيئا فنزلت فيها. وَيَسْتَفْتُونَكَ أي يستخبرونك فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ يخبركم فِيهِنَّ وَما يُتْلى أي والذي يقرأ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أي في القرآن، وموضع ما رفع معناه قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ويفتيكم أيضا فيهن، ويجوز أن يكون في موضع الخفض، فيكون معناه قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى بينكم، وهو بعيد لأن الظاهر لا يعطف على المضمر، وجه الرفع أبين لأن ما يتلى في الكتاب ويتلى بين ما سألوه عنه معنى، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ في كتابه يفتيكم فيهن وهو قوله وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية وقوله فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ أي لا تعطونهن ما كُتِبَ لَهُنَّ يعني فرض لهن من الميراث وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي وترغبون عن نكاحهن لملكهن، وقيل: ترغبون في نكاحهن لمالهن وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ يعني الصغار من الصبيان وهو في موضع الخفض والمعنى: قل الله يفتيكم فيهن والمستضعفين وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب إنّ آخر آية كانت (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) وآخر سورة براءة وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً نزلت في عمرة ويقال خويلة بنت محمد بن سلمة في زوجها رافع بن الرفيع ويقال رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلمّا أدبرت وعلاها يعني تزوج عليها امرأة شابة وآثر عليها وحفا ابنه محمد بن سلمة وأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشكت إليه، فنزلت فيها هذه الآية هذا قول: الكلبي وجماعة المفسرين، وقال سعيد بن جبير: كان رجل وله امرأة قد كبرت وكان له منها أولاد فأراد أن يطلقها، ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني أقوم على ولدي وأقسم لي في كل شهرين إن شئت أو أكثر وإن شئت فلا تقسم لي، فقال: إن كان يمنع ذلك فهو أحبّ إليّ، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له ذلك، فقال: قد سمع الله ما تقول فإن شاء أجابك فأنزل الله عز وجل وَإِنِ (امْرَأَةٌ) خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً أي علمت من زوجها نشوزا يعني بغضا. قال الكلبي: يعني ترك مجامعتها ومضاجعتها أو إعراضا عن مساكنتها، وعن مجالستها وعن محادثتها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني على الزوج والمرأة أَنْ يُصْلِحا أي يستصلحا بَيْنَهُما صُلْحاً أي في القسمة والنفقة وهو أن يقول لها: إنك امرأة دميمة وقد دخلت في العنّ وأريد أن أتزوج عليك امرأة شابّة جميلة، فيؤثرها في القسمة عليها لشبابها، فإن رضيت بهذا فأقيمي، وإن كرهت خلّيت سبيلك، فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولا يعسر عليّ ذلك،
وإن لم ترض [أعطيت] حقّها، فالواجب على الزوج أن يوفّيها حقّها من المقام والنفقة أو يسرّحها بإحسان ولا يحبسها على الخسف «1» ، وإن يقام عليها وفّاها حقّها مع كراهيته صحبتها، فهو المحسن الذي مدحه الله وأخبره انه عالم بصنيعه ومجازيه على فعله ولا يجبر الرجل على وطء واحدة لأنه هو الزوج وهو حظه وإذا تركه لم يجبر عليه وليس هو كالمقام والنفقة. وقوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ يعني إقامتها بعد تخييره إياها ومصالحتها على شيء معلوم في المقام والنفقة، وهكذا فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع زوجته ومكثت معه وذلك أنها كانت امرأة كبيرة فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يسرحها فطلبت إليه أن لا يفعل وقالت: إنّي أحبّ أن أبعث في نسائك يوم القيامة، ألا فإنّ يومي وليلتي لعائشة «2» . وقال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : في قوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ قال: المرأة تكون عند الرجل فتكون صغيرة أو كبيرة أو لا يحبّها زوجها، فيصطلحان على صلح. وقال سعيد بن جبير: فهو أن يتراضيا على شيء معلوم في نفسه وماله. قال الضحاك: الصلح أن ينقصها من حقها إذا تزوج أشبّ منها وأعجب إليه «3» . وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية: فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوّج عليها الشابة، فيقول للمرأة الكبيرة: أعطيك من زماني نصيبا على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار وترضى الأخرى بما اصطلحا عليه فإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما على القسمة. وروى إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن سليمان بن يسار عن ابن عباس: في قوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ «4» . قال: المرأة الكبيرة الدميمة تكون عند الرجل يريد طلاقها والاستبدال بها [فصالحها] هذه على بعض حقها من القسمة والنفقة، فذلك جائز بعد ما رضيت، فإن أنكرت بعد الصلح، فذلك لها، ولها حقّها، أمسك أو طلق. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي المرأة تكون عند الرجل وله امرأة غيرها أحبّ إليه منها فيؤثرها عليها، فأمر الله تعالى إذا كان ذلك أن يقول لها: يا هذه إن شئت أن تقيمي على ما ترين من هذه فآويك وأنفق عليك فأقيمي، وأن كرهت خليت سبيلك، فإن هي رضيت أن تقيم بعد ان خيّرها فلا جناح عليه وهو قوله (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) وهو التخيير.
حكم الآية
وروى إسرائيل عن سماك بن حرب عن خلد بن عرعرة قال: سأل رجل عليا عن قوله عز وجل وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً الآية قال: تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر فتفتدي منه تكره فرقته، وإن أعطته من ماله فهو حل له أو أعطته من أثاثها فهو حل له وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ يقول: شحت المرأة نصيبها من زوجها وشح الرجل نصيبه من الأخرى. قال ابن عباس: والشح هو في الشيء يحرص عليه وَإِنْ تُحْسِنُوا يعني تصلحوا بينهما بالسوية وَتَتَّقُوا الجور والميل. وقيل: هذا الخطاب للزوج يعني: وَإِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة عليها، مع كراهتكم لصحبتهما وَتَتَّقُوا ظلمها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيخبركم بأعمالكم. وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يقول: لن تقدروا ان تسوّوا بينهن في الحب وَلَوْ حَرَصْتُمْ على العدل فَلا تَمِيلُوا إلى الشابة الجميلة التي تحبّونها كُلَّ الْمَيْلِ في النفقة والقسمة والإقبال عليها (وتدّعوا الأخرى كَالْمُعَلَّقَةِ) أي كالمنوطة لا أيمّا ولا ذات متاع. قتادة والكلبي: كَالْمُعَلَّقَةِ كالمحبوسة وهي في امرأة أبيّ بن كعب كأنها مسجونة. وقال مجاهد: لن تستطيعوا العدل بينهن فلا يتعمدوا [ذلك] . وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اللهم أما قلبي فلا أملك وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل. وَإِنْ تُصْلِحُوا بالعدل في القسمة بينهن وَتَتَّقُوا الجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً بما قلت إلى التي تحبّها بقلبك بعد العدل في القسمة وَإِنْ يَتَفَرَّقا يعني عن المرأة بالطلاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ أي من النفقة يعني المرأة بزوج والزوج بامرأة. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً لهما في النكاح حَكِيماً يمكن للزوج إمساكا بمعروف أو تسريحا بإحسان. حكم الآية علم أن الله عز وجل الرأفة بالعباد وعلمه بأحوالهم فنبّههم على نحو وجب عليهم من حقوق النساء ونهاهم عن الميل في أفعالهم إذا لم يكن لهم سبيل إلى التسوية بينهن في المحبة ومتى جمع العبد من الفعل لمال عنه إلى واحدة بعينها دون غيرها كان ذلك جورا، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقسم ويقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك وليس أحكم [فيما لا يملك] » [388] «1» .
ذكر استدلال من استدل من هذه الآية على تكليف ما لا يطاق
يعني به قلبه، وكان يطوف به على نسائه في مرضه حتى حلّلته [نساءه] «1» فأقام عند عائشة ، وعماد القسم الليل، لأنه يسكن فيه قال الله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ «2» فمتى كان عند الرجل حرائر مسلمات وذمّيات فهو في القسم سواء ويقسم للحرّة ليلتين، وللأمة ليلة إذا خلى المولى بينه وبينها في ليلتها ويومها، وللأمة أن تحلله من قسمها دون المولى لأنه حقها في خاصة نفسها ولا يجامع المرأة في غير يومها، ولا لرجل أن يدخل في الليل على التي لم يقسم لها، ولا بأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجة ويعودها في مرضها في ليلة غيرها، فإن ثقلت فلا بأس أن يقيم حتى تخف أو تموت ثمّ يوفي من بقي من نسائه مثل ما بقي عندها، وإن أراد أن يقسم بين ليلتين ليلتين أو ثلاثا كان له ذلك «3» . ذكر استدلال من استدل من هذه الآية على تكليف ما لا يطاق قالوا: قال الله عز وجل وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فأمرهم الله عز وجل أن يعدلوا، وأخبر أنهم لا يستطيعون أن يعدلوا فقد أمرهم بما لا يستطيعون وكلفهم مالا يطيقون. إن قال قائل: هل كلف الله الكفار ما لا يطيقون؟ قيل له: إن أردت أنه كلفهم ما لا يطيقون لعجز حائل وآفة مانعة، فلا، لأنه قد صحح أبدانهم وأكمل نطقهم وأوجدهم [في الأرض] «4» ودفع عنهم العلل والآفات، وإن أردت أنه كلّفهم ما لا يقدرون عليه بتركهم له واشتغالهم بضدّه، فقد كلفهم ذلك. فإن قالوا: أفيقدر الكافر لا يتشاغل للكفر؟ قيل لهم: إن معنى لا يتشاغل بالكفر هو أن تؤمن فكأنكم قلتم: يقدر ان يؤمن وهو مقيم على كفره فقد قلنا إنه مادام مشغولا بكفر ليس بقادر على الإيمان على ما جوزت اللغة من أن الإنسان قادر على الفعل بمعنى أنه إن لم يفرط فأثر فيه- كما قالوا- فلان يقدر على رجل يعني يقدر عليه لو رامه وقصد إلى حمله، نضير قولهم: فلان يفهم أي إنه يفهم الشيء، إذا أورد عليه، وكذلك يقولون: الطعام مشبع، والماء مروي، ويعني في ذلك أن الطعام يشبع إذا أكل. والماء يروي إذا شرب. والذي يوضح ذلك ما يتداوله الناس بينهم من قول الرجل: قم معي في حال كذا،
[سورة النساء (4) : الآيات 131 إلى 135]
والجواب: لا أقدر على المجيء معك لما أنا فيه من الشغل، وقد قال الله تعالى ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «1» يعني القبول لاستثقالهم إيّاه، ومن المشتبه من [قال:] وهل يقدر الكافر على الإيمان؟ يقول: إن اراده كان قادرا عليه، فإذا قال له: فيقدر أن يريده؟ قال: إن كره الكفر، وإذا قيل له: هل يقدر على الكفر؟ قال: يقدر على ذلك إن أراد الإيمان، فكلّما كرّر عليه السؤال كرّر هذا الجواب. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لها مالكا. [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 135] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة على الإسلام وَإِيَّاكُمْ يا أهل القرآن في كتابكم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي وحّدوا الله وأطيعوه ولا تشركوا به شيئا وَإِنْ تَكْفُرُوا بما أوصاكم الله به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعنى فإن لله ملائكة هم أطوع له منكم وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن جميع خلقه غير محتاج إلى شيء ممّا في أيديهم. وحقيقية الغنيّ عند أصحاب الصفات من له غنى. والغنى هو القدرة على ما يريد، والغنيّ القادر على ما يريد، ثم ينظر فإن كان قادرا على [وصف] الحاجة عليه وسمناه بذلك، وإن كان الوصف بالحاجة عليه لم يصفه به، والفقر العجز عن ذلك وعدمه. وإلى هذا ذهب [المعتزلة] . وقال الجبائي: إن معنى الوصف لله بأنه غني هو أنّه لا تصل إليه المنافع والمضار، ولا يجوز عليه اللذات والسرور والآلام، والأول أصوب بذلك في الشاهد والغائب، وإطلاق المسلمين بعضهم لبعض إنه غني وفقير، والله اعلم. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
الضحاك عن ابن عباس: يعني دافعا مجيرا. عكرمة عن ابن عباس: يعني شهيدا إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فيميتكم يعني الكفار وَيَأْتِ بِآخَرِينَ يعنى بغيركم خيرا منكم وأطوع وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً أي مستطيعا على ذلك. القادر والقدير عند أصحاب الصفات من له قدرة قائمة به بائن بها عن العاجز ثم يختلف القادرون بعد ذلك فمنهم من تكون قدرته حالّة في بعضه، ومنهم من تكون قدرته غير موصوفة بالحلول، والقدرة هي التي يكون بها الفعل من غير ان يموت بموته ولا يموت ويعود للعجز معها. قالت المعتزلة: القادر هو الذي يجوز منه الفعل، والدليل على صحة ما قال أصحاب الصفات إن القادر رأيناه مخالفا للمعاجز فيما قدر عليه وقد بطل أن يخالفه من أجل إنه صفة لموصوف يخالف سائر الموصوفين بها أو يخالف من أجل إنه محدث به خلاف العاجز فلما يتعلق هذه الأقسام صح إنه إنما يخالفه لأن له قدرة ليست للعاجز فلذلك قلنا إن القديم جل جلاله قادر بقدرة دون أن يكون قادر بنفسه. مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. يقول: من كان يريد بعمله الذي فرضه الله [بقدرته] عرضا من الدنيا ولا يريد به الله أثابه الله عليه ما أحب الله من عرض الدنيا أو دفع عنه فيها ما أحب الله، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله، ومن أراد بعمله الذي افترضه الله عز وجل عليه في الدنيا ثواب الآخرة أثابه الله عليه من عرض الدنيا ما أحب الله ودفع عنه ما أحب الله وجزاه في الآخرة الجنة بعمله. وروى سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نيّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نيته، وليس من مؤمن يعمل عملا إلّا صار في قلبه صورتان» «1» [389] . فإن كانت الأولى لله فلا يهده الآخرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ الآية يعني كونوا قوامين بالشهادة ويعني بالقسط العدل. قال ابن عباس: معناه: كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كانت وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ في الرحم فأقيموها عليهم لله تعالى، ولا تحابوا غنيا لغناه، ولا ترحموا
مسألة في اللغة
فقيرا لفقره فذلك قوله تعالى إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما منكم فهو يتولى ذلك منهم فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا يعني أن تتركوا الحق وتتبرأوا. قال الفراء: ويقال معناه: لا تتبعوا الذنوب لتعدلوا كما يقال: لا تتبعن هواك ليرضى عنك أي أنهاك عن هذا كيما يرضى ربّك. ويقال: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى فرارا من إقامة الشهادة وَإِنْ تَلْوُوا باللسان فتحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق أَوْ تُعْرِضُوا عنها فتكتمونها ولا تقيمونها عند الحكام فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من إقامتها وكتمانها خَبِيراً ويقال: معناه: وَإِنْ تَلْوُوا أي تدافعوا في إقامة الشهادة، يقال: لويت حقّه أي دافعته وبطلته. وقال ابن عباس: هذه الآية في [القاضي] وليّه شدقه وإعراضه عن أحد الخصمين. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند نزول هذه الآية: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فليقم شهادته على ما كانت، ومَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يجحد حقّا هو عليه، وليؤدّه عفوا، ولا يلجئه إلى سلطان [ليأخذ] «1» بها حقه، وأما رجل خاصم إليّ فقضيت له إلى أخيه بحق ليس هو له عليه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من جهنم» «2» [390] . مسألة في اللغة قال أهل المعاني: معنى القسط العدل، يقال أقسط الرجل يقسط إقساطا إذا عدل وقسط يقسط قسوطا إذ جار. قال الله تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «3» وقال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً. ويقال: قسط البعير يقسط قسطا إذا يبست يده، ويد قسطا أي يابسة، فكان أقسط معناه أقام الشيء على حقيقته في العدل، وكان معنى قسط أي [خيار] أي يبس الشيء وأفسد جهته المستقيمة. [سورة النساء (4) : الآيات 136 الى 141] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس بن كعب وسلام ابن اخت عبد الله بن سلام، وسلامة بن أخيه ويامين ابن يامين، فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب. أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك، وبموسى والتوراة، وعزيز ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله» «1» [391] فقالوا: لا نفعل، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ يعني الكتب المتقدمة التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المتقدمة وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ إلى قوله ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يعني خطأ خطأ بعيدا، فلما نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله فإنّا نؤمن بالله ورسوله وبالقرآن وبكلّ رسول وكتاب كان قبل القرآن والملائكة واليوم الآخر لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كما فعلت اليهود والنصارى، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فدخلوا في الإسلام. وقال الضحاك: هي في اليهود والنصارى، ومعنى الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمَنُوا بمحمد والقرآن. وقيل: إنه ورد في اليهود خاصة، والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في وجه النهار آمَنُوا في آخر النهار، وذلك قوله تعالى وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ الآية. وقال [أبو العالية] وجمع من المفسرين: هذه الآية خطاب للمؤمنين وتأويله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا أي أقيموا واثبتوا على الإيمان، وكقوله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) أي اثبت على ما أنت عليه وكقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ «2»
ومعناه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الذين هم في هذه القصة مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً، ويقال في الكلام للقائم: قم، وللقاعد: أقعد، والمراد منه الاستدامة. ويقال: أنها خطاب للمنافقين الذين أصروا التكذيب ومعناها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الملأ آمَنُوا في الخلاء، وقال آخرون: المراد منه الكفار يعني: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللات والعزى والطاغوت آمِنُوا بِاللَّهِ، ومعناه: إن كان لا بد للإيمان يعني فالإيمان بالله تعالى ورسله والكتب أحق وأولى من الإيمان بما لا يضر ولا ينفع ولا ينفق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت، والله أعلم. ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بموسى ثُمَّ كَفَرُوا بموسى ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا بعد عزير بالمسيح وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى بن مريم ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمد وبما جاء به. قتادة: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثُمَّ كَفَرُوا وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت وكفرهم هو [تكذيبهم] إياه، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالقرآن وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم وقال مجاهد: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً أي ماتوا عليه لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ ما أقاموا على ذلك وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا سبيل هدى. وقال ابن عباس: يدخل في هذه الآية كل منافق كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال نحو ذكر ما في هذه الآية من الكلام على أهل القدر. يقال لأهل القدر: خبرونا عن الكفار هل هداهم الله عز وجل إلى الإسلام؟ فإن قالوا: نعم. قيل كيف يجوز أن يقال إن الله هداهم وقد قال الله تعالى وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا؟ قيل: ومعناه إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة يقال لهم كيف يهديه إلى طريق الجنة وقد هداه عندك لأن من أصلك إن العبد إنما يدخل الجنة فمعناه أنه يدخل الجنّة لفعله ويدخل النار بفعله، وقد هداه إلى طريق الجنة بهدايته إلى الإسلام فكيف يصح هذا التأويل على أصلك؟ واعلم أنهم إذا ألزمهم الشيء، فقالوا في التأويل، فإذا فحصت عن تأويلهم بان لك فساد قولهم. واعلم إن الله عز وجل قد بيّن لك إنه لا يهديهم سبيلا ليعلم العبد إنما يقال هدي بالله عز وجل ويحرم الهدى بإراده الله عز وجل ثم لا يكون لهم عاذر بنفي الهدى عنهم، ولا مزيلا للحجة بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ نبّئهم يا محمّد بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. قال الزجاج: بَشِّرِ أي اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب الأليم، والعرب تقول: تحيتك الضرب، وعتابك السيف، أي تضع الضرب موضع التحية [والسيف موضع العتاب] «1» .
وقال الشاعر: وخيل قد دلفت «1» لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجمع «2» ثم وصف المنافقين فقال الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أنصارا وبطانة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ يعني الرفد والمعونة والظهور على محمّد وأصحابه. وقال الزجاج: العزة يعني المنعة والشدة والغلبة مأخوذ من قولهم: أرض عزاز أي صلبة لا يفيد عليها شيء ويقال: استعز على المريض اشتد وجعه، وقولهم يعز عليّ أي يشتد، وقولهم إذا عز الشيء لم يوجد فتأويله قد اشتد وجود وصف إن وجد فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي القدرة لله جميعا وهو سيد الأرباب. ثم قال وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين بمكة فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد وأصحابه والقرآن. وذلك إن المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيستهزءون بالقرآن ويكذبون به ويحرفونه عن مواضعه فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم ومخالطتهم، والذي نزل في الكتاب قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ «3» الآية. الضحاك عن ابن عباس: ودخل في هذه الآية كل محدث في الدين، وكل مبتدع إلى يوم القيامة. الكلبي عن أبي صالح: صح هذا القول بقوله عز وجل وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك والاستهزاء مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى أي ذكروهم وعظوهم بالقرآن لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الاستهزاء بمحمّد والقرآن إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إذا قعدتم عندهم فأنتم إذا مثلهم إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أي ينتظرون بكم الدوائر يعني المنافقين فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ يعني النصر والغنيمة قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دينكم فأعطونا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ يعني دولة وظهورا على المسلمين قالُوا يعني المنافقين أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ألم نخبركم بعزيمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ونطلعكم على سرّهم. وقال أهل اللغة: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ويغلب عليكم قال: استحوذ أي غلب. وفي الحديث كان عمر أحوذنا أي غالب أمرنا في الحق. وقال العجّاج: يحوذهن وله حوذي. ... [كما يحوذ الفئة] الكميّ «4» .
[سورة النساء (4) : الآيات 142 إلى 147]
الكميّ. أي يغلب عليها ويجمعها، ويروى بالزاي فيهما. وقال النحويون: اسْتَحْوَذَ خرج على الأصل «1» ، فمن قال: حاذ يحوذ لم يقل إلّا استحاذ يستحذ وإن كان أحوذ يحوذ كما قال بعضهم: أحوذت [وأطّيبت] بمعنى أحذت وأطبت. قال اسْتَحْوَذَ استخرجه على الأصل وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ونمنعكم منازلة المؤمنين فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بين أهل الإيمان وأهل النفاق ثم يفصل بينهم وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. عكرمة والضحاك عن ابن عباس يعني حجة. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يعني أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم سَبِيلًا يعني ظهورا عليهم. وقال علي (رضي الله عنه) : وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في الآخرة ، وفي هذه الآية دليل على أن المنافق ليس بمؤمن وليس الإيمان هو الإقرار فقط، إذ لو كان الإيمان هو الإقرار لكانوا بذلك هم مؤمنين. وفيه دليل أيضا على صحة نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن القوم كانوا كاتمين اعتقادهم فأظهر الله عز وجل رسوله على اعتقادهم وكان ذلك حجة له عليهم إذ علموا إنه لا يطلع على ضمائر القلوب إلا البارئ جل وعز. [سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 147] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ قد مرّ تفسيره. وَهُوَ خادِعُهُمْ أي يجازيهم جزاء خداعهم، وذلك أنهم على الصراط يعطون نورا كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا على الصراط [يسلبهم ذلك النور] ويبقى المؤمنون ينظرون بنورهم فينادون المؤمنين انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فيناديهم الملائكة على الصراط ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «2» وقد علموا أنهم لا يستطيعون الرجوع [فيشفق] المؤمنون حينئذ من نورهم أن
يطفئ «1» فيقولون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «2» وَإِذا قامُوا يعني [تهيّأوا] إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يعني متثاقلين، يعني لا يريدون بها [وجه] الله فإن رآهم أحد صلّوا وإلّا انصرفوا ولم يصلّوا يُراؤُنَ النَّاسَ يعني المؤمنين بالصلاة وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ابن عباس والحسن: إنما قال ذلك لأنهم يصلونها رياء وسمعة ولو كانوا يريدون بذلك وجه الله عز وجل لكان ذلك كثيرا. قتادة: إنما قلّ ذكر المنافقين لأن الله عز وجل لم يقبله وكما ذكر الله قليل وكلما قبل الله كثير مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ أي مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمسلمين، فليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار فلا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. [القاسم بن طهمان] عن قتادة: ما هم بمؤمنين مخلصين ولا بمشركين مصرحين بالشرك وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي طريقا إلى الهدى. وذكر لنا ان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم كان يضرب مثلا للمؤمن والمنافق والكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك وناداه المؤمن هلمّ إلي فأن عندي الهدى وكفى له ما عنده، فما زال المنافق يتردد منهما حتّى أتى على أذى فعرفه فإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. وروى عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما مثل المنافق مثل الشاة العائرة من الغنمين يبدي إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا يدري أيهما يتبع» «3» [392] . ثم ذكر المؤمنين ونهاهم عن الإتيان بما أتى المنافقون. فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً ثم ذكر منازل المنافقين فقال: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ يعني في أسفل برج من النار، والدرك والدرك لغتان مثل الطعن والطعن والنهر والنهر واليبس واليبس. قال عبد الله بن مسعود: الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ توابيت مقفلة في النار تطبق عليهم وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [عونا] .
عن عوف عن أبي المغيرة القواس عن عبد الله بن عمر قال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون «1» . قال الثعلبي: وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى فأما أصحاب المائدة فقوله عز وجل فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ «2» ، وأما آل فرعون فقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «3» ، وأما المنافقون فقوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «4» . إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من النفاق وَأَصْلَحُوا عملهم وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي وثقوا بالله وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ على دينهم. قال الفراء: مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تفسيره من المؤمنين. قال القتيبي: حاد عن كلامهم غيظا عليهم فقال (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ولم يقل فأولئك هم المؤمنون وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ في الآخرة أَجْراً عَظِيماً وهي الجنة وإنما حذفت الياء من: يؤتي في الخط كما حذف في اللفظ لأن الياء سقطت من اللفظ لسكونها وسكون اللام في الله وكذلك قوله يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ «5» حذفت الياء في [الخط] لهذه العلة وكذلك سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «6» يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ «7» قالوا: والياء هذه حذفت لالتقاء الساكنين. وأما قوله ما كُنَّا نَبْغِ «8» حذفت لأن الكسرة دلت على الياء فحذفت لثقل الياء، وقد قيل حذفت الياء من المناد والدّاع لأنك تقول: داع ومناد حذفت اللام بها كما حذفت قبل دخول الألف واللام. وأما قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ «9» فحذفت الياء لأنها ما بين آية ورؤس الآية يجوز فيها الحذف ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ نعماه وَآمَنْتُمْ به وفي الآية تقديم، وتأخير، تقديرها ما يفعل الله بعذابكم ان آمنتم وشكرتم لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان بالله والله تعالى عرف خلقه بفضله على ان تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه. وتركه عقوبتهم على أفعالهم، لا ينقص من سلطانه وَكانَ اللَّهُ شاكِراً للقليل من أعمالكم عَلِيماً بإضعافها لكم إلى عشرة إلى سبعمائة ضعف. قال أهل اللغة: أصل الشكر إظهار النعمة والتحدث بها. قال الله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ «10» وذكر بعض أهل اللغة إن الشكر مأخوذ من قول العرب لغة شكور إذا كان يظهر
[سورة النساء (4) : الآيات 148 إلى 152]
سمنها على القليل من العلف فكان الله تعالى سمّى نفسه شاكرا إلا أنه يرضى من عباده بالقليل من العبادة، بعد رتبة التوحيد. وقال بعض المعتزلة: إن الوصف لله بأنه شكور وشاكر على جهة المجاز لأن الشكر في الحقيقة هو الاعتراف بنعم المنعم فلما كان القديم تعالى ذكره مجازيا للمطيعين على طاعتهم سمي مجازاته إياهم عليها شكرا على التوسعة، وليس الحمد عنده هو الشكر لأن الحمد ضد [الذم] والشكر ضد الكفر، فيقال له: إن لم يجز أن يكون الباري تعالى شاكرا على الحقيقة لما ذكرته لم يجز أن يكون مثيبا، لأن المثيب من كافى غيره على نعمة [قدمت] إليه ابتداء، [وإلّا لم يجزيه] أن يكون شاكرا في الحقيقة، والشكر من الله تعالى الثواب. ومن العباد الطاعة وحقيقة مقابلة الطاعة بغيرها، فإذا قابلت أوامر الله بطاعتك فقد شكرته وإذا قابلك الله طاعتك بثوابه فقد شكرك عليها. [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 152] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ يعني القول القبيح إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فقد اذن للمظلوم ان ينتصر بالدعاء على ظالمه وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لدعاء المظلوم عَلِيماً بعقاب الظالم، نظير قوله وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «1» مجاهد: هذا في الضيف النازل إذا لم يضيف ومنع حقه أو أساءوا قراه فقد رخص الله له أن يذكر منه ما صنع به، وزعم أن ضيفا نزل بقوم فأساءوا قراه فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو. والضيافة ثلاثة أيام وما فوق ذلك فهو صدقة. وقوله (مَنْ ظُلِمَ) من في محل النصب لأنه استثناء ليس من الأول، وإن شئت جعلت من رفعا فيكون المعنى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيكون من بدلا من معنى أحد والمعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلّا المظلوم، وقرئ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ بفتح الظاء واللام على معنى إن الظالم يجهر بالسوء من القول ظلما واعتداء، ويكون المعنى لكن الظلم الجهر بذلك ظلما ومحل من في مَنْ ظُلِمَ النصب لأنه استثناء من الأول، وفيه
[سورة النساء (4) : الآيات 153 إلى 159]
وجه آخر: وهو أن يكون إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على معنى لكن الظالم جهروا له بالسوء من القول وهو بعد استثناءه من الأول، وموضعه نصب وهو وجه حسن. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً يعني حسنة فتعمل بها كتبت له عشر وإن همّ بها ولم يعمل بها كتبت له حسنة واحدة أَوْ تُخْفُوهُ وقيل الخير ما صفى المال ومعناه ان تبدوا الصدقة والمعروف أو تصدّقوا بسرّ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ عن ظلم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً يعني فإنّ الله عز وجل أولى أن يتجاوز عنكم يوم القيامة عن الذنوب العظام. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية نزلت في اليهود وذلك إنهم آمنوا بموسى وعزيز والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمّد والقرآن وذلك قوله وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي دينا من اليهودية والإسلام، قال الله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ كلهم وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يعني بين الرسل وهم المؤمنون، قالوا: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كما علمهم الله، فقال قُولُوا آمَنَّا- إلى قوله- لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ... أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ بايمانهم بالله وكتبه ورسله وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً كما كان منهم في الشرك. [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ الآية، وذلك إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا قالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيا حقا فأتنا بكتاب من السماء فما أتى به موسى فأنزل الله عز وجل يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يعني السبعين الذين خرج بهم موسى (عليه السلام) إلى الجبل فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً عيانا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ولم نستأصلهم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً الآية.
يعني الآيات التسع وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً قتادة: كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس «1» ، وقيل: إيليا، وقيل: أريحا، وقيل: هي لهم قربة. وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أي لا تظلموا باصطيادكم الحيتان فيها وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً يعني العهد الذي أخذ الله عليهم في الصيد فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فبنقضهم ميثاقهم كقوله فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ «2» ، وعَمَّا قَلِيلٍ «3» وجُنْدٌ ما هُنالِكَ «4» أي فبرحمة وعن قليل، وبجند ما هنالك. وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ تقدير الآية، فنقضهم ميثاقهم وكفرهم وقتالهم وقولهم طبع الله على قلوبهم ولعنهم فَلا يُؤْمِنُونَ بمعنى من ممن كذب الرسل إلّا من طبع الله على قلبه وإن من طبع الله على قلبه، فلا يؤمن أبدا، ثم قال تعالى إِلَّا قَلِيلًا يعني عبد الله بن سلام، وقيل معناه: فلا يؤمنون لا قليلا ولا كثيرا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً حين رموها بالزنا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّ عيسى (عليه السلام) استقبل رهطا من اليهود وقالوا: الفاجر بن الفاجرة والفاعل بن الفاعلة، فقذفوه وأمّه فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم، وقال: اللهم أنت ربي وأنا عبدك من روح نفخت ولم أتّهم من تلقاء نفسي «اللهم فالعن من سبّني وسبّ أمّي» «5» [393] فاستجاب الله دعاءه ومسخ الذين سبّوه وسبّوا أمّه خنازير، فلما رأى رأس اليهود ما جرى بأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته آنفا فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى فاجتمعوا عليه وجعلوا يسألونه فقال لهم: كفرتم وان الله يبغضكم، فغضبوا من مقالته غضبا شديدا وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى جبرئيل، وأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها فصعد به إلى السماء من تلك الروزنة فأمر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل ططيانوس الخوخة لم ير عيسى بداخلها فظنوا إنه يقاتله فيها وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، فلما خرج ظن إنه عيسى فقتلوه وصلبوه. مقاتل: إن اليهود وكّلوا بعيسى رقيب عليه يدور معه حيثما دار فصعد عيسى الجبل، فجاء
الملك فأخذ ضبعيه ورفعه إلى السماء فألقى الله تعالى على الرقيب شبه عيسى، فلما رأوه ظنوا انه عيسى فقتلوه وصلبوه، وكان يقول: أنا لست بعيسى، أنا فلان بن فلان، فلم يصدّقوه فقتلوه. وقال السدّيّ: إنهم حبسوا عيسى مرّتين في بيت فدخل عليهم رجل منهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى ورفع عيسى إلى السماء من كوّة في البيت فدخلوا عليه وقتلوه بعيسى. قتادة: ذكر لنا إن نبي الله عيسى بن مريم قال لأصحابه: أيّكم يقذف عليه شبهي فإنّه مقتول فقال رجل من القوم: أنا يا نبيّ الله فشبّه الرجل ومنع الله تعالى عيسى ورفعه إليه فلما رفعه الله إليه كساه الريش وألبسه النور وحطّ عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة يدور حول العرش وكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا. وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ثم رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وهو [أربع] وثلاثين سنة وكانت نبوته [ثلاثة سنين] . قوله تعالى وَقَوْلِهِمْ يعني اليهود إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ فكذبهم الله تعالى وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ. الكلبي: اختلافهم فيه فاليهود قالت: نحن قتلناه وصلبناه. وقالت طائفة من النصارى: بل نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم: ما قَتَلُوهُ هؤلاء ولا هؤلاء بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [ونحن ننظر إليه] وقال الذين لمّا قتل ططيانوس: ألم تروا إنه قتل وصلب فهذا اختلافهم وشكهم. قال محمد بن مروان: ويقال أنّ الله وضع في شبه من عيسى على وجه ططيانوس ولم يلق عليه شبه جسده وخلقه، فلما قتلوه نظروا إليه، فقالوا: إن الوجه وجه عيسى وإنّما هو ططيانوس، وقد قيل إن الذي شبّه لعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي وكان يقال له إيشوع بن مدين. قال السدي: اختلافهم فيه أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى، قال الله تعالى ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي ما قتلوا عيسى يقينا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. قال الفراء والقتيبي: والهاء في قوله إِلَيْهِ إلى العلم يعني: وما قتلوا العلم يقينا كما يقال قتلته علما وقتلته يقينا للرأي والحديث. وقال المقنع الكندي: كذلك نخبر عنها الغانيات ... [....] «1» فلكم يقينا ويؤيد هذا التأويل ما روى معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَما
قَتَلُوهُ يَقِيناً يعني ما قتلوه ظنهم يقينا وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليه طغرى بن اطسيانوس «1» الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة حَكِيماً حكم عليهم [باللعنة والغضب] . وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال الأستاذ الإمام: معناه وما من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به وتلا قوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي وَما مِنَّا أحد إلّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ. وقوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «2» المعنى: وما منكم أحد إلّا واردها. قال الشاعر: لو قلت ما في قومها لم تيثم «3» ... يفضلها في حسب ومبسم «4» المعنى: ما في قومها أحد يفضلها، ثمّ حذف. عن قتادة والربيع بن انس وابو مالك وابن زيد: هما راجعتان إلى عيسى، المعنى فإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلّا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام، وهو رواية سعيد بن جبير وعطية عن ابن عباس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وروى قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الأنبياء إخوة لعلّات أمهاتهم شتّى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، ويوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فإذا رأيتموه وهو رجل مربوع فلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كان رأسه يقطره وان لم يصبه بلل بين ممصّرتين، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام وتكون السجدة واحدة لله تعالى ويهلك الله في زمانه الرجل الكذاب الدجال يقع الأمنة في الأرض في زمانه حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقرة، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع بعضهم بعضا ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه واقرأوا إن شئتم (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) عيسى بن مريم» «5» [394] رددها أبو هريرة ثلاث مرات.
عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي: الهاء في قوله تعالى (بِهِ) راجعتين إلى عيسى ابن مريم إلى الكتابي الذي يؤمن والمعنى وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أحد إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بعيسى قَبْلَ مَوْتِهِ إذا عاين الملك فلا ينفعه حينئذ إيمانه، لأن كل من نزل عليه الموت يعاين نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه وهذه رواية أبي هريرة عن أبي عليّ عن ابن عباس قالوا: لا يبقى يهودي ولا صاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى، وإن احترق أو غرق أو تردى أو سلط عليه حيتان أو أكله السبع أو أي ميتة كانت «1» . قيل لابن عباس: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقال: أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال: يتلجلج بها لسانه. يدل على صحة هذا التأويل، قراءة أبيّ: قبل موتهم. الكلبي: خرجت من الكوفة حتى أتيت طابت وهي قرية دون واسط فنزلتها فإذا أنا بشهر بن حوشب فتذاكرنا هذه الآية. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ فقال شهر: خرج العطاء والحجاج يومئذ بواسط فأمر بالعطاء فوضع بين يديه فجعل يدعو الرجل فيدفع العطاء بما قال، فدعا باسمي وجئت على فرس لي عجفاء رثّة الهيئة وعليّ ثياب رثّة، فلما رآني الحجاج قال لي: يا شهر مالي أرى ثيابك رثة وفرسك رثة، فقلت: أصلح الله الأمير أما ما ذكرت من فرسي فإني قد اشتريتها ولم آل نفسي خيرا، وأما ما تذكر من الثياب فحسب المؤمن من الثياب ما وارى عورته، فقال: لا ولكنك رجل تكره الخز وتعيب من يلبسه، فقلت: إني لا أكره ذلك ولا أعيب على من يلبسه، قال: فدعا بقطعة له خزّ فأعطانيها فصببتها عليه فلما أردت أن أخرج، قال لي: هلم، فرجعت فقال: آية من كتاب الله تعالى ما قرأتها قط إلّا اختلج في نفسي منها شيء، قلت: أصلح الله الأمير، ما هي؟ فقرأ هذه الآية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فإني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب أعناقهم فما أسمعه يتكلّم بشيء، فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره، وقالت: يا عدوّ الله أتاك عيسى ابن مريم عبدا نبيا فكذبت به، فيقول: إني آمنت به إنه نبي عبد فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه، ويؤتى بالنصراني فيقولون له: يا عدو الله أتاك عيسى عبد نبي فقلت: إنه الله وابن الله، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه. قال شهر: فنظر إليّ الحجاج وقال: من حدثك بهذا الحديث؟ فقلت: محمد بن الحنفية، قال: وكان متكئا فجلس ثم نكث بقضيبه في الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليّ وقال: أخذتها من عين صافية أخذتها من معدنها «2» .
[سورة النساء (4) : الآيات 160 إلى 166]
قال الكلبي: فقلت: يا شهر ما الذي أردت أن تقول: حدثني محمد بن الحنفية وهو يكرهه ويكره ما جاء من قبلهم، قال: أردت أن أغيظه. وقال بعضهم: الهاء في (بِهِ) راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم وفي (مَوْتِهِ) راجعة إلى الكتابي. وهو رواية حماد بن حميد عن عكرمة قال: لا يموت اليهودي ولا النصراني حتى يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل الهاء في (بِهِ) راجعة إلى الله تعالى، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قبل أن يموت عند المعاينة ولا ينفعه إيمانه في وقت البأس وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عيسى عَلَيْهِمْ شَهِيداً بأنّه قد بلّغهم رسالة من ربه وأقرّ له بالعبودية على نفسه، نظير قوله وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ وهو نبي شاهد على أمّته، قال الله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ الآية، وقال تعالى وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً. [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 166] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بالآيات وبهتانهم على مريم وقولهم: إنا قتلنا المسيح. ونظم الآية فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ... وَبِصَدِّهِمْ أي صرفهم أنفسهم وغيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دين الله صدا كبيرا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ مثل الاكل التي كانوا يصيبونها من عوامهم، وما كانوا يأخذونها في ايمان كتبهم التي كتبوها، وقالوا هذه من عند الله، وما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم، كقوله تعالى وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ «1» عاقبناهم بأن حرّمنا عليهم الطيبات وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيئا من الطيبات التي
كانت حلالا لهم، يدلّ عليه قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» ووَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ «2» . نكتة قال لهم: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ وقال لنا: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وقال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً فلم يحرّم علينا شيئا بذنوبنا فكما أمننا من تحريم الطيبات التي ذكر في هذه الآية نرجو أن يؤمننا في الآخرة من العذاب الأليم وقال الله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لأنه جمع بينهما في الذكر. نكتة اطلق في تحريم الطيبات اللفظ في العذاب، لأن التحريم شيء قد مضى له العذاب مستقبل، وقد علم ان منهم من يؤمن فيأمن من العذاب، فقال وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ثمّ استثنى مؤمني أهل الكتاب فقال: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني ليس أهل الكتاب كلّهم كما ذكرنا لكن الراسخون التائبون المناجون، في العلم وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ. واختلفوا في وجه انتصابه. فقالت عائشة وأبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب، ونظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى «3» وقوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «4» وقال بعض النحويين: هو نصب على المدح والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد إذا تطاولت بمدح أو ذم خالفوا من اعراب أوله وأوسطه، نظيره قوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ «5» وقيل: نصب على فعل، تقديره: اعني المقيمين، على معنى: أذكر النازلين وهم الطيبون. وقال قوم: موضعه خفض، واختلفوا في وصفه، قال بعضهم: معناه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ومن الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وقيل معناه: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وإلى الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وقال بعضهم: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الكتاب وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ. ثم اختلفوا فيهم من هم؟ فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المؤمنون، وقيل: مؤمنوا أهل الكتاب وهم الراسخون. قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية، نزلت في اليهود وذلك لما أنزل الله تعالى قوله
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ «1» إلى قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً «2» . لفضحهم وذكر عيوبهم وذنوبهم غضبوا وقالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وأنزل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ جعله الله تعالى ثاني المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في موضعين من كتابه في أهل الميثاق بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ «3» والثاني في الوحي، فقال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ فإن قيل: ما الحكمة في تقديم نوح على سائر الأنبياء وفيهم من هو أفضل منه؟ يقال: لأنه كان أبو البشر قال الله تعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وقيل: لأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول داع ونذير عن الشرك. وقيل: لأنه أول من عذب أمّته لردّهم دعوته وأهلك كل الأرض بدعائه عليهم لأنه كان أطول الأنبياء عمرا. وقيل: إنه كبير الأنبياء، وجعل معجزته في نفسه لأنه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سن ولم تنقص له قوة ولم يشب له شعر. وقيل لأنه لم يبالغ أحد من الأنبياء في الدين ما بالغ نوح ولم يصبر على أذى قوم ما صبر نوح وكان يدعو قومه ليلا ونهارا إعلانا وإسرارا وكان يشتم ويضرب حتى يغمى عليه فإذا فاق دعا وبالغ وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه فيقول له: يا بني احذر هذا فإنه ساحر كذاب. قال الله تعالى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى «4» وقال من عتق عنه [......] «5» يوم القيامة بعد محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل لأن مقامه الشكر قال الله تعالى إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً «6» فكما [......] «7» القرآن فكذلك نوح (عليه السلام) صدر [......] «8» وقال أول من يدعى إلى الجنة الحمّادون لله على كل حال. وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش وحمزة زُبُوراً بضم الزاي بمعنى جمع زبر وزبور كأنه قال: قد كتبنا صحفا من بعده أي مكتوبة، والباقون بفتح الزاي على أنه كتاب داود المسمى زبورا، وكان داود يبرز إلى البرّية فيدعو بالزبور وكان يقوم معه علماء بني إسرائيل فيقومون خلفه. ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس، الأعظم فالأعظم في [فلاة] عظيمة ويقوم [الناس] لهذا الجن الأعظم
فالأعظم وتجيء الدواب التي في الجبال، إذا سمعن صوت داود فيقمن بين يديه تعجبّا لما سمعن منه، وتجيء الطير حتى يظللن داود وسليمان والجن والإنس في كثرة لا يحصيهم إلّا الله عز وجل يرفرفن على رؤسهم ثم تجيء السباع حتى تخالط الدواب والوحش لما سمعن حتى من لم ير ذلك، فقيل له: ذاك انس الطاعة، وهذه وحشة المعصية. وروى طلحة بن يحيى عن أبي بردة أبي موسى عن أبيه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقرآنك، لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود» «1» [395] قلت: أما والله يا رسول الله لو علمت إنّك تسمع قراءتي لحسّنت صوتي وزدته [تحبيرا] . وكان عمر (رضي الله عنه) إذا رآه قال: ذكّرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده. وعن أبي عثمان [النهدي] وكان قد أدرك الجاهلية، قال: ما سمعت [طنبورا ولا صنجا] ولا مزمارا أحسن من صوت أبي موسى وإن كان ليؤمّنا في صلاة الغداة لنودّ أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته «2» «3» حيث نزع حرف الصفة فالمعنى: كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل. وقيل معناه وقصصنا عليك رسلا نصب بعائد الذكر، وفي قراءة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ بمكة في سورة الأنعام لأن هذه السورة مدنية أنزلت من بعد الأنعام وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ سمّى الله تعالى النبيين بهذين الاسمين، فقال: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ «4» ثم سمّى المرسلين خاصة بهذا الإسم، فقال (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ثم سمّى نبينا خاصة بهذين الاسمين، فقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ «5» لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقول: ما أرسلت إلينا رسولا فنتبع وما أنزلت علينا كتابا. وقال في آية أخرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «6» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أحد أغير من الله تعالى» «7» [396] . ولذلك حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ «8» وما [أحسن] إليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه جل
[سورة النساء (4) : الآيات 167 إلى 173]
جلاله وما أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى لذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية. اعلم أن الله تعالى شهد على سبعة أشياء على التوحيد، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «1» والثاني على العدل وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «2» وقال تعالى قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً «3» وقال: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «4» وقال: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «5» والثالث على اعمال العباد فقال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا «6» الآية وقال: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً «7» أي تفيضون فيه وقال: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ «8» ، والرابع على جميع الأشياء فقال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «9» والخامس على كذب المنافقين قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ «10» ، والسادس على شريعة المصطفى فقال عز من قائل قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «11» أي شهيد على القرآن لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الآية. وقال ابن عباس: إن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد أخبرنا أولا عن صفتك ونعتك في كتابهم فزعموا إنهم لا يعرفونك، ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جماعة من اليهود فقال لهم: «إني والله أعلم أنكم تعرفون أني رسول الله» [397] . فقالوا: نعلم، فأنزل الله تعالى إن كذبوك وجحدوك لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً. [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 173] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا يعني اليهود الذين علم الله تعالى منهم إنهم لا يؤمنون لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً يعني دين الإسلام إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ يعني اليهودية خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إلى قوله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا الآية نزلت في النسطورية والماريعقوبية والملكانية والمرقوسية وهم نصارى نجران وذلك إن الماريعقوبية قالوا لعيسى: هو الله، وقالت النسطورية: هو ابن الله، وقالت المرقوسية: هو روح الله، فأنزل الله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني يا أهل الإنجيل وهم النصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تتشددوا في دينكم فتفتروا عليّ بالكذب، وأصل الغلو مجاوزة الحد في كل شيء، يقال: غلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها «1» يغلو بها غلوا وغلاء. خالد المخزومي: خمصانة فلق موشحها ... رؤد الشباب غلا بها عظم «2» وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لا تقولوا أن لله شركاء أو ابنا، ثم بين حال عيسى وصفته فقال إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وهو الممسوح المطهر من الذنوب والأدناس التي تكون في الناس كما يمسح للشيء من الأذى الذي يكون فيه فيطهر، عيسى ابن مريم لا ابن الله بل رسول الله [وعبده قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا] ردّ بهذا على اليهود والنصارى جميعا وَكَلِمَتُهُ يعني قوله: كُنْ، فكان بشرا من غير أب وذلك قوله تعالى كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «3» الآية وقيل: هي بشارة الله مريم بعيسى ورسالته إليها على لسان جبرئيل وذلك قوله تعالى إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ وقال تعالى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ... أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ يعني أعلمها وأخبرها بها كما يقال: ألقيت إليك كلمة حسنة وَرُوحٌ مِنْهُ الآية. قال بعضهم: معناه ونفخة منه وذلك أن جبرئيل نفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، فقال: وَرُوحٌ مِنْهُ لأنه بأمره كان المسيح وربما لأنه ريح يخرج من الروح «4» ، قال ذو الرمة يصف شرر النار التي تسقط من القداحة:
فقلت له ارمها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا «1» واجعل لها قوتا بقدر. يدل عليه قوله تعالى وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها الآية هذا معنى قول عذرتها. وقال أبو عبيدة: إنّه كان إنسانا بإحياء الله عز وجل إياه، يدل عليه قول السدّي وَرُوحٌ مِنْهُ أي مخلوق من عنده، وقيل: معناه ورحمة من الله تعالى، عيسى رحمة لمن شهد وآمن به، يدل عليه قوله في المجادلة وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «2» أي قوّاهم برحمة منه، فدلّ الروح بالوحي أوحى إلى مريم بالبشارة وأوحى إلى مريم بالمسيح وأوحى أنه ابن مريم يدلّ عليه [قوله تعالى: بِرُوحٍ مِنْهُ] يعني بالوحي، وقال في حم المؤمن: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ «3» . وقال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «4» أي وحينا، وقيل: اهدنا بروح جبرئيل فقال: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وألقى إليها أيضا روح منه وهو جبرائيل. يدل عليه قوله في النحل قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ «5» نظيره في الشعراء قال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «6» وقال وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ «7» وقال يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ «8» يعني جبرئيل، وقال فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا «9» الروح الوحي يعني من الإضافة إليه على التخصيص كقوله لآدم (عليه السلام) وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «10» . قال الثعلبي: وسمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: كان لهارون الرشيد غلام نصراني متطبّب وكان أحسن خلق الله وجها وأكملهم أدبا وأجمعهم للخصال التي يتوسل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعا بأن يسلم وهو ممتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني [فيأبى] فقال له ذات يوم: ما لك لا تؤمن؟ قال: لأن في كتابكم حجة على من انتحله، قال وما هو؟ قال: قوله وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ أفغير هذا دين النصارى أن عيسى جزء منه، [فغمّ] قلب الرشيد لذلك فدعا العلماء والفقهاء فلم يكن منهم من يزيل تلك الشبهة حتى قيل: قدم حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو إمام في أهل القرآن، فدعاه وجمع بينه وبين الغلام، فسأل الغلام فأعاد قوله، فاستعجم على علي بن الحسين الوقت جوابه فقال: يا أمير المؤمنين قد علم الله في سابق علمه أن مثل هذا [الحدث] يسألني في مجلسك، وإنه لم
[سورة النساء (4) : الآيات 174 إلى 176]
يخل كتابه من جوابي وليس يحضرني في الوقت لله عليّ أن لا أطعم حتى آتي الذي فيأمن حقها ان شاء الله، فدخل بيتا مظلما، وأغلق عليه بابه [وانشغل] في قراءة القرآن حتى بلغ سورة الجاثية وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فصاح بأعلى صوته: افتحوا الباب فقد وجدت، ففتحوا، ودعا الغلام وقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد، وقال: إن كان قوله (وَرُوحٌ مِنْهُ) توجبان عيسى بعض منه وجب أن يكون ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بعضا منه، فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ووصل علي بن الحسين بصلة فاخرة فلما عاد إلى مرو صنف كتاب «النظائر في القرآن» وهو كتاب لا يوازيه في بابه كتاب. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ قال أبو عبيدة: معناه ولا تقولوا هم ثلاثة. وقال الزجاج: ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وذلك أنهم قالوا: أب وابن وروح القدس، انْتَهُوا عن كفركم خَيْراً لَكُمْ إلى قوله نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وذلك إن وفد نجران قالوا: يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأي شي أقول؟ قال: تقول أنه عبد الله ورسوله، فقال لهم: إنه ليس بعار لعيسى إن يكون عبدا لله. قالوا: بلى، فنزلت نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ الآية. لم يأنف ولم يتعظّم ولم [يختتم] «1» وأصله الأنفة، والتجنب وأصله في اللغة من قولهم نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك. قال الشاعر: فباتوا فلولا ما تذكر عنهم ... من الحلف لم ينكف لعينيك تدمع لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ هم حملة العرش لا يأبون ان يكونوا عبيدا لله، لأن من الكفار من اتخذ الملائكة آلهة فلذلك ذكرهم ثم أوعدهم فقال مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً المستكبر والمقر فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ في [التضعيف] ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن عبادته وَاسْتَكْبَرُوا عن السجود فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ثم قال (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) . [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 176] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى قوله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ. روى محمد بن المنكدر وابو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني هو وأبو بكر فلما غشياني فوجدني قد أغمي عليّ فتوضّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم صبّ عليّ من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي سبع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد؟ قال: فلم يجبني شيئا ثمّ خرج وتركني ثم رجع إليّ وقال: «يا جابر إني لا أراك ميّتا من وجعك هذا وإن الله عز وجل، قد أنزل في أخواتك وجعل لهن الثلثين» «1» [398] ، وقرأ هذه الآية يَسْتَفْتُونَكَ إلى آخرها. وكان جابر يقول: نزلت هذه الآية فيّ «2» . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في جابر وفي أخته أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي أختا فما لي [وما لها] . فنزلت هذه الآية وابتدأ بالرجل، فيقال: إنه مات قبل أخته. سعيد عن قتادة قال: قال بعضهم على الكلالة فقالوا يا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يَسْتَفْتُونَكَ أي يستخبرونك ويسألونك (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) . قال الشعبي: اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة وقال أبو بكر: هو ما عدا الولد، وقال عمر: هو ما عدا الوالد. ثم قال عمر: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر. وقال عمر (رضي الله عنه) : لأن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهنّ لكان أحب إلينا من الدنيا وما فيها، الكلالة والخلافة وأبواب الربا. وقال محمد بن سيرين: نزلت هذه الآية والنبي صلّى الله عليه وسلّم في مسيره إلى حجة الوداع، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان [وإلى جنبه عمر] فبلغها النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى حذيفة وبلغها حذيفة إلى عمر وهو يسير خلف حذيفة، فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له
حذيفة: والله إنك لأحمق أن ظننت أنّ إمارتك تحملني أن أحدّثك فيها ما لم أحدّثك يومئذ لما لقّانيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [والله، لا أزيدك عليها شيئا أبدا] فقال عمر: لم أرد هذا رحمك الله، ثم قال عمر: من كنت بيّنتها له فإنها لم تبين لي وما شهدك أفهمتها له فإني لم أفهمها «1» . وقال طارق بن شهاب: أخذ عمر كتفا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، ثم قال: لأقضينّ في الكلالة قضاء تحدّث به النساء في خدورها فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرّقوا، فقالوا: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمّه. وقال أبو الخير: سأل رجل عتبة عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا، يسألني عن الكلالة [ما شغل] أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء مثل ما شغلت «2» بهم الكلالة «3» . وخطب عمر الناس يوم الجمعة فقال: والله إني ما أدع بعدي شيئا هو أهم من الكلالة، قد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن الناس فيّ وقال: تكفيك الآية التي في آخر سورة النساء «4» ، وقيل لها: آية الصيف لأنها نزلت في الصيف. وقال أبو بكر (رضي الله عنه) في خطبته: ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية في الزوج والزوجة والأخوة منهم، والآية التي ختم بها سورة النساء من ذكر بعضهم.
محتوى الجزء الثالث من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء الثالث من كتاب تفسير الثعلبي سورة آل عمران 5 فصل في الخيل «صفة خلقها» 26 فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 122 ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلّم 140 ذكر سراياه صلى الله عليه وسلّم 140 فصل في إيجاب الحج 157 فصل في التوكل 192 ذكر بعض ما ورد في الأخبار في زيادة الإيمان ونقصانه 211 سورة النساء 241 حكم الكلام في الحجر على السفيه 257 فصل في بسط الآية 265 فصل فيما ورد من الأخبار في الرخص في مغالاة المهر لقوله: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً 277 فصل فيمن كره ذلك، والكلام في أقل المهر 278 فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عدد الكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة 297 حكم هذه الآية 362 حكم الآية 374 كيفية صلاة الخوف 375 حديث أبي هريرة في صلاة الخوف 378 حكم الآية 396 ذكر استدلال من استدل من هذه الآية على تكليف ما لا يطاق 397 مسألة في اللغة 400 3347 (24 2800)
الجزء الرابع
[الجزء الرابع] سورة المائدة مدينة، فيها من المنسوخ تسع آيات منها قوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ نسختها آية السيف «1» . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع قال: «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» «2» [1] وهي إحدى عشر ألفا وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا، وألفان وثمانمائة وأربع كلمات، ومائة وعشرون آية. عن عبد الله بن عمر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم سورة المائدة وهو على راحلة فلم تستطع أن تحمله حتى نزل عنها. أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات» «3» [2] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا يا نداء أي إشارة، ها تنبيه الَّذِينَ آمَنُوا «1» [نصب على البدل من: أيّها] «2» أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني بالعهود. قال الزجّاج: العقود أو كل العهود. يقال: عاقدت فلانا وعاهدت فلانا، ومنه ذلك باستيثاق وأصله عقد الشيء بغيره. وهو وصله به كما يعقد الحبل بحبل إذا وصل شدّا قال الحطيئة: قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا «3» واختلفوا في هذه العقود ما هي، قال ابن جريح: هذا الخطاب خاص لأهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالكتب المقدسة والرسل المتقدمين. أوفوا بالعهود التي عهد بها بينكم في شأن محمد، وهو قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ «4» . وقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ «5» وقال الآخرون: فهو عالم. قال قتادة: أراد به الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية دليله قوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ «6» .
ابن عباس: هي عهود الأيمان و [الفراق] ، غيره: هي العقود التي عقدها الناس بينهم، أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اختلفوا فيها، فقال الحسن وقتادة والربيع والضحّاك والسدّي: هي الأنعام كلها وهي اسم للبقر والغنم والإبل، يدل عليه قوله تعالى وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً «1» ثم بيّن ما هي، فقال ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وأراد بها ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام. وقال الشعبي: بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ: الأجنّة التي توجد ميتة في بطن أمهاتها إذا ذبحت. وروى عطية العوفي عن ابن عمر في قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ قال ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتا آكله. قال: نعم هي بمنزلة رئتها وكبدها «2» . وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس أن بقرة نحرت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين وقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أُحِلَّتْ لَكُمْ «3» . وقال أبو سعيد الخدري: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجنين، فقال: «ذكاته ذكاة أمّه» «4» [3] . قال الكلبي: بهيمة الأنعام وحشها، كالظباء وبقر الوحش مفردين، وإنما قيل لها بهيمة لأن كل حي لا يمّيز فهو بهيمة، سمّيت بذلك لأنها أبهمت عن أن تميّز. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يقول: عليكم في القرآن [لأنه حاكم] وهو قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلى قوله وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ وقوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ «5» . غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ قال الأخفش: هو نصب على الحال يعني أَوْفُوا بِالْعُقُودِ منسكين غير محلي الصيد وفيه [معنى النهي] «6» . وقال الكسائي: هو حال من قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ... غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ كما يقول: أحل لكم الطعام غير معتدين فيه. معناه أنّه أحلت لكم الأنعام كلها إلّا ما كان منها وحشيا فإنه صيد ولا يحل لكم إذا كنتم
محرمين. فذلك قوله تعالى وَأَنْتُمْ حُرُمٌ قرأه العامة بضم أوّله وهي من حرم يحرم حراما في الحركات وهما جميعا جمع حرام، ويقال: رجل حرام وحرم ومحرم، وحلال وحلّ ومحلّ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ [يحرم ما يريد على من يريد] «1» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الآية نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة بن هند بن شرحبيل البكري، وقال: إنه لما أتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال له: إلى ما تدعو الناس؟ فقال: «إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة» «2» [4] . فقال: حسن إلّا إن لي من لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: يدخل عليكم بعض من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان، ثم خرج شريح من عنده، فلما خرج، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز: لقد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر الوضم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم ... خلج الساقين مسموح القدم «3» فلما كان في العام القابل خرج حاجّا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدي فقال ناس من أصحابه للنبي صلى الله عليه وسلّم: هذا الحطم خرج حاجّا فحل بيننا وبينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مه قد قلد الهدي» [5] . فقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) : إنّما هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبي صلى الله عليه وسلّم: فأنزل الله عزّ وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ. ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج، وكان المشركون يحجّون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله تعالى عنها، [وقال الحسن دين الله كلّه] يدل عليه قوله وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ «4» . عطية عن ابن عباس: هي أن تصيد وأنت محرم، يدل عليه قوله وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا. عطاء: شعائر حرمات الله اجتناب سخطه واتباع طاعته بالّذي حرم الله. أبو عبيدة: هي الهدايا المشعرة وهي أن تطعن في سنامها ويحلل ويقلّد ليعلم أنها هدي،
والإشعار العلامة، ومنه [الحديث] : حين ذبح عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أشعر أمير المؤمنين بها «1» كأنه أعلم بعلامة، وهي على هذا القول فعيلة، بمعنى مفعّلة. قال الكميت: نقتلهم جيلا فجيلا تراهم ... شعائر قربان بهم يتقرب «2» ودليل هذا التأويل قوله: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ «3» وقيل: الشعائر المشاعر. وقال القتيبي: شَعائِرَ اللَّهِ واحدتها شعيرة «4» ، وهي كل شيء جعل علما من أعلام طاعته. وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ بالقتال فيه فإنه محرم لقوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ «5» . وقال: النّسيء، وذلك أنهم كانوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً، دليله قوله إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ «6» وَلَا الْهَدْيَ وهو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة. وَلَا الْقَلائِدَ قال أكثر المفسّرين هي الهدايا، والمراد به [المقلدات] وكانوا إذا أخرجوا إلى الحرم في الجاهلية قلّدوا السمر فلا يتعرض لهم أحد وإذا رجعوا تقلّدوا قلادة شعر فلم يتعرّض لهم أحد فهي عن استحلال واجب منهم. وقال مطرف بن الشخير وعطاء: هي القلائد نفسها وذلك أنّ المشركين كانوا يأخذون من لحاء «7» شجر مكّة ونحوها فيقلّدونها فيأمنون بها في الناس فنهى الله عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية وَلَا آمِّينَ قاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ يعني الكعبة. وقرأ الأعمش: ولا آمّي البيت الحرام بالإضافة كقوله تعالى غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ. يَبْتَغُونَ يطلبون فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ يعني الرزق بالتجارة وَرِضْواناً معناه على زعمهم وعدهم لأن الكافر لا نصيب له في الرضوان، وهذا كقوله وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ «8» فلا يرضى الله تعالى عنهم حتى يسلموا.
قتادة: هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها. وقيل: ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامّة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة لأن الناس كانوا يحجون من بين مسلم وكافر، يدل عليه قراءة حميد بن قيس تبتغون فضلا من ربّكم على الخطاب للمؤمنين، وهذه الآية منسوخة بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وقوله فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا. فلا يجوز أن يحجّ مشرك، ولا يأمن الكافر بالهدي والقلائد والحج. وَإِذا حَلَلْتُمْ من إحرامكم فَاصْطادُوا أمر إباحة وتخيير كقوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «2» وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ. روح ابن عبادة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أقبل رجل مؤمن كان حليفا لأبي سفيان بن الهذيل يوم الفتح بعرفة لأنه كان يقتل حلفاء محمد صلى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لعن الله من قبل دخل الجاهلية [ما شيء كان في الجاهلية إلّا وهو] » تحت قدميّ هاتين إلّا سدانة الكعبة وسقاية الحج فإنّهما مردودتان إلى أهليهما» «4» [6] . وقال الآخرون: نزلت في حجاج كفار العرب، وقوله لا يَجْرِمَنَّكُمْ، قرأ الأعمش وعيسى ويحيى بن أبي كثير: يُجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء وقرأ الباقون بالفتح، وهما لغتان ولو أن الفتح أجود وأشهر وهو اختيار أبي محمد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأنها اللغة الفاشية وإن كانت الأخرى مقبولة. واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس وقتادة: لا يحملنكم. قال أبو عبيد: يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني. قال الشاعر، وهو أبو أسماء بن الضرية: يا كرز إنك قد فتكت بفارس ... بطل إذا هاب الكماة مجرّب ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا «5» . والمؤرج: لا يدعونكم. الفرّاء: لأكسبنكم، يقال فلان جرمه أهله أي كافيهم. وقال الهذلي يصف عقابا:
جرمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا «1» . وقال بعضهم وهو الأخفش: قوله لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ: أي حق لهم النار. شَنَآنُ قَوْمٍ أي بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت. قرأ أهل المدينة والشام، وعاصم والأعمش: بجزم النون الأول، وقرأ الآخرون بالفتح، وهما لغتان إلّا أن الفتح أجود لأنه أفخم اللغتين. فهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن المصادر نحوه على فعلان بفتح العين مثل الضربان والنزوان والعسلان ونحوها. أَنْ صَدُّوكُمْ قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمر: إِنْ صَدُّوكُمْ بكسر الألف على الاستيناف والجزاء واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة عبد الله: أن يصدّوكم، وقرأ الباقون بفتح الألف أي لأن صدّوكم، ومعنى الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء لأنهم صدّوكم، واختاره أبو حاتم ومحمد بن جرير، قال ابن جرير: لأنه لا يدافع بين أهل العلم أن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية فإذا كان كذلك فالصدّ قد يقدم. أَنْ تَعْتَدُوا عليهم فتقتلوهم وتأخذوا أموالهم. وَتَعاوَنُوا أي ليعين بعضكم بعضا، ويقال للمرأة إذا كسى لحمها وتراجمها: متعاونة عَلَى الْبِرِّ وهو متابعة الأمر وَالتَّقْوى وهو مجانبة الهوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعني المعصية والظلم. عن واصب بن معبد صاحب النبي صلى الله عليه وسلّم قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أسأله عن البر والإثم قال: «جئت إليّ تسألني عن البر والإثم» ؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره، فقال: «البر ما انشرح به صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس» «2» [7] . عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، قال: حدّثني أبي قال: سمعت النؤاس بن سمعان الأنصاري، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك فكرهت أن يطلع عليه الناس» «3» [8] وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وهي كل ما له نفس سائلة مما أباح الله عز وجل أكلها، فارقتها روحها بغير تذكية، وإنما قلنا: نفس سائلة لأن السمك والجراد دمان وهما حلال. وَالدَّمُ أجمل هاهنا وفسر في آية أخرى فقال عز من قائل: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً فالدم الملطخ فهو كاللحم في أكله لأن الكبد والطحال دمان وهما حلال.
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أحلّت لنا ميتتان ودمان فالميتتان الحوت والجراد وأما الدّمان فالطحال والكبد» «1» [9] . وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وكل شيء منه حرام وإنما خصّ اللحم لأنّ اللحم من أعظم منافعه. وَما أُهِلَّ ذبح لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وذكر عليه غير اسم الله. قال أبو ميسرة: في المائدة ثمان عشرة «2» فريضة ليس في سورة من القرآن وهي آخر سورة نزلت ليس فيها منسوخ. وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ، وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ. ولا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ إلى قوله ذُو انْتِقامٍ «3» ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ «4» . فأما الْمُنْخَنِقَةُ فهي التي تختنق فتموت، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، وَالْمَوْقُوذَةُ: التي تضرب بالخشب حتّى تموت. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتّى إذا ماتت أكلوها. فقال فيه: قذّه يقذّه وقذا إذا ضربه حتى شفى على الهلاك. قال الفرزدق: شغارة «5» تقذ الفصيل برجلها ... طارة لقوادم الأبكار «6» وَالْمُتَرَدِّيَةُ: التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت. وَالنَّطِيحَةُ: التي تنطحها صاحبتها فتموت، و «هاء» التأنيث تدخل في الفعيل بمعنى الفاعل فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيها المذكر والمؤنث نحو لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب، فإنما أدخل الهاء هاهنا لأن الإسم لا يسقط منها ولو أسقط الهاء منها لم يدر أهي
صفة لمؤنث أو مذكر، والعرب تقول لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب فإذا حذفوا الإسم وأفردوا الصفة أدخلوا الهاء، قالوا: رأينا كحيلة وخضيبة ودهينة، وأكيلة السبع فأدخلوا الهاء مثل الذبيحة والسكينة وَما أَكَلَ السَّبُعُ غير [المعلم] . وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع، وقرأ ابن أبي زائدة: وأكيلة السبع، وقرأ الحسن وطلحة ابن سليمان: وما أكل السبْعُ بسكون الباء [وهي لغة لأهل نجد] «1» . قال حسّان بن ثابت في عتبة بن أبي لهب: من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع «2» قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا أكل السبع مليا أو أكل منه أكلوا ما بقي إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إلّا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، والتذكية تمام فري الأوداج، وانهار الدم، ومنه الذكاة في السنّ وهو أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة ومثله المثل السائد: جري المذكيات غلاب «3» . قال الشاعر «4» : يفضله إذا اجتهدوا عليه ... تمام السن منه والذكاء «5» ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل سريع القبول. ويقول في الذكاة إذا أتممت إشعالها، فمعنى ذكيتم أدركتم ذبحه على التمام. وقال ابن عباس وعتبة بن عمير: إذا طرفت بعينها أو ظربت بذنبها أو ركضت برجلها أو تحركت فقد حلت لك. وعن زيد بن ثابت: أن ذئبا نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص النبي صلى الله عليه وسلّم في أكله «6» . أبو قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» «7» [10] .
قال عاصم عن عكرمة: إن رجلا أضجع شاته وجعل يحدّ شفرته ليذبحها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «تريد أن تميتها موتات قبل أن تذبحها!» «1» [11] . وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال بعضهم: فهو جمع واحدها نصاب، وقيل: هو واحدة جمعها أنصاب مثل عنق وأعناق. وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف: النَّصْبِ بجزم الصّاد. وروى الحسن بن علي الجعفي عن أبي عمرو: النَّصْبِ بفتح النون وسكون الصّاد. وقرأ الجحدري: بفتح النون والصّاد [جعله] اسما موحدا كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجمال والأجبال وكلها لغات وهو الشيء المنصوب، ومنه قوله تعالى كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ «2» واختلفوا في معنى النصب هاهنا. فقال مجاهد وقتادة وابن جريح: كان حول البيت ثلاثمائة وستين حجرا وكان أهل الجاهلية يذكّون عليها يشرّحون اللّحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون لها، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا شاؤوا لحجارة [من قبالهم] «3» منها، قالوا: وليست هي بأصنام إنما الصنم ما يصوّر وينقش. وقال الآخرون: هي الأصنام المنصوبة. قال الأعشى: وذا النصب المنصوب لا تستكنّه ... لعاقبة واللَّه ربك فاعبدا «4» ثم اختلفوا في معناها. فقال بعضهم: تقديره على اسم النصب. ابن زيد وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ هما واحدة. قطرب: معناه: ما ذبح للنصب أي لأجلها على معنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام. قال الله تعالى فَسَلامٌ لَكَ «5» أي عليك، وقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «6» أي فعليها، وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا معطوف على ما قبله، وأن في محل الرفع أي وحرم عليكم الاستقسام بِالْأَزْلامِ، والاستقسام طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها زلم مثل عمر، وزلم وهي القداح.
قال الشاعر: فلئن جذيمة قتّلت سرواتها ... فنساؤها يضربن بالأزلام «1» وكان استقسامهم بالأزلام على ما ذكره المفسّرون أن أهل الجاهلية إذا كان سفرا أو غزوا أو تجارة أو تزويجا أو غير ذلك ضرب القداح وكانت قداحا مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، إن خرج الآمر مضى لأمره، وإن خرج الناهي أمسك. وقال سعيد بن جبير: الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها. أبو هشام عن زياد بن عبد الله عن محمد بن إسحاق قال: كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة وكانت عند هبل أقداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه: العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل حمله، وقدح فيه: نعم، للأمر، إذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح فعلوا ذلك الأمر. وقدح فيه: لا إذا أرادوا أمر يضربون فإن خرج قدح «لا» لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه: منكم وقدح فيه: ملصق وقدح فيه: من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القداح فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختتنوا غلاما أو أن ينكحوا امرأة أو يدفنوا ميّتا أو شكّوا في نسب خصمهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب فيضرب، فإن خرج عليه: منكم، كان وسيطا منهم وإن خرج عليه: من غيركم، كان حليفا، وإن خرج عليه: ملصق، كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حليف، وإن كان في شيء مما سوى هذا مما يعملون به كنعم عملوا به، فإن خرج: لا، أخّروا عامهم ذلك حتى يأتوه مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. فقال الله عز وجل ذلِكُمْ فِسْقٌ «2» . قال مجاهد: هي كعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها «3» . قال سفيان بن وكيع: الشطرنج. رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من تكهّن أو استقسم أو تطيّر
طيرة تردّه عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة» «1» [12] . الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يعني عن أن يرجعوا إلى دينهم كفّارا، وفيه لغتان قال: الشعبي وائس يايس إياسا وإياسة. قال النضر بن شميل: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت الآية في يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر للهجرة والنبي صلى الله عليه وسلّم واقف بعرفات على ناقته العضباء وكادت عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت «2» . وقال طارق بن شهاب: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقال: آية [نقرؤها] لو علينا نزلت في ذلك اليوم لاتخذناه عيدا، قال: أية آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ، قال عمر: قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان!، إنها نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقوفا بعرفات وكلاهما بحمد الله لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد وقد صار من ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولا يجمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده. وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية بكى عمر (رضي الله عنه) فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا عمر» قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلّا نقص، فقال: «صدقت» [13] «3» . وكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعاش بعدها أحد وثمانون يوما أو نحوها. واختلف المفسّرون في معنى الآية فقال ابن عباس والسدّي: الْيَوْمَ وهو يوم نزول هذه الآية أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أي الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض. فهذا معنى قول ابن عباس والسدي. وقال سعيد بن جبير وقتادة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فلم يحج معكم مشرك، وقيل: هو أن الله تعالى أعطى هذه الأمة من أنواع العلم والحكمة جميع ما أعطى سائر الرسل والأمم فزادهم. وقيل: إن شرائع الأنبياء زالت ونقضت وشريعة هذه الأمة باقية لا تنمح ولا تتغيّر إلى يوم القيامة [ ... ] «4» هو بايعك ثم فرّقوه، يكن هذا لغيرهم، وقيل: لم يكن إلّا هذه الأمة،
وقيل: هو أن الله تعالى جمع بهذه الآية جميع [ ... ] » الولاية وأسبابها. قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حسيب قال: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرّازي قال: سمعت العباس بن حمزة قال: سمعت ذا النون يقول يعلمنا من سياسة فيقول أربعة أشياء: الكتاب والرسول، والخلعة والولاية. قال: كتاب جعله أشرف الكتب وأكثرها يسرا وأخفّها أمرا وأغزرها علما وأوفرها حكما، ورسول الله جعله أعظم الرسل وأفضلهم، والخلعة جعله عطاء ولم يجعلها عارية، والولاية جعلها دائمة إلى نفخ الصور. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي حققت وعدي في قولي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين. وقال الشعبي: نزلت هذا الآية بعرفات حيث هدم منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت [غيرهم] . السّدي: أظهرتكم على العرب. وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ اجتهد فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة يقال: هو خميص البطن إذا كان طاويا خاويا، ورجل خمصان وامرأة خمصانة إذا كانا ضامرين مضيمين والخمص والخمص الجوع. قال الشاعر: يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة ... يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهما «2» غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ. قال أبو عبيدة: غير متحرف مائل، قطرب: مائل، المبرّد: [زائغ] وقرأ النخعي: متجنف وهما بمعنى واحد يقال: تجنّف وتجانف مثل تعهد وتعاهد. قتادة: غير متعرض بمعصية في مقصده وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: ما أكل فوق الشبع فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه إضمار، تقديره: فأكله، ويكتفى بدلالة الكلام عليه، فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي غفور له غفور كما يقول عبد اللَّه: ضربت، فيريد ضربته. قال الشاعر:
ثلاث كلّهنّ قتلت عمدا ... فأخرى الله رابعة تعود «1» وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلّم المخمصة [بما رواه] [الأوزاعي] عن حسان بن عطية عن أبي واقد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنا بأرض يصيبنا بها مخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟ قال صلى الله عليه وسلّم: «إذا لم تصطبحوا «2» ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها» «3» [14] . يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ الآية. قال أبو رافع: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك يا رسول الله، قال: أجل يا رسول الله ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. عن عبد الله بن يحيى عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب» «4» [15] . رجعنا إلى حديث أبي رافع قال: فأمرني أن لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته وقلت حتى خفت العوالي [فأتيت] إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس عنها فرحمته فتركته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبرته بأمري، فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته. وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول رافعا صوته: «اقتلوا الكلاب» [16] «5» . قال: وكنا نلقى المرأة [تقدم من] المدينة بكلبها فنقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقتلها وحرم ثمنها. وروى علي بن رباح اللخمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يحل ثمن الكلاب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي» «6» [17] . ونهى عن اقتنائها وإمساكها وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرات أولاهنّ بالتراب نرجع إلى الحديث الأول. قال: فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب جاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحلّ لنا من هذه الآمة التي نقتلها، فسكت رسول الله فأنزل الله هذه الآية وأذن رسول الله في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها، وأمر بقتل الكلب العقور وما يضر ويؤذي ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه.
وروى الحسن عن عبد الله بن معقل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لولا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلبا ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية نقصوا من أجورهم كل يوم قيراطا» «1» [18] . عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من اقتنى كلبا ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينتقص من أجره قيراطان كل يوم» «2» [19] . والحكمة في ذلك ما روى أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرزاق السريعي قال: قيل لعبد الله بن المبارك: ما تقول في قول المصطفى صلى الله عليه وسلّم: «من اقتنى كلبا لا كلب صيد ولا ماشية نقص من عمله كل يوم كذا وكذا من الأجر» «3» [20] . فقال حدّثني [الأصمعي] قال: قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد: ما بلغك في الكلب؟ قال: بلغني أن من أخذ كلبا لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط. فقال له: ولم ذلك؟ قال: هكذا جاء الحديث، قال: خذها بحقّها إنّما ذلك لأنّه ينبح على الضيف ويروع السائل «4» . وكانت أسخياء العرب تبغض الكلاب لهذا المعنى وتذم من ربطه وهمّ بقتله. قال الثعلبي: أنشدني أبو الحسن الفارسي قال: أنشدني أبو الحسن الحراني البصري أنّ بعض شعراء البصرة نزل بعمّار فسمع لكلابه نبحا فأنشأ يقول: نزلنا بعمار فأشلى كلابه ... علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل فقلت لأصحابي أسر إليهم ... إذا اليوم أم يوم القيامة أطول «5» . قال عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل [الطائيين] وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم زيد الخير وذلك إنهما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قالا: يا رسول الله إنّا قوم نصيد الكلاب والبزاة فإن كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت يَسْئَلُونَكَ يا محمد ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني الذبائح التي أحلّها الله وَما عَلَّمْتُمْ يعني وصيد ما علمتم مِنَ الْجَوارِحِ.
حكم الآية
واختلفوا في هذه الجوارح التي يحل صيدها بالتعليم غير المدرك ذكاته وما أدركت فما ذكاته فهو لك، وإلّا فلا يطعم، وهذا غير معمول به. وقال سائر العلماء: هي الكواسب من السباع والبهائم والطير مثل النمر والفهد والكلب والعقاب، والصقر، والبازي، والباشق، والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم، فسميت جوارح لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد أي كسبها. يقال: فلان جارحة أهلها أي كاسبهم ولا جارحة لفلان إذ لم تكن لها كسب مُكَلِّبِينَ منصوب على الحساب في المعنى وصيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ إلى هذه الحال أي في حال صيدكم [أصحاب] كلاب، والتكليب إغراء الصيد وإشلاؤه «1» على الصيد. قال الشاعر: باكره عند الصباح مكلّب ... أزلّ كسرحان القصيمة أغبر «2» قرأ أبن مسعود وأبو زرين والحسن: مُكْلِبِينَ بتخفيف اللام على هذا المعنى، وهي قراءة الحسن والقتيبي أيضا، ويجوز أن يكون من قولهم: أكلب الرجل، إذا كثرت كلابه، مثل: وأمشى إذا كثرت ماشيته، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم والمراد به جميع الجوارح. تُعَلِّمُونَهُنَّ آداب الصيد مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي من العلم الذي علمكم الله، وقال السّدي: من بمعنى الكاف، أي كما علّمكم الله، وهو أن لا [يجثمن] «3» ولا يعضنّ ولا يقتلن ولا يأكلن فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ عند إرسال البهم والجوارح. حكم الآية والمعلم من الجوارح الذي يحلّ صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى وإذا أخذ أمسك ولم يأكل. فإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفرّ منه، فإذا فعل ذلك مرّات. فهو معلّم فمتى كان بهذا الوصف. فاصطاد جاز أكله فإذا أمسك الصيد ولم يأكل منه جاز أكله، وكان حلالا، فإن أكل منه، فللشافعي فيه قولان: أحدهما: لا يحلّ ولا يؤكل وهو الأشهر والأظهر من مذهبه لأنّ الله عز وجل قال: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وهو لم يمسك علينا وإنما أمسك على نفسه، وهذا قول الحسن وطاوس والشعبي وعطاء والسدّي. وقال ابن عباس: إذا أرسلت الكلب فأكل من صيد فهي ميتة لا يحل أكله لأنه سبع أمسكه على نفسه، ولم يمسك عليك ولم يتعلم ما علّمته، فاضربه ولا تأكل من صيده.
يدل عليه ما روى الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الصيد فقال: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه فإن أدركته لم يقتل، فاذبح واذكر اسم الله عليه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، فإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئا، فإنما أمسك على نفسه، فإن خالط كلبك كلاب فقتلن ولم يأكلن فلا تأكل منه فإنك لا تدري أيّها قتل) «1» . (وإذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن أدركته فكل، إلّا أن تجده وقع في ماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك) فإن وجدته بعد ليلة أو ليلتين ولم تر فيه سهمك فإن شئت أن تأكل منه فكل» «2» [21] . والقول الثاني: أنه يحلّ وإن أكل وهو قول سلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عمر، وأبي هريرة، قال حميد بن عبد الله وسعد ابن أبي وقّاص: لنا كلاب ضواري يأكلن ويبقين، قال: كل وإن لم يبق إلّا نصفه أو ثلثيه فكل ميتة. وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلّم ولا فرق في حمله على ما ذكرنا من الطيور والسباع المعلمة. وروى أبو قلابة عن ثعلبة «3» الخشني: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال: يا رسول الله إن أرضنا أرض صيد فأرسل سهمي وأذكر اسم الله وأرسل كلبي المعلم وأذكر اسم الله وأرسل كلبي الذي ليس معلم فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما حبس عليك سهمك، وذكرت اسم الله [فكل] ، وما حبس عليك كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل وما حبس عليك كلبك الذي ليس معلم فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل» «4» [22] . وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني الذبائح وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ يعني ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلّم حلال لكم، فمن دخل في دينهم بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلّم فلا تحل ذبيحته، فأما إذا سمّى أحدهم غير الله عند الذبح مثل قول النصارى: باسم المسيح، اختلفوا فيه. فقال ربيعة: سمعت ابن عمر يقول: لا تأكلوا ذبائح النصارى، فإنهم يقولون: باسم المسيح، فإنهم لا يستطيعون أن تهدوهم وقد ظلموا أنفسهم، دليله قوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ. والقول الثاني: إنّه يجوّز ذبيحتهم، الكتابي، وإن سمّي غير الله فإن هذا مستثنى من قوله
تعالى وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وهي إنما نزلت في ذبائح المشركين وما كانوا يذبحونها لأصنامهم، وعلى هذا أكثر العلماء. قال الشعبي وعطاء: في النصراني يذبح فيقول: باسم المسيح قالا: يحلّ. فإنّ الله عز وجل قد أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون. وسأل الزهري ومكحول عن ذبائح عبدة أهل الكتاب، [والمربيات] لكنائسهم وما ذبح لها فقالا: هي حلال، وقرأ هذه الآية. وقال الحسن والحرث العكلي: ما كنت أسأله عن ذبحه فإنه أحل الله لنا طعامه، فإذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر غير اسم الله وأنت تسمع فلا تأكله، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل الله لك [ما في] القرآن، فذبح اليهود والنصارى ونحرهم مكروه. قال علي (رضي الله عنه) : «لا يذبح ضحاياكم اليهود ولا النصارى ولا يذبح نسكك إلّا مسلم» «1» [23] . قوله عز وجل وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم: عنى بالإحصان في هذه الآية الحرية وأجازوا نكاح كل حرّة، مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجهن المسلم بحال، وهذا قول مجاهد وأكثر الفقهاء، والدليل عليه قوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الآية، فشرط في نكاح الإماء الإيمان. وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بالمحصنات في هذه الآية، العفائف من الفريقين إماءكنّ أو حرائر، فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب بهذه الآية، وحرّموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهذا قول أبي ميسرة والسّدي. وقال الشعبي: إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة، وتحصن فرجها. وقال الحسن: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها، ثم اختلفوا في الآية أهي عامة أم خاصة. فقال بعضهم: هي عامة في جميع الكتابيات حربيّة كانت أو ذميّة، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن. وقال بعضهم: هي الذميّات، فإما الحربيات فإنّ نساءهم حرام على المسلمين، وهو قول ابن عباس. السدّي عن الحكم عن مقسم عنه قال: من نساء أهل الكتاب من تحلّ لنا ومنهم من لا
تحل لنا، ثم قرأ: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ.... إلى قوله. صاغِرُونَ. فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤه ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه. قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويفسر هذه الآية بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ يقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى. وروى المبارك عن سليمان بن المغيرة قال: سأل رجل الحسن: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات: فإن كان لا بدّ فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة، قال: هي التي إذا ألمح الرجل إليها بعينه أتبعته وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. قال قتادة: ذكر لنا ان رجالا قالوا لما نزل قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ: كيف نتزوّج نساء لسن على ديننا؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل ابن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إيّاهنّ بالذي يخرجهنّ من الكفر يعني عنهن في دينهن [ ... ] «1» وجعلهن ممن كفر بالإيمان، فقد حبط عمله وهو بعد للناس عامّة، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يعني من أهل النّار. وقال ابن عباس: ومن يكفر بالله قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية كان فمعناه برب الإيمان وقيل: بالمؤمنين به. قال الكلبي: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم. قال الثعلبي رحمه الله: وسمعت أبا القاسم الجهني قال: سمعت أبا الهيثم السنجري يقول: الباء صلة كقوله تعالى: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «2» تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «3» والمعنى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي يجحده فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ. وقرأ الحسن بفتح الباء، قرأ ابن السميع: فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 6 إلى 10]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية، أمر الله تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة. واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هذا من العام الذي أريد به الخاص. والمجمل الذي وكل بيانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعنى الآية: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وأنتم على غير طهر، يدلّ عليه ما روي عن عكرمة إنه سأل عن هذه الآية قال: أو كلّ ساعة أتوضأ؟ فقال: إن ابن عباس قال: لا وضوء إلّا من حدث. وقال الفضل بن المبشر: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد. فإن بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل مائه الخفين. فقيل: أي شيء تصنعه برأيك؟ فقال: بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصنعه وأنا أصنع كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصنع. وروى محارب بن دثار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. وقال المسوّر بن مخرمة لابن عباس: هل لك في عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج من المسجد. فقال ابن عباس: هكذا يصنع الشيطان، فدعاه فقال: ما يحملك على ما تصنع إذا سمعت النداء خرجت وتوضأت، قال إن الله عز وجل يقول: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... الآية. قال: ليس هذا إذا توضأت فإنك على طهر حتّى تحدث، ثم قال: هكذا يصنع الشيطان إذا سمع النداء ولّى وله ضراط. وروى الأعمش عن عمارة قال: كان للأسود قعب قد ري رجل وكان يتوضأ به ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها. وقال زيد بن أسلم والسّدي: معنى الآية إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم، وقال بعضهم: أراد بذلك كل قيام العبد إلى صلاته أن يجدّد لها طهرا على طريق الندب والاستحباب، قال عكرمة: كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ.
عن أبي عفيف «1» الهذلي إنه رأى ابن عمر يتوضأ للظهر ثم العصر ثم المغرب، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أسنّة هذا الوضوء؟ قال: إنه كان كافيا وضوئي للصلاة كلها ما لم أحدث ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» «2» ففي ذلك رغبت يا ابن أخي. وقال بعضهم: بل كان هذا أمرا من الله عز وجل لنبيه وللمؤمنين حتما وامتحانا أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ للتخفيف. وقال محمد بن يحيى بن جبل الأنصاري قلت: لعبيد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمّن هو؟ قال: حدّثتنيه أسماء بنت زيد الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيلي حدثها أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلّا من حدث، وكان عبد الله يرى أن به قوّة عليه فكان يتوضأ. وروى سليمان بن بريد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكّة صلى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد، فقال عمر (رضي الله عنه) : إنك تفعل شيئا لم تكن تفعله! قال: «عمدا فعلته يا عمر» «3» [24] . وقال بعضهم: هذا إعلام من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلّم أن لا وضوء عليه إلّا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال. وذلك إنه إذا كان أحدث امتنع من الأعمال كلها حتّى يتوضأ فأذن الله عز وجل بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث غير الصلاة. وروى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ لوضوء الصلاة حتّى نزلت آية الرخصة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى طرف الذقن طولا، وما بين الأذنين عرضا، فأما ما استرسل من اللحية عن الذقن فللشافعي هنا قولان: أحدهما: أنه لا يجب على المتوضئ غسله، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني،
واحتجّوا بأن الشعر النازل من الرأس لا يحكم بحكم الرأس. وكذلك من الوجه. والثاني: أنه يجب غسله، ودليل هذا القول من ظاهر هذه الآية، لأن الوجه ما يواجه به، فكلّ ما تقع به المواجهة من هذا العضو يلزمه غسله بحكم الظاهر. ومن الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلّم حيث نهى عن تغطية اللحية في الصلاة إنها من الوجه، ومن اللغة قول العرب بدل وجه فلان وخرج وجهه إذا نبتت لحيته. وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ غسل اليدين من المرفقين واجب بالإجماع واختلفوا في المرفقين. فقال الشعبي ومالك والفراء ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير: لا يجب غسل المرفقين في الوضوء، وإِلى - هاهنا- بمعنى الحدّ والغاية، ثم استدلوا بقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «1» والليل غير داخل في الصوم، وقال سائر الفقهاء: يجب غسلهما و (إِلى) بمعنى مع واحتجوا بقوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «2» وقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «3» وقوله مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «4» . وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف الفقهاء في القدر الواجب من مسح الرأس. فقال مالك والمزني: مسح جميع الرأس في الوضوء واجب. وجعلوا الباء بمعنى التعميم، كقوله عز وجل فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ «5» وقوله وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» . وقال أبو حنيفة: مسح ربع الرأس واجب. أبو يوسف: نصف الرأس، الشافعي: يجوز الاقتصار على أقل من ربع الرأس، فإذا مسح مقدار ما يسمى مسحا أجزأه، واحتج بقوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، وله في هذه الآية دليلان، أحدهما: مسح بعض رأسه وإن قلّ فقد حصل من طرفي [اللسان] ماسحا رأسه. فصار مؤديا فرض الأمر. والثاني: إنه قال في العضوين اللذين أمر بتعميمها بالطهارة فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ فأطلق الأمر في غسلهما وقال في الرأس وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فأدخل الباء للتبعيض لأنّ الفعل
إذا تعدى إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض، كقول القائل: مسحت يدي بالمنديل وإن كان مسح ببعضه. قال عنترة: شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم «1» ويدل عليه من السنة ما روى عمرو بن وهب النقعي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلّم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفّيه، فاقتصر في المسح على الناصية دون سائر الرأس. وَأَرْجُلَكُمْ اختلف القرّاء فيه، فقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام ومجاهد، وإبراهيم التميمي وأبو وائل، والأعمش، والضحّاك وعبد الله بن عامر، وعامر ونافع، والكسائي وحفص وسلام ويعقوب: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب وهي قراءة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) . وروى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي، قال: قرأ عليّ الحسن والحسين فقرءا: وَأَرْجُلِكُمْ بالخفض، فسمع عليّ ذلك وكان يقضي بين الناس، فقال: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب، وقال: هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. وقراءة عبد الله وأصحابه. قال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤن: وَأَرْجُلَكُمْ نصبا فيغسلون. وقراءة ابن عباس، روى عكرمة عنه أنه قرأها: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب وقال: عاد الأمر إلى الغسل وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالكسر، وهي قراءة أنس والحسن وعلقمة والشعبي، واختيار أبي حاتم، فمن نصب فمعناه واغسلوا أرجلكم، ومن خفض فله وجوه ثلاث: أحدها أن المسح يعني الغسل والباء بمعنى التعميم، يقول تمسّحت للصلاة أي توضأت، وذلك أن المتوضئ لا يرضى أن يصيب وجهه وذراعيه وقدميه حتّى يمسحها فيغسلها فلذلك سمي الغسل بها، وهذا قول أبي زيد الأنصاري وأبي حاتم السجستاني. وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما: إن الأرجل معطوفة على الرءوس على الإتباع بالجواز لفظا لا معنى. كقول العرب (جحر ضب خرب) قال تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها «2» . قال الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا «3» .
والرمح لا يتقلد إنّما يحمل. وقال لبيد: وأطفلت بالجلهتين ... ظباؤها ونعامها «1» والنعام لا تطفل وإنما تفرخ. وقال بعضهم: أراد به المسح على الأرجل لقرب الجوار. كقوله: غمر الردا أي واسع الصدر. ويقال: قبّل رأس الأمير ويده ورجله، وإن كان في العمامة رأسها وفي الكم يده وفي الخف رجله. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه. وليس المراد إنه لم يكن بينهما حائل. قال الله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ «2» قال كثير من المفسرين: أراد به قلبك فطهر. قال همام بن الحرث: بال جرير بن عبد الله فتوضأ ومسح على خفيه فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفعله. قال الأعمش: كان إبراهيم يعجبه هذا الحديث، وهو أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وأجرى قوم من العلماء الآية على ظاهرها، وأجازوا المسح على القدمين، وهو قول ابن عباس قال: الوضوء مسحتان وغسلتان. وقول أنس: روى ابن عليّة عن حميد عن موسى بن أنس إنه قال لأنس ونحن عنده: إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وكعبهما وعراقيبهما. فقال: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله تعالى وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. وروى حماد عن عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسّنة بالغسل. وقول الحسن والشعبي، قال الشعبي: نزل جبرئيل بالمسح، ثم قال: ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا. وقول عكرمة قال يونس: حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما حتى خرج منها.
وقول قتادة قال: افترض الله غسلين ومسحين، ومذهب داود بن علي الأصفهاني ومحمد ابن جرير الطبري وأبي يعلى وذهب بعضهم إلى إن المتوضئ يتخير بين غسلهما ومسحهما، والدليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء قول الله عز وجل: إِلَى الْكَعْبَيْنِ فتحديده بالكعبين دليل على الغسل كاليدين لما حدّهما إلى المرفقين كان فرضهما الغسل دون المسح. ويدل عليه من السّنة ما روي عن عثمان وعلي وأبي هريرة وعبد الله بن زيد إنهم حكوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فغسلوا أرجلهم. وروى خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل أرجله» «1» [25] . وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر أنه قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا. وقال ابن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم على وجوب غسل الرجلين. أبو يحيى عن عبد الله بن عمرو قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلّم على قوم عراقيبهم تلوح فقال: «أسبغوا الوضوء ويل للعراقيب من النار» «2» [26] . وقال حميد الطويل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعمى يتوضأ فقال: «اغسل باطن قدميك» «3» فجعل يغسل حتّى سمّي أبا غسيل» [27] . روى أبو قلابة أن عمر (رضي الله عنه) رأى رجلا يتوضأ فترك باطن قدميه فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. وقالت عائشة رضي الله عنها: لإن تقطعا أحبّ إليّ من أن أمسح على القدمين بغير خفين إلى الكعبين. وهما النابتان من جانبي الرجل ومجمع مفصل الساق والقدم. وسمّتهما العرب المنجمين، وعليهما الغسل كالمرفقين، هذا مذهب الفقهاء وخالفهم محمد بن الحسن في الكعب فقال: هو الناتئ من ظهر القدم الذي يجري عليه الشراك. قال: وسمي ذلك لارتفاعه ومنه الكعبة. ودليلنا قوله تعالى وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فجمع الأرجل وثنّى الكعبين فلو كان لكل رجل كعب واحد لجمعهما في الذكر كالمرافق لما كان في كل يد مرفق واحد، بجمع المرافق
فلما جمع الأرجل وثنّى الكعبين ثبت أن لكل رجل كعبين ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم للمحرم: «فليلبس النعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس [خفّين] وليقطعهما أسفل من الكعبين» «1» [28] . فدلّ على أن الكعبين ما قلنا، إذ لو كان الكعب هو الناتئ من ظهر القدم لكان إذا قطع الخف من أسفله لم يكن استعماله ولا المشي فيه، والنبي صلى الله عليه وسلّم لا يأمر بإضاعة المال وإتلافه. ويدل عليه ما روي أيضا عنه صلى الله عليه وسلّم إنه مرّ في سوق مكّة يقول: «قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا» «2» [29] . وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتّى أدمى كعبيه «3» . فلو كان ما ذهب إليه محمد بن الحسن، ما قيل: حتى أدمي، إذ رميت من ورائه. ويدل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أقيموا صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم» «4» ، حتّى كان الرجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه، فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم: «ويل للأعقاب والعراقيب من النار» «5» [30] أصل الأعقاب والعراقيب إنما يحصل لمن غسل المنجمين. وروى أبو إدريس عن أبي ذر عن عليّ كرم الله وجهه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ملإ من المهاجرين إذ أقبل إليه عشرة من أحبار اليهود فقالوا: يا محمد إنا أتيناك لنسألك عن أشياء لا يعلمها إلّا من كان نبيّا مرسلا وملكا مقرّبا. فقال صلى الله عليه وسلّم: «سلوني تفقها ولا تسألوني تعنّتا» فقالوا: يا محمد أخبرنا لم أمر الله بغسل هذه الأربعة المواضع وهي أنظف المساجد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّ آدم لمّا نظر إلى الشجرة قصد إليها بوجهه ثم مشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى المعصية ثمّ تناول بيده وشمّها فأكل منها فسقطت عنه الحلي والحلل فوضع يده الخاطئة على رأسه فأمر الله عز وجل بغسل الوجه لما أنه نظر إلى الشجرة وقصدها وأمر بغسل الساعدين وغسل يده وأمر بمسح رأسه، إبتلته الشجرة ووضع يده على رأسه وأمر بغسل القدمين لما مشى إلى الخطيئة فلمّا فعل آدم ذلك كفّر الله عنه الخطيئة فافترضهنّ الله على أمتي ليكفّر ذنوبهم من الوضوء إلى الوضوء» [31] . قالوا: صدقت، فأسلموا.
وأما فضل الوضوء
فاختلف الفقهاء في حكم الروايات المذكورة في الآية. فجعلوها بمعنى الترتيب والتعقيب وأوجبوا الترتيب في الوضوء وهو أن يأتي بأفعال الوضوء تباعا واحدا بعد واحد. فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، وهو اختيار الشافعي، فاحتج بقوله إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «1» . قال جابر بن عبد الله: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحج- وذكر الحديث إلى أن قال-: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا وقال: «ابدأوا بما بدأ الله به» فدلّ هذا على شيئين: أحدهما: أن الواو يوجب الترتيب، والثاني أن البداية باللفظ توجب البداية بالفعل إلّا أن يقوم الدليل «2» . واحتج أيضا بقوله ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا «3» فالركوع قبل السجود، واحتج أيضا بقوله صلى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه» «4» [32] . و (ثم) في كلام العرب للتعقيب. عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه إنه قال لعبد الله بن زيد الأنصاري قال: أتستطيع أن تري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوضأ؟ فقال عبد الله: نعم، فدعا بوضوء وأفرغ على يديه فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ذهب بهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. وقال مالك: إن ترك الترتيب في الوضوء عامدا، أعاد وضوءه فإن تركه ناسيا لم يعد، وهو اختيار المزني. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وصاحباه: الترتيب في الوضوء سنّة فإن تركه ساهيا أو عامدا فلا إعادة عليه، وجعلوا الواو بمعنى الجمع، واحتجوا بقوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ «5» ولا خلاف أن تقديم بعض أهل السهمين على بعض في الإعطاء بتمايز. وبقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «6» . ويحرم تقديم أحدهما على الآخر. وأما فضل الوضوء فروى يحيى بن أبي كثير عن زيد عن ابن سلام عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الطهور شطر الإيمان» «7» [33] .
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عثمان النهدي قال: كنت مع سلمان فأخذ غصنا من شجرة يابسة فحتّه ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء [ثمّ صلى الصلوات الخمس] تحاتّت عنه خطاياه كما تحات هذه الورق» «1» [34] . وروى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم كيف تعرف من لم تر من أمتك يوم القيامة؟ قال: «هم غر محجلون من آثار الوضوء» «2» [35] . وروى أبو أمامة عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله ما الوضوء حدّثني عنه؟ قال: «ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق وينثر إلّا جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمر الله إلّا جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم إذا غسل يديه من المرفقين إلّا جرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلّا جرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلّا جرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإذا هو قام فصلّى وحمد الله وأثنى عليه ومجّده وفرّغ قلبه لله إلّا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه» «3» [36] . وعن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا ابن ثمان سنين وكان أول ما علّمني أن قال: «يا أنس يا بني أحسن وضوءك لصلاتك يحبك الله ويزاد في عمرك» «4» [37] . وروى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن حمزة الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن في مسجد المدينة فقال: «لقد رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك» [38] . وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا فاغتسلوا. روى أبو ذر عن علي (عليه السلام) فقال: أقبل عشرة من أحبار اليهود، فقالوا: يا محمد لماذا أمر الله بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّ آدم لما أكل من الشجرة تحوّل في عروقه وشعره، وإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه الله عز وجل عليّ وعلى أمتي تكفيرا وتطهيرا وشكرا لما أنعم عليهم من اللذة التي يصيبونها منه» . قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا بثواب ذلك من اغتسل من الحلال، فقال صلى الله عليه وسلّم: «إنّ
المؤمن إذا أراد أن يغتسل من الحلال بنى الله له قصرا في الجنّة وهو سرّ بين المؤمن وبين ربه، والمنافق لا يغتسل من الجنابة فما من عبد ولا أمة من أمتي قاما للغسل من الجنابة تيقنا أني ربهما، أشهدكم أني غفرت لهما كتبت لهما بكل شعرة على رأسه وجسده ألف [سنة] ومحى عنه مثل ذلك ورفع له مثل ذلك» . قالوا: صدقت، نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. وعن أبي محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا بني الغسل من الجنابة فبالغ فيه فإنّ تحت كلّ شعرة جنابة» . قلت: يا رسول الله كيف أبالغ؟ قال: «نقّوا أصول الشعر وأنق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كل ذنب» «1» [39] . وقال عبد الرحمن بن حمزة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة. فقال: «إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا إلى حلقه طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة [فأخذ بيده] فأقعده إلى جنبي» «2» [40] . وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ إلى قوله بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من الصعيد وما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم مِنْ حَرَجٍ من ضيق وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فيما أباح الله لكم من التيمم عند عدم الماء وسائر نعمه التي لا تحصى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله عليها. وروى محمد بن كعب القرضي عن عبد الله بن داره مولى عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) عن عمران مولى عثمان قال: مرّت على عثمان فخارة من ماء فدعا به فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلّا مرّة أو مرّتين أو ثلاثا ما حدّثتكم به «3» . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما توضّأ عبد فأسبغ وضوءه ثم قام إلى الصلاة إلّا غفر [الله] له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» «4» [41] . قال محمد بن كعب: فكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم التمسته في القرآن فالتمست هذا في القرآن فوجدته إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «5» فعلمت أن الله لم يتم عليه النعمة حتّى غفر له ذنوبه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 11 إلى 13]
ثم قرأت الآية التي في المائدة إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ حتّى بلغ قوله يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فعرفت أنّ الله لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم. قتادة عن شهر بن حوشب عن الصّدي بن عجلان وهو أبو إمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم إنه قال: «الطهور يكفر ما قبله [ثمّ] تصير الصلاة نافلة» «1» [42] . وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني النعم كلها وَمِيثاقَهُ عهده الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ عاهدتم به أيها المؤمنون إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا. هذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: من الميثاق الذي أخذ الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ عليم ما في القلوب من خير وشر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أمرهم بالصدق والعدل في أقوالهم وأفعالهم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ولا يحملنكم بغض قوم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، ثم قال: اعْدِلُوا بين أوليائكم وأعدائكم هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى يعني إلى التقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ عالم بِما تَعْمَلُونَ مجازيكم به وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ تقديرها: وقال لهم مغفرة، لأنّ الوعد قول، فلذلك جمع الكلام وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالدفع عنكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة فإذا بنو ثعلبة، وبنو
محارب أرادوا أن يمسكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة، قالوا: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فإذا سجدوا فيها أوقعنا بهم، فأطلع الله نبيّه على ذلك، وهي صلاة الخوف. وقال الحسن: كان النبي صلى الله عليه وسلّم محاصرا بطن نخلة. فقال رجل من المشركين: هل لكم في أن أقتل محمدا، قالوا: فكيف تقتله؟ قال أمسك به، قالوا: وددنا إنّك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرّة إلى السيف ومرّة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله، فتهدّده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وأغلظوا له فشام السيف ومضى. فأنزل الله هذه الآية. الزهري عن ابن سلام عن جابر بن عبد الله: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها فعلّق النبي صلى الله عليه وسلّم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلّه ثمّ أقبل على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: من يمنعك منّي؟ قال: الله، قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثا: من يمنعك منّي؟ والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: الله، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه فأخبرهم بخبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. وقال مجاهد وعبد الله بن كثير وعكرمة والكلبي، وابن يسار عن رجاله: بعث النبي صلى الله عليه وسلّم المنذر ابن عمرو الأنصاري الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة وهي من مياه بني عامر، فاغتسلوا فقتل المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي وأصحابه إلّا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم: عمرو بن أميّة الصيمري، فلم يرعهم إلّا والطير تحوم في السماء تسقط من بين خراطيمها علق الدّم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتّى لقي رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطت الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال: الله أكبر الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم وبين النبي صلى الله عليه وسلّم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتّى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النظير فاستعانهم في عقلهما، فقال: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة. اجلس حتّى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: إنّكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيرتحل عنّا. فقال عمرو بن جحش بن كعب: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله أيديهم وجاء جبرئيل (عليه السلام) وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم ثمّ دعا عليا فقال: لا تبرح من مكّة، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنّي فقل توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي (عليه السلام) حتّى قاموا إليه ثم لقوه فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قال الثعلبي: وهذا القول أولى بالصواب لأنّ الله تعالى عقّب هذه الآية بذم اليهود، وذكر قبح أفعالهم وأعمالهم فقال عز من قائل وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ الآية، وذلك أنّ الله تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، ووعده أن يهلكهم ويجعل أرض الشام مساكن بني إسرائيل، فلما تركت بني إسرائيل الدّار بمصر أمرهم الله تعالى المسير إلى أريحا أرض الشام وهي الأرض المقدسة. وقال: يا موسى إني قد كتبتها لكم دارا قرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من كلّ سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا، به فاختار موسى (عليه السلام) النقباء وهذه أسماؤهم: من سبط روبيل: شامل بن ران، ومن سبط شمعون: شاقاط بن [حوري] ، ومن سبط يهودا: كالب بن يوقنا، ومن سبط آبين: مقايل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط إفراهيم ويوشع بن نون، ومن سبط بنيامين: قنطم بن أرقون ومن سبط ريالون: مدي بن عدي، ومن سبط يوسف وهو ميشا بن يوسف: جدي بن قامن، ومن سبط آهر: بيانون بن ملكيا ومن سبط تفتال: نفتا لي محر بن وقسي، ومن سبط دان: حملائل بن حمل، ومن سبط أشار: سابور بن ملكيا «1» . فسار موسى ببني إسرائيل حتّى إذا قربوا من أرض كنعان وهي أريحا. بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّسون له الأخبار ويعلمونه فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع. قال ابن عمر: كان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من أقرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله. ويروى له أنه رأى نوحا يوم الطوفان فقال: احملني معك في سفينتك، فقال له: أخرج يا عدو الله فإنّي لم أؤمر بك وطبق الماء ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش عوج ثلاثة ألاف سنة ثم أهلكه الله على يد موسى، وكان لموسى (عليه السلام) عسكر فرسخا في فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء فنحت الجبل فأخذ منه بصخرة على قدر العسكر ثم حملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى إليه الهدهد ومعه المص يعني منقاره حتّى نقر الصخرة فانثقبت فوقعت في عنق عوج فطوقته وأقبل موسى (عليه السلام) وطوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع وتراقي السماء عشرة أذرع فما أصاب إلّا كعبه وهو مصروع بالأرض فقتله. قالوا: فأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر فجهدوا حتّى جزّوا رأسه فلما قتل وقع في نيل
مصر فجسرهم سنة وكانت أمّه عنق ويقال عناق إحدى بنات آدم، ويقال: إنّها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض وكان كل إصبع من أصابعها ثلاثة أذرع وذراعين، وفي كل إصبع ظفران حديدان مثل المنجلين. وكان موضع مجلسها جريبا من الأرض. فلمّا بغت بعث الله عز وجل عليها أسدا كالفيلة وذئبا كالإبل ونسورا كالحمر وسلّطهم عليها فقتلوها وأكلوها. قالوا: فلما لقيهم عوج وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الإثني عشر فجعلهم في حجزته. وحجزة الإزار معقد السراويل التي فيها التكّة. فانطلق بهم إلى امرأته وقال: أنظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها. وقال: ألا أطحنهم برجلي، فقالت امرأته: لا بل خلّ عنهم حتّى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك فجعلوا يتعرّفون أحوالهم، وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلّا خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدّوا عن نبي الله ولكن اكتموا وأخبروا موسى (عليه السلام) وهارون فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك. ثم انصرفوا إلى موسى وحاول بحبّة من عنبهم وفرّ رجل منهم، ثم إنّهم نكثوا العهد، وكل واحد منهم نهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى، إلّا رجلان منهم يوشع وكالب» ، فذلك قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً. وقال الله لبني إسرائيل إِنِّي مَعَكُمْ ناصركم على عدوّكم. ثم ابتدأ الكلام فقال عزّ من قائل: لَئِنْ أَقَمْتُمُ يا معشر بني إسرائيل الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي ونصرتموهم ووقرتموهم. وأشعر أبو عبيدة: وكم من ماجد منهم «2» كريم ... ومن ليث يعزّر في الندي «3» ويروى: وكم من سيّد يحصى نداه ومن ليث. وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ولم يقل أقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ «4» لَأُكَفِّرَنَّ لأستبرأنّ ولأمحونّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي أخطأ قصد
السبيل وهو لكل شيء وسطه، ومنه قيل للظهر: سواء فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فبنقضهم وما فيه ما المصدر، وكلّ ما ورد عليك من هذا الباب فهو سبيله. قال قتادة: نقضوه من وجوه: كذّبوا الرسل الذين جاءوا بعد موسى فقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه. قال سلمان: إنما هلكت هذه الأمّة بنكثها عهودها. لَعَنَّاهُمْ قال ابن عباس: عذّبناهم بالجزية. الحسن ومقاتل: بالمسخ عطاء أبعدناهم من رحمتنا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً. قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي قسيّة بتشديد الياء من غير ألف. وهي قراءة النخعي، وقرأ الأخفش: قسية بتخفيف الياء على وزن فعلية نحو عمية وشجية من قسى يقسي لا من قسى يقسو، وقرأ الباقون: قاسِيَةً على وزن فاعلة، وهو اختيار أبو عبيدة، وهما لغتان مثل العلية والعالية والزكية والزاكية. قال ابن عباس: قاسية يائسة، وقيل: غليظة لا تلين، وقيل: متكبرة لا تقبل الوعظ، وقيل: ردية فاسدة، من الدراهم القسية وهي الودية المغشوشة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ قرأه العامّة بغير ألف، وقرأ السلمي والنخعي: الكلام بالألف وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبيان نعمته وَلا تَزالُ يا محمد تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ. واختلفوا في الخائنة: قال المبرّد: هي مصدر، كالكاذبة، واللّاغية، وقيل: هي اسم كالعاقبة والمعاقبة، وقيل: هي بمعنى المبالغة، والهاء هنا للمبالغة مثل: راوية وعلامة ونسابة. قال الشاعر: حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغلّ الإصبع «1» ويجوز أن يكون جمع الخائن كقولك فرقة كافرة وطائفة خارجة. قال ابن عباس: خائنة أي معصية، وقيل: كذب وفجور، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهمهم بقتله وسمّه ونحوها من عمالتهم وخيانتهم التي أخبرت إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا أو لم ينقضوا العهد، [من] أهل الكتاب فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وهذا منسوخ بآية السيف.
[سورة المائدة (5) : الآيات 14 إلى 17]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ في التوحيد والنبوة فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بالعهد بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ألا وهو الخصومات والجدال في الدين. قال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تحبط الأعمال «1» واختلفوا في المعنى بالهاء والميم في قوله بَيْنَهُمُ. فقال مجاهد وقتادة والسدّي وابن زيد: يعني بين اليهود والنصارى. وقال ابن زيد: كما تغري بين البهائم. وقال الربيع: هم النصارى وحدها، وذلك راجع إلى فرق النصارى النسطورية واليعقوبية والملكية، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ في الآخرة ويجازيهم به وهذا وعيد من الله تعالى يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ التوراة والإنجيل مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلّم وآية الرجم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ويترك أخذكم بكثير ممّا تخفون قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ يعني محمد صلى الله عليه وسلّم وَكِتابٌ مُبِينٌ بيّن، وقيل: مبيّن وهو القرآن يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مجاهد وعبيد بن عمير ومسلم بن جندب: يُهْدِي بِهِ اللَّهُ بضم الهاء على الأصل لأن أصل الهاء الضمة، وقرأ الآخرون بكسر الهاء اتباعا. مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ رضاه ومعنى رضاه بالشيء قبوله ومدحه له فأثابه عليه وهو خلاف السخط والغضب وسُبُلَ السَّلامِ لطرف السلم وهو الله تعالى وسبيله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلام الكفر إلى نور الإيمان بِإِذْنِهِ بتوفيقه وهدايته وإرادته ومشيئته وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي من يطيق أن يدفع من أمر الله شيئا فيرده إذا قضاء، وهو من قول القائل: ملكت على فلان أمره إذا ضلّ لا يقدر أن ينفّذ أمرا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 18 إلى 19]
الآية إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولم يقل: وما بينهنّ لأنّ المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. قال السدّي: قالت اليهود: إنّ الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدا من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهركم وتأكل خطاياهم ثم ينادي أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فأخرجهم فذلك قولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، وأمّا النصارى، فإن فرقة منهم قالت: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. فأخرجهم الخبر عن الجماعة «1» قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ كان لأمر ما زعمتم أنكم أحباؤه وأولياؤه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرّون إنّه معذبكم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ كسائر بني آدم، ثم قال بالإحسان والإيتاء يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فضلا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا. وقال السدّي: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فعذّبه وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد يُبَيِّنُ لَكُمْ أعلام الهدى وشرائع الدين عَلى فَتْرَةٍ انقطاع مِنَ الرُّسُلِ واختلفوا في قدر مدّة تلك الفترة. وروى عبيد بن سلمان عن الضحاك قال: الفترة فيما بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) ستمائة سنة. معمّر عن قتادة قال: كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) خمسمائة وستون سنة. قال معمّر وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، الضحّاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. حمّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 إلى 26]
«أربعة [كلّهم] يدلي على الله يوم القيامة بحجة وعذر، رجل مات في الفترة ورجل أدرك [الفترة الأخيرة] «1» ، ورجل أصم أبكم ورجل معتوه، فيبعث الله عز وجل إليهم ملكا رسولا فيقول أطيعوه فيأتهم الرسول فيؤجج لهم نارا فيقول: اقتحموها فمن اقتحمها كانت عليهم بردا وسلاما ومن قال لا حقت عليه كلمة العذاب» [43] «2» . وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً اختلفوا في معنى الملوك. فروى أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا» «3» [44] . وقال ابن عباس ومجاهد والحسن والحكم: من كان له بيت وخادم وامرأة فهو ملك. وقال أبو عبد الرحمن: قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد اللَّه: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: إنّ لي خادما ومالا. قال: فأنت من الملوك. وروى أبو عبلة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، يا ابن جعشم يكفيك منها ما يسدّ جوعك ويواري عورتك فإن كان بيت يواريك فذاك، وإن كان دابة تركبها فبخ، فلق الخبز وماء البحر وما فوق ذلك حساب عليك» «4» [45] .
وقال الضحّاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك. وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم وأول من سخّر لهم الخدم من بني آدم. قال السدّي: يعني وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد أن كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا فأخرجكم الله من الذّل وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ يعني عالمي من غيركم. وقال مجاهد: يعني المن والسلوى والحجر والغمام يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ اختلفوا في الأرض المقدسة ما هي. فقال مجاهد: هي الطور وما حوله. وقال الضحّاك: هي إيليا وبيت المقدس الحرام محرم مقداره، السماوات والأرض بيت المقدس مقدّس مقداره من السماوات والأرض. عكرمة والسدّي وابن زيد: هي أريحا. الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. قتادة: هي الشام كلها. قال زيد بن ثابت: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم يؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: «طوبى للشام» قيل: يا رسول الله ولم ذلك؟ قال: «إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم» [46] «1» . نصير بن علقمة الحمصي عن جبير بن نقير عن عبد الله بن حواله قال: كنّا عند النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله أرض فارس والرّوم وأرض حمير وحتى تكونوا أجنادا ثلاثة، جندا بالشام، وجندا بالعراق وجندا باليمن» . فقال ابن حوالة: يا رسول الله أن أدركني ذلك، قال: «اختار لك الشام فإنها صفوة الله من بلادكم وإليها [يجتبي] صفوته من عباده، يا أهل الإسلام فعليكم بالشام فإن صفوة الله من الأرض الشام فمن أبى فليلحق بيمينه وليستق من غدره إن الله قد تكفّل لي بالشام وأهله» «2» [47] . روى الأعمش عن عبد الله بن صبّار عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قسّم الخير عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالشام وواحد بالعراق. وقسم الشّر عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالعراق وواحد بالشام. ودخل الشام عشرة ألف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلّم ونزل خمس وسبعمائة من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم «1» فيهم سبعون [صحابيا] الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني كتبه في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن. وقال ابن إسحاق: ذهب الله لكم. السّدي: أمركم به يدعو لها، وقتادة: أمروا بها كما أمروا بالصلاة وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أعقابكم بخلاف الله فَتَنْقَلِبُوا. قال الكلبي: صعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام جبل لبنان فقيل له: أنظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريّتك من بعدك، قالوا: يعني بني إسرائيل، يا موسى اكتموا أمرهم لا تخبروا به أحدا من أهل العسكر فيفشيانه فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابن عمّه إلّا رجلين وفيا. فقال لهم موسى: وهما يوشع بن نون بن أفراثيتم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا ختن موسى على أخته مريم ابنت عمران وهما من إيليا فعلمت جماعة بني إسرائيل ذلك، ورفعوا أصواتهم بالبكاء، وقالوا: يا ويلتنا متنا في أرض مصر، وليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا الله لدينهم فيكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر وذلك قوله عز وجل إخبارا عنهم: قالُوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها. وقال قتادة: كانت لهم أجسام وخلق عجيب ليست لغيرهم وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ فلما قالوا ذلك وهمّوا بالانصراف إلى مصر خرّ موسى وهارون (عليهم السلام) ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله عز وجل عنهما في قوله قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون الله. قرأ سعيد بن جبير يُخافُونَ بضم الياء وقال: كانا من الجبّارين فأسلما واتّبعا موسى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالتوفيق والعصمة ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ يعني قرية الجبّارين فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لأنّ الله منجز وعده ولا ينساهم فكانت أجسامهم عظيمة قوية، وقلوبهم ضعيفة فلا يخشونهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما قالُوا: يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه يوم الحديبية حين صدّ عن البيت: إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت. فقال المقداد بن الأسود: أما والله لا نقول لك ما قال قوم موسى اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، ولكنّا نقاتل عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك فلو خضت البحر لخضناه معك، ولو تسنّمت جبلا لعلوناه معك فسر بنا على بركة الله، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بايعوه على ذلك وأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بذلك وسرّه.
قال ابن مسعود: لأن أكون صاحب هذا المسجد أحبّ إليّ مما عدل بي. فلمّا فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من معصيتهم بينهم ومخالفتهم أمر ربهم وهممتم بيوشع وكالب، غضب موسى ودعا عليهم قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ أي فافصل واقض. وقرأ عبيد بن عمير: فَافْرِقْ بخفض الرّاء بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ العاصين. وكانت عجلة عجلها موسى وظهر الغمام على باب قبة الزمر موضع مناجاته وأوحى الله تعالى إلى موسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدّقون بالآيات لأهلكنّهم جميعا ولأجعلنّ لك شعبا أشد وأكثر منهم، فقال موسى (عليه السلام) : إلهي لو إنّك قتلت هذا الشعب كلّهم كرجل واحد لقالت الأمم الذين سمعوا: إنّما قتل هذا الشعب لأنه لم يستطع أن يدخلهم الأرض المقدسة فقتلهم في البرية، وإنّك طويل صبرك كثير نعمك وإنّك تغفر الذنوب وتحفظ الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء، فاغفر لهم توبتهم، فقال الله لموسى: قد غفرت لهم بكلمتك ولكن بعد ما سمّيتهم فاسقين ودعوت عليهم لأحرّمن عليهم دخول الأرض المقدسّة غير عبديّ يوشع وكالب ولآتيّهنّهم في هذه البرية أربعين سنة فكان كل يوم من الأيام الذي يحتسبوا فيها سنة وليلقين حتفهم في هذه القفار وأما بنوهم الذين لم يعلموا الخير والشر فإنهم يدخلون الأرض المقدسة فذلك قوله تعالى قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ يتحيرون في الأرض فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيروا في كل يوم جادّين حتّى إذا أمسوا وباتوا فإذا هم في الموضع الذي ارتحلوا عليه، وكانوا ستمائة ألف مقاتل ومئات من النقباء العشرة الذين أفشوا الخبر بغتة فكل من دخل التيه ممن جاوز عشرين سنة مات في التيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً فلمّا هلكوا وانقضت أربعون سنة ونشأت النواشي من ذرياتهم ساروا إلى حرب الجبارين «1» . واختلف العلماء في من تولي ذلك الحرب وعلى يد من كان الفتح، فقال القوم: إنّما فتح أريحا موسى (عليه السلام) وكان يوشع على مقدمته فسار موسى إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخل بهم يوشع وقاتل الجبابرة التي كانوا بها ثم دخلها موسى (عليه السلام) بني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم فيه ثم قبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق، وهذا أصح الأقاويل، لإجماع العلماء أن عوج بن عناق قتله موسى، والله أعلم. وقال الآخرون: إنّما قاتل الجبّارين يوشع ولم يسر إليهم إلّا بعد موت موسى، وهلاك جميع من أبى المسير إليها فقالوا: مات موسى وهارون في التيه.
قصة وفاة هارون (عليه السلام)
قصة وفاة هارون (عليه السلام) قال السدّي: أوحى الله عز وجل إلى موسى: أني متوفي هارون، فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو الجبل، فإذا هما بشجر لم ير شجر مثلها وإذا بيت مبني فيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلمّا نظر هارون إلى ذلك بجنبه أعجبه وقال: يا موسى إنّي أحب أن أنام على هذا السرير، قال: فنم عليه، فقال: إنّي أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ، قال له موسى: لا، أنا أكفيك رب هذا البيت فنم، قال: يا موسى بل نم معي فإن جاء رب البيت غضب عليّ وعليك جميعا، فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد حتفه قال: يا موسى خذ عيني فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون، قالوا: إنّ موسى قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له، فقال موسى: ويحكم فإنّ أخي أمر ولن أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. وقال عمرو بن ميمون: كان وفاة موسى وهارون في التيه، ومات هارون قبل موسى. فكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون ودفنه موسى، وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قال: مات، قالوا: كذبت ولكنك قتلته لمحبّتنا إياه، وكان محببا في بني إسرائيل. فتضرع موسى إلى ربّه وشكا ما لقي من بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إليه أن انطلق بهم إلى قبر هارون حتى تخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله، وانطلق بهم إلى قبر هارون فنادى: يا هارون فخرج من قبره ينفض من رأسه فقال: أنا قتلتك؟ قال: لا واللَّه ولكنّي متّ قال: فعد إلى مضجعك، وانصرفوا. وأما وفاة موسى (عليه السلام) فقال ابن إسحاق: كان صفي الله موسى قد كره الموت وأعظمه فلما كرهه أراد الله أن يحبّب إليه الموت ويكره إليه الحياة فالتقى يوشع بن نون وكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى: يا نبي الله ما أحدث الله؟ فيقول له يوشع: يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة وهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتّى تكون أنت الذي تهتدي به وتذكره ولا تذكر له شيئا؟ فلما رأى ذلك موسى كره الحياة وأحبّ الموت، ثم اختلفوا في صفة موته. فروى همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «جاء ملك الموت إلى موسى (عليه السلام) فقال له: أجب ربك، قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال: إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني، قال: فردّ
الله عينه وقال: إرجع إلى عبدي، فقل له: الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بعدد كل شعرة من ذلك سنة قال: ثم ماذا، قال: ثم تموت، قال: فألان من قريب قال: يا ربّ أدنني من الأرض المقدسة قدر رمية حجر» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «والله لو إني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطور الطريق عند الكثيب الأحمر» «1» [48] . قال الثعلبي: سمعت أبا سعيد بن حمدون قال: سمعت أبا حامد المقري قال: سمعت محمد ابن يحيى يقول: قد صحّ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم معنى قصة ملك الموت وموسى لا يردّها إلّا ضال. وفي حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ ملك الموت كان يأتي النّاس عيانا حتّى أتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فرجع ملك الموت، فجاء بعد ذلك خفية» «2» [49] . وقال السّدي: في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كان موسى (عليه السلام) يمشي وفتاه يوشع إذ أقبلت ريح سوداء فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى. فقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم لموسى نبي الله فاستلّ موسى من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل. وقالوا: أقتلت نبي الله؟ قال: لا والله ما قتلته ولكن استلّ منّي، فلم يصدّقوه وأرادوا قتله، قال: فإذا لم تصدقوني فأخّروني ثلاثة أيام فدعا الله عز وجل فأتى كل رجل ممّن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه» «3» [50] . وقال وهب: خرج موسى (عليه السلام) لبعض حاجته فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبرا فعرفهم فأقبل إليهم حتى وقف عليهم فإذا هم يحفرون قبرا لم ير شبيها قط أحسن منه ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ قالوا: نحفره والله لعبد كريم على ربّه، قال: إنّ لهذا العبد من الله لمنزلة فإني ما رأيت كاليوم مضجعا، فقالت الملائكة: يا صفي الله أتحب أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربك ثم تنفس أسهل تنفس تنفّسته قط، فنزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس فقبض الله روحه ثم سوّت عليه الملائكة «4» . وقيل: إن ملك الموت أتاه فقال له: يا موسى أشربت الخمر؟ قال: لا، فاستكرهه فقبض روحه. وقيل: بل أتاه بتفاحة من الجنّة فشمها فقبض روحه.
ويروى أن يوشع بن نون رآه بعد موته في المنام فقال: كيف وجدت الموت. قال كشاة تسلخ وهي حيّة، وكان عمر موسى (عليه السلام) مائة وعشرون سنة، عشرون سنة منها في ملك إفريدون ومائة في ملك منوچهر «1» فلما انقضت الأربعون سنة مات. ولما مات موسى بعث الله تعالى إليهم يوشع نبيا فأخبرهم إنه نبي الله وأن الله أمرهم بقتال الجبّارين فصدقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان في السابع نفخ في القرون وضجّ الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فدخلوا وقاتلوا الجبّارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت الغلبة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب ودخل ليلة السبت فخشي أن يعجزوا فقال: اللهم أردد الشمس عليّ فقال للشمس: إنّك في طاعة الله فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقم حتى ينتقم من أدعائه دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد له في النهار ساعة حتى قطعهم أجمعين ثمّ أرسل ملوك الأرمانيين بعضهم إلى بعض فكانوا خمسة فجمعوا كلمتهم على يوشع وقومه وهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى هبطة خوران ورماهم الله تعالى بأحجار مبرّد وكان من قبله البرد أكثر مما قبله بنو إسرائيل بالسيف، وهرب الخمسة الملوك فاختفوا في غار فأمرهم يوشع فأخرجوا فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم فطرحهم في ذلك الغار وتتبّع سائر ملوك الشام فاستباح منهم واحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت الشام كلها لبني إسرائيل، وفرق عمّاله في نواحيها ثم جمع الغنائم فلم ينزل النار. فأوحى الله تعالى إلى يوشع أنّ فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت. فدخل بينهم بيده، فقال صلى الله عليه وسلّم: هلمّ لما عندك فأتاه برأس الثور مكلل بالياقوت والجوهر كان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأحنث الرجل والقربان «2» . معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «غزا نبي من الأنبياء فقال: لقومه لا يتبعني رجل قد ناكح امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما بنى ولا آخر قد بنى بناء له ولما يرفع سقفها، ولا آخر قد اشتري غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها. قال: فغزا فدنا للدير حين صلّى العصر أو قريبا من ذلك. فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ ساعة فحبست له ساعة حتى فتح الله عليه. قال من علمي أنها لم تحبس لأحد قبله ولا بعده. ثم وضعت الغنيمة فجمعوا فجاءت النار ولم تأكلها فقال: إنّ فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده. فقال: فيكم الغلول أنتم غللتم، قال: فأخرجوا مثل
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 إلى 32]
رأس بقرة من ذهب فألقوه في الغنيمة وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلتها» قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن الله تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا» «1» [51] . قالوا: ثم مات يوشع (عليه السلام) ودفن في جبل أفرايم وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة. وتدبّر أمر بني إسرائيل بعد وفاة موسى سبعا وعشرين سنة. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ خبر ابْنَيْ آدَمَ وهما هابيل وقابيل، فهابيل في اسمه ثلاث لغات: هابيل وهابل وهابن. وقابيل في اسمه خمس لغات: قابيل وقابين وقابل وقبن وقابن إِذْ قَرَّبا قُرْباناً وكان سبب تقرّبهما القربان على ما ذكره أهل العلم بالقرآن. أن حوّاء كانت تلد لآدم (عليه السلام) توأما في كل بطن غلاما وجارية إلّا شيثا فإنها ولدته مفردا وكان جميع ما ولدته حوّاء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته أقليما وآخرهم عبد المغيث مغيت وتوأمته أمة المغيث ثم بارك الله في نسل آدم (عليه السلام) «2» . قال ابن عباس: لم يمت آدم (عليه السلام) حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا بنوذ «3» . ورأى آدم (عليه السلام) فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد. واختلف العلماء في وقت مولد قابيل وهابيل، وموضع اختلافهما. فقال بعضهم: غشى آدم حوّاء بعد هبوطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وتوأمته أقليما في بطن، ثم هابيل وتوأمته في بطن. وقال محمد بن إسحاق: عن بعض أهل الكتاب، العلم الأول إنّ آدم كان يغشى حوّاء في
الجنّة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت له فيها بقابيل وتوأمته فلم يجد عليها وحما ولا وصبا ولا يجد عليها طلقا حين ولدتهما ولم تر معهما دما، لطهر الجنّة فلما هبط إلى الأرض واطمأنا بها تغشّاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوصب والوحم والطلق والدم. وكان آدم إذا شبّ أولاده تزوّج غلام هذا البطن جارية البطن الآخر وتزوج بجارية هذا البطن غلام البطن الآخر وكان الرجل منهم يتزوّج أي أخواته يشاء إلّا توأمته التي ولدت معه فإنها لا تحل له، وذلك أنه لم يكن يومئذ نساء إلّا أخواتهم وأمهم حوّاء، فلما ولد قابيل وأقليما، ثم هابيل وتوأمته ليوذا في بطن، وكان بينهما سنتين. في قول الكلبي. وأدركوا أمر الله عز وجل آدم (عليه السلام) أن ينكح قابيل ليوذا أخت هابيل. ونكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أخت قابيل من أحسن الناس. فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال: هي أختي ولدت معي في بطن. وهي أحسن من أخت هابيل وأنا أحق بها منه، لأنّها من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض. وأنا أحق بأختي فقال له أبوه: إنها لا تحلّ لك، فأبى أن يقبل ذلك منه وقال إنّ الله لم يأمر بهذا وإنما هو من رأيه. فقال لهما آدم: فقرّبا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها. وقال معاوية بن عمار: سألت الصادق عليه سلام الله عن آدم (عليه السلام) أكان زوّج ابنته من ابنه، فقال: معاذ الله والله لو فعل ذلك آدم ما رغب عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وما كان دين آدم إلّا دين رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنّ الله تبارك تعالى لما نزل آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حوّاء بنتا وسمّاها ليوذا فبغت وهي أوّل من بغت على وجه الأرض فسلّط الله عليها من قتلها فولدت لآدم على أثرها قابيل، ثم ولد له هابيل، فلما أدرك قابيل أظهر الله جنية من ولد الجان يقال لها جهانة في صورة إنسية وأوحى الله تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوجها من قابيل فزوجها منه فلما أدرك هابيل أهبط الله تعالى حوراء إلى آدم (عليه السلام) في صورة إنسية وخلق لها رحما وكان اسمها نزلة، فلما نظر إليها قابيل ومقها، وأوحى الله تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن زوّج نزلة من هابيل، ففعل ذلك، فقال قابيل له: ألست أكبر من أخي وأحق بما فعلت به منه. فقال له آدم: يا بني إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. فقال: لا ولكنّك آثرته عليّ بهواك. فقال له آدم: إن كنت تريد أن تعلم ذلك فقرّبا قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أولى بالفضل من صاحبه «1» . قالوا: وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء فأكلتها. وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلتها الطير والسباع، فخرجا ليقرّبا وكان قابيل صاحب زرع وقرّب حبرة من طعام من أردى زرع وأضمر في نفسه: ما أبالى أيقبل منى أم لا لأتزوج أختي أبدا، وكان هابيل راعيا
صاحب ماشية فقرّب حملا سمينا من بين غنمه ولبنا وزبدا وأضمر في نفسه الرضا لله عز وجل. وقال إسماعيل بن رافع: بلغني أنّ هابيل أمنح له غنمه وكان في حملتها حمل فأحبه حتى لم يكن له مال أعظم له منه وكان يحمله على ظهره فلما أمر بالقربان قرّبه، قال: فوضعا قربانيهما على الجبل، ثم دعا آدم (عليه السلام) فنزلت نار من السماء وأكلت الحمل والزبد واللبن، ولم تأكل من قربان قابيل حبّا، لأنه لم يكن زاكي القلب. وقبل قربان هابيل لأنه كان زاكي القلب. فما زال يرتع في الجنة حتى فدى به ابن إبراهيم فذلك قوله عز وجل فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ فنزلوا عن الجبل وعرفوا وغضب قابيل لمّا ردّ الله قربانه وظهر فيه الحسد والبغي وكان يضمر ذلك من نفسه، إلى أن أتى آدم مكّة ليزور البيت فلمّا أراد أن يأتي مكّة قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال ذلك للأرض فأبت، وللجبال فأبت، فقال: ذلك لقابيل فقبل منه وقال: نعم ترجع وترى ولدك كما يسرّك، فرجع آدم وقد قتل قابيل أخاه وفي ذلك قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ «1» يعني قابيل إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا حين حمل أمانة أبيه ثم خانه. قالوا: فلمّا غاب آدم أتى قابيل وهابيل وهو في غزة قال: لأقتلك. قال: ولم؟ قال: لأن الله قبل قربانك، وردّ عليّ قرباني وتنكح أختي الحسناء، وأنكح أختك الدميمة وتحدث الناس إنّك خير منّي وأفضل ويفتخر ولدك على ولدي، فقال له هابيل: وما ذنبي قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ. قال عبد الله بن عمر: أيم الله إن كان المقتول لأشدّ الرجلين ولكن منعه التحرّج أن يبسط إلى أخيه يده. وقال مجاهد: كتب عليهم في ذلك الوقت، إذا أراد رجل قتل رجل أن يتركه ولا يمتنع منه إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ يعني بإثم قتلي إلى إثمك الذي عملته قبل قتلي، هذا قول عامة المفسرين. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعا فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ وفي هذا دليل على إنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ أي طاوعته وبايعته في قَتْلَ أَخِيهِ. وقال مجاهد: شجعت. قتادة: زيّنت. فَقَتَلَهُ.
قال السدّي: فلما أراد قتل هابيل راغ الغلام في رؤوس الجبال. ثم أتاه يوما من الأيام [وهو يرعى غنما له وهو نائم] فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات. وقال ابن جريح: لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل، فتمثل له إبليس وأخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر فعلّمه القتل، فوضع قابيل رأس أخيه بين حجرين. وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة فاختلفوا في مصرعه وموضع قتله. قال ابن عباس: على جبل نود، وقال بعضهم: عند عقبة حرّا. حكى محمد بن جرير، وقال جعفر الصادق: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم. فلما قتله بالعراء لم يدر ما يصنع به، لأنه كان أوّل ميّت على وجه الأرض من بني آدم فقصده السباع، فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعلقت به الطير والسباع تنظر متى يرمي به فتأكله. فَبَعَثَ اللَّهُ غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله عليه حتى مكّن له ثم ألقاه في الحفيرة وواراه. وقابيل ينظر إليه فلما رأى ذلك قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي أي جيفته وفيه دليل على أن الميت كلّه عورة فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على حمله لا على قتله، وقيل: على موت أخيه لا على ركوب الذنب. يدل عليه ما أخبر الأوزاعي عن المطلب بن عبد الله المخزومي قال: لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء، فناداه الله: أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبا، فقال الله عز وجل: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك؟ فأين دمه إن كنت قتلته؟ ومنع الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعدها أبدا. مقاتل بن الضحّاك عن ابن عباس قال: لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكّة اشتال الشجر وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه: وأمرّ الماء واغبرّت الأرض. فقال آدم (عليه السلام) : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا بقابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول، وهو أوّل من قال الشعر: تغيرت البلاد ومن عليها ... ووجه «1» الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم ... وقلّ بشاشة الوجه الصبيح «2» وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: من قال إن آدم قال شعرا فقد كذب على الله
ورسوله ورمى آدم بالمآثم، إنّ محمدا صلى الله عليه وسلّم والأنبياء كلهم صلوات الله عليهم في النهي عن الشعر سواء، قال الله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، وإنما يقول الشعر من تكلّم بالعربية فلمّا قال آدم مرثية في ابنه هابيل، وهو أوّل شهيد كان على وجه الأرض. قال آدم لابنه شيث: - وهو أكبر ولده ووصيّه-: يا بني إنّك وصيي، احفظ هذا الكلام ليتوارث فلم يزل يقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فإذا هو سجع، فقال إن هذا ليقوّم شعرا فردّ المقدم إلى آخره والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعرا وما زاد فيه ولا نقص حرفا من ذلك قال: تغيّرت البلاد ومن عليها ... ووجه الأرض مغبّر قبيح تغير كل ذي طعم ولون ... وقلّ بشاشة الوجه الصبيح وقابيل أذاق الموت هابيل ... فوا حزني لقد فقد المليح ومالي لا أجود بسكب دمع ... وهابيل تضمّنه الضريح بقتل ابن النبي بغير جرم ... قلبي عند قلبه جريح أرى طول الحياة عليّ غمّا ... وهل أنا من حياتي مستريح فجاورنا عدوّا ليس يفنى ... عدوما يموت فنستريح دع الشكوى فقد هلكا جميعا ... بهالك ليس بالثمن الربيح وما يغني البكاء عن البواكي ... إذا ما المرء غيّب في الضريح فبكّ النفس منك ودع هواها ... فلست مخلدا بعد الذبيح فأجابه إبليس في جوف الليل شامتا: تنحّ عن البلاد وساكنيها ... فتى في الخلد ضاق بك الفسيح فكنت بها وزوجك في رخاء ... وقلبك من أذى الدنيا مريح فما انفكت مكايدي ومكري ... إلى أن فاتك الخلد الرّبيح فلولا رحمة الجبّار أضحى ... بكفك من جنان الخلد ريح «1» وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل هابيل مكث آدم (عليه السلام) مائة سنة لا أكثر. ثم أتى فقيل: حيّاك الله وبياك أي ضحّكك، ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حوّاء شيثا وتفسيره: هبة الله، يعني إنه خلف من هابيل،
وعلّمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه هبة الله وصار وصي آدم عليهما السلام وولي عهده، وأما قابيل فقيل له: اذهب طريدا شريدا فزعا مرهوبا لا يأمن من يراه فأخذ بيد أخته هبة الله ذهب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس، فقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النّار ويخدمها فانصب أنت نارا يكون لك ولعقبك فنصب نارا وهو أوّل من نصب نارا وعبدها. قالوا: كان لا يمرّ به أحدا من ولده إلّا رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له فقال الأعمى: إنّ هذا أبوك قابيل فرمى الأعمى ابن قابيل فقتله. فقال ابن الأعمى: قتلت أباك. فرفع يده فلطم ابنه فمات قال الأعمى: ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي. قال مجاهد: فعلقت إحدى رجل قابيل إلى فخذه وساقه وعلقت يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيث أدارت عليه بالصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج، قالوا: واتّخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطنبور، والمزامير، والعيدان، والطنابر، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى طوّفهم الله عز وجل بالطوفان أيام نوح (عليه السلام) وبقي نسل شيث. قال عبد الله بن عمر: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار العذاب قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم. الأعمش عن عبد الله بن مرّة عن مسروق بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تقتل نفس مسلمة ظلما إلّا كان على ابن آدم [الأوّل] كفل من دمه، لأنه أوّل من سنّ القتل» [52] . مسلم بن عبد الله عن سعيد بن صور عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن يوم الثلاثاء فقال: «يوم دم» قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «فيه حاضت حوّاء وقتل ابن آدم أخوه» «1» [53] . وعن يحيى بن زهدم قال: حدّثني أبي عن أبيه عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «امتن الله عز وجل على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث، بالريح بعد الروح فلولا إن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما، وبالدودة في الحبة فلولا أن الدودة تقع في الحبة لأكنزها الملوك وكانت حبا «2» من الدنانير والدراهم. وبالموت بعد الكبر، فإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويملّه أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أيسر له» «3» [54] .
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يعني من جرّاء ذلك القاتل ووحشيّته، يقال: أجل فلان يأجل أجلا، مثل أخذ يأخذ أخذا. قال الشاعر» . وأهل خباء صالح ذات بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله «2» كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ قتله فسادا منه أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ يعني قوله إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً. مجاهد: اختلف الناس بينهما فقال ابن عباس: في رواية عكرمة وعطية: من قتل نبيا وإماما عادلا فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ومن عمل على عضد نبي أو إمام عادل فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً. مجاهد: مَنْ قَتَلَ نَفْساً محرّمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعا، وَمَنْ أَحْياها من سلّم من قتلها فقد سلّم من الناس جميعا «3» . السدّي: مَنْ قَتَلَ ... فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً عند المقتول في الإثم وَمَنْ أَحْياها واستنقذها من هلكة من غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً عند المستنقذ. الحسن وابن زيد: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً يعني إنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي نوى بقلبه لو كان قتل الناس جميعا وَمَنْ أَحْياها من عفا عمّن وجب له القصاص منه فلم يقتله فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً. قتادة والضحّاك، عظم الله قتلها أو عظم وزرها فمعناها من أستحل قتل مسلم بغير حقه فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لأنهم لا يسلمون منه. وَمَنْ أَحْياها فحرمها وتورع من قتلها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً لسلامتهم منه. وقال سليمان بن علي الربعي: قلت للحسن: يا أبا سعيد هي لنا كما كانت لبني إسرائيل، قال: أي والذي لا إله غيره لإن دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ. روى محمد بن الفضل عن الزيات بن عمرو عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 إلى 40]
سقى مؤمنا ماء على [ظمأ] «1» فكأنما أعتق سبعين رقبة، ومن سقى في غير موطنها فكأنما أحيا نفسا وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» «2» [55] . إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية. قال الضحاك: نزلت في قوم من أهل الكتاب، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض. الكلبي: نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين لم يهجّ. قال: فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام. بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ شاهدا فانهدّوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل جبرئيل (عليه السلام) بالقضية فيهم. وقال سعيد بن جبير: نزلت في ناس من عرينة وغطفان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة لأن أجوافنا انتفخت، وألواننا قد اصفرّت فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أخرجوا إلى لقاحنا واشربوا أبوالها وألبانها» «3» [56] فذهبوا وقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل. وارتدّوا عن الإسلام فنودي في الناس: يا خيل الله اركبي فركبوا لا ينتظر فارس فارسا فخرجوا في طلبهم فجيء بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقطع أيديهم
وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرّ حتى ماتوا ، ثم اختلفوا في حكم الآيتين. فقال بعضهم: هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز وشرب بول الإبل لا يجوز. وقال آخرون: حكمة ثابت إلّا السمل والمثلة. قال الليث بن سعد: نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وتعليما منه إيّاه عقوبتهم فقال: «إنما جزاؤهم هذا» أي المثلة [57] . ولذلك ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطيبا إلّا نهى عن المثلة، واختلفوا في المحارب الذي يستحق هذا الحد. فقال بعضهم: واللص الذي يقطع الطريق والمكابر في الأمصار والذي يحمل السلاح على المسلمين ويقصدهم في أي موضع كان حتى كان بالغيلة. وهو الرجل يخدع الرجل والمرأة والصبي فيدخله بيتا ويخونوا به فيقتله ويأخذ أمواله وهذا قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد وعبد اللَّه بن لهيعة والشافعي. وقال بعضهم: فهو قاطع الطريق، وأما المكابر فليس بالمحارب وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بالفساد أي بالزنا والقتل إهلاك الحرث والنسل أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا اختلفوا في حكم الآية. فقال قوم: الإمام فيهم بالخيار فأي شيء من هذه الأشياء شاء فعل. وهو قول الحسن وسعد بن المسيب والنخعي ومجاهد ورواية الوالبي عن ابن عباس. واحتجّوا بقوله تعالى فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ «1» وبقوله تعالى في كفّارة اليمين فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ «2» الآية. وقال آخرون: هذا حكم مختلف باختلاف الجناية، فإن قتل قتل، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع، وإن أخاف السبيل ولم يقتل وأخذ المال نفي. وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، والسدّي، والنخعي والربيع. ورواية العوفي عن ابن عباس. فاختلف العلماء في معنى النفي، فقال ابن عباس: هو حكم من أعجز فإذا أعجزك أن تدركه وخرج من لقيه، قتله. وقال آخرون: والمقبوض عليه ثم اختلفوا في معناه، فقال طائفة: هو أن ينفى من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها وهو قول سعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز. وإليه ذهب الشافعي. وقال الآخرون والحسن، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال محمد بن الحسن: هو نفيه من
بلده إلى غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه حتى يظهر توبته وهو المختار يدل عليه ما روى ابن وهب عن أبي صيعة عن يزيد بن أبي حبيب، أن حبان بن شريح كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إن ناسا من القبط قامت عليهم البيّنة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا وأن الله يقول إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ إلى قوله مِنْ خِلافٍ. وسكت عن النفي فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء الله فيهم فليكتب بذلك فلمّا قرأ عمر كتابه، قال: لقد اجترأ حبّان، ثم كتب: إنه بلغني كتابك وفهمت ولقد اجترأت حين كتبت بأوّل الآية وسكتّ عن آخرها تريد أن تجترئ للقتل والصلب فإنك عبد بني عقيل يعني الحجاج فإن الله يقول أَوْ يُنْفَوْا آخر الآية، فإن كانت قامت عليهم البيّنة فاعقد في أعناقهم حديدا فأنفهم إلى شعب وبدا وأصل النفي الطرد. وقال أوس بن حجر: ينفون عن طرق الكرام كما ... ينفى المطارق ما يلي القردا «1» . أي ما يليه القرد وهو الصوف الرديء. ومنه قيل: الدراهم الرديئة نفاية ولما تطاير من الماء عن الدلو نفي. قال الراجز: كأن متنيه من النفي ... مواقع الطير على الصفي «2» ذلِكَ الذي ذكرتم من الحد لَهُمْ خِزْيٌ عذاب وهوان فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ثم قال إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. قال أكثر العلماء: إلّا الذين تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم وآمنوا وأصلحوا من قبل القدرة عليهم فإنه لا سبيل عليهم بشيء من الحدود التي ذكرها الله في هذه والآية لأحد قبله فيما أصاب في حال كفره لا في مال ولا في دم ولا حرمة، هذا حكم المشركين والمحاربين. فأما المسلمون المحاربون فاختلفوا فيهم. فقال بعضهم: سقط عنه بتوبته من قبل أن يقدر عليه حدّ الله ولا يسقط عنه بها حقوق بني آدم وهو قول الشافعي. وقال بعضهم: يسقط عنهم جميع ذلك ولا يؤخذ شيء من أمواله الّا أن يوجد عنده مال بعينه فيرده إلى صاحبه ويطلبه وليّ دم بدم يقوم عليه البينة فيه فيقاد به، وأما الدماء والأموال التي
أصابها ولم يطلبها أولياؤه فلا يتبعه الإمام، على هذا قول مالك، والأوزاعي والليث بن سعد. وقال بعضهم: إذا استأمن من وصايانا من قبل أن يقدم عليه قبل الله توبته ولا يؤخذ بشيء من جناياته التي سلفت فلا يكون لأحد قبله معه في دم ولا مال. وهذا قول السدّي يدل عليه. وروى الشعبي أنّ حارثة بن يزيد خرج محاربا في عهد علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) فأخاف السبل وسفك الدّماء وأخذ الأموال ثم جاء تائبا من قبل أن يقدر عليه فأتى الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فطلب إليه أن يستأمن له فأتى ابن جعفر فأتى عليه فأتى سعيد بن قيس الهمدالي فقبّله وضمّه إليه فلمّا صلّى علي (رضي الله عنه) الغداة أتاه سعيد بن قيس. فقال: يا أمير المؤمنين ما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قال: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ قال: ما تقول فيمن تاب قبل أن تقدر عليه فقال أقول: كما قال الله عز وجل إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الآية. فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر، قال: نعم فجاء إليه فبايعه وآمنه وكتب له أمانا منشورا. فقال حارثة: ألا أبلغا همدان إما لقيتها ... على النأي لا يسلم عدو يعيبها لعمر أبيها إن همدان تتقي الإله ... ويقضي بالكتاب خطيبها «1» قال الشعبي: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في أمارة عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) بعد ما صلّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المهدي وأني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض وإني تبت من قبل أن يقدر عليّ، فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان وإنه كان يحارب الله ورسوله وسعى في الأرض بفساد فإنه تاب من قبل أن يقدر عليه فمن لقيه فلا يعرضن إلّا بخير فإن يك صادقا فسبيله سبيل من صدق. وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه، فأقام الرجل فاستأذن وإنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله. وروى الليث بن سعيد عن محمد بن إسحاق أن عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبته الأئمّة والعامّة فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا وذلك أنّه سمع رجلا يقرأ هذه الآية قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا «2» الآية فوقف عليه، فقال: يا عبد الله أعد فأعادها عليه فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر ثم اغتسل وأتى مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلّم فصلّى الصبح ثم مضى إلى أبي هريرة وهو في غمار أصحابه فلما استغفر عرفه الناس فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ جئت تائبا من قبل أن تقدروا عليّ. فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا عليّ جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه فترك، وخرج عليّ تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر فلقوا الروم فقربوا سفينة إلى سفينته من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا إلى شقها الآخر فمالت ثم أوقعهم فغرقوا جميعا «1» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ واطلبوا إليه القربة وهي [في الأصل ما يتوصّل به إلى الشيء ويتقرّب به، يقال: وسل إليه وسيلة وتوسّل] «2» ، وجمعها وسائل. قال الشاعر: إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل «3» قال عطاء: الوسيلة أفضل درجات الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الوسيلة أفضل درجات الجنة» «4» [58] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سلوا الله لي الوسيلة فإنها أفضل درجة في الجنة لا ينالها إلّا عبد واحد وأرجوا أن أكون أنا هو» «5» [59] . وروى سعيد بن طريف عن الأصمعي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش إحداهما بيضاء والأخرى صفراء في كل واحد منهما سبعون ألف غرفة أبوابها وأكوابها من عرق واحد فالبيضاء. واسمها الوسيلة. لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته والصفراء لإبراهيم (عليه السلام) وأهل بيته» [60] «6» . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهب تفتدى به فيقول: نعم، فيقال: قد سألت أيسر من ذلك» «7»
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ قرأه العامة بفتح الياء كقوله وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ قائم. وقرأ أبو واقدة، والجرّاح يُخْرَجُوا بضمّ الياء كقوله رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها وما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما الآية. نزلت في طعمة بن الأبرق سارق الدرع وقد مرّت قصته في سورة النساء. والسبب في وجه رفعهما. فقال بعضهم: هو رفع بالابتداء، وخبره فيما بعد. وقال بعضهم: هو على معنى الجزاء، تقديره من سرق فاقطعوا أيديهما الآية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. ولو أراد سارقا وزانيا بعينهما لكان وجه الكلام النصب. وقال الأخفش: هو الرفع على الخبر وابتداء مضمر كأنه قال: مما يقص عليك ويوحى إليك وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما. وقال أبو عبيدة: هو رفع على لغة [ ... ] من رفع [ ... ] «1» فيقول: الصيد [غارمه] ، والهلال فانظر إليه، يعني أمكنك الصيد غارمه، وطلع الهلال فانظر إليه. وقرأ عيسى بن عمرو: وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ منصوبين على إضمار اقطعوا السارق والسارقة. ودليل الرفع قراءة عبد الله، والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ومستثنا في هذا السارق الذي عناه الله عز وجل بقطع يده وفي القدر الذي يقطع به يد السارق. فقال قوم: يقطع إذا سرق عشر دراهم فصاعدا، ولا يقطع فيما دون ذلك. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه واحتجوا بما روى عطاء ومجاهد عن أيمن بن أم أيمن قال: يقطع السارق في ثمن المجن وكان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم دينارا أو عشرة دراهم. وروى أيّوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشرة دراهم. وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: أدنى قيمة عن المجن هو ثمن المجن عشرة دراهم. قال سليمان بن يسار: لا يقطع الخمس إلّا بالخمس. واستدل بما روى سفيان عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلّم: قطع في قيمة خمسة دراهم [62] . وروى سفيان عن عيسى عن الشعبي عن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قطع في خمسة دراهم.
وروى شعبة عن داود بن [فراهج] قال: سمعت أبا هريرة وأبا سعيد الخدري قالا: تقطع الكف في أربعة دراهم فصاعدا، ولا تقطع في ثلاثة دراهم فصاعدا. واحتج بما روى عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قطع سارقا في مجن ثمنه ثلاثة دراهم فقال: بعضهم يقطع في ربع دينار فصاعدا، وهو قول الأوزاعي، والشافعي وإسحاق الحنظلي وأبو ثور. واحتجوا بما روى سفيان عن الزهري عن حمزة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يقطع في ربع دينار فصاعدا» «1» [63] . وروى أبو بكر بن محمد عن عمر عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعدا» «2» [64] . وقال بعضهم: يقطع سارق القليل والكثير، ولو سرق دانق، وهو قول ابن عباس، قال: لأن الآية عامّة ليس خاصّة. وقول الزبير: يروى أنه يقطع في درهم وحجّة هذا المذهب ما روى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» «3» [65] . وروى ثوبان أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم أتي بسارق سرق شملة قال: أسرقت؟ ما أخالك سرقت؟ قال: نعم. قال: اذهبوا به فاقطعوه. ثم اتوني به، ففعل فقال: «ويحك تب إلى الله» «4» [66] . فقال: اللهم تب عليه ، ثم اختلفوا في كيفيّة القطع: فقال عمرو بن دينار: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يقطع اليد من الكوع وكان يقطع من المفصل وكان علي يقطع الكف من الأصابع والرجل من شطر القدم. فإذا قطع ثم عاد إلى السرقة فهل يقطع أم لا؟ قال أهل الكوفة: لا تقطع واحتجّوا بحديث عبد خير، قال: أتى علي سارق فقطع يده ثم أتى وقطع رجله ثم أتى فضربه وحبسه وقال: إني لأستحي أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها. وقال أهل الحجاز: يقطع، وكان قد احتجوا في ذلك بقوله تعالى فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما على الإجماع. ويروي حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد عن الحرث بن حاطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتي بلصّ فقال: «اقتلوه» فقال: يا رسول الله إنما سرق، قال: «اقتلوه» قالوا: يا رسول الله إنما
سرق، قال: «اقطعوا يده» «1» [67] . قال: ثم سرق فقطعت رجله ثم سرق على عهد أبي بكر حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضا الخامسة فقال أبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعلم بهذا حين قال اقتلوه، ثم دفعوه إلى قبيلة من قريش ليقتلوه في عهد عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال: أمّروني عليكم فأمّروا عليه فكان إذا ضرب ضربوا حتى قتلوه ، ثم إذا قطع السارق فهل يغرم السرقة أم لا؟ فقال سفيان وأهل الكوفة: إذا قطع السارق فلا يغرم عليه إلّا أن يعيد المسروق فيعيدها إلى صاحبها. وروى المسوّر بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يغرم صاحب السرقة إذا أقيم عليه الحد» «2» [68] قيل: هذا حديث مرسل أنس بن ثابت، وقال الزهري ومالك: إذا كان السارق موسرا غرّم. وقال الشافعي: ثم يغرّم قيمة السرقة معسرا كان أو موسرا. جَزاءً بِما كَسَبا. نصب جزاء على الحال والقطع قاله الكسائي. وقال قطرب: على المصدر ومثله نَكالًا أي عقوبة مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. عن جعفر بن محمد قال: سمعت أبي يقول: ما سرق سارق سرقة إلّا نقص من رزقه المكتوب له فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي سرقته، نظيره في سورة يوسف كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ «3» أي السارقين وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ هذا ما بينه وبين الله تعالى فأما القطع فواجب. يدل عليه ما روى يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن عبد الله بن عمرو: إنّ امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاء بها الذين سرقتهم. فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها بخمس مائة دينار، فقال رسول الله: «اقطعوا يدها» فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة هل لي من توبة؟. قال: «نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك» «4» [69] . فأنزل الله في سورة المائدة فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ الآية. معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلمته وكلم أسامة النبي صلى الله عليه وسلّم فيها فقال له النبي: «يا أسامة لا أزال تكلمني «5» في حدّ من حدود الله» ثم قام النبي صلى الله عليه وسلّم خطيبا فقال: «إنما هلك من
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 إلى 42]
كان قبلكم بأنه إذا سرق فيه الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطّعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» «1» [70] . قال: فقطع يد المخزومية ، وكان الشعبي وعطاء يقولان: إذا ردّ السرقة قبل أن يقدر عليه لم يقطع لقوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الآية أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ. قال السدّي والكلبي: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ منهم من مات على كفره وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ من تاب من كفره. وقال الضحّاك: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ على الصغير إذا قام عليه وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ على الكبير إذا نزع عنه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ وقرأ السلمي يسارعون في الكفر أي في هؤلاء الكفار ومظاهرتهم فلم يعجزوا الله مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وهم المنافقون نظيره، قوله لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ «2» وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ يعني قوّالين به يعني بني قريضة سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يعني يهود خيبر وذلك عين ما قاله أهل التفسير وذلك أن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، واسم المرأة بسرة وكانت خيبر حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان الزانيان محصنين، وكان حدّهما الرّجم في التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فقالوا: إن هذا الرجل النبي بيثرب ليس في كتابه الرّجم ولكنه الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريضة فإنهم صلح له وجيرانه، فليسألوه، فبعثوا رهطا منهم مستخفين. فقالوا لهم: سلوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا أحدهما فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه
وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا الزانين معهم فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير. فقال لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده، وقد حدث فينا حدث زنيا وقد أحصنا فيجب أن تسألوا لنا محمدا عن قضائه، فقال لهم بنو قريظة والنضير: إذا والله يأمركم بما تكرهون من ذلك ثم انطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وسعد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وعباس بن قيس وأبو نافع وأبو يوسف وعازار وسلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما وكيف تجد في كتابك؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وهل ترضون قضائي في ذلك؟» . قالوا: نعم، فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبرئيل: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا» قال: فأي رجل فيكم؟ قالوا: هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله تعالى على موسى في التوراة، قال: أرسلوا إليه، ففعلوا فأتاهم عبد اللَّه بن صوريا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنت ابن صوريا؟» قال: نعم، قال: «فأنت أعلم اليهود؟» ، قال: كذلك يزعمون، قال: «أتجعلونه بيني وبينكم؟» قالوا: نعم قد رضينا به إذ رضيت به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فإني أنشدك بالله الذي لا إله إلّا هو القوي إله بني إسرائيل الذي أنزل التوراة على موسى الذي أخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ظلل الغمام فأنزل عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه فهل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن» . قال ابن صوريا: نعم والذي ذكّرني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ولكن كيف هو في كتابك يا محمد؟ قال: «إذا شهد أربعة رهط عدول إنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم» . قال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فماذا كان أوّل ما ترخصتم به أمر الله» ؟ قال: كنّا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا للضعيف أقمنا عليه الحد وكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنا رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه، فقال: واللَّه لا ترجمون حتى يرجم فلانا ابن عم الملك. فقال: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسوّد وجوههما ثم يحملان على حمارين فحوّل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم. قال اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما اتهمتنا عليك بأهل، ولكنّك
كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك فقال لهم: نشد في التوراة لولا ضنيت التوراة أن تهلكني لما أخبرته به، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلّم فرجما عند باب مسجده، وقال: «أنا أول من أحيا أمره إذ أماتوه» «1» [71] . قال عبد الله بن عمر: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أمر برجم [اليهوديين فرأيته حنا عليهما ليقيهما بالحجارة] » ونزلت يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «3» فلا يخبركم به فوضع ابن صوريا يده على ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: أنشدك بالله وأعيذك بالله أن تخبرنا بالكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه فقال له ابن صوريا: أخبرني عن ثلاث خصال أسألك عنهنّ، قال: ما هي؟ قال: أخبرني عن نومك، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «تنام عيناي وقلبي يقظان» «4» قال له: صدقت، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبهه أمه شيء أو شبهه أمه فيه ليس فيه من شبهه أبيه شيء، قال: «أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له» قال له: صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ قال: فأغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم طويلا ثم خلي عنه محمرا وجهه يفيض عرقا فقال صلى الله عليه وسلّم: «اللحم والدّم والظفر والشعر للمرأة والعظم والعصاب والعروق للرجل» قال له: صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرئيل. قال: صفه لي، فوصفه له النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: أشهد إنه في التوراة كما قلت وإنّك رسول الله حقّا فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير، فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد إذا قتلوا منا قتيلا لم يفدونا وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر وإن كان القتيل امرأة. يفدوا بها الرجل، وبالرجل منهم الرجلين منّا، وبالعبد منهم الحرّ منّا، وجراحتنا بالنصف من جراحتهم فأمعن بيننا وبينهم «5» ، فأنزل الله تعالى في الرجم والقصاص يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ رفع الخبر بحرف الصفة يعني وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا فهم سَمَّاعُونَ، وإن شئت جعلته خبر ابتداء مضمر أي فهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، وقيل: اللام بمعنى إلى.
كان أبو حاتم يقول: اللام في الكذب لام كي يسمعون لكي يكذبوا عليك. واللام في قوله لام أجل من أجل قوم آخرين لَمْ يَأْتُوكَ وهم أهل خيبر يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع الكلمة مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد وضعه مواضعه كقوله وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى. وإنما ذكر الكتابة ردّا إلى اللفظ وهو الكلم. وقرأ علي: يحرّفون الكلام من بعد مواضعه يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي إن أفتاكم محمد بالجلد والرجم فاقبلوه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ كفره وضلالته. قال مجاهد: دليله قوله وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ الآية. وقال الضحّاك: هلاكه، قتادة: عذابه نظيره ولم يأمرهم على من يؤمنون فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي بالهداية على القدرة لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ للمنافقين الفضيحة وهتك الستر وخوف القتل، ولليهود الجزية والقتل والسبي، [ ... ] «1» عن محمد (عليه السلام) وأصحابه وفيهم ما يكرهون وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ الخلود في النار. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فيه أربع لغات: السحت بضم السين والحاء وهي قراءة أهل الحجاز والبصرة، واختار الكسائي: سحت مخففة وهي قراءة أهل الشام وعاصم وحمزة وخلف. والسحت بفتح السين وجزم الحاء وهي رواية العباس عن نافع، والسحت بضم السين وجزم الحاء وهي قراءة عبيد بن عمير وهو الحرام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به» [72] وأصله ما أشدّ أشدّه، وقال الله تعالى فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ «2» . قال الفرزدق: وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحتا أو مجلف «3» قال: من تخلّف إذا استأصل الشجر سحت. وقال الفرّاء: أصله كلب الجوع، فيقال: رجل سحوت المعدة إذا كان أكولا لا يلقى أبدا إلّا جائعا، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. ونزلت هذه الآية في حكام اليهود، كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويفضلون لمن رشاهم «4» .
وروى أبو عقيل عن الحسن: في قوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قال: تلك الحكام تسمع كذبه وتأكل رشوة «1» . وعنه في غير هذه الرواية. قال: كان الحاكم منهما إذا أتى أحد برشوته جعلها [بين يديه فينظر إلى صاحبها ويتكلم معه] ويسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب، وعنه أيضا قال: إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقّا فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه شيئا ليدرأ به عن نفسه فلا بأس. والسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن. ومقاتل وقتادة والضحّاك والسدّي. وقال ابن مسعود: هو الرشوة في كل شيء. قال مسلم بن صبيح: صنع مسروق لرجل في حاجة فأهدى له جارية فغضب غضبا شديدا، وقال: لو علمت إنّك تفعل هذا ما كلّمت في حاجتك، ولا أكلم لما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول: من يشفع شفاعة ليرد بها حقّا أو ليدفع بها ظلما فأهدي له فقيل فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنّا نرى ذلك إلّا الأخذ على الحكم، قال: الأخذ على الحكم كفر. قال الله عز وجل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «2» . وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم انعزل في الوقت وإن لم يعزل. وقال عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم: السحت خمسة عشر: الرشوة في الحكم ومهر البغي وحلوان الكاهن، وثمن الكلب والقرد والخمر والخنزير والميتة والدم وعسيب الفحل وأجر النائحة والمغنية والقائدة والساحر وأجر صور التماثيل وهدية الشفاعة. وعن جعفر بن كيسان قال: سمعت الحسن يقول: إذا كان لك على رجل دين فما أكلت في بيته فهو سحت. وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لعنة الله على الراشي والمرتشي» «3» [73] . قال الأخفش: السحت كل كسب لا يحل. ثم قال فَإِنْ جاؤُكَ يا محمد فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. خير الله سحته بقوله في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك. واختلفوا في حكم هذه الآية هل هو ثابت وهل للحكّام اليوم من الخيار في الحكم من أهل الذّمة إذا اختلفوا إليهم، مثل ما جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلّم أم هو منسوخ؟
[سورة المائدة (5) : الآيات 43 إلى 46]
فقال أكثر العلماء: هو حكم ثابت لم ينسخه شيء وحكام الإسلام بالخيار وذلك إن شاءوا بين أهل الكتاب وجميع أهل الذّمة، فإن شاءوا أعرضوا ولم يحكموا بينهم وإن حكموا يحكموا بحكم أهل الإسلام. هو قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «1» هو جريان حكمنا عليهم. وهذا قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة. وقال آخرون هو منسوخ نسخه قوله تعالى وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وإليه ذهب الحسن ومجاهد وعكرمة والسدّي. وروى ذلك ابن عباس قال: لم ينسخ من المائدة إلّا هاتان الآيتان وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ «2» نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «3» وقوله فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. «4» فأما إقامة الحدود عليهم فأهل العراق يرون إقامة الحدود عليهم إلّا إنهم لا يرون الرجم وقالوا: لأنهم غير محصنين وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلّم اليهوديين أنه رجمهما بكتابهم التوراة لما اتفقوا على رضاهم بحكم التوراة ثم أنكروا الرجم، فكان في التوراة فأخفوا وأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ذلك ما كتموه. وأهل الحجاز لا يرون إقامة الحدود عليهم ويظهرون إلى أنهم صولحوا على شركهم. وهو أعظم من الحدود التي يأتون وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلّم اليهوديين أن ذلك قبل أن يؤخذ عنهم الجزية إلّا أن على الإمام أن يمنعهم من المظالم والفساد فأما إذا كان أحد الطرفين مسلما مثل أن يزني رجل من أهل الذّمة بمسلمة أو سرق من مسلم أقيم عليه الحد وحكم عليه بحكم الإسلام وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العاملين.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجّب وفيه اختصار إلى وكيف يجعلونك حاكما ويرضون بمحمد وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ وهو الرجم فلا يرضون بذلك. ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ إلى قوله لِلَّذِينَ هادُوا فإن قيل: وهل فينا غير مسلم؟ فالجواب أن هؤلاء نبيو الإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يتولوا المسلمين وهذا كقوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ «1» فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ «2» لا يريد أن غيره من الأنبياء لم يؤمنوا بالله وكلماته. وقيل: لم يرد به الإسلام الذي هو ضد الكفر. وإنما المراد به الذين انقادوا لحكم الله فلم يكتموه كما كتم هؤلاء، يعرّض بأهل الكتاب. وهذا كقوله وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» . وقال يزيد بن عمرو بن فقيل: أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا، وأسلمت وجهي لمن أسلمت له العيون تحمل عذبا زلالا. وقيل: معناه الَّذِينَ أَسْلَمُوا أنفسهم إلى الله. كما روي إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: «أسلمت نفسي إليك» «4» [74] . وقيل: معناه: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بما في التوراة من الشرائع ولم يعمل به كمثل عيسى (عليه السلام) وهو قوله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «5» وهو معنى قول ابن حيّان يحكم بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام. وقال الحسن والسدّي أراد محمدا صلى الله عليه وسلّم حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كما قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً «6» وقال: أم تحسدون الناس في الحياة وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ يعني العلماء وهم ولد هارون (عليه السلام) وأحدهم محبر وحبر وهو العالم المحكم للشيء ومنه الكعب بن قانع كعب الأحبار وكعب الحبر. قال الفرّاء: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار بكسر الحاء واختلفوا في اشتقاق هذا الإسم. فقال الكسائي وأبو عبيدة: هو من الحبر الذي يكتب به. وقال النضر بن شميل: سألت الخليل عنه، فقال: هو من الحبار وهو الأثر الحسن. فأنشد:
لا تملأ الدلو وعرق فيها ... ألا ترى حبّار من يسقيها «1» قال قطرب: هو من الحبر وهو الجمال والهيئة يدل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره» [أي جماله وبهاؤه] «2» [75] . وقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا ابن أخ فيم الجمال؟ قال: «في اللسان» [76] . وقال مصعب بن الزبير لابنه: يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان جمالا وإن لم يكن عندك علم كان لك مالا، بِمَا اسْتُحْفِظُوا استودعوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ إنه كذلك فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ إلى قوله الْكافِرُونَ واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها. فقال الضحّاك وأبو إسحاق وأبو صالح وقتادة: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود وليس في أهل الإسلام منها شيء فأما هذه الأمّة فمن أساء منهم وهو يعلم إنه قد أساء وليس بدين. يدلّ على صحة هذا التأويل. ما روى الأعمش عن عبد الله بن مرّة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ والظَّالِمُونَ والْفاسِقُونَ. قال: كلها في الكافرين. وقال النخعي والحسن: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضىّ لهذه الآية بها فهي على الناس كلّهم واجبة. عن ابن عباس وطاوس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل ذلك وهو به كفر، وليس كمن يكفر بالله واليوم [الآخر] . عطاء: هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. عكرمة: معناه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ جاحدا به فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وهذه رواية الوالبي عن ابن عباس قال: وسمعت أبا القاسم الحبيبي، قال: سمعت أبا زكريا العنبري، يحكي عن عبد العزيز بن يحيى الكناني إنه سأل عن هذه الآيات، قال: إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق. فأما من يحكم ببعض ما أنزل الله من التوحيد [وترك] الشرك ثم لم يحكم بهما [فبين] «3» ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات.
قالت الحكماء: هذا إذا ردّ بنص حكم الله عيانا عمدا، فأما من جهله أو أخفي عليه أو أخطأ في تأويل ابتدعه أو دليل اتّجه له فلا، وأجراها بعضهم على الظاهر. وقال ابن مسعود، والسدّي: من ارتشى في الحكم وحكم فيه بغير حكم الله فهو كافر «1» وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي وأوحينا في بني إسرائيل في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ يعني النفس القاتلة بالنفس المقتولة [ظلما] «2» وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ بقلعهما وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ يجدع به وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ يقطع به أذنيه. نافع: في جميع الفقهاء [وقرأ] الباقون وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ يقلع به وسائر الجوارح قياس على العين والأنف والأذن وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ وهذا مخصوص فيما يمكن القصاص فيه، فأما ما كان من هيضة لحم أو هيضة عظم ويعده ركن لا يحيط العلم به وقياس أو حكومة. واختلف الفقهاء في هذه الآية، فقرأ الكسائي: وَالْعَيْنَ رفعا إلى آخره. واختار أبو عبيد لما روى ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأه وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ نصبا، والعينُ بالعين، والأنفُ بالأنف، والأذنُ بالأذن، والسنُّ بالسن، والجروحُ قصاص، كله رفع. وأما أبو جعفر وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو فكانوا يرفعون الْجُرُوحَ وينصبون سائرها. وقتادة، أبو حاتم قالوا: لأن لهما نظائر في القرآن قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ وإِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «3» وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ «4» . وقرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة ويعقوب [بالعطف] كلها نصبا ودليلهم قوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَأن الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَأن الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَأن الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ فإن الْجُرُوحَ قِصاصٌ. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ اختلفوا في الهاء في قوله «بِهِ» ، فقال قوم: هي كناية عن المجروح وولي القتيل، ومعناه فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، للمتصدق يعدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدّق. وهو قول عبد الله بن عباس والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد، دليل هذا القول لحجة ما روى الشعبي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من تصدّق عن جسده بشيء كفّر الله عنه بقدر ذلك من ذنوبه» «5» [77] .
وروى وكيع عن يوسف بن أبي إسحاق عن أبي السهر قال: كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية، فقال القريشي: إن هذا داق سني. قال معاوية: كلا أما تسترضيه، فلمّا ألحّ عليه الأنصاري، قال معاوية: شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء عن جسده فيتصدّق به إلّا رفعه الله به درجة وحطّ به عن خطيئة» «1» [78] . فقال الأنصاري: أنت سمعت بهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي فعفى عنه. وروى عوف عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: جيء بالقاتل الذي قتل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاء به ولي المقتول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: القتل، قال: نعم [قال: اذهب، فذهب] فدعاه فقال: أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: القتل، قال: نعم، قال: اذهب، فلما ذهب قال: أما لك أن عفوت فإنه يبوء بإثمك، وإثم صاحبك. قال: فعفي عنه فأرسله ورأيته وهو يجر شسعيه. وروى عمران عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: طعن رجل رجلا على عهد معاوية، فأعطوه ديتين على أن يرضى. فلم يرض وأعطوه ثلاث ديات فلم يرض. وحدث رجل عن المسلمين عن النبي صلى الله عليه وسلّم إنه قال: «من تصدّق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق» «2» [79] . وعن عمر بن نبهان عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء وتزوج من الحور العين حيث «3» شاء من أدى دينا [خفيا] وعفا عن قاتل وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرّات قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» » [80] . قال أبو بكر: وإحداهن يا رسول الله؟ قال: وإحداهن. وقال آخرون: عني بذلك الجارح والقاتل، يعني إذا عفا المجنى عليه عن الجاني فعفوه عن الجاني كفّارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة كما أن القصاص كفّارة له كما إن العافي المتصدق فعلى الله تعالى، قال الله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وهذا قول إبراهيم
[سورة المائدة (5) : الآيات 47 إلى 50]
ومجاهد وزيد بن أسلم، وروي ذلك عن ابن عباس. والقول الأوّل أجود لأنّه ربما تصدّق من عليه ولم يتب الخارج من فعله فإنه كفّارة له والدليل عليه قراءة أبي: فمن تصدّق به فهو كفّارة له. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ على آثار النبيين المسلمين للتوراة العالمين به بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ قرأه العامة مجزوم اللام والميم على الأمر، وحمزة: بكسر اللام وفتح الميم أي ولكي يحكم أهل الإنجيل. مقاتل بن حيّان: أمر الله تعالى الأحبار والربانيين أن يحكموا بما في التوراة وأمر القسّيسين والرهبانيين أن يحكموا بما في الإنجيل فكفروا وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم وقالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون من أمر الله، وقال ابن زيد: الكاذبون. نظيره قوله إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ أي الكتب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي شاهدا. قاله السدّي والكسائي: وهي رواية الوالبي عن ابن عباس، قال حسان: إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب «1» أي مصدق. وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة: مؤمنا وهي رواية أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس، الحسن: أمينا وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريح: القرآن أمين على ما قبله من الكتب فيما أخبر أهل الكتاب في كتابهم بأمر فإن كان في القرآن فصدّقوا
وإلّا فكذّبوا، المبرد: أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء كما قيل: أرقت الماء وهرقت، ولمّا ينثر عن الرأس عند الدلك أبرية وهبرية ونهاة وهيهات. وأتاك وهياك فهو مبني آمن أمين كما بيطر ومبيطر من بيطار. قال النابغة: شكّ المبيطر إذ شفا من العضد «1» وقال الضحّاك: ماضيا، عكرمة: دالا عليه، ابن زيد مصدّقا، الخليل: رقيبا وحافظا، يقال: هيمن فلان على كذا إذا شاهده وحفظه. قلت: سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت المنصور بن محمد بن أحمد بن منصور البستي يقول: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد اللغوي يقول: تقول العرب: الطائر إذا جعل يطير حول وكره وخاف على فرخه صيانة له، هيمن الطائر مهيمن. وكذلك يقول للطائر إذا أرخى جناحيه فألبسهما بيضه وفرخه مهيمن. وكذلك جعل اختباؤه ومنه قيل: الله تعالى المهيمن كان معناه الرقيب الرحيم. قال: ورأيت في بعض الكتب إنها بلغة العجمانية فعرّبت، وقرأ عكرمة: هيمن ومهيمن. بقولهم الملوك فَاحْكُمْ يا محمد بَيْنَهُمْ بين أهل الكتاب، إذا ترافعوا إليك بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بالقرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، أي سبيلا وسنّة وجمع الشرعة الشرع وكل ما شرّعه فيه فهو شرعة وشريعة، ومنه شريعة الماء ومشرعته، ومنه شرائع الإسلام شروع أهلها فيها، ويقال: من شرع شرعا إذا دخلوا في أمر وساروا به. والمنهاج والمنهج والنهج الطريق البين الواضح. قال الراجز: من يك في شك فهلّا ولج ... في طريق المهج «2» قال المفسّرون: عنى بذلك جميع أهل الملل المختلفة جعل الله لكل أهل ملّة شريعة ومنهاجا، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، يحل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء، والدين واحد والشرائع مختلفة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً كلّكم ملّة واحدة وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ ليخبركم وهو أعلم وقد مضى معنى الابتلاء فِي ما آتاكُمْ من الكتب وبين لكم من [السنن] فبيّن المطيع من العاصي والمواظب من المخالف فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فبادروا بالطيّبات والأعمال الصالحات إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 إلى 56]
قال ابن عباس: قال كعب بن لبيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قبيص بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنّا أعيان اليهود وأشرافهم وإنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فنقضي إما عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنزل الله فيهم هذه الآية فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي فاعلم إن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يجعل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم أي شؤم عصيانهم. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني اليهود لَفاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قرأ ابن عامر بالتاء، وفي الباقون بالياء. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً الآية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ اختلفوا في نزول هذه الآية، فإن كان حكمها عاما لجميع المؤمنين. فقال العوفي والزهري: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أهربوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر. فقال مالك بن الصيف: أغرّكم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقتلونا. فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم، قويّة أنفسهم، شديدة شوكتهم كثيرا سلاحهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود، ولا مولا لي إلّا الله ورسوله، قال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا أبا الحباب ما نفست
من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه» «1» [81] قال: قد قبلت فأنزل الله عز وجل هذه الآية. قال السدّي: لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدل عليهم الكفار. فقال رجل من المسلمين: أما أنا فألحق بدهلك اليهودي وأخذ منه أمانا فإني أخاف أن يدل علينا اليهود. وقال رجل آخر: أما أنا فالحق بفلان النصراني ببعض أهل الشام فأخذ منه أمانا وأنزل الله هذه الآية ينهاهما. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبانة بن عبد المنذر حين قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم إذا رضوا بحكم سعد إنه الذبح بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في العون والنصرة، ويدهم واحدة على المسلمين. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فيوافقهم على دينهم ويعينهم فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يقول ابن سيرين: عن رجل بيع داره من النصارى، يتخذونها بيعة فتلا هذه الآية فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الآية، يعني عبد الله بن أبي وصحبه من المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود ويصانعونهم ويناصحونهم يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موالاتهم يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ دولة يعني أن يدور الدهر فنحتاج إلى نصرهم إيّانا فنحن نواليهم بذلك. قال الراجز: يرد عنك القدر المقدورا ... ودائرات الدهر أن تدورا «2» فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أي القضاء وقيل: النصر. وقال السدّي: فتح مكّة. أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا يعني هؤلاء المنافقين عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ وحينئذ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا اختلف القرّاء فيه: فقرأ أهل الكوفة: (وَيَقُولُ) بالواو والرفع على الاستئناف وقرأ أهل البصرة: (وَيَقُولَ) نصبا والواو عطفا على (أَنْ يَأْتِيَ) وقرأ الباقون: رفع اللام وحذف الواو، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام «3» أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ وقرأ أهل المدينة والشام يرتدد بدالين على إظهار التخفيف مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فيرجع إلى الكفر وهذا المجاز للقرآن وللمصطفى صلّى الله عليه وسلّم إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده
وكان عهده وكان على ما أخبره بعد مدّة، وأهل الردّة كانوا أحد عشر قوما ثلاثة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آخر عمره وسبعة على عهد أبي بكر وواحد في عهد عمر. فأما الثلاثة الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمنهم بنو مذحج ورئيسهم ذو الخمار عيهلة بن كعب القيسي فلقّب بالأسود وكان كاهنا مشعبذا فتنبّأ باليمن وكان (عليه السلام) ولّى بأذان اليمن بجميع نواحيها وكان أوّل من أسلم من ملوك العجم وأول أمير لبلاد اليمن في الإسلام فمات، وولي رسول الله مكانه شهرا فقتل الأسود الكذّاب شهر بن بأذان وتزوج امرأته لباد واستولى على بلاد اليمن وأخرج عمّال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها، وكتب عليه إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسّك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وكتب (عليه السلام) بمثل ذلك إلى حمير من سادات اليمن عامر ابن سهو، وذي رود وذي مران وذي الكلاع وذي ظلم «1» ففعلوا ما أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقاموا بحرب الأسود حتى أهلك الله الأسود على يدي فيروز الديلمي، وذلك أنه رماه وقتله على رأسه. قال ابن عمر: أتى الخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي. فقال (عليه السلام) : قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك، قيل: ومن هو؟ قال: فيروز: فاز فيروز فبشر أصحابه اليوم بهلاك الأسود وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أخذ وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد مخرج أسامة وكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر «2» ، والفرقة الثانية: بنو حنيفة واليمامة، ونبيهم مسيلمة الكذّاب، وكان تنبأ في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في آخر سنة عشر وزعم أنه أشرك مع محمد في النبوة. فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، وبعث بذلك رجلين من أصحابه الرجال بن شهب والحكم بن الطفيل وكان من سادات أهل اليمامة، فقال لهما رسول الله: «أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا: نعم، فقال: «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» . ثم أجاب: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب، أما بعد (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) » «3» [82] «4» . ومرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتوفي، وجعل مسيلمة يعلو أمره باليمامة يوما بعد يوم، فبعث أبو
بكر (رضي الله عنه) خالد بن الوليد إليه في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب صعب شديد وكان وحشي: يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وقتلت شر الناس في الإسلام. والفرقة الثالثة: بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة آخر من ارتدّ فادعى النبوة في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأول من قتل بعد وفاته (عليه السلام) من أهل الردة، فعسكر واستكشف أمره فبعث إليه أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) خالد بن الوليد فهزموهم بخالد بعد قتال شديد وأفلت طليحة ومرّ على امرأته هاربا نحو الشام فلجأ إلى بني جفنة فأجاروه ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فهذه الثلاث الذين ارتدّت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأما السبعة الذين ارتدّوا بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خلافة أبي بكر (رضي الله عنه) ، لما مات رسول الله (عليه السلام) شمتت اليهود والنصارى وأظهر النفاق من كان يخفيه وماج الناس وكثر القيل والقال. وارتدت العرب على أعقابها، فارتدت فزار ورأسوا عليهم عيينة بن عين بن بدر، وارتدت غطفان، وأمّروا عليهم قرّة بن سلمة القسري، وارتدت بنو سليم ورأسوا عليهم النجاخ ابن عبد ياليل، وارتدت بنو يربوع ورأسوا عليهم مالك بن نويرة. وارتدت طائفة أخرى من بني تميم ورأسوا امرأة منهم يقال لها: سجاح بنت المنذر وادّعت النبوّة ثم إنها زوّجت نفسها من مسيلمة الكذّاب. وارتدت كندة ورأسوا على أنفسهم الأشعث بن قيس. وارتدت بنو بكر بن وائل بأرض البحرين ورأسوا عليهم الحطم بن زيد فلقى الله أمر هؤلاء المرتدّين ونصر دينه على يدي أبي بكر (رضي الله عنه) وأما الذي كان على عهد عمر (رضي الله عنه) رأسهم الغاني وأصحابه، وأخبار أهل الردة مشهورة في التواريخ مسطورة يطول بذكرها الكتاب «1» . فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة: هم أبو بكر وأصحابه! ، مجاهد: هم أهل اليمن، وقال غياض بن غنم الأشعري: لما نزلت هذه الآية أومى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي موسى الأشعري فقال: هم قوم هذا. قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبا وأرق أفئدة الإيمان يماني والحكمة يمانية» «2» . الكلبي: هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاث آلاف من سائر الناس فجاهدوا في سبيل الله بالقادسية «3» .
السدّي: هم الأنصار، ويروى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي فقال: هذا وذووه، ثم قال: «لو كان الدين معلقا بالثريا لناله «1» من أبناء فارس» «2» [83] . أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يعني أرقاء رحماء، كقوله وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ «3» وقيل: هو من الذل، من قولهم دابّة ذلول بينة الذل يعني إنهم متواضعون كقوله وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً «4» أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أي أشداء غلظاء من قول العرب عز جانبه عزا. وقرأ ابن مسعود: أذلة على المؤمنين غلظا على الكفّار بالنصب على الحال. وقال عطاء: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كالولد لوالده وكالعبد لسيده. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ كالسبع على فريسته، ونظير الآية أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ. عبد الله بن حمدون نا أحمد بن محمد بن الحسين نا محمد بن يحيى نا أحمد بن شبيب، عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض فأقول ربّ أصحابي أصحابي فيقال لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى» «5» [84] . إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية. أبو عبد الله الحسين عن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان عن شبر بن موسى الأسدي عن إسماعيل بن خليل الكوفي عن سلمة بن رجاء عن سلمة بن سابور قال: سمعت عطية العوفي يقول: قال ابن عباس: أسلم عبد الله بن أبي بن سلول، ثم قال: بيني وبين قريظة والنضير حلف وأنا أخاف الدوائر، فارتد كافرا. وقال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى الله عز وجل من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله والرسول والذين آمنوا فأنزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ إلى قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، يعني عبد الله بن أبي بن سلول إلى قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني عبادة بن الصامت، وأصحاب رسول الله ثم قال: ولو كانوا يؤمنون بالله ورسوله وما أنزل إليه، ما اتخذوه أولياء، وقال بعض المفسّرين: لما أراد رسول الله أن يقتل يهود بني قينقاع حين نقضوا العهد، وكانوا حلفا لعبد الله بن أبي سلول وسعد بن عبادة بن الصامت، فأما عبد الله بن أبي فعظم ذلك عليه، وقال: ثلاثمائة دارع وأربعمائة منعوني من الأسود والأحمر أفأدعك تجدهم في غداة واحدة، وأما سعد وعبادة فقالا: إنّا برآء إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وعهدهم فأنزل الله هذه الآية. وقال جابر بن عبد الله: جاء عبد الله بن سلام إلى النبي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله إن قومنا من قريظة والنضير، قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل وشكا ما يلقى من اليهود من الأذى. فنزلت الآية فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أخوة على هذا التأويل أراد بقوله (راكِعُونَ) صلاة التطوع بالليل والنهار. قال ابن عباس، وقال السدي، وعتبة بن حكيم، وثابت بن عبد الله: إنما يعني بقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ الآية. علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مرّ به سائل وهو راكع في المسجد وأعطاه خاتمه. أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، أبو محمد عبد الله بن أحمد الشعراني، أبو علي أحمد بن علي بن زرين، المظفر بن الحسن الأنصاري، السدي بن علي العزاق، يحيى بن عبد الحميد الحماني عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن عبادة بن الربعي، قال: بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم إذ أقبل رجل متعمم بالعمامة فجعل ابن عباس لا يقول، قال رسول الله: إلّا قال الرجل: قال رسول الله؟ فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه، وقال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري، أبو ذر الغفاري: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهاتين وإلّا صمّتا ورأيته بهاتين وإلّا فعميتا يقول: عليّ قائد البررة، وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله أما إني صليت مع رسول الله يوما من الأيام صلاة الظهر فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد إني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد
شيئا وكان علي راكعا فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما فرغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة فرفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إن أخي موسى سألك، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ... وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي «1» الآية، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً «2» اللهم وأنا محمد نبيّك وصفيّك اللهم ف اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ... وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي عليا أشدد به ظهري» «3» [85] «4» . قال أبو ذر: فو الله ما استتم رسول الله الكلمة حتى أنزل عليه جبرئيل من عند الله، فقال: يا محمد اقرأ، فقال: وما أقرأ؟ قال: اقرأ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، إلى راكِعُونَ. سمعت أبا منصور الجمشادي، سمعت محمد بن عبد الله الحافظ، سمعت أبا الحسن علي بن الحسن، سمعت أبا حامد محمد بن هارون الحضرمي، سمعت محمد بن منصور الطوسي، سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الفضائل مثل ما جاء لعلي بن أبي طالب (عليه السّلام) «5» . أبو عبد الله بن فنجويه، عمر بن الخطاب، إبراهيم بن سهلويه، محمد بن رجاء العباداني. حدّثني عمر بن أبي إبراهيم، حدّثني المبارك بن سعيد وعمار بن محمد عن سفيان عن أبيه عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآيتان الخبر «6» . عن محمد بن عبد الله، أحمد بن محمد بن إسحاق البستي، حامد بن شعيب، شريح بن يونس، هشيم بن عبد الملك قال: سألت أبا جعفر عن قوله إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا قال: هم المؤمنون بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ يعني أنصاري من الله. قال الراجز: وكيف أضوي «7» وبلال حزبي
[سورة المائدة (5) : الآيات 57 إلى 63]
أي ناصري «1» . هُمُ الْغالِبُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً الآية. قال الكلبي: كان منادي رسول الله إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا، سجدوا لا سجدوا، على طريق الاستهزاء والضحك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال السدي: نزلت في رجل من النصارى كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطاير منها شرارة في البيت فأحرق البيت وأحرق هو وأهله «2» . وقال الآخرون: إن الكفار لما سمعوا الأذان كذبوا رسول الله والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية فإن كنت تدّعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك ولو كان في هذا الأمر خير لكان بادئ ما تركه الناس بعد الأنبياء والرسل قبلك فمن أين لك صياح كصياح البعير فما أقبح من صوت ولا أسمج من كفر، فأنزل الله هذه الآية «3» . وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً. فأما بعد الأذان. قال أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر، أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، زياد بن أيوب وأبو بكر بن أبي النضير الأسدي، حجاج بن محمد قال: قال ابن جريح عن نافع عن ابن عمر أبو الحسين قال: أبو العباس السراج، محمد بن سهيل بن عسكر، أبو سعيد الحداد، خالد بن عبد الله الواسطي، عن عبد الرحمن بن [يحيى] عن الزهري عن سالم عن أبيه، وحديث عن الحسن بن شقيق، إسماعيل بن عبيد الخزاعي، محمد بن سلمة عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري عن أبيه قال: كان المسلمون حيث قدموا المدينة يجتمعون فيجيبون الصلاة وليس ينادي بهن فتكلموا في ذلك فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين فيما يجيبهم الصلاة. فقال بعضهم: يقلب راية فوق رأس المسجد عند الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك، وقيل: بل نؤجج نارا، وقال بعضهم: بل قرن مثل قرن اليهود فكرهه من أجل اليهود وقيل: الناقوس فكرهه من أجل النصارى ولكن عليه قاموا وأمر بالناقوس حتى يجيب.
قال عبد الله بن زيد: فرأيت تلك الليلة رجلا في المنام عليه ثوبان أخضران ويحمل ناقوسا فقلت يا عبد الله اتبع الناقوس قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به الناس إلى الصلاة، قال: أفلا أدلّك على ما هو خير منه؟ قلت: بلى، قال: قل: الله أكبر، الله أكبر إلى آخر الأذان ثم استأخر غير بعيد، وقال: إذا قامت الصلاة فقل: الله أكبر، الله أكبر فوصف له الإقامة فرادى، فلما استيقظت أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته بذلك فقال: إنها رؤيا حق إنشاء الله فاتلها على بلال فإنه أندى منك صوتا، قال: فخرجنا إلى المسجد فجعلت ألقيها على بلال وهو يؤذن فسمع عمر في بيته فخرج يجر رداءه فقال: رأيت مثل الذي رأى ففرح النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: ذلك أثبت. وروى أبو الزاهرية عن أبي شجرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أوّل من أذّن في السماء فسمعه عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) .! فأما فصل الأذان، فحدثنا أبو الحسن بن محمد بن القاسم الفارسي، عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى، أبو جعفر بن عبد الله بن الصياح، أبو عمر الدوري، أبو إبراهيم البرجماني عن سعيد بن سعيد عن نهشل أبي عبد الله القرشي عن الضّحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة لا يكترثون للحساب ولا يفزعهم الصيحة ولا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ: حامل القرآن يؤديه إلى الله بما فيه يقدم على ربّه سيّدا شريفا، ومؤذن أذن سبع سنين يأخذ على أذانه طمعا وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ومؤدي حقّ مولاه» «1» [86] . أحمد بن محمد بن جعفر، أبو الحسن علي بن محمد القاضي، علي بن عبد العزيز أبي عمرو ابن عثمان حدثهم أبو ثميلة عن أبي حمزة عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أذّن سبع سنين محتسبا كتب له براءة من النار» «2» [87] . أبو الحسن الفارسي، أبو العلاء أحمد بن محمد بن كثير، [ ... ] «3» بن محمد، محمد ابن سلمة الواسطي، حميد بن سلمة الواسطي، حميد الطوسي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أذن سنة من نية صادقة لا يطلب عليه أجر دعي يوم القيامة ووقف على باب الجنة وقيل له: اشفع لمن شئت» «4» [88] . أبو بكر محمد بن أحمد بن حمد التمار، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن دينار محمد ابن الحجاج بن عيسى، إبراهيم بن رستم، حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن ابن سلمة عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أذّن خمس صلوات إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن أمّ أصحابه خمس صلوات إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» «1» [89] . أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، الحسن بن محمد بن جشم أبو الموجة، عبدان، عبد الوارث، ومرّة الحنفي، يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه قال: «إذا كان عند الأذان فتحت أبواب السماء فاستجيب الدعاء وإذا كان عند الإقامة لم يردّ دعواه» «2» [90] . أبو القاسم طاهر بن المعري، أبو محمد عبد الله بن أحمد المقري بالبصرة، عبد الله ابن أحمد الجصاص، يزيد بن عمر وأبو البر الغنوي، نائل بن نجيح، محمد بن الفضل عن سالم عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المؤذن المحتسب كالشهيد يتشحّط في دمه حتى يفرغ من أذانه ويشهد له كل رطب ويابس فإذا مات لم يدوّد في قبره» «3» [91] . أبو محمد بن عبد الله بن حامد الصفياني، محمد بن جعفر الطبري قال: حماد بن الحسن، صالح ابن سليمان صاحب القراطيس، عتاب بن عبد الحميد السدوسي عن مطر عن الحسن عن أبي الوقّاص أنه قال: سهام المؤذنين عند الله يوم القيامة كسهام المهاجرين. وقال عبد الله بن مسعود: لو كنت مؤذنا لما باليت ألّا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد، قال: وقال عمر بن الخطاب: لو كنت مؤذنا لكمل أمري وما باليت أن لا أنتسب لقيام ليل ولا لصيام نهار. سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم اغفر للمؤذنين، اللهم اغفر للمؤذنين، اللهم اغفر للمؤذنين» . فقلت: يا رسول الله لقد تركنا ونحن خيار على الأذان بالسيوف. قال: «كلّا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم وتلك لحوم حرمها الله على النار لحوم المؤذنين» [92] . قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ «4» الآية. قال ابن عباس: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من اليهود، أبو ياسر بن الخطاب ورافع بن أبي رافع وعازار وزيد بن خالد وأزاريل أبي واشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: «أؤمن بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ- إلى قوله- مُسْلِمُونَ» «5» [93] ، فلما ذكر عيسى جحدوا
نبوته قالوا: والله ما نعلم أهل دين أولى حظا في الدنيا والآخرة دينا ولا دنيا شرار دينكم. فأنزل الله هذه الآية ثم قال: قُلْ يا محمد هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ الذين ذكرت يعني قولهم لم نر أهل دين أولى حظا في الدنيا والآخرة منكم فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكن الابتداء شرا كقوله تعالى للكفّار قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ ثوابا وجزاء وهو نصب على التفسير كقوله أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً وأصلها مثووبة على وزن مفعوله وقد جاءت مصادر على وزن المفعول نحو المفعول والميسور فأسقط عين الفعل استثقالا على الواو ونقلت حركتها إلى فاء الفعل وهي الثاء فصار مثوبة مثل معونة ومغوثة ومقولة مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ويجوز أن يكون محل من خفضا على البدل ومن قوله بِشَرٍّ أو على معنى لمن يلعنه الله ويجوز أن يكون رفعا على إضمار هو. ويجوز أن يكون نصبا على إيقاع أُنَبِّئُكُمْ عليه وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فالقردة: أصحاب السبت. والخنازير: كفّار أهل مائدة عيسى. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن المسخين كلاهما من أصحاب نقبائهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فيه عشر قراءات، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بفتح الباء والعين والتاء على الفعل وهي قراءة العامة، وجعل منهم من عبد الطاغوت، وتصديقها قراءة ابن مسعود ومن عبدوا الطاغوت. وقرأ ابن وثاب وحمزة. عَبُدِ الطَّاغُوتَ بفتح العين وضم الباء وكسر الدال أراد العبد وهما لغتان عبد وعبد مثل سبع وسبع وقرد وقرد. وأنشد حمزة في ذلك: كيف الصقيل القرد، بضم الراء ووجه آخر وهو إنه أراد الجمع أي خدم الطاغوت. فجمع العبد عباد ثم جمع العباد عبدا جمع الجمع مثل ثمار وثمر منهم استقبل الضمّتين المتواليتين فعرض من الأولى فتحه ولذلك في قراءة الأعمش وَعُبُدِ الطَّاغُوتَ بضم العين والتاء وكسر الدال. قال الشاعر: انسب العبد إلى آبائه ... أسود الجلدة من قوم عبد «2» وذكر عن أبي جعفر القاري: إنه قرأ وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ على الفعل المجهول، وقرأ الحسن: وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ على الواحد. قرأ أبو بردة الأسلمي: وعابد الطاغوت [باختلاف] «3» على الواحد.
وقرأ ابن عباس: وعبيد الطاغوت بالجمع، وقرأ أبو واقد الليثي: وعباد الطاغوت مثل كافر وكفار، وقرأ عون العقيلي وأبان بن ثعلب: وعُبَّدَ الطاغوت مثل ركع وسجد. وقرأ ابن عمير: واعبد الطاغوت مثل كلب وأكلب أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ فلما نزلت هذه الآية تنذّر اليهود وقالوا إخوان القردة والخنازير فسكتوا وأفحموا، وفيهم يقول الشاعر: فلعنة الله على اليهود ... إن اليهود إخوة القرود «1» وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا الآية، فهؤلاء المنافقون قاله المفسّرون. وقال ابن زيد: هؤلاء الذين قالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ الآية. وهذا التأويل أليق بظاهر التنزيل لأن هذه الآيات نزلت في اليهود وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني من اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ إلى قوله لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ يعني العلماء وقيل: الرَّبَّانِيُّونَ علماء النصارى، وَالْأَحْبارُ علماء اليهود. وقرأ أبو واقد الليثي، وابن الجراح العقيلي: الربيون كقوله مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ «2» . عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وهذه أشد آية على ما أتى النهي عن المنكر حيث أنزلهم منزلة من يرتكبه وجمع بينهم في التوبيخ. الحسن بن أحمد بن محمد، وشعيب بن محمد بن شعيب عن إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن عدي، [الأحمسي] «3» ، البخاري عن عبد الحميد بن جعفر عن أبي إسحاق عن عبد الله بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما من رجل يجاور قوما فيعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم فلا يأخذون على يديه إلّا وأوشك الله أن يعمهم منه بعقاب» «4» [94] . أبو عبد الله محمد، أحمد بن محمد بن يعقوب، عبد الله بن أسامة، أسيل بن زيد الجمال، يحيى بن سلمى بن مهنا عن أبيه عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مثل الفاسق في القوم مثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان فيها نصيب، فأخذ رجل منهم فأسا فجعل يضرب في موضعه فقال أصحابه: أي شيء تصنع تريد أن تغرق وتغرقنا؟ فقال: هو مكاني فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا وإن تركوه غرقوا وغرق» «5» [95] .
[سورة المائدة (5) : الآيات 64 إلى 66]
وقال مالك بن دينار: أوصى الله إلى الملائكة أن عذّبوا قرية كذا فصاحت الملائكة إلى ربها: يا رب إن فيهم عبدك العابد. فقال: أسمعوني ضجيجه فإن وجهه لم يتغير غضبا لمحارمي وأوحى الله إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم. فقال: يا ربّ فهؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي وواكلوهم وشاربوهم. وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. قال ابن عباس وعكرمة والضحّاك وقتادة: إن الله كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله في محمد (عليه السلام) وكذبوا به كفى الله عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص بن عازورا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ لم يردوا إلى عنقه ولكنهم أرادوا إنها مقبوضة بمعنى منه ممسكة عن الرزق فنسبوه إلى البخل. وقال أهل المعاني: إنما قال هذه المقالة فنحاص فلم ينهوا الآخرون ورضوا بقوله فأشركهم الله فيها وأرادوا باليد العطاء لأن عطاء الناس بذل معروفهم في الغالب بأيديهم واستعمل الناس اليد في وصف الإنسان بالرد والبخل. قال الشاعر: يداك يدا مجد فكف مفيد ... وكف إذا ما ضن بالمال ينفق «1» ويقال للبخيل: جعد الأنامل، مقبوض الكف، كز الأصابع، مغلول اليدين، قال الله وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ الآية. قال الشاعر: كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوح «2» .
فاستبدلت بعده جعدا أنامله ... كأنما وجهه يأكل منضوج وقال الحسن: معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلّا بما [يقرّبه] قيمة قدر ما عبد آباؤنا العجل. وهو سبعة أيّام. وقال مجاهد والسدّي: هو أن اليهود قالوا إن الله لما نزع ملكنا منا وضع يده على صدره يحمد إلينا ويقول: يا بني إسرائيل، يا بني أحباري لا أبسطها حتى أرد عليكم الملك. والقول الأول أولى بالصواب لقوله يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وقيل: هو استفهام تقديره: أيد الله مغلولة عنا؟ حيث قتّر المعيشة علينا قال الله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ أي مسكت أيديهم عن الخيرات وقبضت عن الانبساط بالعطيات. وقال يمان بن رئاب: شدد وثقل عليهم الشرائع، بيانه قوله وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وقيل: هو من الغل في النار يوم القيامة كقوله إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ «1» وَلُعِنُوا عذبوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ اختلفوا في معنى يد الله سبحانه، فقال قوم: إن له يدا لا كالأيدي وأشاروا باليد إلى الجارحة ثم قصدوا نفي التشبيه بقوله لا كالأيدي وهذا غير مرضي من القول وفساده لا يخفى. وقال الآخرون: يده قدرته لقوله أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ «2» . وقيل: هو ملكه كما يقال لمملوك الرجل، هو ملك يمينه. قال الله تعالى أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ «3» أي إنه يملك ذلك، وعلى هذين القولين يكون لفظه مشبه ومعناه واحد لقوله وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «4» أراد به جنة واحدة. قاله الفرّاء: وأنشدني في بعضهم: ومنهم يدين قدمين مرتين ... قطعة بالألم لا بالسمينين أراد منهما واحدا وسمنة واحدة. قال وأنشد في آخر: يمشي مكبدا ولهزمين ... قد جعل الأرطا جنتين أراد لهزما وجنة. وقيل: أراد بذلك نعمتاه. كما يقال: لفلان عندي يدا نعمة، وعلى هذا القول يكون بعضه
تشبيه ومعناه جمع كقوله وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» . والعرب تضع الواحد موضع الجمع كقوله وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً «2» . لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ «3» وإِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «4» ونحوها، ويقول العرب: ما أكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس، ويضع التشبيه أيضا موضع الجمع كقوله أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ «5» فأراد الجمع. قال امرؤ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «6» يدل عليه: وقوفا بها صحبي على مطيّهم «7» يقول بأنه أخذ الجمع. قال محمد بن مقاتل الرازي: أراد نعمتان مبسوطتان نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة، وهذه تأويلات مدخولة لأن الله عز وجل ذكر له خلق آدم بيده على طريق التخصيص والتفصيل لآدم على إبليس، ولو كان تأويل اليد ما ذكروا لما كان لهذا التخصيص والتفضيل لآدم معنى لأن إبليس أيضا مخلوق بقدرة الله وفي ملك الله ونعمته. وقال أهل الحق: إنه صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، قال الحسن: إن الله سبحانه يداه لا توصف، دليل هذا التأويل إن الله ذكر اليد مرّة بلفظ اليد فقال عز من قائل قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ «8» بِيَدِكَ الْخَيْرُ «9» يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ «10» تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ «11» . وقال (عليه السلام) : «يمين الله ملأن [لا يعيضن] «12» نفقة فترد به» وقال عز وجل مرّة وقال لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «13» بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ.
[سورة المائدة (5) : آية 67]
وقال (عز وجل) : وكلتا يديه يمين وجمعه مرّة فقال مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً «1» قوله وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً بإنكارهم ومخالفتهم وتركهم الإيمان وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ يعني من اليهود والنصارى كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ يعني اليهود والنصارى أفسدوا وخالفوا حكم التوراة فغضب الله عز وجل فبعث عليهم بخت نصّر ثم أفسدوا فبعث الله عليهم وطرس الرومي ثم أفسدوا فسلّط الله عليهم المجوس ثمّ أفسدوا فسلّط الله عليهم المسلمين وكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله تعالى وكلما جمعوا أمرهم على حرب رسول الله وأوقدوا نارا للحرب أَطْفَأَهَا اللَّهُ وقهرهم ونصر نبيه ودينه وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً الآية وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ الآية وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعني أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أي القرآن. وقيل: كتب بني إسرائيل لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعني المطر وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني النبات. وقال الفرّاء: إنما أراد به التوسعة كما يقال: فلان في خير من قرنه إلى قدمه، نظيره وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ «2» مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني مؤمني أهل الكتاب. ابن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون رجلا من النصارى وهم النجاشي وبحيرا وسلمان الفارسي وخير مولى قريش وأصحابهم. قال ابن عباس: هم العاملة غير العالية ولا الحافية وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كعب بن الأشرف وأصحابه، وأهل الروم. ساءَ ما يَعْمَلُونَ. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ. اختلفوا في تنزيل هذه الآية وتأويلها فروى محمد بن كعب القرضي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فينزل تحتها ويقيل، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه إعرابي وأخذ السيف من الشجرة واخترطه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو نائم، فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى انفرد ساعة فأنزل الله الآية [96] .
وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يحرس، قال: وقالت عائشة: فكنت ذات ليلة إلى جنبه فسهر تلك الليلة، فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟ فقال: «ليت رجل صالح يحرسني الليلة» قالت: فبينما نحن في ذلك حتى سمعت صوت السلاح. فقال: من هذا؟ قال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى سمعت غطيطه فنزلت الآية فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأسه من قبة أديم وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله عز وجل» «1» [97] . وروى الحسن مرسلا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لمّا بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت إن من الناس من يكذبني» «2» [98] وكان عتابه قريشا واليهود والنصارى فأنزل الله الآية، قلت: ولما نزل قوله وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ سكت النبي (عليه السلام) عن عيب الهتهم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ «3» يعني معايب آلهتهم. وقيل: نزلت في عيب اليهود وذلك إنه (عليه السلام) دعا اليهود إلى الإسلام وقالوا: أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون: تريد أن نتّخذك عيانا كما اتخذت النصارى عيانا عيسى، فلما رأى النبي (عليه السلام) ذلك سكت فحرضه الله على دعائهم إلى الإسلام وأمره أن يقول لهم. يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ الآية. قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأنه ليس بين قوله بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وبين قوله لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ فصل. فلما نزلت الآية قال (عليه السلام) : «لا يأتي من عندي ومن نصرني» [99] . وقيل: نزلت في قصة عيينة بن حصين وفقراء أهل الصفة وقيل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الرجم والقصاص ومرّ في قصة. وقيل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من أمر نسائك. وذلك أن رسول الله لما نزلت آية التخيير لم يكن يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا فأنزل الله، وقيل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في أمر زينب بنت جحش ، وقيل: نزلت في الجهاد، وذلك إن المنافقين كرهوه، قال الله فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ «4» الآية وكرهه أيضا بعض المؤمنين قال الله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ «5» الآية، وكان (عليه السلام) يمسك في بعض المسلمين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة القوم فأنزل الله الآية.
وقال أبو جعفر محمد بن علي: معناه: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في فضل علي بن أبي طالب، فلما نزلت الآية أخذ (عليه السلام) بيد علي، فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» «1» [100] . أبو القاسم يعقوب بن أحمد السري، أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن محمد، أبو مسلم إبراهيم ابن عبد الله الكعبي، الحجاج بن منهال، حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لما نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي، فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ألست أولى بكل مؤمن من نفسه» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» «2» . قال: فلقيه عمر فقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة. روى أبو محمد عبد الله بن محمد القائنيّ نا أبو الحسن محمد بن عثمان النصيبي نا: أبو بكر محمد ابن الحسن السبيعي نا علي بن محمد الدّهان، والحسين بن إبراهيم الجصاص قالا نا الحسن بن الحكم نا الحسن بن الحسين بن حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ قال: نزلت في علي (رضي الله عنه) أمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يبلغ فيه فأخذ (عليه السلام) بيد علي، وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» «3» [101] . وبَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في حقوق المسلمين فلما نزلت الآية خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي يوم هذا الحديث في خطبة الوداع، ثم قال: هل بلّغت؟ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ قرأ ابن محيصن وابن قفال وأبو عمرو والأعمش وشبل: رِسالَتَهُ: على واحدة، وهي قراءة أصحاب عبد الله. الباقون جمع. فإن قيل: فأي فائدة في قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ولا يقال: كل من هذا الطعام وإن لم تأكل فما أكلته. الجواب فيه ما سمعت فيه أبا القاسم بن جندب سمعت علي بن مهدي الطبري يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم تبليغ ما أنزل إليك في الوقت والإتيان فيه. حتى تكثر الشركة والعدة وإن لم يفعل على كل ما أوصى الله إليه واحكم الله أن حرّم بعضها لأنه كمن لم يبلغ لأن تركه إبلاغ البعض محيط لإبلاغ ما بلغ. كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ «4» الآية.
فاعلم أن إيمانهم بالبعض إلى بعضهم وأن كفرهم بالبعض يحيط الإيمان بالبعض. وحاشى لرسول الله أن يكتم شيئا مما أوحى الله. قالت العلماء: الدعوة بقراءة الصلاة إذ البعض ركن من أركانها. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن [الأخدش] «1» يحكي عن الحسن ابن الفضل أنّه قال: معنى الآية بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ في الوقت حتى تكثر الشوكة والعدّة، ومن لم يفعل هذا كتب كمن لم يبلغ، وقيل: بلغ مجاهدا محتسبا صابرا غير خائف، وقيل: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إلى جميع الناس [ولا تخاف] . وهذه من الحدود التي يدل مقام القطع عليه «2» . وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ يحفظك ويمنعك مِنَ النَّاسِ ووجه هذه الآية، وقد شجّ جبينه وكسرت رباعيته وأوذي في عدة مواطن بضروب من الأذى، فالجواب أن معناها والله يعصمك منهم فلا يصلون إلى مثلك، وقيل: نزلت هذه الآية بعد ما شجّ جبينه وكسرت رباعيته لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن. وقيل: معناه وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ يخصك بالعصمة من بين الناس لأنه كان نبي الوقت والنبي معصوم. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ عن عبد الله الحسين بن محمد [الديلمي] ، محمد ابن إسحاق السبتي، أبو عروة، عمرو بن هشام، محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن أبي عبد الملك عن القاسم عن أبي أمامة قال: كان رجل من بني هاشم يقال له ركانة وكان من أفتك الناس وأشدهم بأسا وكان مشركا وكان يرعى غنما له ويقال له أقسم فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلّم من بيت عائشة ذات يوم متوجها قبل ذلك الوادي فلقيه ركانة وليس مع نبي الله أحد فقام إليه ركانه وقال: يا محمد أنت الذي تشتم آلهتنا اللات والعزى وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم؟ ولولا رحم بيني وبينك ما كلمتك حتى أقتلك ولكن أدع إلهك العزيز الحكيم يخلصك مني اليوم وسأعرض عليك أمرا هل لك أن أصارعك وتدعو إلهك العزيز الحكيم يعينك عليّ وأنا أدعو اللات والعزى فإن أنت صرعتني فلك عشرة من غنمي وتختارها فقال (عليه السلام) : قم إن شئت واتخذ العهد ودعا النبي صلى الله عليه وسلّم إلهه العزيز الحكيم أن يعينه على ركانة، ودعا ركانة إلهه-[اللات والعزى]- أن أعنّي اليوم على محمد فأخذه النبي (عليه السلام) فصرعه وجلس على صدره. فقال ركانة: يا محمد قم فلست الذي فعلت هذا بي إنما إلهك العزيز الحكيم وخذله
اللات والعزى وما وضع أحد جنبي قبلك، فقال ركانة: عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى ومن خيارها. فقام النبي (عليه السلام) ودعا كل واحد منهما إلهه كما فعلا أول مرّة فصرعه النبي صلى الله عليه وسلّم وجلس على كبده، فقال له ركانة: فلست أنت الذي فعلت فيّ هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى وما وضع جنبي أحد قبلك، فقال له ركانة: عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى تختارها فأخذ مني الله ودعا كل واحد منهما إلهه فصرعه نبي الله الثالثة، فقال له ركانة: لست أنت الذي فعلت بي هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى فدونك ثلاثين شاة من غنمي فأخسرها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: لا أريد ذلك ولكن أدعوك إلى الإسلام وأركانه وأنفس بك أن تصير إلى النار، إنك إن تسلم تسلم فقال له ركانة: ألا تريني آية، فقال له نبي الله (عليه السلام) الله شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل لهذا لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟ قال: نعم، وقريب منهما شجرة ذات فروع وقضبان فأشار نبي الله (عليه السلام) ، فقال لها: أقبلي بإذن الله فانشقت إثنتين وأتت على نصف شقها وقضبانها وفروعها حتى كانت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم وبين ركانة فقال له ركانة: أريتني عظيما، فمرها فلترجع، فقال (عليه السلام) الله شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل فأمرها فرجعت لتجيبني إلى ما دعوتك إليه؟ قال: نعم، فأمرها النبي (عليه السلام) فرجعت بقضبانها وفروعها حتى التأمت فلما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: أسلم تسلم، فقال له ركانة: فما لي ألّا أكون أما أنا فقد رأيت عظيما، ولكني أكره أن يتحدث فينا أهل المدينة وفتيانهم فيّ إنما أجيبك لرعب دخل قلبي منك، ولكن قد علمت في أهل المدينة وصبيانهم إنه لم يوضع جنبي قط ولم يدخل قلبي رعب ساعة قط ليلا ولا نهارا فلك دونك فاختر غنمك، فقال (عليه السلام) : ليس في حاجة إلى غنمك إذ أبيت أن تسلم، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم راجعا فأقبل أبو بكر وعمر يسألانه في بيت عائشة فأخبرتهما إنه قد توجه قبل وادي أضم وقد عرفا إنه وادي ركانة لا يخطيه، فخرجا في طلبه وأشفقا أن يلقاه ركانة فيقتله، فجعلا يصعدان على كل شرفة ونظرا فإذا هما كذلك إذ نظر نبي الله (عليه السلام) مقبلا، فقالا: يا نبي الله كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك وقد عرفت إنه جهة ركانة وإنه من أفتك الناس وأشدهم تكذيبا لك، فضحك إليهما النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: «اليس الله يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنه لم يكن يصل إليّ والله معي» وأنشأ يحدثهما حديث ركانة والذي فعله به والذي أراه فعجبا من ذلك وقالا: يا رسول الله عرفت ركانة فلا والذي بعثك بالحق ما نعلم إنه وضع جنبيه إنسان قط، فقال (عليه السلام) : «إني دعوت ربي عز وجل فأعانني عليه، وإن ربي قال خذ عشرة لك وبقوة عشرة» [102] .
[سورة المائدة (5) : الآيات 68 إلى 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من الدين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا محمد مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً حيث أمرهم بالقرآن مع قيام الدلالة والحجة عليهم فَلا تَأْسَ فلا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى كان حقه والصابئين وإنما رفعه عطفا على الَّذِينَ قبل دخول أنّ فلا يحدث معنى كما تقول: زيد قائم، وأن زيدا قائم معناها واحد، وقرأ الحسن إن الله وملائكتُهُ برفع التاء وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً الآية. لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ في التوحيد والنبوّة وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا إلى قوله وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ وظنوا أن لا يكون ابتلاء واختبار. ورفع نونه بعض قرّاء العراق فمن نصب فعلى ترك المبالاة بلا ومن رفع فعلى معنى لا يكون فَعَمُوا، عن الحسن: فلم يبصروه وَصَمُّوا عنه فلم يسمعونه وكان ذلك عقوبتهم ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا بعد ذلك بخذلانهم أيا منهم في قتال كَثِيرٌ مِنْهُمْ وهم كفار أهل الكتاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ يعني الملكانية وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ الآية. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ هي النسطورية وذلك إنهم قالوا أبا وابنا وروحا قدسيا وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ إلى قوله لَيَمَسَّنَّ لتصيبن الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ خص الكفر
[سورة المائدة (5) : الآيات 78 إلى 81]
لعلمه أن بعضهم [لهم] «1» عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ الآية. مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلى قوله وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ الآية، تصدق، وقال مقاتل: إنما سميت صديقة لأنها لما أتاها جبرئيل، وهي في منجم وقال لها: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ صدّقته كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ في هذا المعنى هذا عبارة عن الحدث ومن أكل وأحدث لا يستحق أن يكون إلها انْظُرْ يا محمد كَيْفَ نُبَيِّنُ إلى قوله أَنَّى يُؤْفَكُونَ [يرتدون] عن الحق قُلْ أَتَعْبُدُونَ الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني النصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ لا تجاوزوا الحق إلى غيره وَلا تَتَّبِعُوا الآية. لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي عذبوا بالمسيح فقال عَلى لِسانِ داوُدَ. يعني أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يعني كفّار أصحاب المائدة لمّا لم يؤمنوا، قال عيسى: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير ذلِكَ بِما عَصَوْا الآية كانُوا لا يَتَناهَوْنَ أي لا ينهي بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ الآية. الحسن بن محمد بن الحسين، موسى بن محمد بن علي بن عبد الله، عبد الله بن سنان، عبد العزيز بن الخطاب، خالد بن عبد الله، العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، الحسن بن محمد، أحمد بن محمد بن إسحاق، أبو علي الموصلي، وهب بن منبه، خالد عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض وجعل منهم القردة والخنازير ولعنه عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» . «والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 إلى 89]
ولتأطرنه على الحق إطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم» «1» [103] . تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود، كعب بن الأشرف وأصحابه يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا منكر في منكر حين خرجوا إليها يعينون على محمد (عليه السلام) لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عذاب الله عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ محمد وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من القرآن ومَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني من لم يسلم. لَتَجِدَنَّ يا محمد أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ يهود أهل المدينة. أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين، أبو جعفر علي بن محمد بن أحمد الصفار الهمداني، أبو علي عبد الله بن علي بن الزبير النخعي، إسماعيل بن بهرام الأشجعي، عباد ابن العوّام عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما خلا يهوديان بمسلم إلّا همّا بقتله» «2» [104] . وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا مشركي العرب وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى لم يرد به جميع النصارى مع ما فيهم من عداوة المسلمين وتخريب بلادهم وهدم
مساجدهم وقتلهم وأسرهم وإحراق مصاحفهم لا ولا كرامة لهم وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه. قال المفسرون: ائتمرت قريش بأن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على محمد فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فأفتن ما أفتن وعصم الله منهم من شاء ومنع الله رسوله بعمّه أبي طالب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: «إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد» «1» [105] . فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا وأراد به النجاشي واسمه أصحمة وهو الحبشة عطية فإنما النجاشي اسم الملك كقوله قيصر وكسرى فخرج إليها سرا عشرون رجلا وأربع نسوة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم والزبير بن العوام وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة وحاطب بن عمرو وسهيل بن البيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهذه الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين إثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردهم إليه فيعصمهم الله وقد ذكرت هذه القصة في سورة آل عمران، فلما انصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم هجرته إلى المدينة وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول الله (عليه السلام) إلى النجاشي على يدي عمرو بن أمية الضمري يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت هاجرت مع زوجها فمات زوجها وبعث إليه من عنده من المسلمين. فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية لها يقال لها أبرهة فزوجها حطيئة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إياها وأعطتها أوضاحا لها سرورا بذلك وأمر بها أن يوكل من زوجها فوكلت خالد بن الوليد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول الله النجاشي فدعا النجاشي بأربعمائة دينار وأخذها إلى أم حبيبة على يدي أبرهة فلما جاءتها بها أعطتها منها خمسين دينارا فقالت أبرهة: قد أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئا فإن أرد الذي أخذت منك وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرأه منّي السلام قالت: نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يراه عليها وعندها فلا ينكره، فقالت: أم حبيب: فخرجنا في سفينتين وبعث النجاشي معنا الملاحين «1» حتى قدمنا الجار ثم ركبنا الظهر إلى المدينة فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي وقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «لا أدري أنا بفتح خيبر أشد أم بقدوم جعفر» «2» [106] وأنزل الله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً يعني أبا سفيان مودة بتزويج أم حبيبة [فقيل لأبي سفيان وهو يومئذ مشرك يحارب النبي صلى الله عليه وسلّم: إنّ محمّدا قد نكح ابنتك قال: ذاك الفحل لا يقرع أنفه] «3» . وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابنه أرها بن أصحمة مع ستين رجلا من الحبشة، وكتب إليه: يا رسول الله أشهد أنّك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك أرها وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليكم يا رسول الله. فركبوا سفينة مع جعفر وأصحابه، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ورأى جعفر وأصحابه رسول الله في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم خيرة الحبشة الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وتمام ومريد وأيمن فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم سورة يس إلى آخرها فبكوا. حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: جئتنا بما كان ينزل على عيسى (عليه السلام) فأنزل الله تعالى فيهم لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً إلى قوله نَصارى يعني وفد النجاشي الذين غرقوا مع جعفر بن أبي طالب وهم السبعون وكانوا أصحاب الصوامع. وقال مقاتل والكلبي: كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون في الحبشة وثمانية من أهل الشام. عطاء: كانوا ثمانين رجلا أربعون رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميّون من أهل الشام. وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من أهل الحق وكانوا لعيسى يؤمنون به وينتهون إليه فلما بعث الله محمدا صدّقوه وآمنوا به فأثنى الله عليهم ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ، أي علماء. قال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم. وقال ورقة:
بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا «1» وقال عروة بن الزبير حرّفت النصارى الإنجيل فأدخلوا فيه ما ليس منه وكان الذي غيّر ذلك أربعة نفر لوقاس ومرقوس ويحنس ومتيوس، وبقي قيس على الحق وعلى الاستقامة والإقتصاد فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس «2» . عبد الله بن يوسف بن أحمد، محمد بن حامد بن محمد التميمي الحسن بن الهيثم السمري، عبد الله بن محمد، يحيى بن الحمامي، نصير عن زياد الطائي عن الصلت الدهان عن [حامية] «3» بن رئاب عن سلمان قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً فاقرأ في ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا الرهبان العبّاد وهم أصحاب الصوامع وأخذهم راهب مثل فارس وفرسان، وراكب وركبان، وقد يكون واحدا وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، وجردان وجرادين، وأنشد في الواحد: لو كلمت رهبان دير في القلل ... لانحدر الرهبان يسعى فنزل «4» وأنشد في الجمع: رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... العصم من شعف العقول الغادر «5» وهو من قول القائل: رهب الله أي خافه، يرهبه رهبة ورهبا ورهبانا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يتكبرون عن الإيمان والإذعان للحق وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ محمد صلى الله عليه وسلّم تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ. أبو عثمان بن أبي بكر الزعفراني، شيخي، أبو جعفر بن أبي خالد عبد الرحمن بن عمر ابن يزيد، ابن أبي عدي، سعيد عن عمرو بن مرّة قال: قدم على أبي بكر الصديق وفد من اليمن. فقالوا: اقرأ علينا القرآن، فقرأ عليهم القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر: كذا كنا حتى قست القلوب، وكان أبو بكر لا يملك دمعة حين يقرأ القرآن يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعني أمة محمد (عليه السلام) دليله قوله لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ إلى قوله الصَّالِحِينَ أي في أمة محمد (عليه السلام) دليله قوله يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ فَأَثابَهُمُ اللَّهُ جازاهم الله بِما قالُوا إلى قوله خالِدِينَ فِيها على قولهم بالإخلاص بدليل قوله وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا الآية. قال المفسرون: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما فذكّر الناس يوم القيامة ولم يزدهم على التخويف فرقّ الناس وبكوا فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم: أبو بكر وعلي، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويصوموا الليل ولا يناموا على فرشهم، ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويلبسوا المسموح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض فيذهبوا ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فأتى دار عثمان بن مظعون، فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكم بنت أبي أمية: أين الحولاء وكانت عطارة: أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول الله هو وأصحابه. فقال لهم: «ألم أنبأ إنكم اتفقتم على كذا وكذا» ، قالوا: بلى يا رسول الله وما أردنا إلّا الخير، فقال (عليه السلام) : إني لم أؤمر بذلك ثم قال: «إن لأنفسكم عليكم حقا صوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ومن رغب عن سنتي فليس مني» . ثم جمع الناس وخاطبهم ثم قال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء واتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وحجوا واعتمروا وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وصوموا رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم باطلا بإقدامهم في الديرات والصوامع فأنزل الله تعالى هذه الآية» «1» [107] . وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: ضاف عبد الله بن رواحة ضيفا فانقلب ابن رواحة ولم يتعشّ فقال لزوجته: ما عشيتيه؟ فقالت: كان الطعام قليلا فانتظرتك، فقال: جست ضيفي من أجلي؟ طعامك عليّ حرام فقالت: وهو عليّ حرام إن لم تأكله. وقال الضيف: وهو حرام إن ذقته إن لم تأكلوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة، قال: قرّبي طعامك كلوا بسم الله وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك، فقال (عليه السلام) : أحسنت ونزلت هذه الآية. روى عكرمة عن ابن عباس: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله إني
صمت من اللحم فأشريت، وأخذتني شهوة فحرمت اللحم، فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يعني اللذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب، وما أحل الله لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وَلا تَعْتَدُوا ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام. وقيل: هو جبّ المذاكير وقطع آلة التناسل وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً قال عبد الله بن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه والطيب ما غذا ونما فأما الجوامد والطين والتراب، وما لا يغذي فمتروك إلّا على جهة للتداوي وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ. روي عن عائشة وأبي موسى الأشعري أن النبي (عليه السلام) كان يأكل الفالوذج والدجاج وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال: «إن المؤمن حلو يحب الحلاوة» «1» . وقال: «في بطن المؤمن زاوية لا يملأها إلّا الحلواء» «2» [108] . وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السبخي فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال فرقد: لا آكله فلا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال: يا هذا أتحب لباب البر مع سمن البقر؟ هل يعيبه مسلم. وجاء رجل إلى الحسن فقال: إن لي جار لا يأكل الفالوذ، قال: ولم؟ قال: يقول: لا يروي شكره. قال الحسن: ويشرب الماء البارد؟ قال: نعم، قال: جارك جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ. قال ابن عباس: لما نزلت لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآيتين، قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتّفقوا «3» فأنزل الله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ أهل الحجاز والبصرة عَقَّدْتُمُ مشددا بمعنى وكّدتم، واختار أبو حاتم فقرأها أهل الكوفة بالتخفيف واختاره أبو عبيدة. [والتشديد التكرير مرّة بعد مرّة، ... ] أمن أن يلزم من قراءتك. [الفراء] : أن لا يوجب الكفارة عليه في اليمين الواحدة متى يرددها مرارا وهذا خلاف الإجماع. وقرأ أهل الشام: عاقدتم بالألف، يكون من واحد مثل: جاياك الله ونحوها. وقرأ الأعمش بما عقدت الأيمان جعل الفعل الإتيان. ومعنى الآية ما قصدتم وتعمدتم وأردتم ونويتم كقوله بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.
فَكَفَّارَتُهُ أي كفّارة ما عقدتم من الأيمان إذا حلفتم إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ واختلفوا في قدرها. فقال الشافعي: مدّ وضوء النبي (عليه السلام) والمدّ رطل وثلث، وكذلك في جميع الكفارات، وهو قول ثابت وابن عباس وابن عمر وابن المسيب والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء والحسن واحتجوا بها. أبو بكر الجورقي، أبو العباس بن منصور الفيروزآبادي، أحمد بن حفص حدّثني أبي حدّثني إبراهيم بن طهمان عن منصور بن المعتمر عن الزهري عن حمد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: رجل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إني وقعت على أهلي وذلك في رمضان، فأمره أن يعتق رقبة، قال: ما أجدها، قال: «فصم شهرين متتابعين» قال: ما أطيقه، قال: «فأطعم ستين مسكينا» ، قال: ما أجد، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكيل فيه خمسة عشر صاعا من تمر، قال: «خذ هذا فأطعمه» ، قال: والذي بعثك بالحق ما بين] لابتيها أدلّ شيء هو منها [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «خذه في أطعمة أهلك» «1» [ ... ] «2» وخمسة عشر صاعا إذا قسم على ستين مسكينا خص كل مسكين له مد [109] . وقال أبو حنيفة: إن أطعم من الحنطة نصف صاع وإن أطعم من الشعير والتمر والزيت ونحوها فإنه يعطى صاعا كاملا لا يجزي أقل من ذلك، وقول عمر بن الخطاب وابنه والنخعي والشعبي وابن جبير ومجاهد والحكم والضحّاك واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلّم أنه أتي بوسق صاعا فأعطى رجلا وجبت عليه كفّارة، وقال: «أعطه لستين مسكينا» . وقال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ومحمد بن كعب: غداء وعشاء ، وعند الشافعي لا يجوز أحد القيم في الزكوات والكفارات، وأجاز أبو حنيفة فاعتبر الشافعي النص. وأبو حنيفة المنفعة والمصلحة، وعند الشافعي لا يجوز أن يعطى أقل من عشرة مساكين وأبو حنيفة إن أعطى مسكينا في عشرة أيام جاز، وقال الشافعي: لا يجوز أن يعطي الكفارة إلّا حرّا مسلما محتاجا ولا يجوز أن يعطى العبيد والكفار ولا الأغنياء. فقال أبو حنيفة: إن أعطى الكفارة أهل الذمة جاز فأما الزكاة فلا يجوز أن يعطى أهل الذمة بلا خلاف، ودليل الشافعي قوله وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ «3» والكافر من أسفه السفهاء قال الله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ «4» وحجة أبي حنيفة قوله
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ «1» الآية. [والأسير] لا يكون إلّا من الكافرين مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي من خير قوت عيالكم فلو إنه يقتات الحنطة لم يخوله أن يعطى الشعير. وقرأ الصادق: أهاليكم وكسوتهم قرأه العامة: بكسر الكاف، وقرأ السلمي نصبه. وهما لغتان مثل إسوة وأسوة، ورشوة ورشوة. وقرأ ابن جبير أو كاسوتهم يعني كاسوة أهلك في الطعام والأسوة الميل والتمايل أي يطعمون المساكين كما يطعمون أهليكم، واختلف العلماء في الكسوة التي تجري في الكفارات وقال قوم: هي ثوب واحد مما يقع عليه اسم الكسوة أزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو كساء أو عمامة ونحوها. وهو قول ابن عباس والحكم والحسن ومجاهد وعطاء والباقر وإليه ذهب الشافعي . وقال آخرون: ثوب جامع لا تجزي فيها العمامة، وهو مذهب النخعي وأبي حنيفة وقال [مالك كل] ما يجوز فيه الصلاة. وقال ابن المسيب والضحّاك: لكل مسكين ثوبان، واحتجا بأن أبا موسى الأشعري كان بذمته كفارة فكسا عشرة مساكين لكل واحد ثوبين ظهرانيا ومعقدا من معقد البحرين. وقال شهر بن حوشب: ثوب ثمنه خمسة دراهم أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. قال الشافعي: لا يجوز في كفارة واجبة إلّا رقبة مؤمنة، مثل كفارة القتل واليمين والظهار والجماع في نهار رمضان. والسدي [والوصيفة] ووافقه أبو حنيفة في كفارة القتل وأجاز في غيرها الرقبة الكافرة، ودليل الشافعي أن الله عز وجل قاله في كفارة القتل فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ «2» فقيّد وأطلق في سائرها والمطلق محمول على المقيّد واحتج أيضا بما روى: إن رجلا جاء إلى النبي (عليه السلام) فقال: أوجبت يا رسول الله، فقال: أعتق رقبة فجاء برقبة أعجمية إلى النبي (عليه السلام) ، فقال لها رسول الله: من ربك؟ ففهمها الله فأشارت إنه واحد، فقال: من أنا؟ فأشارت إلى السماء أي إنك رسول الله، فقال (عليه السلام) : «أعتقها فإنها مؤمنة» «3» وأوجبت لفظة مطلقة [يحتمله] . وروى أبو سلمة عن الشديد أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال: إن أمي أوصت أن يعتق عنها رقبة وعندي جارية نوبية سوداء أفأعتقها؟ قال: أدع بها فجيء بها، فقال: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا، قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة ، واتبع أبو حنيفة ظاهر الآية.
ويجوز في الكفارة من الرقاب الصغير والكبير والذكر والأنثى، وأما إذا كان معيوبا فاعلم أن العيب عيبان عيب يمنعه من العمل. فلا يجوز مثل الأعمى، والأشل والمقعد والمجنون المطبق والأخرس. فإن كان عيبا خفيفا لا يمنعه من العمل فيجوز مثل الأجدع والمقطوع الخنصر ونحوها وهذا كما يقول في الكسوة. فإن كان الثوب لبيسا قد بلي وانقطع منه جل المنفعة لم يجز وإن لبس خفيفا لم ينقطع منه جل المنفعة. والمكفّر بالخيار، مخير بين هذه الأشياء لأن الله ذكره بلفظ التخيير وهو أو فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واختلف الفقهاء في صفة من لم يجد متى يجوز له الصيام. فقال أبو حنيفة: إذا كان عندهم [مائتا] درهم وعشرون مثقالا أو أقل ما يجب فيه الزكاة لم يجز له الصيام، فإن كان أقل من ذلك فهو غير واجد وجاز له الصوم. وقال متأخرو الفقهاء: إذا كان له كفاية من المال يتصرف فيها لمعاشه. فإن فضل عن رأس ماله مقدار ما يكفر منه بالإطعام فليس له أن يصوم وإن لم يفضل عن رأس ماله مقدار ما يطعم فله أن يصوم. وقال الشافعي: إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر فله الصيام «1» . وقال بعضهم: إذا ملك ما يمكنه الإطعام فليس له الصيام وإن لم يفضل له من الكفاية شيء. وهو قول ابن جبير والحسن قالا: إذا كان عنده درهمان وثلاثة فهو واحد وإن لم يجد شيئا من هذا فَصِيامُ أي فعليه أي فكفارته صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ واختلفوا في كيفية الصيام. فللشافعي فيه قولان، أحدهما: إنها متتابعة وإن فرده لم يجز، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري واختيار المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار واعتبارا بقراءة عبد الله وأبي، فصيام ثلاثة أيام متتابعات وهذا قول ابن عباس وقتادة. والقول الثاني: إنه بالخيار إن شاء تابع وإن يشأ فرق والمتابعة أحسن وأفضل وهو مذهب مالك. ذلِكَ الذي ذكرت كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ قسمتم كقوله فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ «2» وقوله فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ «3» يعني [فأقصر وأحلق] وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ فلا تحلفوا فإذا حلفتم فلا تحزنون كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 إلى 96]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وقد مرّ تفسيره، فإن جمعه تحريمها وسنذكر أخبارا في الوعيد الوارد في شربها واتخاذها وبيعها وبالله التوفيق. عن الشيخ أبو عمرو أحمد بن أبي الفراني، الحاكم أبو الفضل محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي حدثني عبد الله بن يحيى حدثني الحسين بن المبارك حدثني عتبة بن الوليد عن عبد الله ابن حبيب عن الزهري عن ابن المسيب عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يجمع الخمر والإيمان في امرئ أبدا» «1» [110] . أحمد بن أبي، عمران بن موسى، ومارود بن بطن، عثمان بن أبي شيبة، محمد بن أبي سلمى الأصفهاني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مدمن الخمر كعابد الوثن» [111] «2» . أحمد بن أبي، محمد بن يعقوب، الربيع بن سليمان، الشافعي مالك عن نافع عن ابن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة» «3» [112] . أحمد بن أبي، أبو عبد الله بن محمد بن موسى الرازي، الحرث بن أبي أسامة البغدادي، داود ابن المحسن الواسطي، ميسر بن عبد ربه عن أبي عائشة السعدي عن يزيد بن عمر بن عبد
العزيز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وابن عباس جميعا قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من شرب الخمر في الدنيا سقاه الله من سم الأساود وسم العقارب، من شربها تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها فإذا شربها [تفسخ لحمه] «1» ينادي به أهل الجمع ثم يؤمر به إلى النار إلا وشاربها وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومبتاعها وحاملها والمحمول إليه وكل فيها سواء في إثمها وحاد بها، ولا يقبل الله منه صلاة ولا صياما ولا حجا ولا عمرة حتى يتوب فإن مات قبل أن يتوب منها كان حقا على الله يعاقبه فيه بكل جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد جهنم ألا وكل مسكر خمر وكل خمر حرام» «2» [113] . أحمد بن أبي، أبو العباس الأصم، أحمد بن إسحاق الصنعاني، أبو نعيم، عبد العزيز بن محمد ابن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من أهل مصر عن ابن عمر أنه قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يقول: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وأكل ثمنها» «3» [114] . أحمد بن أبي، أبو العباس الأصم، محمد بن إسحاق بن جعفر الصنعاني، نعيم بن ماد، عبد العزيز بن محمد عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر «4» ولا يموتن أحدكم وعليه دين فإنه ليس هناك دينار ولا درهم وإنما يقتسمون هناك الحسنات والسيئات واحد بيمينه وواحد بشماله» «5» [115] . أبو بكر أحمد بن محمد القطان، محمد بن الحسين بن محمد الدهقان، عثمان بن سعيد الدارمي، الربيع بن الروح أبو توبة الحلبي، محمد بن الحرمي عن حكم بن عيينة عن محمد بن [المنكدر] عن علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من شرب الخمر بعد أن حرمها الله على لساني فليس له أن يزوج إذا خطب ولا يصدق إذا حدث ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن على أمانة فمن أئتمنه على أمانة فاستهلكها فحق على الله عز وجل أن لا يخلف عليه» «6» [116] . أنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا أبو العباس عبد الله بن محمد الجبّائي، أنشدنا رضوان ابن أحمد الصيدلاني شعرا:
تركت النبيذ لأهل النبيذ ... وصرت حليفا لما عابه شرابا يدنس عرض الفتى ... ويفتح للشر أبوابه «1» وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ أي الأوثان، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها، واحدها: نصب بفتح النون وجزم الصاد، ونصب منهم النون مثقلا ومخففا وَالْأَزْلامُ يعني القداح التي كانوا يقتسمون بها رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ تزينه فَاجْتَنِبُوهُ رد الكناية إلى الرجس لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ يلقي بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ كما فعل الأنصاري الذي [شج] سعد بن أبي وقاص [بلحي] الجمل وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أي انتهوا لفظه استفهام ومعناه أمر كقوله فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا المحارم والملاهي فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ. عن ذلك فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فإما التوفيق والخذلان، والثواب والعقاب فإلى الله سبحانه، فلما نزل تحريم الخمر والميسر، قالت الصحابة: يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا شربوا الخمر نظيره قوله وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي وفيما أكلوا من الميسر ذلك ذكر المنعم لأنه لفظ جامع إِذا مَا اتَّقَوْا الشهوات وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا الخمر والميسر بعد تحريمهما ثُمَّ اتَّقَوْا حرم الله عليهم كله وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. الحسين بن محمد بن فنجويه، عمر بن الخطاب، محمد بن إسحاق الممسوحي، أبو بكر ابن أبي شيبة، محمد بن بكر عن سعد بن عوف عن محمد بن حاطب قال: ذكر عثمان قال الحسن بن علي: هذا أمير المؤمنين يأتيكم خبركم فجاء علي فقال: إن عثمان من الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ الآية، نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله بالصيد فكان الوحش يغشى رجالهم كثير وهم محرمون فبينما هم يسيرون بين مكة والمدينة إذ عرض إليهم حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فطعنه برمحه فقتله فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت حرم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسأله عن ذلك فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ ليختبرنكم الله بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ وإنما بعض فقال بشيء لأنه ابتلاهم بصيد البرّ خاصة تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وهي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر من الصيد الوحش وَرِماحُكُمْ وهي الوحش وكبار الصيد لِيَعْلَمَ اللَّهُ ليرى الله مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ولم يره مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فلا يصطاد في حال الإحرام فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي صاده بعد تحريمه فاستحلّه فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي محرمون بالحج والعمرة وهو جمع إحرام يقال رجل حرام وامرأة حرام وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً اختلفوا في صيغة العمد الموجب للجزاء والكفارة في قتل الصيد، قال: حرموا العمد في قتل الصيد مع نسيانه لإحرامه في حال قتله فأما إذا قتله عمدا وهو ذاكرا لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة. قرأ مجاهد والحسن وقال آخرون: هو العمد من يحرم بقتل الصيد ذاكر الحرمة فيحكم عليه في العمد والخطأ وهو إختيار الشافعي وأكثر الفقهاء. وقال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ. وقال ابن عباس: إن قتله متعمدا مختارا سئل: هل قتلت قبله شيئا من الصيد؟ فإن قال: نعم لم يحكم عليه وقيل له: اذهب فينتقم الله منك. وإن قال: لم أقتل قبله شيئا حكم عليه فإن عاد وقتل الصيد محرما بعد ما حكم عليه لم يحكم عليه ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا، وكذلك حكم رسول الله (عليه السلام) في وج «1» وهو وادي بالطائف، وعندنا إذا عاد يحكم عليه وعليه الجمهور بذلك. قوله: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ نوّنها يعقوب وأهل الكوفة ورفعوا المثل على البدل من الجزاء، كأنه فسّر الجزاء فقال: مِثْلٌ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وأضافها الآخرون لاختلاف الاسمين يَحْكُمُ بِهِ أي بالجزاء ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به حتى يفديه ويهديه إلى الكعبة فإن قتل نعامة فعليه بدنة فإن قتل بقرة أو إبلا أو حمارا فعليه بقرة وإن قتل بقرة وحشية فعليه عجل إنسي وفي الضبع كبش لأنه صيد وأكله حلال. وأما السباع فلا شيء فيها وإن قتل ضبيا فعليه شاة، وفي الغزال والأرنب جمل، وفي الضب واليربوع سخلة، وفي الحمام والفواخت والقمري والدبسي «2» وذوات الأطواق وكل ما عبث وهدر شاة، واختلفوا في الجراد وروي عن عمر أنّه قال لكعب وقد قتل جرادتين: ما جعلت على نفسك، قال: درهما قال: بخ، قال: درهم خير من مائة جرادة. وروي عن عمر أيضا في الجرادة تمرة. قال ابن عباس: قبضة من طعام فإن أصاب فرخا أو بيضا أو شيئا لا يبلغ بهيمة فعليه قيمته طعاما، وهو قول عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر وإليه ذهب الشافعي، وعليه جمهور أهل العلم، قال النخعي: يقوم الصيد المقتول قيمته من الدراهم فيشتري بثمنه فداء من النعم ويهديه إلى الكعبة.
وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجا وكنا إذا صلينا الغداة أفسدنا رواحلنا نتماشى ونتحدث، فبينا نحن ذات غداة إذ سنح لنا ضبي] فابتدرناه [فابتدرته ورميته بحجر فأصاب حشاه فركب ردعه فمات فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وكان حاجا وكان جالسا وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف فسألته عن ذلك، فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ فقال: عليه شاة قال: وأنا أرى ذلك. قال: اذهب فأهد شاة فخرجت إلى صاحبي فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: فلم [يفجأنا] إلّا وعمر معه درّة فعلاني بالدّرة فقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم، قال الله يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن «1» . محمد بن عبدوس عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن القاسم بن علام عن أبي أمية عن أبي [صوليه] عن عبد الملك بن عمير: أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ إذا لم يكن واجدا للفدية أو لم يكن للمقتول مثل من النعم فكفارته حينئذ الإطعام. يقوّم الصيد المقتول دراهم ثم يقوّم الدراهم طعاما فتصدق على مساكين الحرم فإن لم يجد فصيام لكل نصف صاع يوما عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: لكل مدّ وعنده إنه يخير من هذه الأشياء الثلاثة فإنه ذكرها تلفظا وهو قول مجاهد وعطاء، واختلفوا في تقويم الطعام. فقال الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء: يقوّم الصيد قيمة الأرض التي أصابه بها. وقال الشعبي: يقوّم بسعر الأرض التي يكفر بها. قال جابر: سأل الشعبي عن محرم أصاب صيدا بخراسان. قال: يكفر بمكة بثمن مكة. واختلفوا في الإطعام أين يطعم؟. فقال قوم: يطعم بمكة فلا يجزي إلّا بها، وهذا قول عطاء وإليه ذهب الشافعي. فأما الهدي فلا يجوز إلّا بمكة بلا خلاف. فأما الصوم فيجوز بأي موضع صام بلا خلاف فلو أكل من لحم صيد فلا جزاء عليه إلّا في قتله أو جرحه ولو دلّ على صيد كان مسيئا جزاء عليه كما لو أمر بقتل مسلم لا قصاص عليه وكان مسيئا. واعلم أن الصيد الذي لا يجوز قتله في الحرم وفي حال الإحرام هو ما حلّ أكله. أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري، أبو بكر البستي، أبو عبد الرحمن البستي، قتيبة ابن سعد عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة والكلب العقور» «2» [117] .
وبه عن عبد الرحمن عمرو بن علي عن يحيى عن شعبة عن قتادة عن ابن المسيّب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «خمس يقتلهن المحرم: الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور» «1» [118] . لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ جزاء معصيته عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ في الجاهلية وَمَنْ عادَ في الإسلام فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ في الآخرة. وقال ابن عباس: يملأ ظهره سوطا حتى يموت. السدي: عاد رجل بعد ما حكم عليه بالتحريم وأحرقه الله بالنار. وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ على المحرم والحلال. وهو على ثلاثة أوجه: الحيتان وأجناسها وكلها حلال، والثاني: الضفادع وأجناسها وكلها حرام. والثاني فيه قولان، أحدهما: حلال، والثاني: حرام، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال بعضهم: كل ما كان مثاله في البر فهو حلال في البحر وما كان مثاله] جزاء ما [في البر فهو حرام في البحر] . فأراد بالبحر جميع المياه لقوله ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَطَعامُهُ قال بعضهم: هو ما مات في الماء فقذفه الماء إلى الساحل ميتا وهو قول أبي بكر وعمر وابنه وأبي هريرة وابن عباس، وقال بعضهم: هو المليح منه، وهو قول ابن جبير وعكرمة والنخعي وابن المسيب وقتادة مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ يعني المارة. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً لا يجوز للمحرم أكل الصيد إذا صاد هو وصيد له بأمره فأما إذا صاده حلال بغير أمره ولا له فيجوز له بلا خلاف. فأما إذا قتله المحرم فهل يجوز أكله أم لا؟. قال الشافعي: يجوز لأنه ذكاة مسلم، وعند أبي حنيفة لا يجوز فأحلّه محل ذكاة المجوس، ودليل الشافعي، أبو عبد الله [الفنجوي] ، أبو بكر السني، النامي، محمود بن عبد الله، أبو داود، سعيد عن عثمان بن عبد الله موهب سمعت عبد الله بن أبي قتادة حدث عن أبيه إنهم كانوا في مسير لهم في بعضهم ليس بمحرم، قال: فرأيت حمارا وحشيا، فركبت فرسي وأخذت الرمح واستعنتهم فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطا من بعضهم فشددت على الحمار وأخذته فأكلوا منه فأشفقوا فسئل عن ذلك النبي (عليه السلام) فقال: هل محرم عنيتم؟ قالوا: لا، قال: فكلوا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 97 إلى 104]
وبإسناده عن النسائي قال: [حدّثنا] ، قتيبة بن سعيد عن يعقوب وهو ابن عبد الرحمن بن عمرو عن المطلب عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو صيد لكم» «1» [119] . وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ. الآية. قال ابن عباس: كانوا يتغادرون ويتقاتلون فأنزل الله جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ. قال مجاهد: سميت كعبة مربع والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة. وقال مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البنيان. قال أهل اللغة: أصلها من الخروج والارتفاع وسمّي الكعب كعبا لخروجه من جانبي القدم، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرجت ثدياها: قد تكعبت، فسميت الكعبة كعبة لارتفاعها من الأرض، وثباتها على الموضع الرفيع، وسميت البيت الحرام لأن الله حرّمه وعظم حرمته. وفي الحديث: «مكتوب في أسفل المقام: إني أنا الله ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض. ويوم وضعت هذين الجبلين وحففتهما بسبعة أملاك حفا من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقه مذعنا لي بالربوبية حرّمت جسده على النار» . قِياماً لِلنَّاسِ أي قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم وصلاحا لمعاشهم ومعادهم لما
يحصل لهم من الحج والعمرة والزيارة والتجارة وما يجبى إليه من الثمرات ويظهر فيه من أنواع البركات. فقال ابن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه وَالشَّهْرَ الْحَرامَ أراد به الأشهر الحرم يأمن فيها الناس وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الآية. اعترض على هذه الآية وقيل: كيف يليق أول الآية بآخرها؟ فالجواب أن مجاز الآية إن الله يعلم صلاح الناس كما يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ الآيتين قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ يعني الحلال والحرام. وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ نزلت في شرح بن صبيعة وحجاج بكر بن وائل فَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين. وقد مضت القصة في أول السورة يا أُولِي الْأَلْبابِ الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ الآية، اختلفوا في نزولها، فروى الزهري وقتادة عن أنس وأبو صالح عن أبي هريرة قالا: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى ألحّوا بالمسألة فقام مغضبا خطيبا وقال: سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا لآتيته لكم، فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يكون بين يدي أمر قد مضى، قال أنس: فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلّا وجدت رجلا لافا رأسه في ثوبه يبكي، فقام إليه رجل من قريش من بني تميم يقال له عبد الله بن حذافة: وكان يطعن في نسبه وكان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبو حذافة بن قيس» . قال الزهري: فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدا بأعق منك قط أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤس الناس. فقال: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته، فقام إليه رجل آخر فقال: يا رسول الله أين أنا؟ قال: في النار. فقام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وقبل رجل رسول الله وقال: رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو عهد بالجاهلية والشرك فاعف عنا عفى الله عنك فسكن غضبه وقال: «أما والذي نفسي بيده لقد صورت لي الجنة والنار أنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر» «1» . وقال ابن عباس: كانوا قوم يسألون رسول الله (عليه السلام) امتحانا بأمره، واستهزاء به، فيقول له بعضهم من أبي؟ ويقول الآخر: أين أنا؟ ويقول الآخر إذا خلت ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال علي وأبو أمامة الباهلي: خطب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «إن الله كتب عليكم الحج» . فقام رجل من بني أسد يقال له عكاشة بن محسن فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال (عليه السلام) : «ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلت نعم لوجبت، ولو أوجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» «1» [120] . وقال مجاهد: نزلت هذه الآية حين قالوا لرسول الله عن البحيرة والسائبة ألا ترى يقول بعد ذلك ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ الآية وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ تسؤكم لأن القرآن إنما ينزل بإلزام فرض فيشق عليكم أو شيء كان حلالا لكم عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ كما سألت ثمود صالحا الناقة، وقوم عيسى المائدة ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ فأهلكوا. روى مكحول الشامي عن أبي ثعلبة الخشني قال: إن الله فرض فرائض فلا تسبقوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. ما جَعَلَ اللَّهُ ما أنزل الله ولا من الله ولا أمر به نظيره قوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا «2» أي أنزلناه، مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ. وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التميمي عن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأكتم بن الجون: يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا بك منه، وذلك إنه أول من غيّر دين إسماعيل ونصب الأوثان، ونحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ولقد رأيت في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه» [121] فقال أكثم: تخش أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال: «لا أنت مؤمن وهو كافر» «3» . قال: وذلك أن الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة إناثا سيبت فلم يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلّا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع إنها في الإبل يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلّا ضيف كما فعل بأمها وهي البحيرة بنت السائبة. وقال ابن عباس: على إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس،
[سورة المائدة (5) : الآيات 105 إلى 109]
فإن كان ذكرا نحروه، فأكله الرجال والنساء جميعا وإن كانت أنثى شقوا أذنها فتلك البحيرة ولا يجز لها وبر، ولا يذكر عليها اسم الله إن ذكّيت ولا يحمل عليها وحرّمت على النساء لا يذقن من ألبانها ولا ينتفعن بها وكانت لبنها ومنافعها خاصة للرجال دون النساء حتى تموت، وإذا ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها. وقيل: هو إنهم كانوا إذا ولد السقب بحروا أذنها وقالوا: اللهم إن عاش ففتي وإن مات فذكي، فإذا مات أكلوه. وأما السائبة فكان الرجل يسيب من ماله فيجيء به إلى السدنة فيدفعه إليهم فيطعمون منه أبناء السبيل من ألبانها ولحمانها إلّا النساء فإنهم كانوا لا يعطونهن منها شيئا حتى يموت فإذا مات أكلها الرجال والنساء جميعا «1» . وقال علقمة: هي العبد [يسيب] على أن لا يكون له ولاء ولا عقل، وله ميراث. فقال (عليه السلام) : «إنما الولاء لمن أعتق» «2» [122] . وإنما أخرجها بلفظ الفاعلة وهي بمعنى المفعولة وهي المسيبة والمخلاة على مذهب قوله [ماءٍ دافِقٍ وعِيشَةٍ] راضِيَةٍ، وأما الوصيلة فهي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان البطن السابع ذكرا ذبحوه وأهدوه للآلهة، وإن كانت أنثى استحيوها، فإن كانت ذكرا أو أنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى. وقالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه، وأما الحامي فهو الفحل إذا ركب ولد فيلده قبل حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا رعي إلا أن يموت فيأكله الرجال والنساء قال الله وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ يختلقون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في قولهم: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الذين قال الله تعالى أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ نظيرها في سورة البقرة ولقمان.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية، اختلف العلماء في تأويل هذه الآية فأجراها بعضهم على الظاهر. وقال ضمرة بن ربيعة: تلا الحسن هذه الآية، وقال: الحمد لله لها والحمد لله عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلّا وإلى جانبه منافق يكره عمله. وقال بعضهم: معناها عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فاعملوا بطاعة الله لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر. أبو البحتري عن حذيفة في هذه الآية: إذا أمرتم ونهيتم. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي ظبيان عن قيس بن أبي حازم قال: قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) على المنبر: إنكم تقرءون هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه عمّهم الله بعقاب، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فيقول أحدكم: عليّ نفسي، والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو [ليستعملن] عليكم شراركم فليس منكم هو في العذاب، ثم ليدعنّ الله خياركم فلا يستجيب لهم» «1» . يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله إن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلّا عملنا به ولا من المنكر شيء إلّا انتهينا عنه ولا نأمره ولا ننهي أبدا. فقال (عليه السلام) : «فمروا بالمعروف فإن لم [يقبلوا به] كله ما نهوا عن المنكر وإن لم ينتهوا عنه كله» . وقيل: معنى الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم. قال شقيق بن عقد: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيّام فلم تأمر ولم تنه فإن الله قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» «2» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم تقبل منهم.
وروى سهل بن الأشهب عن الحسين والربيع عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، فقال ابن مسعود: ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم، ثم قال: إن القرآن نزل حين نزل فمنه آي قد مضى تأويلهن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول الله ومنه آي يقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلّم يسير ومنه من يقع آي لا ينهض بعد اليوم ومنه آي يقع في آخر الزمن ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. قال أبو أميّة السمعاني: سمعت أبا ثعلبة [الخشني] عن هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. فقال أبو ثعلبة: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «ائمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت دينا موثرا وشحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم فإن وراءكم أياما أيام الصبر فإذا عمل العبد بطاعة الله لم يضره من ضل بعده وهلك وأجر العامل يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عامل» [123] . قالوا: يا رسول الله كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: «لا بل كأجر خمسين عاملا منكم» «1» . وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في أهل الأهواء. وقال أبو جعفر الرازي: دخل على صفوان بن حرث شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئا من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي تخص بها أولياءه، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية «2» . وقال الضحّاك: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذا اختلفت الأهواء ما لم يكن سيف أو سوط. وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب يعني عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ من أهل الكتاب. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبو فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه
على من عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقرّوا بالجزية وكرهوا الإسلام، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أما العرب فلا تقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية» «1» [124] . فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية، فقال في ذلك: منافقو أهل مكة وقالوا: عجبا من محمد يزعم أن الله تعالى بعثه ليقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلّا الله، وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية، هلّا أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب؟ فشقّ ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر، وأنزل بعد ما أسلم العرب لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. وقال ابن عباس: نزلت في جميع الكفار وذلك أن الرجل كان إذا أسلم قالوا: سفهت أباك، وضللت، وفعلت وفعلت فأنزل الله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ من آبائكم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وهذه لفظة إغراء، والعرب تغري من الصفات بعليك عليك ولبيك وإليك وعندك ودونك «2» . ثم قال إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً الضال والمهتدي فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآية نزلت في ثلاثة نفر خرجوا تجارا من المدينة إلى الشام، عدي بن فدي، وتميم بن أوس الداري وهما نصرانيان وبديل مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلما مهاجرا واختلفوا في كنية أبيه. فقال الكلبي: بديل بن أبي مازنة. وقال قتادة وابن سيرين وعكرمة: هو ابن أبي مارية، ومحمد بن إسحاق بن يسار وابن أبي مريم، فلما قدموا إلى الشام مرض بديل وكتب كتابا فيه جميع ما معه وطرحها في متاعه ولم يخبر صاحبه بذلك، فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل ففتشا متاعه فأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة مموّهة بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما وانصرفا وقدما المدينة فدفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا [فوجدوا] الصحيفة فيها تسمية ما كان معه وما فيها الإناء فجاءوا تميما وعديا. فقالوا: هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ قالا: لا، قالوا: فهل خسر تجارة؟ قالا: لا، قالوا: فهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا. قالوا: فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا فيها إناء من فضة مموّهة بالذهب فها ثلاثمائة مثقال فضة. قالا: لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ودفعناه وما لنا إلّا من حكم،
فرفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ «1» . قال أهل الكوفة: معناه ليشهد اثنان لفظ الآية خبر ومعناها أمر. قال أهل البصرة: معناه شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شهادة إثنين فألقيت الشهادة وأقيمت الاثنان مقامهما كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ أي أهل القرية ما [بقي] أهل وأقام القرية مقامه فنصبها. وقال بعضهم: معناه شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أن يشهد اثنان ذَوا عَدْلٍ أمانة وعقل مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين من أهل دينكم وملتكم. قاله جميع المفسرين إلّا عكرمة وعبيد فإنهما قالا: معناه من حيّ الموصي. واختلفوا في صفة الإثنين، فقال قوم: هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي. وقال آخرون: هما الوصيان أراد الله تأكيد الأمر فجعل الوصي إثنين دليل هذا التأويل أنه عقّبه بقوله: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ ولا يلزم الشاهد يمين، ولأن الآية نزلت في الوصيين، وعلى هذا القول تكون الشهادة بمعنى الحضور، كقولك: شهدت فلان أي حضرت، قال الله تعالى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ «2» الآية، فقال: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3» . أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ملّتكم وهو قول ابن المسيب والنخعي وابن جبير ومجاهد وعبيدة ويحيى بن يعمر وأبي محجن قالوا: إذا لم يجد مسلمين فليشهد كافرين. قال شريح إذا كان الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلما يشهده على وصيته فليشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو عابد وثن وأيّ كافر كان فشهادته جائزة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلّا في سفرة ولا يجوز في سفر إلّا في وصية فإن جاء رجلان مسلمان وشهدا بخلاف شهادتهما أجيزت شهادة المسلمين فأبطلت شهادة الكافرين. وعن الشعبي: إن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة فأوصى ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد، الذي كان في عهد رسول الله فأحلفهما وأمضى شهادتهما. قال آخرون: معناه من غير حيكم وعشيرتكم. وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة قالوا: لا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر.
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ سرتم وسافرتم في الأرض فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما فلم [يأمنان الارتياب بحق] الورثة فاتهموهما في ذلك فادّعوا عليهما خيانة، فإن الحكم حينئذ أن تَحْبِسُونَهُما، أي تستوقفونهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من الكفار فأما إذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما، واختلفوا في هذه الصلاة ما هي. فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة: من بعد صلاة العصر. وقال السدي: من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنّهما لا يباليان صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ فيحلفان إِنِ ارْتَبْتُمْ شككتم لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً يقول لا نحلف بالله كاذبين على عرض نأخذ عليه [لو أن يكن يذهب إليه في ويجحده] وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ولو كان الذي يقسم له به ذا قربى ذا قرابة معنا وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ قرأ الشعبي لا نكتم شهادةً الله بالتنوين، الله بخفض الهاء على الاتصال أراد الله على القسم «1» . وروي عن أبي جعفر (شهادة ألله) بقطع الألف وكسر أولها على معنى ولا نكتم شهادة ثم ابتدأ يمينا فقال: الله أي والله [ ... ] «2» [يعقب] بتنوين الشهادة، (الله) بالألف واللام وكسر الهاء وجعل الاستفهام حرفا من حروف القسم، فروي عن بعضهم شهادةً منونة، اللهَ بنصب الهاء يعني ولا نكتم شهادة الله أما إن فعلنا ذلك إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ فلما نزلت الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم، فاستحلفا عند المنبر بالله الذي لا إله إلّا هو أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما فحلف على ذلك وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبيلهما حين حلفا فكتما الإناء ما شاء الله أن يكتما ثمّ ظهر واختلفوا في كيفية ظهور الإناء. فروى بن جبير عن ابن عباس إن الإناء وجد بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم. قال الآخرون: لما طالت المدة اظهر الإناء وبلغ ذلك بني تميم فأتوهما في ذلك. فقالا: إنا كنّا قد اشترينا منهم هذا وقالوا: ألم تزعما بأن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا: لم يكن عندنا ثمنه فكرهنا أن نقر لكم به [فكتمناكموه] لذلك فرفعوهما لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله فَإِنْ عُثِرَ أي أطلع وظهر وأصل العثر الوقوع والسقوط على الشيء ومنه قوله: عثرت بكذا إذا أصبته وصدمته ووقعت عليه. قال الأعمش: بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا «3»
يعنى بقوله: عثرت أصاب ميم خفها مجر أو غيره، ثمّ يستعمل في كل واقع على شيء كان عنه خفيا كقولهم في أمثالهم: عثرت على الغزل بأخرة فلم تدع بنجد قردة. عَلى أَنَّهُمَا يعني الوصيين اسْتَحَقَّا إِثْماً أي استوجبا إثما بأيمانهما الكاذبة وخيانتهما فَآخَرانِ من أولياء الميت يَقُومانِ مَقامَهُما يعني مقام الوصيين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ. قرأ الحسن وحفص بفتح التاء وهي قراءة علي وأبي بن كعب أي وجب عَلَيْهِمُ الإثم يقال حق واستحق بمعنى وقال: الْأَوْلَيانِ رجع إلى قوله: فآخران الأوليان ولم يرتفع بالاستحقاق. وقرأ الباقون: بضم التاء على المجهول يعني الذين استحق فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت، استحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم على المعنى في كقوله: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وقال صخر الغي: متى ما تنكروها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث «1» الْأَوْلَيانِ بالجمع قرأه أكثر أهل الكوفة واختيار يعقوب أي من الذين الأولين. وقرأ الحسن: الأولون، وقرأ الآخرون الْأَوْلَيانِ على لغت الآخرين وإنما جاز ذلك، الأولان معرفة والآخران بكثرة لأنه حين قال من الذين وحدهما ووصفهما صار كالمعرفة في المعنى. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أي والله لشهادتنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما يعني يميننا أحق من يمينهما. نظيره قوله فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ «2» في قصة اللعان أراد الأيمان، وهذا كقول القائل: أشهد بالله وله أقسم وَمَا اعْتَدَيْنا في يميننا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة السهميان حلفا بالله بعد العصر مرّة فدفع الجام إليهما وإلى أولياء الميت، وكان تميم الداري بعد ما أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: صدق الله عز قوله أنا أخذت الجام فأتوب إلى الله وأستغفره. وإنما انتقل اليمين إلى الأوليان، لأن الوصيين صح عليهما الإناء ثم ادعيا أنهما ابتاعاه، وكذلك إذا ادعى الوصي أن الموصي أوصى له بشيء ولم يكن ثم بينة، وكذلك إذا ادعى رجل قبل رجل مالا فأقرّ المدعي عليه بذلك ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي أو وهبها له المدعي، فإن في هذه المسائل واشتباهها يحكم برد اليمين على المدعي. روى محمد بن إسحاق عن أبي النضير عن باذان مولى أم هاني عن ابن عباس عن تميم
[سورة المائدة (5) : الآيات 110 إلى 120]
الداري، قال: بعنا الجام بألف درهم فقسمناه أنا وعدي فلما أسلمت تأثمت من ذلك بعد ما حلفت كاذبا وأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألهم البينة فلم يجدوا. فأمر الموالي أن يحلفوا فحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي ورددت أنا الخمسمائة «1» فذلك قوله ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي ذلك أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم إذا خافوا ردّ اليمين وإلزامهم الحق. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا الآية. واختلفوا في حكم الآية. فقال بعضهم: هي منسوخة وروى ذلك ابن عباس. وقال الآخرون: هي محكمة وهي الصواب يَوْمَ أي اذكروا واحذروا يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وهو يوم القيامة فَيَقُولُ لهم ماذا أُجِبْتُمْ أي ما الذي أجابتكم أمتكم وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي وطاعتي قالُوا أي فيقولون لا عِلْمَ لَنا قال ابن عباس: لا عِلْمَ لَنا إلّا علم أنت أعلم به منا. وقال ابن جريح: معنى قوله ماذا أُجِبْتُمْ أي ما حملوا ويصدقوا بعدكم فيقولوا: لا عِلْمَ لَنا. الحسن ومجاهد، السدي ممن يقول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يحتسبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أمتهم.
قوله إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يعني حين قال الله يا عيسى بن مريم، محل عيسى نصب لأنه نداء المنصوب إذا جعلته نداء واحدا: فإن شئت جعلته ندائين فيكون عيسى في محل الرفع لأنه نداء مفرد وابن في موضع النصب لأنه نداء مضاف، وتقدير الكلام يا عيسى يا ابن مريم. نظيره قوله: يا حكم بن المنذر بن الجارود ... أنت الجواد ابن الجواد ابن الجود «1» ذلك في حكم الرفع والنصب، وليس بن المنذر عن النصب اذْكُرْ نِعْمَتِي قال الحسن: ذكر النعمة شكرها وأراد بقوله نعمتي نعمي لفظه واحد ومعناه الجمع كقوله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2» أراد نعم الله لأن العدد لا ينفع على الواحد عَلَيْكَ يا عيسى وَعَلى والِدَتِكَ مريم، ثم ذكر النعم إِذْ أَيَّدْتُكَ قوّيتك وأعنتك بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني جبرئيل تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صبيا وَكَهْلًا نبيا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ قال ابن عباس: أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ «3» . وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ يعني الخط وَالْحِكْمَةَ يعني العلم والقيم وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ وتجعل وتصوّر وتقدر إلى قوله فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «4» أي المصورين من الطين كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ كصورة الطير. بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي حيا يطير بإذني وَتُبْرِئُ تصح وتشفي الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى من قبورهم أحياء بِإِذْنِي فأحيا سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية وَإِذْ كَفَفْتُ منعت وصرفت بَنِي إِسْرائِيلَ يعني اليهود عَنْكَ حين همّوا بقتلك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني الدلالات والمعجزات التي ذكرتها فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني ما جاءتهم من البينات ومن قال ساحر بالألف فإنه راجع إلى عيسى (عليه السلام) .
محمد بن عبد الله بن حمدون، مكي بن عبدان، أبو الأزهر عن أسباط عن مجاهد بن عبد الله ابن عمير قال: لما قال الله لعيسى اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد ولم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أدركه الليل بات. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم الوحي. والوحي على أقسام، وحي بمعنى إرسال جبرئيل إلى الرسول، ووحي بمعنى الإلهام كالإيحاء إلى أم موسى والنحل ووحي بمعنى الأحلام في حال اليقظة في المنام. قال أبو عبيدة: أوحى لها: أي إليها، وقال الشاعر: ومن لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت «1» يعني أمرت (وإلى) صلة يقال: أوحى ووحى. قال الله بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «2» . قال العجاج: أوحى لها القرار فاستقرّت. أي أمرها بالقرار فقرت. والحواريون خواص أصحاب عيسى. قال الحسن: كانوا قصارين. وقال مجاهد: كانوا صيادين. وقال السدي: كانوا ملاحين «3» . وقال قتادة: الحواريون الوزراء. وقال عكرمة: هم الأصفياء. وكانوا اثني عشر رجلا، بطرس ويعقوب ويحنس واندرواسى وخيلبس وأبرثلما ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلقيا، وتداوسيس، وفتاتيا، وتودوس «4» ، أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي عيسى قالُوا حين لقيتهم ورفقتهم آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ. قرأ علي وعائشة وابن عباس وابن جبير ومجاهد: هل تستطيع بالتاء، ربَّك بنصب الباء ، وهو اختيار الكسائي وأبي عبيد على معنى هل تستطيع أن تدعو ربّك كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «5» وقالوا: لأن الحواريين لم يكونوا شاكّين في قدرة الله تعالى. وقرأ الباقون بالياء قيل: يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ برفع الباء فقالوا: إنهم لم يشكوا في قدرة الله تعالى وإنما معناه هل ينزل أم لا كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنّه يستطيع وإنّما يريد هل يفعل أم لا،
وأجراه بعضهم على الظاهر، فقالوا: غلط قوم وكانوا مشوا، فقال لهم عيسى عند الغلط استعظاما لقولهم: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ... اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي أن تشكوا في قدرة الله تعالى أو تنسبوه إلى عجز أو نقصان ولستم بمؤمنين والمائدة هي الخوان الذي عليه الطعام وهي فاعلة إذا أعطاه وأطعمه، كقولهم: ماد يميد، وغار يغير، وامتاد افتعل ومنه قول روبة: تهدى رؤس المترفين الأنداد ... إلى أمير المؤمنين الممتاد أي المستعطي. قال رؤبة: والمائدة هي المطعمة المعطية الآكلين الطعام وسمي الطعام أيضا مائدة على الخوان لأنه يؤكل على المائدة كقولهم للمطر سماء، وللشحم ثرى. وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد الآكلون أي تميل ومنه قوله وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «1» . قال الشاعر: وأقلقني قتل الكناني بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد «2» فقال أهل البصرة: هي فاعلة بمعنى المفعول أي تميد بالآكلين إليها، كقوله عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية، قال عيسى مجيبا لهم اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فلا تشكوا في قدرته. وقيل: اتَّقُوا اللَّهَ أن تسألوه شيئا لم يسأله الأمم قبلكم قالُوا إنما سألنا لأنا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها نستيقن قدرته وَتَطْمَئِنَّ تسكن قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا بأنك رسول الله. وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ لله بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة والرسالة، وقيل: وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ لك عند بني إسرائيل، إذا رجعنا إليهم، قالَ عِيسَى عند ذلك اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ حال ردّ إلى الاستقبال أي كائنة وذلك كقوله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي «3» يعني يصدقني في قراءة من رفع. وقرأ عبد الله والأعمش: تكن لنا بالجزم على جواب الدعاء. عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي عائدا من علينا وحجة وبرهانا والعيد اسم لما أعتد به وعاد إليك من كل شيء ومنه قيل: أيام الفطر والأضحى عيد لأنهما يعودان كل سنة. ويقال: لطيف الخيال عيد.
قال الشاعر: يا عيد مالك من شوق وإيراق ... ومرّ طيف على الأهوال طراق «1» فقال آخر: إعتاد قلبك من جبينك عود ... شق عناك فأنت عنه تذود وأنشد الفراء: فوا كبدي من لاعج الحب والهوى ... إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها «2» وأصله عود بالواو ولأنه من عاد يعود إذا رجع فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها مثل النيران والميقات والميعاد. قال السدي: معناه نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا. وقال سفيان: نصلي فيه. وقال الخليل بن أحمد: العيد كل يوم مجمع كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنصاري: سمي العيد عيدا للعود من الترح إلى الفرح فهو يوم سرور للخلق كلهم ألا ترى أن المسجونين لا يطالبون ولا يعاقبون ولا تصطاد فيه الوحوش والطيور ولا ينفذ الصبيان إلى المكتب «3» ، وقيل: سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته ألا ترى إختلاف ملابسهم وأحوالهم وأفعالهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف ومنهم من يظلم ومنهم من يرحم، وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف فاضل تشبيها بالعيد وهو فحل نجيب كريم ومشهور في العرب وينسبون إليه فيقال: إبل عيدية «4» . قال الراعي: عيد به طويت على زفراتها ... طي القناطر قد نزلن نزولا «5» وقوله لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا يعني قبل زماننا ولمن يجيء بعدنا. وقرأ زيد بن ثابت: لأولنا وآخرنا على الجميع. وقال ابن عباس: يعني نأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.
وَآيَةً مِنْكَ دلالة وحجة وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللَّهُ مجيبا لعيسى إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ يعني المائدة. وقرأ أهل الشام والمدينة، وقتادة وعاصم: مُنَزِّلُها في التشديد لأنها نزلت وقرأت والتفعل يدل في الكثير مرة بعد مرة لقوله وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا. وقرأ الباقون بالتخفيف لقوله: أَنْزِلْ عَلَيْنا ... فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أي بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير. وقال عبد الله بن عمران: أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون. واختلف العلماء في المائدة هل نزلت عليهم أم لا؟ فقال مجاهد: ما نزلت المائدة وهذا مثل ضربه الله. وقال الحسن: والله ما نزلت مائدة إن القوم لما سمعوا الشرط وقيل لهم فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ الآية استغفروا وقالوا: لا نريدها ولا حاجة فيها فلم ينزل، والصواب إنها نزلت لقوله: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ولا يقع في خبره الخلف، وتواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه والتابعين وغيرهم من علماء الدين في نزولها، قال كعب: نزلت يوم الأحد، لذلك اتخذه النصارى عيدا. واختلفوا في صفتها وكيف نزولها وما عليها. فروى قتادة عن جلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «نزلت المائدة خبزا ولحما وذلك أنهم سألوا عيسى طعاما يأكلون منه لا ينفد، قال، فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا أو تخبوا أو ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتكم، قال: فما مضى يومهم حتى خبوا ورفعوا وخانوا» . وقال إسحاق بن عبد الله: إن بعضهم سرق منها، وقال لعلها لا تنزل أبدا فرفعت ومسخوا قردة وخنازير. وقال ابن عباس: إن عيسى بن مريم قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه فصاموا ثلاثين يوما فلما فرغوا قالوا: يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا طعاما ولأصبحنا من وجعنا، فادع لنا الله أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ فنزل الملائكة بمائدة يحملونها، عليه سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم وأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وروى عطاء بن سائب عن باذان وميسرة قالا: كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي من السماء بكل طعام إلّا اللحم.
وقال ابن جبير عن ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلّا الخبز واللحم. قال عطاء: نزل عليها كل شيء إلّا السمك واللحم. قال العوفي: نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء. وقال عمار وقتادة: كانت مائدة تنزل من السماء وعليها ثمر من ثمار الجنة. وقال وهب بن منبه: أنزل الله أقرصة من شعير وحيتانا، فقيل لوهب: ما كان ذلك يغني عنهم، قال: لا شيء ولكن الله أضعف لهم البركة، فكان لهم يأكلون ثم يخرجون فيجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوها جميعهم وفضل. وقال الكلبي ومقاتل: استجاب الله لعيسى (عليه السلام) فقال إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ كما سألتم فمن أكل من ذلك الطعام ثم لا يؤمن جعلته مثلا، ولعنة لمن بعدهم، قالوا: قد رضينا فدعا شمعون وكان أفضل الحواريين، فقال: هل لكم طعام؟ قال: نعم معي سمكتان صغيرتان وستة أرغفة، فقال: عليّ بها فقطعهن عيسى قطعا صغارا، ثم قال: اقعدوا في روضة فترفقوا رفاقا كل رفقة عشرة، ثم قام عيسى ودعا الله فاستجاب الله له ونزل فيها البركة فصار خبزا صحاحا وسمكا صحاحا، ثم قام عيسى فجعل يلقي في كل رفقة ما عملت أصابعه ثم قال: كلوا بسم الله فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم فأكلوا ما شاء الله وفضل خمس الذيل، والناس خمسة آلاف ونيف. وقال الناس جميعا: نشهد إنك عبده ورسوله ثم سألوا مرة أخرى فدعا عيسى (عليه السلام) فأنزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة وسمكتين فصنع بها ما صنع في المرة الأولى فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدوا وقالوا لهم: ويحكم إنما سحر أعينكم. فمن أراد به الخير بثّته على بصيرته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فمسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا امرأة فمكثوا بذلك أيام ثم هلكوا ولم تبق ولم يأكلوا ولم يشربوا فكذلك كل ممسوخ. وقال كعب الأحبار: نزلت مائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلّا اللحم. وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشية حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل. فقال يمان بن رئاب: كانوا يأكلون منها ما شاءوا. وروى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي إنه قال: والله ما اتبع عيسى (عليه السلام) شيئا من المآذي قط ولا انتهر شيئا ولا قهقه ضحكا ولا ذبّ ذبايا عن وجهه ولا أخلف على أنفه من أي شيء قط ولا عتب إليه. ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا وبكى،
وقال: اللَّهُمَّ ... أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ الآية وَارْزُقْنا عليها طعاما نأكله وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فنزل الله سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها [وهي تجيء مرتفعة] حتى سقطت من أيديهم فبكى عيسى فقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة. واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه، فقال عيسى: أيكم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله ويأكل منها؟ فقال شمعون. رئيس الحواريين-: أنت بذلك أولى منا، فقام عيسى وتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال: بسم الله خير الرازقين، فإذا هو بسمكة مشوية ليس عليها ضلوعها ولا شوك فيها سيل سيلا من الدسم وعند رأسها ملح ويمتد ذنبها خل وجهها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد. فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال عيسى: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء فعله الله بالقدرة العالية فكلوا مما سألتم مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منكم في الآخرة. وقال محمد بن كعب: تعلم ما أريد فلا أعلم ما تريد. وقال عبد العزيز بن يحيى: تعلم سرّي ولا أعلم سرّك لأن السرّ هو موضعه الأنفس. قال الزجاج: يعلم جميع ما أعلم ولا أعلم ما يعلم من النفس عبارة عن حملة الشيء وحقيقته وذاته ولا أنه إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما كان وما يكون ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحّدوه وأطيعوه ولا تشركوا به شيئا وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ أقمت فيهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قبضتني إليك. قال الحسن: الوفاة في كتاب الله على ثلاثة أوجه، وفاة الموت وذلك قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «1» يعني وجعل نقصان أجلها وفاة النوم، وذلك قوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «2» يعني ينيمكم، ووفاة بالرفع كقوله إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ «3» . إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وقرأ الحسن: فإنهم عبيدك وإن يتوبوا فيغفر لهم فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وقال السدي: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ وتميتهم بنصرانيتهم فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فَإِنَّكَ الرب الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ في الملك والنقمة، الحكيم في قضائك. قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ «1» في الآخرة. قال قتادة: متكلمان خطها يوم القيامة وهو ما قص الله عليكم وعدو الله إبليس وهو قوله وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ فصدهم عن ذلك يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه يومئذ، وأما عيسى فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه. وقال عطاء: هذا يوم من أيام الدنيا لأن الآخرة ليس فيها عمل إنما فيها الثواب والجزاء، ويَوْمُ رفع على خبر هذا، ونصبه نافع على الحرف يعني إنما تكون هذه الأشياء في يوم يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، وقرأ الحسن: هذا يومٌ بالتنوين، ثم بيّن لهم ثوابها فقال لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فازوا بالجنة ونجوا مما خافوا، ثم عظّم نفسه عمّا قالت النصارى من بهتان بأن معه إلها فقال لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
سورة الأنعام
سورة الأنعام مكية كلها غير ست آيات منها نزلت في المدينة وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «1» إلى آخر ثلاث آيات وقوله قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ عليكم نبأكم إلى قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «2» فهذه الست مدنيات وباقي السورة كلها نزلت بمكة مجملة واحدة ليلا ومعها سبعون ألف ملك وقد سدوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «سبحان الله العظيم» وخر ساجدا ثم دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم «3» [125] . وهي مائة وخمس وستون آية وكلها حجاج على المشركين، كلماتها ثلاثة آلاف واثنان وخمسون كلمة وحروفها إثنا عشر ألفا وأربعمائة وعشرون حرفا. روى ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما وليلة» «4» [126] . مسلم عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له ويوحي في قلبه شيئا ضربه بها ضربة كان بينه وبينه سبعون حجابا فإذا وكل يوم القيامة يقول للرب تبارك وتعالى أبشر في ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السبيل وأنت عبدي فأنا ربك» «5» [127] . قال سعيد بن جبير: لم ينزل من الوحي شيء إلّا ومع جبرئيل أربعة من الملائكة يَحْفَظُونَهُ
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 إلى 12]
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وهو قوله تعالى لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ «1» إلّا الأنعام فإنها تنزل ومعها سبعون ألف ملك. وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة قال: قال عمر (رضي الله عنه) : الأنعام من نواجب القرآن. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الآية. قال مقاتل: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلّم من ربك؟ قال: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فكذبوه فأنزل الله عز وجل حامدا نفسه دالّا بصفته على وجوده وتوحيده. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ ... فِي يَوْمَيْنِ يوم الأحد ويوم الإثنين الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «2» يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ قال السدي: يعني ظلمة الليل ونور النهار. وقال الواقدي: كل ما في القرآن من الظُّلُماتِ وَالنُّورَ يعني الكفر والإيمان. وقال قتادة: يعني الجنة والنار وإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور يتعدى والظلمة لا تتعدى.
وقال أهل المعاني: جعل هاهنا صلة والعرب تريد جعل في الكلام. وقال أبو عبيدة: وقد جعلت أرى الإثنين أربعة والواحد إثنين لمّا هدّني الكبر «1» مجاز الآية: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور، وقيل: معناه خلق السماوات والأرض وقد جعل الظلمات والنور لأنه خلق الظلمة والنور قبل خلق السماوات والأرض. وقال قتادة: خلق الله السماوات قبل الأرض والظلمة قبل النور والجنة قبل النار. وقال وهب: أول ما خلق الله مكانا مظلما ثم خلق جوهرة فصارت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظر الهيئة فصارت دما فارتفع بخارها وزبدها، فخلق من البخار السماوات ومن الزبد الأرضين. وروى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه يومئذ من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ» «2» [128] ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. قال قطرب: هو مختصر يعني الَّذِينَ كَفَرُوا بعد هذا البيان بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ الأوثان أي يشركون وأصله من مساواة الشيء بالشيء يقال: عدلت هذا بهذا إذا ساويته به. وقال النضر بن شميل: الباء في قوله: بِرَبِّهِمْ بمعنى عن، وقوله: يَعْدِلُونَ من العدول. أي يكون ويعرفون. وأنشد: وسائلة بثعلبة بن سير ... وقد علقت بثعلبة العلوق «3» وأنشد: شرين بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج «4» أي من البحر قال الله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ أي منها. محمد بن المعافى عن أبي صالح عن ابن عباس قال: فتح أول الخلق بالحمد لله، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وختم بالحمد، فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
حماد بن عبد الله بن الحرث عن وهب قال: فتح الله التوراة بالحمد فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وختمها بالحمد فقال: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية. قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ «1» يعني آدم (عليه السلام) فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده «2» . وقال السدي: بعث الله جبرئيل إلى الأرض ليأتيه بطينة منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني فرجع ولم يأخذ، وقال: يا ربّ إنها عاذت بك، فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله فقال: أنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض وخلط التربة الحمر والسودا والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والمالح والمر فلذلك اختلفت أخلاقهم فقال الله عز وجل لملك الموت رحم جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الله خلق آدم من تراب جعله طينا ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا خلقه وصوّره ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار [فكان إبليس يمرّ به فيقول] «3» خلقت الأمر عظيم ثم نفخ الله فيه روحه» «4» [129] ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ. قال الحسن وقتادة والضحاك: الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والأجل الثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: ثُمَّ قَضى أَجَلًا يعني أجل الدنيا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو الآخرة. عطية عن ابن عباس: ثُمَّ قَضى أَجَلًا هو النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة. أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ هو أجل موت الإنسان. ثُمَّ قَضى أَجَلًا يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها لا تجاوزونها، وَأَجَلٌ مُسَمًّى يعني وهو أجل مسمى عِنْدَهُ لا يعلمه غيره، الأجل المسمى هو الأجل الآجل. ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ تشكون في البعث وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ يعني وهو إله السماوات وإله الأرض.
مقاتل: يعلم سر أعمالكم وجهرها، قال: وسمعنا أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد، محمد بن أحمد البلخي يقول: هو من مقاديم الكلام وتقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض فلا يخفى عليه شيء وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ تعملون من الخير والشر وَما تَأْتِيهِمْ يعنى كفار أهل مكّة مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مثل انشقاق القمر وغيره إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لها تاركين وبها مكذبين فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ يعني القرآن وقيل: محمد عليه الصلاة والسلام لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم فحاق بهم هذا الوعيد يوم يرونه أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ يعني الأمم الماضية والقرن الجماعة من الناس وجمعه قرون، وقيل: القرن مدة من الزمان، يقال ثمانون سنة، ويقال: مائة سنة، ويكون معناه على هذا القول من أهل قرن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يعني أعطيناهم ما لم نعطكم. قال ابن عباس: أمهلناهم في العمر والأجسام والأولاد مثل قوم نوح وعاد وثمود، ويقال: مكنته ومكنت له فجاء [ ... ] «1» جميعا وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ يعني المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً. تقول العرب: ما زلنا نطأ السماء حتى آتيناكم مدرارا أي غزيرة كثيرة دائمة، وهي مفعال من الدر، مفعال من أسماء المبالغة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث. قال الشاعر: وسقاك من نوء الثريا مزنة ... سعرا تحلب وابلا مدرارا «2» وقوله: ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ من خطاب التنوين كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ «3» . وقال أهل البصرة: أخبر عنهم بقوله: أَلَمْ يَرَوْا وفيهم محمد وأصحابه ثم خاطبهم، والعرب تقول: قلت لعبد الله ما أكرمه وقلت لعبد الله أكرمك وجعلنا الأنهار التي تجري من تحتهم فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا وخلقنا وابتدأنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً الآية. وقال الكلبي ومقاتل: أنزلت في النضر بن الحرث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسول فأنزل الله عز وجل وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ في
صحيفة مكتوبا من عند الله فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ عاينوه معاينة ومسوه بأيديهم لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لما سبق فيهم من علمي وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ على محمد مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لوجب العذاب وفرغ من هلاكهم لأن الملائكة لا ينزلون إلّا بالوحي [والحلال] ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ الكافرون ولا يمهلون. قال مجاهد: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لقامت الساعة. وقال الضحاك: لو أتاهم ملك في صورته لماتوا. وقال قتادة: لو أنزلنا المكارم ولم يؤمنوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ولم يؤخروا طرفة عين وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً يعني ولو أرسلنا إليهم ملكا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يعني في صورة رجل آدمي لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة وَلَلَبَسْنا ولشبهنا وخلطنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ يخلطون ويشبهون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرى أملك هو أم آدمي. وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس: هم أهل الكتاب فرقوا دينهم وكذبوا رسلهم وهو تحريف الكلام عن مواضعه فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم. وقال قتادة: ما لبس قوم على أنفسهم إلّا لبس الله عليهم. وقرأ الأزهري: وَلَلَّبَسْنا بالتشديد على التكرير يقال: ألبست العرب ألبسه لبسا والتبس عليهم الأمر ألبسه لبسا وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزئ بك يا محمد يعزي نبيّه صلى الله عليه وسلم فَحاقَ. قال الربيع بن أنس: ترك. عطاء: أحل. مقاتل: دار. الضحّاك: إحاطة. قال الزجاج: الحيق في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه: يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ. وقيل: وجب. والحيق والحيوق الوجوب. بِالَّذِينَ سَخِرُوا هزءوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. فحاق بالذين سخروا من المرسلين العذاب وتعجيل النقمة قُلْ يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين سِيرُوا سافروا فِي الْأَرْضِ معتبرين ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والكذب الهلاك والعذاب، يخوّف كفار أهل مكة عذاب الأمم الماضية قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن أجابوك وإلّا قُلْ لِلَّهِ يقول يفتنكم بعدد الأيام لا [ ... ] والأصنام ثم قال كَتَبَ ربكم أي قضى وأوجب فضلا وكرما عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. وذكر النفس هاهنا عبارة عن وجوده وتأكيد وحد وارتفاع الوسائط دونه وهذا استعطاف
[سورة الأنعام (6) : الآيات 13 إلى 18]
منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وإخبار بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة. هشام بن منبه قال: حدثنا أبو عروة عن محمد رسول صلى الله عليه وسلّم قال: لما قضى الله الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش «إن رحمتي سبقت غضبي» «1» . وقال عمر لكعب الأحبار: ما أول شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابا لم يكتبه بقلم ولا مداد ولكنّه كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: إني أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا سبقت رحمتي غضبي. وقال سليمان وعبد الله بن عمر: إن لله تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده «2» . ثم قال لَيَجْمَعَنَّكُمْ اللام فهي لام القسم والنون نون التأكيد، مجازه: والله ليجمعنكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني في يوم القيامة إلي يعني في، وقيل: معناه لَيَجْمَعَنَّكُمْ في [غيركم] إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا غلبوا على أنفسهم والتنوين في موضع نصب مردود على الكاف والنون من قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، فأخبر الله تعالى أن الجاحد للآخرة هالك خاسر. وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية. قال الكلبي: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: يا محمد إنا قد علمنا أنه ما يحملك على ما تدعونا إليه إلّا الحاجة، فنحن نجمع ذلك من أموالنا ما نغنيك حتى تكون من أغنانا فأنزل الله تعالى قوله وَلَهُ ما سَكَنَ أي استقر فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من خلق.
قال أبو روحي: إن من الخلق ما يستقر نهارا وينتشر ليلا ومنها ما يستقر ليلا وينتشر نهارا. وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن جرير: كلّ ما طلعت عليه الشمس وغيبت فهو من ساكن الليل والنهار والمراد جميع ما في الأرض لأنه لا شيء من خلق الله عز وجل إلّا هو ساكن في الليل والنهار، وقيل: معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار. وقال أهل المعاني: في الآية لغتان واختصار مجازها: وَلَهُ ما سَكَنَ وشرك فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ والبرد وأراد في كل شيء وَهُوَ السَّمِيعُ لأصواتهم الْعَلِيمُ بأسرارهم. وقال الكلبي: يعني هُوَ السَّمِيعُ لمقالة قريش الْعَلِيمُ بمن يكسب رزقهم قُلْ يا محمد أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ربا معبودا وناصرا ومعينا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقها ومبدعها ومبدئها وأصل الفطر الشق ومنه فطر ناب الجمل إذا شقق وابتدأ بالخروج. قال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بعير. فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أنا أحدثتها وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي وهو يرزق ولا يرزق وإليه قوله عز وجل ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ منهم أَنْ يُطْعِمُونِ. وقرأ عكرمة والأعمش: وَلا يَطْعُمُ بفتح الياء أي وهو يرزق ولا يأكل. وقرأ أشهب العقيلي: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعِمُ كلاهما بضم الياء، وكسر العين. قال الحسن بن الفضل: معناه هو القادر على الإطعام وترك الإطعام كقوله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا منصور الأزهري بهراة يقول: معناه وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يستطعم، يقول العرب: أطعمت غيري بمعنى استطعمت. وأنشد: إنّا لنطعم من في الصيف مطعما ... وفي الشتاء إذا لم يؤنس القرع أي استطعمنا وقيل: معناه وَهُوَ يُطْعِمُ يعني الله وَلا يُطْعَمُ يعني الولي قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أخلص وَلا تَكُونَنَّ يعني وقيل لي: ولا تكونن مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي تعبدت غيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو يوم القيامة. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ يعني من يصرف الغضب عنه. وقرأ أهل الكوفة: يَصْرِفْ بفتح الياء وكسر الراء على معنى من صرف الله عنه العذاب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقوله من الله بأن قبل فيما قبله: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ
[سورة الأنعام (6) : الآيات 19 إلى 28]
وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ «1» ، ولقوله فيما بعده رَحِمَهُ ولم يقل: فقد رحم، على الفعل المجهول. [ولقراءة أبيّ: من يصرفه الله عنه] . يعني يوم القيامة، وهو ظرف مبني على الخبر لإضافة الوقت إلى إذ كقولك: حينئذ [وساعتئذ] فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ يعني نجاة البينة وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ بشدة وبلية وفقر ومرض فَلا كاشِفَ دافع وصارف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ عافية ورخاء ونعمة فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الخير والشر قَدِيرٌ. روى شهاب بن حرش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلّم بغلة أهداها له كسرى فركبها جهل بن شعر ثم أردفني خلفه وسار بي مليا ثم احتنا لي وقال لي: يا غلام، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد مضى القلم بما هو كائن فلو عمل الخلائق أن ينفعوك بما لم يقض الله لك لما قدروا عليه ولو جهدوا أن ينصروك بما لم يكتب الله عليك ما قدروا عليه فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر فإن مع الكرب الفرج وإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . وَهُوَ الْقاهِرُ القادر الغالب فَوْقَ عِبادِهِ وفي القهر معنى زائد على القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد «2» . وَهُوَ الْحَكِيمُ في أمره الْخَبِيرُ بما جاء من عباده.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً الآية. قال الكلبي: أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: ما وجد الله رسولا غيرك وما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولو سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم، فأنزل الله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً فإن أجابوك وإلّا فقل قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على ما أقول وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ وخوفكم يا أهل مكة بِهِ وَمَنْ بَلَغَ يعني ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم. قال الفراء: والعرب تضمر الهاء في مصطلحات التشديد (من) و (ما) فيها وإن الذي أخذت مالك، ومالي أخذته، ومن أكرمت [أبرّ به] بمعنى أكرمته. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية من كتاب الله فإن من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذه أو تركه» «1» [130] . وقال الحسن بن صالح: سألت ليثا: هل بقي أحد لم يبلغه الدعوة. قال: كان مجاهد يقول حيثما يأتي القرآن فهو داع وهو نذير، ثم قرأ هذه الآية. فقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له. وقال محمد بن كعب القرضي: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا (عليه السلام) وسمع منه أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى ولم يقل آخر والآلهة جمع لأن الجمع يلحق التأنيث كقوله تعالى فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى «2» . قُلْ يا محمد إن أشهدوكم أنتم ولا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني التوراة والإنجيل يَعْرِفُونَهُ يعني محمد صلى الله عليه وسلّم ونعته وصفته كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ أي من الصبيان. قال الكلبي: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة، قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لعبيد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيّه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فكيف هذه المعرفة؟ فقال عبد الله: يا عمر قد عرفته فيكم حين رأيته بنعته وصفته كما أعرف ابني إذا رأيته مع الصبيان يلعب ولأنا أشدّ معرفة بمحمّد صلى الله عليه وسلّم مني بابني، قال: وكيف؟ قال: نعته الله عز وجل في كتابنا، فلا أدري ما أحدث النساء، فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام «3» الَّذِينَ خَسِرُوا غبنوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وذلك إن لكل عبد منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا كان يوم القيامة جعل الله لأهل الجنة منازل أهل النار في الجنة وجعل لأهل النار منازل أهل الجنة في النار وَمَنْ أَظْلَمُ أكفر.
قال الحسن: فلا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى اختلق عَلَى اللَّهِ كَذِباً فأشرك به غيره أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعني القرآن. قال الحسن: كل ما في القرآن بِآياتِنا وآياتِهِ يعني به الدين بما فيه لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الكافرون وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ العابدين والمعبودين جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إنما يشفع لكم عند ربكم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ يعني قولهم وجوابهم، وقيل: معذرتهم، والفتنة: الاختبار، ولمّا كان سؤالهم يخبر به لإظهار ما في قلوبهم قيل: فتنة. إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وذلك إنهم يوم القيامة إذا رأوا مغفرة الله عز وجل وتجاوزه عن أهل التوحيد. قال بعضهم لبعض: تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد ويقولون وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فيقول الله تعالى لهم: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وتدعون أنهم شركائي ثم نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وتشهد جوارحهم عليهم بالكفر وذلك قوله انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ زال وبطل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الأصنام وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الآية، قال: اجتمع أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عامر استمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: للنضر يا أبا فتيلة ما يقول محمد، قال: والذي جعلها بيته. يعني الكعبة. قال: ما أدري ما يقول إلّا إنه يحرك لسانه ويقول: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كتب الحديث عن القرون وأخبارها. فقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقول خفيا، فقال أبو جهل: كلا فأنزل الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وإلى كلامك وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً غشاوة وغطاء أَنْ يَفْقَهُوهُ يعلموه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلا وصما وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني حكاياتهم أسطورة وإسطارة. وقال بعض أهل اللغة: هي التّرّهات والأباطيل والبسابس وأصلها من سطرت أي كتبت وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. قال مقاتل: نزلت في أبي طالب! واسمه عبد مناف وذلك إن النبي صلى الله عليه وسلّم كان عند أبي طالب يدعو إلى الإسلام فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنبي صلى الله عليه وسلّم، فقال أبو طالب: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسّد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذلك وقر منكم عيونا ودعوتني وزعمت إنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم سببا وفرضت دينا لا محالة إنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا «1» فأنزل الله تعالى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي يمنعون الناس عن أذى النبي صلى الله عليه وسلّم وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي يبتعدون عما جاء له من الهدي فلا يصدقونه وهذا قول القاسم بن محمد وعطاء ابن دينار وإحدى الروايتين عن ابن عباس وعن محمد بن الحنفية والسدي والضحّاك قالوا: نزلت في جملة كفار مكة يعني وَهُمْ يَنْهَوْنَ الناس عن إتباع محمد والإيمان به ويتباعدون بأنفسهم عنه. قال مجاهد: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قريشا ينهون عن الذكر ويتباعدون عنه. وقال قتادة: وينهون عن القرآن وعن النبي صلى الله عليه وسلّم ويتباعدون عنه وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن أوزار الذين يصدونهم عليهم وَما يَشْعُرُونَ إنما كذلك وَلَوْ تَرى يا محمد إِذْ وُقِفُوا حبسوا عَلَى النَّارِ يعني في النار كقوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ «2» يعني في ملك سليمان. وقرأ السميقع إِذْ وَقَفُوا بفتح الواو والقاف من الوقوف والقراءة الأولى على الوقف. فقال: وقفت بنفسي وقوفا ووقفتم وقفا، وجواب لو محذوف معناه لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا «3» فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قرأه العامة ونكونُ بالرفع على معنى يا لَيْتَنا نُرَدُّ ونحو لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أردنا أم لم نرد. وقرأ ابن أبي إسحاق وحمزة: وَلا نُكَذِّبَ ونَكُونَ نصبا على جواب التمني، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصبه بالفاء. وقرأ ابن عامر: نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ: بالرفع، وَنَكُونَ: بالنصب قال: لأنهم تمنوا الرد وأن يكونوا من المؤمنين وأخبروا أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردّوا إلى الدنيا بَلْ بَدا ظهر لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ يسترون في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم. وقال السدي إنهم قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فذلك إخفاؤهم مِنْ قَبْلُ فأنطق الله عز وجل جوارحهم فشهدت عليهم بما كتموا فذلك قوله عز وجل بَلْ بَدا لَهُمْ وهذا أعجب إلي من القول الأول لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا إلّا أن تجعل الآية في المنافقين. قال المبرد: بَدا لَهُمْ (جزاء ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) «4» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 29 إلى 35]
وقال النضر بن شميل: معناه بَلْ بَدا [لعنهم] ، ثم قال وَلَوْ رُدُّوا إلى الدنيا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم: لو ردونا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا وكنا من المؤمنين. وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا فيه تقديم وتأخير، وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا من قولهم: لو ردوا لقالوا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قيل: على حكم الله [ ... ] «1» فهم [وتكلمنا اليدين] بأمر الله قالَ أَلَيْسَ هذا العذاب بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا إنّه حق قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. أي بكفركم قَدْ خَسِرَ وكس وهلك الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ بالبعث بعد الموت حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ القيامة، بَغْتَةً فجأة قالُوا يا حَسْرَتَنا ندامتنا عَلى ما فَرَّطْنا قصرّنا فِيها في الطامة، وقيل: تركنا في الدنيا من عمل الآخرة. وقال محمد بن جرير: الهاء راجعة إلى الصفقة، وذلك إنه لما تبين لهم خسران صفقتهم بيعهم الإيمان بالكفر والدنيا بالآخرة، قالُوا: يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها، أي في الصفقة فترك ذكر الصفقة كما يقول قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ لأن الخسران لا يكون إلّا في صفقة بيع «2» . قال السدي: يعني على ما ضيعنا من عمل الجنة، يدل عليه ما روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه الآية قال: «يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حَسْرَتَنا» [131] وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ آثامهم وأفعالهم.
قال أبو عبيد: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع: احمل وزرك ووزرتك واشتقاقه من الوزر الذي يعتصم به ولهذا قيل: وزر لأنّه كأنّه الذي يعتصم به الملك أو النبي ومنه قوله تعالى وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي «1» عَلى ظُهُورِهِمْ. قال السدي وعمرو بن قيس الملائي: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيب ريحا، يقول: هل تعرفني؟ يقول: لا، إلّا أن الله عز وجل قد طيب ريحك وحسّن صورتك، فيقول: كذلك كتب في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني اليوم أنت. وقرأ يوم يحشر المتقين إلى الرحمن وفدا أي ركبانا، فإن الكافر تستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلّا أن الله عز وجل قد قبح صورتك وأنتن ريحك، فيقول: لما كان عملك في الدنيا، أنا عملك السيء طالما ركبتني في المساء فأنا أركبك اليوم وذلك قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ. قال الزجاج: لا يزر إليهم أوزارهم، كما يقول الضحّاك: نصب عيني وذكرك محيي قلبي أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي يحملون ويعملون وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ باطل وغرور لا يبقى، وهذا تكذيب من الله للكفار في قولهم ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الآية وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ قرأتها العامة رفعا على نعت الواو، وإضافة أهل الشام لاختلاف اللفظين كقوله: ربيع الأول، ومسجد الجامع وَحَبَّ الْحَصِيدِ «2» سميت الدنيا لدنوّها، وقيل: لدناءتها وسميت الآخرة لأنها بعد الدنيا خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ من الشرك أَفَلا تَعْقِلُونَ أي الآخرة أفضل من الدنيا قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الآية. قال السدي: التقى الأخفش بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال الأخفش لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال له أبو جهل: والله إن محمدا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال أبو يزيد المدني: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا جهل فصافحه فلقيه بعض شياطينه فقال له: يأتيك تصافحه؟ قال: والله إني أعلم إنه لصادق ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلّم: ما نتهمك ولا نكذبك ولكن نتهم الذي جئت به ونكذبه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي كان يكذب النبي صلى الله عليه وسلّم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب فلا أحسبه إلّا صادقا، وقال للنبي صلى الله عليه وسلّم: إنا لنعلم إن الذي له حق وإنه لا يمنعنا أن نتبع الهدى معك إلّا مخافة أن يتخلفنا البأس من أرضنا. يعني العرب فإنا [ثمن] «1» أكلة رأس ولا طاقة لنا بهم [132] فأنزل الله عز وجل هذه الآية قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ بأنك كاذب وساحر ومجنون فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ أي لا ينسبونك إلى الكذب ولا يقولون لك: كذبت. وقرأ نافع والكسائي: يُكْذِبُونَكَ بالتخفيف وهي قراءة علي رضي الله عنه يعني: ولا يجدونك كاذبا، يقول العرب: أجدبت الأرض وأخصبتها وأحييتها وأهجتها إذا وجدتها جدبة وخصبة ويعيدوا ناتجة للنبات. قال رؤبة: وأهيج الخلصاء من ذات البرق «2» أي وجدتها ناتجة للنبات. قال الكسائي: يقول العرب: أكذبت الرسل إذا أخبرت إنه قول الكذب فرواه وكذبته إذا أجزت إنه كاذب وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [تسلية نبيه] يقولون: كذبهم قومهم كما كذبتك قريش فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ قال الكلبي: يعني القرآن. وقال عكرمة: يعني قوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ إلى قوله: غالِبُونَ وقوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «3» وقوله تعالى كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «4» العدل يعني لأخلفهما لعذابه وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ من قبل كما يقول: أصابنا من مطر أي مطر. وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ قال الكلبي: قال الحرث بن عامر: يا محمد ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي بها فإن أتيت بها آمنا بك وصدقناك، فأبى الله أن يأتيهم بها فأعرضوا عنه
[سورة الأنعام (6) : الآيات 36 إلى 45]
وكبر عليه صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل وَإِنْ كانَ كَبُرَ عظم وضاق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عنك فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب وتتخذ نَفَقاً سربا فِي الْأَرْضِ مثل نافقا اليربوع وهو أحد حجرته فيذهب فيه أَوْ سُلَّماً درجا ومصعدا إليّ فِي السَّماءِ يصعد فيه. قال الزجاج: السلم من السلامة وهو الذي يسلمك إلى مصعدك فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ فافعل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فآمنوا كلّهم فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أن يؤمن بك بعضهم دون بعض وإن الله لو شاء لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى، وإن من يكفر إنما يكفر بسائر علمه فيه. إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فيتبعونه وينتفعون به دون من ختم الله على سمعه فلا يصغي إلى الحق وَالْمَوْتى يعني الكفار يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مع الموتى ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَقالُوا يعني الحرث بن عامر وأصحابه. لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ حالهم في نزولها وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ على التأكيد، كما يقال: أخذت بيدي، مشيت برجلي ونظرت بعيني. إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ يعني بعضهم من بعض والناس أمة والطير أمة والسباع أمة والدواب أمة، وقيل: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ جماعات أمثالكم. وقال عطاء: أَمْثالُكُمْ في التوحيد [ومعرفة الله] وقيل: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ في التصور والتشخيص ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يعني في اللوح المحفوظ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ. قال ابن عباس، والضحّاك: حشرها: موتها.
وقال أبو هريرة: في هذه الآية يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطيور وكل شيء فيبلغ من عذاب الله يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول: كوني ترابا فعند ذلك قُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1» . وقال عطاء: فإذا رأوا بني آدم وما فيه من الجزية، قلت الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنة نرجو ولا نارا نخاف، فيقول الله عز وجل لهم كونوا ترابا فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون ترابا. وعن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا انتطحت عنزان فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أتدرون فيما انتطحا» «2» [133] قالوا: لا ندري، قال: لكن الله يدري ويقضي بينهما وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا محمد والقرآن صُمٌّ لا يسمعون الخبر وَبُكْمٌ لا يتكلمون، الخبر فِي الظُّلُماتِ في ضلالات الكفر مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يموتون على كفرهم وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قائم وهو الإسلام قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ أي هل رأيتم والكاف فيه للتأكيد، إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ يوم بدر وأحد والأحزاب وحنين، أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ في صرف العذاب، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ثم قال بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ تخلصون فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ تتركون ما تُشْرِكُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فكفروا فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ الفقر والجوع وَالضَّرَّاءِ المرض والزمانة لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يؤمنون ويتوبون ويخضعون ويخشعون. فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا عذابنا تَضَرَّعُوا فآمنوا فكشف عنهم وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعصية فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي أنكروا ما وعظوا وأمروا به فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أي بدلناهم مكان البلاء والشدة بالرخاء في العيش والصحة في الأبدان حَتَّى إِذا فَرِحُوا أعجبوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة أمن ما كانوا بالعجب ما كانت الدنيا لهم، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ يئسون من كل خير. قال السدي: هالكون، ابن كيسان: خاضعون، وقال الحسن: منصتون. وقرأ عبد الرحمن السلمي: مُبْلَسُونَ بفتح اللام مفعولا بهم أي مؤيسون. وأصل الإبلاس الإطراق من الحزن والندم. وقال مجاهد: الإبلاس الفضيحة. وقال: ابن زيد المبلس الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 إلى 58]
قال جعفر الصادق: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من التعظيم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من النعم حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من الترفيه والتنعيم جاءتهم بغتة إلى سوء الجحيم فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ قال السدي: أصل القوم. قال قطرب: أخذهم يعني استؤصلوا وأهلكوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم. روى عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيت الله أعطى العباد ما يشاؤن على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم» «1» [134] . ثم تلا هذه الآية فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ الآية. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ فذهب بها وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ وطبع عليها يعني لا يفقهوا قولا ولا يبصروا حجة مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ يعني بما أخذ منكم انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ نبين لهم الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعرضون عنها مكذبين بها
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً فجأة أَوْ جَهْرَةً معاينة ورؤية [على ما أشركوا] هَلْ يُهْلَكُ بالعذاب إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ المشركون وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ العمل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف أهل النار وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إذا حزنوا وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بمحمد والقرآن يَمَسُّهُمُ يصيبهم الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يرتكبون قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ يعني رزق الله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ما يخفى عن الناس وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ فتنكرون قولي وتجحدون أمري إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وذلك غير منكر ولا مستحيل في العقل مع وجود الدلائل والحجة البالغة قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ الكافر والمؤمن والضال والمهتدي أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ لا يستويان وَأَنْذِرْ خوّف بِهِ بالقرآن. قال الضحّاك: بِهِ أي بالله الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا يبعثوا ويحيوا إِلى رَبِّهِمْ وقيل: يعلمون أن يحشروا لأن خوفهم بما كان من عملهم لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ من دون الله وَلِيٌّ يعني قريب ينفعهم وَلا شَفِيعٌ يشفع لهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ الآية، قال سليمان، وخباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية. جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصين الفزاري وهم من الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلّم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المسلمين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ويغيب عنها هؤلاء وأرواح جبابهم. وكانت عليهم جباب من صوف لم يكن عليهم غيرها. لجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ» قالوا: فأنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم وإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: نعم، قالوا: أكتب لنا بذلك كتابا، قال: فدعانا لصحيفة ودعا عليا ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل (عليه السلام) بقوله وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إلّا بشيء فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «1» فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل هذه الآية وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقعد معنا بعمد وندنو منه حتى كادت ركبنا تمسّ ركبه فإذا بلغ الساعة التي يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم وقال: «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي [معكم المحيا ومعكم] «2» الممات» [135] «3» .
وقال الكلبي: قالوا له: اجعل لنا يوما ولهم يوم، قال: لا أفعل، قالوا: فاجعل المجلس واحدا وأقبل إلينا وولّ ظهرك عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى الأشعث بن سواد عن إدريس عن عبد الله بن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعا لهؤلاء أَهؤُلاءِ الذين قال: مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا، أطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم اتبعناك، فأنزل الله تعالى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية، قال: بها قد قالت قريش: لولا بلال وابن أم عبد لتابعنا محمدا فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال عكرمة: جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن أمية ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرظة ابن عبد وعمرو بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنهم عبيدنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتّباعنا إيّاه. وتصديقنا له فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلّم فحدثه بالذي كتموه، فقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون فنزلت من قولهم هذه الآية فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب واعتذر من مقالته. وقال جبير بن نفيل: إن قريشا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: أرسلت إلينا فاطرد هؤلاء السقاط عنك فنكون أصحابك فأنزل الله تعالى، وَلا تَطْرُدِ الآية. قال ابن عباس: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يعني صلاة الصبح وصلاة العصر، وذلك إن ناسا من الفقراء كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلّم فقال قوم من الأشراف: إذا صلّينا فأخّر هؤلاء وليصلوا خلفنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ الآية. وقال حمزة بن عيسى: دخلت على الحسن فقلت له: يا أبا سعيد أرأيت قول الله تعالى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ آمنوا، قال: لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة. وقال مجاهد: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب (رضي الله عنه) فلما سلّم الإمام، ابتدر الناس القاص، فقال سعيد ما أسرع الناس إلى هذا المجلس. فقال مجاهد: فقلت: يتأوّلون قول الله عز وجل وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، فأراد في هذا هو إنما ذلك في الصلاة التي انصرفا عنها الآن، وقلنا إنهم يذكرون ربهم. وقال أبو جعفر: يعني يقرءون القرآن يُرِيدُونَ وَجْهَهُ جواب لقوله ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ «1» وقوله فَتَكُونَ جواب لقوله وَلا تَطْرُدِ لا أحد هو جواب نفي والله جواب النهي مِنَ الظَّالِمِينَ من الضارين لنفسك بالمعصية والنفس الطرد في غير موضعه وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ التعريف الوضيع والعرفي بالمولى والغني الآية لِيَقُولُوا يعني الأشراف الأغنياء أَهؤُلاءِ يعني الفقراء والضعفاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا قال الكلبي: كان الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد آمن قبله حمى أنفا أن يسلم ويقول: سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ يعني المؤمنين وهذا جواب لقوله أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا وقيل: أليس الله أعلم بالشاكرين، من يشكر على الإسلام إذا هديته له. العلاء بن بشير عن أبي بكر الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في عصابة فيها ضعفاء المهاجرين، وإن بعضهم يستر بعضا من العري وقارئ يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته فقال النبي صلى الله عليه وسلّم حتى قام علينا فلما رأى القارئ سكت، فسلم وقال: ما كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله كان قارئ يقرأ علينا ونحن نستمع إلى قراءته، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال هكذا بيده هكذا، فحلق القوم وبرزت وجوههم فلم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم أحدا وكانوا ضعفاء المهاجرين. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أبشروا صعاليك المهاجرين بالفوز التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء المؤمنين بنصف يوم مقداره خمس مائة سنة» [136] «2» . هشام بن سليمان عن أبي يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا معشر الفقراء إن الله رضي لي أن أتأسى بمجالسكم وأن الله معنا فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فإنها مجالس الأنبياء قبلكم والصالحين» [137] «3» . معاوية بن مرّة عن عائذ بن عمرو: أن سلمانا وصهيبا وبلالا كانوا قعدوا فمر بهم أبو سفيان فقالوا له: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها بعد. فقال لهم أبو بكر (رضي الله عنه) : تقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا بكر لعلك أغضبتهم إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك» فوقع أبو بكر فيهم فقال: لعلي أغضبتكم؟ قالوا: لا يا أبا بكر يغفر الله لك «4» . وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا اختلفوا فيما نزلت هذه الآية. فقال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلّم عن طردهم وكان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال:
«الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» [138] «1» . وقال الكلبي: لما نزلت هذه الآية وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ جاء عمر (رضي الله عنه) للنبي صلى الله عليه وسلّم فاعتذر إليه من مقالته واستغفر الله تعالى منها، وقال: يا رسول الله ما أردت بهذا إلّا الخير فنزل في عمر (رضي الله عنه) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ الآية. وقال عطاء: نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وبلال وسالم وأبي عبيدة وصهيب بن عمير وعمر وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر، والأرقم بن الأرقم وأبي سلمة بن الأسد رضي الله عنهم أجمعين. وقال أنس بن مالك (رضي الله عنه) عنه: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجال فقالوا: إنا أصبنا ذنوبنا كثيرة عظيمة فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله على الرجال الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قال مجاهد: لا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ربك الأمر وكل من عمل خطيئة فهو بها جاهل، وقيل: جاهل بما يورثه ذلك الذنب، يقال: جهل حين آثر المعصية على الطاعة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ فرجع عن دينه وَأَصْلَحَ عمله، وقيل: أخلص توبته فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ واختلف القراء في قوله تعالى أَنَّهُ [الكوفيون] بفتح الألف منهما جميعا. ابن كثير والأعمش وابن عمر وحمزة والكسائي على الاستئناف، ونصبها الحسن وعاصم ويعقوب بدلا من رحمة، وفتح أهل المدينة الأولى على معنى وكتب إنّه وكسروا الثانية على الاستئناف لأن ما بعدها لا يخبر أبدا وَكَذلِكَ أي هكذا، وقيل: معناه وفصلنا لك في هذه السورة والآية. وجاء في أعلى المشروح في المنكرين من كذلك نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نميز ونبين لك حجتنا وأدلتنا في كل من ينكر أهل الباطل وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ مرّ رفع السبيل ومعناه وليظهر وليتضح طريق المجرمين. يقال بان الشيء وأبان وتبيان وتبين إذا ظهر ووضح والسبيل يذكر ويؤنث، فتميم تذكر، وأهل الحجاز يؤنثه، ودليل المذكر قوله عزّ وجل وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ودليل التأنيث قوله تعالى لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وقوله عز وجل قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ ولذلك قرأ وَلِتَسْتَبِينَ بالياء والتاء، وقرأ أهل المدينة وَلِتَسْتَبِينَ بالتاء، سَبِيلَ بالنصب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلّم معناه وَلِتَسْتَبِينَ يا محمد سبيلَ المجرمين، يقال واستبين الشيء وتبينته إذا عرفته قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ في عبادة الأوثان وطرد بلال وسلمان قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ يعني إن فعلت ذلك فقد تركت سبيل الحق وسلكت غير الهدى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 59 إلى 67]
وقرأ يحيى بن وثاب [وأبو رجاء] : قَدْ ضَلِلْتُ، بكسر اللام وهما لغتان ضلّ يضلّ مثل قلّ يقلّ. وضلّ يضلّ مثل ملّ يملّ، والأولى هي الأصح والأفصح لأنها لغة أهل الحجاز قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ بيان وبرهان وبصيرة وحجة مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أي بربي ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب، نزلت في النضر بن الحرث إِنِ الْحُكْمُ ما القضاء إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ قرأ أهل الحجاز، وعاصم يَقُصُّ الْحَقَّ بالصاد المشددة أي يقول الحق قالوا: لأنه مكتوب في جميع المصاحف بغير ياء ولأنه قال الْحَقَّ فإنما يقال قضيت بالحق. وقرأ الباقون: بالضاد أي يحكم بالحق دليله قوله وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ والفصل جلب القضاء، والقرّاء إنما حذفوا الياء للاستثقال ثم [ ... ] كقوله صالِ الْجَحِيمِ «1» وقوله يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ «2» وفَما تُغْنِ النُّذُرُ «3» سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «4» ونحوها وحذفوا الباء من الحق لأنه صفة المصدر فكأنه يقضي القضاء الحق. قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي بيدي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ هو العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي فرغ من العذاب وأهلكتم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ. وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ المفاتح جمع المفتح. وقرأ ابن السميقع: مفاتيح على جمع المفتاح، يعني ومن عنده معرفة الغيب وهو يفتح ذلك بلطفه، واختلفوا في مفاتيح الغيب.
فروى عبد الله بن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَفاتِحُ الْغَيْبِ خمس ... إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» «1» [139] . وقال السدي: مَفاتِحُ الْغَيْبِ خزائن الغيب. مقاتل، والضحّاك: يعني خزائن الأرض. وعلم نزول العذاب متى ينزل بكم. عطاء: يعني ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وما يصير إليه أمري وأمركم، وقيل: هي الآجال ووقت انقضائها، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وقيل: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال، وقيل: هي ما لم يكن بعد إنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون. وقال ابن مسعود: أوتي نبيّكم علم كل شيء إلّا مفاتيح الغيب وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. قال مجاهد: البر القفار والبحر كل قرية فيها ماء وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها قال ابن عباس: ما شجرة في بر ولا بحر إلّا وبها ملك وكلّ يعلم من يأكل وما يسقط من ورقها وقل منكم عند ما بقي من الورق على الشجر وما سقط منها. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول: معناه يعلم كما تقلبت ظهرا لبطن إلى أن سقطت على الأرض وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ أي في بطون الأرض، وقيل: تحت الصخرة في أسفل الأرضين وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ قال ابن عباس: الرطب الماء، واليابس البادية. وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت. وقال الحسن: يكتبه الله رطبا ويكتبه يابسا لتعلم يا بن آدم إن عملك أولى بها [من إصلاح] تلك الجنة. وقال: الرطب لسان المؤمن رطب بذكر الله، واليابس لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله. وبما يرضي الله عز وجل. وقيل: هي الأشجار والنبات. وروى الأعمش عن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث، فقال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة إلّا عليها ملك وكل يأتي الله بعلمها ويبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت. محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما من زرع على الأرض ولا ثمار
على أشجار [وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ] «1» إلّا عليها مكتوب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، رزق فلان ابن فلان وذلك قوله تعالى في محكم كتابه وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ» «2» [140] . إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي يقبض أرواحكم في منامكم وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ وأصله من [جارحة] اليد. ثم قيل لكل عليك جارح أي عضو من أعضائه عمل ومنه [الزرع الجيد] ، ويقال لا ترك الله له جارحا أي عبدا ولا أمة يكسب له ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ أي ينشركم ويوقظكم فِيهِ في النار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى يعني أجل الحياة إلى الممات حتى ينقضي أثرها ورزقها. فقرأ أبو طلحة وأبو رجاء لنقضي بالنون المفتوحة أجلا نصب، وفي هذا إقامة الحجة على منكري البعث يعني كما قدرت على هذا فكذلك أقدر على بعثكم بعد الموت. وقال: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم كما تنام كذلك تموت وكما توقظ كذلك تبعث ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ يخبركم ويجازيكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم وهو جمع حافظ، ونظيره قوله وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ «3» قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : ومن الناس من يعيش شقيّا جاهل القلب، غافل اليقظة، فإذا كان ذا وفاء ورأى حذر الموت واتقى الحفظة، إنما الناس راحل ومقيم الذي راح للمقيم عظة حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا يعني أعوان ملك الموت يقبضونه ثم يدفعونه إلى ملك الموت وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ لا يعصون ولا يضيعون. وقرأ عبيد بن عمر: لا يُفْرِطُونَ بالتخفيف معنى لا يجاوزون الحد ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ يعني الملائكة وقيل: يعني العباد مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ القضاء في خلقه وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يعني لا يحتاج إلى رويّة ولا تقدير قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إذا ضللتم الطريق وخفتم الهلاك تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وقرأ عاصم: وَخُفْيَةً وهما لغتان. وقرأ الأعمش وخيفة من الخوف كالذي في الأعراف لَئِنْ أَنْجانا الله مِنْ هذِهِ أي ويقولون لئن أنجيتنا من هذه يعني الظلمات لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ من المؤمنين قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ حزن ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ يعني
الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يعني الخسف كما فعل بقارون. وقال مجاهد: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ السلاطين، الذين مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ العبيد السوء. الضحّاك: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ من قبل كباركم أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ من أسفل منكم أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أو يخلقكم ويفرق ويبث فيكم الأهواء والمختلفة وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يعني السيوف المختلفة بقتل بعضكم بعضا كما فعل ببني إسرائيل، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا جبرئيل ما بقاء أمتي على ذلك؟ فقال له جبرائيل: إنما أنا عبد مثلك؟ فسل ربك؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتوضأ وصلى وسأل ربه فأعطى آيتين ومنع واحدة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سألته أن يبعد على أمتي عذابا من فوقهم ومن تحت أرجلهم فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرني جبرئيل (عليه السلام) أن فناء أمتي بالسيف» «1» [141] . وقال الزهري: راقب خباب بن الإرث رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات ليلة يصلي فلما فرغ، قال: وقت الصباح لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها، قال: أجل إنها صلاة رغبة ورهبة سألت ربي فيها ثلاثا وأعطاني إثنتين، وزوى عني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فأعطاني، وسألته أن لا يرسل عليهم سنة فتهلكهم فأعطاني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فزواها عني» . انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ قرأ إبراهيم بن عبلة وكذبت بالتاء بِهِ أي بالقرآن وقيل: بالعذاب قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي حفيظ ورقيب وقيل: مسلط إنما أنا رسول لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ موضع قوله وحقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله. قال مقاتل: لكل خبر يخبره الله تعالى وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير. قال الكلبي: لكل قول أو فعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه. وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لهم وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ذلك. وقال الحسن: لكل عمل جزاء فمن عمل عملا من الخير جوزي به الجنة، ومن عمل عمل سوء جوزي به النار، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ يا أهل مكة. وقال السدي: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي ميعاد وحد تكتموه، فسيأتيكم حتى تعرفوه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 إلى 73]
وقال عطاء: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ يؤخر عقوبته ليعمل ذنبه فإذا عمل ذنبه عاقبه. قال الثعلبي: ورأيت في بعض التفاسير إن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع عليه السن. وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا يعني القرآن الاستهزاء والكذب فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فاتركهم ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا يدخلوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ غير القرآن، وذلك إن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسبوا واستهزؤا بالقرآن، فنهى الله المؤمنين عن مجالستهم وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ. قرأ ابن عباس وابن عامر: ينسونك بالتشديد الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فقم من عندهم بعد ما ذكرت ثم قال وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ الخوض مِنْ حِسابِهِمْ من أيام الخائضين مِنْ شَيْءٍ. قال ابن عباس: قال المسلمون: فإنا نخاف الإثم حين نتركهم فلا ننهاهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال ابن عباس في رواية أخرى: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون في القرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزل وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى أي ذكروهم وعظوهم وهي في محل النصب على المصدر أي ذكروهم ذكرى والذكر والذكرى واحد ويجوز أن يكون في موضع الرفع أي هو ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الخوض إذا وعظتموهم، وقيل: وإذا قمتم يسعهم في ذلك من الاستهزاء والخوض. وقيل: لعلهم يستحيون وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً باطلا
وفرحا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وذلك أن الله تعالى جعل لكم قوم عيدا يعظمونه ويصلون فيه فكان قوم اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا إلّا أمة محمد صلى الله عليه وسلّم فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة لله. وذكرا مثل الجمعة والفطر والنحر وَذَكِّرْ بِهِ وعظ بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ يعني أن لا تبسل كقوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا. ومعنى الآية ذكرهم ليؤمنوا فلا تبسل نفس بما كسبت. قال ابن عباس: تهلك، قتادة: تحيس. الحسن، ومجاهد، وعكرمة، والسدي: تسلم للهلكة. علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: تفضح. الضحاك: تفضح وتحرق. والمؤرخ، وابن زيد: تؤخذ. قال الشاعر: وإبسالي بني بغير جرم ... بعونها ولا بدم مراق «1» العوف بن الأحوض: وكان رهن بيته وحمل عن غنى لبني قشير دم السحقية. فقالوا: لا نرضى بك، فدفعهم رهنا، وقوله بعونا أي جنينا، والبعو الجناية. وقال الأخفش: تُبْسَلَ أي تجزى. وقال الفراء: ترتهن. وأنشد النابغة الجعدي: ونحن رهنا بالإفاقة عامرا ... بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا «2» وقال عطية العوفي: يسلم في خزية جهنم. وقال أهل اللغة: أصل الإبسال التحريم، يقال: أبسلت الشيء إذا حرمته، والبسل الحرام. قال الشاعر: بكرت تلومك بعد وهن في الندى ... بسل عليك ملامتي وعتابي «3» فقال: أنشدنا بسل أي شجاع لا يقدّر موته كأنه قد حرم نفسه ثم جعل ذلك نعتا لكل شديد. يترك، ويبقى. ويقال: شراب بسل أي متروك. قال الشنفري:
هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سمير الليالي مبسلا بالجرائر «1» وقوله تعالى لَيْسَ لَها أي لتلك الأنفس مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ حميم وصديق وَلا شَفِيعٌ يشفع لهم في الآخرة وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ تفد كل فداء، لا يُؤْخَذْ مِنْها. قال أبو عبيدة: وإن يقسطه كل قسط لا يقبل منها لأن التوبة في الحياة أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر حين دعا أباه إلى الكفر فأنزل الله تعالى قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا إن عبد ناه وَلا يَضُرُّنا إن تركناه وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ. وتقول العرب لكل راجع خائب لم يظفر بحاجته: ردّ على عقبيه ونكص على عقبيه فيكون مثله كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ أي أضلته. وقال ابن عباس (رضي الله عنه) : كالذي استغوته الغيلان في المهامة «2» وأضلوه وهو حائر بائر فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ وحيران نصب على الحال. وقرأ الأعمش، وحمزة: كالذي استهوى به، بالباء. وقرأ طلحة: استهواه بالألف. وقرأ الحسن: استهوته الشياطون وفي مصحف عبد الله وأبي استهواه الشيطان على الواحد لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا يعني أتوا به، وقيل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ أي لأن نسلم لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إلى قوله يُنْفَخُ فِي الصُّورِ. قال أبو عبيدة: هو جمع صورة مثل سورة وسور. قال العجاج: ورب ذي سرادق محجور ... سرت إليه في أعالي السور «3» وقال آخرون: هو فرن ينفخ فيه بلغة أهل اليمن. وأنشد العجاج: نطحناهم غداة الجمعين ... بالضابحات في غبار النقعين نطحا شديدا لا كنطح الصورين «4»
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 إلى 83]
يدل على هذا الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم كيف أنعم صاحب القرن قد أكتم القرن [وحنى حنينه] وأصغى سمعه فنظر متى يؤمر فنفخ ، ثم قال عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ. قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي: وآزر أبو إبراهيم وهو تاريخ مثل إسرائيل ويعقوب وكان من أهل كوثى قرية من سواد الكوفة «1» . وقال مقاتل بن حيان: لأب إبراهيم. وقال سليمان [التيمي] : هو سب وعيب. ومعناه في كلامهم المعوج وقيل: معناه الشيخ [الهنم] بالفارسية وهو على هذه الأقاويل في محل الخفض على البدل أو الصفحة ولكنه نصب لأنه لا ينصرف. وقال سعيد بن المسيب، ومجاهد، ويمان: آزر اسم صنم وهو على هذا التأويل في محل نصب. وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره أتتخذ آزر أصناما آلهة. وقرأ الحسن وأبو يزيد المدني ويعقوب الحضرمي: آزر بالرفع على النداء بالمفرد يعني يا آزر أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً من دون الله إلى قوله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني كما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه نريه ملكوت السماوات
والأرض أي ملكهما والملكوت الملك وبدت فيه وجدت التاء للتأنيث في الجبروت والرهبوت والرحموت. وحكي عن العرب سراعا له ملكوت اليمن والعراق. وقال الكسائي: زيدت فيه التاء للمبالغة. وأنشد: وشر الرجال الخالب الخلبوت «1» وقال عكرمة: هو الملك غير إنها بالنبطية ملكوتا. وقرأها بالياء المعجمة مليّا. وقال ابن عباس: يعني خلق السماوات والأرض. مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السماوات والأرض، وذلك إنه أقيم على صخرة وكشفت له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرض ونظر إلى مكانه في الجنة. وذلك قوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا «2» يعني أريناه مكانه في الجنة. قال قتادة: إن إبراهيم (عليه السلام) حدث نفسه إنه أرحم الخلق. فرفعه الله عز وجل حتى أشرف على أهل الأرض وأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال لله: دمرّ عليهم، وجعل يلعنهم. فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك، اهبط فلعلّهم يتوبوا. قيس بن أبي حازم عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لما أرى الله تعالى إبراهيم مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أشرف على رجل على معصية من معاصي الله فدعا الله عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فدعا الله عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فلما أراد أن يدعو عليه أوحى الله عز وجل إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعونّ على عبادي فإنهم مني على ثلاث خصال: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه، وإما أن أخرج منه نسمة تسبّح، وإما أن [يعود] إلي فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته» . وقال الضحاك: مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الشمس والقمر والنجوم. وقال قتادة: خبئ إبراهيم (عليه السلام) من جبار من الجبابرة فحول له رزق في أصابعه فإذا مص إصبعا من أصابعه وجد فيها رزقا فلما خرج أراه الله مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكان ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار. وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً إلى آخر الآية. قال المفسرون: إن إبراهيم (عليه السلام) ولد في زمن نمرود بن كنعان وكان نمرود أول
من وضع التاج على رأسه وقلد التاج عليه ودعاء الناس [ ... ] وكان له كهان ومنجمون. وقالوا: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه. ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام. وقال السدي: رأى نمرود في منامه كأن كوكبا اطلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعا شديدا ودعا السحرة والكهنة والجازة والقافة فسألهم عن ذلك فقالوا: مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاك ملك وأهل بيتك على يديه. قالوا: فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلا، فإذا حاضت امرأة خليت بينها وبينه، فإذا طهرت عزل بينها، فرجع آزر أبو إبراهيم فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فوقع عليها في طهرها فلقفت فحملت إبراهيم (عليه السلام) . قال محمد بن إسحاق: بعث النمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده، إلّا ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها وذلك إنها كانت جارية حديثة السن لم تعرف الحمل في بطنها. قال السدي: خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء خوفا من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحدا من قومه إلّا أزر فبعث إليه ودعاه. فقال: إن لي إليك حاجة أحبّ أن أوصيك بها ولا أبعثك إلّا لثقتي بك بما أقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ولا تواقعها، فقال آزر: أنا أشحّ على ديني من ذلك، فأوصاه بحاجته ثم بعثه فدخل المدينة وقضى حاجته، ثم قال: قد دخلت على أهلي ونظرت إليه فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى وقع عليها فحملت بإبراهيم. قال ابن عباس: لما حملت أم إبراهيم، قالت الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس، ثم لفته في خرقة فوضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت بأنها ولدت وإن الولد في موضع كذا فانطلق أزر يأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه فيه وسدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه. وقال السدي: لما أعظم بطن أم إبراهيم خشي آزر أن يذبح فانطلق بها إلى أرض بين الكوفة والبصرة يقال لها أورمة فأنزلها في سرب من الأرض وجعل عندها ماء يصلهما وجعل يتعمدها ويكتم ذلك من أصحابه فولدت في ذلك السرب وشب وكان وهو ابن سنة كابن ثلاث سنين وصار من الشباب مخافة أن [يسقط في] طمع الذباحين ثم ذكر آزر لأصحابه أن لي ابنا كبيرا فانطلق به إليهم.
وقال ابن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها فولدت فيها إبراهيم فأصلحت من شأنه ما يصنع من المولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيّا يمص إبهامه. وقال أبو روق: كانت أم إبراهيم كلما دخلت على إبراهيم وجدته يمص أصابعه، فقالت ذات يوم: لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع عسلا ومن إصبع لبنا ومن إصبع تمرا ومن إصبع سمنا. قال محمد بن إسحاق: وكان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل. فقالت: ولدت غلاما فمات، فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلّا خمسة عشر شهرا ثم رجع إلى أبيه آزر فأخبره إنه ابنه وأخبرته أم إبراهيم إنه ابنه وأخبرته بما كانت صنعت في غيابه فسر بذلك آزر وفرح فرحا شديدا، قالوا: فإنما شب إبراهيم وهو في السرب بعد ما قال لأمه: من ربي؟ قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن ربّ أبي؟ قالت له: أسكت، فسكت، فلما رجعت إلى زوجها قالت: أرأيت الغلام الذي كنّا نتحدّث إنه بغير دين أهل الأرض فإنه ابنك ثم أخبرته بما قال لها، فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: من ربك أنت؟ قال نمرود، قال: فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال: أسكت وقم، قال لأبويه: أخرجاني، فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل، والخيل، والغنم، فقال: أباه ما هذه؟ قال: إبل وخيل وغنم، فقال: ما لهذه بدّ من أن يكن لها رب وخالق ثم نظر وتفكر في خلق السماوات والأرض. فقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني ربي ما لي إله غيره. ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر. فقال: هذا ربي فذلك قوله عز وجل: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي دخل يقال: جن الليل وأجن وجنه الليل وأجنه وجن عليه الليل يجن جنونا وجنانا إذا أظلم ومضى كلّ شيء، وإنما سميت الجن لاجتنانها فلا ترى. قال أبو عبيدة: جنون الليل سواده، وأنشد: فلولا جنان الليل أدرك ركضنا ... بذي الرمث والأرطى عياض بن ناشب «1» ورأى كوكبا ف قالَ هذا رَبِّي اختلفا فيه فأجراه بعضهم على الظاهر. وقالوا: ما كان
إبراهيم (عليه السلام) مسترشدا متحيرا طالبا من التوفيق حتى وفقه الله تعالى، وآتاه رشده، فإنما كان هذا منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجّة عليه وفي تلك يقول: لا يكون كفر ولا إيمان. يدل عليه ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فعبده حتى غاب فلما غاب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فعبده حتى غاب فلما غاب فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فعبدها حتى غابت الشمس فلما غابت قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. وأنكر الآخرون هذا القول، وقالوا: غير جائز أن يكون لله عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات وهو غير موحد وعارف ومن كلّ معبود سواه بريء. قالوا: وكيف قومهم هذا على عصمة الله وطهره في مستقره ومستودعه وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته فقال: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «1» وقال وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «2» رأى كوكبا فقال هذا رَبِّي على الاعتقاد والحقيقة هذا ما لا يكون أبدا. ثم قيل فيه أربعة أوجه من التأويل: الوجه الأول: أن إبراهيم (عليه السلام) أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموا ويقيم عليهم الحجة ويريهم أنه معظم ما يعظموه ويلتمس الهدى من حيث التمسوا فلما أفل رأيهم النقص الداخل في النجوم ليتبينوا خطأ ما يدعون وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمونها. قالوا: ومثل هذا مثل الجواري الذي ورد على قوم يعبدون بدّا لهم وهو الصنم وأظهر فعظمه فأراهم الاجتهاد [ ... ] كرموا وصدوا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن ذمهم عدو لهم خافه الملك على ملكه فشاور الحواري في أمره. فقالوا الرأي: أن تدعوا إلهنا حتى يكشف ما قد أضلنا فإنا لمثل هذا اليوم مجتمعون فاجتمعوا حوله يجأرون ويتضرعون وأمر عدوهم يستعجل ويتوكل فلما تبين لهم أن ربّهم لا ينفع ولا يرفع فقال لهم على جهة الاستفهام والتوبيخ لفعلهم هذا رَبِّي ومثل هذا يكون ربّا؟ أي ليس هذا ربي كقول الله تعالى تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ «3» يعني أنهم الخالدون.
وكقول موسى (عليه السلام) لفرعون: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ «1» يعني أو تلك نعمة نعمتها. قال الهذلي: رفعوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم «2» وقال آخر: لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر «3» والوجه الثالث: أن إبراهيم (عليه السلام) قال هذا على وجه الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك في ربه كأنه قال: هذا ربي عندكم فَلَمَّا أَفَلَ قالَ: - وكان الهلال- قال: هذا أَكْبَرُ منه فنظر إلى الذي عكفت عليه هاهنا يعني عندك وقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «4» بقوله حزنه في النار لأبي جهل يعني إنك كذا عند نفسك وأما عندنا فلا عزيزا ولا كريما، في الآية اختصار وإضمار ومعناها قال: يقولون هذا ربي كقوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا «5» أي يقولون ربنا تقبل منا. فَلَمَّا أَفَلَ غاب وزال قالَ: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ربا، لا يدوم، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً طالعا قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عن الهدى فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي. قال محمد بن مقاتل الرازي: إنما قال هذا ولم يقل هذه لأنه رأى ضوء الشمس ولم ير عين الشمس. فرده إلى الشعاع. وقال الأخفش: أراد هذا الطالع ربي أو هذا الآتي أراه ربي هذا أكبر لأنه رآه أضوأ وأعظم فلما غربت قالَ: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ الآية. وكان آزر يصنع الأصنام فلما ضم إبراهيم إلى نفسه جعل يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليصرفها فيذهب بها إبراهيم فينادي: من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد، فإذا زادت عليه ذهب بها إلى نهر فصوّب فيها رؤسها وقال: اشربي استهزاء بقومه وبما هم عليه من الضلالة حتى فشى عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته وَحاجَّهُ أي خاصمه قَوْمُهُ في دينه قالَ لهم أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ عرّفني التوحيد والحق وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ وذلك إنهم قالوا له: أما تخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من برص أو خبل لعيبك إيّاها؟ فقال لهم: وَلا
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 إلى 91]
أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ من الأصنام إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي سواء فيكون بما شاء وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً يعني أحاط علمه بكل شيء أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ يعني الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً حجة وبرهانا وهو القاهر القادر على كل شيء ثم قال فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أولى بالأمن [أنحن ومن أتّبع ديني] إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فقال الله عز وجل قاضيا وحاكما بينهما الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ ولم يخلطوا إيمانهم بشرك أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. قال عبد الله بن مسعود: لما نزلت هذه الآية طبق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وقالوا: إننا لم نظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه» يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» » [142] . (إنما هو الشرك) . وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ يعني خصمهم وغلبهم بالحجة قال هي قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ. قال بعبادة الأوثان نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم. وقرأ أهل الكوفة ويحيى بن يعمر وابن [محيصن] : دَرَجاتٍ بالتنوين يعني نرفع من نشاء درجات، مثله سورة يوسف إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنا لَهُ لإبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وقفنا وأرشدنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ إبراهيم وولده وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ يعني ومن داود ونوح لأن داود لم يكن من ذرية إبراهيم وهو داود بن أيشا داوُدَ وَسُلَيْمانَ يعني ابنه وَأَيُّوبَ وهو أيوب بن [أموص بن رانزخ بن] «2» روح ابن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم وَيُوسُفَ وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الذي قال رسول
الله صلى الله عليه وسلّم «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» «1» [143] وَمُوسى وهو موسى بن عمران بن [صهر بن فاعث بن لاد] «2» بن يعقوب. وَهارُونَ وهو أخو موسى أكبر منه بسنة وَكَذلِكَ أي كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء «3» نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم وَزَكَرِيَّا وهو زكريا بن أزن بن بركيا «4» وَيَحْيى وهو ابنه وَعِيسى وهو ابن مريم بنت عمران بن أشيم بن أمون بن حزقيا وَإِلْياسَ. واختلفوا فيه، فقال عبد الله بن مسعود: هو إدريس مثل يعقوب وإسرائيل. وقال غيره: هو إلياس بن بستي بن فنخاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي الله (عليه السلام) وهو [النصيح] لأن الله تعالى نسب في هذه الآية الناس إلى نوح وجعله من ذريته ونوح هو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس «5» ومحال أن يكون جدّ أبيه منسوبا إلى أنه من ذريته «6» وكُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ يعني الأنبياء والمؤمنين وَإِسْماعِيلَ وهو ابن إبراهيم وَالْيَسَعَ وهو اليسع بن إخطوب بن العجون وَيُونُسَ وهو يونس بن متى وَلُوطاً وهو لوط بن هارون أو ابن أخي إبراهيم (عليه السلام) وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ يعني عالمي زمانهم وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ اختبرناهم واصطفيناهم وَهَدَيْناهُمْ سددناهم وأرشدناهم، إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا يعني ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره فعبدوا معه غيره لَحَبِطَ عَنْهُمْ بطل عنهم وذهب عنهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني تلك الكتب وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ يعني قريشا فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعني الأنصار وأهل المدينة. وقال قتادة: يعني الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله عز وجل أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ بسنّتهم وسيرتهم اقتده الهاء فيه هاء الوقف قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً جعلا ورزقا إِنْ هُوَ ما هو يعني محمد صلى الله عليه وسلّم إِلَّا ذِكْرى عظة لِلْعالَمِينَ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموا الله حق عظمته. وما وصفوا الله حق صفته إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
قال سعيد بن جبير: جاء رجل من يهود الأنصار يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال النبي: أتشرك بالله الذي أنزل التوراة على موسى؟ ما تجد في التوراة إن الله يبغض الحبر السمين وكان حبرا سمينا فغضب وقال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فقال لأصحابه الذين معه ويحك ولا موسى؟ فقال: [والله] ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال السدي: إنها نزلت في فحاص بن عازورا، وهو قائل بهذه المقالة. محمد بن كعب القرضي: جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو محتب وقالوا: يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى (عليه السلام) ألواحا يحملها من عند الله؟ فأنزل الله عز وجل يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ «1» الآية. فجاء رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا. فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: قالت اليهود: يا محمد أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم. قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» . معلى بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت في الكفار أنكروا قدرة الله تعالى عليهم فمن أقرّ أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره. وقال مجاهد: نزلت في بشر من قريش. قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. وقوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى إلى قوله وَتُخْفُونَ كَثِيراً قال: هم اليهود. وقوله وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قال هذه المسلمين وهكذا. روى أيوب عنه إنه قرأ وَعُلِّمْتُمْ معشر العرب ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ وقوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي دفاتر كتبنا جمع قرطاس أي تفرقونها وتكتبونها في دفاتر مقطعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم ولا يشعر بها العوام، تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً من ذكر محمد وآية الرجم ونحوها مما كتبوها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء: يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا كلها بالياء على الإخبار عنهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 92 إلى 94]
وقرأها الباقون: بالتاء على الخطاب، ودليلهم قوله تعالى ممّا قبله من الخطاب. قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ. وقرأ بعده وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فإن أجابوك وقالوا: وإلّا ف قُلِ اللَّهُ فعل ذلك ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ حال وليس بجواب تقديره ذرهم في خوضهم لاعبين. وَهذا كِتابٌ يعني القرآن أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أي وهذا كتاب مبارك أنزلناه مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ تخبر. وقرأ عاصم: بالياء أي ولينذر الكتاب أُمَّ الْقُرى يعني مكة سمّاها أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها وَمَنْ حَوْلَها تحمل الأرض كلها شرقا وغربا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ بالكتاب وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يعني الصلوات الخمس يُحافِظُونَ يداومون وَمَنْ أَظْلَمُ أي أخطأ قولا وأجهل فعلا مِمَّنِ افْتَرى اختلق عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم إنه بعثه نبيا وقالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي وكان يستمع ويتكهن ويدعي النبوة ويزعم إن الله أوحى إليه وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلين، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلّم: «أتشهدان أنّ مسيلمة نبي؟ فقالا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» «1» [144] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يدي شوارين من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحى الله إليّ أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العبسي» «2» [145] . وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ نزلت في عبد الله بن سعيد بن أبي سرح القرشي،
وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلّم فكان إذا قال سَمِيعاً عَلِيماً كتب هو عليما حكيما، وإذا قال عَلِيماً حَكِيماً كتب غفورا رحيما، وأشباه ذلك فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «1» الآية. أملاها رسول الله عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أكتبها فهكذا نزلت» «2» [146] فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت [كما كتب] «3» فارتدّ عن المسلمين ولحق بالمشركين، وقال لهما: عليكم بمحمد لقد كان يملي عليّ فأغيره وأكتب كما أريد. ووشى بعمار وجبير عبد لبني الحضرمي يأخذوهما وعذبوهما حتى أعطياهما الكفر وجذع أذن عمار يومئذ فأخبر عمار النبي صلى الله عليه وسلّم بما لقي وبما أعطاهم من الكفر فأبى النبي صلى الله عليه وسلّم أن يتولّاه هؤلاء فأنزل الله عز وجل فيه ، وفي خبر: وابن أبي سرح مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إلى قوله بِالْكُفْرِ. يعني عبد الله بن سعيد بن أبي سرح ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلّم [بمرط هران] وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ وهم الذين ذكرهم الله ووصفهم قبل فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ سكراته وهي جمع غمرة وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه وأضل الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ومنه غمرة الماء ثم استعملت في معنى الشدائد والمكاره وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بالعذاب والضرب وجوههم وأدبارهم كما يقال بسط يده بالمكروه أَخْرِجُوا أي يقولون أخرجوا أَنْفُسَكُمُ أرواحكم كرها لأنّ نفس المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه، والجواب محذوف يعني ولو تراهم في هذا الحال لرأيت عجبا. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ تثابون عَذابَ الْهُونِ أي الهوان بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم والقرآن تَسْتَكْبِرُونَ تتعظمون. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من سجد لله سجدة فقد برىء من الكبر» «4» [147] وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى هذا خبر من الله تعالى أنه يقول للكفار يوم القيامة: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى وحدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم ولا حشم. قال الحسن: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كل واحدة على حدة. وقال ابن كيسان: مفردين من المعبودين، وفُرادى جمع فردان مثل سكران وسكارى،
وكسلان وكسالى. ويقال أيضا في واحد فرد بجزم الراء وفرد بكسرها وفرد بالفتح وأفرد وجمعها أفراد مثل أحاد وفريد وفردان مثل قضيب وقضبان وكثيب وكثبان. وقرأ الأعرج: فردي بغير ألف مثل كسرى [وكسلى] كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عراة حفاة غرلا بهم وَتَرَكْتُمْ وخلفتم ما خَوَّلْناكُمْ أعطيناكم ومكنّاكم من الأموال والأولاد والخدم وَراءَ ظُهُورِكُمْ خلف ظهوركم في الدنيا. روى محمد بن كعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملئت ما بين السماء والأرض فيقول الجبار جل جلاله: [وعزّتي] وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأجساد وإنما يدخل في الخياشم كما يدخل السم في اللديغ ثم يشق عليكم الأرض وأنا أول من يشق عنه الأرض فينسلون عنهم سراعا إلى ربكم على سن ثلاثين مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ فيوقفون في موقف منه سبعين عاما حفاة عراة غرلا بهم لا يناظر إليكم فلا يقضي بينكم فتبكي الخلائق حتى ينقطع الدمع ويجف العرق» «1» [148] . وقال القرضي: قرأت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم قول الله عز وجل وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فقالت: يا رسول الله واسوتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض» «2» [149] . وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ وذلك إن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاؤهم عنده لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ. قرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، والكسائي: بَيْنَكُمْ نصبا. وقرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد: وهي قراءة أبي موسى الأشعري على معنى لقد تقطع ما بينكم وكذلك هو في قراءة عبد الله وقرأ الباقون: بالرفع على معنى لقد تقطع وصلكم فالبين من الأضداد يكفي وصلا وهجرا وأنشد: لعمرك لولا البين لا يقطع الهوى ... ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف «3» وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 إلى 99]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ أي فلق الحب عن النبات، ومخرج منها الزرع وشاق النوى عن الشجر والنخل ومخرجها منها. وقال مجاهد: يعني الشقين الذين عناهما. وقال الضحاك: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، الحب جمع الحبة وهي كل ما لم يكن لها نواة مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها. والنوى جمع النواة وهي كل ما يكون له حب مثل الخوخ والمشمش والتمر والإجاص ونحوها. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصدون عن الحق فالِقُ الْإِصْباحِ شاق عمود الصبح من ظلمة الليل وكاشفه. وقال الضحاك: خالق النهار، والأصباح مصدر كالإقبال والإدبار وهي الإضاءة. وقرأ الحسن والقيسي: فالِقُ الْإَصْباحِ بفتح الهمزة جعله جمع مثل قرص وأقراص. وجاعل الليل سكنا سكن فيه خلقه. وقرأ النخعي: فلق الأصباح وجعل الليل سكنا. وقرأ أهل الكوفة: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً على الفعل اتباعا للمصحف. وقرأ الباقون: كلاهما بالألف على الإسم. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً أي جعل الشمس والقمر بحساب لا يجاوزاه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما. وقرأ [يزيد بن قعنب] : وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بالخفض عطفا على اللفظ، والحسبان مصدر كالنقصان والرحمان وقد يكون جمع حساب مثل شهاب وشهبان، وركاب وركبان. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ أي خلقها لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ خلقكم وابتدأكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم (عليه السلام) .
فَمُسْتَقَرٌّ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: فَمُسْتَقِرٌّ بكسر القاف على الفاعل يعني فلكم مستقر. وقرأ الباقون: بفتح على معنى فلكم مستقر. واختلف المفسرون في المستقر والمستودع. فقال عبد الله بن مسعود: فَمُسْتَقَرٌّ في الرحم إلى أن يوادع مُسْتَوْدَعٌ في القبر إلى أن يبعث. وقال مقسم: مستقر حيث يأوي إليه، وَمُسْتَوْدَعٌ حيث يموت. وقال سعيد بن جبير: فَمُسْتَقَرٌّ في بطون الأمهات، وَمُسْتَوْدَعٌ في أصلاب الآباء. وقال: قال لي ابن عباس (رضي الله عنه) أتزوجت يا ابن جبير؟ فقلت: لا وما أريد ذلك بوجه. قال: فضرب ظهري وقال: إنه مع ذلك ما كان مستودع في ظهرك فسيخرج. عكرمة عن ابن عباس: المستقر الذي قد خلق واستقر في الرحم، والمستودع الذي قد استودع في الصلب مما لم يخلق بعد وهو خالقه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المستقر في الرحم، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب. مجاهد: فَمُسْتَقَرٌّ على ظهر الأرض في الدنيا. وَمُسْتَوْدَعٌ عند الله تعالى في الآخرة. وقال أبو العالية: مُسْتَقَرَّها أيام حياتها، وَمُسْتَوْدَعَها حيث تموت وحيث يبعث. وقال كرب: دعاني ابن عباس (رضي الله عنه) فقال: اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من عبد الله بن عباس إلى فلان حبر تيماء، أما بعد فحدثني عن مستقر وَمُسْتَوْدَعٌ. قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي فأعطيته إياه، فقال: مرحبا بكتاب خليلي من المسلمين فذهب إلى بيته ففتح أسفاطا له كثيرة فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال: قلت له: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود، حتى أخرج سفر موسى فنظر إليه مرتين فقال: مستقر في الرحم ومستقر فوق الأرض ومستقر تحت الأرض ومستقر حيث يصير إلى الجنة أو إلى النار، ثم قرأ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ. وقرأ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «1» . فقرأ الحسن: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق، بصاحبك وأنشد قول لبيد: وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع «2»
وقال سليمان بن يزيد العدوي في هذا المعنى: فجمع الأحبة بالأحبة قبلنا ... فالناس مفجوع به ومفجع ومستودع أو مستقر مدخلا ... فالمستقر يزوره المستودع «1» قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ من الماء، وقيل: من النبات خَضِراً يعني أخضر، وهو رطب البقول، يقول: هو لك خضرا مظرا أي هنيئا مريئا. وقال نخلة: خضيرة: إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج، وقد اختضر الرجل واغتضر إذا مات شابا مصححا «2» وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها أي ثمرها [وكثيرا منها] وما يطلع منها قِنْوانٌ جمع قنو وهو العذق مثل صنو وصنوان. قال أبو عبيدة: [ولا ضير بهذا الكلام] . وقرأ الأعرج: قُنْوانٌ بضم القاف، وهي لغة قيس، مثل قضبان. ولغة تميم: قنيان. وجمعه القليل أقنا مثل حنو وأحنا، دانِيَةٌ قريبة ينالها القائم والقاعد. وقال مجاهد: متدلّية. وقال قتادة: متهدّلة «3» . وقال الضحاك قصار ملتزقة بالأرض «4» . ومعنى الآية ومن النخل قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة فاكتفى بالقريبة عن البعيدة كقوله تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «5» والبرد وَجَنَّاتٍ يعني وأخرجنا منه جنات. وقرأ يحيى بن يعمر والأعمش وعاصم: وَجَنَّاتٌ رفعا نسقيا على قِنْوانٌ لفظا وإن لم يكن في المعنى من جنسها مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ يعني وشجر الزيتون والرمان، فاكتفى بالتمر عن الشجر كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ قتادة: متشابه ورقه يختلف بثمره، وقيل: مُشْتَبِهاً في المنظر غَيْرَ مُتَشابِهٍ في المطعم. وقال الحسن: الفعل منها ما يشبه بعضه بعضا ومنها ما يخالف، وقيل: مُشْتَبِهاً في الخلقة من منشأه من الحكمة انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ. قرأ أهل الكوفة: بضم الثاء والميم على جمع الثمار. وقرأ الباقون بفتحهما على جمع الثمرة مثل بعر ووبر إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ نضجه وإدراكه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 إلى 107]
وقرأ أبو رجاء ومحمد بن السميقع: ويانعه بالألف على الإسم إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَجَعَلُوا يعني الكافرين لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ يعني وجعلوا لله الجن شركاء، وإن شئت نصبته على التفسير «1» وَخَلَقَهُمْ يعني وهو خلقهم وخلق الجن. وقرأ يحيى بن معمر: وَخَلْقَهُمْ بسكون اللام وفتح القاف أراد إفكهم وادّعاءهم ما يعبدون من الأصنام حيث جعلوها شركاء لله عز وجل يعني وجعلوا له خلقهم. وقرأ يحيى بن وثاب: وَخَلْقِهِمْ بسكون اللام وكسر القاف، يعني جعلوا لله شركاء ولخلقهم أشركوهم مع الله في خلقه إياهم. وقال الكلبي: نزلت في الزنادقة قالوا: إن الله وإبليس شريكان، والله خالق النور والناس والدواب والأنعام. وإبليس خالق الظلمة والسباع والعقارب والحيّات، وهذا كقوله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً يعني في الجنة، وهم صنف من الملائكة خزان الجنان أشق لهم منهم صنف من الجن وَخَرَقُوا أي اختلفوا وخرصوا. وقرأ أهل المدينة: بكثرته وخرّقوا على التكثير لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وهم كفار مكة، قالوا: الملائكة والأصنام بنات الله. واليهود قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. والنصارى قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ثم نزّه نفسه. وقال تعالى سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ زوجة وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إلى قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أجراه بعضهم على العموم فقال: معناه لا تحيط به الأبصار بل تراه وهو يحيط بها «2» .
قال الله عز وجل وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً فكما تعرفه في الدنيا لا كالمعروفين فكذلك تراه في العقبى لا كالمرئيين. قالوا: وقد ترى الشيء ولا تدركه كما أخبر الله تعالى عن قول أصحاب موسى (عليه السلام) حين قرب منهم فرعون إِنَّا لَمُدْرَكُونَ وكان قوم فرعون قد رأوا قوم موسى ولم يدركوهم لأن الله تعالى قد وعد نبيه موسى (عليه السلام) إنهم لا يدركون بقوله لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى. وكذلك قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار. وقال عطاء: كلّت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به. وقال الحسن: لا تقع عليه الأبصار ولا تدلّ عليه العقول ولا يدركه الإذعان. يدلّ عليه ما روى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ. قال: لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله «1» أبدا. وأجراه بعضهم على النصوص. قال ابن عباس ومقاتل: معناه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ في الدنيا وهو يرى في الآخرة وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ... لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ ولا يفوته. وقيل: معناه لا تدركه أبصار الكافرين، فأما المؤمنون فيرونه، والله أعلم وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. قال أبو العالية: لطيف باستخراج الأشياء خبير بها. وقال أكثر العلماء في معنى اللطيف. فقال الجنيد: اللَّطِيفُ: من نوّر قلبك بالهدى وربي جسمك بالغدا، وجعل لك الولاية في البلوى ويحرسك من لظى ويدخلك جنة المأوى. وقيل: اللَّطِيفُ الذي أنسى العباد ذنوبهم لئلّا يخجلوا. وقيل: الذي ركّب من النطفة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ وقيل: هو الذي يستقل الكثير من نعمه ويستكثر القليل من طاعة عباده. قتادة: وقيل: اللَّطِيفُ الذي يغير ولا يغير. وقيل: اللَّطِيفُ الذي إن رجوته لبّاك وأن قصدته آواك، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافاك، وإن عصيته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك، وإن أقبلت إليه عداك. وقيل: اللَّطِيفُ: الذي لا يطلب من الأحباب الأحساب والأنساب. وقيل: اللَّطِيفُ: الذي يغني المفتقر إليه ويعز المفتخر به. وقيل: اللَّطِيفُ: من يكافي الوافي ويعفو عن الباقي. وقيل: اللَّطِيفُ: من أمره تقريب ونهيه تأريب.
وقيل: اللَّطِيفُ: الذي يكون عطاؤه خير ومنعه ذخيرة. وأصل اللطيف دقة النظر في جميع الأشياء قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ يعني الحجج البينة التي يبصرون بها الهدى من الضلال والحق من الباطل. قال الكلبي: يعني بينات القرآن. فَمَنْ أَبْصَرَ يعني عرفها وآمن بها فَلِنَفْسِهِ عمل وحظه أصاب وإياها بغى الخير «1» وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها عنها فلم يعرفها ولم يصدقها. وقرأ طلحة بن مصرف: ومن عمّي بضم العين وتشديد الميم على المفعول التي تدل عليها، يقول: فنفسه ضر وإليها أساء لا إلى غيره وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ رقيب أحصي إليكم أعمالكم وإنما أنا رسول أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شيء من أفعالكم وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نبينها في كل وجه لندعوكم بها وَلِيَقُولُوا وليلا يقولوا إذا قرأت عليهم القرآن دَرَسْتَ أي تلوت وقرأت يا محمد بغير ألف قرأه جماعة منهم أبي رجاء وأبي وائل والأعرج ومعظم أهل العراق وأهل الحجاز، وكان عبد الله بن الزبير يقول: إن صبيانا يقرءونها دارست بالألف وإنما هي دَرَسْتَ. وقرأ علي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: دارست بالألف يعني قارأت أهل الكتاب وتعلمت منهم تقرأ عليهم يقرءوا عليك. وقال ابن عباس: يعني جادلت وخاصمت، وكذلك كان يقرأها، وقرأ قتادة: دُرِسَتْ بمعنى قرئت وتليت. وقرأ الحسن وابن عامر ويعقوب: دَرَسَتْ بفتح الدال والراء وجزم التاء بمعنى تقادمت وانمحت وقرأ ابن مسعود وأبي طلحة والأعمش: دَرَسَ بفتحها يعنون النبي درس الآيات وَلِنُبَيِّنَهُ يعني القول والتحريف والقرآن لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اتَّبِعْ يا محمد ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني القرآن اعمل به لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تجادلهم ولا تعاقبهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا. ويقال ربا. قال عطاء: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تمنعهم مني وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ والإعراض منسوخ بآية السيف. وهذه الآية نزلت حين قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إلى دين آبائك.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 108 إلى 113]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» . قال المشركون: يا محمد لتنتهينّ عن سبّ الهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم. قال قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فنهاهم الله عن ذلك كيلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة. وقال السدي: لما حضرت أبا طالب الوفاة، قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ولنأمرنّه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فيقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحرث، وأمية وأبي بن أخلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البحتري، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى الهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر الهتنا ولندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلّم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما يريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك» «2» [150] . قال: قد أنصف قومك، فاقبل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم «أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم» «3» [151] . قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرا أمثالها فما هي؟ قال: قولوا: لا إله إلّا الله، فأبوا واشمأزّوا.
وقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي، فإن قومك قد فزعوا منها. فقال: «يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها» «1» [152] . فقالوا: لتكفّنّ عن شتمك آلهتنا أو لنشتمن من يأمرك. فأنزل الله تعالى وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً. وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة ويعقوب: عُدُوّا بضم العين والدال وتشديد الواو أي أعداء الله. بِغَيْرِ عِلْمٍ فلما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأصحابه «لا تسبوا ربهم» [153] فأمسك المسلمون عن سبّ آلهتهم. وكَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ يعني كما زيّنا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، الحرمان والخذلان كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ من الخير والشر والطاعة والمعصية ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ يخبرهم ويجازيهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ. قال محمد بن كعب القرضي والكلبي: قالت قريش: يا محمد تخبرنا بأن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أي شيء تحبون أن آتيكم به؟» . قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، وأرنا الملائكة يشهدون لك أو ائتنا بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لئن فعلت بعض ما تقولون تصدقوني» [154] قالوا: نعم والله لئن فعلت نتبعك أجمعين. وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهبا، فجاء جبرئيل عليه السلام فقال له: إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم فإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «بل يتوب تائبهم» «2» فأنزل الله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني أوكد ما قدروا عليه من الإيمان وحدها. قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله سبحانه فهو جهد بيمينه. لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ كما جاء من قبلهم من أمم لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ يا محمد إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وهو القادر على
إتيانها دوني ودون كل من خلقه. ثم قال وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم فحذف المفعول وما أدريكم، واختلفوا في المخاطبين، بقوله وَما يُشْعِرُكُمْ حسب اختلافهم في قراءة قوله أَنَّها. فقال بعضهم: إن الخطاب للمشركين الذين أقسموا وتمّ الكلام عند قوله وَما يُشْعِرُكُمْ، ثم استأنف، فقال: أَنَّها يعني الآيات إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون. وقرءوا: إنها بالكسر على الابتداء، وهو في قراءة مجاهد وقتادة وابن محيصن وابن كثير وشبل وأبي عمر والجحدري. وقال آخرون: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه وقرءوا: أَنَّها بالفتح وجعلوا «لا» صلة يعني وما يدريكم يا معشر المؤمنين أَنَّها إِذا جاءَتْ المشركين لا يُؤْمِنُونَ كقوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1» يعني: أن تسجد، وقوله وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «2» يعني إنهم يرجعون. وقيل: معنى إنها: لعلها وكذلك هي قراءة أبيّ، تقول العرب: اذهب إلى السوق إنك تشتري شيئا بمعنى لعلك تمر. وقال عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد «3» يعنى: لعلّ منيّتي. وقال دريد بن الصمة: ذريني أطوف في البلاد لأنّني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا «4» يعني: لعلّني. وقال أبو النجم: قلت لسينان أدن من لقائه ... إنا نغدي القوم من سرائه «5» أي ثعلبا تغدي. وقرأ ابن عامر والسدي وحمزة: لا تؤمنون بالتاء على [حساب] الكفار وَما يُشْعِرُكُمْ، واعتبر بقراءة أبيّ: لعلكم إذا جاءكم لا يؤمنون.
وقرأ الباقون: بالياء على الخبر وتصديقها قراءة الأعمش إنّها إذا جاءتهم لا يؤمنون وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. قال ابن عباس وابن زيد: يعني نحول بينه وبين الإيمان. ولو جئناهم بالآيات التي سألوا ما آمنوا بها كما لم يؤمنوا بالتي قبلها مثل انشقاق القمر وغيره عقوبة لهم على ذلك. وقيل: كما لم يؤمنوا به في الدنيا قبل مماتهم. نظيره قوله تعالى وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» وَنَذَرُهُمْ قرأ أبو رجاء: ويذرهم بالياء. وقرأ النخعي: ويقلب ويذرهم كلاهما بالياء فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ فرأوهم عيانا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا وَحَشَرْنا وجمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا بكسر القاف وفتح الباء أي معاينة وهي قراءة أكثر القراء، قرأ أبو جعفر: التي في الأنعام قبلا بالكسر والتي في الكهف قُبُلًا عيانا بالضم. أبو عمرو بالنصب وكذلك اختار أبو عبيد وأبو حاتم لأنها في قراءة أبيّ قبيلا بجمعها القبل. والتي في الكهف قُبُلًا يعني عيانا. وقرأ أهل الكوفة: بضم القاف والباء، ولها ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون جمع قبيل وهو الكفيل أي ضمنا وكفلا. والقبالة الكفالة، يقال: قبيل وقبل مثل رغيف ورغف، وقضيب وقضب. والثاني: جمع قبيل هو القبيلة يعني فوجا فوجا وصنفا صنفا. والثالث: أن يكون بمعنى المقابلة والمواجهة من قول القائل: أتيتك قبلا لا دبرا إذا أتاه من قبل وجهه ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ذلك لهم. وقيل: الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ إن ذلك كذلك وَكَذلِكَ جَعَلْنا يعزي نبيه صلى الله عليه وسلّم يعني كما أتيناك بهؤلاء القوم وكذلك جعلنا لِكُلِّ نَبِيٍّ قبلك عَدُوًّا أعداء وفسّرهم فقال شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. عكرمة والضحاك والسدي والكلبي: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس وشياطين الجن التي مع الجن وليس للإنس شياطين. وذلك أن إبليس قسم جنده فريقين، بعث منهم فريقا إلى الإنس وفريقا إلى الجن، شياطين الإنس والجن فهم ملتقون في كل حين، فيقول شيطان الإنس لشيطان الجن أضللت صاحبي بكذا فاضل صاحبك بمثله، ويقول شيطان الجن لشيطان الإنس كذلك فذلك يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ. وقال آخرون: إنّ من الإنس شياطين ومن الجن شياطين، والشيطان: العاتي المتمرّد من كل شيء.
قالوا: إن الشيطان إذا أغوى المؤمن وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان من الإنس فأغراه المؤمن. قال أبو طلحة ما روى عوف بن مالك عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن» «1» [155] قال: يا رسول الله فهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم هو شر من شياطين الجن. وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلّا وقد وكّل قرينه من الجن» قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن الله قد أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلّا بخير» «2» [156] . وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد من شيطان الجن وذلك إني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يحبني فيجرني إلى المعاصي عيانا يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي يلقي زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وهو القول المموّه والمزيّن بالباطل، وكل شيء حسّنته وزينته فقد زخرفته ثم وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغى أي ولكي تميل. وقال ابن عباس: ترجع يقال: صغى يصغى صغا وصغى يصغى ويصغو صغوا وصغوا إذا مال. قال الفطامي: أصغت إليه هجائن بحدودها ... آذانهن تلى الحداة السوق «3» ترى عينها صغواء في جنب ماقها ... تراقب كفي والقطيع المحرما «4» 1 إِلَيْهِ يعني إلى الزخرف والغرور، ويقال: صغو فلان معك، وصغاه معك أي ميله وهواه. وقرأ النجعي: وَلِتُصْغى بضم التاء وكسر الغين أي تميل، والإصغاء الإمالة. ومنه الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصغي الإناء للهرة. أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الأفئدة جمع الفؤاد مثل غراب وأغربة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي وليكتسبوا ما هم مكتسبون.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 114 إلى 119]
وقال ابن زيد: وليعملوا ما هم عاملون «1» . يقال: اقترف فلان مالا أي اكتسبه، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله، قال الله تعالى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً «2» . قال لبيد: وإني لآتي ما أتيت وإنني ... لما اقترفت نفسي عليّ لراهب «3» وقيل: هو من التهمة يقال: قرفه بسوء إذا اتهمه به. قال رؤبة: أعيا اقتراف الكذب المقروف ... تقوى التقيّ وعفّة العفيف «4» قوله تعالى أَفَغَيْرَ اللَّهِ فيه إضمار أي قل لهم يا محمد أفغير الله أَبْتَغِي حَكَماً قاضيا بيني وبينكم، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا مبيّنا يعني وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني التوراة والإنجيل وهم مؤمنو أهل الكتاب. قال عطاء: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي وأتباعهم رضي الله عنهم والكتاب هو القرآن. يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يعني القرآن مُنَزَّلٌ. قرأ الحسن والأعمش وأبي عامر: وخص بالتشديد من التنزيل لأنه أنزل نجوما مرة بعد مرة. وقرأ الباقون: بالتخفيف من الإنزال لقوله عز وجل يعني أنزل إليكم الكتاب
مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قرأ أهل الكوفة كَلِمَةُ: على الواحد والباقون: كلمات على الجمع، واختلفوا في الكلمات. فقال قتادة: هي القرآن لا مبدل له لا يزيد المفترون ولا ينقصون. وقال بعضهم: هي أقضيته وعدالته لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا مغير لها وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعني الكفار يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دين الله ثم قال إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ. قال بعضهم: موضع من نصب لأنّه ينزع الخافض وهو حرف الصفة أي بمن. وقيل: موضعه رفع لأنه بمعنى أي والرافع ليضل. وقيل: محله نصب لوقوع العلم عليه وأعلم بمعنى يعلم كقول حاتم الطائي: فحالفت طيء من دوننا حلفا ... والله أعلم ما كنا لهم خذلا «1» وقالت الخنساء: القوم أعلم أن جفنته ... تغدو غداة الريح أو تسري «2» وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. قال ابن عباس: قال المشركون للمؤمنين: أنكم تعبدون الله فما قبل الله لكم الحق الحق أن تأكلوا مما قتلتم بسكاكينكم فنزل الله فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقت الذبح يعني المذكاة بسم الله إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا وما يمنعكم أن لا تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ من الذبائح وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. قرأ الحسن وأبو رجاء [الأعرج] وقتادة والجبائي وطلحة ومجاهد وحميد وأهل المدينة: بالفتح فهما على معنى فصل الله ما حرمه عليكم لقوله اسْمُ اللَّهِ جرى ذكره تعالى. وقرأ محمد بن عامر وأبو عمرو: بضمهما على غير تسمية الفاعل لقوله ذُكِرَ. وقرأ أصحاب عبد الله وأهل الكوفة: فَصَّلَ بالفتح يحرم بالضم. وقرأ عطية العوفي فَصَلَ مفتوحا خفيفا بمعنى قطع الحكم فيما حرم عليكم وهو ما ذكر في سورة المائدة قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ «3» الآية إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ من هذه الأشياء فإنه حلال لكم عند الاضطرار ثم قال وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ قرأ الحسن وأهل الكوفة: بضم الياء كقوله: يُضِلُّوكَ.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 120 إلى 126]
وقرأ الباقون: بالفتح كقوله: مَنْ يَضِلُّ ومَنْ ضَلَّ ... بِأَهْوائِهِمْ بمرادهم بِغَيْرِ عِلْمٍ حين دعوا إلى أكل الميتة إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين من الحلال إلى الحرام. وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يعني الذنوب كلها لا يخلو من هذين الوجهين. واختلفوا فيها فقال قتادة: سرّه وعلانيته، عطاء: قليله وكثيره. ومجاهد: ما ينوي وما هو عامله. الكلبي: ظاهِرَ الْإِثْمِ الزنا وَباطِنَهُ المخالة. السدي: الزواني الذي في الحوانيت وهو بيت أصحاب الرايات وَباطِنَهُ الصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرّا «1» . وقال مرّة الهمذاني: كانت العرب تجوز الزنا وكان الشريف إن يزني يستر ذلك وغيره لا يبالي إذا زنا ومتى زنا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الضحاك: كان أهل الجاهلية يسترون الزنا ويرون ذلك حلالا ما كان سرّا، فحرم الله تعالى لهذه الأمة السرّ منه والعلانية. وروى حيان عن الكلبي: ظاهِرَ الْإِثْمِ طواف الرجال بالنهار عراة وَباطِنَهُ طواف النساء بالليل عراة. وقال سعيد بن جبير: الظاهر ما حرم الله تعالى بقوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ «2» وقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «3» الآية والباطن منه الزنا. وقال ابن زيد: ظاهِرَ الْإِثْمِ التعرّي والتجرّد من الثياب في الطواف والباطن الزنا.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ في الآخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ بما يكسبون في الآخرة وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فاقد [التسمية] ولم يدرك ذكاته أو ذبح لغير الله وَإِنَّهُ يعني الأكل لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ من المشركين لِيُجادِلُوكُمْ. وذلك إن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال: الله قتلها. وقالوا: فتزعم إن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال عكرمة: معناه ولي الشياطين يعني مردة المجوس لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ من مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وذلك أن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش. وكانت بينهم مكاتبة. إن محمدا وأصحابه يزعمون إنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون إن ما ذبحوا فهو حلال، وما ذبحه الله فهو حرام ولا يأكلونه، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في أكل الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قوله تعالى أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ هو ألف الاستفهام والتقدير دخلت على واو النسق فبقيت على فتحها يعني أومن كان كافرا ميتا بالضلالة فهديناه واجتبيناه بالإيمان وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يستضيء به ويَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ على قصد السبيل ومنهج الطريق. قال ابن زيد: يعني بهذا النور الإسلام نيابة قوله يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. وقال قتادة: هذا المؤمن معه من الله نورا وبينة يعمل بها ويأخذ وإليها ينتهي كتاب الله كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ. قال بعضهم: المثل زائد تقديره كمن في الظلمات. وقال بعضهم: معناه كن أو شبه بشيء كان يشبهه من في الظلمات من ظلمة الكفر والجهل والضلالة والمسير. لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها لا يبصر شيئا ولا يعرف طريقا كالذي ضل طريقه في ظلمة الليل فهو لا يجد مخرجا ولا يهتدي طريقا. وقيل: إن هذه الآية نزلت في رجلين بأعيانهما، ثم اختلفوا فيهما. فقال ابن عباس: أَوَمَنْ كانَ [مَيْتاً] فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. يريد حمزة بن عبد المطلب كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها. أبو جهل، وذلك إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلّم بالحجارة وحمزة لم يؤمن بعد فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل، وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع كعبد مسكين يقول: يا با يعلى أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف أبانا.
فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلّا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الضحاك [ويمان] : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل. قال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل. كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعصية وَكَذلِكَ أي وكما زيّنا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا. وقيل: وكما جعلنا فسّاق مكة أكابرها كذلك جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ يعني عظماء، جمع أكبر مثل أفضل وأحمر وأحامر وأسود وأساود مُجْرِمِيها إن شئت نصبته على التقديم تقديره وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، كما تقول: جعلت زيدا رئيسها وإن شئت خفضته على الإضافة لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وبال مكرهم وجزاءه راجع إليهم وَما يَشْعُرُونَ إنه كذلك وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من النبوة، وذلك إن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال: زاحمنا عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه وأنزل الله تعالى وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ حجة على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم وصحت نبوته. قالُوا: يعني أبو جهل. قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ يعني محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فخص بها محمدا صلى الله عليه وسلّم سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ذل وهوان عِنْدَ اللَّهِ أي من عند الله نصب بنزع حرف الصفة. قال النحاس: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ على التقديم والتأخير وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ. وقال أبو روق: صغار في الدنيا وهذا العذاب في الآخرة. فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أي يوسّع عقله أو ينوّره ليقبل الإسلام فأنزل الله تعالى هذه الآية. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن شرح الصدر ما هو؟ قال: «نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح» [157] قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت «1» .
وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً قرأ ابن كثير: ضيْقا بالتخفيف. والباقون: بالتشديد وهي لغتان مثل هين وهيّن، ولين وليّن، حَرَجاً كسر أهل المدينة، راءه وفتحها الباقون وهما لغتان مثل الأنف والأنف، والفرد والفرد، والوعد والوعد. وقال سيبويه: الحرج بالفتح المصدر كالصلب والحلب ومعناه ذا حرج، والحرج بالكسر الإسم وهو أشد الضيق، يعني قلبه ضيقا لا يدخله الإيمان. وقيل: أثيما لقول العرب: حرج عليك ضلمي أي ضيق وأثم. وقال السدي: حرجها شاكا. وقال قتادة: ملتبسا. وقال النضر بن شميل: ملقا. وقال ليس للخير فيه منفذ. وقال عبيد بن عمير. قرأ ابن عباس: هذه الآية، فقال: هل هاهنا أحد من بني بكر؟ فقال. رجل: نعم، قال: ما الحرج فيكم؟ قال: الوادي الكثير الشجر المتمسك الذي لا طريق فيه. قال ابن عباس: كذلك قلب الكافر. وقال أبو الصلت الثقفي وعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : هذه الآية ضَيِّقاً حَرَجاً بنصب الراء. وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حَرِجاً بالكسر. فقال عمر: ابعثوا إلى رجل من كنانة وجعلوه راعيا فأتوه به فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال الحرجة فينا الشجرة التي تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء. فقال عمر (رضي الله عنه) : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ يعني يشق عليه الإيمان، ويمتنع ويعجز عنه كما يشق عليه صعود السماء. واختلف القراء في ذلك، فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وحمزة والكسائي: يَصَّعَّدُ بتشديد الصاد والعين بغير ألف أي يصعد فأدغمت التاء في الصاد. فاختاره أبو حاتم وأبو عبيد [اعتزازا] بقراءة عبد الله كأنما يتصعد في السماء. وقرأ طلحة وعاصم وأبو عبيد والنخعي ومجاهد: بالألف مشددا بمعنى تصاعد «1» . وقرأ ابن كيسان وابن [محيصن] ، والأعرج وأبو رجاء: يَصْعُدُ حقيقة «2» . كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ قال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. ابن زيد: الرجس العذاب مثل الرجز. وقال ابن عباس: هو الشيطان الذي يسلطه عليه. وقال الكلبي: هو المأثم، وقيل: هو النجس. ويقال: رجس رجاسة ونجس نجاسة «3» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 127 إلى 132]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من نجس منجس الخبث المخبث الشيطان الرجيم» «1» [158] . وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً أي هذا الذي بيّنا طريق ربّك والذي ارتضاه لنفسه دينا وجعله مستقيما لا عوج فيه وهو الإسلام. وقال ابن مسعود: هو القرآن. وقال: إن الصراط محتضر يحضره الشياطين ينادون: يا عبد الله هلم هذا الطريق لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ف اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وهو كتاب الله قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني الجنة في الآخرة. قال أكثر المفسرين: السلام هو الله عز وجل وداره الجنة. وقيل: سميت الجنة دارُ السَّلامِ لسلامتها من الآفات والعاهات. وقيل: لأن من دخلها سلّم من البلايا والرزايا أجمع. وقيل: لأنها سلمت من دخول أعداء الله كيلا ينتغص أولياء الله فيها كما ينغّص مجاورتهم في الدنيا. وقيل: سميت بذلك لأن كل حالة من حالات أهلها مقرونة بالسلام فاما ابتداء دخولها فقوله ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وبعد ذلك قوله وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ الآية. وبعده قوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وبعده قوله لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً «2» وقوله لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «3» وبعده قوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «4»
وبعد ذلك سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «1» . فلما كان حالات أهل الجنة مقرونة بالسلام إما من الخلق وإما من الحق سمّاها الله دار السلام وَهُوَ وَلِيُّهُمْ ناصرهم ومعينهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. قال الحسن بن الفضل: يعني يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الجن والإنس يجمعهم في يوم القيامة فيقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي من إضلال الناس وإغوائهم وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ. قال الكلبي: استمتاع الإنس بالجن. هو أن الرجل إذا سافر أو خرج فمشى بأرض قفر أو أصاب صيدا من صيدهم فخاف على نفسه منهم. فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيثبت جواز منهم، واستمتاع الجن بالإنس هو أن قالوا: قد سدنا الإنس مع الجن حتى عاذوا بنا فيزدادون شرفا في قومهم وعظما في قومهم وهذا معنى قوله تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ. الآية. وقال محمد بن كعب وعبد العزيز بن يحيى: هو طاعة بعضهم بعضا وموافقة بعضهم بعضا وقيل: استمتاع الإنس بالجن بما كانوا يأتون إليهم. من الأراجيف والسحر والكهانة، فاستمتاع الجن بالإنس إغراء الجن الإنس واتباع الإنس إياهم وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعني الموت والبعث. قال الله تعالى قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ يعني قدّر مدة ما بين بعثهم إلى دخولهم جهنم. قال ابن عباس: هذا الاستثناء هو أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه لا يولهم جنة ولا نارا. وقال الكلبي: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وكان ما شاء الله أبدا. وقيل: معناه النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها سوى ما شاءَ اللَّهُ من أنواع العذاب وقيل: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من إخراج أهل التوحيد من النار. وقيل: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يزيدهم من العذاب فيها. وقيل: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من كونهم في الدنيا بغير عذاب. وقال عطاء: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من الحق في عمله أن يؤمن فمنهم من آمن من قبل الفتح ومنهم من آمن من بعد الفتح.
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. روي عن قتادة: يجعل بعضهم أولياء بعض. والمؤمن ولي المؤمن والكافر ولي الكافر حيث كان. وروى معمر عن قتادة: تبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة. وقيل: معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن ونولي ظلمة الجن ظلمة الإنس، يعني نكل بعضهم إلى بعض كقوله نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى. قال ابن زيد: نسلط بعضهم على بعض. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلّم: «من أعان ظالما سلّطه الله عليه» «1» [159] . وقال مالك بن دينار: قرأت في كتب الله المنزلة: إن الله تعالى قال: أفني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي. وروى حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: تفسيرها: هو أن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم. وفي الخبر: يقول الله: إني أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا مالك الملوك قلوبهم ونواصيهم فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك ولكن توبوا إلى الله تعالى يعطفهم عليكم. مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ. قال الأعرج وابن أبي إسحاق: تأتكم بالتاء كقوله: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ. قرأ الباقون: بالياء كقوله تعالى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قُصُّونَ يقرءون لَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وهو يوم القيامة. واختلف العلماء في الجن هل أرسل إليهم رسول أم لا؟ فقال عبيد بن سليمان: سئل الضحاك عن الجن هل كان فيهم مؤمن قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلّم؟ فقال: ألم تسمع قوله تعالى: مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يعني بذلك رسلا من الإنس ورسلا من الجن. قال الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلّم يبعثون إلى الجن والإنس جميعا. قال مجاهد: الرسل من الإنس. والنذير من الجن ثم قرأ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قال ابن عباس: هم الذين استمعوا القرآن وأبلغوه قومهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 إلى 140]
وقال أهل المعاني: لم يكن من الجن رسول وإنما الرسل من الإنس خاصة وهذا كقوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» وإنما يخرج من المالح دون العذب. وقوله يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ «2» وهي أيام العشر وإنما الذبح في يوم واحد من العشر فهو يوم النحر. وقوله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «3» وإنما هو في سماء واحدةالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا أقروا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ أي بشرك من أشرك وَأَهْلُها غافِلُونَ حتى يبعث إليهم رسلا ينذرونهم. وقيل: معناه: لم يكن ليهلكهم دون البينة والتذكير بالرسل والآيات فيكون قد ظلمهم وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا يعني بالثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا منهم من هو أشد عذابا ومنهم من هو أجزل ثوابا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ بعلمه ذُو الرَّحْمَةِ بهم إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ثم يميتكم ويهلككم وَيَسْتَخْلِفْ يخلق مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ خلقا غيركم أمثل وأطوع منكم. وقال عطاء: يريد الصحابة والتابعين كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ قرنا بعد قرن، وقال مقاتل: يعني أهل سفينة نوح. وقرأ زيد بن ثابت: ذِرِّيَّةِ بكسر الذال مشدّدة.
وقال أبان بن عثمان: ذَرِيَّةِ بفتح الذال وكسر الراء خفيفة على قدر فعله، الباقون: بضم الذال مشددة، وهي لغات صحيحة. وقال ثعلب: الذرية بالكسر الأصل، والذرية بالضم الولد إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ لجائي كائن وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين سابقين أي حيث كنتم يدرككم. والإعجاز أن يأتي بالشيء يعجز عنه خصمه ويقصر دونه فيكون قد قهره وجعله عاجزا عنه قُلْ يا محمد لهم يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ. قال ابن عباس: على ناحيتكم. قال ابن زيد: على حيالكم. يمان: على مذاهبكم. عطاء: على حالتكم التي أنتم عليها. مقاتل: على جديلتكم. مجاهد: على وتيرتكم. الكلبي: على منازلكم. وقيل: اعملوا ما أمكنكم. قرأ السلمي وعاصم: مكاناتكم على الجمع في كل القرآن. إِنِّي عامِلٌ يقول اعملوا ما أنتم عاملون فإني عامل ما أمرني ربي، وهذا أمر وعيد وتهديد لا أمر إباحة وإطلاق كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ. «1» وقال الكلبي: معناه اعملوا ما أمكنكم من أمري فإني عامل في أموركم بإهلاك. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ قرأ مجاهد وأهل الكوفة: يكون بالياء، الباقون: بالتاء، لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعني الجنة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يأمن الكافرون. قال عطاء: لا يبعد. وقال الضحاك: لا يفوز. وقال عكرمة: لا يبقى في الثواب. وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً. قال المفسرون: كانوا يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا وللأوثان نصيبا فما كان للصنم أنفق عليه، وما كان لله أطعم الضيفان والمساكين ولا يأكلون من ذلك كله شيئا فما سقط مما جعلوا لله في نصيب الأوثان تركوه. وقالوا: إن الله غني عن هذا، وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله التقطوه فردوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير. وكانوا إذا بذروا ما وقع من بذر الله في حصة الصنم تركوه، وما وقع من حصّة الصنم في حصّة الله تعالى ردوه وان انفجر من سقي ماء جعلوه للشيطان في نصيب الله، شدّوه، وإن انفجر من سقي ماء جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه. فإذا هلك الذي سموا لشركائهم أو أجدب وكثر الذي لله، قالوا: ليس لآلهتنا بدّ من نفقة فأخذوا الذي لله وأنفقوا على الهتهم فإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لآلهتهم قالوا: لو شاء الله لأزكى الذي له فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة فإذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزوا منه ووفروا بما يجزون لشركائهم وذلك قوله تعالى مما ذَرَأَ مِنَ
الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً أي مما خلف من الحرث والأنعام نصيبا، وفيه إضمار واختصار مجازه: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ. يحيى بن رئاب والسلمي والأعمش والكسائي: بالضم. وقرأ الباقون: بالفتح. وهما لغتان وهو القول من غير حقيقة. سمعت الحسين يقول: سمعت العنبري عن أبي العباس الأزهري عن أبي حاتم إنه قال: قال شريح القاضي: إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، والزعم أيضا في الطمع وَهذا لِشُرَكائِنا يعني الأوثان فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس ما كانوا يقضون وَكَذلِكَ زَيَّنَ أي كما زين لهم تحريم الحرث والأنعام كذلك زين لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ (ساء) موضع فرفع والمعنى: ساء الحكم حكمهم شُرَكاؤُهُمْ يعني شياطينهم زيّنوا وحسّنوا لهم وأد البنات خيفة العيلة. وقال الكلبي: شركاؤهم سدنة الهتهم هم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم. وكان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا غلاما لينحرنّ أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله «1» . وقرأ أهل الشام: زين بالضم، قتل: رفع، أولادهم نصب، شركائهم بالخفض على التقديم، كأنه قال: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم. ففرّقوا بين الفعل وفاعله. يقول الشاعر: يمر على ما يستمر وقد شقت ... غلائل غير نفس صدورها يريد شقت. عبد القيس: غلائل صدورها. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: زُين بضم الزاي قتلُ رفعا، أَوْلادِهِمْ خفضا، شُرَكاؤُهُمْ رفعا على [التوضيم] «2» والتكرير. كأنه لما قال: زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم. تم الكلام. ثم قال: من زيّنه؟ فقال: شركاؤهم أي زيّنه شركاؤهم فارتفع الشركاء بفعل ضمير دلّ عليه زين، كما تقول: أكل اللحم زيد: كأنه قيل: من الآكل فتقول زيد.
قال الشاعر: ليبك لزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح «1» فزيد مفعول مستقل بنفسه غير مسمّى فاعله، ثم بيّن فقال: ضارع. أي ليبكيه ضارع، وقوله تعالى لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم وَلِيَلْبِسُوا أي ليخلطوا ويشبهوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هداهم ووفقهم وعصمهم عن ما فَعَلُوهُ ذلك من تحريم الأنعام والحرث، وقيل: الأولاد فَذَرْهُمْ يا محمد وَما يَفْتَرُونَ يختلقون على الله الكذب فإن الله لهم بالمرصاد ولا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وَقالُوا يعني المشركين هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ يعني ما كانوا جعلوه لله ولآلهتهم التي قد مضى ذكرها «2» . وقال مجاهد: يعني بالأنعام، البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والحجر: الحرام. قال الله تعالى ويقولون حِجْراً مَحْجُوراً «3» أي حراما حرما. قال الليث: حنّت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس «4» وأصله من الحجر وهو المنع والحظر، ومنه: حجر القاضي على المفسد. وقرأ الحسن وقتادة: وحرث حُجر بضم الحاء وهما لغتان. وقرأ أبي بن كعب وابن عباس وابن الزبير وأبي طلحة والأعمش: وحرث حرج بكسر الحاء والراء قبل الجيم وهي لغة أيضا مثل جذب وجبذ. وأنشد أبو عمرو: ألم تقتلوا الحرجين إذ أعرضا لكم ... يمران بالأيدي اللحاء المضفرا «5» لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ يعنون الرجال دون النساء وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعني الحامي إذا ركب ولد ولده. قالوا: حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا. قال مجاهد: كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ولا في شيء من شأنها لا أن ركبوا ولا أن حلبوا ولا أن نتجوا ولا أن باعوا ولا أن حملوا.
وقال أبو عاصم: قال لي أبو وائل: أتدري ما أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها؟ قلت: لا. قال: لا يحجّون عليها. وقال الضحاك: هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم ولا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ «1» يعني إنهم كانوا يفعلون ذلك ويزعمون إن الله أمرهم به سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا. قال ابن عباس والشعبي وقتادة: يعني ألبان النحائر كانت للذكور دون النساء فإذا ماتت اشترك في لحمها ذكورهم وإناثهم. وقال السدي: يعني أخذ النحائر ما ولد منها أخذ خالص للرجل دون النساء [وأما ما ولد ميت فيأكله] الرجال والنساء، ودخل الهاء في (خالِصَةٌ) على التأكيد والمبالغة، كما فعل ذلك بالراوية والنسابة والعلامة. قال الفراء: أهلت الهاء لتأنيث الأنعام، لأن ما في بطنها مثلها، فأنث لتأنيثها قال: وقد يكون الخالصة كالعاقبة ومنه قوله إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ «2» ، وقرأ عبد الله والأعمش: خالص لذكورنا بغير الهاء ردّا إلى ما، وقرأ ابن عبّاس: خالصة بالإضافة [ويخلص] والخالصة والخليصة والخلصان واحد. قال الشاعر: كنت أميني وكنت خالصتي ... وليس كل امرئ بمؤتمن «3» وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا يعني النساء وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً قرأ أهل المدينة: تكن بالتاء، ميتةٌ بالرفع على معنى: وإن تقع الأنعام ميتة، وقرأ أهل مكّة: يَكُنْ بالياء، ميتةٌ بالرفع على معنى: وإن يقع ما في بطون الأنعام ميتة، وقرأ الأعمش: تكن بالتاء، مَيْتَةً نصبا على معنى: وإن يكن [ما في بطون الأنعام ميتة] «4» وقرأ الباقون: يَكُنْ بالياء، مَيْتَةً بالنصب، ردّوه إلى ما يؤيّد ذلك قوله: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ ولم يقل: فيها. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي بوصفهم وعلى وصفهم الكذب على الله كقوله وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ «5» والوصف والصفة واحد كالوزن والزنة والوعد والعدة، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً الآية نزلت في ربيعة ومضر وفي العرب الذين يدفنون بناتهم أحياء مخافة السبي والفقر، إلّا ما كان من بني كنانة فإنّهم كانوا لا يفعلون ذلك.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 إلى 144]
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وأهل مكّة والشام: قتّلوا، مشددا على التكثير والباقون بالتخفيف بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام افْتِراءً عَلَى اللَّهِ حين قالوا: إنّ الله أمرهم بها وقَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ اخترع وابتدع جَنَّاتٍ بساتين. مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات قال ابن عباس: مَعْرُوشاتٍ ما انبسط على وجه الأرض وانتثر ممّا يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ وغيرها، وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ما كان على ساق مثل النخيل وسائر الأشجار وما كان على نسق، ومثل [البروج] ، وقال الضحاك: مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ الكرم خاصة منها ما عرش ومنها ما لم يعرش. وروي عن ابن عباس أيضا أنّ المعروشات ما عرش الناس «1» ، وغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ما خرج في البراري والجبال من الثمار «2» . يدلّ عليه قراءة علي (مغروسات وغير مغروسات) بالغين والسين. (وَالنَّخْلَ) يعني وأنشأ النخل وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ ثمره وطعمه الحامض والمرّ والحلو والجيّد والرديء وارتفع معنى الأكل [ومختلفا نعته] إلّا أنّه لمّا تقدّم النعت على الاسم وولي منصوبا نصب، كما تقول: عندي طبّاخا غلام وأنشد: الشر منتشر لقاك [من مرض] ... والصالحات عليها مغلقا باب وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً في المنظر وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في الطعم مثل الرمانتين لونهما
واحد وطعمهما مختلف، إحداهما حلوة والأخرى حامضة وقد مرّ القول فيه كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ولا تحرّموه كفعل أهل الجاهلية وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قرأ أهل مكّة والمدينة والكوفة حِصادِهِ بكسر الحاء والباقون بالفتح، وهما واحدة كالجداد. والجداد [والصرام والصرام] واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال ابن عباس وطاوس والحسن وجابر بن زيد ومحمد ابن الحنفية وسعيد بن المسيب والضحاك وابن زيد: [هي الزكاة] المفروضة العشر ونصف العشر. وقال عليّ بن الحسين وعطاء وحمّاد والحكم: هو حق في المال سوى الزكاة. قال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألف لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته وذرّيته فاطرح لهم منه، وإذا كدسته ونقيته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته. وقال إبراهيم: هو الضغث «1» ، قال الربيع: لقاط السنبل. قال مجاهد: كانوا يعلّقون العذق عند الصرام فيأكل منه الضيف [ومن مرّ به] «2» . قال زيد بن الأصم: كان أهل [الجاهليّة] إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلّقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه ويأخذه. وقال سعيد بن جبير وعطيّة: كان هذا قبل الزكاة فلمّا فرض الزكاة نسخ هذا. وقال سفيان والسدي: سألت عن هذه الآية فقال: نسخها العشر ونصف العشر، قلت: ممّن؟ فقال: من العلماء مقسّم عن ابن عباس: نسخت الزكاة كلّ [صدقة] في القرآن. وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ كان رجال [ينفقونها بالحرام] فيقول الرجل لا أمنع سائلا حتّى [أمسي] فعمد ثابت بن قيس بن شمّاس إلى خمس مائة نخلة فجذها ثمّ قسّمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فنزلت (وَلا تُسْرِفُوا) أي لا تعطوا كلّه، وقال السدي: لا تُسْرِفُوا لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء، وقال سعيد بن المسيّب: لا تمنعوا الصدقة، وقال [يمان بن رئاب] : ولا تبذّروا تبذيرا، مجاهد وعطية العوفي: ولا تتركوا الأصنام في الحرث والأنعام. وقال الزهري: [فوقعوا في] المعصية، وقال مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مدّا في معصية الله [كان] مسرفا، وفي هذا المعنى قيل لحاتم الطائي: لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير. وقال محمد بن كعب: السرف أن لا يعطي في حق، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:
الإسراف ما لا يقدر على ردّه إلى الصلاح، والفساد ما يقدر على ردّه إلى الصلاح. قال النضر بن شميل: الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل. قال الشاعر: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم من ولا سرف «1» قال إياس بن معاوية: ما تجاوز أمر الله فهو سرف، وروى ابن وهب عن ابن زيد قال: الخطاب [للمساكين] يقول: لا تأخذوا فوق حقّكم. وَمِنَ الْأَنْعامِ يعني أنشأ من الأنعام حَمُولَةً بمعنى كلّ ما محمّل عليها ويركب مثل كبار الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، سمّيت بذلك لأنّها تحمل أثقالهم، قال عنترة: ما دعاني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار [تسف] حب الخمخم «2» والحمولة الأحمال. وقال أهل اللغة: الفعولة بفتح الفاء إذا كانت [يعني] الفاعل استوى فيه المذكّر والمؤنّث نحو قولك: رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف، ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا، وإذا كانت بمعنى المفعول فرّق بين الذكر والأنثى بالهاء كالخلويّة والزكويّة وَفَرْشاً والفرش ما يؤكل ويجلب ولا يحمل عليه مثل الغنم والفصلان والعجاجيل، سمّيت فرشا للطافة أجسامها وقربها من الفرش. هي الأرض المستوية، وأصل الفرش الخفة واللطافة ومنه فراشة العقل وفراش العظام، والفرش أيضا نبت ملتصق بالأرض [تأكله] الإبل قال الراجز: كمفشر الناب تلوك الفرشا «3» والفرش: صغار الأولاد من الأنعام وقال الراجز: أورثني حمولة وفرشا ... أمشها في كلّ يوم مشا «4» كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ما حرم الحرث الأنعام إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثمّ بيّن الحمولة والفرش فقال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ نصبها على البدل من الحمولة [بالفرض] يعني [واحد من] الأنعام ثمانية أزواج أي أصناف مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ فالذكر زوج والأنثى زوج والضأن والنعاج جمعه، واحده: ضائن، والأنثى: ضائنة، والجمع: ضوائن. قرأ الحسن وطلحة بن مصرف: الضَأَن مفتوحة الهمزة، والباقون ساكنة الهمزة، تميم بهمزة وسائر لا بهمزة وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ والمعز المعزى لا واحد له من لفظه، وأمّا الماعز
[سورة الأنعام (6) : الآيات 145 إلى 150]
فجمعه معيزة وجمع الماعزة مواعز، وقرأ أهل المدينة والكوفة: مِنَ الْمَعْزِ ساكنة العين والباقون بالفتح، وفي مصحف أبيّ: من المعزى، وقرأ أبان بن عثمان: من الضأن اثنان ومن المعز اثنين، قُلْ يا محمد: آلذَّكَرَيْنِ حرّم الله عليكم؟ ذكر الضأن حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ والمعز؟ أم أنثييهما [والنصب] قوله آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ منهما نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ. وذلك أنّهم كانوا يقولون هذِهِ أَنْعامٌ [وَحَرْثٌ حِجْرٌ] ، وقالوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا، فحرّموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكان خطيبهم يومئذ مالك بن عوف وأبو النضر [النصري] فقال: يا محمد [رأينا] أنّك تحرّم ما كان آباؤنا يفعلونه؟ فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنكم قد حرّمتم أصنافا من النعم على [غير ... ] «1» إن الله خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين حرمت ذكران هذه النعم على نسائكم دون رجالكم؟ فإن زعمتم أن تحريمه من أجل الذكران وجب أن تحرموا كل ذكر، لأن للذكر فيها حظا، وإن زعمتم أنّ تحريمه من جهة الأنثى وجب أن تحرموا كل أنثى لأن للإناث فيها حظّا، وإن زعمتم أن تحريمه لاجتماع الذكر والأنثى فيه وما اشتمل الرحم عليه وجب أن تحرّموا الذكر والأنثى والحي والميّت، لأنّه لا يكون ولد إلّا من ذكر وأنثى ولا يشتمل الرحم إلّا على ذكر وأنثى، فلم تحرمون بعضا وتحلّون بعضا؟ فسكت. فلما لزمته الحجّة أخذ بالافتراء على الله فقال: كذا أمرنا الله فقال الله تعالى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [حضورا] إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
[ثمّ بيّن] المحرمات فقال قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً أي شيئا محرّما عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ آكل يأكله. وقرأ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: يَطَعَّمُهُ مثقلة بالطاء أراد يتطعّمه فأدغم، وقرأت عائشة على طاعم طعمه «1» إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [مهراقا] سائلا. قال عمران بن جرير: سألت أبا مجلز عمّا يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدر تعلوها حمرة الدم. قال: لا بأس به إنّما نهى الله سبحانه عن الدم المسفوح. وقال إبراهيم: لا بأس الدم في عروق أو مخ إلّا المسفوح الذي تعمّد ذلك، قال عكرمة: لولا هذه الآية لاتّبع المسلمون من العروق ما تتبّع اليهود «2» أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ خبيث أَوْ فِسْقاً معصية أُهِلَّ ذبح لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا يعني اليهود حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وهو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير. مثل الإبل والنعّام والإوزة والبط. قال ابن زيد: هو الإبل فقط. وقال القتيبي: هو كلّ ذي مخلب من الطيور وكل ذي حافر من الدواب، وقد حكاه عن بعض المفسّرين، وقيل: سمّي الحافر ظفرا على الاستعارة وأنشد قول طرفة: فما رقد الولدان حتّى رأيته ... على البكر يمريه بساق وحافر «3» فجعل الحافر موضع القدم. وقرأ الحسن كُلَّ ذِي ظِفْرٍ مكسورة الظاء مسكنة الفاء. وقرأ [أبو سماك] ظِفِرٍ بكسر الظاء والفاء وهي لغة.
وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما يعني [الشروب] وشحم الكليتين إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي ما علق بالظهر والجانب إلّا من داخل بطونها أَوِ الْحَوايا يعني الماعز أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ مثل لحم الإلية ذلِكَ التحريم جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ بظلمهم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وَإِنَّا لَصادِقُونَ في أخبارنا عن هؤلاء اليهود وعمّا حرّمنا عليهم من اللحوم والشحوم. سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [لمّا الزمنا بينهم] الحجّة وتبيّنوا وتيقنوا باطل ما كانوا عليه لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا من قبل وَلا حَرَّمْنا ما حرّمنا من التغاير والسوايب وغير ذلك لأنّه قادر على أن يحمل بيننا وبين ذلك حتّى لا نفعله ولكنّه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأصنام وتحريم الحرث والأنعام وأراد منّا وأمرنا به فلم يحل بيننا وبين ذلك فقال الله تعالى تكذيبا لهم وردّا عليهم كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ولو كان كذلك خيرا من الله تعالى عن من كذّبهم في قولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا لقال كذلك (كذّب الذين من قبلهم) بتخفيف الذال وكان نسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب. وقال الحسن بن الفضل: [لمّا خبّروا بهذه المقالة] تعظيما وإجلالا لله سبحانه وتعالى وصفة منهم به لمّا عابهم ذلك، لأن الله قال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وقال سبحانه: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وقال وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ والمؤمنون يقولون هذا ولكنّهم قالوا ذلك تكذيبا وتخرصا وبدلا من غير معرفة بالله تعالى وبما [يقولون] نظيره قوله وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ «1» ، قال الله تعالى ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ بقولهم هذا من غير علم بيّنهم بآية والمؤمنون وبقوله وعلم منهم بالله عزّ وجلّ ثمّ قال هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من حظ وحجّة على ما يقولون من غير علم ويقين وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذّبون قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ التامة الكافية على خلقه فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا أي احضروهم وأتوا بهم فقالوا: نحن نشهد، فقال الله تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ إلى قوله يَعْدِلُونَ يشركون.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 إلى 155]
ثمّ قال قُلْ يا محمد تَعالَوْا أَتْلُ أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حقّا يقينا كما أوحى إليّ ربّي وأمرني به لا ظنّا ولا تكذيبا كما يزعمون أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً اختلفوا في محل أن فقال بعضهم: [محلّه] نصب، ثمّ اختلفوا في وجه انتصابه فقيل معناه: حرّم أن تشركوا ولا صلة كقولهم: (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) . وقيل: إنّك ألّا تشركوا، وقيل: أوحى ألا تشركوا، وقيل: [ما] بدل [من] ما حرّم، وقيل: الكلام عند قوله حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثمّ قال: عليكم أن لا تشركوا على الكفر، وقال بعضهم: موضع [من] معناه: وهو أن لا تشركوا جهرا بكفركم، وأما بعده فيجوز أن يكون في محل النصب عطفا على قوله أَلَّا تُشْرِكُوا) وأن [ ... ] «1» لأنّه يجوز أن يكون جزم على الأقوى كقوله قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف بالنهي على الخبر قال الشاعر: حج وأوصي بسليمي إلا عبدا ... أن لا ترى ولا تكلم أحدا ولا يزال شرابها مبردا «2» وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ولا تئدوا بناتكم خشية العيش فإني أرزقكم وإياهم والإملاق الفقر ونفاد الزاد. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها يعني علانية وَما بَطَنَ يعني السرّ قال المفسّرون: كانوا في الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السرّ فحرّم الله تعالى الزنا في العلانية والسر وقال الضحاك: ما ظَهَرَ الخمر وَما بَطَنَ ... وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [نهى وهي] نفس مؤمن أو معاهد إِلَّا بِالْحَقِّ يعني بما أباح قبلها وهي الارتداد والقصاص والرجم. وروى مطر الوراق عن نافع بن عمر عن عثمان رضي الله عنه أشرف على أصحابه وقال: علام يقتلونني فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث:
رجل زنا بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل عامدا فعليه القود، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحدا فاقيد نفسي، ولا ارتدت منذ أسلمت، إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله» [160] «1» ذلِكُمْ النبيّ الذي ذكرت وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني بما فيه صلاحه وتثميره، وقال مجاهد: هو التجارة فيه، وقال الضحاك: أموال يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئا. وقال ابن زيد: وأن يأكل بالمعروف إن افتقر، وإن استغنى لم يأكل، وقال الشعبي: من خالط مال اليتيم حتّى يفصل عليه فليخالطه، ومن خالطه ليأكل منه وليدعه حتّى يبلغ أشده. وقال يحيى بن يعمر: بلوغ الحلم، وقال الشعبي: الأشد الحلم حيث يكتب له الحسنات وعليه السيئات، وقال أبو العاليّة: حتّى يعقل ويجتمع قوّته. وقال الكلبي: الأشد ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة. وقال السدّي: هو ثلاثون سنة ثمّ جاء بعدها حتّى بلغوا النكاح. والأشد جمع شدّ، مثل قدّ وأقدّ، وهو استحكام قوما لفتى وشبابه وسنه، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه، يقال: أتيته شدّ النهار ومد النهار وقال الفضل بن محمد في شد بيت عنترة: [عهدي به] شدّ النهار كأنّما ... خضب اللبان ورأسه بالعظلم «2» وقال آخر: تطيف به شد النهار ضعينة ... طويلة أنقاء اليدين سحوق «3» وليس بلوغ الأشد ممّا يدع قرب ماله بغير الأحسن وقد تمّ الكلام. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [على الأبد] حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن، وقال أهل المعاني: معناه: إلّا يسعها ويحلّ لها ولا يخرج عليه ولا يضيق عنه وذلك أنّ لله تعالى من عباده أنّ كثيرا منهم ضيق نفسه عن أن يطيّب لغيره بما لا يجب عليها له فأمر المعطي بإيفاء الحق ربّه الذي هو له ويكلّفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها، وأمر صاحب الحق بأخذ حقّه ولم يكلفه الرضا بأقل منه لمّا فيه في النقصان عليه من ضيق نفسه، فلم يكلّف نفسا منهما إلّا ما لا حرج فيه ولا يضيق عليه.
قال ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم فقد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أي فاصدقوا في الحكم والشهادة وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى محذوف الاسم يعني ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قربة وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يتّعظون. قال ابن عباس: هذا الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب وهنّ محرّمات على بني آدم كلّهم وهنّ أمّ الكتاب من عمل بهن دخل الجنّة ومن تركهن دخل النار. قال كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إنّ هذا لأوّل شيء في التوراة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ الآيات. وقال الربيع بن خيثم لأصحابه: ألا أقرأ عليكم صحيفة عليها خاتم محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يفك فقرأ هذه الآية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ وَأَنَّ هذا يعني وصّاكم به في هاتين الآيتين صِراطِي طريقي وديني مُسْتَقِيماً مستويا قويما فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ يعني الطرق المختلفة التي عداها مثل اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات فَتَفَرَّقَ فيمتدّ وتخالف [وتشتت] بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ عن طريقه ودين النبيّ الذي ارتضى وبها وصّى ذلِكُمْ الذي ذكرت وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني ثمّ قل يا محمد لهم آتينا موسى الكتاب، لأنّ موسى أوتي الكتاب قبل محمد عليهما الصلاة والسلام. وقيل: ثمّ بمعنى الواو لأنّهما حرفا عطف قال الشاعر: قل لمن ساد ثمّ ساد أبوه ... ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه «1» تَماماً نصب على القطع، وقيل: على التفسير عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ قال بعضهم: معناه تماما على المحسنين. ويكون (الَّذِي) بمعنى (من) وتقديره على الذين أحسنوا، لفظه واحد ومعناه جمع كما تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحجّ يريد الغازين والحاجين. وقال الشاعر: شبّوا عليّ المجد وشابوا واكتهل يريد: واكتهلوا. يدلّ عليه قراءة عبد الله بن مسعود (على الذين أحسنوا) . وقال أبو عبيد: معناه على كل من أحسن، ومعنى هذا القول أتممنا [طلب] موسى بهذا الكتاب، على المحسنين يعني أظهرنا فضله عليهم، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون. وقيل:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 156 إلى 165]
معناه: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ متما للمحسنين يعني تتميما منّا للأنبياء والمؤمنين الكتب (عَلَى) بمعنى (اللام) كما تقول أتم الله عليه فأتم له. قال الشاعر: رعته أشهرا وخلا عليها ... فطار التي فيها واستعارا «1» أراد: وخلا لها. وقيل: (الَّذِي) بمعنى (ما) ، يعني آتينا موسى الكتاب تماما على ما أحسن موسى من العلم والحكمة أي زيادة على ذلك. وقال عبد الله بن بريدة: معناه تماما منّي على منّي وإحساني إلى موسى، وقال ابن زيد: معناه تماما على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم، وقال الحسن: فمنهم المحسن ومنهم المسيء فنزل الكتاب تماما على المحسنين، وقرأ يحيى بن يعمر: على الذي أحسنُ، بالرفع أي على الذي أحسن وَتَفْصِيلًا بيانا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه من شرائع الدين وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ هذا يعني وهذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واعملوا بما فيه وَاتَّقُوا وأطيعوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فلا تعذبون. أَنْ تَقُولُوا يعني [لئلّا] تقولوا كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وقوله: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا «2» يعني أي لا تقولوا يعني لئلّا تقولوا.
وقيل: معناه أنزلناه كراهة أن يقول، وقال الكسائي: معناه: اتقوا أن تقولوا: يا أهل مكّة، وقرأ ابن محيصن والأعمش كلاهما والقراءة بالياء بقوله تعالى فقد جاءكم إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا وقد كنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ قرأتهم لَغافِلِينَ لا نعلم ما هي وإنّما قال: دراستهم، ولم يقل: دراستهما، لأن كل طائفة جماعة، كقوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا وأن ما يقال من المؤمنين اقتتلوا. أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ يعني أصوب من اليهود والنصارى دينا فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجّة واضحة لمن يعرفونها وَهُدىً وبيان وَرَحْمَةٌ ونعمة لمن اتبعه وعمل به فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ وأعرض عنها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ شدة العذاب بِما كانُوا يَصْدِفُونَ يعرضون هَلْ يَنْظُرُونَ وينتظرون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بلا كيف لفصل القضاء من خلقه في موقف القيامة، وقال الضحاك: يأتي أمره وقضاؤه أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني طلع الشمس من مغربها يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها وقرأ ابن عمر وابن الزبير: يوم تأتي بعض آيات ربّك بالتاء، قال المبرّد: على التأنيث على المجاورة لا على الأصل، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه. قال جرير: لمّا أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع «1» فأتت فعل السور، وهو مذكّر لاتصاله بمؤنّث. روى عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين وذلك حين لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» [161] الآية «2» . وروى مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا غربت الشمس رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع إلى مغربها أو من مطلعها [فكسى] ضوؤها، وإن كان القمر منوّر على مقادير ساعات الليل والنهار ثمّ ينطلق بها ما بين السماء السابعة العليا وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر [جبال] المشرق من سماء إلى السماء، فإذا ما وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح ويضيء النهار فلا يظل الشمس والقمر، كذلك حتّى يأتي الوقت الذي وقت الله التوبة لعباد وتكثر المعاصي في الأرض، ويذهب المعروف فلا يأمر به أحد ويفشو المنكر فلا ينهى عنه أحد، فإذا فعلوا ذلك حبست الشمس مقدار ليلة تحت العرش كلما
سجدت واستأذنت من أن تطلع لم يجيء لها جواب حتّى يراقبها القمر [فيجيء معها] ويستأذن من أن تطلع فلا يجاب لهما بجواب حتّى تحبسا مقدار ثلاث ليالي للشمس وليلتين للقمر، فلا يعرف طول تلك الليالي إلّا المتهجّدون في الأرض، وهم يومئذ عصابة قليلة في كل بلدة من بلاد المسلمين في هوان من الناس وذلّة من أنفسهم، فينام أحدهم تلك الليلة قدر ما كان ينام قبلها من الليالي، ثمّ يقوم ويتوضّأ ويدخل مصلّاه فيصلّي ورده، فلا يصبح نحو ما كان يصبح كلّ ليلة فينكر ذلك فيخرج فينظر إلى السماء فإذا هو بالليل فكأنه والنجوم قد استدارت مع السماء فصارت إلى أماكنها من أول الليل، فينكر ذلك ويظن فيها الظنون فيقول: قد خففت قراءتي وقصرت صلواتي أم قمت قبل حيني. قال: ثمّ يقوم فيعود إلى مصلّاه فيصلّي نحو صلاته الليلة الثانية ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج أيضا فإذا بالليل مكانه فيزيده ذلك إنكارا ويخالطه الخوف ويظن في ذلك الظنون من السوء، ثمّ يقول فلعلّي قصّرت صلواتي ثمّ خفّفت قراءتي [أم قمت] في أوّل الليل ثمّ يعود وهو وجل مشتت خائف لما توقّع من هول تلك الليلة فيقوم فيصلّي أيضا مثل [ورده] كلّ ليلة قبل ذلك، ثمّ ينظر فلا يرى الصبح فيخرج الثالثة فينظر إلى السماء فإذا بالنجوم قد استدارت مع السماء فصارت في أماكنها عند أوّل الليل فيشفقه عند ذلك شفقة المؤمن العارف لما كان يحذر فيستحييه الخفّة ويستخفّه الندامة، ثمّ ينادي بعضهم بعضا وهم كانوا قبل ذلك يتعارفون ويتواصلون فيجتمع المتهجدون من كل بلدة في تلك الليلة في مسجد من مساجدهم ويجأرون إلى الله تعالى بالبكاء ويصلّوا بقيّة تلك الليلة. فإذا ما تمّ لهما مقدار ثلاث ليال أرسل الله إليهما جبرائيل فيقول: إنّ الرب تبارك وتعالى يأمركما أن ترجعا إلى مغاربكما فتطلعا منه وإنّه لا ضوء لكما عندنا ولا نور فيبكيان عند ذلك وجلا من الله عزّ وجلّ وخوف يوم القيامة وبكاء يسمعه أهل سبع سماوات ومن دونها وأهل سرادقات العرش وحملته ومن فوقهما، فيبكون جميعا لبكائهما من خوف الموت والقيامة، فيرجع الشمس والقمر فيطلعان من مغربهما فبينما المتهجّدون يبكون ويتضرّعون إلى الله عزّ وجلّ، والغافلون في غفلاتهم إذ نادى مناد: ألا إن الشمس والقمر قد طلعا من المغرب فينظر الناس فإذا هم بهما أسودان لا ضوء للشمس ولا نور للقمر مثلهما في كسوفهما قبل ذلك. فذلك قوله وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وقوله إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ فيرتفعان كذلك مثل البعيرين القرنين ينازع كلّ واحد منهما صاحبه اشتياقا، ويتصايح أهل الدنيا وتدخل الأمّهات «1» على أولادها والأحبّة عن غمرات قلوبها، فتشتغل كلّ نفس بما ألمها، فأمّا الصالحون والأبرار فإنّه ينفعهم بكاؤهم يومئذ فيكتب لهم ذلك عبادة، وأمّا الفاسقون والفجّار فلا ينفعهم بكاؤهم يومئذ ويكتب
ذلك حسرة عليهم فإذا ما بلغ الشمس والقمر سرّت السماء وهي منصفها جاءهما جبرائيل (عليه السلام) فأخذ بقرونهما فردّهما إلى المغرب فلا يغربهما من مغاربهما ولكن يغربهما من باب التوبة» . فقال له عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله وما باب التوبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عمر خلق الله تعالى بابا للتوبة خلف المغرب له مصراعان من ذهب مكلّلان بالدرّ والجوهر ما بين المصراع إلى المصراع الآخر أربعون سنة للراكب المسرع فذلك الباب مفتوح منذ خلق الله خلقه إلى صبيحة تلك الليلة عند طلوع الشمس والقمر من مغاربهما ولم يتب عبد من عباد الله توبة نصوحا منذ خلق الله آدم إلى ذلك اليوم إلّا ولجت تلك التوبة في ذلك الباب. لم يرفع إلى الله تعالى» . فقال له معاذ بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وما التوبة النصوح؟ قال: «أن يندم المذنب على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله عزّ وجلّ ثمّ لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع. قال: فيغر بهما جبريل في ذلك الباب ثمّ يرد المصراعين ثمّ يلتئم ما بينهما فيصير كأنّه لم يكن بينهما صدع قط، فإذا أغلق باب التوبة لم يقبل من العبد بعد ذلك توبة ولم ينفعه حسنة يعملها في الإسلام، إلّا من كان قبل ذلك محسنا فإنّه يجري عليه ما كان يجري عليه قبل ذلك اليوم فذلك قوله عزّ وجلّ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً. فقال أبي بن كعب: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله فكيف بالشمس والقمر يومئذ بعد ذلك وكيف بالناس والدنيا. فقال: «يا أبي إنّ الشمس والقمر يكسيان بعد ذلك الضوء والنور، ثمّ يطلعان على الناس ويغربان، كما كانا قبل ذلك يطلعان ويغربان، فإنّ الناس رأوا ما رأوا في فظاعة تلك الآية يلحون على الدنيا حتّى يجروا فيها الأنهار ويغرسوا فيها الأشجار ويبنوا البنيان. وأمّا الدنيا فلو نتج لرجل مهرا «1» لم يركبه حتّى تقوم الساعة من لدن طلوع الشمس من مغربها إلى أن ينفخ في الصور» [162] «2» . قال حذيفة بن أسيد والبراء بن عازب: كنّا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تذاكرون؟»
[قلنا:] نتذاكر الساعة. قال: «إنها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفا بالمشرق، وخسفا بالمغرب، وخسفا بجزيرة العرب، ويأجوج ومأجوج، ونارا تخرج من قعر عدن، ونزول عيسى، وطلوع الشمس من مغربها» [163] «1» . ويقال: إنّ الآيات تتابع كالنظم في الخيط عاما فعاما «2» . وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: والحكمة في طلوع الشمس من مغربها إنّ إبراهيم (عليه السلام) قال لنمرود: ربّي الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «3» . وأن الملحدة والمنجّمة عن آخرهم ينكرون ذلك ويقولون هو غير [كائن] فيطلعها الله تعالى يوما من المغرب ليري المنكرين قدرته فإنّ الشمس من ملكه إن شاء أطلعها من المطلع وإن شاء من المغرب. وقال عبد الله بن عمر: يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة حتّى يغرسوا النخل. قال الله: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ العذاب إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قرأ حمزة والكسائي: فارقوا بالألف أي خرجوا من دينهم وتركوه وهي قراءة عليّ بن أبي طالب- كرّم الله وجهه-، ورواه معاذ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وقرأ الباقون مشدّدا بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب أي جعلوا دين الله- وهو واحد دين الحنيفيّة- أديانا مختلفة فتهوّد قوم وتنصّر آخرون يدلّ عليه قوله وَكانُوا شِيَعاً أي صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك. وروى ليث عن طاوس عن أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « [إنّ] هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وليسوا منك، هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل من هذه الأمّة لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» ، أي [نفر] منهم ورسول الله [164] «4» . قالوا: وهذه اللفظة منسوخة بآية القتال. وقال زادان أبو عمر قال لي علي (عليه السلام) : «يا أبا عمر أتدري كم افترقت اليهود؟
قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة وهي الناجية. أتدري على كم افترقت النصارى» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «افترقت على ثنتين وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة هي [الناجية] . أتدري على كم تفترق هذه الأمّة» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة فهي الناجية. ثمّ قال علي- رضي الله عنه- أتدري على كم تفترق فيّ؟ قلت: وإنّه لتفترق فيك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم تفترق فيّ اثنا عشر فرقة كلّها في الهاوية إلّا واحدة وهي الناجية وأنت منهم يا أبا عمر» [165] «1» . [ومنهم فرق الروافض والخوارج] . مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ يعني التوحيد: لا إله إلّا أنت فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قرأ الحسن وسعيد بن جبير. ويعقوب عشرٌ [منون] أمثالُها رفع على معنى فله حسنات عشر أمثالها، وقرأ الباقون بالإضافة على معنى: فله عشر حسنات أمثالها، وإنما لم يقل عشرة والمثل مذكر فأنث العدد لأنه مضاف إلى مؤنث فرده إلى الحسنة والدرجة وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ في الشرك فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها النار وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وقيل: هو عام في جميع الحسنات والسيّئات. روى [المقدوس] بن يزيد عن أبي ذر: قال: حدّثني الصادق المصدّق أنّ الله عزّ وجلّ قال: «الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفرها فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة ثمّ لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة» [166] «2» . قال ابن عمر وابن عباس: هذه الآية في الأحزاب وأهل البدو، قيل: فما لأهل القرى قال: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وأقلها سبعمائة ضعف، وقال قتادة: في هذه الآية ذكر لنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأعمال ستة فموجبة وموجبة مضاعفة ومثل وبمثل فأمّا الموجبتان فمن لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنّة ومن لقى الله يشرك به
دخل النار، فأمّا المضاعفتان فنفقة الرجل على أهله عشر بعشر أمثالها ونفقة الرجل في سبيل الله سبعمائة ضعف، وأمّا مثل بمثل فإنّ العبد إذا همّ بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت واحدة وإذا عملها كتبت [عشرة] » [167] . وعن سفيان الثوري لمّا نزلت مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ربّي زدني» فنزلت مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ الآية قال: يا رب زدني فنزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً، قال: ربّ زدني؟ فنزلت: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [168] . قُلْ يا محمد إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً» قرأ أهل الكوفة والشام: قِيَماً بكسر القاف وفتح الياء مخففا. وقرأ الباقون: قَيِّماً بفتح القاف وكسر الياء مشددا وهما لغتان وتصديق التشديد قوله تعالى ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ «1» . ودِيناً قِيَماً معناهما: ذلك الدين القويم المستقيم. واختلف النّحاة في وجه انتصابه فقال الأخفش: معناه هداني دينا قيّما، وقيل: عرفت دينا قيّما، وقيل: أعني دينا قيّما، وقيل: نصب على الآخر يعني ابتغوا دينا قيّما. وقال قطرب: نصب على الحال [وضع] مِلَّةَ إِبْراهِيمَ بدل من الدين حَنِيفاً نصب على الحال وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي قال أهل التفسير يعني ذبيحتي في الحج والعمرة. وقيل: ديني وَمَحْيايَ وَمَماتِي يعني حياتي ووفاتي قال: يمان: مَحْيايَ بالعمل الصالح وَمَماتِي إذا مت على الإيمان. وقرأ أهل المدينة وَمَحْيايْ بسكون الياء. وقرأت العامة بفتح الياء لئلّا يجتمع ساكنان. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى: ومحييّ بتشديد الياء الثانية من غير ألف وهي [لغة عليا مضر] يقولون: [قفي وعصي] وقرأ السلمي نُسْكِي بجزم السين والباقون بضمّتين لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قال قتادة أوّل المسلمين من هذه الأمّة، قال الكلبي: أوّل من أطاع الله من أهل زمانه. وروى سعيد بن جبير عن عمران بن [حصين] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا فاطمة قومي واشهدي أضحيّتك فإنّه يغفر لك في أوّل قطرة من دمها كل ذنب عملته ثمّ قولي: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي- إلى قوله- الْمُسْلِمِينَ» .
قال عمران: يا رسول الله هذه الآية لأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال: «بل للمسلمين عامّة» [169] «1» . قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا سوى الله أطلب سيّدا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها لا تؤخذ مما أتت من المعصية وارتكبت من الذنوب سواها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني ولا تحمل نفس حمل طبق محل اخرى ما عليها من الذنوب ولا تأثم نفس آثمة بإثم أخرى، بل كل نفس مأخوذ بجرمها ومعاقبة بإثمها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يعني أهل القرون الماضية والأمم الخالية وأورثكم الأرض من بعدهم ثمّ جعلكم خلائف منهم فيما يخلفونهم فيها ويعمرونها بعدهم والخلاف جمع خليفة، كالوصيف يجمع وصيفة فكل من جاء من بعد من مضى فهو خليفة يقال: خلف فلان فلانا في داره يخلفه خلافة فهو خليفة كما قال الشماخ: تصيبهم وتخطئني المنايا ... وأخلف في ربوع عن ربوع «2» وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يعني وخالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والقوّة والبسطة والعلم والفضل والمعاش والمعاد لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ يعني الغنى والفقر والشريف والوضيع والحر والعبد إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ يعني ما هو آت قريب، وقيل: الهلاك في الدنيا. وقال الكلبي: إذا عاقب فعاقبه سريع، وقال عطاء: سريع العقاب لأعدائه وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لأوليائه.
سورة الأعراف
سورة الأعراف وهي مائتان وست آيات روى أبو أمامة عن أبي بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الأعراف جعل الله بينه وبين إبليس سترا وكان آدم له شفيعا يوم القيامة» [170] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المص قسم أقسم الله عزّ وجلّ، وقال عطاء بن أبي رباح: هو من ثناء الله سبحانه على نفسه، أبو صالح عن ابن عباس: اسم من أسماء الله تعالى، أبو الضحى عن ابن عباس: أنا الله أفصل وقال وهي هجاء موضوع، قتادة: اسم من أسماء القرآن. وقيل: اسم السورة، مجاهد: فواتح افتتح الله بها كتابه، الشعبي: فواتح السور من أسماء الله تعالى إذا وصلها كانت اسما. وقال أبو روق: أنا الله الصادق، سعيد بن جبير: أنا الله أصدق، محمد بن كعب: إلّا أن افتتاح اسمه أحد أول آخر، واللام افتتاح اسمه لطيف، والميم افتتاح اسمه مجيد وملك، والصاد افتتاح اسمه صمد وصادق أحد وصانع المصنوعات. ورأيت في بعض التفاسير معنى المص: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وقيل: هي حروف هجاء مقطّعة، وقيل: هي حساب الجمل، وقيل: هي حروف اسم الله الأعظم، وقيل: هي
حروف تحوي معاني كثيرة، وقيل: الله بها خلقه على مراده كلّه من ذلك، وموضعه رفع بالابتداء وكِتابٌ خبره كأنّه قال: (المص) حروف كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وقيل: كِتابٌ خبر ابتدأ في هذا كتاب. وقيل رفع على التقديم والتأخير، يعني أنزل كتاب إليك وهو القرآن فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ قال أبو العالية: ضيق، وقال مجاهد: تنك، وقال الضحاك: إثم، وقال مقاتل: فلا يكن في قلبك شك في القرآن. إنّه من الله، وقيل: معناه لا أطبق قلبك بإنذار من أرسلتك بإنذاره وإبلاغ من أمرتك بإبلاغه إياه وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي عظة لهم وموعظة، وموضعه رفع مردود على الكتاب. وقيل: هو نصب على المصدر تقديره ويذكر ذكرى. ويجوز أن يكون في موضع الخفض على معنى لِتُنْذِرَ في موضع خفض، والمعنى الإنذار والذكرى، وأمّا ذِكْرى فمصدر فيه ألف التأنيث [بمنزلة] دعوت دعوى ورجعت رجعي إلّا أنّه اسم في موضع المصدر. اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي قل لهم: اتبعوا ولا تتبعوا من دونه أولياء. قرأ العامّة بالعين من الاتباع، وروى عاصم الجحدري عن أبي [الشيخ] ومالك بن دينار «ولا تبتغوا» بالغين المعجمة أي لا تطلبوا قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بالعذاب وموضع (كَمْ) الرفع بالابتداء وخبره في (أَهْلَكْناها) وإن شئت نصبته برجوع الهاء، فَجاءَها بَأْسُنا عذابنا بَياتاً ليلا [كما يأت بالعساكر] أَوْ هُمْ قائِلُونَ يعني نهارا في وقت [القائلة] وقائلون نائمون ظهيرة، ومعنى الآية: (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) يعني: إن من هذه القرى ما أهلكت ليلا ومنها ما أهلكت نهارا وإنّما حذفوها [لاستثقالهم] نسقا على نسق، هذا قول الفراء، وجعل [الزجاج] بمعنى أو [التحيّر] والإباحة تقديره: جاءهم بأسنا مرّة ليلا ومرّة نهارا فَما كانَ دَعْواهُمْ أي قولهم ودعاؤهم مثل قوله تعالى فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ «1» قال الشاعر: وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي ... بدعواك من مذل بها فتهون «2» مذل رجله إذا خدرت إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا عذابنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ مسيئين آثمين ولأمره مخالفين أقرّوا على أنفسهم. روى ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما هلك قوم حتّى يعذروا من أنفسهم. قال: قلت: كيف يكون ذلك؟ فقرأ هذه الآية: فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا الآية [171] «3» .
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني الأمم عن إجابتهم الرسل وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عن تبليغ الأمم فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ قال ابن عباس: ينطق لهم كتاب أعمالهم يدلّ عليه قوله هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ الآية «1» . وَما كُنَّا غائِبِينَ عن الرسل فيما يلقون وعن الأمم فيما أجابوا وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ يعني [السؤال] الْحَقُّ قال مجاهد: والقضاء يومئذ العدل، وقال آخرون: أراد به دون [وزن الأعمال] وذلك أن الله عزّ وجلّ ينصب الميزان له [يدان وكفّان] يوم القيامة يوزن أعمال العباد خيرها وشرها فيثقل مرّة ميزان الحسنات لنجاة من يريد نجاته. ويخفّف مرّة ميزان الحسنات علامة هلاك من يريد هلاكه. فإن قيل: ما الحكمة في وزن أعمال العباد والله هو العالم بمقدار كلّ شيء قبل خلقه إياه وبعده قلنا أربعة أشياء: أحدهما: امتحان الله تعالى عباده بالإيمان به في الدنيا، والثاني: جعل ذلك علامة لأهل السعادة والشقاوة في العقبى. والثالث: تعريف الله عزّ وجلّ للعباد ما عند الله من جزاء على خير وشر، والرابع: إلقائه الحجّة عليه. ونظيره قوله هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ «2» الآية فأخبر ما تأتي الأعمال ونسخها مع علمه بها ما ذكرناه من المعاني والله أعلم. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ قال مجاهد: حسناته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ إلى قوله تعالى يَظْلِمُونَ يجحدون قال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبرائيل يقول الله تعالى «يا جبرائيل زن بينهم فردّ بعضهم على بعض» قال: ليس ثمّ ذهب ولا فضّة وإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فيرد على المظلوم وإن لم يكن له حسنات يحمل عليه من سيئات صاحبه، يرجع الرجل وعليه مثل الجبال [172] . قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان لسان وكفتان فأمّا المؤمن فيؤتي بعمله في أحسن صورة فيرتفع في كفّة الميزان وهو الحق فينقل حسناته على سيئات فيوضع عمله في الجنّة يعرفها بعمله فذلك قوله: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجون ولهم غرف بمنازلهم في الجنّة إذا انصرفوا إليها من أهل [الجنّة] إذا انصرفوا إلى منازلهم. وأمّا الكفّار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فيوضع في كفّة الميزان وهي الباطل فيخفّ وزنه حتّى يقع في النار ثمّ يقال للكافر: الحق بعملك.
فإن قيل: كيف تصح وزن الأعمال وهي غراض وليست بأجسام فيجوز وزنها ووصفها بالثقل والخفة وإنما توزن الأعمال التي فيها أعمال العباد مكتوبة. يدلّ عليه حديث عبد الله بن عمر، وقال: يؤتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان ثمّ خرج له تسعة وتسعون سجلّا كلّ سجل منها مثل مدى البصر فيها خطاياه وذنوبه فيوضع في الكفّة ثمّ يخرج له كتاب مثل الأنملة فيها شهادت أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم يوضع في الكفّة الأخرى فيرجّح خطاياه وذنوبه، ونظير هذه الآية قوله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ «1» . فإنّ قيل: لما جمعه وهو ميزان واحد. قيل: يجوز أن يكون [أعظم] جميعا ومعناه واحد كقوله الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ «2» ويا أَيُّهَا الرُّسُلُ «3» وقال الأعشي: ووجه نقي اللون صاف يزيّنه ... مع الجيد لبّات لها ومعاصم أراد لبّة ومعصما. وقيل: أراد به الأعمال الموزونة. وقيل: الأصل ميزان عظيم ولكل عبد فيه ميزان معلّق به. وقيل: جمعه لأن الميزان ما اشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ولا يحصل الوزن إلّا باجتماعهما. وقيل: الموازين أصله: ميزان يفرق به بين الحق والباطل وهو العقل، وميزان يفرّق بين الحلال والحرام وهو العلم، وميزان يفرّق به بين السعادة والشقاوة هو عدم سهو الإرادة، وبالله التوفيق. وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ملّكناكم في الأرض ووطّأنا لكم وجعلناها لكم قرارا وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ يعيشون بها أيام حياتكم من المأكل والمشرب والمعايش جمع المعيشة الياء من الأصل فلذلك لا تهمز قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ فيما صنعت إليكم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 إلى 18]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ قال ابن عباس: خلقنا أصلكم وأباكم آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في أرحام أمهاتكم قال قتادة والربيع والضّحاك والسدي: أمّا خَلَقْناكُمْ فآدم وأمّا صَوَّرْناكُمْ فذرّيّته. قال مجاهد: خلقنا آدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ في ظهر آدم. وقال عكرمة: خَلَقْناكُمْ في أصلاب الرجال وصَوَّرْناكُمْ في أرحام النساء قال عطاء: خلقوا في ظهر آدم ثمّ صوروا في الأرحام. وقال يمان: خلق الإنسان في الرحم ثمّ صوّره ففتق سمعه وبصره وأصابعه، فإن قيل: ما وجه قوله ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وإنّما خلقنا بعد ذلك وثمّ يوجب الترتيب والتراخي. كقول القائل: قمت ثمّ قعدت لا يكون القعود إلّا بعد القيام. قلنا: قال قوم: على التقديم والتأخير، قال يونس: الخلق والتصوير واحد [ ... ] «1» إلينا، كما نقول: قد ضربناكم وإنّما ضربت سيّدهم، قال الأخفش: ثمّ بمعنى الواو ومجازه: قلنا، كقول الشاعر: سألت ربيعة من خيرها ... أبا ثم أما فقالت لمّه «2» أراد أبا وأمّا. فَسَجَدُوا يعني الملائكة إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لآدم فقال الله لإبليس حين امتنع من السجود لآدم قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ قال بعضهم: لا زائدة [وإن صلة] تقدير الكلام: ما منعك السجود لآدم، لأن المنع يتعدّى إلى مفعولين قال الله عزّ وجلّ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3» . قال الشاعر: ويلحينني في اللهو أن لا أحبه ... وللهو داع دائب غير غافل «4»
أراد: أن أحبّة. وقال آخر: فما ألوم البيض أن لا تسخروا ... لما رأيتي الشمط القفندرا «1» وقال آخر: أبى جوده لا البخل واستعجلت به ... نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله «2» أراد: أبى جوده البخل. سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان بعضهم يكره القالا، وتناول في المنع بمعنى القول، لأن القول والفعل يمنعان، وتقديره: من قال لك لا تسجد. قال بعضهم: معنى المنع الحول بين المرء وما يريد. والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنّه قال: أي شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد «3» . إِذْ أَمَرْتُكَ قال إبليس مجيبا له قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لأنّك خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ والنار خير وأفضل وأصفى وأنور من الطين قال ابن عباس: أوّل من قاس إبليس. فأخطأ القياس فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس. وقال ابن سيرين: أوّل من [قاس] إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلّا بالمقاييس. وقالت الحكماء: أخطأ عدو الله حين فضّل النار على الطين، لأن الطين أفضل من النار من وجوه: أحدها: إنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناة والحلم والحياء والصبر، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي [سبقت] له إلى التوبة والتواضع والتضرّع وأدرته المغفرة والاجتنباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفّة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والإصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق. والثاني: إنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها. والثالث: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنّة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا وفي النار ترابا.
والرابع: إن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لأعدائه وليس التراب سببا للعذاب. والخامس: إنّ الطين [يسقى] من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب. فقال الله له: قالَ فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنّة، وقيل: من السماء إلى الأرض فألحقه بجزائر البحور وإنّما سلطانه وعظمته في خزائن البحور وعرشه في البحر الأخضر فلا يدخل في الأرض إلّا لهبة السارق عليه أطمار تروع فيها [من يخرج] منها فَما يَكُونُ لَكَ فليس لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها في الجنّة، وليس ينبغي أن يسكن الجنّة ولا السماء [متكبر] ولا بخلاف أمر الله عزّ وجلّ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلاء والصغر الذل والمهانة قال إبليس عند ذلك قالَ أَنْظِرْنِي أخّرني واجلني وأمهلني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت، قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤخّرين. ثمّ بيّن مدّة النظر والمهلة في موضع آخر، فقال إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «1» وهي النفخة الأولى حين ثبوت الخلق كلّهم قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي. اختلفوا في ما قال: فبعضهم قال: هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني ثمّ ابتدأ فقال لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ فقيل: هو ما الجزاء يعني فإنّك أغويتني لأجل أنك أغويتني لأقعدن، وقيل: هو ما المصدر في موضع القسم تقديره: بإغوائك إياي لأقعدن كقوله بِما غَفَرَ لِي «2» يعني بغفران ربّي «3» . وقوله أَغْوَيْتَنِي أضللتني عن الهدى. وقيل: أهلكتني، من قول العرب غوى الفصيل [يعني] غوي وذلك إذا فقد اللبن فمات. قال الشاعر: معطفة الأثناء ليس فصيلها ... برازئها درا ولا ميّت غوى «4» وحكى عن بعض قبائل طيئ أنها تقول: أصبح فلان غاويا أي مريضا غارا، وقال محمد بن جرير: أصل الإغواء في كلام العرب تزيين الرجل للرجل الشيء حتّى يحسنه عنده غارا له «5» . قال الثعلبي: وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد الحسين بن هاني قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد [الراوساني] قال: حدثنا عليّ بن سلمة قال: حدثنا أبو معاوية الضرير عن رجل لم يسمّ قال: كنت [عند] طاوس في المسجد الحرام فجاء رجل ممّن يرمي القدر من كبار الفقهاء فجلس إليه فقال طاوس: [يقوم أو يقام] فقام الرجل فقال لطاووس: تقول هذا الرجل فقيه، فقال إبليس: أفقه منه بقول إبليس رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ويقول: هذا أنا أغوي نفسي.
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ يعني لأجلسنّ [لبني آدم] على طريقك القويم وهو الإسلام كما قال أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعني عن أمر ربّكم. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول: «إن الشيطان قعد لبني آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال له: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فعصاه فأسلم ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك فإنّما مثل المهاجر كالفرس في الطول. فعصاه وهاجر ثمّ قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال: أتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصا له وجاهد» [173] «1» . وعن عون بن عبد الله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ قال: طريق مكّة ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآية قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) يقول [أشككهم] في آخرتهم وَمِنْ خَلْفِهِمْ [أن يقيم في كتابهم] وَعَنْ أَيْمانِهِمْ اشتبه عليهم أمر دينهم وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [أشهّي] لهم المعاصي. روى عطيّة عن ابن عباس قال: أما بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فمن قبل دنياهم وأمّا مِنْ خَلْفِهِمْ [فإنّه] آخرتهم وأمّا عَنْ أَيْمانِهِمْ فمن قبل حسناتهم وأما عَنْ شَمائِلِهِمْ فمن قبل سيئاتهم. وقال قتادة: أتاهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ فأخبرهم أنّه لا يعذّب ولا جنّة ولا نار، وَمِنْ خَلْفِهِمْ من أمر الدنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ يزين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها، إياك يا بن آدم من كل وجه غير أنّه لم يأتك من فوقك لم يستطيع أن يحول بينك وبين رحمة الله. وقال الحكم والسدّي لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: يعني الدنيا أدعوهم إليها وأرغبهم فيها وأزينها لهم. وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الآخرة أشككهم و [أثبطهم] فيها. وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل الحق أصدهم عنه [أبتلكم] فيه، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل الباطل أخففه عليهم وأزينه لهم وأرغبهم فيه. وقال مجاهد: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وعَنْ أَيْمانِهِمْ من حيث يبصرون ومِنْ خَلْفِهِمْ وعَنْ شَمائِلِهِمْ حيث لا يبصرون، قال ابن جريج: معنى قوله: من حيث يبصرون أي يخطئون حيث يعلمون أنّهم يخطئون وحيث لا يبصرون لا يعلمون أنهم يخطئون. وقال الكلبي: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل آخرتهم أخبرهم أنّه لا جنّة ولا نار ولا نشور. وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل دنياهم فأمرهم بجمع الأموال لا يعطون لها حقّا [وأخوفهم الضيعة] على ذرّيتهم.
وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل دينهم [فأبيّن] لكلّ قوم ما كانوا [يعبدون] وإن كانوا على هدى شبّهته عليهم حتّى أخرجتهم منه وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل الشهوات واللذات فأزيّنها لهم «1» . وقال شقيق بن إبراهيم: ما من صباح إلّا وقعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، أما من بين يدي فأقول: لا تحزن فإنّ الله غفور رحيم، ويقول ذلك لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى «2» . وأمّا من خلفي فتخوّفني الضيعة على عيالي ومحللي فأقول وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «3» . وأما من قبل يميني فيأتيني من قبل [الثناء] فأقول وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. وأمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات واللّذات فأقول وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ «4» . وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قال الله عزّ وجلّ لإبليس قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي معيبا والذيم والذأم أشد العيب، وهو أبلغ من الذم، يقال: ذمّه يذمّه ذمّا فهو مذموم [وذائمه يذائمه] ذأما [فهو مذءوم وذامه] بذمة ذيما، مثل سار يسير، فهو مذيم والمدحور [المقصي] يقال: دحره يدحره دحرا إذا أبعده وطرده «5» . قال ابن عباس: مذءوم عنه مَذْؤُماً مَدْحُوراً يعني غير مطرودا إذ قال الربيع ومجاهد: مَذْؤُماً [ممقوتا] وروى عطيّة: مَذْؤُماً مقوتا، أبو العالية: مَذْؤُماً [مزريا] به. وقال الكلبي: مَذْؤُماً ملوما مَدْحُوراً مقصيا من الجنّة ومن كل خير، وقال عطاء: مَذْؤُماً ملعونا. وقال الكسائي: المذؤوم المقبوح. وقال النضير بن شميل: المذؤوم [المحبوس] وقال أبان عن ثعلب والمبرّد: المذؤوم المعيب. قال الأعشى: وقد قالت قبيلة إذ رأتني ... وإذ لا تعدم الحسناء ذأما «6»
[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 إلى 25]
وقال أميّة بن أبي الصلب: قال لإبليس رب العباد ... أخرج [رجس الدنيا] مذؤما لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من بني آدم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ منك ومن ذريتك وكفار ذرية آدم أَجْمَعِينَ. وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ يعني إليهما ومعناه فحدث إليهما الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما يعني ليظهر لهما ما غطى وستر عنهما من عوراتهما، وقال وهب: كان عليهما نور لا يرى سوءاتهما ثمّ بين الوسوسة وَقالَ ما نَهاكُما يا آدم وحواء رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ يعني إلّا أن تكونا وكراهيّة أن يكونا من الملائكة يعملان الخير والشر. وقرأ ابن عباس والضحاك ويحيى بن أبي معين: مَلِكَيْنِ بكسر اللام من الملك أخذوها من قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى. أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ من الباقين الذين لا يموتون وَقاسَمَهُما أي أقسم وحلف لهما، وقاسم من المفاعلة أي يختصّ الواحد مثل المعافاة المعاقبة والمناولة. قال خالد بن زهير: وقاسمهما بالله جهدا لأنتم ... ألذ من السلوى إذا ما نشورها «1» قال قتادة: حلف لهما بالله عزّ وجلّ حتّى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما، وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن غر كريم، والفاجر خبّ لئيم [174] «1» . [وحدّثنا] أبو القاسم الحبيبي في بعضها. قال: أنشدنا أبو الحسن المظفّر بن محمد بن غالب قال: أنشدنا نفطويه: إن الكريم إذا تشاء خدعته ... وترى اللئيم مجربا لا يخدع «2» إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ يعني فخدعهما يقال: ما زال فلان يدلي لفلان يعرّفه، يعني ما زال يخطّئه ويكلّمه بزخرف القول الباطل، وقال مقاتل: فزين لهما الباطل. وقال الحسن بن الفضل: يعني تعلقهما بغرور، يقال: تدلي بنفسه ودلى غيره. ولا يكون التدلّي إلّا من علو إلى أسفل، وقيل أصله دللهما فأبدل من إحدى اللامات ياء، كقوله: (يَتَمَطَّى) و (دَسَّاها) ، وقال أبو عبيدة: دلّيهما أخذ لهما وكلاهما من تدلين الدلو إذا أرسلتها في البئر لتملأها فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أكلا منها ووصل إلى بطنيهما بَدَتْ ظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عوراتهما وتهافت عنهما لباسهما حتّى أبصر كل واحد منهما ما ورى عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك. قال قتادة: كان لباس آدم وحوّاء في الجنّة ظفر أكله فلما واقعا الذنب كشط عنهما وبدت سوءاتهما فاستحييا وَطَفِقا يَخْصِفانِ [يوقعان] ويشدان [ويمزّقان ويصلّان] عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وهو ورق التين حتّى صار بهيئة الثوب ومنه خصف النعل. وروى أبي بن كعب: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان آدم رجلا [طوّالا] كأنّه نخلة [سحوق] كثير شعر الرأس فلمّا وقع في الخطيئة بدت له سوءاته وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنّة فعرضت له شجرة من شجر الجنّة فحسبه بشر. فقال: أرسلني، قالت: لست بمرسلتك، فناداه ربّه يا آدم أمنّي تفر، قال: لا يا رب ولكنّي أستحيي منك» [175] «3» . وقال ابن عباس وقتادة: قال الله عزّ وجلّ لآدم: ألم يكن لك فيما أبحته ومنحته لك من الجنّة [مندوحة] من الشجرة، قال: على عهدي ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا، قال: فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض ثمّ لا تنال العيش [إلّا نكدا] فاهبطا من الجنّة، فكانا يأكلان رغدا إلى غير رغد من طعام وشراب، تعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثمّ سقى حتّى إذا بلغ حصد ثمّ طحنه ثمّ عجنه ثمّ خبزه ثمّ أكل ثمّ بلعه حتّى بلغ منه ما شاء الله أن بلغ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما الآية، قال محمد بن قيس: ناداه ربّه يا آدم لم أكلت منها وقد
[سورة الأعراف (7) : الآيات 26 إلى 30]
نهيتك قال: يا رب أطعمتني حواء، قال: لحواء لم أطعمتيه قالت: أخبرتني الحيّة، قال للحيّة: لم أمرتيها؟ قالت: أمرني [إبليس] فقال الله عزّ وجلّ: أمّا إنّك يا حوّاء فكما أدميت الشجرة [فسأدميك] «1» ، وأمّا أنت يا حيّة فاقطع قوائمك فتمشين جهتي الماء على وجهك وسيندفع رأسك من لقيك، وأمّا أنت يا إبليس فملعون مدحور. قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ضررناها بالمعصية وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الهالكين قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ قالَ فِيها تَحْيَوْنَ يعني في الأرض وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ. يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ أي خلقنا لكم، وقيل: نزّلنا أسبابه وآلاته لأنه [المثبّت] بما يقول. وقيل: [على الحكم] كبقيّة صنعته وذلك أن قريشا كانوا يطوفون بالبيت عراة وقوله لِباساً وهو ما يلبس من الثياب يُوارِي يستر سَوْآتِكُمْ عوراتكم واحدها سوءة، وهي فعلة من السوء سمّيت سوأة لأنّه يسوء صاحبها انكشافها من جسده وَرِيشاً يعني مالا في قول ابن عباس والضحاك والسدي، فقال: الريش: الرجل إذا [تموك] وقال ابن زيد: الريش الجمال. وقيل: هو اللباس. وحكي أبو عمرو أنّ العرب تقول: أعطاني فلان ريشة أي كسوة وجهازة. وقرأ عثمان بن عفان والحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء وقتادة: ورياشا بالألف وهو جمع ريش مثل ذئب وذياب وبير وبيار وقدح وقداح.
قال قطرب: الريش والرياش واحد، كقولك دبغ ودباغ ولبس ولباس وحل وحلال وحرم وحرام، ويجوز أن يكون مصدرا من قول القائل: راشه إليه بريشه رياشا. والرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب والفراش وغيرها. وقال ابن عباس: الرياش اللباس والعيش والنعيم. وقال الأخفش: الرياش الخصبة والمعايش. وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ قرأ أهل المدينة والشام. والكسائي وَلِباسَ التَّقْوى بالنصب عطفا على الريش. وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء وخبره (خَيْرٌ) . وجعلوا ذلك صلة في الكلام، وكذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب: ولباس التقوى خير. واختلفوا في لباس التقوى ما هو [هل] يدلّ على لباس التقوى [الدرع] والساعدان. والساقان. والآلات التي يتّقى بها في الحرب مع العدو. وقال قتادة والسدي وابن جريج: لباس التقوى هو الإيمان. وقال معبد الجهني: هو الحياة. وأنشدني أبو القاسم [السدوسي] قال: أنشدني أبو عرابة الدوسي في معناه إني كأني أرى من لا حيالة ... ولا أمانة وسط الناس عريانا. عطيّة عن ابن عباس: هو العمل الصالح وروى الذبال بن عمرو عن ابن عباس قال: هو السمت الحسن في الوجه. وقال الحسن: رأيت عثمان بن عفان (رضي الله عنه) على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قوهي «1» محلول الزر وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام، ثمّ قال: أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفس محمد بيده ما عمل أحد قط سرا إلّا ألبسه الله رداءه علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر» [176] «2» ثمّ تلا هذه الآية وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ قال: السمت الحسن. وقال عروة بن الزبير: لِباسُ التَّقْوى خشية الله، ابن زيد: ستر للعورة يتقي الله فيواري عورته ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ قال وهب بن منبه: الإيمان عريان لباسه التقوى وزينته الحياء وفاله [الفقه] وجماله العفّة، وثمره العمل الصالح. يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ لا يعلّمنّكم ولا يستزلّنكم فتبدي برأيكم للناس في الطواف بطاعتكم. كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يعني الشيطان يَراكُمْ يا بني آدم هُوَ وَقَبِيلُهُ خيله وجنوده وهم الجن والشياطين.
قال ابن زيد: نسله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ قال مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربعا: نرى ولا يرى ونخرج من تحت الثرى. ويعود شيخنا فتى. قال مالك بن دينار: إن عدوا [يراك] ولا تراه لشديد [المؤنة] إلّا من عصم الله. وسمعت أبا القاسم [الحبيبي] قال: سمعت أبي قال: سمعت عليّ بن محمد الورّاق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: الشيطان قديم وأنت حديث والشيطان ليّن وأنت ناعم الناحية والشيطان يراك وأنت لا تراه والشيطان لا ينساك وأنت لا تزال تنساه ومن نفسك له عون وليس لك منه عون. وقيل: صدر ابن آدم مسكن له ويجري من ابن آدم مجرى الدم، وأنه لا يقاومه إلّا بعون الله. ومنه يقول: ولا أراه من حيث يراني. وعند ما أنساه لا ينساني فسيدي إن لم [تغث] يسبيني كما سبا آدم من جنانك. قال ذو النون المصري: إن كان هو يراك من حيث لا تراه فإنّ الله يراه من حيث لا يرى الله فاستعن بالله عليه ف إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أعوانا وقرناء لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً وفاحشتهم أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال [بالنهار والنساء بالليل] . ويقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا ولا نطوف في الثياب التي اقترفنا فيها الذنوب. وكانت المرأة تضع على قبلها النسعة أو الشيء وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كلّه ... وما بدى منه فلا أحلّه «1» وفي الآية إضمار ومعناه وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ونهوا عنها قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا قيل: من أين أخذوا آباؤكم قالوا: اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ قال ابن عباس: بلا إله إلّا الله، وقال الضحاك: التوحيد، وقال مجاهد والسدي: بالعدل وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال مجاهد والسدي وابن زيد: يعني وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال الضحاك: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند المسجد فصلّوا فيه ولا تقولن: أحب أن أصلي في مسجدي، وإذا لم يكن عند مسجد [فليأت] أيّ مسجد فليصلّ فيه. وقال الربيع: معناه واجعلوا سجودكم لله سبحانه وتعالى خالصا دون ما سواه من الآلهة
والأنداد وَادْعُوهُ واعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الطاعة والعبادة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «تبعث كل نفس على ما كانت عليه» [177] «1» . قال ابن عباس: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا كما قال هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ «2» ثمّ يعيده يوم القيامة كما بدأ خلقهم كافرا ومؤمنا، فيبعث المؤمن مؤمنا والكافر كافرا. وقال جابر: يبعثون على ما ماتوا عليه المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه. وقال أبو العالية: عادوا إلى علمه فيهم. قال محمد بن كعب: من ابتدأ خلقه على الشقوة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه وإن عمل بإعمال أهل السعادة، كما أنّ إبليس عمل أعمال أهل السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه وإن عمل أهل الشقاوة، كما أنّ السحرة عملت أعمال أهل الشقاء ثم صاروا إلى ما ابتدأ عليه خلقهم. وقال سعيد بن جبير: معناه كما كتب عليكم يكونون نضير قوله كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ. قال قتادة: خلقكم من التراب وإلى التراب تعودون نضير قوله مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ «3» . وقال الربيع ابن أنس: كَما بَدَأَكُمْ عريانا تَعُودُونَ لهم عريانا. نضيره قوله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «4» . وقال السدي: كما خلقكم فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون تخرجون من بطون أمهاتكم، قال الحسن ومجاهد: كَما بَدَأَكُمْ فخلقكم فريق مهتدون وفريق ضلال. كذلك تَعُودُونَ يوم القيامة، نظيره قوله كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ «5» . روي سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال «يحشر الناس حفاة عراة وأوّل من يكسى إبراهيم عليه السلام» [178] «6» ثمّ قرأ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 31 إلى 36]
فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أربابا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ. يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ قال المفسّرون: كانت بنو عامر في الجاهلية يطوفون في البيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل، وكانوا إذا قدموا مسجد منى طرح أحدهم ثيابه في رحله وإن طاف وهي عليه ضرب] وانبزعت [منه فأنزل الله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني الثياب. وقال مجاهد: ما تواري به عورتك [للصلاة والطواف] وقال عطيّة وأبو روق وأبو رزين: المشط «1» . وسمعت أبو القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الهيثم [الجهني] يحكي عن السنوخي القاضي: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني: رفع الأيدي في مواقيت الصلاة. وروى علي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخبر، قول جبرائيل (عليه السلام) للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء زينة وإن زينة الصلاة برفع الأيدي فيها في ثلاث مواضع إذا تحرمت [للصلاة] : إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع» [179] . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا قال الكلبي: كانت بنو عامر لا يأكلون من الطعام إلّا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجّهم يعظّمون بذلك حجّهم فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى وَكُلُوا يعني اللحم والدسم وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا يعني الحرام. قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك سرف ومخيلة «2» ، وقال مجاهد: الإسراف ما قصرت به عن حق الله. وقال: لو أنفقت مثل أحد في طاعة الله لم يكن سرفا ولو أنفقت درهما أو مدا في معصية الله كان إسرافا.
وقال الكلبي: وَلا تُسْرِفُوا يعني لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين من فعل الحرام في الطعام والشراب، وبلغني أنّ الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعليّ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان، قال عليّ: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابنا قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ فقال النصراني: ولا يؤثر [عن رسولكم] شيء في الطب؟ فقال عليّ: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب فيّ [ألفاظ يسيرة] قال: وما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كلّ دواء وأعط كل بدن ما عودته» [180] «1» . فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا. قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ يعني الثياب وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قال ابن زيد: كان قوم إذا حجّوا أو اعتمروا حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها لبنها وسمنها ولحمها وشحمها، فأنزل الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ الآية. قال ابن عباس وقتادة: يعني بالطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب والوصايا والحوامي. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قال ابن عباس: إنّ المؤمنين يشاركون المشركين في الطيّبات من الدنيا فأكلوا من طيّبات طعامهم وألبسوا من جياد ثيابهم وانكحن الزوج إلخ ... كما هم، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء ومجاز الآية: قل هي للذين آمنوا مشتركة في الحياة الدنيا وخاصة في يوم القيامة. وقراءة ابن عباس وقتادة ونافع: خالصةٌ بالرفع يعنون قل هي خالصة. وقرأ الباقون: بالنصب على القطع لأن الكلام قد تمّ دونه كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ يعني الطواف عراة ما ظَهَرَ مِنْها طواف الرجال بالنهار وَما بَطَنَ طواف النساء بالليل. وقيل: هي الزنا و [المخالة] . وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ليس أحد أحب إليه من المدح من الله سبحانه من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الْفَواحِشَ، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وليس أحد أحب إليه العذر من الله عزّ وجلّ من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل [181] «2» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 37 إلى 43]
وَالْإِثْمَ يعني الذنب والمعصية. وقال الحسن: الإثم الخمر. وقال الشاعر: شربت الإثم ظل عقلي كذلك ... الإثم يذهب بالعقول وقال الآخر: نشرب الإثم بالصواع جهارا ... ونرى السكر بيننا مستعارا وَالْبَغْيَ وهو الظلم بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة وبرهانا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ تحريم الملابس والمأكل وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدّة وأجل، وقيل: وقت حلول العقاب وأوّل العذاب. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وإذا انقطع أجلهم، وقرأ ابن سيرين آجالهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً لا يتأخّرون وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لا يتقدّمون يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ شرط معناه: إن أتاكم [عجزا به] فمن بقي، وقيل فأطيعوه وقال: مقاتل: أراد بقوله يا بَنِي آدَمَ لا تشركوا بالرب، وبالرسل محمد صلى الله عليه وسلم وحده. يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى الله وَأَصْلَحَ عمله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها عن الإيمان بمحمد والقرآن أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حظّهم بما كتبوا لهم في اللوح المحفوظ. وقال الحسن والسدي وأبو صلاح: ما كسب لهم من العذاب. وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطيّة: ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة. وروى بكر الطويل عن مجاهد في هذه الآية قال: قوم يعملون أعمالا لا بد من أن يعملوها ولم يعملوها
بعد. قال ابن عباس وقتادة والضحاك: يعني أعمالهم وما كتب عليهم من خير أو شر، فمن عمل خيرا أجزي به ومن عمل شرا أجزي به. مجاهد عن ابن عباس قال: هو ما وعد من خير وشر. عطيّة عن ابن عباس أنّه قال: ينالهم ما كتب لهم وقد كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود «1» ، يدل عليه [قوله تعالى] ، وُجُوهُهُمْ يومئذ مُسْوَدَّةٌ. قال الربيع والقرظي وابن زيد: يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار فإذا فنيت و [تم خرابها] حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا انشغلوا بأنفسهم وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أقروا أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ قالوا: [شهدنا] على أنفسنا [بتبليغ الرسل] وغرّتهم الحياة الدنيا وشهدوا وأقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين قالَ ادْخُلُوا يقول الله عزّ وجلّ لهم يوم القيامة ادخلوا فِي أُمَمٍ يعني مع جماعات قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ يعني كفار الأمم الماضية كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها في الدين والملة ولم يقل أخاها لأنّه عنى بها الأمّة فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود، وكذلك النصارى النصارى والمجوس المجوس ويلعن الأتباع القادة يقولون: لعنكم الله أنتم غررتمونا يقول الله عزّ وجلّ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها أي تلاحقوا جَمِيعاً قرأ الأعمش: حتّى إذا تداركوا، على الأصل، وقرأ النخعي: حتّى إذا أدّركوا، مثقلة الدال من غير ألف أراد فنقلوا من الدرك. قالَتْ أُخْراهُمْ قال مقاتل: يعني أخراهم دخولا للنار وهم الأتباع، لِأُولاهُمْ دخولا وهم القادة. قال ابن عباس: (أُخْراهُمْ) يعني آخر الأمم، (لِأُولاهُمْ) يعني أوّل الأمم، وقال السدي: أُخْراهُمْ يعني الذين كانوا في آخر الزمان. (لِأُولاهُمْ) يعني الذين شرعوا لهم ذلك الدين رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا عن الهدى. يعني الفساد فَآتِهِمْ أي فأعطاهم عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي مضعفا من النار قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ من العذاب وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ حتّى يحل بكم وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ لأنّكم كفرتم كما كفر به ونحن وأنتم في الكفر شرع سواء وفي العذاب أيضا فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ قرئ بالياء والياء والتشديد والتخفيف جميعا لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ يعني لا أرواحهم وأعمالهم لأنّها خبيثة فلا يصعد بل تهوى بها إلى [سجن] تحت الصخرة التي تحت الأرضين. روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة، وأبشري
بروح من الله وريحان ورب غير غضبان فيقولون ذلك حتّى تخرج ثمّ تعرج بها إلى السماء فينفتح لها فيقال: من هذا [فيقال: فلان] فيقولون: مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فيقال: ذلك لها حتّى يعرج بها إلى السماء السابعة. وإذ كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة من الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ، فيقولون ذلك حتّى يخرج، ثمّ يعرج بها إلى السماء فتفتح لها فيقال: من هذا فيقولون فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث أرجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء فيرسل من السماء والأرض فيصير إلى القبر «1» . وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ يعني يدخل البعير في ثقب الإبرة [وهذا مثل والسمّ] وهو الإبرة. وقرأ عكرمة وسعيد بن جبير: الجُمَّل بضم الجيم وبتشديد الميم. وهو حبل السفينة ويقال لها الفلس قال عكرمة: هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش من نار وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وهي جمع غاشية وذلك ما غشاهم وغطاهم وقال القرظي ومجاهد: هي اللحف وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ قال البراء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكسي الكافر لوحين من نار في قبره» [182] «2» ، فذلك قوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي طاقتها وما يسعها ويحلّ لها فلا تخرج منه ولا تضيق عليه أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَنَزَعْنا وأخرجنا وأذهبنا ما فِي صُدُورِهِمْ قلوبهم مِنْ غِلٍّ وحقد وعداوة كان من بعضهم على بعض في الدنيا فجعلناهم إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لا [يحسد] بعضهم بعض على شيء خص الله به بعضهم وفضلهم به، روى الحسن بن عليّ (رضي الله عنه) قال: فينا والله أهل البيت نزلت وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «3» . وقال عليّ- كرّم الله وجهه- أيضا: «إنّي لا أرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ الآية «4» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 إلى 51]
وقال السدي: في هذه الآية: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنّة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يتسخوا بعدها أبدا «1» . وروى الجزائري عن أبي نضرة قال: تحتبس أهل الجنّة حتّى تقتص بعضهم من بعض حتى يدخلوا الجنّة حين يدخلونها، ولا يطلب أحد منهم أحدا علاقة ظفر ظلمها إياه وتحبس أهل النار دون النار حتّى تقتص لبعضهم من بعض يدخلون النار حين يدخلونها، ولا يطلب أحد منهم أحدا بعلاقة ظفر ظلمها إياه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وفقنا وأرشدنا إلى هذا يعني طريق الجنّة وقال سفيان الثوري: معناه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لعمل هذا ثوابه وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أهل النار يرى منزلة من بالجنّة فيقولون: لو هدانا الله نكون [من المؤمنين] وكل أهل الجنّة ترى منزلة من بالنار ويقولون: لولا أنّه هدانا الله فهذا شكرهم قال: وليس [هناك] من كافر ولا مؤمن إلّا وله في الجنّة أو النار منزل [فإذا] دخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار فدخلوا منازلهم رفعت الجنّة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله، ثمّ يقال: يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنّة منازلهم، ونودوا أن صحوا ولا تسقموا وأخلدوا فلا تموتوا وأنعموا ولا تيأسوا وشبّوا فلا تهرموا «2» . وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من الثواب حَقًّا صدقا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب حَقًّا [هذا قول محمد بن جرير] قالُوا نَعَمْ
قال الكسائي «نَعِمْ» بكسر العين وتجوز بإسكانها وهما لغتان فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ فنادى مناد منهم أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الكافرين الَّذِينَ يَصُدُّونَ يصرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دين الله وَيَبْغُونَها عِوَجاً يطلبونها زيغا وميلا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ وَبَيْنَهُما حِجابٌ يعني بين الجنّة والنار حجاب حاجز وهو السور الذي ذكر الله عزّ وجلّ في قوله فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ. وَعَلَى الْأَعْرافِ يعني على ذلك الحجاب. والأعراف سور بين الجنّة والنار وهي جمع عرف وهو كلّ تل مرتفع ومنه عرف الديك لارتفاعه على ما سواه من جسده. وقال الشماخ: وظلت بأعراف تعالى كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز «1» ويروى: بأعراف قفالا، أي قفالى أي قفلى بعضهم بعضا، بمشغرة نصف حمير، وشبّه [قوامها] بالرماح نحاها قصد بها وجهة الريح، أي جهة الريح، وقوله: بأعراف أي نشوز من الأرض. وقال آخر: كل كناز لحمها نياف ... كالعلم الموفي على الأعراف «2» يعني كل كناز نياف لحمها والكناز الصلب. قال السدي: سمي أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس. وقال الحسين بن الفضل: هو الصراط، واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف من هم وما السبب الذي من أجله صاروا هناك؟ فقال حذيفة وابن عباس: أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم في سيّئاتهم وقصرت بهم سيّئاتهم عن الجنّة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك حتّى يقضي الله فيهم ما يشاء ثمّ يدخلهم الجنّة بفضل رحمته وهم آخر من يدخل الجنّة قد عرفوا أهل الجنّة وأهل النار، فإذا أراد الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه من الذهب مكلّلا باللؤلؤ ترابه المسك فالقوا فيه حتّى يصلح ألوانهم ويبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بهم فأتى بهم فقال الله لهم: تمنوا ما شئتم فيتمنون متى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا فيدخلون الجنّة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنّة. قال ابن مسعود: يحاسب الله عزّ وجلّ الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من
سيّئاته بواحدة دخل الجنّة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثمّ قرأ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، ثمّ قال: الميزان يخفف بمثقال حبّة [فيرجح] . ومن استوت حسناته وسيّئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ولم ينزع منهم النور الذي كان في أيديهم. وروى يحيى بن [شبل] أنّ رجلا من بني النضير أخبره عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: «هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا فاعفوا من النار لقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنّة بمعصية آبائهم فهم آخر من [يدخل] الجنّة» [183] . قال شرحبيل بن سعيد: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم، وقال مجاهد: هم قوم صالحون فقهاء علماء، وقال [التميمي] وأبو مجلن: هم ملائكة يعرفون أهل الجنّة وأهل النار فقيل لأبي مجلن يقول الله: وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ وتزعم أنت أنهم ملائكة، فقال: إنهم ذكور ليسوا بإناث، قال ابن عباس: هم رجال كانت لهم ذنوب كثيرة، وكان حبسهم أمر الله يقومون على الأعراف يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وروى [صالح مولى الكوفة] أنّ ابن عباس قال: أَصْحابُ الْأَعْرافِ أولاد الزنا. وقال أبو العالية: هم قوم يطمعون أن يدخلوا الجنّة وما جعل [الله] ذلك الطمع فيهم إلّا كرامة يريدها بهم. وقال عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه قال: هم قوم رضي عنهم آبائهم دون أمهاتهم أو أمهاتهم دون آبائهم فلم يدخلهم الله الجنّة، لأن آباءهم وأمهاتهم غير راضين عنهم ولم يدخلهم النار الرضا آبائهم أو أمهاتهم عنهم فيحبسون على الأعراف إلى أن يقضي الله عزّ وجلّ بين الخلق ثمّ يدخلهم الجنّة، وقال عبد العزيز بن يحيى [الكناني] : هم الذين ماتوا [بالفقر] ولم يبدلوا دينهم، وفي تفسير المنجوني: إنهم أولاد المشركين. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت محمد بن محمد بن الأشعب يحكي عن بعضهم أنهم أناس عملوا الله عزّ وجلّ ولكنهم رأوا في أعمالهم فلا يدخلون النار لأنّهم عملوا أعمالهم لله ولا يدخلون الجنّة لأنّهم طلبوا الثواب من غير الله فيوقفون على الأعراف إلى أن يقضي الله بين الخلق قوله: يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ. وروى جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ قال: «الأعراف موضع عال [من] الصراط عليه العباس وحمزة، وعليّ بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين يعرفون محبيهم بياض الوجوه ومبغضيهم سواد الوجوه» [184] .
وقوله: (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) يعني يعرفون أهل الجنّة ببياض وجوههم ونظرة النعيم عليهم ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة عيونهم. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ يعني أهل الأعراف. قال سعيد بن جبير: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم «1» لأن الله تعالى [ ... ] «2» ، ويود المنافقون وهم على الصراط لو بقي أحدهم ولم [ ... ] «3» . وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ [وجوه] أهل النار أَصْحابِ النَّارِ وحيالهم تعوذوا بالله قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين في النار وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا كانوا عظماء أهل النار جبّارين يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ في الدنيا من المال و [الأولاد] وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان. وقال الكلبي: إنهم ينادون وهم على السور يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان. ثمّ ينظرون إلى الجنّة فيرون فيها الضعفاء والفقراء والمساكين ممن كانوا يستهزؤن بهم مثل سلمان وصهيب وو خبّاب وأتباعهم فينادون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ حلفتم وأنتم في الدنيا لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ يعني الجنّة ثمّ يقال لأصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. وقال مقاتل أقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنّة بل يدخلون النار معهم. فقالت الملائكة الذين حبسوا أصحاب الصراط هؤُلاءِ الَّذِينَ يعني أصحاب الأعراف الذين أَقْسَمْتُمْ يا أهل النار لا [يَنالُهُمُ] اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، ثمّ قالت الملائكة لأصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا [صبّوا] وأوسعوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من طعام الجنّة قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما يعني الماء والطعام عَلَى الْكافِرِينَ قال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس: أي الصدقة أفضل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفضل الصدقة الماء ألا رأيت أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنّة قالوا أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» [185] «4» . الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وهو ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة
[سورة الأعراف (7) : الآيات 52 إلى 58]
والوصيلة والحام والمكاء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الرديئة الدنيئة التي كانوا يفعلونها في جاهليتهم، والدين كل ما أطيع به والتزم من حق أو باطل، وقال أبو روق: دينهم أو عقيدتهم وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نتركهم في النار كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ. وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ من القرآن فَصَّلْناهُ بيّناه عَلى عِلْمٍ منّا بذلك هُدىً وَرَحْمَةً نصبها على القطع لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما يؤول إليه أمرهم من العذاب وورود النار. قال قتادة: تأويله ثوابه. وقال مجاهد: جزاؤه. وقال السدي: عاقبة. وقال ابن زيد: حقيقته يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا اليوم مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قال الله تعالى قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ زال وبطل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ قال سعيد بن جبير: قدّر الله على من في السماوات والأرض في لمحة ولحظة وإنما خلقهن في ستة أيام تنظيما لخلقه بالرفق والتثبيت في الاسم ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال الكلبي ومقاتل: يعني استقر وقال أبو عبيد [فصعد] وقال بعضهم: استولى وغلب. وقيل: ملك وغلب، وكلّها تأويلات مدخولة لا يخفى [بعدها] وأمّا الصحيح والصواب فهو ما قاله الفراء وجماعة من أهل المعاني [إن أول ما] خلق العرش وعهد إلى خلقه يدل عليه قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ «1» أي إلى خلق السماء.
وقال أهل الحق من المتكلمين: أحدث الله فعلا سماه استواء، وهو كالإتيان والمجيء والنزول [وهي] صفات أفعاله. روى الحسن عن أم سلمة في قوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والنزول به إيمان والجحود به كفر. عن محمد بن شجاع البلخي قال: سئل مالك بن أنس عن قول الله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى كيف استوى؟ قال: الكيف مجهول والاستواء غير معقول والإيمان واجب فالسؤال عنه بدعة. وروى محمد بن شعيب بن شابور عن أبيه أن رجلا سأل [الأوزاعي] في قوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقال: هو على العرش كما وصف نفسه، وإني لأراك رجلا ضالا. وبلغني أن رجلا سأل إسحاق بن الهيثم الحنظلي فقال: كيف استوى على العرش أقائم هو أم قاعد؟ فقال: يا هذا إنما يقعد من يمل القيام ويقوم من يمل القعود وغير هذا أولى لك ألّا تسأل عنه. والعرش في اللغة السرير. وقال آخرون: هو ما علا وأظل، ومنه عرش الكرم، وقيل: العرش الملك. قال زهير: تداركتما الاحلاف قد ثل عرشها ... وذبيان قد زلت بأقدامها النعل «2» يُغْشِي [يطمس] اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً مسرعا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ أي مذلّلات بِأَمْرِهِ وقرأ أهل الشام بالرفع على الابتداء والخبر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ سمعت أبا القاسم [الحبيبي] يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع التاجر بهرات الشجري يقول: سمعت أبا زيد حاتم بن محبوب السامي يقول: سمعت عبد الجبار ابن العلاء العطّار يقول: سألت سفيان بن عيينة عن قوله أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فقال: فرق الله بين الخلق والأمر ومن جمع بينهما فقد كفر. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يحمد الله على [ما عمل من] عمل صالح وحمد نفسه فقد
قلّ شكره وحبط عمله، ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه لقوله تعالى أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» [186] «1» . وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي، أنشدنا أبو المثنّى معاذ بن المثنى العنبري عن أبيه محمود بن الحسن الورّاق قال: إن لله كل الأمر في كل خلقه ... ليس إلى المخلوق شي من الأمر تَبارَكَ اللَّهُ قال الضحاك: تَبارَكَ تعظم، الخليل ابن أحمد: تَبارَكَ تمجد، القتيبي: تفاعل من البركة، الحسين بن الفضيل: تَبارَكَ في ذاته وبارك فيمن شاء من خلقه رَبُّ الْعالَمِينَ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً تذلّلا واستكانة وَخُفْيَةً سرّا. وروى عاصم الأحول عن ابن عثمان الهندي عن أبي موسى قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاء فأشرفوا على واد فجعل [ناس] يكبّرون ويهلّلون ويرفعون أصواتهم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أيّها الناس أربعوا على أنفسكم إنّكم لا تدعون أصم ولا [غائبا] إنّكم تدعون سميعا قريبا إنّه معكم» [187] «2» . وقال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ثمّ قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما شعر به جاره فالرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلّي الصلاة الطويلة في بيت وعنده الدور وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون [يجتهدون] في الدعاء ولا يسمع لهم صوتا كأن كان إلا همسا بينهم وبين دينهم، وذلك أن الله تعالى يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وإن الله ذكر عبدا صالحا ورضى فعله فقال عزّ من قائل: (نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) . إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في الدعاء، قال أبو مجلن: هم الذين يسألون منازل الأنبياء، وقال عطيّة العوفي: هم الذين يدعونه فيما لا يحل على المؤمنين فيقولون: اللهمّ أخزهم اللهمّ ألعنهم، قال ابن جريج: من [الاعتداء] رفع الصوت والنداء بالدعاء والصفح وكانوا يؤمرون بالتضرّع والاستكانة وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالشرك والمعصية والدعاء إلى غير عبادة الله بَعْدَ إِصْلاحِها بعد [إصلاح] الله إيّاها يبعث الرسل، والأمر بالحلال والنهي عن المنكر والحرام وكل أرض قبل أن يبعث لها نبي فاسدة حتّى يبعث الرسل إليها فيصلح الأرض بالطاعة. وقال عطيّة: معناه لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً قال الكلبي: خَوْفاً منه ومن عذابه وَطَمَعاً فيما عنده من مغفرته وثوابه،
الربيع بن أنس: خَوْفاً وَطَمَعاً كقوله رَغَباً وَرَهَباً «1» . وقيل: خوف العاقبة وطمع الرحمة، ابن جريج: خوف العدل وطمع الفضل. عطاء: خَوْفاً من النيران وَطَمَعاً في الجنان. ذو النون المصري: خَوْفاً من الفراق وَطَمَعاً في التلاق إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وكان حقه قربته. واختلف النحاة فيه وأكثروا وأنا ذاكر نصوص ما قالوا. قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب. وقال الأخفش: هي المطر فيكون القريب نعتا للمعنى دون اللفظ كقوله تعالى وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ «2» ولم يقل: منها، لأنه أراد بالقسمة الميراث والمال. وقال فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ «3» والصواع مذكّر لأنّه أراد به القسمة، والميراث [كالمنشريّة] والسقاية. وقال الخليل بن أحمد: القريب والبعيد يستوي فيهما المذكر والمؤنث والجمع [يذكر ويؤنث] يقول الشاعر: كفى حزنا أنّي مقيم ببلدة ... أخلّائي عنها نازحون بعيد «4» وقال آخر: كانوا بعيدا فكنت آملهم ... حتّى إذا ما تقربوا هجروا «5» وقال آخر: فالدار منّي غير نازحة ... لكن نفسي ما كادت مواتاتي [وقال سيبويه] : لمّا أضاف المؤنث إلى المذكّر. أخرجه على مخرج المذكر، وقال الكسائي: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مكانها قريب كقوله: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ أي إتيانها قريب. قال النضر بن شميل: الرحمة مصدر وحق المصادر التذكير كقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ «6» وقال الشاعر: إنّ السماحة والمروة ضيمنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح «7»
ولم يقل: ضمنتا لأنّها مصدر. وقال أبو عمر بن العلاء: القريب في اللغة على ضربين قريب قرب [مقربه أبوابه] كقول العرب: هذه المرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة وهذه المرأة قريب منك إذا كانت بمعنى المسافة والمكان. قال امرؤ القيس: له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكر «1» وقال أبو عبيدة: القريب والبعيد يكونان للتأنيث والتذكير واحتج بقول عروة بن الورد: خشيته لا عفراء منك قريبة ... فتدنوه ولا عفراء منك بعيد وقال أبو عبيدة: القريب والبعيد إذا كانا اسمين استوى فيهما المذكر والمؤنث وان بنيتهما على قربت وبعدت فهي قريبة وبعيدة. وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً قرأ عاصم بُشْراً بالباء المضمومة والشين المجزومة يعني أنّها تبشّر بالمطر يدلّ عليه قوله: الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ «2» . وروى عنه بُشُراً بضم الباء والشين على جمع البشير مثل نذير و [نذار] . وهي قراءة ابن عباس. وقرأ غيره من أهل الكوفة نُشْراً بفتح النون وجزم الشين وهو الريح الطيبة اللينة. قال امرؤ القيس: كان المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامي ونشر القطر وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وزر بن حبيش، واختاره أبو عبيد لقوله: وَالنَّاشِراتِ نَشْراً وقرأ أهل الحجاز والبصرة نُشُراً بضم النون والشين واختياره أبو حاتم فقال: هي جمع نشور مثل صبور وصابر، وشكور وشاكر. وهي الرياح التي تهب من كل ناحية وتجيء من كل [وجه] وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وابن عامر نُشْراً بضم النون وجزم الشين على التخفيف. وقرأ مسروق (نَشَراً) بفتحتين أراد منشورا [كالمقبض] والقبض بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني قدّام المطر حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ حملت سَحاباً ثِقالًا المطر سُقْناهُ رد الكناية إلى لفظ السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني إلى بلد. وقيل: معناه [لأجل] بلد لا نبات له فَأَنْزَلْنا بِهِ أي السحاب وقيل: بالبلد الْماءَ يعني المطر، وقال أبو بكر بن عيّاش: لا تقطر من السماء قطرة حتّى يعمل فيها أربع: رياح
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 إلى 64]
الصبا تهيّجه والشمال تجمعه والجنوب تدرّه والدبور تفرّقه كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أحياء قال أبو هريرة وابن عباس: إذا مات الناس كلّهم في النفخة الأولى أمطر عليهم أربعين عاما [يسقى] الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان فينبتون في قبورهم بذلك المطر كما ينبتون في بطون أمهاتهم، وكما ينبت الزرع من الماء حتّى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثمّ يلقى عليهم نومة فينامون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور الثانية عاشوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم إذا استيقظ من نومه فعند ذلك يقولون يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «1» فيناديهم المنادي هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ «2» . وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ هذا مثل ضربه الله المؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب الزاكي يخرج نباته ريعة بإذن الله، فمثل الكافر كمثل الأرض الصبخة الخبيثة التي لا يخرج نباتها] وغلّتها [إِلَّا نَكِداً [أي عسيرا قليلا بعناء] ومشقّة وقرأ أبو جعفر: (نَكَداً) بفتح الكاف أي النكد كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بينهما لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ. لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهو نوح بن ملك بن متوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس بن
مهلائيل بن يزد بن قيثان ابن انوش بن شيث بن آدم عليهم السلام، وهو أول نبي بعد إدريس وكان نجارا بعثه الله عزّ وجلّ إلى قومه وهو ابن خمسين سنة فقال لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ محمد بن السميقع (غَيْرَهُ) بالنصب. قال الفراء: بعض بني [أسد وقضاعة أجاز نصب (غير) في كل موضع يحسن فيه «إلا» ] «1» ثمّ الكلام قبلها أو لم يتم فيقولون: ما جاءني مشرك وما أتاني أحد غيرك. فأنشد الفضل: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في ذات أو قال «2» وقال الزجاج: قد يكون النصب من وجهين: أحدهما الاستثناء من غير [جنسه] . والثاني الحال من قوله اعْبُدُوا اللَّهَ لأن «غيره» نكرة، وإن أضيف إلى المعارف. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثّاب والأعمش والكسائي: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ بكسر الراء على نعت الإله، واختاره أبو عبيد ليكون كلاما واحدا. وقرأ الباقون (غَيْرُهُ) بالرفع على وجهين: أحدهما: التقديم وإن كان مؤخّرا في اللفظ تقديره: ما لكم غيره من إله غيره. والثاني أن يجعله نعت التأويل الإله لأن المعنى ما لكم إله غيره إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تؤمنوا عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ يعني الأشراف والسادة، وقال الفراء: هم الرجال ليست فيهم امرأة إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ خطال وزوال عن الحق مُبِينٍ يعني ظاهر قالَ نوح يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ولم يقل: ليست لأن معنى الضلالة الضال، وقد يكون على معنى تقديم الفعل وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ قرأ أبو عمرو: أُبْلِغُكُمْ خفيفة في جميع القرآن لقوله: (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي) ، ولِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ. ولأن جميع كتب الأنبياء نزلت دفعة واحدة [منها] القرآن، وقرأ الباقون: أُبَلِّغُكُمْ بالتشديد واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لأنّها أجزل اللغتين، قال الله: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «3» . وَأَنْصَحُ لَكُمْ يقال [بتخفيفه] ونصحت له وشكرته وشكرت له وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من عقابه لا يرد عن القوم المجرمين أَوَعَجِبْتُمْ الألف للاستفهام دخلت على واو العطف كأنه قال: إن أضعتم كذا وكذا أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني نبوّة الرسالة، وقيل: [معجزة وبيان] . عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ عذاب الله إن لم يؤمنوا وَلِتَتَّقُوا [ولكي يتّقوا] الله
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 إلى 72]
وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لكي ترحموا فَكَذَّبُوهُ يعني نوحا فَأَنْجَيْناهُ من الطوفان وَالَّذِينَ مَعَهُ قال ابن إسحاق: يعني بنيه الثلاثة، سام وحام ويافث وأزواجهم وستة أناس ممن كان آمن به وحملهم في الفلك وهو السفينة «1» . وقال الكلبي: كانوا ثمانين إنسانا أربعون ذكورا وأربعون امرأة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن الحق جاهلين بأمر الله، وقال الضحاك: (عَمِينَ) كفّارا. وقال الحسين بن الفضل: (عَمِينَ) في البصائر يقال: رجل عم عن الحق وأعمى في البصر. وقيل: العمي والأعمى واحد كالخضر والأخضر. وقال مقاتل: عموا عن نزول العذاب بهم وهو الحرث. وَإِلى عادٍ يعني وأرسلنا إلى عاد فلذلك نصب أَخاهُمْ وهو علاء بن عوص بن آدم ابن سام بن نوح وهو عاد الأولى أَخاهُمْ في النسب لا في الدين هُوداً وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح وقال ابن إسحاق: هود بن [شالخ] بن أرفخشد بن سام بن نوح قالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ الله فتوحدونه وتعبدونه قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ جهالة وضلالة [بتركك ديننا] وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ إنّك رسول الله إلينا وأن العذاب نازل بنا قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أدعوكم إلى التوبة أَمِينٌ قال الضحاك: أمين على الرسالة، وقال الكلبي: قد كنت فيكم قبل ذلك [اليوم أمينا] أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يعني نفسه
لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ يعني أهلكهم [بشركاء منهم] وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي طولا وشدّة وقوّة. قال مقاتل: طول كل رجل اثنا عشر ذراعا، ابن عباس: تمثّل ذراعا وقال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعا. أبو حمزة الثمالي سبعون ذراعا. ابن عباس: ثمانون، وهب: كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع، وكذلك مناخرهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ نعم الله واحدها [إل وإلي وإلو وإلى كالآناء واحدها إنى وإني وإنو وأني] «1» لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا وندع ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعني العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ قَدْ وَقَعَ وجب ونزل عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أي عذاب [والسين مبدأ من الزاي] «2» وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها وضعتموها على الأصنام [ ... ] «3» يعبد نارا أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ قبلكم ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ حجّة وبيان وبرهان فانتظروا نزول العذاب. إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْناهُ يعني هودا عند نزول العذاب. وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ وكانت قصّة عاد وهلاكهم على ما ذكره محمد بن إسحاق والسدي وغيرهما من الرواة والمفسّرين: إن عادا كانوا ينزلون اليمن وكان مساكنهم منها بالشجرة والأحقاف، وهي رمال يقال لها رمل عالج (ودمما وبيرين) «4» ما بين عمان إلى حضرموت، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض فكلّها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عزّ وجلّ وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله صنم يقال له: صنا، وصنم يقال له: صمود، وصنم يقال لها: الهبار. فبعث الله عزّ وجلّ إليهم هودا نبيّا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وأمرهم أن يوحدوا الله ولا يشركوا معه إلها غيره، وأن يكفّوا عن ظلم الناس [ولم] يأمرهم فيما تذكر بغير ذلك. فأبوا عليه وكذّبوه وَقالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، وبنو المصانع وبطشوا بطشة الجبارين كما ذكر الله تعالى فلما فعلوا ذلك أمسك الله المطر عنهم ثلاث سنين حتّى جهدهم ذلك.
وكانت الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو حرب دعوا إلى الله الفرج وطلبتهم إلى الله عند البيت الحرام بمكّة مسلمهم ومشركهم فتجتمع بمكّة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم وكلّهم معظّم لمكّة عارف بحرمتها ومكانها من الله عزّ وجلّ. وأهل مكّة يومئذ العماليق وإنّما سمّوا العماليق لأن أباهم عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان سيّد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له: معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت [الخبيري] رجل من عاد الأكبر فلمّا قحط المطر عن عاد [وجمدوا] قال: جهزوا وفدا إلى [أن يستسقوا] لكم فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عقير. وكان مسلما يكتم إسلامه وجهلمة بن الخيبري، قال معاوية بن بكرة: ثمّ بعثوا لقمان ابن عاد بن صد بن عاد الأكبر، فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم ومعه رهط من قومه حتّى بلغ [عدّة فعدّهم] سبعين رجلا فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكّة خارجا من الحرم. فأنزلهم وأكرمهم وكانوا إخوانه وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوّثون من البلاء الذي أصابهم أشفق ذلك عليه وقال: هلك إخواني وأصهاري وهؤلاء يقيمون عندي وهم ضيفي والله ما أدري كيف أصنع بهم إنّي لأستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنون أنّه ضيق منّي ببقائهم عندي، وقد هلك من ورائهم من قومهم [جدبا] وعطشا، فشكى ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا: اصنع شعرا نغني به لا يدرون من قاله لعلّ ذلك [يحرّكهم] . فقال معاوية بن بكر: لعل الله يسقينا غماما ... ألا يا قيل ويحك قم فهينم قد أمسوا لا يبينون كلاما ... فيسقي أرض عاد ان عادا به الشيخ الكبير ولا الغلاما ... من العطش الشديد فليس نرجو فقد أمست نساؤهم عيامى ... وقد كانت نسائهم بخير ولا يخشى لعادي سهاما ... وإن الوحش يأتيهم جهارا نهاركم وليلكم التماما ... وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم قوم ولا لقوا التحيّة والسلاما «1» ... فقبح وفدكم من وفد فلما قال الشعر غنتهم به الجرادتان فلما سمع القوم قال بعضهم لبعض: إنّما بعثكم قومكم يتغوّثون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم وقد أطلتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا
لقومكم، وقال مرثد بن سعد بن عفير: إنكم والله ما تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيّكم وأنبتم إليه سقيتم، فأظهر إسلامة عند ذلك فقال جلهمة بن [الخيبري] خال معاوية حين سمع قوله وعرف أنّه اتبع دين هود (عليه السلام) : ذوي كرم وأمك من ثمود ... أبا سعد فإنّك من قبيل ولسنا فاعلين لما تريد. ... فإنا لا نطيعك ما بقينا ورمل والصداء مع الصمود. ... أتأمرنا لنترك دين رفد ذوي رأي ونتبع دين هود ... ونترك دين آباء كرام ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر وكان شيخا كبيرا: [احبسا] عنّا مرثدا بن سعد فلا يدخل معنا مكّة فإنّه اتبع دين هود وترك ديننا. ثمّ خرجوا إلى مكّة يستسقون بها لعاد فلمّا ولّوا إلى مكّة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتّى أدركهم بها فقال: لا أدعو الله عزّ وجلّ بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم قام يدعو الله وهم قد اجتمعوا يدعون الله ويقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعونك، وكان قيل بن عنز على رأس وفد عاد، وقال وفد عاد: اللهمّ أعطه ما سألك واجعل سؤالنا مع سؤاله، وكان [قد تخلف] عن وفد عاد حين دعا لقمان بن عاد وكان سيّد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللهمّ إنّي جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي وسأل الله عزّ وجلّ طول العمر. فعمّر عمر سبعة أنسر. وقال: قيل بن عنز: [يا إلهنا] إن كان هود صادقا فاسقنا فإنّا قد هلكنا. وقال: اللهمّ إنّي لم [أجئ] لمريض فأداويه ولا لأسير فأناديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فأنشأ الله عزّ وجلّ له [سحائب] ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثمّ نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحاب ما شئت، فقال قيل: اخترت السحابة السوداء فإنّها أكبر السحب، فناداه مناد قد اخترت رمادا رمددا، لا تبقى من عاد أحدا، لا والدا ولا ولدا، إلا جعلتهم همدا، إلا بني اللوذية المهدا. وبنو اللوذية هم بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر فكانوا سكان بمكّة مع أخوالهم ولم يكونوا مع عاد بأرضهم وعاد الآخر كان من نسل الذي بقوا من عاد. ونادى الله عزّ وجلّ السحابة السوداء التي اختارها قيل: [فيها من النقمة] من عاد حتّى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا بها وقالوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا يقول الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «1» .
وكان أول من أبصر ما فيها وعرف إنّها ريح امرأة من عاد يقال لها: مهدر، فلمّا أتت عليهم صاحت وصعقت. فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحها فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها سَخَّرَها الله عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «1» أي دائمة فلم يدع من عاد أحدا إلّا هلك. فاعتزل هود (عليه السلام) ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبها ومن ريح إلّا ما تلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس. وإنها لترتفع بعاد والظعن إلى ما بين السماء والأرض وتدفعهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكّة حتّى مرّوا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد فأخبرهم الخبر. فقالوا له: فأين فارقت هود وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر وكأنّهم شكوا فيما حدّثهم به فقالت هذيلة بنت بكر: صدق ورب مكّة. وذكروا أنّ مراد بن سعد ولقمان بن عاد، وقيل: بن عنز حين دعوا بمكّة قيل لهم قد أعطيتهم مناكم فاختاروا لأنفسكم إلّا أنّه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مهد: اللهم أعطني [برّا وصدقا] فأعطي ذلك. وقال لقمان: أعطني يا رب عمرا، فقيل له: اختر لنفسك بقاء سبع بعرات «2» سمر من أظب عفر في جبل وعر لا يمسها القطر، أو بقاء سبعة أنسر إذا مضى نسر خلف بعده نسر واختار سبعة أنسر فعمر لقمان عمر سبعة أنسر يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة ويأخذ الذكر منها لقوته حتّى إذا مات أخذ غيره، ولم يزل يفعل ذلك حتّى على السابع، وكان كل نسر يعيش مائتي سنة وكان آخرها لبد، فلما مات لبد مات لقمان معه. وأما قيل: فإنّه اختار أن يصيبه ما أصاب قومه فقيل له: أنّه الهلاك فقال: لا أبالي لا حاجة لي في البقاء بعدهم فأصابه الذي أصاب عادا من العذاب فهلك «3» . عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أوحى الله إلى الريح العقيم أن تخرج على قوم عاد فتنتقم له منهم، فخرجت بغير كيل على قدر منخر ثور حتّى رجفت الأرض ما بين المشرق والمغرب فقال [الخزان] يا رب لن نطيقها، ولو خرجت على حالها لأهلكت ما بين مشارق الأرض ومغاربها فأوحى الله إليها أن ارجعي فاخرجي على قدر خرق الخاتم [فرجعت] فخرجت على قدر خرق الخاتم وهي الخلقة «4» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 إلى 79]
عن عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبيت قوم من هذه الأمّة على طعام وشراب ولهو فيصبحون قردة وخنازير وليصيبنّهم خسف وقذف فيقولون: لقد خسف الليلة [ببنيّ] فلان وخسف الليلة بدار فلان وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا بشربهم الخمور وأكلهم الربا واتخاذهم القينات ولبسهم الحرير وقطعهم الأرحام» [188] «1» . وفي الخبر: أنّه أرسل عليهم من الريح قدر ما تجري في خاتم ، قال السدي: بعث الله إلى عاد الريح العقيم فلمّا دنت منهم نظروا إلى [الإبل] والرجال تطير بهم الريح من السماء والأرض فلمّا رأوها [بادروا] إلى البيوت فلمّا دخلوا البيوت دخلت عليهم وأهلكتهم فيها ثمّ أخرجتهم من البيوت، فلمّا أهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سودا فلقطتهم إلى البحر وألقتهم فيه ولم تخرج ريح قط إلّا مكيال إلّا يومئذ فإنّها عتت على الخزنة فقلبتهم فلم يعلموا كم مكيالها. وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة: سمعت عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثبا أحمر يخالطه مدرة حمراء وسدر كثير بناحية كذا وكذا من حضرموت، قال: نعم يا أمير المؤمنين، والله إنّك لتنعته نعت رجل قد رآه، وقال: ولكنّي قد حدّثت عنه، فقال الحضرمي: [وما شأنه] يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود- صلوات الله عليه- «2» . عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أنّه قال: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيّا وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل في تلك البقعة. وفي رواية أخرى: وكان النبيّ من الأنبياء إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون معه إلى مكّة بمن معه فيعبدون الله فيها حتّى يموتوا.
وَإِلى ثَمُودَ قرأ يحيى بن وثاب: إلى ثمودٍ بالصرف والتنوين. والباقون بغير الصرف وإنّما يعني: وإلى بني ثمود، وهو ثمود بن [عاد] بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو [جديس] وأراد هاهنا القبيلة. قال أبو عمرو بن العلا: سمّيت ثمود لقلّة مائها والثمد الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى أَخاهُمْ صالِحاً وهو صالح بن [عبيد] بن أسف ابن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجّة ودلالة من ربّكم على صدقي هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ أضافها إليه على التفضيل والتخصيص كما يقال: بيت الله «1» . وقيل: أضيفت إلى الله لأنّها كانت بالتكوين من غير اجتماع ذكر وأنثى ولم يكن في صلب ولا رحم ولم يكن للخلق فيها سعي آيَةً نصب على الحال أي انظروا إلى هذه الناقة فَذَرُوها تَأْكُلْ العشب فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ولا تصيبوها [بعقر] فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ أسكنكم وأنزلكم فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ قرأ الحسن (وَتَنْحَتُونَ) بفتح الحاء وهي لغة الْجِبالَ بُيُوتاً وكانوا ينقبون في الجبال البيوت فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني الأشراف والقادة الذين تعظّموا عن الإيمان بصالح عليه السلام لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعني الأتباع لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ جاحدون فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نحروها وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا يعني العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من الصادقين فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني الصيحة والزلزلة وأصلها الحركة مع الصوت. قال الله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. قال الشاعر: وظلّت جمال القوم بالقوم ترجف «2» ... ولمّا رأيت الحج قد آن وقته وقال الأخطل:
كبر كالنسر أرجف الإنسان مهدود فيه «1» ... أما تريني [حناتي] الشيب من فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي في أرضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار. وقيل: أراد به الديار فوحد كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «2» ومعنى جاثِمِينَ جامدين [مبتلين] صرعى هلكوا، وأصل الجاثم البارك على الركبة. قال جرير: مطايا القدر كالحدأ الجثوم «3» ... عرفت المنتأى وعرفت منها فَتَوَلَّى أعرض صالح عَنْهُمْ وَقالَ: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ وكانت قصّة صالح وثمود وعقرهم الناقة سبب هلاكهم على ما ذكره ابن إسحاق والسدي ووهب وكعب وغيرهم من أهل الكتب قالوا: إن عادا لمّا هلكت وانتهى أمرها عمّرت أعمارهم واستخلفوا في الأرض فربوا فيها وعمّروا، حتّى جعل أحدهم يبني المسكن من [المدر] فينهدم والرجل منهم حي. فلما رأوا ذلك اتخذوا الجبال بيوتا فنحتوها وجابوها وخرقوها وكانوا في سعة من معائشهم فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا غير الله، فبعث الله إليهم صالحا وكانوا فيها عربا كان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا. فبعثه الله تعالى إليهم شابّا فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ حتّى شمط وكبر لا يتبعه منهم إلّا قليل مستضعفون فلمّا ألحّ عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التحذير والتخويف سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لقوله، قال: أي آية تريدون؟ قالوا: نريد أن تخرج معنا إلى عيدنا هذا وكان اسم عيد يخرجون إليه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو وإن أستجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا. فقال لهم صالح: نعم، فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك وخرج صالح معهم ودعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء ممّا يدعو به. ثمّ قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيّد ثمود: يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة. لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها: الكاثبة. ناقة مخترجة جوفاء وبراء. فالمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل، فإن فعلت صدّقناك وآمنّا بك، فأخذ صالح عليهم مواثيقهم إن فعلت لتصدقنني ولتؤمنن به، قالوا: نعم. فصلّى صالح ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها ثمّ تحرّكت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشرا وجوفاء وبراء كما سألوا لا يعلم ما بين جنبيها إلّا الله عزّ وجلّ عظما
وهم ينظرون ثمّ [نتجت] ثقبا مثلها في العظم. فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدّقوه فنهاهم ذوءاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر وكانوا من أشراف ثمود. وكان لجندع بن عمرو ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد فأراد أن يسلم فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم فقال رجل من آل ثمود: إلى دين النبيّ دعوا شهابا ... وكانت عصبة من آل عمرو فهمّ بأن يجيب ولو [أجابا] ... عزيز ثمود كلّهم جميعا وما عدلوا بصاحبهم ذوءابا ... لأصبح صالح فينا عزيزا تولّوا بعد رشدهم ذئابا «1» ... ولكن الغواة من آل حجر فلما خرجت الناقة قال صالح (عليه السلام) : هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ «2» ، فمكثت الناقة ومعها سقيها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء سبتا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر من الحجر يقال لها بئر الناقة فما ترفعها حتّى تشرب كلّ ما فيها لا تدع قطرة ماء فيها ثم ترفع رأسها [فتفسح] يعني تفجج لهم فيحتلبون ما شاؤوا من لبن فيشربون ويدخرون حتّى يملؤوا أوانيهم كلهم ثمّ تصدر من [غير] الفج الذي وردت لا تقدر على أن تصدر من حيث وردت لضيقه عنها فلا يرجع منه ثمّ ترفع رأسها. قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعا، حتّى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤوا من الماء ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة [وكانت] الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها أغنامهم وأبقارهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي في حرّه وجدبه. والمواشي تنفر منها إذا رأتها [تشتو] في بطن الوادي إذا كان الشتاء، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب. فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار وكانت مراتعها في ما يزعمون [الجناب] وحسمى، كل ذلك ترعى مع واد الحجر. فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربّهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فأجمعوا على عقرها. وكانت امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز تكنّى أم غنم وهي من بني عبيد ابن المهل، وكانت امرأة ذوءاب بن عمر، وكانت عجوزا مسنّة وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم، وامرأة أخرى يقال لها: صدوف بنت المحيا بن زهير ابن المحيا سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له: وادي المحيا
الأكبر جد المحيا الأصغر أبي صدوف، وكانت صدوف من أحسن الناس وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح (عليه السلام) وأعظمهم به كفرا، وكانتا تحبان أن يعقرا الناقة مع كفرهما به لما أضرت به من مواشيهما وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له: صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف من بني هليل فأسلم وحسن إسلامه، وكانت صدوف قد فوّضت إليه مالها فأنفقه على من أسلم له من أصحاب صالح حتّى رق المال فاطلعت على ذلك [من] إسلام صدوف وحاسبته على ذلك. فأظهر لها دينه فدعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وأخذت بنيها وبناتها منه فغيبتهم في عبيد بطنها الذي [هي] منه وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها فقال لها: ردي عليّ ولدي، فقالت: حتّى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني [جندع] بن عبيد، فقال لها صنيم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد. وذلك أن بني مرداس كانوا مسلمين. فقالت: لا أنافرك إلّا إلى من دعوتك إليه. فقالت بنو مرداس: والله لتعطينه ولده كارهة أو طائعة فلما رأت ذلك أعطته إياهم. ثم إنّ صدوف وعنيزة تحيّلا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل بهم فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له [الحبّاب] لعقر الناقة وعرضت نفسها إن هو فعل ذلك [فأبى] عليها فدعت ابن عم لها يقال له: مصدع بن مهرج بن المحيا وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناس وجها وأكثرهم مالا فأجابها إلى ذلك، ودعت عنيزة بنت غنم قدار ابن سالف بن جندع رجلا من أهل قرح وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعه» [189] «1» واسم أمّه قدير. وكان رجال أحمرا أزرقا قصيرا يزعمون أنّه كان لزنية من رجل يقال له: صبيان ولم يكن لسالف الذي يدعى السر، ولكنه قد ولد على فراش سالف فقالت: أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة، وكان قدار عزيزا منيعا في قومه فانطلق قدار بن سالف هو ومصدع بن مهرج فاستنفرا غواة من ثمود فاتبعهما سبعة نفر، وكانوا تسعة رهط أحدهم هويل بن مسطح خال عزيز من أهل حجر [ودعيت] بن غنم بن ذاغر ذؤاب بن مهرج بن مصدع وخمسة لم يذكر لنا أسماءهم فاجمعوا على عقر الناقة. وقال السدي وغيره: أوحى الله تعالى إلى صالح (عليه السلام) أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك. فقالوا: ما كنّا لنفعل ذلك. فقال صالح: إنّه يولد في قومكم غلام يعقرها فيكون هلاككم على يديه، فقالوا: لا يولد لنا ابن في هذا الشهر إلّا قتلناه.
قال: فولد لهم تسعة في ذلك الشهر. فدعوا أبناءهم ثمّ ولد العاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك ابن وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا، وكان إذا مرّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، فغضب التسعة على صالح، لأنّه كان سبب قتلهم أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنّه وأهله قالوا: نخرج فنري الناس أنا قد خرجنا إلى [سفرنا] فنأتي الغار فنكون فيه حتّى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ثمّ رجعنا إلى الغار فكنّا فيه ثمّ رجعنا فقلنا مهلك أهله وإنّا لصادقون يصدّقوننا يعلمون إنّا قد خرجنا إلى سفرنا، وكان صالح صلى الله عليه وسلم لا ينام معهم في القرية. وكان في مسجد يقال له مسجد صالح فيه يبيت الليل. فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ويذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فلمّا دخلوا الغار وأرادوا أن يخرجوا من [الجبل] سقط عليهم الغار فقتلهم فانطلق رجل ممّن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رطخ فرجعوا وجعلوا يصيحون في القرية أي عباد الله أما رضي صالح [بأن] أمرهم بقتل أولادهم حتّى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة. وقال ابن إسحاق: إنّما كان تقاسم التسعة على قتل صالح صلى الله عليه وسلم بعد عقرهم الناقة وإنذار صالح إياهم بالعذاب. ذلك أن التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: هلمّ فلنقتل صالحا وإن كان صادقا عجّلنا قتله، وإن كان كاذبا قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدفعتهم الملائكة بالحجارة فلمّا أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم مشتدخين قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، ثمّ همّوا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح. وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا وقد وعدكم أنّ العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقا لم تزيدوا ربّكم إلّا غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك. قال السدي وغيره: فكان شر مولود- يعني قدار- وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في الجمعة. ويشبّ في الشهر شباب غيره في السنة فلمّا كبر جلس مع أناس يصيبون من الشراب فأرادوا ما يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة. فاشتد ذلك عليهم وقالوا في شأن الناقة وشدّتها عليهم ونحن ما نصنع باللبن لو كنّا نأخذ من هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة نسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا، فقال ابن العاشر هل لكم في أن أعقرها لكم؟ قالوا: نعم. وقال كعب: كان سبب عقرهم الناقة أنّ امرأة يقال لها ملكا كانت قد ملكت ثمود فلمّا أقبل الناس على صالح وصارت الرئاسة إليه حسدته فقالت لامرأة يقال لها قطام وكانت معشوقة قدّار بن سالف ولامرأة أخرى يقال لها قبال كانت معشوقة مصدح بن وعد ويقال ابن مهرج، وكان قدار ومصدع يجتمعان كل ليلة معهما ويشربون الخمر فقالت لهما ملكا: إن أتاكم الليلة قدار ومصدع فلا تطيعاهما وقولا لهما: إن الملكة حزينة لأجل الناقة ولأجل صالح فنحن لا
نطيعكما حتّى تعقرا الناقة فإن عقرتماها أطعناكما، فلمّا أتياهما قالتا لهما هذه المقالة فقالا: يكون من وراء عقرهما. وقال ابن إسحاق وغيره: فانطلق قدار ومصدع وأصحابهما السبعة فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل حفرة على طريقها، وكمن لها مصدع في طريق آخر فمرّت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم وعنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس فاستقرّت لقدار ثمّ دمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرجت ورغت رغاة واحدة فحدر سقبها ثمّ طعن في لبّتها فنحرها. وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلمّا رأى سقبها «1» ذلك انطلق حتّى أتى جبلا منيعا يقال له صور، وقيل: اسمه قارة، وأتى صالح فقال له: أدرك الناقة قد عقرت فأقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبي الله إنّما عقرها فلان وفلان ولا ذنب لنا. فقال صالح (عليه السلام) : أنظروا هل تدركون فصيلها فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه فلمّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الجبل فتطاول في السماء حتّى لا تناله الطير. وجاء صالح (عليه السلام) فلمّا رآه الفصيل بكى حتّى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحا فرغا رغوة ثم رغا أخرى ثم رغا أخرى. فقال صالح (عليه السلام) : لكل رغاة أجل يومكم تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. وقال ابن إسحاق: أتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع ابن مهرج وأخوه داب بن مهرج فرمى مصدع بسهم فانتظم قلبه ثمّ جر برجله وأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمّه. فقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذاب الله ونقمته، فقالوا له وهم يهزئون به: ومتى ذلك يا صالح وما آية ذلك؟ وكان يسمّون الأيام فيهم الأحد الأوّل والإثنين أميون والثلاثاء دبار والأربعاء جبار والخميس مؤنس والجمعة غروبة والسبت شيار. وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح (عليه السلام) حين قالوا ذلك: تصبحون غداء يوم مؤنس ووجوهكم مصفرّة، ثمّ تصبحون يوم غروبة ووجوهكم محمرّة ثمّ تصبحون يوم شيّار ووجوهكم مسودّة، ثمّ يصبحكم العذاب يوم الأوّل، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرّة كأنّما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإناثهم، فأيقنوا العذاب وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هاربا حتّى لجأ إلى بطن من ثمود، يقال له: بنو غنم، فنزل على سيّدهم رجل منهم يقال له: نفيل ويكنّى أبا هدب وهو مشرك فغيّبه فلم يقدروا عليه، وقعدوا على أصحاب صالح يعذّبونهم ليدلّوهم عليه.
فقال رجل من أصحاب صالح يقال له مبدع بن هرم: يا نبي الله إنّهم ليعذبونا لندلهم عليك أفندلهم؟ قال: نعم، فدلّهم عليه ميدع فأتوا أبا هدب وكلّموه في ذلك، فقال: نعم عندي صالح وليس لكم إليه سبيل فأعرضوا عنه وتركوه وشغلهم عنه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيهم من عذابه فجعل بعضهم يخبّر بعضا بما يرون في وجوههم فلما أصبحوا صاحوا بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، فلمّا أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمّرة كأنّما خضّبت بالدماء فصاحوا وضجّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلمّا أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب. فلما كان اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنّما طليت بالنار فصاحوا جميعا ألا قد حضركم العذاب. فلمّا كان ليلة الأحد خرج صالح (عليه السلام) من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام فنزلوا رملة فلسطين فلمّا أصبح القوم تكفّنوا وتحنّطوا وكان حنوطهم الصبر والمقر وكانت أكفانهم [الأنطاع] ثمّ ألقوا أنفسهم بالأرض فجعلوا يقلّبون به أبصارهم فينظرون إلى السماء مرّة وإلى الأرض مرّة لا يدرون من أين يأتيهم العذاب. فلمّا اشتد الضحى يوم الأحد أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلّ صاعقة وصوت كل [شيء] له صوت في الأرض فتقطّعت قلوبهم في صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلّا هلك كما قال الله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ إلّا جارية منهم مقعدة يقال لها: ذريعة بنت سلق وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح (عليه السلام) فأطلق الله عزّ وجلّ لها رجلها بعد ما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط حتّى أنت قزح «1» وهي وادي القرى فأخبرتهم بما [عاينت] من العذاب وما أصاب ثمود ثمّ استسقت من الماء فسقيت فلمّا شربت ماتت. وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لمّا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلن أحدكم القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين خائفين فإن لم تكونوا فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم» . ثمّ قال: «أمّا بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية فبعث الله عزّ وجلّ لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فتشرب ماءهم يوما فيردها وراءهم مرتقى الفصيل حين ارتقى في الغار فعتوا عن أمر ربّهم وعقروها فأهلك الله من [تحت] أديم السماء منهم إلّا رجلا واحدا كان في حرم الله» . قيل: من هو؟ قال: «أبو رغال» [190] .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 إلى 84]
فلمّا خرج أصابه ما أصاب قومه [فدفن هاهنا] ودفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبي رغال فول القوم فابتدروه بأسيافهم وبحثوا عليه فاستخرجوا ذلك الغصن، ثمّ قبع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وأسرع السير حتّى جاز الوادي «1» . قال أهل العلم: توفي صالح (عليه السلام) بمكّة وهو ابن ثمان وخمسين [سنة فلبث] في قومه عشرين سنة. عن الضحاك بن مزاحم قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «يا عليّ أتدري من أشقى الأوّلين؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «عاقر الناقة» . قال: «أتدري من أشقى الآخرين؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «قاتلك» [191] «2» . وَلُوطاً يعني وأرسلنا لوطا وقيل معناه: واذكر لوطا. وهو لوط بن [هاران] بن تارخ أخي إبراهيم (عليه السلام) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم أهل سدوم، وذلك أنّ لوطا شخص من أرض بابل مع عمّه إبراهيم (عليه السلام) مؤمنا به مهاجرا معه إلى الشام فنزل إبراهيم (عليه السلام) فلسطين وأنزل ابن أخيه لوطا الأردن فأرسل الله إلى أهل سدوم فقال لهم: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني إتيان الذكران ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ قال عمرو بن دينار: ما كان يزني ذكر على ذكر في الدنيا حتّى كان قوم لوط إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ [في أدبارهم] شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ مشركون [تبدّلون] الحلال إلى الحرام.
قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم فعرض لهم إبليس في صورة شيخ قال: إن [عضلتم] بهم كلهم أنجوتكم منهم فأبوا، فلما ألحّ الناس عليهم فعبدوهم فأصابوا غلمانا صباحا فأخبثوا واستحكم فيهم ذلك. وقال الحسن: كانوا لا ينكحون [إلّا الرجال] وقال الكلبي: أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث لأن بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثّل لهم إبليس في صورة شاب ثمّ دعا [في] دبره فنكح في دبره ثمّ عتوا بذلك العمل فأكثر فيهم ذلك فعجّت الأرض إلى ربّها فسمعت السماء فعجّت إلى ربّها فسمع العرش فعجّ إلى ربّه فأمر الله السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إذا قال لهم ذلك إِلَّا أَنْ قالُوا قال بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ لوطا وأهل دينه مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزّهون ويتحرّجون عن إتيان أدبار الرجال وأدبار النساء فَأَنْجَيْناهُ يعني لوطا وَأَهْلَهُ المؤمنين به، وقيل: وأهله بنتاه: نعوذا وديثا. إِلَّا امْرَأَتَهُ فاعلة فإنّها كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ يعني الباقين في العذاب وقيل: معناه: كانت من الباقين والمعمّرين قبل الهلاك الذين قد أتى عليهم عمرت دهرا طويلا فهرمت فيمن هرم من الناس. فهلكت مع من هلك من قوم لوط حين أتاهم العذاب. وإنّما قال: (الْغابِرِينَ) ولم يقل: الغابرات لأنه أراد أنّها ممّن بقي مع الرجال فلمّا ضم ذكرها إلى ذكر الرجال قيل: الْغابِرِينَ. وقيل: له غبر يغبر غبورا، وغبر إذا بقي. قال الشاعر: وأبي الذي فتح البلاد بسيفه ... فأذلّها لبني أبان الغابر «1» يعني الباقي. وقال أبو ذؤيب: وغبرت بعدهم بعيش ناصب ... وإدخال أنّي لاحق مستتبع «2» وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً يعني حجارة من سجّيل فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وسنذكر القصّة بتمامها في موضعها إن شاء الله. وروى أبو اليمان بن الحكم بن نافع الحمّصي عن صفوان بن عمر قال: كتب عبد الملك ابن مروان إلى ابن حبيب قاضي حمص سأله كم [عقوبة] اللوطي فكتب أن عليه أن يرمى بالحجارة كما رجم قوم لوط فإن الله تعالى قال: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً وقال: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «3» فقبل عبد الملك ذلك منه وأستحسنه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 إلى 93]
وروى عكرمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . وقال محمد بن المنكدر: كتب خالد بن الوليد إلى أبي بكر أنّه وجد رجلا في بعض قوافل العرب ينكح كما تنكح المرأة فشاور أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وأشهدهم في ذلك عليه، فاجتمع عليهم على أن يحرقوه فأحرقوه. وَإِلى مَدْيَنَ يعني وأرسلنا إلى بني مدين بن إبراهيم خليل الله وهم أصحاب الأيكة. وقال قتادة: أرسل مرّتين إلى مدين وإلى أصحاب الأيكة أَخاهُمْ شُعَيْباً قال قتادة: هو شعيب بن [نويب] وقال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم، وقال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكيل بن إسحاق بن مدين بن إبراهيم واسمه بالسريانية يثروب وأمّه ميكيل بنت لوط وكان شعيب أعمى. ويقال: إنّه خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر يكفرون بالله وبخس المكيال والميزان ف قالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يعني يجيء] شعيب فَأَوْفُوا فأتمّوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تظلموا الناس حقوقهم ولا تنقصوها [إياهم] وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها كانت الأرض قبل أن يبعث إليها شعيبا رسولا يعمل فيها بالمعاصي ويستحلّ فيها المحارم ويسفك فيها الدماء بغير
حقّها فذلك فسادها، فلمّا بعث إليها شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض وكلّ نبيّ بعث إلى قومه فهو يدعوهم لإصلاحهم الذي ذكرت لكم وأمرتكم به. خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدّقين بما أقول وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ [يعني] في هذا الطريق كقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «1» . تُوعِدُونَ تهددون وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دين الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً زيغا وذلك أنّهم كانوا يجلسون على الطرق فيخبرون من قصد شعيبا ليؤمن به إنّ شعيبا كذّاب. فلا يفتننّك عن [ذلك] وكانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوّفونهم. قال السدي وأبو روق: كانوا [جبّارين] . قال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يقطعون الطريق. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمرّ بها ثوب إلّا شقّته ولا شيء إلّا خرقته فقلت ما هذا يا جبرائيل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثمّ تلا: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ «2» [192] . وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ [فكثّر بينكم] وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يعني آخر قوم لوط وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ إلى قوله تعالى قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني الرؤساء الذين تعالوا عن الإيمان به لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه وتدعون دينكم. قال شعيب: قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ لذلك يعني ولو كنّا كارهين لذلك تجبروننا عليه فأدخلت ألف الاستفهام على ولو قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها نرجع إليها بعد إذ أنقذنا الله منها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا تقول إلّا أن يكون سبق لنا في علم الله ومشيئته أن نعود فيها فيمضي حينئذ قضاء الله فينا [وينفذ] حكمه وعلمه علينا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أحاط علمه بكل شيء فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فيما تتوعدوننا به. واختلف العلماء في معنى قوله أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وقوله وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها فقال بعضهم: معناه أو لتدخلن فيها ولن تدخل [إلّا] إن يشاء الله ربّنا فيضلنا بعد إذ هدانا. وسمعت أبا القاسم الحسين بن محمد الحبيبي يقول: سمعت عليّ بن مهدي الطبري بها يقول: إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ أي صرنا، لا أن نعود، يكون ابتداء ورجوعا.
قال أميّة بن أبي الصلت: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «1» أي صار الآن اللبن، كأن لم تكن قط بولا. وسمعت [الحسين بن الحبيبي] قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه: إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها في سابق علمه وعند اللوح والقلم. وقال بعضهم: كان شعيب ومن آمن معه في بدء أمرهم مستخفين ثمّ أظهروا أمرهم وإنما قال لهم قومهم أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا حسبوا أنّهم على ملّتهم [قيل: من هو معه] «2» على أصحاب شعيب دون شعيب لأنّهم كانوا كفّارا ثمّ آمنوا بالخطاب لهم وجواب شعيب عنهم لا عن نفسه، لأن شعيبا لم يكن كافرا قط وإنّما ناوله الخطاب في أصناف من فارق دينهم إليه. ورأيت في بعض التفاسير أن الملّة هاهنا الشريعة وكان عليه قبل نبوّته فلمّا [نبّئ] فارقهم. ثمّ دعا شعيب على قومه إذ لمس ما فيهم فقال رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أي اقض. وقال [المؤرخ] : افصل. وقال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ حتّى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك. أي أقاضيك ... وقال الفراء: أهل عمان يسمّون القاضي الفاتح والفتّاح. وذكر غيره أنّه لغة مهاد. فأنشد لبعضهم: ألا أبلغ بني عصم رسولا ... بأنّي عن فتاحتكم غنيّ «3» أي حكمكم. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ يعني الحاكمين وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وتركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ قال ابن عباس: مغبونون. قال عطاء: جاهلون. قال الضحاك: فجرة. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الكلبي: الزلزلة. قال ابن عباس: وغيره من المفسّرين: فتح الله عليهم بابا من أبواب جهنم فأرسل عليهم ريحا وحرّا شديدا، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فلم ينفعهم ظل ولا ماء فأنضجهم الحر فبعث الله عزّ وجلّ سحابة فيها ريح طيّبة فوجدوا برد الريح بطيبها وظل السحابة فتنادوا
عليكم بها فخرجوا إلى البريّة فلمّا اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المعلّى وصاروا رمادا وهو عذاب يوم الظلّة، وذلك قوله: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ميّتين قال أبو العالية: ديارهم منازلهم، وقال محمد بن مروان: كل شيء في القرآن (دارِهِمْ) فهو [مرغمهم] وكلّ شيء (دِيارِهِمْ) فهو عساكرهم. قال ابن إسحاق: بلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له عمر بن [جلهاء] لمّا رأى الظلّة فيها الغضب. قال: يا قوم إن شعيبا مرسل فذروا عنكم سميرا أو عمران بن شداد إني أرى غيمة يا قوم طلعت دعوا بصوت على صمانة الوادي، فإنّكم إن تروا فيها ضحاة غد إلّا الرقيم يمشي بين أنجاد وسميرا وعمران: كاهناهم راعيين، والرقيم كلبا لهما «1» . قال أبو عبد الله البجلي: أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت: أسماء ملوك وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب. فقالت أخت كلمون تبكيه: كلمون هدّ ركني هلكه وسط المحلة سيّد القوم أتاه الحتف نارا وسط ظلة. جعلت نار عليهم دارهم كالمضمحلة. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي لم يعيشوا ولم ينزلوا ولم يقيموا ولم ينعموا، وأصله من قولهم غنيّة بالمكان إذا أقمت به والمغاني المنازل وأحدها مغنى قال لبيد: وغنيت ستا قبل مجرى داهس ... لو كان للنفس اللجوج خلود وقال حاتم: غنينا زمانا للتصعلك والغنى ... فكلا سقانا بكأسيهما الدهر «2» الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ لا المؤمنون كما زعموا فَتَوَلَّى أعرض عَنْهُمْ شعيب [بن شامخ] من أظهرهم حين أتاهم العذاب وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى [أحزن] عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ حين يعذّبون، يقال: آسيتم آسي أسى. قال الشاعر: آسيت على زيد ولم أدر ما فعل «3» والأسى الحزن [والأسى] الصبر.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 إلى 102]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فيه إضمار واختصار يعني فكذّبوه إِلَّا أَخَذْنا عاقبنا أَهْلَها حين لم يؤمنوا بِالْبَأْساءِ يعني بالبؤس الشدّة وضيق العيش وَالضَّرَّاءِ تعني أضر وهو الحال. وقيل: المرض والزمناء قال: السدي البأساء يعني الفقر والجوع لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ لكي يتضرعوا [فينيبوا] ويتوبوا ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ وهي البأساء والجواب والجوع الْحَسَنَةَ يعني النعمة والسعة والرخاء والخصب حَتَّى عَفَوْا أي كثروا وأثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، قال ابن عباس: (عَفَوْا) يعني [جهدوا] ، وقال ابن زيد: يعني كثروا كما يكثر النبات والريش. قال قتادة: (حَتَّى عَفَوْا) : سروا بذلك، وقال مقاتل بن حيان: (عَفَوْا) حتى كثروا وتركوا ولم يستكثروا وأصله من الكثرة. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى» «1» . وقال الشاعر: يقول من بعد أولاك أولات ... أتوا زمانا ليس عندهم بعيد وقال آخر: ولكنا نعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم «2» وَقالُوا من جهلهم وغفلتهم قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فنحن مثلنا فقال الله تعالى فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً [فجأة عبرة «3» لمن بعدهم] . وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا يعني وحدوا الله وأطاعوه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات، وأصل البركة المواظبة على الشيء تقول: برك فلان على فلان إذا [أجابه، وبركات الأرض أي] تابعنا عليهم بالمطر والنبات والخصب ورفعنا الحرث والقحط وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ فجعلنا لهم العقوبات بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعصية والأعمال الخبيثة. أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى الذين كفروا وكذّبوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ آمنون. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى نهارا وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهون. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ومعني (مكر) استدراج القوم بما أراهم في دنياهم. قال قتادة: مكر الله استدراجه بطول الصحة وتظاهر النعم، وقال عطيّة: يعني أخذه وعذابه، وحكى [الشبلي] أنه سئل عن مكر الله فأجاب بقول محبتك لا ببعضي بل بكلي ... وإن لم يبقّ حبك لي حراكا ومقبح من موالد ليفعل ... سنتي ويفعله فيحسن فقال السائل: اسأله عن آية من كتاب الله ويجيبني من الشعر فعلم الشبلي أنه لم يفطن لما قال، فقال: يا هذا [ ... ] «1» إياهم على ما هم فيه. أَوَلَمْ يَهْدِ قرأ أبو عبد الرحمن وقتادة ويعقوب في رواية زيد (نهد) بالنون على التعظيم والباقون بالياء على [التفريد] لِلَّذِينَ يَرِثُونَ يستخلفون في الْأَرْضَ بعد هلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا بسيرتهم [ ... ] «2» ربّهم أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ أهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ بما أهلكنا من قبلهم وَنَطْبَعُ نختم عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الهدى ولا يقبلون الموعظة تِلْكَ الْقُرى هذه القرى التي ذكرت لك وأهلكناهم وهي قرى نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها نخبرك أخبارها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [بالآيات والعلامات والدلالات] فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اختلف في تأويله. قال أبي بن كعب: معناه فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم الله أنّهم يكذّبون به يوم أقرّوا له بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم. وقال ابن عباس والسدي: يعني فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذ ميثاقهم حتّى أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرها وأقروا باللسان وأظهروا التكذيب.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 إلى 116]
وقال مجاهد: معناه فَما كانُوا لو أحييناهم بعد هلاكهم ورددناهم إلى الدنيا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا به من قبل هلاكهم كقوله وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» وقال يمان بن رئاب: هذا معنى أنّ كلّ نبي أخذ قومه بالعذاب ما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الكفار بل كذّبوا كما كذب نظير قوله كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ «2» . وقيل: معناه: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بالمعجزات والعجائب التي سألوهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بعد ما رأوا الآيات والعجائب بِما كَذَّبُوا به من قبل رؤيتهم تلك العجائب نظيره قوله قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ «3» وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ «4» . كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ الذين كتب عليهم أن لا يؤمنون من قومك وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ يعني وفاء بالعهد، والعهد الوصية وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ أي ما وجدنا أكثرهم إلّا فاسقين ناقضين العهد. ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب مُوسى بِآياتِنا بحجّتنا وأدلّتنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا فجحدوا وكفروا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وكيف فعلنا بهم وَقالَ مُوسى لمّا دخل على فرعون واسمه قابوس في قول أهل الكتاب.
قال وهب: كان اسمه الوليد بن مصعب بن الربان وكان من القبط وعمّر أكثر من أربعمائة عام وقال موسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك فقال فرعون كذبت فقال موسى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعني أنا [خليق] بأن لا أقول على الله إلّا الحق، فعلى بمعنى الباء، كما يقال: رميت بالقوس على القوس وجاءني على حال حسنة وبحالة حسنة يدل عليه، [قول الفراء] والأعمش: حقيق بأن لا أقول. وقال أبو عبيدة: معناه حريص على أن لا أقول على الله إلّا الحق، وقرأ شيبة ونافع: حقيّق على تشديد الياء يعني حق واجب عليّ ترك القول على الله عزّ وجلّ إلّا الحق. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني العصا وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت عليّ بن مهدي الطبري يقول: إنّه تعريض يقول: لحقيق مصرف الخطاب وحَقِيقٌ [فعيل] من الحق يكون بمعنى القائل فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي اطلق عنهم وخلهم يرجعون إلى الأرض المقدسة. قال وهب: وكان سبب استعباد فرعون بني إسرائيل أنّ فرعون حاجّ [موسى] وكان [أشد من] فرعون يوسف [ ... ] «1» في يوسف [وانقرضت] الأسباط عليهم فرعون فاستعبدهم فأنقذهم الله بموسى. قال: وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخل موسى رسولا أربعمائة عام قالَ فرعون مجيبا لموسى إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ من يده فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ. قال ابن عباس والسدي: كانت [عظيمة ذكرا] من الحيات، إذا فتحت فاها صار شدقها ثمانين وقد ملأت ما بين سماطي فرعون واضعة لحييها ذراعا واضع لحية الأسفل في الأرض الأعلى على سور القصر، حتى رأى بعض من كان خارج مدينة مصر رأسها. ثمّ توجهت نحو فرعون لتبتلعه فوثب فرعون من سريره وهرب منها فأحدث ولم يكن حدث قبل ذلك وهرب الناس وصاحوا وحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا، ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى خذها وأنا مؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت. ثمّ قال له فرعون: هل معك آية أخرى، قال: نعم، فأدخل يده في جيبه ثمّ نزعها فأخرجها بيضاء مثل الثلج لها شعاع غلب على نور الشمس، وكان موسى أدم ثمّ أدخلها جيبه فصارت يدا كما كانت.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يعنون أنّه يأخذ بأعين الناس بخداعه إيّاهم حتّى تخيّل إليهم العصا حيّة والأدم أبيض [يري الشيء] بخلاف ما هو به، كما قيل سحر المطر الأرض إذا جاءها فقطع نباتها من أصلها وقلب الأرض على البطن فهو يسحرها سحرا والأرض مسحورة فشبه سحر الساحر به لتخيله إلى من سحره أنّه يري الشيء بخلاف ما هو به، ومنه قول بني الرمة في صفة السراب وساحرة العيون من الموامي ... ترقص في نواشزها الأروم «1» يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ [من القبط] مِنْ أَرْضِكُمْ مصر فَماذا تَأْمُرُونَ هذا من قول فرعون للملأ ولم يذكر فرعون فيه كقوله الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ «2» هذا من كلام يوسف ولم يذكر قالُوا أَرْجِهْ أحبسه وَأَخاهُ هارون ولا تقتلهما ولا يؤمن بهما، وقال عطاء: احبسه وهذا أعجب إليّ لأنّه قد علم أنه لا يقدر على حبسه بعد ما رأى الآيات من العصا واليد. وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعني الشرطة وكانت له مدائن فيها السحرة عدة للأشياء إذا [حزّ به أمر] أرسل. يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ قرأها أهل الكوفة على التكثير وقرأ العامّة بِكُلِّ ساحِرٍ. والفرق بين الساحر والسحّار أن الساحر الذي لا يعلم والسحار الذي يعلم ولا يعلم. وقال المؤرخ: الساحر من سحره في وقت دون وقت، والسحار من قديم السحر. قال: فإن غلبهم موسى صدقناه على ذلك وعلمت أنه ساحر. قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي: قال فرعون لمّا رأى من سلطان الله في العصا ما رأى: إنا لا نغالب موسى إلّا بمن هو مثله فأخذ غلمان بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرقاء يعلّمونهم السحر كما يعلّم الصبيان الكتابة في المكتب فعلّموهم سحرا كثيرا وواعد فرعون موسى موعدا، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم ومعهم معلمهم فقال له ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلّا أن يكون أمر من السماء فإنّه لا طاقة لهم به، ثم بعث فرعون الشرطي في [مملكته] فلم يترك في سلطانه ساحرا إلّا أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون. فقال مقاتل: كان السحرة اثنين وسبعين ساحرا اثنان فيهم من القبط وهما رئيسا القوم وسبعون من بني إسرائيل.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 إلى 136]
وقال الكلبي: كانوا سبعين ساحرا غير رئيسهم وكان الذين يعلّمونهم السحر رجلين مجوسيين من أهل نينوى، وقال كعب: كانوا اثني عشر ألفا. قال السدي: كانوا بضعة وثلاثين. عكرمة: سبعين ألفا، ابن المنكدر: ثمانين ألفا فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلا ساحر ماهر ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختيار منهم سبعين من كبرائهم وعلمائهم، وقاله ابن جريج، فلمّا أجتمع السحرة قالُوا لفرعون إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي جعلا وثوابا. إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ فرعون نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ في المنزلة عندي. قال الكلبي: أوّل من يدخل عليّ وآخر من يخرج قالُوا يعني السحرة. يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ بعصيّنا [وحبالنا] . قالَ موسى أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي أرعبوهم وأفزعوهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وذلك أنّهم ألقوا حبالا وعظاما وخشبا طوالا فإذا هي حيّات كالجبال قد ملأت الوادي [يأكل] بعضهم بعضا.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ تبتلع، ومن قرأ تَلْقَفُ ساكنة اللام خفيفة القاف فهو من لقف يلقف، ودليله قراءة سعيد بن جبير: تلقم من لقم يلقم. ما يَأْفِكُونَ يكذّبون، وقيل: يقلبون ويزوّرون على الناس فأكلت سحرهم كله فقالت السحرة: لو كان هذا سحرا لبقت حبالنا وعصينا. فذلك قوله: فَوَقَعَ الْحَقُّ أي ظهر. قال النضير بن شميل: فَوَقَعَ الْحَقُّ أي فزعهم وصدّعهم [كوقع الميقعة] وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر فَغُلِبُوا هُنالِكَ وبطل ما كانوا يعملون وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ذليلين ومقهورين. وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لله حيث عرفوا أنّ ذلك أمر سماوي وليس سحرا، وقيل: ألهمهم الله ذلك، وقال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ فقال فرعون: إياي تعنون فقالوا رَبِّ مُوسى وَهارُونَ. قال عطاء: فكان رئيس السحرة بأقصى مدائن مصر وكانا أخوين فلمّا جاءهما رسول فرعون قالا لأمّهما [دلّينا] على قبر أبينا فدلتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا: إن الملك وجه إلينا رسولا أن نقدم عليه، لأنّه أتاه رجلا ليس معهما رجال ولا سلاح ولهما [عزّ ومنعة] وقد ضاق الملك ذرعا من عزّهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لهما [شيء] تبلغ الحديد والحجر والخشب. فأجابهما أبوهما: انظرا إذا هما ناما فإنّ قدرتما أن تسلا العصا فسلّاها فإنّ الساحر لا يعمل سحره إذا نام، وإن عملت العصا وهما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين، ولا طاقة لكما به ولا الملك ولا جميع أهل الدنيا، فأتاهما في خفية وهما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا قاله مقاتل. قال موسى للساحر الأكبر: تؤمن بي إن غلبتك فقال لآتين بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأومنن بك وفرعون ينظر قالَ لهم فرعون حين آمنوا آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ صنيع وخديعة مَكَرْتُمُوهُ صنعتموه أنتم وموسى فِي الْمَدِينَةِ في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع. لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها بسحركم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما أفعل بكم. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وهو أن يقطع من شق طرفا قال سعيد بن جبير: أوّل من قطع من خلاف فرعون ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ على شاطئ نهر مصر قالُوا يعني السحرة لفرعون إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ راجعون في الآخرة وَما تَنْقِمُ مِنَّا قرأ العامّة بكسر القاف. وقرأ الحسن وابن [المحيصن] بفتح القاف وهما لغتان نقم ينقم ونقم ينقم. قال الشاعر:
وما نقموا من بني أميّة إلا ... أنّهم يحلمون إن غضبوا «1» وقال الضحاك وغيره: يعني وما يطعن علينا. قال عطاء: ما لنا عندك من ذنب وما ارتكبنا منك مكروها تعذّبنا عليه إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا ثمّ [فزعوا] إلى الله عز وجل فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ اصبب عَلَيْنا صَبْراً أصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتّى لا نرجع كفارا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ واقبضنا إليك على دين موسى، فكانوا أول النهار كفارا سحرة وآخره شهداء بررة. وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ أتدع مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا كي يفسدوا عليك ملكك عبيدك فِي الْأَرْضِ في أرض مصر وَيَذَرَكَ يعني وليذرك. وروى سليمان التيمي عن أنس بن مالك أنّه قرأ وَنَذَرُكَ بالرفع والنون، [أخبروا] عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيا فيصرفهم عنّا. وقرأ الحسن (وَيَذَرُكَ) بالرفع على تقدير المبتدأ، أي وهو يذرك، آلِهَتَكَ فلا نعبدك ولا نعبدها. قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، ولذلك أخرج السامري لهم عجلا. وروى عمرو عن الحسين قال: كان لفرعون حنانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد عليها كأنّه صنم كان عابده يحن إليه. وروي عن ابن عباس أيضا أنه قال: كان فرعون يصنع لقومه أصناما صغارا ويأمرهم بعبادتها ويقول لهم: أنا رب هذه الأصنام، وذلك قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «2» . قال أبو عبيد: وبلغني عن الحسن أنه قيل له: هل كان فرعون يعبد شيئا؟ قال: نعم كان يعبد تيسا. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وبكر بن عبد الله [الشعبي] والضحاك وابن أبي إسحاق: إلهتك بكسر الألف أي [إلهك] فلا يعبدك كما تعبد. قالوا: لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد. وقيل أراد بالآلهة الشمس وكانوا يعبدونها. قال [عيينة] بن [شهاب] : تروحنا من الأعيان عصرا ... فأمحلنا الآلهة أن تؤوبا «3»
[سورة الأعراف (7) : الآيات 137 إلى 141]
بمعنى الشمس قالَ يعني فرعون سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ بالتشديد على التكثير. وقرأ أهل الحجاز. بالتخفيف وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون. قال ابن عباس: كان فرعون يقتل بني إسرائيل في العام الذي قيل له إنّه يولد مولد يذهب بملكك فلم يزل يقتلهم حتّى أتاهم موسى (عليه السلام) بالرسالة فلما كان من أمر موسى ما كان أمر بإعادة عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل إلى موسى (عليه السلام) فعند ذلك قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يعني أرض مصر يُورِثُها يعطيها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وقرأ الحسن يُوَرِّثُها بالتشديد والاختيار التخفيف لقوله تعالى وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ... وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعني النصر والظفر، وقيل: السعادة والشهادة، وقيل: الجنّة. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة اتّبع موسى ست مائة ألف من بني إسرائيل قالُوا يعني قوم موسى أُوذِينا بقتل الأبناء واستخدام النساء والتسخير. مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بالرسالة وإعادة القتل والتعذيب وأخذ الأموال والأتعاب في العمل. قال وهب: كانوا أصنافا في أعمال فرعون فأما ذوو القوة منهم فيسلخون السوابي من الجبال وقد [ ... ] «1» أعناقهم وعواتقهم وأيديهم ودبرت ظهورهم من قطع ذلك وقتله. وطائفة أخرى قد [قرحوا] من ثقل الحجارة وسير [الليل] له، وطائفة يلبنون اللبن ويطنبون الأجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفاء بينهم عليهم الخراج ضريبة يودون كانت ضربت عليه الشمس، قيل: وإن يردى ضريبته غلت يده إلى عنقه شهرا، وأما النساء فيقرن اختان وينسجنه فقال موسى (عليه السلام) لهم عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ويسكنكم مصر من بعدهم بالتسخير والاستعباد وهم بنو إسرائيل مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني مصر والشام الَّتِي بارَكْنا فِيها بالماء والأشجار والثمار وإنما ذكر بلفظ [ ... ] «2» .
[ ... ] فأورثهم ذلك بمهلك أهلها من العمالقة والفراعنة. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى يعني تمت كلمة الله وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين في الأرض. وذلك قوله عز وعلى وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ إلى قوله ما كانُوا يَحْذَرُونَ. وقيل: معناه [رحبت] نعمة ربّك الحسنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ يعني أنهم مجزون الحسنى يوم القيامة بِما صَبَرُوا على دينهم وَدَمَّرْنا أهلكنا [فدمرنا] ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ في أرض مصر من المغارات وَما كانُوا يَعْرِشُونَ. قال الحسن: وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الثمار والأعشاب. وقال مجاهد: يعني يبنون البيوت، والقصور ومساكن وكان [غنيّهم] غير معروش. وقرأ ابن عامر وابن عباس: بضم الراء وهما لغتان فصيحتان عرش يعرش. وقرأ إبراهيم بن أبي علية: يعرِّشون بالتشديد على الكسرة وَجاوَزْنا قطعنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ بعد الآيات التي رأوها والعير التي عاينوها. قال الكلبي: عبر بهم موسى يوم عاشوا بعد هلاك فرعون وقومه وصام يومئذ شكرا لله عزّ وجلّ فَأَتَوْا فمرّوا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ يصلّون، قرأ حمزة والكسائي يَعْكِفُونَ بكسر الكاف والباقون بالضم وهما لغتان عَلى أَصْنامٍ أوثان لَهُمْ أوثان لهم كانوا يعبدونها من دون الله عزّ وجلّ. قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر وذلك أوّل [شأن] العجل «1» . قال قتادة: كانوا أولئك القوم من لخم وكانوا هؤلاء بالرمة، وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم فقالت بنو إسرائيل له عند ما رأوا ذلك قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً تمثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ موسى إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ عظمة الله ونعمته وحرمته. وروى معمر عن الزهري عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بشجرة خضراء عظيمة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفّار ذات أنواط. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ والذي نفسي بيده [لتركبنّ سنن] من كان قبلكم» [193] «2» . وروي عنه (عليه السلام) أنه قال: «لا تقوم الساعة حتّى تأخذ أمّتي أخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع كما قالت فارس والروم» [194] «3» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 إلى 147]
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مهلك ومفسد ومخسر ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مضمحل زائل ما كانُوا يَعْمَلُونَ قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ أطلب وأبغي لكم فحذف حرف الصفة لقوله (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) ... إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ على أهل زمانكم وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ قرأ أهل المدينة أَنْجَيْناكُمْ، وقرأ أهل الشام وإذا أنجاكم وكذلك في مصاحفهم بغير نون. مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ. قرأ نافع: (يَقْتُلُونَ) خفيفة من القتل على القليل، وقرأ الباقون التشديد على الكثير من القتل وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ذا القعدة وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجّة فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقال عند انطلاقه لأخيه هارون اخْلُفْنِي كن خليفتي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ولا تسلك طريق العاصين ولا تكن مرنا للظالمين، وذلك أن موسى وعد بني إسرائيل وهم بمصر إذا أهلك الله عدوّهم واستنقذهم من أيديهم أتاهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون، فلما فعل الله ذلك بهم سأل موسى ربه الكتاب فأمره الله عز وجل صوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة فلما تمت ثلاثون ليلة أنكر خلوق «1» فمه فتسوك بعود [ضرنوب] فقالت له الملائكة: كنّا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك «2» .
وقال أبو العالية: إنّه أكل من لحاء الشجرة فأمره الله عزّ وجلّ بصوم عشرة أيام من ذي الحجّة. وقال: أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، فكان فتنتهم في العشر التي زادها الله عز وجل وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي الوقت سأله أن يكلمه فيه والميقات مفعال من الوقت كالميعاد والبلاد انقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. قال المفسّرون: إنّ موسى (عليه السلام) تطهّر وطهّر ثيابه لميعاد ربه فلما أتى بطور سيناء وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وناجاه وأدناه حتّى سمع حروف القلم فاستجلى كلامه واشتاق [إلى رؤيته] وطمع فيها قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال ابن عباس: أعطني أنظر إليك قالَ الله تعالى لَنْ تَرانِي وليس بشرا [لا] يطيق النظر إليّ في الدنيا، من نظر إليّ مات، فقال له: سمعت كلامك واشتقت إلى النظر إليك [فلئن] أنظر إليك وأموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك فقال الله تعالى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فهو أعظم جبل بمدين يقال له: زبير فلمّا سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلّى منها الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان فلمّا رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصّه بالتجلّي. قال السدي: لمّا كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى خاض الخبيث إبليس في الأرض حتّى خرج بين قدمي موسى فوسوس إليه وقال: إن مكلمك الشيطان فعند ذلك سأل الرؤية فقال الله تعالى: لَنْ تَرانِي [ ... ] «1» تعلّقت [ ... ] «2» الرؤية بهذه الآية، ولا دليل لهم فيها لأنّ (لَنْ) هاهنا لا توجب التأبيد وإنما هي للتوقيت لقوله تعالى حكاية عن اليهود لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ «3» يعني الموت ثمّ حكى عنهم أنهم يقولون لمالك يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «4» . ويا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ «5» يعني الموت، وقال سبحانه لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ يعني الجنّة حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وقد يدخل الجنّة من لا ينفق ممّا [علمت] فمعنى الآية لن تراني في الدنيا وإنما تراني في العقبى. قال عبد العزيز بن يحيى: قوله لَنْ تَرانِي جواب قول موسى (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولا تقع على الآخرة، لأن موسى لم يقل أرني أنظر إليك في الآخرة إنما سأله الرؤية في الدنيا فأجيب عما سأل ولا حجّة فيه لمن أنكر الرؤية. وقيل: معنى لَنْ تَرانِي أي لا تقدر أن تراني، وقيل: معناه لَنْ تَرانِي بعين فانية وإنما تراني بعين باقية، وقيل: لَنْ تَرانِي قبل محمد وأمته وإنما تراني بعد محمد وأمته، وقيل: معناه
لَنْ تَرانِي بالسؤال والدعاء وإنما تراني بالنوال والعطاء إنّه لو أعطاه إياه بسؤاله لكانت الرؤية مكافأة السؤال، ويجوز أن يكون فعله مكافأة فعل عبده ولا يجوز أن يكون هو مكافأة فعل عبده. وقيل: معناه لَنْ تَرانِي بالعين التي رأيت بها عدوي وذلك أنّ الشيطان تراءى له فوسوس إليه، فقال الله تعالى: يا موسى أما تعلم أنّ رؤية الخبيث والله لا يجتمعان في حال واحد ومكان واحد وزمان واحد. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت عليّ بن مهدي الطبري يقول: لو كان سؤال موسى مستحيلا لما أقدم عليه نبي الله موسى (عليه السلام) مع علمه ومعرفته بالله عن اسمه كما لم تجز أن يسأله لنفسه صاحبة ولا ولدا. وقال الله عزّ وجلّ: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي واستقراره بكونه وثباته. قال المتكلّمون من أهل الشام: لما علق الله [الرؤية باستقراره] دلّ على جواز الرؤية لأن استقراره غير محال فدلّ على أنّ ما [علق] عليه. من كون الرؤية. غير محال أيضا ألا ترى أن دخول الكفار الجنّة لما كان مستحيلا علقه بشيء مستحيل. وهو قوله وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «1» . وقال أهل الحكمة والإشارة: إن الكليم لما أراد الخروج إلى الميقات جعل بين قومه وبين ربه واسطة يقول لأخيه هارون: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي فلما سأل الرؤية جعل الله تعالى بينه وبينها واسطة وهو الجبل لقوله تعالى لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فقال: وكأنّه يقول إن لم أصلح لخلافتك دون أخيك فأنت أيضا لأنه لم ترونني دون استقرار الجبل فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ. قال وهب: لما سأل موسى الرؤية أرسل إليه الضباب والصواعق والظلمة والرعد والبرق فأحاطت بالجبل الذي عليه موسى فأمر الله ملائكة السماوات أن يعترضوا على موسى أربعة فراسخ من كل ناحية فمرت به ملائكة سماء الدنيا كثير، إن البقر تتبع أفواههم بالتقديس والتسبيح بأصوات عظيمة كأصوات الرعد الشديد، ثمّ أمر الله ملائكة سماء الثانية أن اهبطوا على موسى فهبطوا عليه مثل الأسد لهم لجبّ بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما رأى وسمع واقشعر كل شعرة في رأسه وجسده. ثمّ قال: ندمت على مسألتي فهل ينجيني من مكاني الذي أنا فيه؟ فقال له حبر الملائكة ورأسهم: يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثمّ
هبطت ملائكة السماء الثالثة كأمثال النسور لهم قصف ورجف ولجب شديد وأفواههم تتبع بالتسبيح بالتقديس كجلب الجيش العظيم ولهب النار. ثمّ هبطت عليه ملائكة السماء الرابعة لا يشبههم شيء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شيء من أصوات الذين مروا به من قبلهم. ثمّ هبطت عليهم ملائكة السماء الخامسة سبعة ألوان فلم يستطيع أن يتبعهم طرفه ولم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه خوفا واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له حبر الملائكة ورأسهم: يا بن عمران مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه ثمّ أمر الله تعالى ملائكة السماء السادسة أن اهبطوا على عبدي أراد أن يراني فاعترفوا عليه فهبطوا عليه في يد كل ملك مثل النخلة العظيمة الطويلة نار أشد ضوءا من الشمس ولباسهم كلهيب النار، إذا سبحوا وقدّسوا جاوبهم من كان قبلهم من ملائكة السماوات كلهم يقولون بشدة أصواتهم: سبوح قدوس رب العزّة أبدا لا يموت، في رأس كل ملك منهم أربعة أوجه، فلما رآهم موسى رفع صوته يسبح معهم حين سبحوا وهو يبكي ويقول: رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدري أنقلب مما أنا فيه أم لا؟ إن خرجت أحرقت وإن مكثت متّ، فقال له رأس الملائكة ورئيسهم: قد أوشكت يا ابن عمران أن يمتلئ جوفك وينخلع قلبك فاصبر للذي جلست. ثمّ أمر الله تعالى أن يحمل عرشه في ملائكة السماء السابعة وقال: أروه، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعا فارتج الجبل واندكت كل شجرة كانت فيه وَخَرَّ العبد الضعيف مُوسى صَعِقاً على وجهه ليس معه روحه فقلب الله الحجر الذي كان عليه موسى وجعله كالمعدة كهيئة القبّة لئلّا يحترق موسى، فأرسل الله تعالى إليه روح الحياة فقام موسى يسبح الله تعالى ويقول: آمنت بأنك ربّي وصدقت بأنه لا يراك أحد فيحيا. ومن نظر الى ملائكتك انخلع قلبه فما أعظمك وأعظم ملائكتك أنت رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، لا يعدلك شيء ولا يقوم لك شيء رب تبت إليك الحمد لله لا شريك لك رب العالمين «1» . وقال السدي: حفّت حول الجبل بالملائكة وحفّت حول الملائكة بنار وحفّ حول النار بالملائكة وحفّ حول الملائكة بنار ثمّ تجلّى ربّك للجبل. وقال ابن عباس: ظهر نور ربّه للجبل جبل زبير «2» ، وقال الضحاك [أخرج] الله تعالى له من نور الحجب مثل منخر الثور.
وقال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار: ما تجلّى من عظمة الله للجبل إلّا مثل سمّ الخياط، يعني صار دكّا. وقال السدي: ما تجلّى منه إلّا قدر الخنصر. يدلّ عليه ما روى عن ثابت عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ هذه الآية فقال: هكذا، ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر، فساخ الجبل. وقال سفيان: ساخ الجبل في الأرض حتّى وقع في البحر فهو يذهب معه. وقال أبو بكر الهذلي: انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة. وقال عطيّة العوفي: جَعَلَهُ دَكًّا أي رملا هائلا، وقال الكلبي: جَعَلَهُ دَكًّا أي كسرا جبالا صغيرا. قال الحسن: جَعَلَهُ دَكًّا أي ذاهبا أصلا. وقال مسروق: صار صغيرا [كالرابية] «1» . الحسن: أوحى الله تعالى إلى الجبل هل تطيق رؤيتي فغار الجبل وساخ في الأرض وموسى ينظر حتّى ذهب أجمع. وقال قطرب: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ أي: أمر ربّه لِلْجَبَلِ كقوله. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها «2» . وقال المبرد: معناه فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ آية لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ فعلا متعدّيا [كالتخلّص والتبدّل والتوعد] . وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: حكي لي عن سهل بن سعد الساعدي أن الله تعالى أظهر من [وراء] سبعين ألف حجاب ضوءا قدر الدرهم فجعل الجبل دكا. وقال أبو بكر: فعذب إذ ذاك كل ماء وأفاق كل مجنون وبرأ كل مريض. وزالت الأشواك عن الأشجار وخصبت الأرض وأزهرت وخمدت نيران المجوس. وخرت الأصنام لوجهها جَعَلَهُ دَكًّا مستويا بالأرض. وقال ابن عباس: جعله ترابا. عن معونة بن قرّة عن أنس بن مالك قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا: «طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد وورقان، ورضوى. ووقع ثلاثة بمكّة ثور وثبيرة وحراء» [195] «3» . واختلفت القراءة في هذا الحرف، وقرأ عاصم دَكًّا بالقصر والتنوين. والتي في الكهف بالمد، وقرأ غيره من أهل الكوفة وحمير (دكاء) ممدودة غير مجراه في التنوين.
وقرأ الباقون مقصورة الرفع منونة. وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، فمن قصره فمعناه جعله مدكوكا. والدك والدق بمعنى واحد لأن الكاف والقاف يتعاقبات، لقولهم: كلام رقيق وركيك، ويجوز أن يكون معناه: دكه الله دكا أي فتّه الله أغبارا لقوله إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا وقوله وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً «1» . قال حميد: يدك أركان الجبال هزمه ... تخطر بالبيض الرقاق بهمه «2» ومن مده فهو من قول العرب ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام. وحينئذ يكون معناه: جعله أيضا دكاء، أي مستوية لا شيء فيها، لأن الجبل مذكر، هذا قول أهل الكوفة. وقال نحاة البصرة: معناه فجعله مثل دكّا وحذف مثل فأجرى مجرى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ قال الأخفش: من مدّ قال في الجمع: دكاوات، وذلك مثل حمراوات وحمرة، ومن قال: أرض دك، قال في الجمع: دكوك، وَخَرَّ أي وقع مُوسى صَعِقاً قال ابن عباس: فغشي عليه، وقال قتادة: ميّتا. وقال الكلبي: خَرَّ مُوسى صَعِقاً يوم الخميس يوم عرفة وأعطى التوراة يوم الجمعة [يوم النحر] . وقال الواقدي: لما خَرَّ مُوسى صَعِقاً قالت ملائكة السماوات: ما لابن عمران وسؤاله الرؤية؟! وفي بعض الكتب أنّ ملائكة السماوات أتوا موسى وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية ربّ العزّة. فَلَمَّا أَفاقَ من صعقته وعقله عرف أنّه قد فعل أمرا لا [ينبغي فعله] قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤالي الرؤية وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى في الدنيا [قال السدي] ومجاهد: وأنا أوّل من آمن بك من بني إسرائيل. وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا القاسم النصرآبادي يحكي عن الجنيد [أنه قال:] جئت إليك من الأسباط في شيء لا تعلقه نيتي، فأنا أوّل المؤمنين بأنّك لا ترى في الدنيا لأن أول من سألك الرؤية [ ... ] «3» .
قال ابن عباس: لمّا سار موسى إلى طور سيناء للميقات قال له ربه: ما تبتغي؟ قال: جئت أبتغي الهدي. قال قد وجدته يا موسى، فقال موسى: يا رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: أي عبادك أقصى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه فيسمع الكلمة تهديه إلى الهدى ويرد سنن رديء. وقال عبد الله بن مسعود: لمّا قرب الله موسى بطور سيناء رأى عبدا في ظلّ العرش جالسا فقال: [ما هذا] ، قال: هذا عبد لا يحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله وبرّ بوالديه ولا يمشي بالنميمة. فقال موسى: يا رب اغفر لي ما مضى من ذنبي وما مضى وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني، أعوذ بك من وسوسة نفسي وأعوذ بك من شر عملي. فقال: قد كفيت ذلك يا موسى، قال: يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمل به؟ قال: تذكرني ولا تنساني، قال: أي عبادك خير عملا؟ قال: من لا يكذّب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه [وهو ذو خلق حسن] ، قال: فأي عبادك شر عملا؟ قال: فاجر في خلق سيء [جيفة ليل] بطال النهار «1» . اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله سبحانه على نعمه. أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أحمد بن حمدون الفراتي. أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن بكير الرازي، حدثنا الحسن بن عليّ بن يحيى بن سلام الإمام، حدثنا أحمد بن حسان بن موسى البلخي. حدثنا أبو عاصم إسماعيل بن عطاء بن قيس [الأموي] عن أبي حازم المدني عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أعطى الله تعالى موسى الألواح فنظر فيه قال: يا رب لقد أكرمتني بكرامة لم تكرمها أحدا قبلي قالَ: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، بجد ومحافظة وموت على حب محمد صلى الله عليه وسلم. قال موسى: يا رب ومن محمد؟ قال: أحمد النبي الذي أثبت اسمه على عرشي من قبل أن أخلق السماوات بألفي عام، إنّه نبيي وصفيي وحبيبي وخيرتي من خلقي وهو أحب إلي من جميع خلقي وجميع ملائكتي. قال موسى: يا رب إن كان محمد أحب إليك من جميع خلقك فهل خلقت أمته أكرم عليك من أمتي؟ قال: يا موسى إنّ فضل أمة محمد على سائر الخلق كفضلي على جميع خلقي. قال: يا رب ليتني رأيتهم، قال: يا موسى إنّك لن تراهم، لو أردت أن تسمع كلامهم أسمعتك، قال: يا ربّ فإني أريد أن أسمع كلامهم، قال الله تعالى: يا أمة أحمد، فأجبنا كلنا من أصلاب آبائنا
وأرحام أمهاتنا لبيك اللهم لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك. قال الله تعالى: يا أمة أحمد إن رحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق حسابي قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تعصوني. من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبدي ورسولي دخل الجنّة ولو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. وهذا قوله عزّ وجلّ» [196] . وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ... وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إلى قوله الشَّاهِدِينَ. قال الثعلبي: وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عليّ بن نصير المزكى، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا رشد بن سعيد عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري عن أبيه أن كعب الأحبار رأى حبر اليهود يبكي قال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت بعض الأمور. فقال له كعب: أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك تصدقني؟ قال: نعم. قال: أنشدك الله تجد في [الكتاب] المنزل أنّ موسى (عليه السلام) نظر في التوراة فقال: إني أجد أمة خير أمم أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله والرسول والكتاب الآخر ويقاتلون أهل الضلالة حتّى يقاتلوا الأعور الدجال، فقال موسى: ربّ اجعلهم أمّتي، قال: هم أمّة محمد يا موسى، قال الحبر: نعم. قال: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر في التوراة فقال: رب إني أجد أمّة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار غير أن موسى كان يجمع صدقات بني إسرائيل فلا يجد عبدا مملوكا ولا أمة إلّا اشتراه ثمّ أعتقه من تلك الصدقات فما فضل حفر له بئر عميقة القعر فألقاه فيها ثمّ دفنه كيلا يرجعوا فيه، وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون والمشفوع لهم. قال موسى: اجعلهم أمّتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أنّ موسى (عليه السلام) نظر في التوراة، فقال: إنّي أجد أمة إذا أشرف أحدهم على نشر كبر الله وإذا هبط واديا حمد الله، الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا، يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غير محجلون من آثار الوضوء، فاجعلهم أمتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى، قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب إني
أجد أمة إذا همّ أحدهم بحسنة لم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وإن عملها ضعف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب عليه وإن عملها كتبت سيئة مثلها. قال: اجعلهم أمتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى، قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة وقال: رب إنّي أجد أمّة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيناهم، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ فلا أجد منهم أحدا إلّا مرحوما. اجعلهم أمّتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى، قال الحبر: نعم. قال كعب: أنشدك الله تجد في كتاب الله المنزل أنّ موسى نظر في التوراة قال: رب إنّي أجد في التوراة أمة مصاحفهم في صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنّة، يصفون في صلواتهم صفوف الملائكة أصواتهم [في مساجدهم] كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحدا أبد إلا من يرى الحساب مثل ما يرى الحجر من وراء الشجر، قال موسى: فاجعلهم أمتي؟ قال: هي أمة أحمد يا موسى. قال الحبر: نعم. فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله تبارك وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم قال: يا ليتني من أصحاب محمد فأوحى الله عزّ وجلّ ثلاث آيات يرضيه بها هي يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ الى قوله دارَ الْفاسِقِينَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال: فرضي موسى كل الرضا «1» . قوله تعالى وَكَتَبْنا لَهُ يعني لموسى فِي الْأَلْواحِ. قال الربيع بن أنس: كانت ألواح موسى (عليه السلام) من برد «2» ، وقال ابن جريج: كانت من زمرّد أمر الله تعالى جبرئيل حتّى جاء بها من عدن يكتبها بالقلم الذي كتب به [الذكر فاستمد] من بحر النور فكتب له الألواح. وقال الكلبي: كانت الألواح زبرجدا خضراء وياقوتة حمراء كتب الله فيها ثماني عشرة آية من بني إسرائيل وهي عشر آيات في التوراة. قال وهب: أمره الله تعالى بقطع الألواح من صخرة صماء ليّنها الله له فقطعها بيده ثمّ شقها بأصابعه وسمع موسى صرير القلم بالكلمات العشر، وكان ذلك أول يوم من ذي القعدة وكانت الألواح عشرة على طول موسى (عليه السلام) . وقال مقاتل وكعب وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ كنقش الخاتم وكتب فيها: إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئا من أهل السماء ولا من أهل الأرض فإنّ كل ذلك خلقي ولا تقطعوا
السبل ولا تحلفوا باسمي كاذبا فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكّيه ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقّوا الوالدين. وقال الربيع بن أنس: نزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة لم يقرأها إلّا أربعة نفر: موسى يوشع وعزيز وعيسى (عليهم السلام) «1» ، وقال: هذه الآية ألف آية يعني قوله وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا وتبيانا لِكُلِّ شَيْءٍ من الأمر والنهي الحلال والحرام والحدود والأحكام. فَخُذْها بِقُوَّةٍ قال مقاتل: بجد ومواظبة. قال الضحاك: بطاعة وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قال ابن عباس في رواية الكلبي: بأحسن ما أمروا [في] الأرض فيحلوا حلالها ويحرموا حرامها، وكان موسى أشد عداوة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به. وقال ابن كيسان وابن جرير: أحسنها الفرائض لأنه قد كان فيها أمر ونهي، فأمرهم الله تعالى أن يعملوا بما أمرهم به ويتركوا ما نهاهم عنه فالعمل بالمأمور به أحسن من العمل بالمنهي عنه. وقيل: معناه أخذوا بها وأحسن عمله. وقال قطرب: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي بحسنها و [كلّها حسن] كقوله وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «2» وقال الحسين بن الفضل: معنى قوله (أحسنها) أن يتخيل للكلمة معنيين أو ثلاثة فيصرفوا إلى الشبهة بالحق. وقيل: كان فيها فرائض لا مبرّك لها وفضائل مندوبا إليها والأفضل أن يجمع بين الفرائض و [الفضائل] . سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال أهل المعاني: هذا كقول القائل لمن يخاطبه سأريك غدا إلى بصير [فيه قال] من يخالف أمري على وجه الوعيد والتهديد. وقال مجاهد: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال: مصيرهم في الآخرة. قال الحسن: جهنم، وقال قتادة وغيره: سأدخلكم النار فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة. وقال عطيّة العوفي: معناه سأريكم دار فرعون وقومه وهي مصر يدلّ عليه. قرأ ابن عباس وقسامة بن زهير: سأورّثكم دار الفاسقين. وقال الكلبي: دار الفاسقين ما مرّوا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكوا. وقال ابن كيسان: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ما يصير قرارهم في [الأرض] . وقال ابن زيد: يعني سنن الأوّلين، وقيل: الدار الهلاك وجمعه أدوار. وذلك أن الله تعالى لمّا أغرق فرعون أوحى إلى البحر أن يقذف أجسادهم إلى الساحل ففعل فنظر إليهم بنو إسرائيل فأراهم هلاك الفاسقين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 إلى 152]
وقال يمان: يعني مسكن فرعون. سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قال قوم: حكم الآية لأهل مصر خاصة يعني بقوله آياتِيَ يعني الآيات التسع التي أعطاها الله سبحانه موسى (عليه السلام) . وقال آخرون: هي عامة، وقال ابن جريج وابن زيد: يعني عن خلق السماوات والأرض وما فيها من الشمس والقمر والنجوم والبحور والشجر والنبات وغيرها أصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها، وقال الفراء أي الغرباني: إنّي أمنع قلوبهم عن التفكر في أمري. وسمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا سعيد محمد بن نافع السجزي بهراة يقول: سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي قال: سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار قال: سمعت سفيان بن عيينة وسئل عن هذه الآية: أحرمهم فهم القرآن. سمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي قال: سمعت العباس بن حمزة قال: سمعت ذا النون المصري يقول: أبى الله أن يكرم قلوب الظالمين مكتوب حكمة القرآن وَإِنْ يَرَوْا يعني هؤلاء المتكبّرين. قرأ مالك بن دينار فَإِنْ يُرَوْا بضم الياء أي يفعل بهم سَبِيلَ الرُّشْدِ طريق الهدي والسداد لا يَتَّخِذُوهُ لأنفسهم سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يعني الضلال والهلاك يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وقرأ مجاهد وحميد وطلحة والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي: الرَّشَدِ، بفتح الراء والشين وهما لغتان كالسقم والسقم والحزن والحزن والبخل البخل، وكان أبو عمرو يفرق بينهما فيقول: الرُّشْدِ بالضم والصلاح في الأمر كقوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً «1» والرَّشَدِ بفتح بفتحتين الاستقامة في الدين، وقرأ أبو عبد الرحمن الرشاد بالألف وهو مصدر كالعفاف والصلاح. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ لاهين ساهين لا يتفكرون فيها ولا يتعظون بها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ورؤية القيامة، وقيل: العالية في الآخرة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ في العقبى إِلَّا ما كانُوا أي جزاء ما كانوا يَعْمَلُونَ في الدنيا.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد انطلاقه إلى الجبل مِنْ حُلِيِّهِمْ التي استعاروها من قوم فرعون. وكانت بنو إسرائيل في القبط بمنزلة أهل الجزية في الإسلام، وكان لهم يوم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فزامن ذلك عيدهم فاستعادوا الحلي للقبط فلما أخرجهم الله من مصر وغرق فرعون بقيت تلك الحلي في أيديهم فاتخذ السامري منها عجلا وهو ولد البقر عِجْلًا جَسَداً مجسّد لا روح فيه. وقال وهب: جَسَداً لحما ودما لَهُ خُوارٌ وهو صوت البقر خار خورة واحدة ثمّ لم تعد. وقال وهب: كان يسمع منه الخوار إلّا أنّه لا يتحرك. وقرأ عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه: جوار بالجيم والهمز وهو الصوت أيضا واختلفت القراء في قوله (حُلِيِّهِمْ) ، فقرأ يعقوب بفتح الحاء وجزم اللام وتخفيف الياء على الواحد. وقرأ حمزة والكسائي: حِلِيِّهِمْ بكسر الحاء وتشديد الياء، الباقون بضم الحاء وهما لغتان مثل [صلى] وجثى وبكى [وعثى] يجوز فيها الكسر والضم أَلَمْ يَرَوْا يعني الذين عبدوا العجل من دون الله أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا قال الله اتَّخَذُوهُ عبدوه واتخذوه إلها وَكانُوا ظالِمِينَ كافرين وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا على عبادة العجل وهذا من فصيحات القرآن. والعرب تقول لكل نادم أو عاجز عن شيء: سقط في يديه وأسقط، وهما لغتان وأصله من [الاستئسار] وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره فيكتفه، والمرمي فيه مسقوط في يد الساقط «1» . وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا يتب علينا ربنا وَيَغْفِرْ لَنا ويتجاوز عنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ بالعقوبة وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قال أبو الدرداء: الأسف منزلة وراء الغضب أشد منه، وقال ابن عباس والسدي: [رجع حزينا من صنيع قومه] «2» قال الحسن بن غضبان: حزينا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي بئس الفعل فعلتم بعد ذهابي، يقال: منه خلفه بخير أو شر إذا ألاه في أهله أو قومه بعد شخوصه عليهم خيرا أو شرا.
أَعَجِلْتُمْ أسبقتم أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ غضبا على قومه حين عبدوا العجل، وقال قتادة: إنّما ألقاها حين سمع من فضائل أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الألواح: قال: يا رب اجعلني من أمّة محمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أخي موسى ما المخبر كالمعاين لقد أخبره الله بفتنة قومه فعرف أنّ ما أخبره الله حق وأنه على ذلك لمتمسّك بما في يديه، فرجع إلى قومه ورآهم فغضب وَأَلْقَى الْأَلْواحَ» «1» . قالت الرواة: كانت التوراة سبعة أسباع فلمّا ألقى الألواح تكسرت فوقع منها ستة أسباع وبقي سبع وكان فيها رقع موسى وفيما بقي الهدى والرحمة وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي لحيته وذقنه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحبّ إلى بني إسرائيل من موسى، لأنه كان لين الغضب قالَ هارون عند ذلك يا ابْنَ أُمَّ قرأ [أهل] الكوفة بكسر الميم هاهنا وفي طه أراد يا بن أمي فحذف ياء الإضافة، لأنه مبنى النداء على الحذف وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الاضافة كقوله يا عِبادِ يدل عليه، قراءة ابن السميقع: يا ابن أمي بإثبات الياء على الأصل، وقرأ الباقون بفتح الميم فهما على معنى يا ابن أماه جعل أصله اسما واحدا وبناه على الفتح كقولهم: حضرموت وخمسة عشر ونحوهما «2» . إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي باتخاذهم العجل وَكادُوا يعني همّوا وقاربوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بضم التاء وكسر الميم ونصب الأعداء قرأه العامّة وقرأ مالك بن دينار فَلا تَشْمَتْ بِيَ الْأَعْداءُ بفتح التاء والميم الأعداء رفع وَلا تَجْعَلْنِي في [موعدتك] عليّ وعقوبتك لي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني أصحاب العجل قالَ موسى لمّا تبيّن له عذر أخيه رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت إلي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا جميعا أنا وأخي فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ في الآخرة وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال أبو العالية: هو ما أمروا به من قتل أنفسهم. وقال عطيّة العوفي: أراد سَيَنالُهُمْ أولادهم [الكبير] كابرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غَضَبٌ ... وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وهو ما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء لتوليتهم متخذي العجل ورضاهم به، وقال ابن عباس: هو الجزية. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الكاذبين قال أبو قلابة: هي والله جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة، قال يذله الله عزّ وجلّ. وسمعت أبا عمرو الفراتي سمعت أبا سعيد بكر بن أبي عثمان الخيري سمعت السراج
[سورة الأعراف (7) : الآيات 153 إلى 156]
سمعت سوار بن عبد الله الغزّي سمعت أبي يقول: قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلّا [وتجد فوق] رأسه ذلّة ثمّ قرأ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ الآية يعني المبتدعين. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا إلى قوله وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى يعني سكن عن موسى الْغَضَبُ يدلّ عليه قراءة معاوية بن مغيرة: ولمّا سكن، بالنون. قال أبو النجم: وهمت الأفعى بأن تسيحا ... وسكت المكاء أن يصيحا «1» وأصله الكف عن الشيء، ومنه الساكت عن الكلام. أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وذهب منها ستة أسباعها وَفِي نُسْخَتِها أي فما نسخ منها. قال عطاء: يعني فيما بقي منها، ولم يذهب من الحدود و [الأحكام] شيء فقال ابن عباس: وعمرو بن دينار: صام موسى أربعين يوما فلمّا ألقى الألواح فتكسّرت صام مثلها فردّت عليه وأعيدت له في لوحين مكان الذي انكسر [ولم يفقد منها شيئا] هُدىً وَرَحْمَةٌ. قال ابن عباس: هُدىً من الضلالة وَرَحْمَةٌ من العذاب لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [يخلفون] وقال الراجز: يصنع الجزع فيها أو استحيوا ... للماء في أجوافها خريرا أي من أصل الجزع وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه فلمّا نزع حرف الصفة نصب كقول الفرزدق: ومنّا الذي اختير الرجال سماحة ... وبرا إذا هبّ الرياح [الزعازع] «2»
وقال آخر: اخترتك للناس إذ رثت خلائقهم ... واعتل من كان يرجى عنده السؤل «1» أي من الناس، واختلفوا في سبب اختيار موسى السبعين. وقال السدي: أمر الله أن سيأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعد موعدا، واختار موسى من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا ثمّ ذهب إليه ليعتذر فلمّا أتوا ذلك المكان قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وإنّك قد كلّمته فأرناه فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا. وقال ابن إسحاق: اختارهم ليتوبوا إليه مما صنعوه ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم. وقال مجاهد: اختارهم لتمام الموعد. وقال وهب: قالت بنو إسرائيل لموسى (عليه السلام) : إن طائفة يزعمون أنّ الله لا يكلمك ولو كلمك فأقمت لكلامه ألم تر أنّ طائفة منّا سألوه النظر إليه فماتوا فلا تسأله أن [ينزل] طائفة منّا حتّى يكلمك فيسمعوا كلامه فيؤمنوا وتذهب التهمة، فأوحى الله تعالى إلى موسى (عليه السلام) أن اختر من خيارهم سبعين رجلا، ثمّ ارتق بهم إلى الجبل أنت وهارون. واستخلف على بني إسرائيل يوشع بن نون يقول كما أمر الله تعالى وَاخْتارَ ... سَبْعِينَ رَجُلًا. روى المنهال عن الربيع بن حبيب قال: سمعنا أبا سعيد الرقاشي وقرأ هذه الآية قال: كان السبعون ابنا ما عدا عشرين. ولم يتجاوز الأربعين. وذلك أن ابن عشرين قد ذهب [جماله] وصباه وأنّ من لم يتجاوز الأربعين لم يعد من عقله شيء. وقال الآخرون: كانوا شيوخا. قال الكلبي: اخْتارَ مُوسى ... سَبْعِينَ رَجُلًا لينطلقوا إلى الجبل فلم يصب إلّا ستين شيخا وأوحى الله تعالى إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختار وأصبحوا شيوخا فاختار من كل سبط ستّة رهط فصاروا اثنين وسبعين. فقال موسى: إنّما أمرت سبعين رجلا فاستخلف منكم رجلان فتشاجروا على ذلك. فقال: إن لمن قعد مثل أجر من خرج، فقعد رجلان أحدهما كالب بن [يوقيا] والآخر يوشع بن نون. فأمر موسى السبعين أن تصوموا وتطهروا، وتطهّروا ثيابكم ثمّ خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربّه وكان لا يأتيه إلّا بإذن منه وذلك قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اختلفوا في كيفية هذه الرجفة وسبب أخذها إياهم. فقال ابن إسحاق والسدي: إنّهم لمّا أتوا ذلك المكان قالوا لموسى: اطلب لنا نسمع كلام
ربّنا فقال: أفعل، فلمّا دنا موسى (عليه السلام) من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتّى يغشي الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني إسرائيل أن ينظر إليه، فضرب دونه الحجاب ودنا القوم حتّى إذا دخلوا في الغمام وهو عمود فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره فيها: افعل لا تفعل فلما فرغ انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا: يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ... ، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ فماتوا جميعا. وقال ابن عباس: إن السبعين الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ... فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ كانوا قبل السبعين الذين أخذتهم الرجفة، وإنما أمر الله موسى أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم وبرزهم ليدعوا ربهم، فكان فيما دعوا أن قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطيه أحدا بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ. قال عليّ بن أبي طالب. كرّم الله وجهه: إنّما أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ من أجل دعواهم على موسى قبل هارون، وذلك أن موسى وهارون وشبر وشبير (عليهم السلام) انطلقوا إلى سفح جبل فنام هارون على سرير فتوفّاه الله فلمّا مات دفنه موسى فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفّاه الله، فقالوا: بل أنت قتلته [عمدا] على خلقه ولينه، قال: فاختاروا من شئتم، فاختاروا سبعين رجلا وذهب بهم، فلما انتهوا إلى القبر قال موسى: يا هارون أقتلت أم توفّيت؟ فقال هارون: ما قتلني أحد. ولكن الله توفاني إليه. فقالوا: يا موسى لن تقصّ بعد اليوم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وصعقوا وماتوا، وقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم، يقولون: أنت قتلتهم فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلّهم. وقال ابن عباس: إنّما أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لأنهم لم يرضوا ولم ينهوا عن العجل، وقال قتادة وابن جريج ومحمد بن كعب: أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لأنّهم لم [يزايلوا] قومهم حين عبدوا العجل ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر. وقال وهب: لم تكن تلك الرجفة موتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهيبة أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وخلقوا فرجفوا حتّى كادت أن تبيّن مفاصلهم وتنقص ظهورهم فلمّا رأى ذلك موسى (عليه السلام) رحمهم وخاف عليهم الموت واشتدّ عليه فقدهم وكانوا له ولدا على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربّه فكشف الله عنهم تلك الرجفة والرعدة فسكنوا واطمأنوا وسمعوا كلام ربهم فذلك قوله قالَ يعني موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ بقتل القبطي أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا يعني عبدة العجل. وظن موسى أنّه عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل.
وقال السدي: أوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل وكان موسى لا يعلم ذلك فقال موسى: يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت أخيارهم وليس معي رجل واحد فما الذي يصدقوني به ويأمنونني عليه بعد هذا، فأحياهم الله وقال [المبرّد] : قوله أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا استعلام واستعطاف أي لا تهلكنا قد علم موسى أن الله أعدل من أن يؤاخذ بجريرة الجاني غيره ولكنّه كقول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية «1» . إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي اختيارك. قال سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع: محنتك، وقال ابن عباس: عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عن من تشاء تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا ناصرنا ومولانا وحافظنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنا أي حقق [ووفقنا للأعمال الصالحة] «2» يقال: [كتب] الله عليك السلامة فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً يعني الأعمال الصالحة وَفِي الْآخِرَةِ يعني المغفرة والجنّة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قرأ أبو رجزة السعدي: وكان مصححا من القراء شاعرا. هِدْنا بكسر الهاء يقال: هاد يهيد ويهود إذا رجع وتحرك [فأدلّه الميل] قال الشاعر: قد علمت سلمى [رجلا] ... أني من الناس لها هائد قالَ الله تعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من خلقي وقال الحسن وابن السميقع: مَنْ أَشاءُ [ ... ] «3» من الإشاءة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ عمّت كُلَّ شَيْءٍ قال الحسن وقتادة: إن رحمته في الدنيا وسعت البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتّقين خاصة. وقال عطيّة العوفي: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ولكن لا يجيب إلّا الذين يتقون، وذلك أنّ الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن لسعة رحمة الله للمؤمن يعيش فيها، فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمسير في كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه، قال أبو روق: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ يعني الرحمة التي قسمها بين الخلائق يعطفه بها بعضهم على بعض، وقال ابن زيد: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) هو التوبة، وقال آخرون: لفظه عام ومعناه خاص لهذه الأمّة. وقال ابن عباس وقتادة وابن [جرير] وأبو بكر الهذلي: لما نزلت هذه الآية وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قال إبليس: أنا من ذلك الشيء ونزعها الله من إبليس فقال
[سورة الأعراف (7) : الآيات 157 إلى 159]
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فقالت اليهود والنصارى نحن نتّقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله منهم وجعلها لهذه الأمة. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الآية قال نوف البكالي الحميري: لما اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى أجعل لكم في الأرض مسجدا وطهورا تصلّون حيث أدركتكم الصلاة إلّا عند مرحاض أو حمام أو قبر وأجعل السكينة في قلوبكم وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال ذلك موسى لقومه فقالوا: لا نريد أن نصلي في الكنائس ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهور قلوبنا، ولا نريد أن نقرأها إلّا نظرا، فقال الله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلى قوله الْمُفْلِحُونَ فجعلها الله لهذه الأمة، فقال موسى: رب اجعلني نبيهم، فقال: نبيهم منهم، قال: رب اجعلني منهم، قال: إنك لن تدركهم، فقال موسى: يا رب أتيتك بوفد بني إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله تعالى وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ أنفسهم بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فرضي موسى، قال نوف: إلا تحمدون ربّا حفظ غيّكم وأجزل لكم سهمكم وجعل وفادة بني إسرائيل لكم «1» . واختلف العلماء في معنى الأمّي. فقال ابن عباس: هو منكم كان أميّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحاسب قال الله تعالى وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ «2» وقال صلى الله عليه وسلم «إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحاسب» [197] «3» .
وقيل: هو منسوب إلى أمّته كأن أصله أمتي فسقطت التاء من النسبة كما سقطت من اليكي والمدى. وقيل: منسوب إلى أم القرى وهي مكّة أم القرى الَّذِي يَجِدُونَهُ أي صفته ونبوّته ونعته وأمره مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ قال عطاء بن يسار: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب «1» بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتّى يقيم الملّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلّا الله فيفتح به قلوبا غلفا وآذنا صما وأعينا عميا «2» . قال عطاء: ثمّ لقي كعبا فسأله عن ذلك فما اختلفا حرفا إلّا أن كعبا قال: بلغته قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميّا «3» . وروى كعب في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مولده مكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال وفي كل منزلة، يوضئون أطرافهم و [ويتورّون] إلى [الجهاد] وفيهم وعاة الشمس ويصلون الصلاة حيث أدركتهم ولو على ظهر الكناسة، صفهم في القول مثل صفهم في الصلاة ثمّ قرأ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا «4» . وقال الواقدي: حدّثني عثمان بن الضحاك عن يزيد بن [الهادي] عن ثعلبة بن مالك عن عمر بن الخطاب نه سأل أبا مالك عن صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة وكان من علماء اليهود، فقال: صفته في كتاب بني هارون الذي لم يغير ولم يبدّل أحد من ولد إسماعيل بن إبراهيم ومن آخر الأنبياء وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه في [عينيه] حمرة وبين كتفيه خاتم النبوّة مثل زر الحجلة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشملة ويجرى بالبلغة ويركب الحمار ويمشي في الأسواق، معه حرب وقتل وسبي سيفه على عاتقه لا يبالي من لقي من الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة. مولده بمكّة ومنشأه بها وبدء نبوّته بها ودار هجرته يثرب بين جرّة ونخل [وسبخة] وهو أمّي لا يكتب بيده، هو بجهاد، يحمد الله على كل شدة ورخاء، سلطانه الشام، صاحبه من الملائكة
جبرئيل يلقى من قومه أذى شديدا. ويحبّونه حبّا شديدا ثمّ يدال على قومه يحصرهم حصر [الجرين] يكون له وقعات في يثرب، منها له ومنها عليه، ثمّ يكون له العاقبة يعدّ معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم قربانهم دماؤهم ليوث النهار ورهبان بالليل يرعب منه عدوه بمسيرة شهر، يباشر القتال بنفسه حتّى يخرج ويكلم لا شرطة معه ولا حرس يحرسه «1» . يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني الشرك، وقيل: المعروف والشريعة والسنة والمنكر ما لا يعرف في شريعة، ولا سنّة. وقال عطاء: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وبخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ يعني الحلالات التي كانت أهل الجاهلية تحرمها: البحائر السوائب والوصائل والحوامي وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ يعني لحم الخنزير والدم والميتة والربا وغيرها من المحرمات. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ابن عباس والحسن والضحاك والسدي ومجاهد يعني: جهدهم الذي كان يأخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة. وقال ابن زيد وقتادة: يعني الشدائد الذي كان عليهم في الدين وَالْأَغْلالَ يعني الأنفال الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [بما أمروا] به من قتل الأنفس في التوراة وقطع الأبهاء، شبّه ذلك بالأغلال كما قال الشاعر: فليس لعهد الدار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا واستراح العواذل «2» . فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطّي إلى المحذورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ أعانوه ووقّروه وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ يعني القرآن أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله تعالى: بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ. قال قتادة: وآياته. وقال مقاتل والسدي: يعني عيسى ابن مريم وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعني بني إسرائيل أُمَّةٌ جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يرشدون إلى الحق، وقيل: خلفاء يهتدون ويستقيمون عليه ويعملون به وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي ينصفون من أنفسهم ويحمدون. وقال السدي: هم قوم بينكم وبينهم [قوم] من سهل.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 160 إلى 162]
وقال ابن جريج: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم ممّا صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم [وبينه] ففتح الله عليم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصف حتّى خرجوا من وراء الصين، فهم هناك حقّا مسلمون يستقبلون قبلتنا. قال الكلبي والربيع والضحاك وعطاء: هم قوم من قبل المغرب خلف الصين على نهر من الرمل يسمى نهر أودق وليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويصبحون بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منّا أحد ولا منهم إلينا أحد وهم على الحق وذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن جبرئيل [ذهب إليهم ليلة] أسري به فكلّمهم فقال لهم جبرئيل: هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد النبيّ فآمنوا به، وقالوا: يا رسول الله إنّ موسى أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منّي السلام. فردّ محمد صلى الله عليه وسلم على موسى: فعليه السلام، ثمّ أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ولم يكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فأمرهم بالصلاة والزكاة وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا وأن يتركوا السبت. وَقَطَّعْناهُمُ يعني بني إسرائيل اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً روى أبان بن يزيد العطار عن عاصم: وَقَطَعْناهُمُ بالتخفيف وأراد بالأسباط القبائل والفرق ولذلك أنشأ العدد والأسباط جمع مذكر. قال الشاعر: وإن قريشا كلّها عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر «1» فذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة فلذلك كان [البطن] مذكر وإنما قال: (أَسْباطاً أُمَماً)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 إلى 166]
بالجمع ولا يقال: أتاني اثنا عشر رجالا، لأنه أراد الأعداد والجموع فأقام كل عدد مقام واحد، وقيل: معناه وقطعناهم أسباطا أمما اثني عشر. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ قال عطاء: كان الحجر أربعة وجوه لكل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين لا يخالطهم سواه فَانْبَجَسَتْ أخصبت وانفجرت. قال أهل التفسير: انبجست وانفجرت واحد، وكان أبو عمرو بن العلاء يفرق بينهما فيقول انبجست عرفت وانفجرت [سالت] . قال عطاء: كان يظهر على كل موضع من الحجر يضربه موسى (عليه السلام) مثل ثدي المرأة فيعرق أوّلا ثمّ يسيل قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من كل سبط مَشْرَبَهُمْ لا يدخل سبط على غيره في شربه وكل سبط من أب واحد. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ في التيه يقيهم من الشمس وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى إلى قوله: يغفر لكم خطاياكم وقرأ أهل المدينة يُغْفَرْ [بياء] مضمومة وخطاياكم بالرفع، وقرأ ابن [عامر] بتاء مضمومة. وَسْئَلْهُمْ واسأل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال تقرير وتوبيخ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي بقربه وعلى شاطئه، واختلفوا فيها فروى عكرمة عن ابن عباس قال: هي قرية يقال لها ايلديس مدين والطور. وروى عليّ بن أبي طلحة عنه فقال: هي قرية على شاطئ البحر من مصر والمدينة يقال لها: أيلة وقال ابن زيد: هي قرية يقال لها: مقنى بين مدين وعينونا، وقيل: هي الطبريّة إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يتجاوزون أمر الله وقرأ أبو نهيك إذ تُعدون بضم الياء وكسر العين بتثقيل الدال من الأعداد يريد [يهيبون] الآلة لأخذها. وقرأ ابن السميقع: في الأسبات، على جمع السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً قرأ ابن عبد العزيز يوم إسباتهم شرعا الى [شراع] ظاهرة على الماء كثيرة، وقال الضحاك: متتابعة وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي لا يفعلون السبت. يقال سبت يسبت سبتا وسبوتا إذا أعظم السبت.
وقرأ الحسن: يُسْبَتُونَ بضم الياء أي يدخلون في السبت كما يقال أجمعنا وأشهرنا أي دخلنا في الجمعة والشهر لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ نختبرهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن سمعت إبراهيم بن [محارب] بن إبراهيم سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل هل تجد في كتاب الله الحلال لا [يأتيك] إلّا قوتا والحرام يأتيك جزفا جزفا؟ قال: نعم، في قصّة داود وتأويله: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ «1» . قال عكرمة: جئت ابن عباس يوما فإذا هو يبكي ووضع المصحف في حجرة فقلت: ما يبكيك جعلني الله فداك. قال: هؤلاء الورقات فإذا هو في سورة الأعراف، فقال: تعرف الآية؟ قلت: نعم، قال: فإنّه كان بها حي من اليهود في زمن داود حرم عليهم الحيتان في السبت، وذلك أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرتهم به يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد فأمروا بتعظيمه إن أطاعوا لم يؤجروا وإن عصوا عذبوا، وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضاء سمانا كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم حتّى لا يرى الماء من كثرتها وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ فكانوا كذلك برهة من الدهر. ثمّ إنّ الشيطان أوحى إليهم فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتّخذوا الحياض وكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة] فتسقي [فيها ولا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد «2» . وقال ابن زيد: كانوا قد قرّبوا بحب الحيتان وكان في غير يوم السبت لا تأتيهم حوت واحد فأخذ رجل منهم حوتا فربط في ذنبه خيطا فأخذه وشواه فوجد جار له ريح الحوت. فقال له: يا فلان أنا أجد في بيتك ريح نون، قال: لا فتطلع في تنوره فإذا هو فيه فقال: إني أرى الله سيعذّبك، فلما لم يره عذب ولم يعجل عليهم بالعذاب أخذ في السبت الأخرى حوتين اثنين. فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم أكلوا وملحوا وباعوا وأثروا وكثر مالهم، وكانوا نحوا من سبعين ألف، فصارت أهل القرية [ثلاثا] : ثلث نهوا. وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا. وثلث قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ، وثلث أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون: لا [نسألهم] فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود (عليه السلام) فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فنظروا فإذا بهم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم وعرفت القردة [أنسابها] من الأنس. ولا تعرف الأنس أنسابهم من القرود. فجعلت القردة تأتي نسيبها من
الأنس وتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم؟ فتقول برأسها: نعم «1» . قال قتادة: صار الشبان قردة والشيوخ خنازير فما نجا إلّا الذين نهوا وهلك سائرهم. واختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً) كانت من الناجية أو من الهالكة؟ فقال بعضهم: كانت من الناجية لأنّها كانت من الناهية. وقال آخرون: كانت من الفرقة الهالكة، لأنّهم كانوا من الخاطئة وذلك أنهم لما نهوا وقالوا لهم انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب فإنّا قد علمنا أن الله تعالى منزل عليكم بأسه إن لم تنتهوا قالوا لهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ إذ علمتم أنّ الله معذبهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي هذه معذرة، وقرأ حفص: مَعْذِرَةً أي يفعل ذلك معذرة وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ صيد الحيتان والصواب أنها كانت من الفرقة الناجية وأن هذا الكلام من قول المؤمنين بعضهم لبعض لأنّه لو كان الخطاب للمعتدين لقالوا: ولعلكم تتّقون يدلّ عليه قول يمان بن رئاب نحن الطائفتان اللذان قالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ والذين قالوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ فأهلك الله أهل المعصية الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وخنازير. وقال ابن عباس: ليت شعري ما فعل هؤلاء الذين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ قال عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ فلم أزل به حتّى عرّفته أنهم قد نجوا فكساني حلّة «2» . فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ تركوا ما وعظوا به أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أي المعصية وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي عاقبنا باعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرم الله بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد وجيع من البأس وهو الشدة والفعل منه بؤس يبئس، فاختلف القراء فيها فقرأ أهل المدينة بيس بكسر الباء وجزم الياء من غير همزة على وزن فعل، وقرأ ابن عامر كذلك على وزن فعل إلّا أنّه الهمزة. وقرأ عاصم: في رواية أبي بكر: بيئس بفتح الباء وجزم الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل ويثرب. كما قال الشاعر: كلاهما كان رئيسا بيئسا ... يضرب في الهيجاء منه القونسا «3»
وقرأ بعضهم: بيئس بفتح الباء وكسر الهمزة على وزن فعل مثل [حذر] كقول ابن قيس الرقيات: ليتني ألقى رقيّة في ... خلوة من غير ما بيئس «1» وقرأ الحسن: بكسر الباء وفتح السين على معنى بيئس العذاب. وقرأ مجاهد: بائس على وزن فاعل وقرأ أبو أياس بفتح الباء والياء من غير همزة. وقرأ نصر بن عاصم: بيئس بفتح الباء وكسر الياء مشددا من غير همزة. وقرأ بعض أهل مكة بِئِيس بكسر الياء والهمزة كما يقال: بعر للبعير. وقال أهل اللغة: كل فعل ثانية أحد حروف الحلق فإنّه يجوز كسر أوّله مثل بعير وصغير ورحيم و [حميم] وبخيل، وقرأ الباقون بَئِيسٍ على وزن فعيل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن فعيلا أشبهه بصفات [التعريف] كقول ذي الإصبع العدواني: لقد رأيت بني أبيك ... محمجين «2» إليك شوسا «3» حنقا عليّ ولن ترى ... لي فيهم أثرا بئيسا «4» وقوله فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس: أبوا أن يرجعوا عن المعصية قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ صاغرين. قال سعيد بن جبير: رأى موسى (عليه السلام) رجلا يحمل قصبا يوم السبت فضرب عنقه «5» ، أبو روق: الخاسئون الذين لا يتكلّمون. وقال المؤرخ مبعدين كما بعد الكلاب. قال ابن عباس: [مكثوا] ثلاث أيام ينظر إليهم الناس ثمّ هلكوا ولم يتوالدوا ولم يتناسلوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيام. قال مقاتل: عاشوا سبعة أيام يعرف الكبير بكبره والصغير بصغره، ثمّ ماتوا. وروى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لم يمسخ شيئا فجعل له نسلا وعاقبه «6» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 إلى 171]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أذّن وأعلم ربّك مثل قولهم تعلم بمعنى أعلم. وأنشد المبرّد: تعلم أن خير الناس حي ... ينادي في شعارهم يسار «1» وقال زهير: فقلت تعلم أن للصيد غرّة ... فان لا تضيعها فإنّك قاتله «2» وقال ابن عباس: (تَأَذَّنَ رَبُّكَ) قال ربّك، وقال مجاهد: أمر ربّك، وقال عطاء: حتم، وقال أبو عبيد: أخبر، وقال قطرب: وعد. لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ هم اليهود بعث الله عليهم محمدا وأمته يقاتلونهم حتّى يسلموا أو يعطوا الجزية، وقال سعيد بن جبير: هم أهل الكتاب بعث الله عليهم العرب يجبونهم الخراج إلى يوم القيامة فهو سوء العذاب ولم يجب نبي قط الخراج إلّا موسى (عليه السلام) فهو أول من وضع الخراج فجباه ثلاث عشرة سنة ثمّ أمسك فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي حضرت وجاء وتبدل من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد والواحد والجميع فيه سواء والخلف بفتح اللام البدل ولدا كان أو غريبا، وقال الآخرون: هم خلف سوء. وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح و [بالجزم] الصالح. قال لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب» ومنه قيل للرديء من الكلام: خلف، ومنه المثل السائر: سكت الفا وبطن خلفا. وقال النضر بن شميل: الخلف بجزم اللام وإسكانها في غير القرآن السوء واحد، فأمّا في القرآن الصالح [بفتح] اللام لا غير، وأنشد:
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ... عبدا إذا ما ناء بالحمل خضف «1» وقال محمد بن جرير الطبري: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد تحرك في الذم وتسكن في المدح ومن ذلك قول حسان بن ثابت: لنا القدم الأولى وإليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع «2» قال: واحسب أنّه إذا وجّه إلى الفساد مأخوذ من قولهم: خلف اللبن وحمض من طول تركه في السقاء حتى تفسد، ومن قولهم: خلف فم الصائم إذا تغير ريحه وفسد، فكان الرجل الفاسد مشبه به. وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى والعرض متاع الدنيا أجمع. والعرض بسكون الراء ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. قال المفسّرون: [إن] اليهود ورثوا كتاب الله فقرأوه وعلموه وضيعوا العمل به وخالفوا حكمه يرتشون في حكم الله وتبديل كتاب الله وتغيير صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ذنوبنا ما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل تمنيا على الله الأباطيل. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ. قال سعيد بن جبير: وإن عرض لهم ذنب آخر عملوه. وقال مجاهد: ما أشرف لهم في اليوم من شيء من الدنيا الحلال أو حرام يشتهونه أخذوه. وكلما وهف «3» لهم شيء من الدنيا أكلوه وأخذوا من الدنيا، ما وهف أي ما سهل، لا يبالون حلالا كان أو حراما ويبتغون في المغفرة فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه «4» . قال السدي: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلّا ارتشى في الحكم. وإن خيارهم اجتمعوا فأخذوا منهم بعض العهود أن لا يفعلوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى وارتشى يقال له: مالك ترتشي في الحكم، فيقول: سيغفر لي، فيطعن عليه البقية [عرض] من بني إسرائيل فيما صنع، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجلا ممن كان يطعن فيرتشي فيقول وأن يأتي الآخرين عرض مثله يأخذوه ومعناه: وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض مثله يأخذوه كما أخذ أسلافهم. والأدنى تذكير الدنيا وعرض هذه الدار الدنيا فلما ترك الاسم المؤنث ذكر النعت لتذكير اللفظ.
سمعت أبا القاسم الحبيبي قال: سمعت أبا بكر محمد بن عبد [ ... ] «1» يقول فيه تقديم وتأخير أي: يأخذون هذا العرض الأدنى أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وقرءوا ما فيه، وقرأ السلمي: ادّارسوا أي تدارسوا مثل إذا زكّوا أي قارأ بعضهم بعضا. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك والحرام أَفَلا تَعْقِلُونَ بالياء قرأ أكثر القراء على الخبر. وقرأ الحسن وابن الأشهب بالتاء على الخطاب وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ قرأ عمر بن الخطاب وأبو العالية وعاصم ورواية أبي بكر بسكون خفيفة. وقرأ الباقون بسكون التشديد. قال أبو عبيد وأبو حاتم: لأنه يقال تمسكت بالشيء ولا يقال أمسكت بالشيء: إنما يقال أمسكته ويدل عليه قراءة أبي ابن كعب (والذين مسكوا الكتاب) على الماضي وهو جيد لقوله: (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إذ قال ما يعطف (من) على مستقبل إلّا في المعنى. وقرأ الأعمش: (والذين استمسكوا بالكتاب) ومعنى الآية: وأن يعملوا بما في كتاب الله قال مجاهد وابن زيد: هم من اليهود والنصارى الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ الذي جاء به موسى فلا يحرفونه ولا يكتمونه أحلّوا حلاله وحرموا حرامه ولم يتخذوه [ما كله نزل] في عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال عطاء: فيهم أنّه محمد صلى الله عليه وسلم وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ. وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي قلعنا الجبل. قال مجاهد: كما ينتق الزبد «2» . وقال المؤرخ: قطعنا. وقال أبو عبيدة: زعزعنا. وقال الفراء: خلقنا. وقال بعضهم رفعناه. واحتج بقول العجاج: ينتقن أقتاد الشليل نتقا «3» يعني يرفعه عن ظهره. وقال آخر: ونتّقوا أحلامنا الأثاقلا «4» وقال بعضهم: أصل النتق والنتوق أن يقلع الشيء من موضعه فيرمى. قال أبان بن تغلب:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 إلى 179]
سمعت رجلا من العرب يقول لغلامه: فخذ الحجر ألقه فانتقه أي نكسه وانثره. ويقال للمرأة الكثيرة الولد: ناتق ومنتاق لأنها ترمي [صدرها] رميا قال النابغة: لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... حقت عليك بناتق مذكار «1» وقال بعضهم: هو من التحريك فقال: ينتفي السير أي حركني، يقال: ينتق برجله ويركض إذا حركت رجله على الدابة حين تعدو به. كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ الظلة ما أضللك وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ نازل بهم خُذُوا أي قلنا خذوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ فاعملوا به لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وذلك حين أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة ويعملوا بها لتغليظها وكانت شريعة ثقيلة فرفع الله عز وجل جبلا على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ. وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها ليقعن عليكم. قال الحسن البصري: فلما نظروا للجبل خرّ كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى على الجبل خوفا من أن يسقط عليهم فلذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلّا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. نشر موسى الألواح فيها كتاب الله كتب بيده لم يبق على وجه الأرض جبل، ولا بحر ولا حجر إلّا اهتزّ فليس اليوم يهودي على الأرض صغير ولا كبير يقرأ عليه التوراة إلّا اهتزّ وتعفّر لها رأسه. وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.
قال المفسّرون: لمّا خلق الله عزّ وجلّ آدم مسح ظهره وأخرج منه ذريته كلهم وهي الذرية واختلفوا في موضع الميثاق. فقال ابن عباس: يسكن نعمان واد إلى جنب عرفة، وروي فيه أيضا أنّ ذلك [برهبا] أرض بالهند وهو الموضع الذي أهبط الله فيه آدم صلى الله عليه وسلم «1» . وقال الكلبي: بين مكّة والطائف. وقال السدي: أخرج الله آدم من الجنّة ولم يهبط من السماء ثمّ مسح ظهره وأخرج ذريته. قالوا: فأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء فقال لهم: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال. وأصحاب المنامة. وقال لهم: جميعا أعلموا أن لا إله غيري وأنا ربكم لا رب لكم غيري فلا تشركوا بي شيئا فإنّي مرسل إليكم رجالا يذكرونكم بعهدي وميثاقي ومنزل عليكم كتاب فتكلّموا وقالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا ولا رب لنا غيرك، فأقرّوا يومئذ كلهم طائفة طائعين. وطائفة على وجه التقدير تقيّة، فأخذوا بذلك مواثيقهم وسمّيت آجالهم وأرزاقهم وحسابهم فنظر إليهم آدم، ورأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب لولا سويت بينهم، فقال: إنّي [أحببت أن] أشكر «2» . قالوا: وفيهم الأنبياء يومئذ أمثال السرج فرأى آدم نورا ساطعا فقال: من هذا؟ فقال: هذا داود نبي من ذريتك قال: كم عمره؟ قال: ستّون سنة قال: رب زده. قال: جرى القلم بآجال بني آدم، قال: رب زده من عمري أربعين سنة، فأثبت لداود أربعين وكان عمر آدم ألف سنة، فلما استكمل آدم تسعمائة وستين سنة جاء ملك الموت، فلما رآه آدم قال: مالك؟ قال: استوفيت أجلك، قال له آدم: بقي من عمري أربعون سنة، قال: أليس قد وهبتها لداود؟ قال: لا فجحد آدم، فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطأ فخطئت ذريته، فرجع الملك إلى ربه فقال: إن آدم يدعي أنه بقي من عمره أربعون سنة، قال: أخبر آدم أنه وهبها لابنه داود (عليه السلام) والأقلام بطيئة فأثبتت لداود، فلما قررهم بتوحيده وآثر بعضهم على بعض أعادهم إلى صلبه فلا تقوم الساعة حتّى يولد كل من أخذ ميثاقه ولا يزداد فيهم ولا ينقص عنهم، فذلك قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ونظم الآية: وإذا أخذ ربّك من ظهر بني آدم ذريتهم، ولم يذكر أمر آدم فإنما أعرجوا يوم الميثاق في ظهره، لأن الله عزّ وجلّ أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، فاستغنى عن ذكر
ظهر آدم بقوله (من بني آدم) فلما علم أنهم كلهم بنوه و [خرجوا] من ظهره ترك ذكر ظهر آدم وذكر ظهور بنيه. وقوله: ذرياتهم قرأ أهل مكة والكوفة: ذُرِّيَّتَهُمْ بغير ألف على الواحد، وقرأ الباقون على الجمع بالألف وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ وقال لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ سؤال تقرير قالُوا جميعا بَلى أنت ربّنا شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا قرأ ابن عباس وابن محيصن وأبو عمرو: (يقولوا) بالباء، والباقون بالتاء كقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، واختلفوا في قوله: (شَهِدْنا) فقال السدي: خبر من قوله تعالى عن نفسه وعن ملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم، وقال الآخرون: بل ذلك على إقرار بني آدم حين أشهد بعضهم على بعض أن يقولوا يعني أن لا يقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا الميثاق والإقرار غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاتبعناهم أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ يعني المشركين وإنما اقتدينا بهم وكنا في غفلة عن التوحيد وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لقومك يا محمد وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا اختلفوا فيه. فقال عبد الله بن مسعود: هو بلعم بن ابرة. وقال ابن عباس: هو بلعم بن باعورة. وقال مجاهد: هو بلعام بن باعر. وقال مقاتل: هو بلعام بن باعور بن ماث بن لوط. عطية عن ابن عباس: هو من بني إسرائيل. وقال عليّ بن أبي طلحة: هو من الكنعانيين من مدينة الجبارين، وقال مقاتل: هو من مدينة بلقا، وسميت بلقا لأن ملكها كان رجلا يقال له: بالق وكانت وصيته على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم: إن موسى (عليه السلام) لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتي قوم بلعم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم. فقالوا: إن موسى رجل شديد ومعه جنود كثيرة وإنّه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنا قومك وبنو عمك وليس لنا قول وأنت رجل مجاب الدعوة فأخرج وادع الله تعالى أن يرد عنا موسى وقومه فقال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي. وقالوا ما لنا من [نزل] وراجعوه في ذلك قال: حتى أؤامر ربّي، وكان لا يدعو حتّى ينظر ما يؤمر في المنام فيأمرني الدعاء عليهم. فقيل له في المنام: لا تدع عليهم، فقال لقومه: إني قد أمرت ربّي في الدعاء عليهم وإنّي قد نهيت، فهدوا له هدية، فقبلها ثمّ راجعوه وقالوا: أدع عليهم، فقال: حتّى أؤمر فلما أمّر لم يجيء إليه شيء. فقال: قد أمّرت فلم يجيء إليّ شيء، فقالوا: لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى. فلم يزالوا به [يروقونه] ويتضرعون إليه حتّى فتنوه فافتن فركب [أتانا] له متوجها إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له جسبان.
فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتّى إذا أذاقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتّى ربضت، ففعل بها مثل ذلك فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتّى ربضت فضربها حتّى إذا أذاقها أذن الله لها بالكلام فتكلمت حجّة عليه فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا لنذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم، فلم ينزع عنها فخلّى الله سبيلها فانطلقت حتّى إذا أشرقت به على جبل جسبان جعل يدعو عليهم فلا يدعو عليهم بشيء إلّا صرف به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلّا صرف مسألته إلى بني إسرائيل. فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك هذا شيء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلّا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، اجملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثمّ أرسلوهن إلى العسكر يتعدوا فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنا رجل واحد منهم يفتنوهم ففعلوا. فلمّا دخل النساء العسكر مرّت امرأة بين الكنعانيين اسمها بشتي بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل يقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام) فقام إليها فأخذ بيدها حين أفتنه جمالها ثمّ أقبل حتّى وقف على موسى فقال: إني أظنك ستقول هذه حرام عليك قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها قال: فو الله لا نطيعك في هذا ثمّ دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت. وكان لفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى رجل قد أعطى بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائبا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون [يمجّس] في بني إسرائيل وأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلّها ثمّ دخل عليه القبة وهما متضاجعان [فاستقبلها] بحربته ثمّ خرج بهما رافعا بهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته. وكان [يكره العيزار] وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون. فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من نهار، فمن هنا لك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص كل ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللحى، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وبإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنّه كان [بكرا] لعيزار بن هارون وفي بلعم أنزل الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا الآية «1» .
وقال مقاتل: إن ملك البلقاء قال لبلعام: أدع على موسى، فقال: إنه من أهل ديني لا أدعو عليه فنصبت خشبة ليصلب فلما رأى ذلك خرج على أتان له ليدعو عليهم، فلما عاين عسكرهم قامت به الأتان ووقفت فضربها فقالت: لم تضربني إني مأمورة فلا تظلمني وهذه نار أمامي قد منعتني أن أمشي فرجع وأخبر الملك، فقال: لتدعون عليه أو لأصلبنك فدعا على موسى بالاسم الأعظم ألا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى: يا رب [بأي] ذنب وقعنا في التيه قال: بدعاء العالم، قال: فكما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا موسى عليه أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فذلك قوله تعالى فَانْسَلَخَ مِنْها فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية. وقال عبد الله بن عمر بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق: نزلت هذه الآية في أميّة بن أبي الصلت الثقفي وكانت قصّته أنّه كان في ابتداء [أمره] قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا في ذلك الوقت ورجاء أن يكون هو ذلك الرسول «1» . فلما أرسل محمد (عليه السلام) حسده وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مرّ على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه. لمّا مات أميّة أتت أخته فارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن وفاة أخيها فقالت: بينا هو قد [أتانا فنام على سريري فأقبل طائران] ونزلا فقعد أحدهما عند رجله والآخر عند رأسه فقال الذي عند رجله للذي عند رأسه: أدعي؟ قال: دعي، قال: أزكّي؟ قال: أبى، قالت: فسألته عن ذلك. قال: خيرا زيدي، فصرف عني ثمّ غشي عليه فلما أفاق قال: كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر أمره إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما بدا لي ... في قلال الحبال أرعى الوعولا يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير نوما ثقيلا ثمّ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشديني شعر أخيك. فأنشدته: لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ... ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد وهي قصيدة طويلة حتّى أتت على آخرها. وأنشدته قصيدته: وقف الناس للحساب جميعا ... فشقي معذب وسعيد ثمّ أنشدته قصيدته التي فيها
عند ذي العرش يعرضون عليه ... يعلم الجهر والسرار الخفيا يوم يأتي الرحمن وهو رحيم ... إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يوم يأتيه مثل ما قال فرد ... ثم لا بد راشدا أو غويا أو سعيدا سعادة أنا أرجو ... أو مهانا لما اكتسبت شقيا إن أؤاخذ بما أجرمت فإني ... سوف ألقى في العذاب قويا ورب إن تعفوا فالمعافاة ظنّي ... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمن شعره وكفر قلبه. وأنزل الله عزّ وجلّ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا الآية «1» . ومنهم من قال: إنها نزلت في البسوس. وكان رجلا قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات. وكانت له امرأة وكان له منها ولد فقالت له: اجعل منها دعوة واحدة لي. فقال: لك منها واحدة، فما تريدين؟ فقالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا لها فجعلت أجمل امرأة في بني إسرائيل. فلما علمت أنّه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الرجل. ودعا عليها فصارت كلبة نبّاحة فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس لنا على هذا قرار دعوت على أمّنا فصارت كلبة نبّاحة والناس يعيروننا أدعوا الله أن يردها على الحال التي كانت عليها، فدعا الله عزّ وجلّ فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات. وقال سعيد بن المسيب: نزلت في أبي عامر بن النعمان بن صيفي الراهب الذي سمّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الفاسق. وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوخ فقدم المدينة وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي جئت به. قال: «جئت بالحنفية دين إبراهيم» ، فقال: أنا جئتها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لست عليها ولكنك أدخلت إبليس فيها» [198] ، فقال أبو عامر: أمات الله كاذبا منا طريدا وحيدا فخرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا القوّة والسلاح وابنوا إلي مسجدا ثمّ أتى الراهب قيصر وأتى بجند ليخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة فذلك قوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني انتظارا لمجيئه فمات بالشام طريدا وحيدا. وقال عبادة بن الصامت: نزلت في قريش أتاهم الله الآيات فانسلخوا منها فلم يقبلوها،
فقال الحسن وابن كيسان: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبيّ صلى الله عليه وسلم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ. وقال عمرو بن دينار: سئل عكرمة عن هذه الآية فقال: هذا وهذا ليست في خاصة. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى فلم يقبله فذلك قوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا. وقال ابن عباس والسدي: هي اسم الله الأعظم. وقال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئا إلّا أعطاه. وقال ابن عباس في رواية أخرى: أعظم أنها كتابا من كتب الله. مجاهد: هو نبي من بني إسرائيل يقال له بلعم أوتي النبوّة فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه «1» . فَانْسَلَخَ [خرج] مِنْها كما تنسلخ الحيّة من جلدها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لحقه وأدركه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي فضلناه وشرفناه ورفعنا منزلته بالآيات. وقال ابن عباس: رفعناه بها. وقال مجاهد وعطاء: يعني لرفعنا عنه الكفر بالآيات وعصمناه. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ قال سعيد بن جبير: ركن الى الأرض. مجاهد: سكن. مقاتل: رضي بالدنيا. أبو عبيدة: لزمها وأبطأ، والمخلد من الرجال هو الذي يبطئ شيبه ومن الدواب التي تبقى ثناياه حتّى تخرج رباعيتاه «2» . قال الزجاج: خلد وأخلد واحد وأجعله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال خلد فلان بالمقام إذا أقام به. ومنه قول زهير لمن الديار غشيتها بالغرقد ... كالوحي في حجر المسيل المخلد «3» يعني: المقيم. وقال مالك بن نويرة: فما نبأ حيّ من قبائل مالك ... وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا «4» وَاتَّبَعَ هَواهُ قال الكلبي: يتبع [خسيس] الأمور ويترك معاليها.
وقال أبو روق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال ابن زيد: كان هواه مع [القدم] قال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه، وقال يمان: وَاتَّبَعَ هَواهُ أي امرأته لأنّها حملته على الخيانة. فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ قال مجاهد: هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به، وقال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد لا فؤاد له إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ وهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع. وروى معمر عن بعضهم قال: هو الكافر ضال إن وعظته أو لم تعظه. قال ابن عباس: معناه إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الحكمة لم يحملها وإن تتركه لم يهتد بخير كالكلب إن كان [رابضا] لهث وإن طرد لهث. وقال الحسن: هو المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أو لم يدع وعظ أو لم يوعظ [كالكلب] يلهث طرد أو ترك، قال عطاء: ينبح إن يحمل عليه وإن لم يحمل، وقال القتيبي: كل شيء يلهث من إعياء أو عطش إلّا الكلب، فإنّه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال الصحة وحال المرض، وحال [الجوع] وحال العطش فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته. فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته لهث ونظيره قوله وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «1» ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ روى محمد بن إسحاق عن سالم [أبي الخضر] قال: يعني مثل بني إسرائيل أي إن جئتهم بخبر ما كان فيهم ما غاب عنك (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) . فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلّا نبي يأتيهم خبر السماء ساءَ مَثَلًا أي بئس المثل مثلا حال من المثل المضمر. كما قال جرير: فنعم الزاد زاد أبيك زادا «2» . هذا إذا جعلت (ساءَ) من فعل المثل ورفعت الْقَوْمُ بدلا من الضمير فيه. وإن حولت فعله إلى القوم ورفعتهم به كان [انتهاء] به على التمييز، يريد سأمثل القوم فلما حولته إليهم خرج المثل مفسّرا كما يقال: قربه عينا وضاق ذرعا، متى ما سقط التنوين عن المميز [المخفض] بالإضافة دليله قراءة [الجحدري] والأعمش سأمثّل القوم بالإضافة، وقال أبو حاتم: يريد بها (مثلا) مثل القوم فحذف مثل.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 180 إلى 186]
وأقام القوم [به أمّة] فرفعهم كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ. وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إلى قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وإنما قال ذلك لنفاد علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم ويسمّي بعض أهل المعاني هذه اللام لام [الصيرورة] فيه كقوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «1» . وأنشدوا: أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... [ودورنا] لخراب الدهر نبنيها «2» وقال الآخر: فللموت تغدو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن «3» وروى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: «إن الله تعالى كما ذرأ لجهنم ما ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم» [199] ، ثمّ وصفهم فقال لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولا يعلمون الخير والهدى وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها طريق الحق والرشاد وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها مواعظ الله والقرآن فيفكرون ويعتبرون بها فيعرفون بذلك توحيد الله ثمّ يعملون بتحقيق [النبوّة] فآتينا بهم ثمّ ضرب لهم مثلا في الجهل والاقتصاد على الشرب والأكل وبعدهم من موجبات العمل. وقال عز من قائل أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ويطيعوه والكافرون لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه وفي الخبر: «كل شيء أطوع لله من ابن آدم» [200] «4» . أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ. وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها قال مقاتل: وذلك أن رجلا دعا الله في صلاته ودعا الرحمن، فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما
بال هذا يدعو ربين اثنين، فأنزل الله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وهو تأنيث الأحسن كالكبرى والأكبر والصغرى والأصغر، والأسماء الحسنى هي الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ... الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ ونحوها. الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما، مائة غير واحدة، من أحصاها كلّها دخل الجنّة» [201] «1» . وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ. قال ابن عباس: يكذبون، وقال قتادة: يشركون، وقال عطاء: ظامئون، زيد بن أسلم: يميلون عن الحق. ابن عباس ومجاهد: هم المشركون. وإلحادهم في أسماء الله عز وجل أنهم عدلوا بها عمّا هي عليه فسموا بها أوثانهم وزادوا فيها ونقصوا منها فاشتقوا اللات من الله تعالى والعزّى من العزيز ومنات من المنّان. وقال أهل المعاني: الإلحاد في أسماء الله تعالى يسميه بما لم يسم به ولا ينطق به كتاب ولا دعا إليه رسول، وأصل الإلحاد الميل والعدول عن القصد ومنه لحد القبر. فيقال: ألحد يلحد إلحادا ولحد يلحد لحدا ولحودا إذا مال. وقد قرئ بهما جميعا فقرأ يحيى بن رئاب والأعمش وحمزة: بفتح الياء والحاء هاهنا وفي النحل (رحم) . وقرأ الباقون: بضم الياء وكسر الحاء وهما لغتان [صحيحتان] . وأمّا الكسائي فإنّه قرأ التي في النحل بفتح الياء والحاء وفي الأعراف (رحم) بالضم وكل يفرق بين الإلحاد واللحود فيقول: الإلحاد العديل عن القصد واللحد واللحود الركون، ويزعم أن التي في النحل يعني الركون سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ في الآخرة وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ عصبة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال قتادة وابن جريج: بلغنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: هي أحق بالحق يأخذون ويقضون ويعطون وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» [202] . قال الربيع بن أنس: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال: «إن من أمتي قوما على الحق حتّى ينزل عيسى» (عليه السلام) [203] «2» . عن عمير بن هاني قال: سمعت معاوية على هذا المنبر يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال من أمّتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من غالطهم حتّى يأتي أمر الله عزّ وجلّ، وهم ظاهرون على الناس» [204] «3» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 187 إلى 188]
وقال ابن حيان: هم مؤمنوا أهل الكتاب. وقال عطاء: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان قد سماهم الله تعالى في سورة براءة. وقال الكلبي: هم من جميع الخلق وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قال بعضهم: سنأخذهم بالعذاب، وقال الكلبي: نزيّن لهم أعمالهم فنهلكهم. وقال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة، وقال الخليل بن أحمد: سنطوي وإن أعمارهم في اغترار منهم «1» . وقال أبو عبيدة والمؤرخ: الاستدراج أن يأتيه من حيث لا يعلم. وقال أهل المعاني: الاستدراج أن ندرج إلى الشيء في خفيّة قليلا قليلا ولا يباغت ولا يجاهر. يقال: استدرج فلانا حتّى تعرف ما صنع أي لا يجاهر ولا يهجم عليه، قال: ولكن استخرج ما عنده قليلا قليلا وأصله من [الدرج] وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة فاستعير [هذا عنه] . ومنه الكتاب إذا طوى شيئا بعد شيء، ودرج القوم إذا مات بعضهم في دار بعض، ودرج الصبي إذا قارب من خطاه في المشي وَأُمْلِي لَهُمْ يعني أمهلهم وأطيل من الملاواة وهو الدهر، ومنه مليت أي غشت دهرا إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي أخذي قوي مديد قلت: في المستهزئين، فقتلهم الله في ليلة واحدة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله عزّ وجلّ، ووقائعه فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت حتى الصباح فأنزل الله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ. ما بمحمد من مجنون «2» . إِنْ هُوَ ما هو إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ مخوف أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ ملك السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فيهما مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى وهي أن لعلّ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فيهلكوا على الكفر ويصبروا إلى العذاب فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ بعد القرآن يُؤْمِنُونَ ثمّ بيّن العلّة في إعراضهم عن القرآن وتركهم الإيمان فقال عز من قائل: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ فلا مرشد له وَيَذَرُهُمْ قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بالياء، لأن ذكر الله سبحانه قد مرّ من قبل. والباقون بالنون، لأنّه كلام [مستأنف] ومن جزم الراء فهو ممدود على يُضْلِلِ.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ قال ابن عباس: قال [وجيل] بن أبي فشير وسموأل بن زيد: وهما من اليهود: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول فلنعلم متى هي؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة فأنشر إلينا متى الساعة فأنزل الله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ يعني القيامة أَيَّانَ متى ، ومنه قول الراجز: أيان تقضي حاجتي أيانا ... أما ترى لنجحها إبانا «1» مُرْساها قال ابن عباس: ومنتهاها، وقال قتادة: قيامها. وأصل الكلمة الثبات والحبس قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر بعلمها لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ... لا يُجَلِّيها لا يكشفها ولا يظهرها. وقال مجاهد: لا يأتي بها، وقال السدي: [لا يرسلها] لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني ثقل علمها على أهل السموات والأرض لخفائها فلا يعرفو مجيئها ووقتها فلم يعلم قيامها ملك مقرّب ولا نبي مرسل. وقال الحسن: يقول إذا جاءت ثقلت على السموات والأرض وأهلها وكبرت وعظمت وذلك أنها إذا جاءت انشقت السموات وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسُيِّرَتِ الْجِبالُ. وليس من الخلق شيء إلّا ويصيبه ضرر الساعة وثقلها ومشقتها لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً فجأة على غفلة منكم. سعيد عن قتادة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول «إن الساعة تهيج الناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه» [205] «2» . وعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال جبرئيل: تقوم الساعة عند ثلاث مواطن: إذا كثر القول وقلّ العمل وعند قلّة المواشي حتّى يمضي كل رجل ممّا عنده، وإذا قال الناس من يذكر الله فيها بدعة» [206] . يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قال أهل التفسير في الآية تقديم وتأخير تقديرها. يسألونك عنها كأنّك حفي أي [بار فيهم] صديق لهم قريب، قاله ابن عباس وقتادة، وقال مجاهد والضحاك: كأنّك عالم بها وقد يوضع عن موضع مع الياء قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ إلى قوله (نَفْعاً وَلا ضَرًّا) فقال ابن عباس: إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك بالسعر الرخيص قبل أن يغلا فتشتريه فتربح فيه، والأرض الذي تريد أن تجذب فترتحل منها إلى ما قد أخصبت فأنزل الله
[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 إلى 195]
تعالى قُلْ يا محمد لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي اجتناب نفع ولا دفع إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي أملكه بتمليكه إياي وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ يعني المال وتهيأت لسنة القحط ما يكفيها وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ وما مسّني الله [بسوء] . وقال ابن جريج: قُلْ لا أَمْلِكُ (لِنَفْسِي) نَفْعاً وَلا ضَرًّا يعني الهدى والضلالة وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ متى أموت لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ من العمل الصالح وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ. قال ابن زيد: فاجتنبت ما يكون من الشر وأتقيه. قال بعض أهل المعاني: (لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ من معرفته حتّى لا يخفى عليّ شيء وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ يعني التكذيب. وقال مقاتل: هذا متصل بالكلام الأول معناه: لا أقدر أن [أسوق] لنفسي خيرا أو أدفع عنها شرا حتّى ينزل بي فكيف أعلم وأملك علم الساعة؟ وتمام الكلام قوله: لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، ثم ابتدأ فقال: (وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) [يعني الجنون] . وقيل يعني لم يلحقني تكذيب إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم (عليه السلام) وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها خلق منها حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْها يستأنس إليها ويأوي إليها لقضاء حاجته فَلَمَّا تَغَشَّاها واقعها وجامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً وهو ماء الرجل خفيف عليها فَمَرَّتْ أي استمرت بِهِ وقامت وقعدت ولم تكثرت بحملها، يدل عليه قراءة ابن عباس: فاستمرت به. وقال قتادة: (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استبان حملها. وقرأ يحيى بن يعمر (فمرت) خفيفة الراء من المرية أي: شكّت أحملت أم لا؟ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي كبر الولد في بطنها وتحرك وصارت ذات ثقل بحملها كما يقال: أثمر إذا صار ذا ثمر دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما يعني آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا يا ربنا صالِحاً. قال الحسن: غلاما ذكرا. وقال الآخرون: بشرا سويّا مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ وذلك أنهما أشفقا أن يكون بهما أو شيئا سوى آدمي أو غير سوي.
قال الكلبي: إن إبليس أتى حواء في صورة رجل لما أثقلت في أول ما حملت فقال: ما هذا الذي في بطنك قالت: ما أدري، قال: إني أخاف أن يكون بهيمة، فقالت ذلك لآدم، فلم يزالا في نعم من ذلك ثمّ عاد إليها فقال: إني من الله [منزّل] فإن دعوت الله فولدت إنسانا [أتسمّينه فيّ] قالت: نعم، قال: فإنّي أدعوا الله فأتاها وقد ولدت فقال: سميه باسمي، فقالت: وما اسمك؟ قال: الحارث، ولو سمّى نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث» . وقال سعيد بن جبير: لما هبط آدم وحواء (عليهما السلام) الأرض ألقيت الشهوة في نفس آدم فأصابها فحملت فلما تحرك ولدها في بطنها جاءها إبليس فقال ما هذا [ما ترين] في الأرض إلّا ناقة أو بقرة أو ضائنة أو [ماعزة] أو نحوها فما يدريك ما في بطنك لعله كلب أو خنزير أو حمار وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو أذنك أو عينيك أو فيك أو يشق بطنك فيقتلك، فخافت حواء من ذلك قال: فأطيعيني وسميه عبد الحرث. وكان اسمه في الملائكة الحرث، تلدين شبيهكما مثلكما، فذكرت ذلك لآدم فقال: لعلّه صاحبنا الذي قد علمت، فعاودها إبليس فلم يزل بهما حتّى غرهما فسمّياه عبد الحرث «2» . قال السدي: ولدت حواء غلاما فأتاها إبليس فقال سموه بي وإلّا قتلته، قال له آدم: قد أطعتك فأخرجتني من الجنّة، فأبى أن يطيعه فمات الغلام، فحملت بآخر فلما ولدته قال لهما مثل ذلك فأبيا أن يطيعاه، فمات الولد، فحملت بآخر فأتاهما وقال لهما: إذ غلبتماني فسمياه عبد الحرث، وكان اسم إبليس الحرث. ولم يشعروا به فوالله لا أزال أقتلهم حتّى تسمياه عبد الحرث. كما قتلت الأول والثاني فسمياه عبد الحرث فعاش. وقال ابن عباس: كانت حواء تلد لآدم فتسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال: إن [وعدتكما] أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث فولدت ابنا فسمياه عبد الحرث ففيهما أنزل الله عزّ وجلّ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أي ولدا بشرا سويا حيا آدميا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ. قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير وأبان بن ثعلب وعاصم وعكرمة وأهل المدينة شِرْكاً بكسر الشين والتنوين أي شركه. قال أبو عبيدة: أي حظا ونصيبا من غيره، وقرأ الباقون شُرَكاءَ مضمومة الشين ممدودة على جمع شريك أخبر عن الواحد بلفظ الجمع، لقوله تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ «1» مفردا، تم الكلام هاهنا ثمّ قال: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يعني أهل مكة. واختلف العلماء في تأويل الشرك المضاف إلى آدم وحواء فقال المفسرون: كان شركاء في التسمية والصفة لا في العبادة والربوبية. وقال أهل المعاني: أنهما لم يذهبا إلى أن الحرث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحرث لكنهما قصدا إلى أن الحرث سبب نجاة الولد وسلامة أمّه فسمياه، كما [يسمى] ربّ المنزل، وكما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له لا على أن الضيف ربّه. كما قال حاتم: وإنّي لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما فيّ إلّا تلك من شيمة العبد «2» وقال قوم من أهل العلم: إن هذا راجع إلى المشركين من ذرية آدم وإن معناه جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «3» وكما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء في تفريقهم بفعل آبائهم، فقال لليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ. وقال وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها. وقال سبحانه: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ «4» ونحوها، ويدل عليه ما روى معمر عن الحسن قال: عني بهذا من أشرك من ذرية آدم ولم يكن عنى آدم. وروى قتادة عنه قال: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصّروا. وقال ابن كيسان: هم الكفار جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ عبد العزى وعبد مناة. وقال عكرمة: لم يخص بها آدم ولكن جعلها عامة لجميع بني آدم من بعد آدم. قال الحسين بن الفضل: وهذا حجب إلى أهل النظر لما في القول الأول من إلصاق العظائم بنبي الله آدم (عليه السلام) ويدل عليه جمعه في الخطاب حيث قال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، ثمّ قال: فَلَمَّا تَغَشَّاها انصرف من ذلك الخطاب إلى الخبر يعني فلما تغشى الرجل منكم امرأته. قال الله عزّ وجلّ: أَيُشْرِكُونَ يعني كفار مكة ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ يعني الأصنام. قال ابن زيد: ولد لآدم ولد فسمياه عبد الله فاتاهما إبليس فقال: ما سميتما ابنكما هذا؟
[سورة الأعراف (7) : الآيات 196 إلى 206]
قال: وكان ولد لهما قبل ذلك ولد سمياه عبد الله فمات فقالا: سميناه عبد الله، فقال إبليس: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما لا [والله] ليذهبن كما ذهب الآخر، ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمياه عبد شمس. فذلك قوله أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. الشمس لا تخلق شيئا حتّى يكون لها عبدا إنّما هي مخلوقة قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خدعهما مرتين خدعهما في الجنّة وخدعهما في الأرض» [207] «1» . والذي يؤيد القول الأول قراءة السلمي: أتشركون بالتاء. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى يعني الأصنام لا يَتَّبِعُوكُمْ لأنها غير عاقلة سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ساكتون إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ مخلوقة مملوكة مقدرة مسخرة أَمْثالُكُمْ أشباهكم فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّها آلهة. أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها يأخذون بها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ يا معشر المشركين ثُمَّ كِيدُونِ أنتم وهم فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي يعني الذي [يحفاني] ويمنعني منكم الله نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يا محمد يعني الأصنام يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وهذا كما يقول العرب: داري ينظر إلى دارك أي يقابلها.
ويقول العرب: إذا أتيت مكان كذا فنظر إليك الحمل فخذ يمينا وشمالا أي: استقبلك. وحدث أبو عبيدة عن الكسائي قال: الحائط ينظر إليك إذا كان قريبا منك حيث تراه. ومنه قول الشاعر: إذا نظرت بلاد بني تميم ... بعين أو بلا بني صباح «1» وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: معناه: وتراهم كأنهم ينظرون إليك كقوله: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى «2» أي كأنهم سكارى وإنّما أخبر عنهم بالهاء والميم، لأنّها مصوّرة على صورة بني آدم مخبرة عنها بأفعالهم. خُذِ الْعَفْوَ قال مجاهد: يعني العفو من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تخميس. قال ابن الزبير: ما أنزل الله تعالى هذه الآية إلّا في أخلاق الناس. وقال ابن عباس والسدي والضحاك والكلبي: يعني ما عفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال والكل فما أتوك به عفوا فخذه ولا تسألهم ما ذرأ ذلك. وهذا قبل أن ينزل فريضة الصدقات. ولما نزلت آية الصدقات نسخت هذه الآية وأمر بأخذها منهم طوعا وكرها وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالمعروف. قرأ عيسى بن عمر: العرف ضمتين مثل الحلم وهما لغتان والعرف المعروف والعارفة كل خلصة حميدة فرضتها العقول وتطمئن إليها النفوس. قال الشاعر: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس «3» قال عطاء: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ يعني لا إله إلّا الله وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أبي جهل وأصحابه نسختها آية السيف. ويقال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل: «ما هذه؟ قال: لا أدري حتّى أسأل، ثمّ رجع فقال: يا محمد إن ربّك يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك» [208] «4» . فنظم الشاعر فقال: مكارم الأخلاق في ثلاث ... من كملت فيه فذاك الفتى إعطاء من يحرمه ووصل من ... يقطعه والعفو عمن عليه اعتدى قال جعفر الصادق: «أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية» [209] «5» .
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (رحمهما الله) [210] «1» . وقالت عائشة: مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث. وصدق البأس في طاعة الله. وإعطاء السائل. ومكافأة الصنيع. وصلة الرحم. وأداء الأمانة. والتذمم للصاحب. والتذمم للجار وقرى الضيف ورأسهن الحياء «2» . أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المذكور أنشدنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، أنشدنا ابن أبي [الدنيا] أنشدني أبو جعفر القرشي. كل الأمور تزول عنك وتنقضي ... إلّا الثناء فإنه لك باق لو أنني خيّرت كل فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق «3» قال عبد الرحمن بن زيد: لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كيف يا رب [والغضب] » [211] فنزل وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ يعني يصيبنك ويفتننك ويغرنك ويعرض لك من الشيطان نَزْغٌ وأصله الولوع بالفساد والشر. يقال نزغ عرقه إذا [جنّ] وهاج، وفيه لغتان: نزغ ونغز، يقال: إياك والنزاغ والنغاز وهم المورشون «4» . وقال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون من الإنسان ومن الشيطان أدنى وسوسة، وقال سعيد ابن المسيب: شهدت عثمان وعليا وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئا ثمّ لم يبرحا حتّى استغفر كل واحد منهما لصاحبه «5» فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فاستجر بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا يعني المؤمنين إِذا مَسَّهُمْ أصابهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ قرأ النخعي وابن كثير وأبو عمرو والأعمش وابن يزيد والجحدري وطلحة: طيف، وقرأ الباقون: طائِفٌ، وهما لغتان كالميت والمائت، ومعناهما الشيء الذي [بكم بك] «6» وفرق قوم بينهما «7» . فقال أبو عمرو: الطائف ما يطوف حول الشيء والطيف اللمة والوسوسة الخطرة. وقال بعض [المكيين] : الطائف ما طاف به من وسوسة الشيطان والطيف اللحم والمس. ويجوز أن يكون الطيف مخفّفا عن طيّف مثل هيّن وليّن. يدل عليه قراءة سعيد بن جبير: طيّف بالتثقيل.
وقال ابن عباس: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي نزغ من الشيطان. وقال الكلبي: ذنب. وقال مجاهد: هو الغضب. تَذَكَّرُوا وتفكروا وعرفوا، وقال أبو روق: ابتهلوا، وفي قراءة عبد الله بن الزبير: إذا مسهم طائف من الشيطان [فأملوا] . قال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب الغضبة فيذكر الله فيكظم الغيظ، ليث عن مجاهد: هو الرجل هم بالذنب فيذكر الله فيدعه. وقال السدي: معناه إذا زلوا تابوا. وقال مقاتل: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنها معصية فأبصرها ونزغ من مخالفة الله فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ينظرون مواضع خطيئتهم بالتفكر والتدبر [يمرون] فيقصرون، فإنّ المتّقي من يشتهي [ ... ] «1» ويبصر فيقصر، ثم ذكر الكفار فقال وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ يعني إخوان الشيطان وهم الكفار يمدهم الشياطين في الغي حتى يطلبوا لهم ويزيدوهم في الضلالة. وقرأ أهل المدينة: يُمِدّونهم بضم الياء وكسر الميم وهما لغتان بمعنى واحد. وقرأ الجحدري يمادونهم على يفاعلونهم. ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يشكون ولا ينزغون. وقال ابن زيد: لا يسأمون ولا يفترون. قال ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا [الجن ممسك] عنهم. وقرأ عيسى بن عمر: يَقصرون بفتح الياء وضم الصاد وقصر وأقصر واحد وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا محمد يعني المشركين بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي هلّا أقلعتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك، قاله قتادة، وقال مجاهد: لولا اقتضيتها وأخرجتها من نفسك. وقال ابن زيد: لولا يقبلها [لجئت] بها من عندك. وقال ابن عباس: لولا تلقيتها من عندك، أيضا لولا حدثتها فأنشأتها. قال العوفي عن ابن عباس: [فنسيتها وقلتها] «2» من ربّك. وقال الضحاك: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء، قال الفراء: تقول العرب: [جئت] الكلام وأخلقته وارتجلته وانتحلته إذا افتعلته من قبل نفسك. قال ابن زيد: إنّما يقول العرب ذلك الكلام بتهدئة الرجل ولم يكن قبل ذلك أعده لنفسه قُلْ يا محمد إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ثمّ قال هذا يعني القرآن بَصائِرُ حجج وبيان وبرهان مِنْ رَبِّكُمْ واحدتها بصيره. وقال الزجاج: طرق من ربكم، والبصائر طرق «3» الدم.
قال الجعفي: راحوا بصائرهم على أكتافهم ... وبصيرتي يعدو بها عتد وآي «1» تعدّوا عداوي وأصلها ظهور الشيء وقيامه واستحكامه حتّى يبصر الإنسان فيهتدي إليها وينتفع بها، ومنه قيل: [ما لي في الأمر] «2» من بصيرة وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا قال عبد الله بن مسعود: كنا نسلم بعضنا على بعض في الصلاة سلام على فلان وسلام على فلان فجاء القرآن: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا يعني في الصلاة وقال أبو هريرة: كانوا يتكلّمون في الصلاة فأتت هذه الآية وأمروا بالإنصات. وقال الزهري: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه، فنزلت هذه الآية. وروى داود بن أبي هند عن بشير بن جابر قال: صلّى ابن مسعود فسمع ناسا يقرءون مع الإمام فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا، أما آن لكم أن تعقلوا وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا كما أمركم الله «3» . وروى الحريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدّثان والقارئ يقرأ فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوحيان الموعود، قال: فنظرا إلي ثمّ أقبلا على حديثهما، قال: فأعدت الثانية فنظرا لي فقالا: إنّما ذلك في الصلاة: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا. وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة «4» . وقال الكلبي: وكانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حتّى يسمعون ذكر الجنّة والنار فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال قتادة: كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم في أول ما فرضت عليهم، وكان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية «5» .
وقال ابن عباس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتومة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب: كان المشركون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى فيقول بعضهم لبعض بمكّة: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ فأنزل الله جوابا لهم وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ. قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وزيد بن أسلم، والقاسم بن يسار، وشهر بن حوشب: هذا في الخطبة أمر بالإنصات للإمام يوم الجمعة. قال عبد الله بن المبارك: والدليل على حكم هذه الآية في [الجمعة] إنّك لا ترى خطيبا على المنبر يوم الجمعة يخطب، فأراد أن يقرأ في الخطبة آية من القرآن إلّا قرأ هذه الآية قبل [فواة] قراءة القرآن. قال الحسن: هذا في الصلاة المكتوبة وعند الذكر. وقال مجاهد وعطاء: وجب الإنصات في اثنين عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلّي وعند الإمام وهو يخطب. وقال عمر بن عبد العزيز: الإنصات لقول كل واعظ والإنصات الإصغاء والمراعاة. قال الشاعر: قال الإمام عليكم أمر سيّدكم ... فلم نخالف وأنصتنا كما قالا «1» وقال سعيد بن جبير: هذا في الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام «2» . قال الزجاج: ويجوز أن يكون معنى قوله فَاسْتَمِعُوا وأَنْصِتُوا اعملوا بما فيه لا تجاوزوه، لأن معنى قول القائل: سمع الله: أجاب الله دعاءك. وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ قال ابن عباس: يعني بالذكر القراءة في الصلاة تَضَرُّعاً جهرا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ دون رفع القول في خفض وسكوت يسمع من خلفك. وقال أهل المعاني: وَاذْكُرْ رَبَّكَ اتعظ بالقرآن وآمن بآياته وَاذْكُرْ رَبَّكَ بالطاعة في ما يأمرك (تَضَرُّعاً) تواضعا وتخشّعا (وَخِيفَةً) خوفا من عقابه، فإذا قرأت دعوت بالله أي دُونَ الْجَهْرِ: خفاء لا جهار «3» .
وقال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور. ويؤمر بالتضرع في الدعاء والاستكانة. ويكره رفع الصوت [والبداء] بالدعاء وأمّا قوله بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ فإنه يعني بالبكر والعشيات، واحد الآصال أصيل، مثل أيمان ويمين، وقال أهل اللغة: هو ما بين العصر إلى المغرب وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة والمراد هو عند قربهم من الفضل والرحمة لا من حيث المكان والمعاقبة. وقال الحسين بن الفضل: قد يعبد الله غير الملائكة في المعنى من عند ربّك جاءهم التوفيق والعصمة لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يتكبرون ولا يتعظمون عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وينزهونه ويذكرونه ويقولون سبحان الله وَلَهُ يَسْجُدُونَ يصلّون. مغيرة عن إبراهيم: إن شاء ركع وإن شاء سجد.
سورة الأنفال
سورة الأنفال مدنيّة، وهي خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفا، وألف ومائتان وإحدى وثلاثون كلمة زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد يوم القيامة أنّه برىء من النفاق وأعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيام حياته في الدنيا» [212] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية قال ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «من أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا، ومن قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر أسيرا فله كذا» [213] ، فلمّا التقوا سارع إليه الشبّان والفتيان وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات، فلمّا فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لهم الأشياخ: كنّا ردءا لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا، ولا تذهبوا [بالغنائم دوننا] . وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله إنّك وعدت من قتل قتيلا فله كذا ومن أسر أسيرا فله كذا وإنّا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين، فقام سعد بن معاذ فقال: والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو لكن كرهنا أن يعرّي مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك، فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثمّ عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعيد بمثل كلامه وقال: يا رسول الله إنّ الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعط هؤلاء التي ذكرت لا يبق لأصحابك كثير شيء فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية. فقسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بالسويّة «1» . وروى مكحول عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسّمه بين المسلمين عن سواء على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله صلاح ذات البين. وقال سعد بن أبي وقاص: نزلت في هذه الآية ذلك أنّه لمّا كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص بن أميّة وأخذت سيفه وكان يسمّى ذا الكثيفة فأعجبني فجئت به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ليس هذا لي ولا لك اذهب فاطرحه في القبض فطرحته ورجعت وبي ما لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ من قتل أخي وأخذ بيدي قلت: عسى أن يعطي من لم يبل بلائي فما جاوزت إلّا قليلا حتّى جاءني الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فخفت أن يكون قد نزل فيّ شيء، فلما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا سعد إنّك سألتني السيف وليس لي وإنّه قد صار» ليّ فاذهب فخذه فهو لك» [214] «3» . وقال أبو [أميّة] مالك بن ربيعة: أصبت سيف ابن زيد يوم بدر وكان السيف يدعى المرزبان فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردّوا ما في أيديهم من النفل فأقبلت به وألقيته في النفل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إيّاه. وقال ابن جريج: نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرا فاختلفوا فكانوا أثلاثا فنزلت هذه الآية وملّكها الله رسوله يقسّمها كما أراه الله. عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس [قال:] كانت المغانم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء وما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو ملكا فهو غلول فسألوا رسول الله أن يعطيهم منها فأنزل الله عزّ وجلّ يَسْئَلُونَكَ يا محمد عَنِ الْأَنْفالِ أي حكم الأنفال وعلمها وقسمها.
وقيل: معناه يسألونك من الأنفال (عن) بمعنى (من) . وقيل: «من» صلة أي يسألونك الأنفال. وهكذا قرأ ابن مسعود بحذف (عن) وهو قول الضحاك وعكرمة. والأنفال الغنائم واحدها نفل. قال لبيد: إن تقوى ربّنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي والعجل «1» وأصله الزيادة يقال: نفلتك وأنفلتك أي: زدتّك. واختلفوا في معناها: فقال أكثر المفسّرين: معنى الآية يسألونك عن غنائم بدر لمن هي. وقال عليّ بن صالح بن حيي: هي أنفال السرايا «2» . وقال عطاء: فأنشد من المشركين إلى المسلمين بغير قبال من عبد أو أمة أو سلاح فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء. وقال ابن عباس: هي ما يسقط من المتاع بعد ما يقسم من الغنائم فهي نفل لله ولرسوله. وقال مجاهد: هي الخمس وذلك أنّ المهاجرين سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس وقالوا: لم يرفع منّا هذا الخمس، لم يخرج منّا فقال الله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يقسّمانها كما شاءا أو ينفلان فيها ما شاءا أو يرضخان منها ما شاءا. واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة أم منسوخة: فقال مجاهد وعكرمة والسدي: هي منسوخة نسخها قوله وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ «3» الآية. وكانت الغنائم يومئذ للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة فنسخها الله بالخمس. وقال عبد الرحمن بن أيد: هي ثابتة وليست منسوخة وإنّما معنى ذلك قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ. وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة. وَالرَّسُولِ يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيها ثمّ أنزل حكم الغنائم بعد أربعين آية فإنّ لله خمسه ولكم أربعة أخماس. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «هذا الخمس مردود على فقرائكم» [215] «4» ، وكذلك يقول في تنفيل
الأيام بعض القوم واقتفائه إياه ليلا، وعلى هذه يفرق بين الأنفال والغنائم بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وذلك حين اختلفوا في الغنيمة أمرهم بالطاعة والجماعة ونهاهم عن المفارقة والمخالفة. قال قتادة وابن جريج: كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ينفل الرجل من المؤمنين سلب الرجل من الكفّار إذا قتله وكان ينفل على قدر عنائه وبلائه حتّى إذا كان يوم بدر ملأ الناس أيديهم غنائم، فقال أهل الضعف: ذهب أهل القوّة بالغنائم فنزلت قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ليرد أهل القوّة على أهل الضعف فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد بعضهم على بعض فأمرهم الله بالطاعة فيها فقال وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» واختلفوا في تأنيث ذات البين فقال أهل البصرة أضاف ذات البين وجعله ذات لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم المؤنث وبعضها يذكر نحو الدار والحائط أنّث الدار وذكّر الحائط. وقال أهل الكوفة: إنّما أراد بقوله ذاتَ بَيْنِكُمْ الحال التي للبين فكذلك ذات العشاء يريد الساعة التي فيها العشاء. قالوا: ولم يضعوا مذكّرا لمؤنّث ولا مؤنّثا لمذكّر إلّا لمعنى به وقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية يقول الله تعالى ليس المؤمنون من الذي يخالف الله ورسوله إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فرقّت به قلوبهم وهكذا هو في مصحف عبد الله. وقال السدي: هو الرجل يريد أن يهتم بمعصية فينزع عنه وَإِذا تُلِيَتْ قرئت عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وقال ابن عباس: تصديقا، وقال الضحاك: يقينا. وقال الربيع بن أنس: خشية. وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة: إن للإيمان زيادة ونقصان، قيل: فما زيادته؟ قال: إذا ذكرنا الله وجدناه فذلك زيادته وإذا سهونا وقصّرنا وغفلنا فذلك نقصان. وقال عدي بن عدي: كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن للإيمان سننا وفرائض وشرائع فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، [قال عمر بن عبد العزيز: فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص] «2» . وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يفوّضون إليه أمورهم ويتّقون به فلا يرجون غيره ولا يخافون سواه والتوكل الفعل من الوكول الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي حقّوا حقا يعني يقينا صدقا. وقال ابن عباس: يقول برأوا من الكفر. وقال مقاتل: حَقًّا لا شك في إيمانهم كشك المنافقين «3» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 إلى 14]
وقال قتادة: استحقّوا الإيمان بحق فأحقّه الله لهم. وقال ابن عباس: من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقّا. أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله الرازي، قال: أخبرنا عليّ بن محمد بن عمير قال: إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا هشام بن عبيد الله قال: حدّثنا عبيد [الله هشام] بن حاتم عن عمرو بن [درّ] عن إبراهيم قال: إذا قيل لأحدكم أمؤمن أنت حقّا، فليقل: إنّي مؤمن حقّا فإن كان صادقا فإنّ الله لا يعذّب على الصدق ولكن يثيب عليه. فإن كان كاذبا فما فيه من الكفر أشد عليه من قوله له: إنّي مؤمن حقّا. وقال ابن أبي نجيح: سأل رجل الحسن فقال: أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان فإنّ كنت تسأل عن الإيمان بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ والجنّة والنار والبعث والحساب فأنا بها مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ إلى قوله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ فوالله ما أدري أمنهم أنا أم لا. وقال علقمة: كنّا في سفر فلقينا قوما فقلنا: من القوم؟ فقالوا: نحن الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، فلم ندر ما نجيبهم حتّى لقينا عبد الله بن مسعود فأخبرناه بما قالوا فقال: فما رددتم عليهم؟ قلنا: لم نرد عليهم شيئا. قال: أفلا قلتم أمن أهل الجنّة أنتم؟ إن المؤمنين من أهل الجنّة. وقال سفيان الثوري: من زعم أنّه مؤمن حقّا أمن عند الله ثمّ [وجد] أنّه في الجنّة بعد إيمانه بنصف الآية دون النصف، ووقف بعضهم على قوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وقال: تم الكلام هاهنا. ثمّ قال: حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ فجعل قوله حَقًّا تأكيدا لقوله لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وقال مجاهد: أعمال رفيعة. وقال عطاء: يعني درجات الجنّة يرقونها بأعمالهم. هشام بن عروة: يعني ما أعدّ لهم في الجنّة من لذيذ المأكل والمشارب وهني العيش. وقال ابن محيريز: لَهُمْ دَرَجاتٌ سبعون درجة كلّ درجة لحافر الفرس الجواد المغير سبعين عاما وَمَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي حسن [وعظيم وهو] الجنّة.
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ اختلفوا في الجالب لهذه الكاف التي في قوله: كَما، فإما الذي شبه «1» بإخراج الله نبيّه من بيته بِالْحَقِّ قال عكرمة: معنى ذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فإن ذلك خير لكم كما كان إخراج الله تعالى محمد من بيته بالحق خيرا لكم وإن كرهه فريق منكم. وقال مجاهد: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يا محمد مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ على كره فريق من المؤمنين كذلك يكرهون القتال ويجادلونك فيه، أي أنّهم يكرهون القتال ويجادلونك فيه كما فعلوا ببدر. وقال بعضهم: أمر الله تعالى رسوله عليه السلام أن يمضي لأمره في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون. وقيل: معناه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا: أخرجت العير ولم تعلمنا قتالا [فنسخطه] . وقيل: معناه أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ. وقال بعضهم: الكاف بمعنى (على) تقديره: أمض على الذي أخرجك ربّك. قال ابن حيّان: عن الكلبي وقال أبو عبيدة: هي بمعنى القسم مجازها: الذي أخرجك من بيتك بالحق. وقيل: الكاف بمعنى (إذ) تقديره: وإذا أخرجك ربّك من بيتك بالمدينة إلى بدر بالحق «2» . وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ لطلب المشركين يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ أي في القتال وذلك أن المؤمنين لمّا أيقنوا [الشوكة] والحرب يوم بدر وعرفوا أنّه القتال كرهوا ذلك وقالوا: يا رسول الله إنّه لم تعلمنا إنّا نلقي العدو فنستعد لقتالهم وإنّما خرجنا للعير فذلك جدالهم من بعد ما تبين لهم إنّك لا تصنع إلّا ما أمر الله به.
وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يجادلونه في الحق كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ [يعني] من يدعون للإسلام لكراهتهم إيّاه. وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ الآية. قال ابن عباس وابن الزبير وابن يسار والسدي: أغار كرز بن جابر القرشي على سرح المدينة حتّى بلغ الصفراء فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فركب في أثره فسبقه كرز فرجع النبيّ صلى الله عليه وسلم فأقام سنة وكان أبو سفيان أقبل من الشام في عير لقريش فيها عمرو بن العاص وعمرو بن هشام ومخرمة بن نوفل الزهري في أربعين راكبا من كبار قريش وفيها تجارة عظيمة. وهي اللطيمة. حتّى إذا كان قريبا من بدر بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلّة الجنود فقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ الله عزّ وجلّ ينفلكموها» [216] فخرجوا لا يريدون إلّا أبا سفيان والركب لا يرونها إلّا غنيمة لهم وخفّ بعضهم وثقل بعض. وذلك أنّهم كانوا لم يظنّوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقي حربا فلمّا سمع أبو سفيان بمسير النبيّ صلى الله عليه وسلم استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكّة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم وأصحابه. فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة وخرج الشيطان معه في صورة سراقة بن خثعم فأتى مكّة فقال: إنّ محمدا وأصحابه قد عرضوا لعيركم ف لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ، فغضب أهل مكّة وانتدبوا وتنادوا لا يتخلف عنا أحد إلّا هدمنا داره واستبحناه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتّى بلغ واديا يقال له: وفران، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم، فخرج رسول الله عليه السلام حتّى إذا كانوا بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بهم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى ابن الأريقط فأتاه بخبر القوم، وسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبرئيل فقال: إن الله وعدكم إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمّا العير وإمّا قريش، وكان العير أحب إليهم فاستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير فقام أبو بكر فقال وأحسن وقام عمر وقال وأحسن، ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله ونحن معك والله ما نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» ، ولكن اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إنّا معكم مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتّى نبلغه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ أيّها الناس» [217] . وإنّما يريد الأنصار، وذلك أنّهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنّا براء من ذمامك
حتّى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلى دارنا فأنت في ذمامنا فنمنعك ممّا نمنع عنه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن تكون الأنصار لا ترى عليها نصرته إلّا على من داهمه بالمدينة من عدّوه فإن ليس عليهم أن يسيّرهم إلى عدوّهم من بلادهم، فلمّا قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له سعد بن معاذ: والله كأنّك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أجل» . قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله ما أردت فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضت لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن يلقانا بنا عدوّنا غدا إنّا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء لعل الله عزّ وجلّ يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله، ففرح بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ونشّطه قول سعد ثمّ قال: سيروا على بركة الله وابشروا فإنّ الله قد وعدكم إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم «1» وذلك قوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ أي الفريقين أحدهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير وَتَوَدُّونَ تريدون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ يعني العير التي ليس فيها قتال والشوكة الشدة والقوة وأصلها من الشوك وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يحققه ويعلنه بِكَلِماتِهِ بأمره إيّاكم بقتال الكفّار وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ فيستأصلهم لِيُحِقَّ الْحَقَّ الإسلام وَيُبْطِلَ الْباطِلَ الكفر. وقيل: الحق القرآن والباطل الشيطان وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي المشركون. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي تستجيرون به من عدوّكم وتسألونه النصر عليهم، قال عمر ابن الخطاب. رضي الله عنه: لمّا كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كثرة المشركين وقلّة المسلمين دخل العرش هو وأبو بكر واستقبل القبلة وجعل يدعو ويقول: اللهمّ أنجز لي ما وعدتني اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤه وأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبيه ثمّ التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفا مناشدتك ربّك فإن الله سينجز لك ما وعدك فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي أي بأنّي. وقرأ عيسى: إِنِّي بكسر الألف وقال إنّي مُمِدُّكُمْ وزائدكم ومرسل إليكم مددا بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ قرأ أهل المدينة: مُرْدَفِينَ بفتح الدال والباقون بكسره، لغتان متتابعين بعضهم في أثر بعض يقال: اردفه وردفته بمعنى تبعته قال الشاعر: إذا الجوزاء أردفت الثريّا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا «2»
أراد ردفت جاءت بعدها، لأن الجوزاء تطلع بعد الثريا ومن فتح فعلى المفعول، أي أردف الله المسلمين وجاءهم به فأمدّهم الله بالملائكة ونزل جبرئيل في خمسمائة ملك مجنبة على الميمنة فيها أبو بكر- رضي الله عنه- ونزل ميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها عليّ- كرّم الله وجهه- وهم في صورة الرجال عليهم ثياب بيض، وعمائم بيض أرخوا ما بين أكتافهم، فقاتلت الملائكة يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ولا يوم حنين ولا تقاتل أبدا إنّما يكونون حددا أو مددا. وقال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خرّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقت ذلك من مدد السماء» فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين [218] . قال مجاهد: ما مدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما ذكر الله تعالى غير الألف من الملائكة مُرْدِفِينَ التي ذكر الله في الأنفال وأمّا الثلاثة والخمسة فكانت بشرى وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يعني الإمداد. الفراء: يعني الأرداف. إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً قرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمرو: يَغْشيكم بفتح الياء النعاسُ رفع على أن الفعل له واحتجّوا بقوله في سورة آل عمران أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ «1» فجعل الفعل له. وقرأ أهل المدينة يُغْشِيكُمُ بضم الياء مخففة على أن الفعل الله عزّ وجلّ ليكون موافقا لقوله (وَيُنَزِّلُ ولِيُطَهِّرَكُمْ) واحتجّوا بقوله تعالى كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ «2» . وقرأ عروة بن الزبير والحسن وأبو رجاء وعكرمة والجحدري وعيسى وأهل الكوفة: يُغَشِّيكُمُ بضمّ الياء مشدّدا. فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم: لقوله فَغَشَّاها ما غَشَّى «3» والنعاس النوم تخفيف. وقال أبو عبيدة: هو ابتداء القوم: أَمَنَةً بفتح الميم قراءة العامّة، وقرأ أبو حياة وابن محيصن: أَمْنَةً بسكون الميم وهو مصدر قولك: أمنت من كذا أمنا وأمنة وأمانة وكلّها بمعنى واحد فلذلك نصب. قال عبد الله بن مسعود: النعاس في القتال أمنة من الله عزّ وجلّ وفي الصلاة من الشيطان
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً وذلك أن المسلمين نزلوا كثيبا أخضر ببدر يسوخ فيه الأقدم وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء بدر العظمى وغلبوهم عليه وأصبح المسلمون بعضهم محدّثين وبعضهم مجنبين وأصابهم الظمأ ووسوس لهم الشيطان فقال تزعمون أن فيكم نبي الله وأنّكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلّون مجنبين ومحدثين فكيف ترجون أن يظفركم عليهم. قال: فأرسل الله عزّ وجلّ مطرا سال منه الوادي فشرب منه المؤمنون واغتسلوا وتوضّأوا وسقوا الركاب وملؤوا الأسقية وأطفى الغبار ولبّد الأرض حتّى ثبّت عليه الأقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت أنفسهم فذلك قوله وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الأحداث والجنابة. وقرأ سعيد بن المسيب: لِيُطْهِرَكُمْ بطاء ساكنة من أطهره الله وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسة الشيطان. وقرأ ابن محيصن: رجزُ بضم الراء. وقرأ أبو العالية: رجس بالسين والعرب تعاقب بين السين والزاء فيقول بزق وبسق. والسراط والزراط والأسد والأزد وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ اليقين والصبر وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ حتّى لا يسرح في الرمل بتلبيد الأرض. وقيل: بالصبر وقوّة القلب إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ للذين أمدّ بهم المؤمنين أَنِّي مَعَكُمْ بالعون والنصر فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي نوّروا قلوبهم وصحّحوا عزائمهم وثباتهم في الجهاد، فقيل: إنّ ذلك المثبت بحضورهم الحرب معهم. وقيل: معونتهم إياهم في قتال عدوهم، وقال أبو روق: هو أن الملك كان يشبّه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتي الرجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقول: إنّي قد دنوت من المشركين فسمعتهم يقولون والله لئن حملوا علينا [لنكشفنّ] . فتحدّث بذلك المسلمون بعضهم بعضا فيقوّي أنفسهم ويزدادون جرأة، قال ابن إسحاق والمبرد: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي ووازروهم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ثمّ علّمهم كيف الضرب والقتل فقال فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قال بعضهم: هذا الأمر متّصل بقوله: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا. وقال آخرون: هو أمر من الله عزّ وجلّ للمؤمنين واختلفوا في قوله فَوْقَ الْأَعْناقِ فقال عطيّة والضحاك: معناه: فاضربوا الأعناق لقوله فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ «1» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم أبعث لأعذب بعذاب الله وإنّما بعثت لضرب الرقاب وشدّ الوثاق» [219] . وقال بعضهم: معناه: فاضربوا على الأعناق، (فَوْقَ) بمعنى على. وقال عكرمة: معناه فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق. وقال ابن عباس: معناه واضربوا فوق الأعناق أي على الأعناق، نظيره قوله فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ «1» أي اثنتين فما فوقهما. وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ قال عطيّة: يعني كل مفصل. وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك: يعني الأطراف والبنان جمع بنانه، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين واشتقاقه من أبن بالمقام إذا قام به «2» . قال الشاعر: ألا ليتني قطعت منه بنانه ... ولاقيته في البيت يقظان حاذرا «3» وقال يمان بن رئاب: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ يعني الصناديد وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ يعني السفلة، والصحيح: القول الأوّل. قال أبو داود المازني وكان شهد بدرا: اتّبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يديّ قبل أن يصل سيفي فعرفت أنّه قتله غيري. وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيت يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وقال ابن عباس: حدثني رجل عن بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتّى صعدنا في جبل ليشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الواقعة على من يكون الدبرة فننتهب مع من ينتهب. قال: فبينما نحن في الجبل إذ دنت منّا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل. فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم «4» قال فأمّا ابن عمّي فانكشف قناع قلبه فمات أمّا أنا فكدت أهلك ثمّ تماسكت. وقال عكرمة: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره أن يخالفهم وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلّف
عن بدر فقد بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك صنعوا لم يتخلّف رجل إلّا بعث مكانه رجلا فلمّا جاء الخبر عمّا أصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوّة وحزما فكان رجلا ضعيفا قال: وكنت أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم فوالله إنّي لجالس فيها أنحت الأقداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاء من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتّى جلس على طنب الحجرة وكان ظهره إلى ظهري فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس، قال: لا شيء والله كأن الآن لقينا فمنحناهم أكتافا يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وأيم الله مع تلك ما لمّت الناس: لقينا رجالا بيضا على خيل [معلّق] بين السماء والأرض [ما تليق] شيئا ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع: فرفعت طرف الحجرة بيدي ثمّ قلت: تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فناورته فاحملني فضرب بي الأرض، ثمّ برك عليّ فضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل الى عمود من عمد البيت فأخذته فضربته ضربة فلقت رأسه شجة منكرة وقالت: تستضعفه أن غاب عنه سيّده، فقام مولّيا ذليلا فوالله ما عاش إلّا سبع ليال حتّى رماه الله بالعدسة «1» فقتله. ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفناه حتّى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة كما تتّقي الناس الطاعون حتّى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان أنّ أباكما قد أنتن في بيته لا تغسّلانه فقالا: إنّا نخشى هذه القرحة، قال: فانطلقا فإنّا معكما فما غسلوه إلّا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسّونه ثمّ حملوه فدفنوه بأعلى مكّة إلى جدار وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه «2» . وروي مقسّم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة وكان أبو اليسر رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر: يا أبا اليسر كيف أسرت العباس؟ فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملك كريم «3» . ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ خالفوا الله رَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 إلى 21]
أي هذا العقاب الذي أعجلته لكم أيّها الكفّار فَذُوقُوهُ عاجلا وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ في المعاد عَذابَ النَّارِ وفي فتح (أن) وجهان من الإعراب أحدهما الرفع والأخر النصب: فأمّا الرفع فعلى تقدير ذلكم تقديره: ذلكم فذوقوه، وذلك أن للكافرين عذاب النار. وأمّا النصب فعلى وجهين: أحدهما: بمعنى فعل مضمر: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وأعلموا وأيقنوا أَنَّ لِلْكافِرِينَ. والآخر بمعنى: وما للكافرين فلما حذف الياء نصب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أي [مخفقين] متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني والتقارب. قال الأعشى: لمن الضغائن سيرهن زحيف ... عرم السفين إذا تقاذف مقذف والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم: قوم عدل ورضى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ يقول: فلا تولّوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ولكن اثبتوا لهم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ظهره وقرأ الحسن ساكنة إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي متعطّفا مستطردا لقتال عدوّه بطلب عورة له تمكنه إصابتها فيكرّ عليه «1» . أَوْ مُتَحَيِّزاً منضمّا صابرا إِلى فِئَةٍ جماعة من المؤمنين يفيئون به بسهم الى القتال فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ واختلف العلماء في حكم قوله وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية هل هو خاص في أهل بدر أم هو في المؤمنين جميعا. فقال أبو سعيد الخدري: إنّما كان ذلك يوم بدر خاصة لم يكن لهم أن ينحازوا ولو
انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ في الأرض مسلم غيرهم ولا للمسلمين فيه غير النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمّا بعد ذلك فإنّ المسلمين بعضهم فئة لبعض ممثّلة، قاله الحسن والضحاك وقتادة. قال يزيد ابن أبي حبيب: أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النار. فقال مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية. فلمّا كان يوم أحد بعد ذلك قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ «1» ثمّ كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين. فقال: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ... ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ «2» . وقال عطاء بن أبي رباح: هذه الآية منسوخة بقوله الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ «3» الآية فليس لقوم أن يفروا من مثليهم فنسخت تلك الآية إلّا هذه العدّة. وقال الكلبي: من قبل اليوم مقبلا أو مدبرا فهو شهيد ولكن سبق المقبل المدبر الى الجنة. وروي جرير عن منصور عن إبراهيم قال: انهزم رجل من القادسية فأتى المدينة الى عمر. فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف، فقال عمر- رضي الله عنه- أنا فئتك «4» . وقال محمد بن سيرين: لمّا قتل أبو عبيد جاء الخبر إلى عمر- رضي الله عنه- فقال لو أنحاز إليّ فكنت له فئة [فأنا فئة] كل مسلم «5» . عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر قال: كنّا في مصيل بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاض الناس خيضة فانهزمنا وكنّا نفر، قلنا نهرب في الأرض حياء ممّا صنعنا فدخلنا البيوت. ثمّ قلنا: يا رسول الله نحن الفارون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أنتم الكرارون وإنّا فئة المسلمين» [220] «6» . وقال بعضهم: بل حكمنا عام في كل من ولى عن العدو وفيهم من روى ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أهله: « [إياك والفرار] من الزحف فإن هلكوا فاثبتوا فما [ ... ] » إلّا على ارتكاب الكبائر وإلّا الشرك بالله والفرار من الزحف لأن الله تعالى يقول وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ.» الآية. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ الآية فقال أهل التفسير والمغازي لمّا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بدرا قال: «هذه مصارع القوم إن شاء الله» ، فلمّا طلعوا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك، اللهمّ إنّي أسألك ما وعدتني فأتاه جبرئيل وقال: خذ حفنة من تراب فارمهم بها» [221] . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا التقى الجمعان لعلّي رضي الله عنه: «أعطني قبضة من حصا الوادي» فناوله من حصى عليه تراب فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم به في وجوه القوم وقال: «شاهت الوجوه» . فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه وفمه ومنخريه منها شيء ثمّ ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وكانت تلك الرمية سبب الهزيمة «1» . وقال حكيم بن حزام: لمّا كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنّه صوت حصاة وقعت في طست ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا. وقال قتادة وابن زيد: ذكر له أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى حصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم. وقال: «شاهت الوجوه» فانهزموا [222] «2» . الزهري عن سعيد بن المسيب قال: نزلت هذه الآية في قتل أبي بن كعب الجمحي. وذلك أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل وهو يفتّه فقال: يا محمد الله يحيي هذا وهو رميم؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يحيه الله ثمّ يميتك ثمّ يدخلك النار فلمّا كان يوم بدر أسره ثمّ فدي، فلمّا افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي فرسا أعلفها كل يوم [فرق] ذرة لكي أقتلك عليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلمّا كان يوم أحد أقبل أبيّ بن خلف يركض بفرسه ذلك حتّى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استاخروا» [223] ، فاستأخروا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحربة في يده فرمى بها أبي بن خلف فكسرت الحربة ضلعا من أضلاعه فرجع أبي إلى أصحابه ثقيلا فاحتملوه وطفقوا يقولون: لا بأس، فقال أبي: والله لو كانت الناس لقتلهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعونه حتّى مات ببعض الطريق فدفنوه ففي ذلك أنزل الله هذه الآية وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى الآية «3» . وروى صفوان بن عمرو عن عبد العزيز بن [جبير] أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر دعا بقوس
فأتي بقوس طويلة فقال: جيئوني بغيرها، فجاءوا بقوس كبداء فرمى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتّى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه فأنزل الله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ فهذا سبب نزول الآية «1» . فأمّا معناها فإن الله تعالى أضاف القتل والرمي إلى نفسه لأنّه كان منه تعالى التسبيب والتسديد ومن رسوله والمؤمنين الضرب والحذف. وكذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة من الله تعالى الإنشاء والإيجاد بالقدرة القديمة التامّة ومن الخلق الاكتساب بالقوى المحدثة، وفي هذا القول دليل على ثبوت مذهب أهل الحق وبطلان قول القدريّة. وقيل: إنّما أضافها إلى نفسه لئلّا يعجب القوم. قال مجاهد: قال هذا: قتلت، وقال هذا: قتلت، فأنزل الله هذه الآية. وقال الحسن: أراد فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم وأنتم جرحتموهم لأن إخراج الروح إليه لا إلى غيره. قال وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي [قتل] يبلغ إلى المشركين بها وملأ عيونهم منها. وقال ابن إسحاق: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي لم يكن ذلك رميتك لولا الذي جعل الله فيها من نصرك وما ألقى في صدور عدوك منها حتّى هزمهم. وقال أبو عبيده: تقول العرب: رمى الله لك، أي نصرك. قال الأعمش: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي وفّقك وسدّد رميتك «2» . وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ولينعم على المؤمنين نعمه عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والثواب. وقال ابن إسحاق: ليعرف المؤمنين نعمة نصرهم وإظهارهم على عدوهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا نعمه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بأفعالهم سميع بأسرارهم عليم بإضمارهم ذلِكُمْ يعني: ذكرت من القتل والرمي والأجل الحسن وَأَنَّ اللَّهَ
أي: وأعلموا أن الله، وفي فتح (أن) من الوجوه ما في قوله تعالى ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [وقد بيناه هناك] «1» . مُوهِنُ مضعف كَيْدِ الْكافِرِينَ قرأ الحجازي والشامي والبصري: مُوَهِّنٌ بالتشديد والتنوين (كَيْدَ) نصبا وقرأ أكثر أهل الكوفة (مُوهِنٌ) بالتخفيف والتنوين (كَيْدَ) نصبا واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن محيصن و [الأعمش] وحفص: مُوهِنُ كَيْدِ، مخفّفة مضافة بالجر فمن نوّن معناه: وهن، ومن خفّف وأضاف قصر الخفّة كقوله مُرْسِلُوا النَّاقَةِ «2» وكاشِفُوا الْعَذابِ «3» ووهن وأوهن لغتان صحيحتان فصيحتان إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وذلك أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللهمّ أينا كان أفجر وأقطع للرحم وآتانا بما لا نعرف فانصرنا عليه، فاستجاب الله دعاءه وجاء بالفتح وضربه ابنا عفراء: عوف ومسعود، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود «4» . وقال السدي والكلبي: كان المشركون حين خرجوا الى النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكّة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ انصرنا على الحزبين وأهدى القبتين وأكرم الجندين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية. وقال عكرمة: قال المشركون اللهمّ لا نعرف ما جاء به محمد فأفتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. وقال أبي بن كعب وعطاء الخراساني: هذا خطاب أصحاب رسول الله قال الله للمسلمين: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي تستنصروا الله وتسألوه الفتح فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي بالنصرة. وقال خبّاب بن الأرت: شكونا الى رسول الله عليه السلام فقلنا: لا تستنصر لنا، فاحمر وجهه وقال: «كان الرجل قبلكم يؤخذ ويحفر له في الأرض، ثمّ يجاء بالمنشار فيقطع بنصفين ما يصرفه عن دينه شيء، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه عن دينه، وليتمنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت ولا يخشى إلّا الله عزّ وجلّ والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون» [224] «5» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 22 إلى 26]
ثمّ قال للكفّار وَإِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر بالله وقتال نبيّه صلى الله عليه وسلم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا لقتاله وحربه نَعُدْ بمثل الواقعة التي أوقعت لكم يوم بدر «1» . وقيل: وَإِنْ تَعُودُوا إلى هذا القول وقتال محمد صلى الله عليه وسلم وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [قرأ] أهل المدينة والشام: وَأَنَّ اللَّهَ بفتح الألف، والمعنى: ولأن الله، وقيل: هو عطف على قوله وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ. وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف، واختلفوا فيه وقراءة أبي حاتم (لأن) في قراءة عبد الله: والله مع المؤمنين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ ولا تدبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أمره وليّه. قال ابن عباس: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن ومواعظه وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا يعني المنافقين والمشركين الذين سمعوا كتاب الله بآذانهم فقالوا سمعنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يعني لا يتّعظون بالقرآن ولا ينتفعون بسماعهم وكأنهم لم يسمعوا الحقيقة. إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ يعني أن شرّ [الدواب] على وجه الأرض من خلق الله عِنْدَ اللَّهِ فقال الأخفش: كل محتاج إلى غذا فهو دابة. الصُّمُّ الْبُكْمُ عن الحق كأنّهم لا يسمعون ولا ينطقون. قال ابن زيد: هم صم القلوب وبكمها وعميها. وقرأ فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «2» . وقال ابن عباس وعكرمة: هم بنو عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صمّ بكم عمّي عن
مخاطبة محمد لا نسمعه ولا نجيبه، [فكانوا] جميعا [بأحد] ، وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منهم إلّا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أمر الله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً صدقا وإسلاما لَأَسْمَعَهُمْ لرزقهم الفهم والعلم بالقرآن وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا عن القرآن وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن الإيمان بالقرآن لعلم الله فيهم وحكمه عليهم بالكفر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ اختلفوا في قوله (لِما يُحْيِيكُمْ) : فقال السدي: هو الإيمان يحييهم بعد موتهم أي كفرهم. وقال مجاهد: للحق. وقال قتادة هو هذا القرآن فيه الحياة والفقه والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال ابن إسحاق: لِما يُحْيِيكُمْ يعني الحرب والجهاد التي أعزكم الله بها بعد الذل. وقوّاكم بها بعد الضعف ومنعكم بها عن عدوكم بعد القهر منهم لكم. وقال [القتيبي] : لِما يُحْيِيكُمْ: لما يتقيكم، يعني الشهادة. وقرأ قوله بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» فاللام في قوله (لِما) بمعنى إلى ومعنى الاستجابة في هذه الآية الطاعة يدلّ عليه ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو قائم يصلّي فصاح له فقال: «تعال إلي» ، فعجل أبي في صلاته ثمّ جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما منعك يا أبي أن تجيبني إذا دعوتك؟ أليس الله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» . قال: لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلّا أجبتك وإن كنت مصليا. قال: «تحب أن أعلّمك سورة لم تنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها» ؟ قال أبي: نعم يا رسول الله. قال: «لا تخرج من باب المسجد حتّى تعلمها» والنبيّ صلى الله عليه وسلم يمشي يريد أن يخرج من المسجد فلما بلغ الباب ليخرج قال له أبي: يا رسول الله، فوقف فقال: «نعم كيف تقرأ في صلاتك» فقرأ أبي أمّ القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن «2» [مثلها] وإنّها لهي السبع المثاني التي أتاني الله عزّ وجلّ [225] «3» . وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ قال سعيد بن جبير: معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر.
ابن عباس: بين الكافر وبين طاعته ويحول بين المؤمن وبين معصيته. وقال مجاهد: يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فلا يعقل ولا يدري ما يفعل، وروى خصيف عنه قال: يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيرا. وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلّا بإذنه. وقال قتادة: معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. وهي كقوله عزّ وجلّ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «1» . وقيل: هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدورهم فقيل [فيهم] قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «2» وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وبين ما في قلبه فيبدّل الخوف أمنا والجبن جرأة «3» . وقيل: يحول بينه وبين مراده، لأن الأجل حال دون الأمل. والتقدير منع من التدبير. وقرأ الحسن: بين المرّء، وبتشديد الراء من غير همزة. وقرأ الزهري: بضم الميم والهمزة وهي لغات صحيحة. وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ويجزيكم بأعمالكم. قال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، قلنا: يا رسول الله أمنّا بك فهل تخاف علينا؟ قال: «إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف شاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه» [226] «4» . والإصبع في اللغة الأثر الحسن، فمعنى قوله: بين إصبعين: بين أثرين من أثار الربوبية وفيها الإزاغة والإقامة. قال الشاعر: صلاة وتسبيح والخطأ نائل ... وذو رحم تناله منك إصبع أي أثر حسن. وقال آخر:
من يجعل الله عليه إصبعا ... في الشر أو في الخير يلقه معا فالإصبع أيضا في اللغة الإصبع. فمعنى الحديث بين مملكتين من ممالكه، وبين الإزاغة والإقامة والتوفيق والخذلان. قال الشاعر: حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع «1» وَاتَّقُوا فِتْنَةً أي اختبار وبلاء يصيبكم. وقال ابن زيد: الفتنة الضلالة لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً واختلفوا في وجه قوله لا تُصِيبَنَّ من الاعراب. فقال أهل البصرة: قوله (لا تُصِيبَنَّ) ليس بجواب ولكنّه نهي بعد أمره، ولو كان جوابا ما دخلت النون. وقال أهل الكوفة: أمرهم ثمّ نهاهم وفيه تأويل الجزاء فإن كان نهيا كقوله: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ «2» . أمرهم ثمّ نهاهم، وفيه تأويل الجزاء وتقديره: واتقوا الله إن لم تنتهوا أصابتكم. وقال الكسائي: وقعت النون في الجر بمكان التحذير، فلو قلت: قم لا أغضب عليك لم يكن فيه النون لأنّه جزاء محض. وقال الفراء: هو جزاء فيه طرف من النهي كما تقول: أنزل عن الدابة لا يطرحك. ولا يطرحنك فهذا [جزاء من] الأمر بلفظ النهي. ومعناه: إن تنزل عنه لا يطرحنّك. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب. وقال الحسن: نزلت في عليّ وعمار وطلحة والزبير قال الزبير بن العوّام: يوم الجمل لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها. وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. فحلفنا حتّى أصابتنا خاصّة. قال السدي: هذه الآية نزلت في أهل بدر خاصّة فأصابتهم يوم الجمل فأقبلوا. وقال عبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلّا هو مشتمل على الفتنة إنّ الله يقول:
أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ «1» فأيّكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلّات الفتن. حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون من ناس من أصحابي إساءة يغفرها الله لهم بصحبتهم إياي يستنّ بهم فيها ناس يعذبهم فيدخلهم الله بها النار» [227] «2» . يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتّى تأتي فتنة [عمياء مظلمة] المضطجع فيها خير من الجالس والجالس فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي» «3» . فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن أدركتني [وأنا مضطجع] قال: «فامش» . قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا أمشي. قال «ارقد» قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا راقد فأجلس. قال: أفرأيت إن أدركتني وأنا جالس. قال: «فقل هكذا بيدك، وضم يديه الى جسده، حتّى تكون عند الله المظلوم ولا تكون عند الله الظالم» [228] . عن زيد بن أبي زياد عن زيد بن الأصم عن حذيفة قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها كل شجاع بطل وكل راكب موضع وكل خطيب مشفع وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أرض مكّة في عنفوان الإسلام تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ يذهب بكم النَّاسُ كفّار مكّة، وقال وهب: فارس والروم فَآواكُمْ إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ يوم بدر أيديكم بالانتصار وأمدّكم بالملائكة وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني الغنائم أجالها لكم ولم يجلها لأحد قبلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. قال قتادة: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلّا وأشقاهم عيشا وأجوعهم بطنا وأغراهم جلودا وآمنهم ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم ردى في النار معكوبين على رأس الحجرين الأشدين فارس والروم. يؤكلون ولا يأكلون وما في بلادهم شيء عليه يحسدون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا شر منزلا منهم حتّى جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام فمكن في البلاد ووسع به في الرزق وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 إلى 31]
وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يجب الشكر له [وأجمل] الشكر في مزيد من الله تعالى. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ قال عطاء ابن أبي رباح: حدّثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكّة فأتى جبرئيل (عليه السلام) النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إنّ أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» [229] قال: فكتب رجلا من المنافقين إليه أن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله تعالى الآية «1» . وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من النبيّ صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتّى بلغ المشركين. وقال الزهري والكلبي: نزلت هذه الآية في أبي لبابة واسم أبي لبابة هارون بن عبد المنذر الأنصاري من بني عوف بن مالك وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم بني النظير على أن يسيروا الى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم، لأن عياله وماله وولده كانت عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ فأشار أبو لبابة بيده إلى طقه أنّه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أن قد خنت الله والرسول فلمّا نزلت هذه الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتّى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتّى خرّ مغميّا عليه ثمّ تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تبت عليك. قال: لا والله لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلّني فجاءه فحله بيده، ثمّ قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب. وأن أنخلع من
مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجزيك الثلث إن تصدقت» [230] «1» . فقال المغيرة بن شعبة: نزلت هذه الآية في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه «2» . قال محمد بن إسحاق: معنى الآية لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ثمّ تخالفونه في السر إلى غيره. وقال ابن عباس: لا تَخُونُوا اللَّهَ بترك فرائضه، وَالرَّسُولَ بترك سنته، وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ. قال السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم. وعلى هذا التأويل يكون قوله (وَتَخُونُوا) نصبا على جواب النهي. والعرب تنصب جواب النهي وقالوا كما ينصب بالفاء. وقيل: هو نصب على الصرف كقول الشاعر: لا تنهى عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم «3» وقال الأخفش: هو عطف على ما قبله من النهي، تقديره: ولا تخونوا أماناتكم. وقرأ مجاهد: أمانتكم واحدة. واختلفوا في هذه [الآية] فقال ابن عباس: هو ما يخفي عن أعين الناس من فرائض الله عزّ وجلّ والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد يقول لا تنقضوها. وقال ابن زيد: معنى الأمانات هاهنا الدين وهؤلاء المنافقون ائتمنهم الله على دينه فخانوا، إذ أظهروا الإيمان وأسرّوا الكفر. قال قتادة: إنّ دين الله أمانة فأدّوا الى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده. ومن كانت عليه أمانة فليردّها إلى من أئتمنه عليها. وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ التي عند بني قريظةتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ بطاعته وترك معصيته واجتناب خيانته يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً قال مجاهد: مخرجا في الدنيا والآخرة. وقال مقاتل بن حيان: مخرجا في الدين من الشبهات. وقال عكرمة: نجاة. وقال الضحاك: بيانا. وقال مقاتل: منقذا.
قال الكلبي: بصرا، وقال ابن إسحاق: فصلا بين الحق والباطل، يظهر الله به حقكم ويطفئ به باطل من خالفكم. وقال ابن زيد: فرقا يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل حتّى يعرفوه ويشهدوا به. والفرقان مصدر كالرحمان والنقصان. تقول: فرقت بين الشيء والشيء أفرق بينهما فرقا وفروقا وفرقانا، وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ ما سلف من ذنوبكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ «1» . وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ «2» لأن هذه السورة مدينة. وهذا القول والمكر كان بمكة، ولكن الله تعالى ذكرهم ذلك بالمدينة كقوله إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ «3» وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من المفسّرين أن قريشا لمّا أسلمت الأنصار فرقوا أن تتفاقم أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاجتمع نفر من مشايخهم وكبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت رؤسائهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبا جهل وأبا سفيان وطعمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البحتري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج وأميّة بن خلف فاعترض لهم إبليس في صورة شيخ فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا من رأي ونصح، قالوا: ادخل فدخل. فقال أبو البحتري: أمّا أنا فأرى أن تأخذوه وتحبسوه في بيته وتشدوا وثاقه وتسدوا باب البيت فتتركوه وتقدموا إليه طعامه وشرابه وتتربصوا به ريب المنون حتّى يهلك فيه كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة، وإنّما هو كأحدهم. فصرخ. إبليس. الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي رأيتم تعمدون إلى الرجل وتحبسونه فيتم أجره، وقد سمع به من حولكم، [فأوشكوا أن يشبّوا فينتزعوه من أيديكم] «4» ويقاتلونكم عنه حتّى يأخذوه منكم. قالوا: صدق الشيخ. فقال هشام بن عمرو وهو من بني عامر بن لؤي: أمّا أنا فأرى أن تحملوه على بعير فيخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم [ما ضر من] وقع إذا غاب عنكم
واسترحم وكان أمره في غيركم. فقال إبليس بئس الرأي رأيكم تعمدون الى رجل قد أفسد سفهاءكم فتخرجوا به الى غيركم يفسدهم كما أفسدكم، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقه لسانه وأخذ القلوب ما يسمع من حديثه. والله لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب لتجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم فيخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله الشيخ. فقال أبو جهل: لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره: إني أرى أن نأخذ واحدا من كل بطن من قريش غلاما وسبطا ثمّ يعطى كل رجل منهم سيفا صارما ثمّ يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلّها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلّها وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدّي قريش ديته واسترحنا، فقال إبليس: صدق هذا الفتى و [هذا] أجودكم رأيا، القول ما قاله لا أرى غيره. فتفرقوا على قول أبي جهل، وهم مجتمعون فأتى جبرئيل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت على مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله تعالى له عند ذلك بالخروج الى المدينة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه فنام في مضجعه فقال: اتشح ببردي فإنّه لن يخلص إليك أمر تكرهه. ثمّ خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخذ قبضه من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه وجعل ينثر التراب على رؤسهم وهو يقرأ إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ومضى إلى الغار من ثور فدخله هو وأبو بكر وخلّف عليّا. رضي الله عنه. بمكّة حتّى يؤدّي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع توضع عنده لصدقة وأمانته وكان المشركون يتحرسون عليّا. رضي الله عنه. وهو على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنّه النبيّ، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليّا. رضي الله عنه. وقد ردّ الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلّا وضع على رأسه التراب. فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، وقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ «1» . قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي: ليوثقوك. وقال قتادة: ليشدوك وثاقا.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 إلى 35]
وقال عطاء. وعبد الله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن ثعلب. وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب. وأنشد: فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم ... قالوا الخليفة امسى مثبتا وجعا «1» وقيل: معناه ليسخروك. وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدري ما أضمر بك قومك؟ قال: «نعم [يريدون] أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني» فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: «ربّي» . قال: نعم الرب ربّك فاستوص ربّك خيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيرا» [231] «2» . وقرأ إبراهيم النخعي (ليبيتوك) من البيات أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ قال الحسن: فيقولون ويقول الله. وقال الضحاك: ويصنعون ويصنع الله وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ خير من استنقذك منهم وأهلكهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا يعنى النضر بن الحرث قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا وذلك أنّه كان [يختلف] تاجرا إلى فارس والحيرة فيسمع سجع أهلها وذكرهم أخبار العجم وغيرهم من الأمم، فمر باليهود والنصارى فرآهم يقرءون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكّة فوجد محمدا يقرأ القرآن ويصلّي. فقال النضر: قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أخبار الأمم الماضية وأعمارهم ، قال السدي: أساجيع أهل الحيرة. والأساطير جمع الجمع وأصلها من قوله: سطرت أي كتبت، وواحدها سطر ثمّ تجمع أسطار أو سطور ثمّ فيجمعان أساطر وأساطير. وقيل: الأساطير واحدها أسطورة وأسطار. والجمع القليل: أسطر.
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ الآية نزلت أيضا في النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة من بني عبد الدار. قال ابن عباس: لمّا قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ في كتبهم. فقال عثمان بن مظعون: اتق الله فإن محمدا يقول الحق. قال: فأنا أقول الحق. قال: فإن محمدا يقول: لا إله إلّا الله. قال: فأنا أقول لا إله إلّا الله. ولكن هذه شأن الله يعني الأصنام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1» قال النضر: ألا ترون أن محمدا قد صدقني فيما أقول يعني قوله إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ. قال له المغيرة بن الوليد: والله ما صدّقك ولكنه يقول ما كان للرحمن ولد. ففطن لذلك النضر فقال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ. إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ... (هُوَ) عمادا «2» وتوكيد وصلة في الكلام، و (الْحَقَّ) نصب بخبر كان فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ كما أمطرتها على قوم لوط. قال أبو عبيدة: ما كان من العذاب. يقال: فينا مطر ومن الرحمة مطر أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي بنفس ما عذبت به الأمم وفيه نزل: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «3» . قال عطاء: لقد نزل في النضر بضعة عشرة آية من كتاب الله فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر. قال سعيد بن جبير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «ثلاثة صبروا منكم من قريش المطعم بن عدي. وعقبة بن أبي معيط. والنضر بن الحرث» . وكان النضر أسير المقداد فلمّا أمر بقتله قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّه كان يقول في كتاب الله ما يقول» قال المقداد: أسيري يا رسول الله، قالها ثلاث مرّات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثالثة: «اللهمّ اغن المقداد من فضلك» [232] . فقال المقداد: هذا الذي أردت «4» .
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد بن إسحاق بن يسار: هذه حكاية عن المشركين، إنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى، [وقيل] : إن المشركين كانوا يقولون: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمة ونبيّها معهم، وذلك من قولهم ورسول الله بين أظهرهم، فقال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم يذكر له جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم إذ قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ وقالوا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ثمّ قال ردّا عليهم وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وإن كنت بين أظهرهم أن كانوا يستغفرون وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وقال آخرون: هذا كلام مستأنف وهو قول الله تعالى حكاية عن نفسه ثمّ اختلفوا في وجهها وتأويلها: فقال ابن أبزي وأبو مالك والضحاك: تأويلها: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ مقيم بين أظهرهم. قالوا: فأنزلت هذه الآية على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكّة ثمّ خرج النبيّ من بين أظهرهم. وبقيت منها بقية من المسلمين يستغفرون. فأنزل الله بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. ثمّ خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم فعذبوا وأذن الله بفتح مكّة، فهو العذاب الذي وعدهم. ابن عباس: لم يعذب أولئك حتّى يخرج النبيّ منها والمؤمنون. قال الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ يعذبهم يوم بدر. وقال بعضهم: هذا الاستغفار راجع الى المشركين: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين ما دمت فيهم وما داموا يستغفرون. وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت ويقولون لبيك لبيك لا شريك هو لك إلّا شريك هو لك بملكه لو ما ملك، ويقولون غفرانك غفرانك. هذه رواية أبي زميل عن ابن عباس. وروى ابن معشر عن يزيد بن روحان ومحمد بن قيس قالا: قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ. الآية فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللهم. فأنزل الله عزّ وجلّ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وقال أبو موسى الأشعري: إنّه كان فيكم أمانا لقوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
وأمّا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد مضى وأمّا الاستغفار فهو كائن إلى يوم القيامة. وقال قتادة [وابن عباس] وابن يزيد معنى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ: أن لو استغفروا، يقول إن القوم لو كانوا يستغفرون لما عذبوا ولكنهم لم يكونوا استغفروا ولو استغفروا فأقروا بالذنوب لكانوا مؤمنين. وقال مجاهد وعكرمة: (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي يسلمون، يقول: لو أسلموا لمّا عذّبوا. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي وفيهم من سبق له من الله الدخول في الإيمان. وروى عن ابن عباس ومجاهد والضحاك: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي يصلّون. وقال الحسن: هذه الآية منسوخة بالآية التي تلتها: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ إلى قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فقاتلوا بمكّة فأصابوا فيها الجوع والخير. وروى عبد الوهاب عن مجاهد (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي في [أصلابهم] من يستغفره. قال وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي: ما يمنعهم من أن يعذّبوا. قيل: [إنّ (أن) هنا زائدة] «1» . وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ المؤمنون من حيث كانوا ومن كانوا، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً والمكاء الصفير. يقال مكاء تمكّوا مكا ومكوا. وقال عنترة: وحليل غانية تركت مجدّلا ... تمكوا فريصته كشدق الأعلم «2» ومنه قيل: مكت اسم الدابة مكأ إذا نفخت بالريح. (وَتَصْدِيَةً) يعني التصفيق. قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فجمع كفيه ثمّ نفخ فيها صفيرا. وقال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون. و [قال] مجاهد: كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به فيدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، يخلطون عليه صلاته وطوافه. وقال مقاتل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلّى في المسجد قام رجلان من المشركين عن يمينه
[سورة الأنفال (8) : الآيات 36 إلى 40]
فيصفران ويصفقان ورجلان كذلك عن يساره ليخلطوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاته. وهم بنو عبد الدار فقتلهم الله ببدر. وقال السدي: المكاء الصفير على لحن طائر أبيض يكون بالحجاز يقال له: المكا. قال الشاعر: إذا غرّد المكاء في غير روضة ... قيل لأهل الشاء والحمرات «1» وقال سعيد بن جبير وابن إسحاق وابن زيد: التصدية صدهم عن بيت الله وعن دين الله، والتصدية على هذا التأويل التصديد فقلبت إحدى الدالين تاء كما يقال تظنيت من الظن. قال الشاعر: تقضي البازي إذا البازي كسر «2» يريد: تظنيت وتفضض. وقرأ الفضل عن عاصم: وما كان صلاتَهم بالنصب إلا مكاءٌ وتصديةٌ بالرفع محل الخبر في الصلاة كما قال القطامي: قفي قبل التفرق يا ضباعا ... ولا يك موقف منك الوداعا «3» وسمعت من يقول: كان المكاء أذانهم والتصفيق إقامتهم فَذُوقُوا الْعَذابَ يوم بدر بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ليصرفوا عن دين الله الناس. قال سعيد بن جبير: وابن ابزى نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من [الأحابيش] يقاتل بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم [سوى] من أشخاص من العرب. وفيهم يقول كعب بن مالك:
فجينا إلى موج البحر وسطه ... أحابيش منهم حاسر ومقنع وفينا رسول الله نتبع قوله ... إذ قال فينا القول لا ينقطع ثلاثة الألف ونحن نظنه ثلاث ... مئين أن كثرن فاربع «1» وقال الحكم بن عيينة: نزلت في أبي سفيان بن حرب حيث أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية وكانت أوقيته اثنين وأربعين مثقالا. وقال ابن إسحاق عن رجاله: لما أصيبت قريش من أصحاب القليب يوم بدر، فرجع فيلهم إلى مكّة ورجع أبو سفيان ببعيره إلى مكّة [مشى] عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أميّة في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم [بدر] فكلّموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه أملنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا، ففعلوا فأنزل الله فيهم هذه الآية «2» . وقال الضحاك: هم أهل بدر. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس وبنيه ومنبه ابنا الحجّاج البحتري بن هشام والنضر بن حارث وحكم بن حزام وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر ونوفل والعباس بن عبد المطلب كلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم عشر جزر. قال الله فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ولا يظفرون وَالَّذِينَ كَفَرُوا منهم خصّ الكفّار لأجل من أسلم منهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ بذلك الحشر الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الكافر من المؤمن فيدخل الله المؤمن الجنان والكافر النيران. وقال الكلبي: يعني العمل الخبيث من العمل الطيب الصالح فيثيب على الأعمال الصالحة الجنّة ويثيب على الأعمال الخبيثة النار. قرأ أهل الكوفة والحسن وقتادة والأعمش وعيسى: لِيَمِيزَ اللَّهُ بالتشديد. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. وقال ابن زيد: يعني الإنفاق الطيب في سبيل الله من الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان فجعل نفقاتهم في قعر جهنم ثمّ يقال لهم: الحقوا بها.
وقال مرّة الهمداني: يعني يميز المؤمن في علمه السابق الذي خلقه حين خلقه طيبا من الخبيث الكافر في علمه السابق الذي خلقه خبيثا، وذلك أنّهم كانوا على ملة الكفر فبعث الله الرسول بالكتاب لِيَمِيزَ [اللَّهُ] الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فمن [أطاع] استبان أنّه طيب ومن خالفه استبان أنّه خبيث «1» وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ بعضه فوق بعض فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً أي يجمعه حتّى يصيّره مثل السحاب الركام وهو المجتمع الكثيف فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ فوحد الخبر عنهم لتوحيد قول الله تعالى لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ ثمّ قال أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فجمع، رده إلى أول الخبر «2» ، يعني قوله: الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ... أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين غنيت صفقتهم وخسرت تجارتهم لأنّهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أبي سفيان وأصحابه إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ان ينتهوا من الشرك وقال محمد: يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من عملهم قبل الإسلام وَإِنْ يَعُودُوا لقتال محمد صلى الله عليه وسلم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ في نصر الأنبياء والأولياء وهلاك الكفّار والأعداء مثل يوم بدر. قال الأستاذ الإمام أبو إسحاق: سمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عليّ بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: إنّي لأرجو أنّ توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب. وأنشدني أبو القاسم الحبيبي بذلك أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد الزيدي: يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... ثمّ انتهى عمّا أتاه واقترف «3» لقوله سبحانه [في المعترف:] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ. ... وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي شرك، وقال أبو العالية: بلاء، وقال الربيع: حتّى لا يفتن مؤمن عن دينه وَيَكُونَ الدِّينُ التوحيد خالصا كُلُّهُ لِلَّهِ عزّ وجلّ ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد. وقال قتادة: حتّى يقال: لا إله إلّا الله، عليها قاتل نبي الله وإليها دعا. وقيل: حتّى تكون الطاعة والعبادة لله خالصة دون غيره «4» فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر والقتال فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان وعادوا إلي فقال أهله فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومعينكم نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ الناصر.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 إلى 44]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ حتّى الخيط والمخيط. واختلف العلماء في معنى الغنيمة والفيء، ففرّق قوم بينهما: قال الحسن بن صالح: سألت عطاء بن السائب عن الفيء والغنيمة فقال: إذا ظهر المسلمون على المشركين على أرضهم فأخذوه عنوة فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو غنيمة. وأمّا الأرض فهو في سواد هذا الفيء. وقال سفيان الثوري: الغنيمة ما أصاب المسلمون عنوة بقتال، والفيء ما كان من صلح بغير قتال. وقال قتادة: هما بمعنى واحد ومصرفهما واحد وهو قوله تعالى فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. اختلاف أهل التأويل في ذلك فقال بعضهم قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مفتاح الكلام. ولله الدنيا والآخرة فإنّما معنى الكلام: فإنّ للرسول خمسه وهو قول الحسن وقتادة وعطاء، فإنّهم جعلوا سهم الله وسهم الرسول واحدا، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس. قالوا: كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس فأربعة أخماس لمن قاتل عليها، وقسّم الخمس الباقي على خمسة أخماس: خمس للنبيّ صلى الله عليه وسلم كان له ويصنع فيه ما شاء وسهم لذوي القربى، وخمس اليتامى وخمس للمساكين وخمس لابن السبيل. فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس. وقال بعضهم: معنى قوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ) فإن لبيت الله خمسه. وهو قول الربيع وأبي العالية قالا: كان يجاء بالغنيمة فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم، فجعل أربعة لمن شهد القتال ويعزل أسهما [فيضرب يده] في جميع ذلك فما قبض من شيء جعله للكعبة وهو الذي سمّي لله ثمّ يقسّم ما بقي على خمسة أسهم: سهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وسهم لذي القربى، وسهم اليتامى، وسهم للمساكين، وخمس لابن السبيل، وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس.
وقال ابن عباس: سهم الله وسهم رسوله جميعا لذوي القربى وليس لله ولا لرسوله منه شيء. وكانت الغنيمة تقسّم على خمسة أخماس فأربعة منها لمن قاتل عليها وخمس واحد تقسّم على أربعة، فربع لله والرسول ولذي القربى. فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبيّ من الخمس شيئا. والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل. وأمّا قوله (وَلِذِي الْقُرْبى) فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس مكان الصدقة واختلفوا فيهم. فقال مجاهد وعليّ بن الحسين وعبد الله بن الحسن: هم بنو هاشم. وقال الشافعي: هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب خاصّة. واحتج في ذلك بما روى الزهري عن سعيد بن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم لذوي القربى من خيبر على بني هاشم والمطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك بنو هاشم لا تنكر فضلهم مكانك الذي حملك الله منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنّما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام. إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ثمّ أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى يديه بالأخرى [233] «1» . وقال بعضهم: هم قريش كلّها. كتب نجدة الى ابن عباس وسأله عن ذوي القربى فكتب إليه ابن عباس: قد كنا نقول: إنا هم، فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا: قريش كلّها ذو قربى «2» . واختلفوا في حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان ابن عباس والحسن يجعلانه في الخيل والسلاح، والعدّة في سبيل الله ومعونة الإسلام وأهله. وروى الأعمش عن إبراهيم. قال: كان أبو بكر رضي الله عنه وعمر يجعلان سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح، فقلت لإبراهيم: ما كان لعليّ رضي الله عنه قول فيه. قال: كان أشدهم فيه. قال الزهري: إنّ فاطمة والعباس أتيا أبا بكر الصديق يطلبان ميراثهم من فدك وخيبر. فقال
لهم أبو بكر- رضي الله عنه-: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة» فانصرفا «1» [234] . «2» .
وقال قتادة: كان سهم ذي القربى طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيّا. فلمّا توفي جعل لولي الأمر بعده.
وقال عليّ كرم الله وجهه: يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس لا يعطى غيره، ويلي الإمام سهم الله ورسوله. وقال بعضهم: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود بعده في الخمس. والخمس بعده مقسوم على ثلاث أسهم: على اليتامى والمساكين وابن السبيل وهو قول جماعة من أهل العراق. وقال عمرو عن عيينة: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم فلمّا فرغ أخد وبره من جسد البعير فقال: «إنّه لا يحلّ لي من هذا المغنم مثل هذا إلّا الخمس، والخمس مردود فيكم» [235] «1» . وقال آخرون: الخمس كلّه لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال المنهال ابن عمرو: سألت عبد الله بن محمد بن عليّ وعليّ بن الحسين عن الخمس فقالا: هو لنا، فقلت لعلي رضي الله عنه: إن الله تعالى يقول وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فقال: يتامانا ومساكيننا. وأمّا اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم، والمساكين أهل الفاقة والحاجة من المسلمين، وابن السبيل المسافر المنقطع. وقال ابن عباس: هو الفتى الضعيف الذي ترك المسلمين إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم فرق فيه بين الحق والباطل ببدر يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع المشركين وهو يوم بدر وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة وكان يوم الجمعة لسبع عشر مضت من شهر رمضان وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنْتُمْ يا معشر المسلمين بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا شفير الوادي الأدنى إلى المدينة وَهُمْ يعني عدوكم من المشركين بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى من الوادي الأقصى من المدينة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ إلى ساحل البحر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي والمشركين بأسفله والعير قد [انهرم] به أبو سفيان على الساحل حتّى قدم مكّة. وفي العدوة قراءتان: كسر العين وهو قراءة أهل مكّة والبصرة. وضم العين وهو قرأ الباقين واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان مشهورتان كالكسوة والكسوة. والرشوة والرّشوة. وينشد بيت الراعي: وعينان حمر مآقيهما ... كما نظر العدوة الجؤذر بكسر العين «2» .
وينشد بيت أوس بن حجر: وفارس لو تحل الخيل عدوته ... ولّوا سراعا وما همّوا بإقبال بالضم «1» . والدنيا تأنيث الأدنى، والقصوى تأنيث الأقصى. وكان المسلمون خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها فالتقوا من غير ميعاد قال الله وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لقلّتكم وكثرة عدوكم وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه لِيَهْلِكَ هذه اللام مكررة على اللام في قوله لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا ويهلك مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ أي ليموت من يموت على بينة [ولها وعبرة] عاينها وحجّة قامت عليه، وكذلك حياة من يحيى لوعده وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا. وقال محمد بن إسحاق: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه وقطعت معذرته ويؤمن من آمن على [مثواك] . وقال قتادة: ليضل من ضل عن بينة ويهتدي من اهتدى على بيّنة. وقال عطاء: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ عن علم بما دخل فيه من الفجور وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ عن علم ويقين بلا إله إلّا الله. وفي (حَيَّ) قولان، قرأ أهل المدينة: (حيي) بيائين مثل خشيي على الإيمان، وقرأ الباقون (حَيَّ) بياء واحدة مشددة على الإدغام، لأنّه في الكتاب بياء واحدة وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ يا محمد يعني المشركين فِي مَنامِكَ أي في نومك، وقيل: في موضع نومك يعني عينك قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وَلَتَنازَعْتُمْ اختلفتم فِي الْأَمْرِ وذلك أن الله تعالى أراهم إياه في منامه قليلا فأخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان تثبيتا لهم ونعمة من الله عليهم شجعهم بها على عدوهم فدلك قوله عزّ وجلّ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ قال ابن عباس: سلم الله أمرهم حين أظهرهم على عدوهم وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا قال مقاتل: ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل [لقاء] العدو فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بما رأى. فقالوا: رؤيا النبيّ حق، القوم قليل، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين وأصدق رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن مسعود: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتّى قلت لرجل إلى جنبي: [نراهم سبعين] قال أراهم مائة فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا. وَيُقَلِّلُكُمْ يا معشر المؤمنين فِي أَعْيُنِهِمْ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 45 إلى 51]
قال السدي: قال أناس من المشركين: إن العير قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل: الآن إذا [ينحدر لكم] محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتّى تستأصلوهم ولا تقتلوهم بالسلاح خذوهم أخذا كي لا يعبد الله بعد اليوم، إنّما محمد وأصحابه أكلة جزور فاربطوهم بالجبال. كقوله من القدرة على نفسه. قال الكلبي: استقلّ المؤمنون المشركين والمؤمنين، البحتري: بعضهم على بعض. لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا كائنا في علمه، نصير الإسلام وأهله ذل الشرك وأهله. وقال محمد بن إسحاق: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا بالانتقام من أعدائه والإنعام على أوليائه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً أي جماعة كافرة (فَاثْبُتُوا) لقتالهم ولا تنهزموا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي ادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم، وقال قتادة: أمر الله بذكره [أثقل] ما يكونون عند الضراب بالسيوف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تنجحون بالنصر والظفر وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا ولا تختلفوا فَتَفْشَلُوا أي تخسروا وتضعفوا. وقال الحسن: فَتَفْشِلُوا بكسر الشين وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ قال مجاهد: نصركم وذهبت ريح أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نازعوه يوم أحد «1» . وقال السدي: جماعتكم وحدتكم، وقال مقاتل: [حياتكم] ، وقال عطاء: جلدكم. وقال يمان: غلبتكم، وقال النضر بن شميل: قوتكم، وقال الأخفش: دولتكم، وقال ابن زيد: هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلّا بريح يبعثه الله في وجوه العدو، فإذا كان كذلك لم
يكن لهم قوام، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدّبور» [236] «1» . يقال للرجل إذا أقبلت الدنيا عليه بما يهواه: الريح اليوم لفلان. قال عبيد بن الأبرص: كما حميناك يوم النعف من شطب ... والفضل للقوم من ريح ومن عدد «2» وقال الشاعر: يا صاحبي ألا لا حي بالوادي ... إلا عبيد وأم بين أذواد «3» أتنتظران قليلا ريث غفلتهم ... أو تعدوان فإن الريح للعادي «4» أنشدني أبو القاسم المذكور قال: أنشدني أبا نصر بن منصور الكرجي الكاتب: إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكلّ خافقة سكون ولا يغفل عن الإحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون «5» قوله تعالى وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً فخرا وأشرا وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ معطوف على قوله: (بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) ومعناه ينظرون ويرون، إذ لا يعطف مستقبل على ماض، وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وهؤلاء أهل مكّة خرجوا يوم بدر ولهم بغي وفخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها ليحادك ورسولك» [237] «6» . قال ابن عباس: لمّا رأى أبو سفيان أنّه أحرز عيره أرسل إلى قريش أنّكم خرجتم لتمنعوا عليكم فقد نجاها الله فارجعوا فوافى الركب الذي فيه أبو سفيان ليأمروا قريشا بالرجعة إلى مكّة فقال لهم: انصرفوا، فقال أبو جهل: والله لا ننصرف حتّى نرد بدرا. وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام. فنقيم بها ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور ونعزف عليها القيان «7» وتسمع بها العرب. فلا يزالون يهابوننا أبدا فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان «8» .
ونهى الله عباده المؤمنين بأن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النيّة والخشية في نصرة دينه وموأزرة نبي صلى الله عليه وسلم. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وكانت الزينة لهم على ما قاله ابن عباس وابن إسحاق والسدي والكلبي وغيرهم: إن قريشا لمّا أجمعت المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحرب التي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فكان ذلك أن يثبتهم، فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رأيته فتبدّى في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني، وكان من أشراف كنانة «1» . قال الشاعر: يا ظالمي أنّى تروم ظلامتي ... والله من كل الحوادث خالي فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقى الجمعان ورأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء وعلم أنّه لا طاقة له بهم نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ قال الضحاك. ولّى مدبرا. قال النضر بن شميل رجع القهقري على قفاه هاربا، وقال قطرب وابان بن ثعلبة: رجع من حيث جاء. قال الشاعر: نكصتم على أعقابكم يوم جئتم ... وترجون أنفال الخميس العرمرم وقال عبد الله بن رواحة: فلمّا رأيتم رسول الله نكصتم على أعقابكم هاربينا. قال الكلبي: لما التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة بن كنانة آخذا بيد الحرث بن هشام، ف نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وقال له الحرث: يا سراقة أين؟ أتخذلنا على هذه الحالة؟ فقال له إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ فقال: والله ما نرى إلا جواسيس يثرب. فقال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ. قال الحرث: فهلّا كان هذا أمس، فدفع في صدر الحرث فانطلق وانهزم الناس، فلمّا قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال بلغني أنكم تقولون أني هزمت الناس، فو الله ما شعرت حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا أما أتيتنا في يوم كذا فحلف لهم، فلمّا تابوا علموا أن ذلك كان الشيطان. وقال الحسن في قوله: (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) فأتى إبليس جبرئيل معتجرا بردة يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده اللجام يقود الفرس ما ركب. سمعت أبا القاسم الحبيبي سمعت أبا زكريا العنبري، سمعت أبا عبد الله محمد بن
إبراهيم البوشنجي يقول أفخر بيت قيل في الإسلام قوله بغيض الأنصاري يوم بدر: وببئر بدر إذ نردّ وجوههم ... جبريل تحت لوائنا ومحمد «1» وقال قتادة وابن إسحاق. قال إبليس: إِنِّي أَرى ما- لا تَرَوْنَ وصدق الله في عدوّه، وقال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، وكذب عدوّ الله، والله ما به مخافة الله ولكن علم أنّه لا قوة له ولا منعة فأيّدهم وأسلمهم، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرّأ منهم. قال عطاء إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يهلكني فيمن هلك، وقال الكلبي: خاف أن يأخذه جبرئيل ويعرّفهم حاله فلا يطيعوه من بعد، وقال معناه: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه على ثقة من أمره. قال الأستاذ الامام أبو إسحاق، رأيت في بعض التفاسير: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ عليكم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. قال بعضهم هذا حكاية عن إبليس، وقال آخرون: انقطع الكلام عند قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ قال الله وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ. إبراهيم بن أبي عبلة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدجر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لمّا رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر» [238] ، وذلك أنه رأى جبرائيل وهو يزع الملائكة «2» . إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعني المؤمنين هؤلاء قوم بمكة مستضعفين حبسهم آباؤهم وأقرباؤهم من الهجرة، فلمّا خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرها، فلمّا نظروا إلى حلة المسلمين ارتابوا وارتدّوا وقالوا: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ فقتلوا جميعا منهم: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان والحرث بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحجاج والوليد بن عتبة وعمرو بن بن أمية، فلما قتلوا مع المشركين ضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم فذلك قوله تعالى: وَلَوْ تَرى تعاين يا محمد إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي يقبضون أرواحهم ببدر يَضْرِبُونَ حال أي ضاربين وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ قال سعيد بن جبير، ومجاهد: يريد أستاههم ولكن الله تعالى كريم [يكني] . وقال مرّة الهمذاني وابن جريج: وُجُوهَهُمْ ما أقبل عنهم، وَأَدْبارَهُمْ ما أدبر عنهم،
[سورة الأنفال (8) : الآيات 52 إلى 60]
وتقديره: يضربون أجسادهم كلها، وقال ابن عباس: كانوا إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولّوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم، وقال الحسن: قال رجل: يا رسول الله رأيت بظهراني رجل مثل الشراك، قال: ذلك ضرب الملائكة ، وقال الحسين بن الفضل: ضرب الوجه عقوبة كفرهم، وضرب الأدبار عقوبة معاصيهم. وَذُوقُوا فيه إضمار، أي ويقولون لهم ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ في الآخرة، ورأيت في بعض التفاسير: كان مع الملائكة مقامع من حديد كلّما ضربوا التهب النار في الجراحات فذلك قوله تعالى: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، ومعنى قوله ذُوقُوا: قاسوا واحتملوا. قال الشاعر: فذوقوا كما ذقنا غداة محجر ... من الغيظ في أكبادنا والتحوب «1» ويجوز ذُوقُوا بمعنى موضع الابتلاء والاختبار يقول العرب اركب هذا الفرس فذقه، وانظر فلانا وذق ما عنده. قال الشماخ في وصف قوس: فذاق وأعطاه من اللين جانبا ... كفى ولها أن يغرق السهم حاجز «2» وأصله من الذوق بالفم ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ كسبت وعملت أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أخذهم من غير جزم، وفي محل «أنّ» وجهان من الاعراب: أحدهما النصب عطفا على قوله (بِما قَدَّمَتْ) تقديره: وأن الله، والآخر: الرفع عطفا على قوله (ذلِكَ) معناه: وذلك أن الله.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ قال ابن عباس: كفعل آل فرعون، وقال الضحاك: كصنيعهم، وقال مجاهد، وعطاء: كسنّتهم، وقال يمان: كمثلهم يعني أن أهل بدر فعلوا كفعل آل فرعون من الكفر والذنوب، ففعل الله بهم كما فعل بآل فرعون من الهلاك والعذاب، وقال الكسائي: كما أن آل فرعون جحدوا كما جحدتم وكفروا كما كفرتم. قال الأخفش، والمؤرخ، وأبو عبيدة: كعادة آل فرعون. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ فعاقبهم الله بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. قال الكلبي: يعني أهل مكة، أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ، وبعث إليهم محمدا (عليه السلام) فغيّروا نعم الله، وتغييرها أن كفروا بها وتركوا شكرها، وقال السدّي: نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم أنعم به على قريش فكذبوه وكفروا به فنقله إلى الأنصار. وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ بعضا بالرجفة وبعضا بالخسف وبعضا بالمسخ وبعضا بالحصى وبعضا بالماء، فكذلك أهلكنا كفار مكة بالسيف والذل وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ الآية الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ. سمعت أبا القاسم بن حبيب، سمعت أبا بكر عبدش يقول: من هاهنا صلة الذين عاهدتهم، وسمعته يقول سمعت المنهل بن محمد بن محمد بن الأشعث يقول: دخلت بين لأن المعنى: الذين أخذت منهم العهد، وقيل: عاهدت منهم أي معهم ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وهم بنو قريظة، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قبال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالوا إلى الكفار على رسول الله يوم الخندق، وكتب كعب بن الأشرف إلى مكة يوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُمْ لا يَتَّقُونَ لا يخافون الله في نقض العهد. فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ترينّهم وتجدنّهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ قال ابن عباس: فنكّل بهم من ورائهم، وقال قتادة: عظ بهم من سواهم من الناس، وقال سعيد بن جبير: أنذر بهم من خلفهم، وقال ابن زيد: أخفهم بهم. وقيل: فرّق جمع كل ناقض مما بلغ من هؤلاء، وقال عطاء: أثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم من أهل مكة وأهل اليمن، وقال ابن كيسان: اقتلهم فلا من يهرب عنك من بعدهم. وقال القتيبي: سمّع بهم، وأنشد: أطوّف في الأباطح كل يوم ... مخافة أن يشردّ بي حكيم
وأصل التشريد: التطريد والتفريق والتبديد، وقرأ أبن مسعود (وشرّذ) بالذال معجم وهو واحد. قال قطرب التشريذ بالذال التنكيل، وبالدال للتفريق من خلفهم أي من ورائهم، وقيل من يأتي خلفهم، وقرأ الأعمش مِنْ خَلْفِهِمْ بكسر الميم والفاء تقديره: فشرّد بهم من خلفهم من عمل قبل عملهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يعتبرون العهد فلا ينقضون العهد. وَإِمَّا تَخافَنَّ تعلمنّ يا محمد مِنْ قَوْمٍ معاهدين لك خِيانَةً نكث عهد ونقض عقد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر والخيانة كما ظهر من قريظة والنضير فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ وهذا من الحان القرآن، ومعناه: فناجزهم الحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك فسخت العهد بينك وبينهم حتى تصير أنت وهم على سواء من العلم بأنك محارب، فيأخذوا للحرب أهبتها وتبرؤوا من الغدر، وقال الوليد بن مسلم: عَلى سَواءٍ أي على مهل وذلك قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ «1» . إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ وَلا يَحْسَبَنَّ قرأ أبو جعفر، وابن عامر بالباء على معنى لا تحسبن الذين كفروا انهم أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ قرأ العامة بالكسر على الابتداء، وقرأ أهل الشام وفارس بالفتح ويكون لا صلة، تقديره: ولا تحسبن الذين كفروا أن سبقوا أنّهم يعجزون أي يفوتون. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أي من الآلات يكون قوة له عليهم من الخيل والسلاح والكراع. صالح بن كيسان عن رجل عن عقبة بن مسافر الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، فقال: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ، وروى ضمرة بن ربيعة عن رجاء بن أبي سلمة فقال: لقي رجل مجاهدا بمكة ومع مجاهد جوالق فقال مجاهد هذا من القوة، ومجاهد يتجهز للغزو «2» ، وقال عكرمة القوة الحصون. وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الإناث] «3» تُرْهِبُونَ بِهِ تخوفون، ابن عباس: تخزون، وقرأ يعقوب: تُرَهِّبُونَ بتشديد الهاء وهما لغتان: أرهبته ورهّبته عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ قال مجاهد: بنو قريظة. السدّي: أهل فارس. ابن زيد: المنافقون لا تَعْلَمُونَهُمُ لأنهم منكم يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم، وقال بعضهم: هم كفار الجن، وقال بعضهم: هم كل عدو من المسلمين غير الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشردّ بهم. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يدّخر ويوفّر لكم أجره وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 61 إلى 67]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها أي فمن إليها وصالحهم، قالوا: وكانت هذه قبل (براءة) ثم مسخت بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ، الآية وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ يغدروا ويمكروا بك، قال مجاهد: يعني قريظة فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ كافيك الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ قال السدّي: يعني الأنصار وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ جمع بين قلوبهم. وهم الأوس والخزرج. على دينه بعد حرب سنين، فصيّرهم جميعا بعد أن كانوا أشتاتا، وإخوانا بعد أن كانوا أعداء لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إلى قوله تعالى حَكِيمٌ. روى ابن عفّان عن عمير بن إسحاق، قال: كنّا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الالفة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ. [ ... ] «1» أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وستّ نسوة، ثم أسلم عمر (رضي الله عنه) فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ قال اكثر المفسرين: محل مَنِ نصب عطفا على الكاف في قوله حَسْبُكَ، ومعنى الآية: وحسب من أتبعك، وقال بعضهم رفع عطفا على اسم الله تقديره: حسبك الله ومتّبعوك من المؤمنين. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ حثّهم عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ رجلا صابرون محتسبون يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من عدوّهم ويقهروهم وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابرة محتسبة تثبت عند اللقاء وقتال العدو يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير احتساب، ولا طلب ثواب، فهم لا يثبتون إذا صدقتموهم القتال
خشية أن يقتلوا، وصورة الآية خبر ومعناه أمر. وكان هذا يوم بدر قرن على الرجل من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين، فثقلت على المؤمنين وضجّوا فخفّف الله الكريم عنهم وأنزل الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً أي في الواحد عن قتال عشرة والمائة عن قتال الألف، وقرأ أبو جعفر ضَعْفاً بفتح الضاد، وقرأ بعضهم: ضعفاء بالمد على جمع ضعيف مثل شركاء. فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفّار وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [أي عشرين من عشرة بمنزلة اثنين من واحد فكسر أول عشرين كما كسر اثنان] «1» ، وإذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ [لهم أن يفروا منهم، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم] القتال وجاز لهم أن [يتحوزوا] «2» عنهم. ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم فاستعن بهم، لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية [تكن] لنا قوة على الكفار. وقال عمر: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم، ومكّن عليا من عقيل يضرب عنقه، ومكّني من فلان. نسيب لعمر. أضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا، فقال العباس، قطعتك رحمك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم. ثم دخل فقال أناس: يأخذ بقول أبو بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين، وأن الله يشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى. قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، ومثلك كمثل موسى قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ «3» الآية. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالة فلا يفلتنّ أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق، قال
[سورة الأنفال (8) : الآيات 68 إلى 75]
عبد الله بن مسعود إلا سهيل بن البيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن يقع عليّ الحجارة من السماء مني ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا سهيل بن البيضاء» «1» . قال: فلمّا كان من الغد جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء ما بكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرض على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليّ عذابكم، ودنا من هذه الشجرة شجرة، قريبة من نبي الله فأنزل الله تعالى ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى بالتاء بصري الباقون بالياء، أَسْرى: جمع أسير مثل قتيل وقتلى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبالغ في قتل المشركين وأسرهم وقهرهم، أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ، وأثخنته معرفة بمعنى قلته معرفة. قال قتادة هذا يوم بدر، فاداهم رسول الله بأربعة آلاف بأربعة آلاف، ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكان أول قتال قاتل المشركين. قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلمّا كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً فجعل الله نبيه والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وأن شاءوا فادوهم وإن شاؤوا رفقوا بهم. تُرِيدُونَ أيها المؤمنين عَرَضَ الدُّنْيا بأخذكم الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ ثواب الْآخِرَةَ بقهركم المشركين ونصركم دين الله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الآية، قال ابن عباس كانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم حرام على الأنبياء والأمم كلهم كانوا إذا أصابوا مغنما جعلوه للنيران «1» وحرّم عليه أن يأخذوا منه قليلا أو كثيرا، وكان الله عز وجل كتب في أم الكتاب أن الغنائم والأسارى حلال لمحمد وأمته، فلمّا كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم، فأنزل الله تعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لولا قضاء من الله سبق لكم يا أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله تعالى أحل لكم الغنيمة. وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يعذّب أحدا شهد بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لولا كتاب سبق أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، وقال ابن جريج: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يضل قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ، وأنه لا يأخذ قوما فعلوا شيئا بجهالة لَمَسَّكُمْ لنالكم وأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ من الغنيمة والفداء قبل أن يؤمروا به عَذابٌ عَظِيمٌ. روى محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أسارى بدر: «إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم» ، وكانت الأسارى سبعون. فقالوا: بل نأخذ الفداء ونتمتع به ونقوى على عدونا ويستشهد منا بعدتهم، قال عبيدة طلبوا الخيرتين كليهما فقتل منهم يوم أحد سبعون ، قال ابن إسحاق وابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر إلّا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه، وقال لرسول الله: ما لنا والغنائم! نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله، وأشار على رسول الله بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ فقال الله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ همان بن منبه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا» ذلك أن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا. عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ نبي قبلي من الأنبياء وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى خاصة قومه، وبعثت إلى الجن والإنس، وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبق نبي إلا قد أعطي سؤله وأخّرت
شفاعتي لأمتي» [239] . يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى نزلت في العباس بن عبد المطلب وكان أسيرا يومئذ، وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فبلغته التوبة يوم بدر، وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا قبل ذلك وبقيت العشرون أوقية مع العباس فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرون أوقية من فدائه فأبى، وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك، وكلّفه فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال العباس: يا محمد تركتني اتكفف قريشا ما بقيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل أوّل خروجك من مكة، فقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقثم يعني بنيه» فقال له العباس: وما يدريك؟ قال: «أخبرني ربي» فقال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله الا الله وأنك عبده ورسوله، ولم يطلع عليه أحد إلا الله فذلك قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الذين أخذتم منهم الفداء [240] «1» . وقرأ أبو محمد وأبو جعفر: من الأسارى وهما لغتان إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي إيمانا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم، قال العباس: فأبدلني الله مكانها عشرين عبدا كلهم يضرب بمال كثير، فأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين الأوقية، وأعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي، وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ ساكنا ولا حرم سائلا حتى فرّقه، فأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ، فكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجوا المغفرة. وَإِنْ يُرِيدُوا يعني الأسرى خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا قومهم وعشيرتهم ودورهم يعني المهاجرين وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين رضي الله عنهم، أي أسكنوهم منازلهم وَنَصَرُوا على أعدائهم، وهم الأنصار أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ دون أقربائهم من الكفار، وقال ابن عباس: هذا في الميراث، كانوا يتوارثون بالهجرة، وجعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث لأنه لم يهاجر، ولم ينصر، وكانوا يعملون بذلك، حتى أنزل الله عز وجل: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فنسخت هذا وصار الميراث لذوي الأرحام المؤمنين ولا يتوارث أهل ملّتين. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني الميراث حَتَّى يُهاجِرُوا وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بكسر الواو، والباقون بالفتح وهما واحد، وقال الكسائي: الولاية بالنصب: الفتح، والولاية بالكسر: الإمارة. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ لأنهم مسلمون إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ عهد وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في العون والنصرة. قال ابن عباس: نزلت في مواريث مشركي أهل العهد وقال السدّي: قالوا نورث ذوي أرحامنا من المشركين فنزلت هذه الآية، وقال ابن زيد: كان المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان. وإن كانا أخوين مؤمنين، وذلك لأن هذا الدين بهذا البلد كان قليلا، حتى كان يوم الفتح وانقطعت الهجرة توارثوا بالأرحام حيثما كانوا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح إنّما هي الشهادة» [241] . وقال قتادة: كان الرجل ينزل بين المسلمين والمشركين فيقول إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم فأبى، الله عليهم ذلك، وأنزل فيه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «1» فلا تراءى نار مسلم و] نار [مشرك إلا صاحب جزية مقرّا بالخراج «2» . إِلَّا تَفْعَلُوهُ قال عبد الرحمن بن زيد: إلّا تتركهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون، وقال ابن عباس: إلّا تأخذوه في الميراث ما أمرتكم به، وقال ابن جريج: إلّا تعاونوا وتناصروا، وقال ابن إسحاق: جعل الله سبحانه المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: إِلَّا تَفْعَلُوهُ، هو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ إلى قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا قال ابن كيسان حققوا ايمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في دين الله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الذي عنده وهو اللوح المحفوظ، وقيل: كتاب الله في قسمته التي قسمها وبيّنها في القرآن في سورة النساء. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وقال قتادة: كان الاعرابي لا يرث المهاجر فأنزل الله هذه الآية، وقال ابن الزبير: كان الرجل يعاقد الرجل ويقول: ترثني وأرثك فنزلت هذه الآية.
محتوى الجزء الرابع من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء الرابع من كتاب تفسير الثعلبي سورة المائدة 5 سورة الأنعام 131 سورة الأعراف 214 سورة الأنفال 324
الجزء الخامس
[الجزء الخامس] سورة التوبة مدنية، وهي عشرة آلاف وأربعمائة وثمانون حرفا، وأربعة آلاف وثمان وتسعون كلمة، ومائة وثلاثون آية هشام بن عامر عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّه ما نزل عليّ القرآن إلا آية آية وحرفا حرفا خلا سورة براءة، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فإنّهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول: يا محمد استوص بنسبة الله خيرا» «1» . يزيد الرقاشي عن ابن عباس. قال: قلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما حملكم على أن [عمدتم] إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ، ووضعتموها في السبع الطوال؟. قال عثمان رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فلا انزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وينزل عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزلت، وكانت قصتها شبيهة بقصتها [فظننت أنها منها] ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يبين لنا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم اكتب سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال «2» . وسمعت أبا القاسم الحبيبي، سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع السجزي بهراة يقول: سمعت أبا يزيد حاتم بن محبوب الشامي، سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول: سئل سفيان بن عيينة: لم لم يكن في صدر براءة: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف، ولا أمان للمنافقين.
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 إلى 5]
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 5] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) بَراءَةٌ رفع بخبر ابتداء مضمر أي: هذه الآيات براءة، وقيل: رفع بخبر معرّف الصفة على التقدير تقديره يعني إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ براءة بنقض العهد وفسخ العقد، وهي مصدر على فعالة كالشناءة والدناءة. مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلى الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كان هو المتولي على العقود وأصحابه كلهم بذلك راضون، فكأنهم عقدوا وعاهدوا فَسِيحُوا رجع من الخبر إلى الخطاب أي قل لهم: سيحوا أي سيروا فِي الْأَرْضِ مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من أحد من المسلمين بحرب ولا سلب ولا قتل ولا أسر «1» . أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة وسيوحا وسياحا وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي غير فائتين ولا سابقين وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي مذلّهم ومورثهم العار في الدنيا وفي الآخرة. واختلف العلماء في كيفية هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله منهم ورسوله إليكم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله من المشركين. فقال محمد بن إسحاق وغيره من العلماء: هم صنفان من المشركين: أحدهما كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل تمام أربعة أشهر، والآخر كانت مدة عهده بغير أجل محدود فقصر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه ثم [....] «2» بحرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يقتل حيث ما أدرك، ويؤسر إلى أن يتوب وابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانتهاؤه إلى عشر من ربيع الآخر. وأما من لم يكن له عهد فإنّما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوما، وقال الزهري: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال، وقال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد دون أربعة أشهر، فأتمّ له الأربعة الأشهر، ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر، فهذا الذي أمر أن يتم له عهده، وقال:
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ، وقال مقاتل: نزلت في ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة وبني مذحج وبني خزيمة كان النبي صلى الله عليه وسلّم عاهدهم بالحديبية سنتين فجعل الله عز وجل أجلهم أربعة أشهر، ولم يعاهد النبي صلى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية أحدا من الناس. وقال الحسن: بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلّم وأمره أن يدعو إلى التوحيد والطاعة، وفرض عليه الشرائع، وأمره بقتال من قاتله من المشركين، فقال: قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وكان لا يقاتل إلّا من قاتله، وكان كافّا عن أهل العهد الذين كانوا يعاهدونه الثلاثة والأربعة الأشهر حتى ينظروا في أمرهم، فإما أن يسلموا وإما أن يؤذنوا بالحرب، ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر على أن يسلموا أو يؤذنوا بالحرب، ولم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر، لا من كان له عهد قبل البراءة، ولا من لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحلّ دماء المشركين كلهم من أهل العهد وغيرهم بعد انقضاء الأجل. قال عبد الرحمن بن زيد: نقض كل عهد كان أكثر من أربعة أشهر فردّه إلى الأربعة، وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، فدخلت خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلّم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان مع ذا عهود من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن قبائل من العرب خصائص، فعدت بنو بكر على خزاعة [فقتلوا رجلا] منها ورفدتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهودهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه إلا تلدا كنت لنا أبا وكنا ولدا ... ثمّت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا [عتدا] ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجرّدا ... أبيض مثل الشمس ينمو صعدا إن سيم خسفا وجهه تربدا ... في فيلق في البحر تجري مزبدا إن قريشا لموافوك «1» الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعوا أحدا ... وهم أذلّ وأقلّ عددا هم [وجدونا] بالحطيم هجّدا ... وقتلونا ركّعا وسجّدا «2» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنصرف إن لم أنصركم» [1] فخرج وتجهز إلى مكة، وفتح الله مكة
وهي سنة ثمان من الهجرة، ثم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف جعل المشركون ينقضون عهودهم، وأمره الله بإلقاء عهودهم إليهم ليأذنوا بالحرب، وذلك قوله تعالى وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ الآية. فلمّا كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة ولم [........] «1» أن حج حتى لا يكون ذلك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر رضي الله عنه تلك السنة أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلمّا سار دعا صلى الله عليه وسلّم عليا فقال: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذّن بذلك في الناس إذا اجتمعوا» . فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجدعاء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فأخذها منه فرجع أبا بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل بشأني شيء؟ قال: «لا ولكن لا يبلّغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنّك كنت معي في الغار وأنّك صاحبي على الحوض» [2] «2» . قال: بلى يا رسول الله، وذلك أن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم عليا لئلا، يقولوا: هذا خلاف ما نعرفه في بعض العهود. قال جابر: كنت مع علي رضي الله عنه حتى أتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر، فلمّا كنا [بالعرج ثوب] بصلاة الصبح، فلمّا استوى أبو بكر ليكبّر سمع الرغاء فوقف وقال: هذه رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجدعاء، لقد بدا لرسول الله في الحج، فإذا عليها عليّ، فقال أبو بكر أمير أم مأمور؟ قال: بل ارسلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببراءة أقرأها على الناس، فكان أبو بكر أميرا على الحج وعليا ليؤذن ببراءة، فقدما مكة، فلمّا كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم وأقام للناس بالحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على مناسكهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذّن في الناس بالحج بالذي أمره به، وقرأ عليهم سورة براءة «3» . قال الشعبي: حدّثني محمد بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلّم ينادي، وكان إذا [ضحل] «4» صوته ناديت قلت: بأيّ شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع لا يطف بالكعبة عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فعهده إلى مدّته، ولا تدخل الجنة إلا
نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك، قالوا: فقال المشركون: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب، وطفقوا يقولون: اللهم أنا قد منعنا أن نبرّك، فلمّا كان سنة عشر حج النبي صلى الله عليه وسلّم حجة الوداع، ونقل إلى المدينة، فمكث بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وليالي من شهر ربيع الأول حتى لو لحق بالله عز وجل. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ عطف على قوله بَراءَةٌ، ومعناه: إعلام، ومنه الأذان بالصلاة، يقال: أذنته فأذن أي أعلمته فعلم، وأصله من الأذن أي أوقعته في أذنه، وقال عطية العوفي [و ... ] «1» [الأذان] وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ إلى قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الآية، وذلك ثمان وعشرون آية. وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ اختلفوا فيه فقال أبو جحيفة وعطاء وطاوس ومجاهد: يوم عرفة، وهي رواية عمرو عن ابن عباس، يدل عليه حديث أبي الصّهباء البكري، قال: سألت علي بن أبي طالب عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يعلم الناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة، فخطب الناس يوم عرفة فلمّا قضى خطبته التفت اليّ وقال: هلمّ يا علي فأدّ رسالة رسول الله، فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا حتى أتينا منى، فرميت الجمرة ونحرت البدنة وحلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا كلهم خطبة أبي بكر رضي الله عنه يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم، فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة «2» . وروى شهاب بن عباد القصري عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: هذا يوم عرفة يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فلا يصومنّه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا: سعيد بن المسيب، فأتيته فقلت: أخبرني عن صوم يوم عرفة فقال: أخبرك عمّن هو أفضل مني مائة ضعف عن عمر وابن عمر، كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وقال معقل بن داود: سمعت ابن الزبير يقول يوم عرفة: هذا يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فلا يصمه أحد، وقال غالب بن عبيد الله: سألت عطاء عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فقال: يوم عرفة فاقض منها قبل طلوع الفجر. وقال قيس بن مخرمة: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشية عرفة ثم قال: أما بعد- وكان لا يخطب إلّا قال أما بعد- فإنّ هذا يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ «3» ، وقال نافع بن جبير، وقيس بن عباد، وعبد الله
ابن شراد، والشعبي والنخعي والسدي، وابن زيد هو يوم النحر وهو إحدى الروايتين عن علي رضي الله عنه. قال يحيى بن الجواد: خرج علي رضي الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبّانة فجاءه رجل فأخذ بلجام دابته وسأله عن الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فقال: هو يومك هذا فخلّ سبيلها. وقال عياش العامري: سئل عبد الله بن أبي أوفى عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فقال: سبحان الله هو يوم النحر يوم يهراق فيه الدماء ويحلق فيه الشعر ويحل فيه الحرام. وروى الأعمش عن عبد الله بن سنان. قال خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له يوم الأضحى فقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. وروى شعبة بن أبي بشر، قال: اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، فقال علي: هو يوم النحر، وقال الذي من آل شيبة: هو يوم عرفة فأرسلوا إلى سعيد بن جبير فسألوه فقال: هذا يوم النحر إلا ترى أنه من فاته يوم عرفة لم يفته الحج، وإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج، يدل عليه ما روى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: بعثني أبو بكر في تلك الحجة في نفر بعثهم يوم النحر يؤذّنون بمنى: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأردف رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا يأمره أن يؤذّن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذّن معنا علي كرم الله وجهه أهل منى يوم النحر ببراءة. صالح عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن أبا بكر بعث في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل حجة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس: لا يحجّنّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فكان حميد يقول: يوم النحر يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ من أصل حديث أبي هريرة. ابن عيينة عن ابن جريج عن مجاهد قال: يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ حين الحج أيام منى كلها ومجامع المشركين بعكاظ وذي المجارة ومخشة، ويوم نادى فيه علي بما نادى ، وكان سفيان الثوري يقول: يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أيامه كلّها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث «1» والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب كانت أياما كثيرة. واختلفوا أيضا في السبب الذي لأجله قيل: هذا اليوم يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. فقال الحسن: يسمّى الحج الأكبر من أجل أنه اجتمع فيها حج المسلمين والمشركين، وقال عبد الله بن الحرث ابن نوفل: يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ كان لحجة الوداع، اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى والمشركين، ولم يجتمع قبله ولا بعده.
وروى منصور وحماد عن مجاهد قال: يقال الحج الأكبر القرآن، والحج الأصغر أفراد الحج، وقال الزهري والشعبي وعطاء: الحج الأكبر: الحج، والحج الأصغر: العمرة، وقيل لها [..........] «1» عملها [..........] «2» من الحج. قوله عز وجل: أَنَّ اللَّهَ قرأ عيسى إِنَّ اللَّهَ بالكسر على الابتداء لأن الأذان قول بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره مضمر تقديره: ورسوله أيضا بريء، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب (وَرَسُولَهُ) بالنصب عطفا على اسم الله، ولم يقل بريئان لأنه يرجع إلى كل واحد منهما كقول الشاعر: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فأني وقيار بها لغريب «3» وروي عن الحسن وَرَسُولِهِ بالخفض على القسم، وبلغني أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ هذه القراءة. فقال: إن كان أمرا من رسوله فإني بريء منه أيضا، فأخذ الرجل [بتلنته] وجرّه إلى عمر ابن الخطاب، فقص الأعرابي قصته وقوله أيضا، فعند ذلك أمر عمر بتعليم العربية. فَإِنْ تُبْتُمْ رجعتم من كفركم وأخلصتم بالتوحيد فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الإيمان [إلى الإصرار] على الكفر فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ وأخبر الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ. وهو استثناء من قوله: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الناس إلا من الذين عاهدتم مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من عهدكم الذي عاهدتموهم عليه وَلَمْ يُظاهِرُوا يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من عدوكم بأنفسهم ولا بسلاح ولا بخيل ولا برجال ولا مال. وقرأ عطاء بن يسار ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوكُمْ بالضاد المعجمة من نقض العهد، وقرأ العامة بالصاد. قوله فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ فأوفوا بعهدهم إِلى مُدَّتِهِمْ أجلهم الذي عاهدتموهم عليه ف إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وهم بنو ضمرة وكنانة وكان بقي لهم من مدتهم تسعة أشهر فأمر بإتمامها لهم فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ انتهى ومضى وقتها، يقال: منه سلخت أشهر كذا نسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجنا. قال الشاعر: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ... كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي «4» وفيه قيل: شاة مسلوخة المنزوعة من جلدها، وحية سالخ إذا أخرجت من جلدها الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
وهي أربعة، ثلاثة فرد، وواحد زوجي وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. وقال مجاهد وابن إسحاق وابن زيد وعمر بن شعيب: هي شهور العهد، وقيل لها الحرم لأن الله حرّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم إلا سبيل الخير فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الحلّ والحرم، وجدتموهم فأسروهم وَاحْصُرُوهُمْ وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي على كل طريق ومرقب، يقال: رصدت فلانا أرصده رصدا إذا رقبته. قال عامر بن الطفيل. ولقد علمت وما إخالك ناسيا ... أن في المنيّة للفتى بالمرصد «1» فَإِنْ تابُوا من الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ يقول: دعوهم في أمصارهم، ودعوهم يدخلوا مكة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [........] «2» في حكم هذه الآية. قال الحسين بن الفضل: فنسخت هذه الآية كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء، وقال الضحاك والسدّي وعطاء: قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) منسوخة بقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً «3» وقال قتادة: بل هي ناسخة لقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً. والصحيح أنّ حكم هذه الآية ثابت، وأنها غير منسوخة إحداهما بصاحبتها لأنّ المنّ، والقتل، والفداء لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهم من أول حاربهم وهو يوم بدر، ويدلّ عليه قوله تعالى: وَخُذُوهُمْ والأخذ هو الأسر، والأسر إنّما يكون للقتل أو الفداء، والدليل عليه أيضا قول عطاء قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلّم بأسير يقال له أبو أمامة وهو سيد اليمامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا أبا أمامة أيّها أحب إليك: أعتقك أو أفاديك أو أقتلك أو تسلم؟» [3] . فقال: أن تعتق تعتق عظيما، وأن تفاد عظيما، وإن تقتل تقتل عظيما، وأما أن أسلم فلا والله لا أسلم أبدا. قال فأني أعتقتك. فقال: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسوله. وكانت مادّة ميرة مكة من قبل اليمامة فقال لأهل مكة: والذي لا إله إلا هو لا تأتيكم ميرة أبدا، ولا حبّة من قبل اليمامة حتى تؤمنوا بالله ورسوله فأضرّ إلى أهل مكة فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أيّهم له حزب يشكون ذلك إليه، فكتب إلى أبي أمامة: لا تقطع عنهم ميرة كانت من قبلك، ففعل ذلك أبو أمامة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 6 إلى 11]
[سورة التوبة (9) : الآيات 6 الى 11] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ معناه وإن استجارك أحد، لأن حروف الجر لا تلي غير الفعل يقول الشاعر: عاود هراة وإن معمورها خربا «1» ، أي وإن غرب معمورها. وقال أخر: أتجزع إن نفس أتاها حمامها ... فهلّا التي عن بين جنبيك تدفع «2» ومعنى الآية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين أمرتك بقتالهم وقبلهم اسْتَجارَكَ أي استعاذ بك واستأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله فَأَجِرْهُ فأعذه وأمنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فتقيم عليه حجة الله، وتبين له دين الله عز وجل، فإن أسلم فقد نال عز الإسلام وخير الدنيا والآخرة وصار رجلا من المسلمين، وإن أبي أن يسلم ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ دار قومه فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ دين الله وتوحيده. قال الحسن: وهذه الآية محكمة إلى يوم القيامة وليست بمنسوخة. قال سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلامه أو يأتيه لحاجته، فقال علي لا لأن الله عز وجل يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ الآية. كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ على [معنى] التعجب، ومعناه جحد أي لا يكون لهم عهد، كما تقول في الكلام: هل أنت إلا واحد منّا، أي أنت، وكيف يستيقن مثلك؟ أي لا يستيقن، ومنه: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت ثم استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ واختلفوا فيه فقال ابن عياش: هم قريش، وقال قتادة وابن زيد: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الحديبية، قال
الله عز وجل فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قالوا: فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد الفتح بأربعة أشهر يختارون من أمرهم أما أن يسلموا، واما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر. قال السدي وابن إسحاق والكلبي: هم من قبائل بكر بن خزيمة وهو مدلج وبنو ضمرة وبنو الدئل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش، وعقدهم يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله وبين قريش، فلم يكن نقضها إلا قريش وبنو الدئل من بني بكر، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض من بني بكر إلى مدته، وهذا القول أقرب إلى الصواب، لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة، فكيف يأتي شيء قد مضى. فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ وإنما هم الذين قال الله عز وجل إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً كما نقصكم قريش، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً كما ظاهرت [من] قريش بني بكر على خزاعة [سلفا] رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) . كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ مردود على الآية الأولى تقديره: كيف يكون لهؤلاء عهود وهم إن يظهروا عليكم يظفروا فيقتلوكم لا يَرْقُبُوا قال ابن عباس: لا يحفظوا، وقال الأخفش: كيف لا يقتلونهم، وقال الضحاك: لا ينتظروا، وقال قطرب: لا يراعوا فِيكُمْ إِلًّا قال ابن عباس والضحاك: قرابة، وقال يمان: رحما، دليله قول حسان: لعمرك إنّ إلّك من قريش ... كإلّ السقب من رأل النعام «1» وقال قتادة: الإلّ: الحلف، دليله قول أوس بن حجر: لولا بنو مالك والالّ من فيه ... ومالك فهم اللألاء والشرف وقال السدّي وابن زيد: هو العهد، ولكنه لما اختلف الفظان كرّر وإن كان معنا هما واحدا كقول الشاعر: وألفى قولها كذبا ومينا «2» وهو إحدى الروايتين عن مجاهد يدلّ عليه قول الشاعر: وجدناهم كاذبا إلّهم ... وذو الإلّ والعهد لا يكذب «3» وقيل: هو اليمين والميثاق، وقال أبو مجلز ومجاهد في ساير الروايات: الإلّ هو الله عز
وجل، وكان عبيد بن عميرة يقرأ جبرإلّ بالتشديد «1» ، يعني عبد الله، وفي الخبر أنّ ناسا قدموا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه من قوم المسلمين فاستقرأهم أبو بكر كتاب مسيلمة فقرأوا، فقال أبو بكر: إن هذا الكلام لم يخرج من إلّ. والدليل على هذا التأويل قراءة عكرمة: لا يرقبون في مؤمن ايلا، بالياء يعني بالله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل وَلا ذِمَّةً عهدا وجمعها ذمم، وقيل: تذمما ممن لا عهد له يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ يعطونكم ويرونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم مثل قول المنافقين وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ الإيمان وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ ناكثون ناقضون كافرون. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا وذلك أنّهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين الرسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا أطعمهم أبو سفيان بن حرب، وقال مجاهد: أطعم أبو سفيان حلفا وترك حلف محمد صلى الله عليه وسلّم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فمنعوا الناس عن دينه وعن الدخول فيه، قال عطاء كان أبو سفيان يعطي الناقة والطعام ليصدّ الناس بذلك عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلّم، وقال ابن عباس: وذلك أن أهل الطائف أمدّوهم بالأموال ليقوّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعداوته. إِنَّهُمْ ساءَ بئس ما كانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يقول: لا تبقوا عليهم أيّها المؤمنون كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم «2» . وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ بنقض العهد فَإِنْ تابُوا من الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ يعني فهم إخوانكم فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال ابن عباس: حرّمت هذه الآية دماء أهل القبلة. وقال ابن زيد: افترض الصلاة والزكاة جميعا ولم يفرق بينهما، وأبي أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر فكان ما أفقهه، وقال ابن مسعود: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ لا صلاة له.
[سورة التوبة (9) : الآيات 12 إلى 18]
[سورة التوبة (9) : الآيات 12 الى 18] وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) وَإِنْ نَكَثُوا نقضوا يقال منه: نكث فلان قويّ حبله إذا نقضه أَيْمانَهُمْ عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ عقدهم وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ثلبوه وعابوه وذلك انهم قالوا: ليس دين محمد بشيء فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قرأ أهل الكوفة أأمّة الكفر بهمزتين على التحقيق لأن أصلها أمّمة مثل: مثال وأمثله وعماد وأعمدة، ثم أدغمت الميم التي هي عن أفعلة في الميم الثانية ونقلت حركتها إلى الهمزة الساكنة التي هي فاء الفعل فصار أئمة، فإنّما كتبت الهمزة الثانية ياء لما فيها من الكسرة وهي لغة تميم، وقرأ الباقون: أيمة [بهمزة واحدة] من دون الثانية طلبا للخفّة، أَئِمَّةَ الْكُفْرِ: رؤس المشركين وقادتهم من أهل مكة. قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد، وهم الذين همّوا بإخراج النبي صلى الله عليه وسلّم وقال مجاهد: هم أهل فارس والروم، وقال حذيفة بن اليمان: ما قوتل أهل هذه الآية ولم يأت أهلها بعد إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ عهودهم، جمع يمين أي وفاء باليمين. قال قطرب: لا وفاء لهم بالعهد وأنشد: وإن حلفت لا ينقض النّأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين «1» الحسين وعطاء وابن عامر: لا إِيمانَ لَهُمْ بكسر الهمزة، ولها وجهان: أحد هما لا تصديق لهم، يدل عليه تأويل عطية العوفي قال: لا دين لهم ولا ذمّة، فلا تؤمنوا بهم فاقتلوهم، حيث وجدتموهم فيكون مصدرا من الإيمان الذي هو ضد الإخافة قال الله عز وجل: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم، وقيل: عن الكفر. ثم قال حاضّا المسلمين على جهاد المشركين أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ نقضوا عهودهم وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ محمد صلى الله عليه وسلّم من مكة وَهُمْ بَدَؤُكُمْ بالقتال أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني يوم بدر، وقال أكثر المفسرين: أراد بدءوكم بقتال خزاعة حلفاء رسول الله أَتَخْشَوْنَهُمْ أتخافونهم فتتركون قتالهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ تخافوه في ترككم قتالهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ يقتلهم الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ يذلّهم بالأسر والقهر وَيَنْصُرْكُمْ ويظهركم عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ ويبرئ قلوب قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ بما كانوا ينالونه من الأذى
والمكروه منهم. قال مجاهد والسدي: أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ كربها ووجدها بمعونة قريش نكدا عليهم. ثم قال مستأنفا وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ يهديه للإسلام كما فعل بأبي سفيان، وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وقرأ الأعرج وعيسى وابن أبي إسحاق: وَيَتُوبَ على النصب على الصرف. قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أظننتم، وإنما دخل الميم لأنه من الاستفهام المعترض بين الكلام فأدخلت فيه أم ليفرّق بينه وبين الاستفهام والمبتدأ، واختلفوا في المخاطبين بهذه الآية: قال الضحاك عن ابن عباس قال: يعني بها قوما من المنافقين كانوا يتوسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالخروج معه للجهاد دفاعا وتعذيرا والنفاق في قلوبهم. وقال سائر المفسرين: الخطاب للمؤمنين حين شقّ على بعضهم القتال وكرهوه فأنزل الله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا ولا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب، والمطيع من العاصي وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ في تقدير الله، والألف صلة جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم، وقال قتادة وَلِيجَةً: خيانة وقال الضحّاك: خديعة، وقال ابن الأنباري: الوليجة قال: خيانة، والولجاء الدخلاء، وقال الليثي: خليطا وردا. وقال عطاء: أولياء، وقال الحسن: هي الكفر والنفاق، وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم ووليجة، وأصله من الولوج ومنه سمي [الكناس] الذي يلج فيه الوحش تولجا. قال الشاعر: من زامنها الكناس تولّجا فوليجة الرجل من يختصه بدخلة منها دون الناس يقال: هو وليجتي وهم وليجتي للواحد وللجميع. وأنشد أبان بن تغلب: فبئس الوليجة للهاربين ... والمعتدين وأهل الريب «1» وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قراءة العامة بالتاء متعلق بالله بقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ وروى الحسن عن أبي عمرو بالياء ومثله روى عن يعقوب أيضا. ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ قال ابن عباس: لمّا أسر أبي يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيّروه بكفره بالله عز وجل وقطيعة الرحم وأغلظ عليّ له القول، فقال العباس:
إنكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، قال له علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنعمر المسجد ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك: العاني، فأنزل الله تعالى رادّا على العباس ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ «1» يقول: ما ينبغي للمشركين أَنْ يَعْمُرُوا، قرأت العامة بفتح الياء وضم الميم من عمر يعمر، وقرأ ابن السميقع يُعْمِرُوا بضم الياء وكسر الميم أي يعينوا على العمارة، أو يجعلوه عامرا، ويريد: إن المساجد إنما تعمر بعبادة الله وحده، فمن كان بالله كافرا فليس من شأنه أن يعمرها، وقال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام. واختلف القراء في قوله: (مَساجِدَ اللَّهِ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وابن أبي رباح وحميد بن كثير وأبو عمرو: مسجد الله بغير ألف أرادوا المسجد الحرام، واختاره أبو حاتم لقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ، وقرأ الباقون (مَساجِدَ) بالألف على الجمع، واختاره أبو عبيد لأنّه أعم القراءتين. قال الحسن: فإنّما قال (مَساجِدَ اللَّهِ) لأنّه قبلة المساجد كلها وأمامها، وقال أبو حاتم أنّ عمران بن جدير قال لعكرمة: إنما يقرأ: مَساجِدَ اللَّهِ وإنّما هو مسجد واحد؟ فقال عكرمة: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، وقال الضحاك ومجاهد: حدّث العرب بالواحد إلى الجمع والجمع إلى الواحد، ألا ترى الرجل على البرذون يقول ركبت البراذين؟ ويقال للرجل: إنّه لكثير الدر والذمار، وتقول العرب: عليه أخلاق نعل واسمال ثوب. وأنشدني أبو الجراح العقيلي: جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... وشرذم يضحك مني التواق «2» يعني: خلق. وقوله: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أراد وهم شاهدون، فلمّا طرحت (وهم) نصبت، وقال الحسن: يقولون: نحن كفار [نشهد] عليهم بكفرهم، وقال السدّي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هي أن النصراني يسأل: ما أنت فيقول: نصراني، واليهودي فيقول: يهودي والصابئي، فيقول: صابئي ويقال للمشرك: ما دينك؟ فيقول: مشرك. وقال حمزة عن الضحاك عن ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم لأصنامهم وإقرارهم بأنّها مخلوقة، وذلك أنّ كبار قريش نصبوا أصنامهم خارجا من بيت الله الحرام عند القواعد، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون: لا نطوف وعلينا ثياب قد عملنا فيها بالمعاصي، وكانوا يصفقون ويصفرون ويقولون: إن تغفر اللهم تغفره جمّا، ... وأي عبد لك لا ألمّا [ ... ] «3»
[سورة التوبة (9) : الآيات 19 إلى 23]
سجدوا لأصنامهم فلم يزيدوا بذلك من الله إلّا بعدا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ. ثم قال: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ قرأ العامة بالألف، وقرأ الجحدري: مسجد الله أراد المسجد الحرام مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ [لأنّ عسى] «1» من الله واجب فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [4] «2» . [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 23] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ [أي أهل سقاية] . عن معاوية بن سلام عن زيد ابن أبي سلام عن النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد سقي الحاج، قال الآخر: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت دخلت واستفتيت رسول الله فيما اختلفتم فيه فقال: فأنزل الله أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلى قوله الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال: قال العباس بن عبد المطلب: لئن كنتم سبقتمونا بالهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يعني: إن ذلك كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك. عطية العوفي قال: إن المشركين قالوا: إعمار بيت الله والقيام على السقاية خير ممّن آمن وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله وعمّاره، فأنزل الله هذه الآية وأخبرهم أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على
السقاية لا تنفعهم عند الله مع الشرك، وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيّه خير مما هم عليه. الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرضي: نزلت في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة، وذلك أنهم افتخروا فقال طلحة: إنّ البيت بيدي مفاتيحه ولو أشاء بتّ فيه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بتّ في المسجد، وقال علي رضي الله عنه: لا أدري ما تقولون لقد صلّيت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وقال ابن سيرين ومرّة الهمداني عن ابن عباس أن عليا قال للعباس: ألا تهاجر وتلحق بالنبي؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة؟ ألست أسقي حاج بيت الله واعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه «2» الآية. وعند ما أمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار: وأنا صاحب الكعبة فلا نهاجر. والسقاية مصدر كالرعاية والحماية، قال الضحّاك: السقاية بضم السين وهي لغة. وفي معنى الآية وجهان أحدهما أن يجعل الكلام مختصرا تقديره: أجعلتم سقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله وجهاد من جاهد في سبيل الله، وهذا كما تقول: السخاء حاتم، والشعر زهير وقال الشاعر: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ... ولكنما الفتيان كل فتى ندي «3» والوجه الآخر أن يجعل العمارة والسقاية بمعنى العامر والساقي تقديره: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، يدلّ عليه قراءة عبد الله بن الزبير وأبي وجزة السعدي: أجعلتم سقّاء الحاج وعمّار المسجد الحرام على جمع الساقي والعامر لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا. وقال الحسن: وكانت السقاية نبيذ زبيب. الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الناجون من النار يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم
[سورة التوبة (9) : الآيات 24 إلى 27]
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ قال مجاهد: هذه الآية متصلة بما قبلها منزلة في قصة العباس وعلي قبل الهجرة، قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما أمر الله عزّ وجل المؤمنين بالهجرة وكانت قبل فتح مكة، من آمن ولم يكتمل إيمانه إلّا بمجانبة الآباء والأقرباء إن كانوا كفارا، فقال المسلمون: يا نبي الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا أباءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وخربت دارنا، فأنزل الله هذه الآية. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: لمّا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لابنه وأخيه وامرأته وقرابته: إنّا قد أمرنا بالهجرة إلى المدينة فاخرجوا معنا إليها فمنهم من يعجبه ذلك ويسارع إليه، ومنهم من أبى على صاحبه [وتعلق به] فيقول الرجل لهم: والله لئن ضمني وإياكم دار الهجرة فلا أنفعكم بشيء أبدا ولا أعطيكم ولا أنفق عليكم، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده ويقولون: أنشدك الله أن تضيعنا فيرق [قلبه] فيجلس ويدع الهجرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في التسعة الذين ارتدّوا عن الإسلام فنهى الله عز وجل عن ولايتهم «1» فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم أسراركم، ومن المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام. إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فهم في صورة الإسلام وأهله و [في] المكث معهم على الهجرة والجهاد فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ العاصون الواضعون [.....] «2» في غير موضعها. [سورة التوبة (9) : الآيات 24 الى 27] قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) ثم قال: قُلْ يا محمد للمتخلّفين عن الهجرة والجهاد إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وقرأ أبو رجاء ويعقوب وعشيراتكم بالألف على الجمع
واختلف فيه عن عاصم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها وقال قتادة: اكتسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وهو ضد النفاق وأصله البقاء. قال الشاعر: كسدن من الفقر في قومهن ... وقد زادهن مقامي كسودا «1» وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها [تعجبكم] قال السدي: يعني القصور والمنازل أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا فانتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ قال عطاء: بقضائه، وقال مجاهد ومقاتل: يعني فتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي لا يرشد ولا يوفّق الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين من طاعته إلى معصيته. لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ أيّها المؤمنون فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي مشاهدوها أماكن حرب تستوطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم وَيَوْمَ حُنَيْنٍ يعني وفي يوم حنين وهو واد بين مكة والطائف. وقال عروة بن الزبير: هو واد إلى جنب ذي المجاز والحري، ولأنه اسم لمذكر فقد يترك إجزاؤه يراد به اسم البلدة التي هو بها، ومنه قول الشاعر: نصروا نبيهم وشدّوا أزره ... بحنين يوم تواكل الابطال «2» وكانت قصة حنين على ما ذكره المفسّرون بروايات كثيرة لفّقتها ونسّقتها لتكون أقرب إلى الأفهام وأحسن [....] «3» أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم افتتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان ثم خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر الفا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطائف. قال قتادة، وقال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمسمائة، وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا [.......] «4» وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف، وعلى هوازن ملك بن عوف النضري، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي، فلما التقى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لن تغلب اليوم من قلّة، ويقال: بل قال ذلك رجل من المسلمين يقال له سلمة بن سلامة [وسمع] رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل. قال: فاقتلوا قتالا شديدا. فانهزم المشركون وخلوا من الذراري، ثم نادوا: يا حماة السوء اذكروا الفضائح، فتراجعوا وانكشف المسلمون.
وقال قتادة: وذكر لنا أن الطلقاء [انجفلوا] يومئذ بالناس وسأل رجل البراء بن عازب: أفررتم يوم حنين؟ فقال: كانت هوازن رماة وإنّا لمّا حملنا عليهم وانكشفوا وأقبلنا على الغنائم، فاستقبلوا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال الكلبي: كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذ ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس عنهم. وقال الآخرون: لم يبق يومئذ مع النبي صلى الله عليه وسلّم غير العباس بن عبد المطلب وعلي وأيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وطفق رسول الله يركض بغلته نحو الكفار لا يألوا، وكانت بغلة شهباء أهداها له فروة الجدامي. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا العمري، حدّثنا أحمد بن محمد، حدّثنا الحمامي، حدّثنا شريك عن أبي إسحاق، قيل للبراء: كان النبي صلى الله عليه وسلّم فيمن ولى دبره يوم حنين قال: والذي لا إله إلّا هو ما ولّى رسول الله دبره قط، لقد رأيناه وأبو سفيان بن الحرث آخذ بالركاب والعباس آخذ لجام الدابة، وهو يقول: أنا النبي لا كذب ... أنا بن عبد المطلب ، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم للعباس: ناد يا معشر المهاجرين ويا معشر الأنصار وكان العباس رجلا صوّيتا. ويروى من شدة صوت العباس أنه أغير يوما على مكة فنادى: وا صباحاه فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها. فجعل ينادي: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، وعطف المسلمون حين سمعوا صوته عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك يا لبيك وجاءوا عنقا واحدا فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عصابة من الأنصار فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يا نبي الله لو عمدت إلى برك العماد من ذي يمن لكنّا معك، ثم أقبل المشركون فالتقوا هم والمسلمون، وتنادى الأنصار: يا معشر الأنصار أم قصرت الدعوة على بني الحرث والخزرج، فتنادوا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو على بغلته كالمتطاول إلى قتالهم فقال هذا حين حمي الوطيس، فأخذ بيده كفّا من [الحبّ] «1» فرماهم وقال: شاهت الوجوه، ثم قال: انهزموا ورب الكعبة، انهزموا ورب الكعبة. قال: فوالله ما زال أمرهم مدبرا وجدّهم كليلا حتى هزمهم الله تعالى. قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي منا أحد يومئذ إلا وامتلأت عيناه من ذلك التراب، قال يزيد بن عامر وكان في المشركين يومئذ: فانصرفنا ما بقي منّا أحد، وكأن أعيننا عميت فأنجز الله وعده وأنزل نصره وجنده فقهر المشركين ونصر المسلمين ، وقال سعيد بن جبير: أمدّ الله [المسلمين] بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وقال الحسن: كانوا ثمانية آلاف من الملائكة.
قال عطاء: كانوا ستة عشر ألفا، وقال سعيد بن المسيب: حدّثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يقفوا لنا حلب شاة، فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتلقّانا رجال بيض الوجوه، حسان الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانوا إياها، يعني الملائكة. وفي الخبر أن رجلا من بني نضر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراكم فيها [..........] «1» ، وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: تلك الملائكة. قال الزهري: وبلغني أن شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان، وعثمان بن طلحة، وكانا قتلا يوم أحد، فأطلع الله تعالى رسوله على ما في نفسي فالتفت إليّ وضرب في صدري وقال: أعيذك بالله يا شيبة، فارتعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحبّ إليّ من سمعي ومن بصري فقلت: أشهد أنك رسول الله، وأن الله أطلعك على ما في نفسي. فلمّا هزم الله المشركين وولّوا مدبرين وانطلقوا حتى أتوا [أوطاس] وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله إلى هناك رجلا من الأشعريين يقال له: أبو عامر وأمّره على الناس، فسار إليهم فاقتتلوا بها، ثم إن الله تعالى هزمهم، وثبتوا قبال المشركين وهزم أميرهم مالك بن عوف النضري، فأتى الطائف فتحصّن بها وأخذ أهله وماله فيمن أخذ، وقتل أمير المسلمين ابن عامر، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى الطائف من فوره ذلك فحاصرهم بقية ذلك الشهر، فلمّا دخل ذو القعدة وهو شهر حرام لا يحلّ فيه القتال انصرف عنهم فأتى الجعرانة فأحرم فيه بعمرة، فقسم بها النبي المال وغنائم حنين وأوطاس وتألّف أناسا، كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم فجعل يعطي الرجل منهم الخمسين والمائة من الإبل، فقالت الأنصار: حنّ الرجل وآثر قومه يا للعجب إنّ أسيافنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في قبة من أدم فجمعهم فقال لهم: يا معشر الأنصار ما هذا الذي بلغني عنكم. فقالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون، فقال: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم أذلاء فأعزكم الله بي، وكنتم وكنتم، فقال سعيد بن عبد الله: أتأذن لي أتكلم، فقال: تكلم.
قال: أما قولك: كنتم ضلالا فهداكم الله بي، فكنّا كذلك، وأما قولك: كنتم أذلّة فأعزّكم الله فقد علمت العرب أنه ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منّا. فقال عمر: يا سعيد أتدري من تكلّم؟ قال: يا عمر أكلّم رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار واديا لسلكت واد الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم، ثم قال: يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاة وتنقلبون برسول الله إلى بيوتكم» [5] . فقالت الأنصار: رضينا بالله ورسوله، والله ما قلنا ذلك الا ضنّا بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم «1» . فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة قام خطيبا فقال: أما إنّ خطيب الأنصار قد قال: كنت طريدا فآويناك، وكنت خائفا فأمّنّاك، وكنت مخذولا فنصرناك، وكنت وكنت، فإنّه قد صدق، فبكت الأنصار، وقالت بل الله ورسوله أعظم علينا منّا. قال قتادة: وذكر لنا أن ظئر النبي صلى الله عليه وسلّم التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين وسألته سبايا يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني لا أملكهم إنّما لي نصيبي منهم، ولكن ائتني غدا فسليني والناس عندي، فإني إذا أعطيتك نصيبي أعطاك الناس، فجاءت في الغد فبسط لها ثوبه فقعدت عليه ثم سألته ذلك فأعطاها نصيبه، فلما رأى الناس منه أعطوها أنصباءهم «2» . قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف سبي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر مناديا ينادي يوم أوطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن بحيضة. ثم [....] «3» من هوازن أقبلوا مسلمين بعد ذلك فقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرّهم وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: إن عندي من ترون، وخير القول أصدقه، اختاروا إمّا ذراريكم ونساءكم، وإمّا أموالكم، فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقام النبي منتصبا فقال: إن هؤلاء قد جاءوني مسلمين «4» ، وإنا خيّرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فأمّا ما أصاب بنو هاشم رددناه إليهم، فمن كان بيده منهم شيء وطابت نفسه أن يردّه عليهم فذلك، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه، ومن لم يرد ففديته خمسون من الإبل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 28 إلى 33]
فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد ردّ قالوا يا نبي الله رضينا وسلّمنا، فقال النبي: لا أدري لعلّ منكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إليه فرفعت إلينا العرفاء أن قد رضوا وسلّموا، وردوا جميعا غير رجل واحد وهو صفوان بن أميّة لأنه وقع على امرأت أصابها فحبلت منه «1» . فأنزل الله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ حتى قلتم: لن نغلب اليوم من قلّة فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ كثرتكم شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها وهما المصدر ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ منهزمين ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ بعد الهزيمة سَكِينَتَهُ يعني الأمنة والطمأنينة وهي فعيلة من السكون عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر وسلب الأموال وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ فيهديه إلى الإسلام ولا يؤاخذه بما سلف وَاللَّهُ غَفُورٌ لعباده المؤمنين رَحِيمٌ بهم. [سورة التوبة (9) : الآيات 28 الى 33] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال الضحاك وأبو عبيدة: قذر، وقال ابن الأنباري: خبيث يقال: رجل نجس وامرأة نجس ورجلين وامرأتان نجس ورجال ونساء نجس بفتح النون والجيم أو نجس بضم الجيم ورجس في هذه الأحوال لا يثنّى ولا يجمع لأنّه مصدر، وأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس، فإذا أفرد قيل: نجس بفتح النون وكسر الجيم أو نجس بضم الجيم. وقرأ ابن السميقع: إنما المشركون أنجاس، كقولك أخباث على الجمع، واختلفوا في
معنى النجس والسبب الذي من أجله سمّاهم بذلك، فروي عن ابن عباس: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب، وهذا قول غير مرضي لمعنيين أحدهما أنه روي عنه من وجه غير حميد فلا يصح عنه، والآخر أن هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا يستوي في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد، واحتج من قال أعيانهم نجسة بما روي أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه بقول الله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ. وكما روي عن الحسن أنه قال: لا تصافحوا المشركين. فمن صافحهم فليتوضّأ، وقال قتادة: سمّاهم نجسا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون، فمنعوا من دخول المسجد لأن الجنب لا ينبغي أن يدخل المسجد. وقال الحسين بن الفضل: هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين فسموا نجسا على الذّم، يدلّ عليها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلّم لقى حذيفة فأخذ صلى الله عليه وسلّم بيده، فقال حذيفة: يا رسول الله إنّي جنب، فقال: «إن المؤمن لا ينجس» [6] . فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ قال أهل المعاني: أراد بهذا منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام، قال عطاء الحرم كلّه قبلة ومسجد «1» وتلا هذه الآية. جابر عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد لرجل من المسلمين، ونساؤهم حل لكم، وقرأ: بَعْدَ عامِهِمْ هذا يعني العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه عنه بالناس، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع في الهجرة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الآية. قال المفسرون: وكان المشركون يجلبون إلى البيت الطعام ويتّجرون ويتبايعون، فلمّا منعوا من دخول الحرم شقّ ذلك على المسلمين، والقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال لهم: من أين تأكلون وتعيشون وقد بقي المشركون وانقطعت عنهم العير. فقال المؤمنون: يا رسول الله قد كنّا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم فالآن تنقطع عنّا الأسواق ويملك التجارة، ويذهب ما كنّا نصيب منها من المرافق، فأنزل الله عز وجل وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً. وقال عمرو بن فائد: معناه وإذا خفتم لأن القوم كانوا قد خافوا، وذلك هو قول القائل: إن كنت أبي فأكرمني يعني [إن خفت] عيلة فقرا وفاقة. يقال عال يعيل عيلة وعيولا. قال الشاعر:
فلا يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل «1» وفي مصحف عبد الله: وإن خفتم عايلة أي [حصلة] يعول عليكم أي يشق فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وذلك أنه أنزل عليهم مطرا مدرارا فكثر خيرهم حين ذهب المشركون. وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وطهوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب، وكفاهم الله عز وجل ما كانوا يتخوّفون. قال الكلبي: أخصبت [............] «2» ، وكفاهم الله ما أهمّهم، وقال الضحاك وقتادة: قسم الله منها ما هو خير لهم وهو الجزية فأغناهم الله وذلك قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك. وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم [أخذ الجزية فأنزل الله] «3» عز وجل: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أراد الدين الحق فأضاف الاسم إلى الصفة. قال قتادة: الحق هو الله عز وجل، ودينه الإسلام، وقال أبو عبيدة «4» معناه: طاعة أهل الإسلام، وكل من أطاع ملكا أو ذا سلطان فقد دان له دينا. قال زهير: لئن حللت بجوفي بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك «5» أي في طاعة عمرو. مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى يؤخذ منهم الجزية وألّا يقاتلوا، ويؤخذ الجزية أيضا من الصابئين والسامرة لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فيها، ويؤخذ الجزية أيضا من المجوس، وقد قيل: إنهم كانوا من أهل الكتاب فرفع كتابهم. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدّثنا محمد بن يحيى و [..........] «6» قالا: حدّثنا عثمان بن صالح، حدّثنا ابن وهب، أخبرنا يوسف عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس
هجر «1» ، وأن عمر أخذها من مجوس السواد وأن عثمان بن عفان أخذها من بربر «2» . ابن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدّثنا أبو عاصم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا أدري كيف أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب» [7] «3» . قال أبو عاصم: مشيت ميلا وهرولت ميلا حتى سمعت من جعفر بن محمد، حدّثنا، يعني هذا الحديث ، وإنما منعنا من نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم [وإتيان] الفروج والأطعمة على الخطر، ولا يجوز الإقدام عليها بالشك. قال الحسن: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة في شأن أهل الكتاب «4» . قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ألّا يتبعوا ما سواهما بدعة وضلالة، ولا يؤخذ الجزية من الأوثان حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهو ما يعطي المعاهد على عهده من الجزية، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى عليه، والجزية مثل القعدة والجلسة ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها. وأما قدرها: فقال أنس: قسّم النبي على كل محتلم دينارا ، وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الفقراء من أهل الذمة كل واحد منهم درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهما، ولم يجاوز به خمسين درهما، وليس شيء موقت ولكن على ما صولحوا عليه. عَنْ يَدٍ أي بالنقل من يده إلى يد من يدفعه إليه، كما يقال كلّمته فما لفم «5» . وقال أبو عبيدة: يقال: أكلّ من [............] «6» من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد، وقال القتيبي: يقال: أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئا غير مكلف. وقال ابن عباس: هو أنها يعطونها بأيديهم، يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركبانا ولا
يرسلون وَهُمْ صاغِرُونَ أذلّاء مقهورون، قال ابن عباس يتلتلون بها تلتلة وقال عكرمة: معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم. قال الكلبي: إنه إذا [جاء يعطي] صفع في قفاه، وقيل: إعطاؤه إياها هو الصغار، وقيل: إنّه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة، وقيل: إنه يجري عليهم أحكام الإسلام وهو الصغار. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر، حدّثنا علي بن حرب، حدّثنا السباط، حدّثنا عبد العزيز بن [............] «1» عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى ابن عباس رجل فقال: الأرض من أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأودي خراجها؟ قال: لا، وجاء آخر فقال له ذلك قال: لا وتلا قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية إلى قوله: وَهُمْ صاغِرُونَ، أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينزعه فيجعله في عنقه «2» ؟ وقال كليب بن وائل: قلت لا بن عمر: اشتريت أرضا، قال: الشراء حسن. قال: فإنّي أعطي من كل جريب أرض درهما وقفيز طعام؟ قال: ولا تجعل في عنقك صغارا. وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ما يسرّني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها الصغار على نفسي. وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ الآية، روى سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله. فأنزل الله في قولهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي: عُزَيْرٌ بالتنوين، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الباقون بغير تنوين، فمن نوّن قال: لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجميا مثل نوح ولوط وهود، وقال أبو حاتم والمبرّد: الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله، لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد فينوّن في الخبر ويحذف في الصفة، وربما أثبتوا التنوين في الصفة، ويقول الشاعر، أنشده الفرّاء: والّا تكن مال هناك فإنّه ... سيأتي ثنائي زيدا بن مهلهل وأنشد الكسائي [............] «3» مذهبه.
وقال أبو عبيدة: هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك: زيد ابن الأمير، وزيد بن عبد الله، فعزير يكون بعده خبر. ومن ترك التنوين قال: لأنه اسم اعجمي ويشبه اسما مصغرا. وقال الفرّاء: لما كانت النون من عزير ساكنة [وهي نون التنوين] والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالا لتحريكه، كما قال: لتجدني بالأمير برا، وبالقناة مدعا مكرا، إذا غطيف السلمّي فرّا «1» . فحذف النون الساكن الذي استقبلها، وقال الزجّاج: يجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره: عزير ابن الله معبودنا. قال عبيدة بن عمير: إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ يستقرض «2» . عطية العوفي عن ابن عباس قال: قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ فإنما قالوا ذلك من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلمّا رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فأرسل الله عزّ وجل عليهم مرضا فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمسّ كبده، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير [الله] وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذّن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ فعلق يعلّمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلّمهم، ثم إن التابوت ترك بعد ذلك، وبعد ذهابه منهم، فلمّا رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلّمهم فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما اتي عزير هذا إلا إنّه ابن الله «3» . وقال السدّي وابن عباس في رواية عمار بن عمار: إنما قالت اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها، فلحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبّد في الجبال، ولا يخالط ولا يخالط الناس ولا ينزل إلا يوم عيد، وجعل يبكي ويقول: يا رب تركت بني إسرائيل بغير عالم
فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرة إلى العيد فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد خلت «1» له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه يا كاسياه. فقال لها عزير: يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي، أما علمت أنّ الموت سبيل الناس، وقال: ويحك من كان يطعمك ويكسوك قبل هذا الرجل- يعني زوجها الذي كانت تندبه- قالت: الله، قال: فإن الله حي لم يمت، قالت: يا عزير فمن كان يعلّم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله، قالت: فلم تبكي عليهم، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لا يموت، فلمّا عرف عزير أنه قد خصم ولّى مدبرا. فقالت له: يا عزير إنّي لست بامرأة ولكني الدنيا، أما إنّه ينبع ماء في مصلاك عين، وتنبت شجرة فكل من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلّ ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه، فلمّا أصبح نبعت من مصلّاه عين، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به، فجاء شيخ فقال له: افتح، قال: ففتح فاه وألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك، قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة. فقال: يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة. قالوا: يا عزير ما كنت كاذبا، فربط على كل إصبع له قلما وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه، فأحيا لهم التوراة، وأحيا لهم السنّة، فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجودها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه «2» . وقال الكلبي: إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلاما صغيرا فاستضعفوه، فلم يقبله ولم يدر أنه قرأ التوراة، فلمّا توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة، فبعث الله عز وجل عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم، فأتاهم عزير وقال: أنا عزير فكذّبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم عزير فاتل علينا التوراة، فكتبها وقال: هذه التوراة. ثم إن رجلا قال: إن أبي حدّثني عن جدي أن التوراة جعلت [لنبي] ثم دفنت في كوّم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفا ولا آية فعجبوا وقالوا: ابن الله، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه، فعند ذلك قالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ.
وأما النصارى [فقيل] : إنّهم كانوا على [دين واحد] سنة بعد ما رفع عيسى، يصلّون القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السّلام، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، إني احتال فأضلّهم حتى يدخلوا النار، وكان لها فرس يقال له: العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب. فقال له النصارى: من أنت؟ قال يونس: عدوكم [سمعت] «1» من السماء: ليس لك توبة إلا أن تتنصّر وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال [لهم] «2» إن الله قبل توبتك، فصدّقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور وعلّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلّمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولا بجسم فتجسّم ولكنّه ابن الله، وعلّم ذلك رجلا يقال له: يعقوب. ثم دعا رجلا يقال له: ملكا وقال له: إن الله لم يزل ولا يزال عيسى رضي الله عنه، فلمّا استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه، وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى [نحلته] فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث. ذلِكَ يعني قول النصارى: إن المسيح ابن الله قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يقولون بألسنتهم من غير علم. قال أهل المعاني: إن الله عز وجل لا يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زورا كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، ويَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وقوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ... يُضاهِؤُنَ قال ابن عباس: يشبهون وعنه أيضا: يحكون، وقال مجاهد: يواطئون. وقال ذي نون: وفيه لفظان يُضاهِؤُنَ بالهمزة وهي قراءة عاصم، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة، يقال: ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قال قتادة
والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقال النصارى: المسيح ابن الله كما قال اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وقال مجاهد: يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله، وقال الحسن: شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم، وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، ثم قال: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ وقال القتيبي: يريد إن من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلوهم. قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن، ومثله قال أبان بن تغلب: قاتلها الله تلحاني وقد علمت ... أني لنفسي إفسادي وإصلاحي «1» وقال ابن جريج: قاتَلَهُمُ اللَّهُ وهو بمعنى التعجب أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يكذبون، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال الضحاك: علماءهم، وقرأ: رهبان، وأحبار العلماء: واحدهم حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها والكسر أجود، وكان يونس الجرمي يزعم أنه لم يسمع فيه إلا بكسر الحاء، ويحتج فيه بقول الناس: هذا محبر يريدون مداد عالم، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع وأهل الأصفاد في دينهم، يقال: راهب ورهبان مثل فارس وفرسان، وأصله من الرّهبة وهي الخوف كأنهم يخافون الله أَرْباباً سادة مِنْ دُونِ اللَّهِ يطيعونهم في معاصي الله. مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته ثم انتصب وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ حتى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون حلال الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه، قال: فقلت: بلى «2» . قال أبو الأحوص: عن عطاء بن أبي البختري في قول الله عز وجل: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً قال: أما [لو أمروهم] أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنّهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية «3» . وقال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم
وجدوا في كتاب الله عز وجل ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا بشيء ائتمرنا وما نهينا عنه فانتهينا، الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وقال أهل المعاني: معناه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأذناب حيث أطاعوهم في كل شيء، كقوله: قال انفخوا حتى إذا جعله نارا أي كالنار، وقال عبد الله المبارك: وهل بدّل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها «1» . وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ نزّه نفسه عَمَّا يُشْرِكُونَ القراءة بالياء وقرأ ابن أبي إسحاق بالتاء يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي يبطلوا دين الله بألسنتهم، بتكذيبهم إياه وإعراضهم عنه. وقال الكلبي: يعني يردون القرآن بألسنتهم تكذيبا له، وقال ابن عباس: يريد اليهود والنصارى أن يلزموا توحيد الرحمن بالمخلوقين الذين لا تليق بهم الربوبية، وقال الضحاك: يريدون أن يهلك محمد وأصحابه ولا يعبد الله بالإسلام. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وإنما أدخلت إلا لأن في أبت طرفا من الجحد، ألا ترى أنّ قولك يثبت أن أفعل ولما فيه من الحذف تقديره: وَيَأْبَى اللَّهُ كل شيء إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، كما قال: وهل لي أمّ غيرها أن تركتها ... أبى الله إلّا أن أكون لها ابنا هو الذي يعني يأبى إلّا إتمام دينه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني محمدا صلى الله عليه وسلّم بِالْهُدى قال ابن عباس: بالقرآن، وقيل: تبيان فرائضه على خلقه، وَدِينِ الْحَقِّ وهو الإسلام. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ... لِيُظْهِرَهُ ليعليه وينصره ويظفره عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على سائر الملل كلها وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. واختلف العلماء بمعنى هذه الآية، فقال ابن عباس: الهاء عائدة على الرسول صلى الله عليه وسلّم يعني ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء، وقال الآخرون: الهاء راجعة إلى دين الحق. قال أبو هريرة والضحاك: ذلك عند خروج عيسى عليه السّلام إذا خرج اتبعه كل دين وتصير الملل كلها واحدة، فلا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية إلى المسلمين.
قال السدّي: وذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج «1» . وقال الكلبي: لا يبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك، ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك. قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام إما يعز عزيز وإما يذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزّوا، وإما يذلّهم فيدينون له» [8] «2» . عن الأسود أو سويد بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» [9] . قالت: قلت: يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعد ما أنزل الله على رسوله. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ. قال: يكون ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث ريحا فيقبض كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ثم يبقي من لا خير فيه ويرجع الناس إلى دين آبائهم. وقال الحسين بن الفضل: معناه: ليظهره على الأديان كلها بالحجج الواضحة والبراهين اللامعة فيكون حجة هذا الدين أقوى، وقال بعضهم: قد فعل الله ذلك ونجزت هذه العدة لقوله سبحانه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «3» . وقال بعضهم: هو أن يظهر الإسلام في كل موضع كان يجري على أهلها صغار في أي موضع كانوا، لا يؤخذ منهم جزية كما يؤخذ من أهل الذمة. وقيل: معناه: ليظهره على الأديان كلها التي في جزيرة العرب فيظهره على دينهم ويغلبهم في ذلك المكان. وقيل: هو جريان حكمته عليهم والله أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 34 إلى 37]
[سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ يعني العلماء والقرّاء من أهل الكتاب لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي يأخذون الرشوة في أحكامهم ويحرّفون كتاب الله ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون: هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم، وهي المآكل التي كانوا يصيبونها منهم على تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلّم ولو آمنوا به لذهبت عنهم تلك المآكل وَيَصُدُّونَ ويصرفون الناس ويمنعونهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دين الله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يعني ويأكلون أيضا بالباطل الذين يكنزون الذهب والفضة. سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن المظفر بن محمد بن غالب الهمذاني يقول: سمعت إبراهيم بن محمد بن عرفة الإيجي بن نفطويه يقول: سمّي ذهبا لأنه يذهب فلا يبقى، وسمّيت فضة لأنها تنفض أي تتفرق ولا تبقى، وحسبك الأسمان دلالة على فنائهما، والله أعلم فيها. واختلف العلماء في معنى الكنز: فروى نافع عن ابن عمر قال: كل مال آتى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم يؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. ومثله قال ابن عباس والضحاك والسدّي، ويدلّ عليه ما روي عن ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت شره وليس بكنز. وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر رجلا عن أرض باعها فقال: [أحسن موضع هذا المال؟ فقال: أين أضعه؟] قال: احفر تحت فراش امرأتك. فقال: يا أمير المؤمنين أليس بكنز، قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز «1» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كل ما زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أدّيت منه الزكاة أم لم تؤدّ، وما دونها نفقة. وقال عن الوليد بن زيد: كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه فهو كنز. منصور عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال لما نزلت هذه الآية
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «تبّا للذهب وتبّا للفضة» يقولها ثلاثا: فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال المهاجرون: فأي المال نتّخذ؟ فقال عمر: فإنّي أسال النبي صلى الله عليه وسلّم عن ذلك، قال: فأدركته فقلت: يا رسول الله إن المهاجرين قالوا: أي المال نتّخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه» «1» [10] . وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبر طليحة بن عبدان، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا محمد بن عبدل، حدّثنا الأعمش عن [المعرور] بن سويد عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في قبال الكعبة فلمّا رآني قد أقبلت قال: هم الأخسرون وربّ الكعبة، هم الأخسرون وربّ الكعبة، هم الأخسرون وربّ الكعبة. قال: فدخلني غمّ وما أقدر أن أتنفس قلت: هذا شيء حدث فيّ، قلت: من هم فداك أبي وأمي؟ قال: المكثرون إلا من مال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن فوقه وبين يديه وعن [..........] «2» كل صفراء وبيضاء أولى عليها صاحبها فهو كنز [..........] «3» من ترك خير الشيء فهي له يوم القيامة «4» . وروى طلحة بن عبد الله بن كريز الخزاعي عن أبي الضيف عن أبي هريرة قال: من ترك عشرة آلاف درهم جعل صفائح يعذّب بها صاحبها يوم القيامة قبل القضاء، وعن سلمان بن ثروان قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: إن أهل المائدة سألوا المائدة ثم نزلت فكفروا بها، وإن قوم صالح سألوا الناقة فلمّا أعطوها كفروا بها، وانكم قد نهيتم عن كنز الذهب والفضة فستكنزونها، فقال رجل نكنزها [وقد سمعنا] قوله؟ قال: نعم، ويقتل عليه بعضكم بعضا، وقال شعبة: كان فصّ سيف أبي هريرة من فضة فنهاه عنها أبو ذر، وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من ترك صفراء وبيضاء كوي بها» [11] «5» . وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي امامة صديّ بن عجلان قال: إن رجلا توفي من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كيّة» ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه السّلام: «كيّتان» [12] «6» . وأولى الأقاويل بالصواب القول الأول لأن الوعيد وارد في منع الزكاة لا في جمع المال
الحلال. يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه، ومن زاد فهو خير له» «1» . وقال صلى الله عليه وسلّم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» [13] «2» . وقال ابن عمر وسئل عن هذه الآية فقال: من كنزها ولم يؤدّ زكاتها فويل له. ثم قال: لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكّيه وأعمل بطاعة الله عز وجل. أما أصل الكنز في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضه على بعض، على ظهر الأرض كان أو في بطنها. يدلّ على ذلك قول الشاعر: لا درّيّ إن أطعمت نازلهم ... [قرف الحتي] وعندي التبر مكنوز «3» أراد: مجموع بعضه إلى بعض والحتي: مذر المقل، وكذلك يقول العرب للشيء المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض. قرأ يحيى بن عمر يَكْنُزُونَ بضم النون، وقراءة العامة بالكسر، وهما لغتان مثل يَعْكُفُونَ ويعكُفون، ويَعْرِشُونَ ويعرُشون وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولم يقل فينفقونهما، اختلف النحاة فيه، قال قطرب: أراد الزكاة أو الكنوز أو [.....] «4» الذهب والفضة، وقال الفرّاء: استغنى بالخبر عن أحدهما في عائد الذكر عن الآخر لدلالة الكلام على أن الخبر على الآخر مثل الخبر عنه، وذلك موجود في كلام العرب وأخبارهم، قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف «5» وقال ابن الأنباري: قصد الأغلب والأعم لأن الفضة أعم والذهب [أخص] مثل قوله وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ «6» ردّ الكناية إلى الصلاة لأنّها أعم، وقوله: رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها «7» ردّ الكناية إلى التجارة لأنها أعم وأفضل. فَبَشِّرْهُمْ فأخبرهم وأنذرهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها أي يدخل النار مرتديا
بعض الكنوز، ومنه يقال: حميت الحديدة في النار فَتُكْوى فتحرق بِها جِباهُهُمْ جباه كانزيها وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ. قال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره ما من رجل يكوى، يكنز موضع دينار على دينار ودرهم على درهم، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على خدّيه. وسئل أبو بكر الوراق: لم خص الجباه والجنوب والظهور بالكي؟ فقال: لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير انقبض، فإذا ضمّه وإياه مجلس ازورّ عنه وولّى ظهره عليه، وقال محمد بن علي الترمذي: ذلك لأنّه يبذخ ويستكبر بماله ويقع على كنزه بجنبيه ويتساند إليه. وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب، خشن الجسد، خشن الوجه فقام عليهم، فقال: بشّر الكنّازين برضف «1» يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثدييه، ويزلزل ويكوي الجباه والجنوب والظهور حتى تلتقي الحمة في أجوافهم. قال: فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا، قال: فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئا «2» . هذا أي يقال لهم: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ كقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي تجحدون حقوق الله في أموالكم وتمنعونها. واختلف العلماء في حكم هذه الآية، وفيمن نزلت منهم، فروى ابن شهاب عن خالد بن زيد بن أسلم عن ابن عمر وسئل عن قوله تعالى الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فقال ابن عمر: إنّما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلمّا نزلت جعلها الله تطهير الأموال. مجاهد عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا يبقي لولده ما لا يبقي بعده، فقال عمر رضي الله عنه: أنا أفرّج عنكم فانطلقوا، وانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله إنّه قد كبر على أصحابك هذه فقال: «إن الله عز وجل لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموال
تبقى بعدكم» ثم قال: «الا أخبركم بخير ما يكنز المرء، المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، فإذا غاب عنها حفظته» «1» [14] . وقال بعض الصحابة: هي في أهل الكتاب خاصة، وقال السدّي: هي في أهل القبلة، وقال الضحاك: هي عامة في أهل الكتاب وفي المسلمين، من كسب مالا حلالا فلم يعط حق الله منه كان كنزا وإن قلّ فكان على وجه الأرض، وما أعطي حق الله منه لم يكن كنزا وإن كان كثيرا ودفنه في الأرض. عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا انا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الآية، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينهم كلام في ذلك فكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر الناس علي حتى كأنّهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحّيت فكنت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذه المنزل، ولو أمّروا عليّ جيشا لسمعت وأطعت. وقال بعضهم: نزلت في مانعي الزكاة خاصة، وهو أولى الأقاويل بالصحة، يدلّ عليه ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلّا حمي عليه في نار جهنم، فجعل صفائح فيكوي بها جبينه وجنباه حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرسله أمّا إلى الجنّة وأمّا إلى النار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت فتطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها ليس فيها عقصاء ولا جلجاء كلّما مضى عليه أخراها ردّت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرسله إما إلى الجنة وأمّا إلى النار، وما من صاحب أبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ما كانت [.........] «2» كلّما مضى عليها أخراها ردّت عليه أولاها حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرسله أما إلى الجنة وأما إلى النار» [15] «3» . قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أو لا؟ وروى ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول: «من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه، يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها، ثم يلقمه سائر جسده» [16] «4» .
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ يعني عدد شهور السنة عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ قراءة العامة بفتح العين والشين، وقرأ أبو جعفر بجزم الشين، وقرأ طلحة بن سليمان بسكون الشين، شَهْراً نصب على التمييز. وهي المحرم وصفر وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادى الاولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة. وأما المحرم فسمي بذلك لتحريم القتال فيه، وسمي صفر لأن مكة تصفر من الناس فيه أي تخلو منهم، وقيل: وقع فيه وباء فاصفرّت وجوههم، وقال أبو عبيدة: سمّي صفر لأنه صفرت فيه وطابهم «1» من اللبن، وشهرا الربيع سمّيا بذلك لجمود الماء فيهما، وسمّي رجب لأنهم كانوا يرجبونه أي يعظمونه، رجبته ورجّبته بالتخفيف والتشديد إذا عظمته، قال الكميت: ولا غيرهم أبغي لنفسي جنّة ... ولا غيرهم ممن أجلّ وأرجب وقيل: سمي بذلك لترك القتال فيه من قول العرب: رجل أرجب إذ كان أقطع لا يمكنه العمل، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: إن في الجنة نهرا يقال له رجب ماؤه أشد بياضا من الثلج وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب شرب منه «2» ، وقال عمر: سمّي شعبان لتشعب القبائل فيه. وروى زياد بن ميمون أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «سمّي شعبان لأنه يتشعب فيه خير كثير لرمضان» [17] «3» . وقد مضى القول في رمضان، وسمّي شوال لشولان النوق اللقاح بأذنابها فيه «4» . قال أبو زيد البلخي: سمّي بذلك لأن القبائل تشول فيه أي تبرح عن أماكنها، وسمّي ذو القعدة لقعودهم عن القتال، وذو الحجة لقضاء حجهم فيه، والله أعلم. قال بعض البلغاء: إذا رأت العرب السادات تركوا العادات وحرموا الغارات قالوا: محرم، وإذا ضعفت أركانهم ومرضت أبدانهم، واصفرت ألوانهم قالوا: صفر، وإذا ظهرت الرياحين وزهرت البساتين قالوا: ربيعان، وإذا قل الثمار وجمد الماء قالوا: جماديان، فإذا هاجت البحار وحمت الأنهار وترجبت الأشجار قالوا: رجب، وإذا بانت الفضائل وتشعبت القبائل قالوا: شعبان، وإذا حمي الفضا، ونفي جمر الغضاء قالوا: رمضان، وإذا انكشف
السحاب، وكثرت الذباب وشالت الناقة إلا ذبحوها قالوا: شوال، وإذا قعد التجار عن الأسفار قالوا: ذو القعدة، وإذا قصدوا الحج من كل فج، وأظهروا النج والعج قالوا: ذو الحجة. فِي كِتابِ اللَّهِ يعني اللوح المحفوظ وقيل في قضائه الذي قضى يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها من الشهور أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ كانت العرب تعظمها وتحرم القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة ومحرم، واحد فرد وثلاثة سرد «1» . ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الحساب المستقيم فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي في الأشهر الحرم بالعمل بمعصية الله عز وجل وترك طاعته، وقال ابن عباس: استحلال القتال والغارة فيهن، وقال محمد بن إسحاق عن يسار: لا تجعلوا حلالها حراما ولا حرامها حلالا كما فعل أهل الشرك، وقال قتادة: إن العمل الصالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهنّ، وإن كان الظلم على كل حال عظيم، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء كما يصطفي من خلقه صفايا. وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً جميعا عامّا مؤتلفين غير مخلّفين كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً نصب على الحال وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ. واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم: إنه منسوخ، وقال قتادة وعطاء الخرساني: كان القتال كثيرا في الأشهر الحرم ثم نسخ وأحل القتال فيه بقوله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً يقول: فيهن وفي غيرهنّ. قال الزهري: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحرّم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله سبحانه من تحريم ذلك حتى نزلت براءة فأحل قتال المشركين ، وقال أبو إسحاق: سألت سفيان الثوري عن القتال في الشهر الحرام فقال: هذا منسوخ، وقد مضى، ولا بأس بالقتال فيه وفي غيره، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلّم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف في شوال وبعض ذي القعدة فيدل على أنه منسوخ ، وقال آخرون: إنه غير منسوخ، وقال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح ما يحلّ للناس أن يغزوا في المحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت، وقال ابن حيان نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة. إِنَّمَا النَّسِيءُ قرأ الحسن، وعلقمة وقتادة ومجاهد ونافع غير ورش وأبو عامر وعيسى والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر: النسيء ممدود مهموز، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم، وهو مصدر كالخرير والسعير والحريق ونحوها، ويجوز أن يكون مفعولا مصروفا إلى
فعيل مثل الجريح والقتيل والغريق، تقديره: إنما الشهر المؤخّر، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأشهب وشبل: (إِنَّمَا النَّسْئُ) ساكنة السين مهموزة على المصدر لا غير، وقرأ أبو عمرو وورش «1» النسيّ بالتشديد من غير همزة. وروي ذلك عن ابن كثير على معنى النسيّ أي المتروك قال الله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ من النسيان، ويحتمل أن يكون أصله الهمز مخفف، واختلفوا في أصل الكلمة، فقال الأخفش: هو من التأخير ومنه النسيئة في البيع، ويقال: أنسأ الله أجله، ونسأ في أجله أي أخّره، وقال قطرب: هو من الزيادة، وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء، وكذلك قيل للبن إذ كثر بالماء نسئ، ونسؤ، وللمرأة الحبلى نسؤت، لزيادة الواو فيها، وقد نسأت الناقة وأنسأتها إذا زجرتها ليزداد سيرها، وقال قتادة: عهد ناس من أهل الضلالة فزادوا صفرا في الأشهر الحرم، وكان يقوم قائمة في الموسم ويقول: ألا إن آلهتكم قد حرمت المحرم فيحرمونه ذلك العام، ثم يقوم في العام المقبل فيقول: ألا إن آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرمونه ذلك العام وكان يقال لهما: صفران. وأما معنى النسيء وبدوّ أمره على ما ذكره العلماء بألفاظ مختلفة ومعنى متفق، فهو إن العرب كانت تحرّم الشهور الأربعة وكان ذلك مما تمسّكت به من ملّة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، وقالوا: لئن توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لنجوعنّ، وإنما نصيب على ظهر دوابنا فربّما احتاجوا مع ذلك إلى تحليل المحرم أو غيره من الأشهر الحرم لحرب تكون بينهم فيكرهون استحلاله ويستحلون المحرم. وكانوا يمكثون بذلك زمانا يحرّمون صفر، وهم يريدون به المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين، وقد تأوّل بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلّم: ولا صفر، على هذا ثم يحتاجون أيضا إلى تأخير الصفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم، فيؤخّرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله، ثم كذلك فكذلك يتدافع شهرا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلّها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى وضعه الذي وضعه الله عز وجل وذلك بعد عمر طويل. وقال مجاهد: كان المشركون يحجّون في كل شهر عامين، فحجّوا في ذي الحجة عامين، ثم حجّوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكذلك في الشهور التي وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلّم في العام القابل حجة الوداع فوافقت ذي الحجة، فذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلّم في خطبته: «ألا إن الزمان قد ابتدأ فدعيت يوم خلق السموات والأرض إن السنة اثْنا عَشَرَ شَهْراً ... ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاث
متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان» [18] «1» . أراد صلى الله عليه وسلّم أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء. واختلفوا في أول من نسأ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك: أوّل من نسأ بنو مالك بن كنانة وكان [يليه] أبو ثمامة عبادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم كل عام على حمار فيقول: أيّها الناس إني أحدّث ولا أخاف ولا مردّ لما أقول. إنّا قد حرمنا المحرم، وأخّرنا صفر، ثم يجيء العام المقبل فيقول: إنّا قد حرّمنا صفر وأخّرنا المحرم. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان يكون قبل الناس بالموسم، وإذا همّ الناس بالصّدر قام فخطب الناس فقال: لا مردّ لما قضيت، أنا الذي لا أغاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألهم أن ينسئهم شهرا يغيّرون فيه، فيقول: إن القتال العام حرام، وإذا قال ذلك حلّوا الأوتار وقرعوا الأسنّة والأزجّة، وإن قال: حلال عقدوا الأوتار وشددوا الأزجّة وأغاروا على الناس. [وقيل بعد] نعيم بن ثعلبة رجل يقال له: جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) . جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أوّل من نسأ النسيء عمرو بن لحي بن بلتعة بن خندف، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو رجل من بني كنانة يقال له القلمّس في الجاهلية، وكان أهل الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم، يلقي الرجل قاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له فيقول قائلهم: اخرجوا بنا فيقال له: هذا المحرم، فيقول القلمّس: إني قد نسأته العام صفران، فإذا كان العام المقبل قضينا فجعلناهما محرمين، وقال [............] «2» وقال الكميت: ألسنا الناسئين على معدّ ... شهور الحلّ نجعلها حراما «3» فهو النسيء الذي قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ ... زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ قرأ أهل المدينة وعاصم وأبو عمرو يَضِلُّ بفتح الياء وكسر الضاد، واختاره أبو حاتم لأنه ضمّ الضالون لقوله بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو عبد الرحمن وقتادة ومجاهد وابن محيصن: يَضِلُّ مكسورة الضاد، ولها وجهان: أحدهما أن يكون الَّذِينَ كَفَرُوا في محل النصب أي يضل الله به الذين كفروا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 إلى 41]
والوجه الثاني أن يكون الَّذِينَ في محل رفع على معنى يضل به الذين كفروا الناس المفسدين منهم، وقرأ أهل الكوفة: يُضَلُّ بضم الياء وفتح الضاد وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيدة لقوله زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ ويُحِلُّونَهُ يعني النسيء عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا ليوافقوا، قال ابن عباس: ليشبهوا، قال المؤرّخ: هو أنهم لم يحلّوا شهرا من الحرم إلا حرّموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرّموا شهرا من الحلال إلّا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلّا تكون الحرم أكثر من أربعة أشهر ممّا حرم الله فيكون موافقا للعدد، فذلك المراد. فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ الآية فيها حثّ من الله سبحانه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم على غزوة تبوك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم، وذلك في زمان عسرة من الناس وجدب من البلاد وشدة من الحر [حين] فأحرقت النخل وطابت الثمار وعظم على الناس غزوة الروم، وأحبّوا الظلال والمقام في المسكن والمال، فشقّ عليهم الخروج إلى القتال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قلّ ما خرج في عزوة الّا كنّى عنها وورّى بغيرها إلا غزوة تبوك لبعد شقتها وكثرة العدو ليتأهب الناس وأمرهم بالجهاد، وأخبرهم بالذي يريد ، فلمّا علم الله تثاقل الناس، انزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ أي شيء أمركم إِذا قِيلَ لَكُمُ إذا قال لكم رسول الله انْفِرُوا اخرجوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأصل النفر مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج على ذلك، فقالت نفر فلان إلى ثغر كذا، ينفر نفرا ونفورا، ومنه نفور الدابة ونفارها اثَّاقَلْتُمْ تباطأتم. قال المبرّد: أخلدتم إِلَى الْأَرْضِ ومعناه: لزمتم أرضكم ومساكنكم، وأصله تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء وأخرجت لها ألف يوصل إلى الكلام بها حين الابتداء بها، كقوله حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها «1» وقالُوا: اطَّيَّرْنا وأرجفت، العلاء والكسائي.
تولى الضجيج إذا ما اشتاقها خضرا ... عذب المذاق إذا ما اتَّابع القبل أي إذا تتابع. أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ أي أرضيتم الدنيا ودعتها عوضا من نعيم الآخرة وثوابها فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ثم أوعدهم على ترك الجهاد إِلَّا تَنْفِرُوا وقرأ عبيد بن عمير تُنْفِرُوا بضم الفاء وهما لغتان يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً في الآخرة، وقيل: هو احتباس القطر عنهم، سئل نجدة بن نفيع عن ابن عباس عن هذه الآية فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم استنفر حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر فكذلك كان عذابهم «1» وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ خيرا منكم وأطوع ، قال سعيد بن جبير: هم أبناء فارس، وقال أبو صلاح: هم أهل اليمن وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً بترك النفير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ هذا إعلام من الله أنه هو المتكفّل بنصر رسوله وإظهار دينه أعانوه أو لم يعينوه، وأنه قد نصره حين كان أولياؤه قليلا وأعدائه كثيرا، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدّة فقال عزّ من قائل: إِلَّا تَنْفِرُوا أيها المؤمنون إذا استنفركم، ولا تنصروه إذا استنصركم فالله يعينه يعوّضه عنكم كما نصره إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وقيل: [معناه] : إن لم تنصروه فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة حين مكروا به وأرادوا [إخراجه] وهموا بقتله ثانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال، وهو أحد الاثنين، والاثنين رسول الله وأبو بكر الصديق إِذْ هُما فِي الْغارِ وهو نقب في جبل بمكة يقال له ثور إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أبي بكر رضي الله عنه لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا للعون والنصرة، ولم يكن حزن أبي بكر رضي الله عنه جبنا منه ولا سوء ظن وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يدلّ عليه أنه قال: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد، وإن قتلت هلكت الأمة. همام عن ثابت عن أنس أن أبا بكر حدّثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلّم ونحن في الغار: لو أن أحدا نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا فقال: يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما. قال مجاهد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الغار ثلاثا. قال عروة: كان لأبي بكر منيحة من غنم فكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلّم في الغار. وقال قتادة: كان عبد الرحمن بن أبي بكر يختلف إليهما، فلمّا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخروج دعاهم وكانوا أربعة: النبي صلى الله عليه وسلّم، وأبو بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط الليثي. قال الزهري: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبو بكر الغار أرسل الله زوجا من حمام حتى
باضا أسفل النقب، والعنكبوت حتى نسج بيتا، فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت، قال لو دخلاه لتكسر البيض، وتفسخ بيت العنكبوت، فانصرف. وقال النبي: «اللهم أعم أبصارهم» [19] فعميت أبصارهم عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. روى السري بن يحيى عن محمد بن سيرين قال: ذكر رجال على عهد عمر بن الخطاب فكأنّهم فضّلوا عمر على أبي بكر، قال: فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبى بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي وساعة بين يديه وساعة خلفه حتى وصل رسول صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا أبا بكر ما لك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد يديك، فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق. فلما أتيا إلى الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار «1» ، فدخل فاستبرأ حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنّه لم يستبرئ الحجر، فقال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الحجر فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله فنزل، فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. أبو عوانة عن فراس عن الشعبي قال: لقد عاتب الله أهل الأرض جميعا غير أبي بكر رضي الله عنه في هذه الآية، وقال أبو بكر: قال النبي ولم يجزع يوقّرني ... ونحن في شدة من ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لي منه بإظهار وإنما كيد من تخشى بوادره ... كيد الشياطين كادته لكفّار والله مهلكهم طرا بما كسبوا ... وجاعل المنتهى منها إلى النار «2» فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ سكونه وطمأنينته عَلَيْهِ أي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال ابن عباس: على أبي بكر، فأمّا النبي صلى الله عليه وسلّم فكانت السكينة عليه قبل ذلك وَأَيَّدَهُ قرأ مجاهد: وآيده بالمد بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى أي المقهورة المغلوبة وَكَلِمَةُ اللَّهِ رفع على مبتدأ وقرأ يعقوب: وَكَلِمَةَ اللَّهِ على النصب على العطف هِيَ الْعُلْيا العالية.
قال ابن عباس: الكلمة السفلى: كلمة الشرك، والعليا: لا إله إلّا الله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال أبو الضحى: أول آية نزلت من براءة هذه الآية وقال مقاتل: قالوا: فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة، والشغل والمنتشر أمره، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وأبى أن يعذرهم. واختلفوا في معنى الخفاف والثقال، فقال أنس والحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة وشمر بن عطية ومقاتل بن حيان: مشاغيل، وقال الحكم: مشاغيل وغير مشاغيل. الحسن: مشاغيل، وقال أبو صالح: خفافا من المال، أي فقراء وثقالا منه أي أغنياء، وقال ابن زيد: الثقيل الذي له الضيعة فهو ثقيل يكبره بأن يضع ضيعته من الخفيف الذي لا ضيعة له. قال: نشاط وغير نشاط، وقال عطية العوفي: ركبانا ومشاة، وقال مرة الهمذاني: أصحّاء ومرضى، وقال يمان بن رباب: عزّابا ومتأهلين. وقيل: خفافا مسرعين غير خارجين ساعة اتباع النفير. قال: خفّ الرجل خفوفا إذا مشى مسرعا، وثقالا أي بعد التروية فيه والاستعداد له. وقيل: خفافا من السلاح أي مقلّين منه وثقالا مستكثرين منه، فالعرب تسمي الأعزل مخفّا. وقيل: خِفافاً من ماشيتكم وأبنائكم وَثِقالًا متكثّرين بهم وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ علي بن زيد عن أنس: إن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فقال: أي بني جهّزوني جهّزوني. فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلّم حتى مات، ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حتى ماتا، فنحن نغزو عنك، فقال: جهزوني، فغزا البحر فمات في البحر فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلّا بعد سبعة أيام فدفنوه فيها فلم يتغير «1» . وقال الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزوة وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنّك عليل، صاحب ضرّ فقال استنفر له الخفيف والثقيل، فإن لم يمكنني الحرب كثّرت السواد وحفظت المتاع.
[سورة التوبة (9) : الآيات 42 إلى 49]
[سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 49] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين لَوْ كانَ اسمه مضمر أي لو كان ما يدعوهم إليه عَرَضاً قَرِيباً غنيمة حاضرة وَسَفَراً قاصِداً وموضعا قريبا. قال المبرّد: قاصِداً أي ذا قصد نحو تامر ولابن «1» ، وقيل: هو طريق مقصود فجعلت صفته على [فاعلة بمعنى مفعولة] كقوله عِيشَةٍ راضِيَةٍ «2» أي مرضية. لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ يعني المسافة وقال الكسائي: هي الغزاة التي يخرجون إليها، وقال قطرب: هي السفر البعيد سمّيت شقة لأنّها تشقّ على الإنسان، والقراءة بضم الشين وهي اللغة الغالبة، وقرأ عبيد ابن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس. وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا قرأ الأعمش بضم الواو لأن أصل الواو الضمة، وقرأ الحسن بفتح الواو لأن الفتح أخفّ الحركات، وقرأ الباقون بالكسر لأن الجزم يحرّك بالكسر لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالحلف الكاذب وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في أيمانهم [واعتلالهم] عَفَا اللَّهُ عَنْكَ قدّم العفو على القتل. قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون «3» . وقال بعضهم: إنّ الله عز وجل وقره ورفع محله [فهو افتتاح] الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمخاطبه إن كان كريما عنده: عفا الله عنك ما صنعت في حاجتي ورضي الله عنك إلّا زرتني، وقيل: معناه: أدام الله لك العفو. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في أعذارهم وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فيها لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله تعالى وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ شكّت ونافقت قلوبهم فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ متحيّرين، وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الغزو لَأَعَدُّوا لهيّأوا
لَهُ عُدَّةً وهي المتاع والكراع وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ لم يرد الله انْبِعاثَهُمْ [خروجهم] فَثَبَّطَهُمْ فمنعهم وحبسهم وَقِيلَ اقْعُدُوا في بيوتكم مَعَ الْقاعِدِينَ يعني المرضى والزمنى، وقيل: النساء والصبيان. لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ الآية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر الناس بالجهاد لغزوة تبوك، فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو وعسكره على ثنيّة الوداع، ولم يكن بأقلّ العسكرين، فلمّا سار رسول الله صلى الله عليه وسلّم تخلف عنه عبد الله بن أبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى [يعزي] نبيه صلى الله عليه وسلّم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ يعني المنافقين ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فسادا ، وقال الكلبي: شرّا وقيل: غدرا ومكرا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يعني ولأوضعوا ركابهم بينكم، يقال: وضعت الناقة تضع وضعا ووضوعا إذا أسرعت السير، وأوضعها إيضاعا أي جدّ بها فأسرع، قال الراجز: يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع «1» وقال: أقصر فإنك طالما ... أوضعت في إعجالها قال محمد بن إسحاق يعني: أسرع الفرار في أوساطكم وأصل الخلال من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وبين القوم في الصفوف وغيرها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «تراصّوا في الصفوف لا يخللكم الشيطان كأولاد الحذف» [20] «2» . يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يبغون لكم، يقول: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جمع [العدو] لكم فعل وفعل، يخبلونكم. وقال الكلبي: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يعني الغيب والسر، وقال الضحاك: يعني الكفر، يقال فيه: بغيته أبغيه بغاء إذا التمسته بمعنى بغيت له، ومثله عكمتك إن عكمت لك فيها، وإذا أرادوا أعنتك عليه قالوا: أبغيتك وأحلبتك وأعكمتك «3» . وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال مجاهد وابن زيد بينكم عيون لهم عليكم [يوصلون] ما يسمعون منكم، وقال قتادة وابن يسار: وفيكم من يسمع كلامهم ويطبعهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي عملوا بها لصد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر بتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم، كفعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أجالوا فيك وفي إبطال دينك الرأي بالتخذيل عنك وتشتّت أصحابك.
حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أي النصر والظفر وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ دين الله وَهُمْ كارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي الآية. نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا تجهّز لغزوة تبوك، قال له: يا أبا وهب، هل لك في جلاد بني الأصفر تتخذ منهم وصفاء، قيل: وإنما أمر بذلك لأن الحبش غلبت على ناحية الروم فولدت لهم بنات قد أنجبت من بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفر اللعس «1» ، فلمّا قال له ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال جد: يا رسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن فلا تفتنّي بهن وائذن لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: قد أذنت لك، فأنزل الله (وَمِنْهُمْ) يعني ومن المنافقين (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) في التخلف (وَلا تَفْتِنِّي) ببنات الأصفر «2» ، قال قتادة: ولا تأتمنّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ألا في الإثم والشرك وقعوا بخيانتهم وخلافهم أمر الله ورسوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ مطيفة بهم وجامعتهم فيها، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبني سلمة وكان منهم: من سيّدكم؟ قالوا: جدّ بن قيس غير أنه نحيل جبان، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم وأي داء أدوى من البخل، بل سيّدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور، فقال فيه حسّان: وقال رسول الله والقول لاحق ... بمن قال منّا من تعدّون سيّدا فقلنا له جدّ بن قيس على الذي ... نبخّله «3» فينا وإن كان أنكدا فقال وأي الداء أدوى من الذي ... رميتم به جدا وعالى بها يدا وسوّد بشر بن البراء لجوده ... وحق لبشر ذي الندى أن يسوّدا إذا ما أتاه الوفد أنهب ماله ... وقال خذوه إنه عائد غدا «4»
[سورة التوبة (9) : الآيات 50 إلى 59]
[سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 59] إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ نصر وغنيمة تَسُؤْهُمْ [يعني] بهم المنافقين وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا عذرنا وأخذنا الجزم في القعود وترك الغزو مِنْ قَبْلُ من قبل هذه المصيبة. قُلْ لهم يا محمد لَنْ يُصِيبَنا وفي مصحف عبد الله: قل هل يصيبنا، وبه قرأ طلحة ابن مصرف إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا في اللوح المحفوظ، ثم قضاه علينا هُوَ مَوْلانا وليّنا وناصرنا وحافظنا، وقال الكلبي: هو أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ تنتظرون بِنا أيها المنافقون إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أما النصر والفتح مع الأجر الكبير، وأمّا القتل والشهادة وفيه الفوز الكبير. أخبرنا أبو القاسم الحبيبي قال: حدّثنا جعفر بن محمد العدل، حدّثنا أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم العبدي، حدّثنا أبو بكر أمية بن بسطام، أخبرنا يزيد بن بزيع عن بكر بن القاسم عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يضمن الله لمن خرج في سبيله ألّا يخرج إيمانا بالله وتصديقا برسوله أن [يرزقه] الشهادة، أو يردّه إلى أهله مغفورا له مع ما نال من أجر وغنيمة. وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى الحسنيين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ فيهلكهم الله كما أهلك الأمم الخالية. قال ابن عباس: يعني الصواعق، قال ابن جريج يعني الموت [والعقوبة] بالقتل بأيدينا كما أصاب الأمم الخالية من قبلنا فَتَرَبَّصُوا هلاكنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ وقال الحسن: فَتَرَبَّصُوا مواعيد الشيطان إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ مواعيد الله من إظهار دينه واستئصال من خالفه، وكان الشيطان يمنّي لهم بموت النبي (صلى الله عليه وسلّم) . قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نزلت في منجد بن قيس حين استاذن النبي صلى الله عليه وسلّم في القعود عن الغزوة، وقال: هذا مالي أعينك به، وظاهر الآية أمر معناه خبر وجزاء تقديره: إن أنفقتم طوعا أو كرها فليس بمقبول منكم كقول الله عز وجل: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية. قال الشاعر: أسيئي بنا أو أحسني لا ملامة ... لدينا ولا مقلية إن تفلت
إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ منافقين وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ قرأ نافع وعاصم ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي: (أن يقبل) بالياء لنعتهم الفعل، الباقون بالتاء نَفَقاتُهُمْ صدقاتهم إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ الاولى في موضع نصب، و «أن» الثانية في محل رفع تقديره: وما منعهم قبول نفقاتهم إلّا كفرهم وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى مستاؤون لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابا، ولا يخافون بتركها عقابا وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ لأنهم يتخذونها مغرما ومنعها مغنما. فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ لأن العبد إذا كان من الله تعالى في استدراج [..........] «1» إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال مجاهد وقتادة والسدّي: في الآية تقديم وتأخير تقديرها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال الحسن: إنما يريد الله أن يعذبهم في الحياة الدنيا بالزكاة والنفقة في سبيل الله، وقال ابن زيد: بالمصائب فيها، وقيل التعب في جمعه، والوجل في حفظه وحبه. وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي تخرج وتذهب أنفسهم على الكفر: يقال: زهقت الخيول أي خرجت عن الحلبة، وزهق السهم إذا خرج عن الهدف، وزهق الباطل أي اضمحل، قال المبرّد: وفيه لغتان: زهق يزهق وزهيق يزهق. وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ على دينكم وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً يعني حرزا وحصنا ومعقلا، وقال عطاء مهربا، وقال ابن كيسان: قوما يأمنون فيهم أَوْ مَغاراتٍ غيرانا في الجبال، وقال عطاء: سرادب، وقال الأخفش: كلّ ما غرت فيه فغبت فهو مغارة، وهي مفعلة من غار الرجل في الشيء يغور فيه إذا دخل، ومنه غار الماء وغارت العين إذا دخلت في الحدقة، ومنه غور تهامة، والغور: ما انخفض من الأرض، وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بضم الميم جعله مفعلا من أغار يغير إذا أسرع ومعناه موضع فرارا، قال الشاعر: فعدّ طلابها وتعدّ عنها ... بحرف قد تغير إذ تبوع «2» أَوْ مُدَّخَلًا موضع دخول، وهو مفتعل من تدخّل يتدخّل متدخّل، وقال مجاهد: مُدَّخَلًا: محرزا. قتادة: سردابا، وقال الكلبي وابن زيد: نفقا كنفق اليربوع، وقال الضحاك: مأوىّ يأوون إليه، وقال الحسن: وجها يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال ابن كيسان: دخلا من مدخلا لا ينالهم منكم ما يخافون [منه] وقرأ الحسن: أَوْ مَدْخَلًا، مفتوحة الميم خفيفة
الدال من دخل يدخل، وقرأ مسلمة بن محارب مُدْخَلًا بضم الميم وتخفيف الدال من دخل يدخل، وقرأه أبيّ مندخلا، منفعل من اندخل. كما قال: فلا يدي في حميت السكن تندخل «1» وقرأ الأعرج بتشديد الدال والخاء [............] «2» جعله متّفعلا ثم أدغم التاء في الدال كالمزمّل والمدّثّر لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لأدبروا إليه هربا منكم، وفي حرف أبي: لولّوا وجوههم إليه، وقرأ الأعمش والعقيلي: لوالوا إليه بالألف من الموالاة أي تابعوا وسارعوا. وروى معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده- وكانت له صحبة- لَوَلَوْا إِلَيْهِ بتخفيف اللام لأنها من التولية يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف ولولّوا إليه من المولي وَهُمْ يَجْمَحُونَ يسرعون في الفرار [لا يردهم شيء] . قال الشاعر أبان بن ثعلب: سبوحا جموحا وإحضارها ... كمعمعة السعف الموقد «3» وقيل: إن الجماح مشي بين مشيين وهو مثل [الصماح] . قال مهلهل: لقد جمحت جماحا في دمائهم ... حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا «4» وقرأ الأعمش: وهم يجمزون أي يسرعون ويشدّون وَمِنْهُمْ يعني من المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ. الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقسم قسما- قال ابن عباس كانت غنائم هوازن يوم حنين- جاء ابن ذي الخريصر التميمي وهو حرقوص بن زهير اصل الخوارج فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل أن لم أعدل. فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: دعه فأن له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر فلا يوجد فيه شيء، وقد سبق الفرث والدم، أشبههم برجل أسود في إحدى يديه، أو قال: أحدى ثدييه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على فترة من الناس، وفي غير هذا الحديث: وإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا
فاقتلوهم، ثم إذا اخرجوا فاقتلوهم. فنزل، وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ «1» أي يعيبك في أمرها، ويطعن عليك فيها يقال: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. قال الشاعر: إذا لقيتك عن شحط تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة «2» وقال مجاهد: يهمزك: يطعنك، وقال عطاء: يغتابك، وقال الحسن والأعرج وأبو رجاء وسلام ويعقوب: يُلْمِزُكَ بضم الميم، وروى عوف بن كثير يَلْمِزْكَ بكسر الميم خفيفة فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ وقرأ [إياد بن لقيط] : ساخطون «3» . قال ابن زيد: هؤلاء المنافقون قالوا: والله لا يعطيها محمد إلا من أحب ولا يؤثر بها إلّا هواه. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ إلى قوله راغِبُونَ في أن يوسع علينا من فضله فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس، وقال ابن عباس: راغبون إليه فيما يعطينا من الثواب، ويصرف عنا من العقاب.
[سورة التوبة (9) : الآيات 60 إلى 69]
[سورة التوبة (9) : الآيات 60 الى 69] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) ثم بين [لمن] الصدقات فقال عز من قال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ لا للمنافقين، واختلف العلماء في صفة الفقر والمسكين. وقال ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد وابن زيد: الفقير: المتعفف عن المسألة، والمسكين: المحتاج السائل، وقال قتادة: الفقير: المؤمن المحتاج [الذي به زمانة] والمسكين: [الذي لا زمانة به] «1» ، وقال الضحاك وإبراهيم النخعي: الفقراء فقراء المهاجرين، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين المحتاجين، وروى ابن سلمة عن ابن علية عن ابن سيرين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ليس الفقير الذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق الكسب قال ابن علية: الأخلق المحارف عندنا «2» ، وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب. وقال أبو بكر العبسي: رأى عمر بن الخطاب ذميما مكفوفا مطروحا على باب المدينة فقال له عمر: ما لك؟ قال: استكروني في هذه الجزيرة حتى إذا كف بصري تركوني فليس لي أحد يعود عليّ بشيء، فقال: ما أنصفت إذا، فأمر له بقوته وما يصلحه، ثم قال: هذا من الذين قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وهم زمنى أهل الكتاب «3» ، وقال ابن عباس: المساكين: [الطوافون] ، والفقراء، من المسلمين «4» . أخبرنا عبد الله بن حامد. أخبرنا محمد بن جعفر. حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب. حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ليس المسكين هذا الطوّاف الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، إنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه «5» . قال الفرّاء: الفقراء أهل الصفة لم يكن لهم عشائر ولا مال، كانوا يلتمسون الفضل ثم يأوون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمساكين: الطوّافون على الأبواب «6» ، وقال عبد الله بن الحسن: المسكين الذي يخشع ويستكين وإن لم يسأل، والفقير الذي يحتمل ويقبل الشيء سرا ولا يخشع وقال [ابن السكيت والقتيبي ويونس] الفقير الذي له البلغة من العيش والمسكين الذي لا شيء له، واحتج بقول الشاعر:
إنّ الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد «1» فجعل له حلوبة وجعلها وقفا لعياله أي قوتا لا فضل فيه، يدلّ عليه ما روي عن عبد الرحمن بن أبزي قال: كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو فنسبهم الله تعالى إلى أنهم فقراء وجعل لهم سهما في الزكاة «2» . وقال محمد بن مسلمة: الفقير الذي له مسكن يسكنه، والخادم إلى [.......] «3» لأن ذلك المسكين الذي لا ملك له. قالوا: وكل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا من غيره، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ، والمسكين المحتاج إلى كل شيء، ألا ترى كيف حضّ على إطعامه وجعل الكفّارة من الأطعمة له، ولا فاقة أعظم من [.....] «4» في شدة الجوعة. أما قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ وإن مسكنتهم هاهنا مساكين على جهه الرحمة والاستعفاف لا بملكهم السفينة كما قيل لمن امتحن بنكبة أو دفع إلى بلية: مسكين، وفي الحديث: «مساكين أهل النار» [21] «5» وقال الشاعر: مساكين أهل الحبّ حتى قبورهم ... [عليها] تراب الذل بين المقابر «6» وَالْعامِلِينَ عَلَيْها يعني سقاتها وجباتها الذين يتولّون قبضها من أهلها ووضعها في حقها ويعملون عليها يعطون ذلك بالسعاية، أغنياء كانوا أو فقراء. واختلفوا في قدر ما يعطون، فقال الضحّاك: يعطون: الثمن من الصدقة، وقال مجاهد: يأكل العمال من السهم الثامن، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: يعطون على قدر عمالتهم، وهو قول الشافعي وأبي يعفور قالا: يعطون بقدر أجور أمثالهم، وإن كان أكثر من الثمن، يدلّ عليه قول عبد الرحمن بن زيد قال: لم يكن عمر ولا أولئك يعطون العامل الثمن إنما يفرضون له بقدر عمله «7» ، وقال مالك وأهل العراق: إنّما ذلك إلى الامام واجتهاده، يعطيهم الامام على قدر ما يرى. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، قال قتادة: هم ناس من الأعراب وغيرهم كان النبي صلى الله عليه وسلّم يألفهم
بالعطية كيما يؤمنوا، وقال معقل بن عبد الله: سألت الزهري عن الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، قال: من أسلم من يهودي أو نصراني، قلت: وإن كان غنيا؟ قال: وإن كان غنيا، وقال ابن عباس: هم قوم قد أسلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرضخ لهم من الصدقات، فإذا أعطاهم من الصدقة فأصابوا منها خيرا قالوا: هذا دين صالح، فإن كان غير ذلك عابوه وتركوه. وقال ابن كيسان: هم قوم من أهل الحرب كان النبي صلى الله عليه وسلّم يتألّفهم بالصدقات ليكفّوا عن حربه ، وقال الكلبي ويحيى بن أبي كثير وغيرهم: ذوو الشرف من الأحياء، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعطيهم في الإسلام يتألّفهم وهم الذين قسم بينهم يوم حنين الإبل، وهم: من بني مخزوم الحرث ابن هشام، وعبد الرحمن بن يربوع، ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب ومنهم من بني جمح صفوان بن أمية، ومن بني عامر بن لؤي سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، ومن بني أسد بن عبد العزى حكيم بن خزام، ومن بني هاشم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، ومن بني فزارة عيينة بن حصين، وحذيفة بن بدر، ومن بني تميم الأقرع بن حابس، ومن بني النضر مالك بن عوف بن مالك ومن بني سليم العباس بن مرداس، ومن بني ثقيف العلاء بن خارجة، أعطى النبي صلى الله عليه وسلّم كل رجل منهم مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى، قال وفي رواية أخرى: مخرمة بن نوفل، وعمير بن وهيب وهشام بن عمرو. وزاد الكلبي: أبا البعائل بن يعكل وجد بن قيس السهمي وعمرو بن مرداس وهشام بن عمرو. قال: أعطى كل واحد منهم خمسين ناقة «1» ، فقال العباس بن مرداس في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم: فأصبح نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع وقد كنت في الحرب ذا [قوّة] ... فلم أعط شيئا ولم أمنع الا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمه الأربع وكانت نهابا تلافيتها ... بكري على المهر في الأجرع وايقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع «2» فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلّم مائة ناقة، وأعطى حكيم بن حزام سبعين ناقة فقال: يا رسول الله ما كنت أدري أن أحدا أحق بعطائك مني فزاده عشرة أبكار، ثم زاده عشرة أبكار حتى أتمها له مائة، فقال حكيم: يا رسول الله أعطيتك التي رغبت عنها خير أم هذه التي زادت؟ قال: لا، بل هذه
التي رغبت فيها. فقال: لا آخذ غيرها، فأخذ السبعين، فمات حكيم وهو أكثر قريش مالا. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أعطي رجلا وأترك الآخر، والذي أترك أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أتألف هذا بالعطية، وأوكل المؤمن إلى إيمانه» [22] . وقال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس اليّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. ثم اختلفوا في وجود المؤلّفة اليوم وهل يعطون من الصدقة وغيرها أم لا؟، فقال الحسن: أما المؤلفة قلوبهم فليس اليوم، وقال الشعبي: إنه لم يبق في الناس اليوم من الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلمّا ولي أبو بكر انقطعت الرشى، وهذا تأويل أهل القرآن، يدل عليه حديث عمر بن الخطاب حين جاءه عيينة بن حصين، فقال الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إن الإسلام أجلّ من أن يرشى عليه، أي ليس اليوم مؤلّفة. وروى أبو عوانة عن مهاجر أبي الحسن، قال: أتيت أبا وائل وأبا بردة بالزكاة وهما على بيت المال فأخذاها، ثم جئت مرة أخرى فوجدت أبا وائل وحده فقال ردّها فضعها في مواضعها، قلت: فما أصنع بنصيب المؤلفة قلوبهم؟ فقال ردّه على الآخرين. وقال أبو جعفر محمد بن علي: [في الناس] اليوم المؤلفة قلوبهم ثابتة ، وهو قول أبي ثور قال: لهم سهم يعطيهم الامام قدر ما يرى. وقال الشافعي: المؤلّفة قلوبهم ضربان: ضرب مشركون فلا يعطون، وضرب مسلمون [إذا اعطاهم الإمام كفّوا شرهم عن المسلمين] ، فأرى أن يعطيهم من سهم النبي وهو خمس الخمس ما يتألّفون به سوى سهمهم مع المسلمين، يدلّ عليه أن النبي صلى الله عليه وسلّم أعطى المؤلّفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفشا الإسلام وأعزّ أهله، وأمّا سهمهم من الزكاة فأرى أن يصرف في تقوية الدين وفي سدّ خلة الإسلام ولا يعطى مشرك تألّف على الإسلام، ألا إنّ الله تعالى يغني دينه عن ذلك، والله أعلم. وَفِي الرِّقابِ مختصر أي في فك الرقاب من الرق، واختلفوا فيهم، فقال أكثر الفقهاء: هم المكاتبون، وهو قول الشافعي والليث بن سعد، ويروى أنّ مكاتبا قام إلى أبي موسى الاشعري وهو يخطب الناس يوم الجمعة فقال له: أيها الأمير حثّ الناس عليّ، فحث أبو موسى، فألقى الناس ملاءة وعمامة وخاتما حتى ألقوا عليه سوادا كثيرا، فلمّا رأى أبو موسى ما ألقى الناس، قال أبو موسى: أجمعوه فجمع، ثم أمر به فبيع فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب ولم يردّه على الناس، وقال إنما أعطى الناس في الرقاب «1» .
وقال الحسن وابن عباس: يعتق منه الرقاب وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور، وقال سعيد بن جبير والنخعي، لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة لكن يعطي منها في ميقات رقبة مكاتب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. قال الزهري: سهم الرقاب نصفان: نصف لكلّ مكاتب ممن يدّعي الإسلام، والنصف الثاني لمن يشتري به رقاب ممن صلّى وصام وقدّم إسلامه من ذكر وأنثى يعتقون لله «1» . وَالْغارِمِينَ قتادة: هم قوم غرقتهم الديون في غير إملاق ولا تبذير ولا فساد «2» . وقال مجاهد: من احترق بيته وذهب السيل بماله، وأدان على عياله «3» ، وقال أبو جعفر الباقر: الغارمون صنفان: صنف استدانوا في مصلحتهم أو معروف أو غير معصية ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد فيعطون في غرمهم، وصنف استدانوا في جمالات وصلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض إن بيعت أضرّ بهم فيعطى هؤلاء قدر عروضهم «4» . وذلك إذا كان دينهم في غير فسق ولا تبذير ولا معصية، وأما من ادان في معصية الله فلا أرى أن يعطى، وأصل الغرم الخسران والنقصان، ومنه الحديث في الرحمن له غنمه وعليه غرمه، ومن ذلك قيل للعذاب غرام، قال الله تعالى إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً وفلان مغرم بالنساء أي مهلك بهنّ، وما أشدّ غرامه وإغرامه بالنساء. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ فيهم الغزاة والمرابطون والمحتاجون. فأما إذا كانوا أغنياء فاختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: لا يعطى الغازي إلا أن يكون منقطعا مفلسا، وقال مالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور: يعطى الغازي منها وإن كان غنيا، يدلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدّق عليه فأهداها له» [23] «5» . وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المجتاز، سمّي ابن السبيل للزومه إيّاه، كقول الشاعر: أيا ابن الحرب رجّعني وليدا ... إلى أن شبت فاكتملت لداتي قال مجاهد والزهري: لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنيا إذا كان منتفعا به، وقال
مالك وفقهاء العراق: هو الحاج المنقطع، وقال الشافعي: ابن السبيل من [جيران] الصدقة الذين يريدون السفر في غير معصية فيعجزون من بلوغ سفرهم إلا بمعونة، وقال قتادة: هو الضيف. فَرِيضَةً واجبة مِنَ اللَّهِ وهو نصب على القطع في قول الكسائي، وعلى المصدر في قول سيبويه أي: فرض الله هذه الأشياء فريضة، وقال إبراهيم بن أبي عبلة: رفع فَرِيضَةٌ فجعلها خبرا كما تقول: إنّما يزيد خارج وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. واختلف العلماء في كيفية قسم الصدقات المذكورة في هذه الآية، [وهل] يجب لكل صنف من هؤلاء الأصناف الثمنية فيها حق، أو ذلك إلى رب المال ومن يتولى قسمها في أن له أن يعطي جميع ذلك من شاء من الأصناف الثمنية، فقال بعضهم: له قسمها ووضعها في أي الأصناف يشاء وإنما سمّى الله تعالى الأصناف الثمانية في الآية إعلاما منه إن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجاد القسمة بينهم، وهو قول عمر بن الخطاب وحذيفة وابن عباس وابن [جبير] وعطاء وأبي العالية وميمون بن مهران وأبي حنيفة. أخبرنا عبد الله بن حامد. أخبرنا أبو بكر الطبري. حدّثنا علي بن حرب، أخبرنا ابن فضيل، حدّثنا عطاء عن سعيد إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ الآية، أيّ هذه الأصناف وجدت أجزاك أن تعطيه صدقتك، ويقول أبو حنيفة: يجوز الاقتصار على رجل واحد من الفقراء، وقال مالك يخصّ بأمسّهم حاجة. كان الشافعي يجري الآية على ظاهرها ويقول: إذا تولّى رب المال قسمتها فإن عليه وضعه في ثلاثة أصناف لأن سهم المؤلّفة ساقط، وسهم العاملين يبطل بقسمته إياها، فإذا تولّى الإمام قسمتها فإن عليه أن يقسمها على سبعة أصناف، يجزيه أن يعطي من كل صنف منهم أقل من ثلاثة أنفس ولا يصرف السهم ولا شيئا منه عن أهله أحد يستحقه، ولا يخرج من بلد وفيه أحد يردّ حقه ممّن لم يوجد من أهل السهام على من وجد منهم، وهذا قول عمر بن عبد العزيز، وعكرمة والزهري. ثمّ رجع إلى ذكر المنافقين وقال: وَمِنْهُمُ يعني من المنافقين الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ نزلت في حزام بن خالد، والجلاس بن سويد، وإياس بن قيس، ومخشي بن خويلد، وسمّاك بن يزيد، وعبيد بن هلال ورفاعة بن المقداد، وعبيدة بن مالك، ورفاعة بن زيد، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلّم ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضهم: لا تفعلوا ما يقولون فيقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول: فإنّما محمد أذن سامعة فأنزل الله هذه الآية «1» .
وقال محمد بن إسحاق عن يسار وغيره نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نهشل بن الحرث، وكان حاسر الرأس أحمر العينين أسفح الخدين مشوّه الخلقة، وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أراد أن ينظر الى الشيطان فلينظر إلى نهشل بن الحرث» [24] «1» ، وكان ينمّ حديث النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن، من حدّثه شيئا يقبل، نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له ويصدقنا عليه، فأنزل: الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ يسمع من كل واحد ويقبل ما يقال له ومثله أذنة على وزن فعلة ويستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع، وأصله: أذن يأذن أذنا إذا استمع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم: ما اذن الله لشيء كأذنه لنبي بمعنى القرآن ، وقال عدي بن زيد: أيها القلب تعلل بددن ... إن همي في سماع وأذن «2» وقال الأعشى: صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا «3» وكان استأذنا أبو القاسم الحبيبي يحكي عن أبي زكريا العنبري عن ابن العباس الازهري عن أبي حاتم السجستاني أنّه قال: هُوَ أُذُنٌ أي ذو أذن سامعة. قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ قراءة العامة بالإضافة أي أذن خير لا أذن شرّ، وقرأ الحسن والأشهب العقيلي: والأعمش والبرجمي: أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ مرفوعا من المنافقين ومعناه: إن كان محمدا كما تزعمون بأن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم. ثم كذّبهم فقال يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعلمهم، وقيل: يقال أمنتك وأمنت لك بمعنى صدقتك كقوله: الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ «4» أي [..........] «5» ربهم وَرَحْمَةٌ قرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة: (ورحمة) عطفا على معنى أذن خير وأذن شر في قول عبد الله وأبي، وقرأ الباقون: (وَرَحْمَةٌ) بالرفع أي: هو أذن خير، وهو رحمة، جعل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلّم مفتاح الرحمة ومصباح الظلمة وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ قال قتادة والسدّي: [اجتمع نفر] من المنافقين منهم جلاس بن سويد وذريعة بن ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلّم
وقالوا: لئن كان ما يقول محمد حق لنحن شر من الحمير، وكان سمعهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس، فحقروه وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلام وقال: والله إنّ ما يقوله محمد حق وأنتم شر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا إن عامرا كذّاب، وحلف عامر أنهم كذبة، فصدقهم النبي صلى الله عليه وسلّم فجعل عامر يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب، وقد كان قال بعضهم في ذلك: يا معشر المنافقين والله إني شر خلق الله، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية «1» . وقال مقاتل والكلبي: نزلت هذه الآية في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلّفهم، ويطلبون ويحلفون، فأنزل الله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وقد كان حقه يرضوهما وقد مضت هذه المسألة، قال الشاعر: ما كان حبك والشقاء لتنتهي ... حتى يجازونك في مغار محصد أي الحبل. أَلَمْ يَعْلَمُوا وقراءة العامة بالياء على الخبر، وقرأ السلمي بالتاء على الخطاب أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ، قال مجاهد: كانوا يقولون القول بينهم ثم يقولون: عسى الله أن لا يفشي سرّنا فقال الله لنبيّه متهددا قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة الفاضحة والمثيرة والمبعثرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم. قال الحسن: كان المسلمون يسمّون هذه السورة الحفّارة، حفرت ما في قلوب المنافقين فأظهرته. قال ابن كيسان نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا حلأها، ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه وتنكروا له في ليلة مظلمة فأخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قدموا له، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، وعمار بن ياسر يقود برسول الله صلى الله عليه وسلّم وحذيفة يسوق به. فقال لحذيفة: اضرب بها وجوه رواحلهم، فضربها حتى نحاهم، فلمّا نزل قال لحذيفة: هل عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّهم فلان وفلان حتى عدهم كلّهم، فقال حذيفة ألا تبعث إليهم فتقتلهم، قال: «أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيكم الله الدبيلة» قيل: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: «شهاب من جهنم يوضع على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه فكان كذلك» [25] «2» .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ الآية، قال ابن عمر وقتادة وزيد بن أسلم ومحمد ابن كعب: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك: ما رأيت مثل [قرائنا] هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد ارتحل وركب ناقة فقال: يا رسول الله إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ونتحدث بحديث الركب يقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم والحجارة تنكبه وهو ويقول: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلّم أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ فالتفت إليه وما يزيده عليه «1» . وقال قتادة: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا أيظن هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيّه على ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: احبسوا عليّ الركب، فدعاهم فقال لهم: قلتم كذا وكذا، فقالوا يا نبي الله إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وحلفوا على ذلك، فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقال مجاهد: قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا وما يدريه ما الغيب، فأنزل الله هذه الآية ، وقال ابن كيسان: نزلت في وديعة بن ثابت وهو الذي قال هذه المقالة، وقال الضحاك: نزلت في عبد الله بن أبي ورهطه كانوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه ما لا ينبغي، فإذا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك قالوا: إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قال الله عز وجل: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بقولكم هذا بَعْدَ إِيمانِكُمْ إقراركم إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً قراءة العامة بضم الياء والتاء على غير تسمية الفاعل، وقرأ عاصم: إِنْ نَعْفُ بنون مفتوحة وفاء مضمومة، نُعَذِّبْ بالنون وكسر الذال طائِفَةٍ بالنصب، والطائفة في هذه الآية رجل يقال له مخشي بن حمير الأشجعي، أنكر عليهم بعد ما سمع ولم يمالئهم عليه وجعل يسير مجانبا لهم، فلمّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ اعنى بها، تقشعر منها الجلود وتجل وتجب «2» فيها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة فيمن قتل فما أحد من المسلمين الا وجدوه وعرف مصرعه غيره «3» .
وقيل: معناه إن يتب على طائفة منكم فيعفو الله عنهم ليعذب طائفة بترك التوبة بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي شكل بعض وعلى دين بعض، يعني إنهم صنف واحد وعلى أمر واحد، ثم ذكر أمرهم فقال يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر والمعصية وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ عن الإيمان والطاعة وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ يمسكونها ويكفّونها عن الصدقة والنفقة في الحق ولا يبسطونها بالخير، وأصله: إنّ المعطي يمد يده ويبسطها بالخير، فقيل: لمن بخل ومنع قد قبض يده، ومنه قوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي ممسكة عن النفقة. نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ تركوا طاعة الله فتركهم الله من توفيقه وهدايته في الدنيا ومن رحمته المنجية من عذابه وناره في العقبى إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ كافيتهم عذابا وجزاء على كفرهم وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم وأبعدهم من رحمته وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني فعلتم كفعل الذين كانوا من قبلكم ولعنتم وعذّبتم كما لعن الذين كانوا من قبلكم من كفار الأمم الخالية كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً بطشا ومنعة وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا وتمتعوا وانتفعوا بِخَلاقِهِمْ بنصيبهم من الدنيا ورضوا به عوضا من الآخرة. قال أبو هريرة: الخلاق «1» : الدين فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ في الباطل والكذب على الله وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين كَالَّذِي خاضُوا أراد كالذين خاضوا وذلك أن (الذي) اسم ناقص مثل (ما) و (من) يعبّر بها عن الواحد والجميع نظير قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ثم قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ «2» قال الشاعر: وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد «3» وأن شئت جعلت (الذي) إشارة إلى ضمير، وقوله: خضتم كالخوض الذي خاضوا فيه إلى قوله الْخاسِرُونَ. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم: لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع، حتى لو أن أحد من ثمّ أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه، قال أبو هريرة اقرءوا إن شئتم كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً الآية، قالوا: يا رسول الله كما صنعت
[سورة التوبة (9) : الآيات 70 إلى 72]
فارس والروم وأهل الكتاب، قال: «وهل الناس إلا هم» «1» [26] «2» . قال ابن عباس في هذه الآية: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، وقال ابن مسعود: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، تتبعون عملهم حذو القذّة بالقذّة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا «3» . وقال حذيفة: المنافقون الذين فيكم اليوم شرّ من المنافقين الذي كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه. [سورة التوبة (9) : الآيات 70 الى 72] أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) أَلَمْ يَأْتِهِمْ يعني المنافقين والكافرين نَبَأُ خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا كيف أهلكناهم وعذّبناهم ثم ذكرهم. فقال قَوْمِ نُوحٍ بالمعنى بدلا من الذين أهلكوا بالطوفان وَعادٍ أهلكوا بالريح وَثَمُودَ أهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ بسلب النعمة وهلاك نمرود وَأَصْحابِ مَدْيَنَ يعني قوم شعيب بعذاب يوم الظلّة وَالْمُؤْتَفِكاتِ المنقلبات التي جعلت عاليها سافلها، وهم قوم لوط أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فكذبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفّار فاحذروا بتعجيل النقمة فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ إلى قوله بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الدين والملة والعون والنصرة والمحبة والرحمة. قال جرير بن عبد الله سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «المهاجرون والأنصار بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الدنيا والآخرة» ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الدنيا والآخرة» [27] «4» ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالإيمان والخير وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة. قال أبو العالية كلّما ذكر الله تعالى في كتابة من الأمر بالمعروف فهو رجوع من الشرك إلى
الإسلام، والنهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأوثان والشيطان وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ إلى قوله وَمَساكِنَ طَيِّبَةً ومنازل طيبة. قال الحسن: سألت أبا هريرة وعمران بن حصين عن قول الله وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ. قالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «قصر في الجنة من لؤلؤ فيه سبعون دار من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون فراشا، على كل فراش زوجة من الحور العين، وفي كل بيت مائدة وعلى كل مائدة سبعون لونا من الطعام، وفي كل بيت وصيفة، ويعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع» [28] «1» . فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ في بساتين ظلال وإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ، يقول الله: طوبى لمن دخلك» [29] . وقال عبد الله بن مسعود: هي بطنان الجنة أي وسطها، وقال ابن عباس: سألت كعبا عن جنات عدن فقال: هي الكروم والأعناب بالسريانية «2» ، وقال عبد الله بن عمر: إنّ في الجنة قصرا يقال له عدن، حوله البروج، والمروج، له خمسة آلاف باب، على كل باب [حبرة] لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. قال الحسن: جَنَّاتِ عَدْنٍ، وما أدراك ما جَنَّاتِ عَدْنٍ، قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل، ورفع به صوته. [في حديث آخر قصر] في الجنة يقال له: عدن، حوله البروج والمروج له خمسون ألف باب، وقال الضحاك: هي مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، والناس حولهم بعد، والجنان حولها. وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة جناته على حافتيه، وقال مقاتل والكلبي: أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها وهي مغطاة من يوم خلقها الله عز وجل حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله، وفيها قصور الدرة والياقوت والذهب، فتهب الريح الطيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأحلى، وقال عطاء الخراساني في قوله: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قال: قصر من الزبرجد والدرّ والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في جنات عدن، وهي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ رفع على الابتداء، أي رضا الله عنهم أكبر من ذلك كله.
[سورة التوبة (9) : الآيات 73 إلى 74]
روى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربّنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من رضاك؟ فيقول: ألا أعلمكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» [30] «1» . ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف والقتال وَالْمُنافِقِينَ. اختلفوا في صفة جهاد المنافقين، قال ابن مسعود: بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فاكفهر «2» في وجهه. قال ابن عباس: باللسان وشدة الزجر بتغليظ الكلام، قال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم، ثم قال وَمَأْواهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ قال [ابن مسعود وابن عباس] وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو [والصلح] والصفح. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، إذا جاء فلا تكلّموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية «3» . وقال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال النبي: «يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟» [31] فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قالوا بشيء من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذابا لهم «4» .
وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت [لأنّ] رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطب ذات يوم بتبوك وذكر المنافقين فسمّاهم رجسا وعابهم، فقال الجلاس: والله إن كان محمد صادقا فيما يقول فنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس، فقال: أجل والله إن محمدا لصادق مصدق وأنتم شر من الحمير. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلّاس: كذب يا رسول الله عليّ، ما قلت شيئا من ذلك، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يحلفا عند المنبر بعد العصر، فحلف بالله الذي لا إله إلّا هو ما قاله، وإنه كذب عليّ عامر، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلّا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر بيديه إلى السماء فقال: اللهم أنزل على نبيك الصادق منا المصدّق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون: آمين، فنزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وسلّم قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ فقام الجلاس، فقال: يا رسول الله أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس في ذلك، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك منه ثم تاب فحسن توبته. قال قتادة: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا: رجلا من جهينة، ورجلا من غفار، وكانت جهينة حلفاء الأنصار، وظفر الغفاري على الجهيني، فنادى عبد الله بن أبي: أيّها الأوس انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك. ثم قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأرسل صلى الله عليه وسلّم إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله عز وجل: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ. قال مجاهد: هم المنافقون بنقل المؤمن الذي يقول لنحن شر من الحمير لكي لا يفشيه عليه. قال السدي: قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا يباهي به [...........] «1» إليه. وقال الكلبي: هم خمسة عشر رجلا منهم عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعمة بن أبيرق والجلاس بن سويد وعامر بن النعمان وأبو الأحوص، همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك فأخبر جبرائيل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقيل: إنهم من قريش هموا في قتل النبي صلى الله عليه وسلّم فمنعه الله عز وجل. جابر عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية قال: همّ رجل من قريش يقال له
[سورة التوبة (9) : الآيات 75 إلى 78]
الأسود بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَما نَقَمُوا منه، ما أنكروا منه ولا [ينقمون] إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [ويقال: إنّ القتيل] مولى الجلاس قتل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى ، وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلّم في ضنك من عيشهم، لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة، فلمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلّم استغنوا بالغنائم ، وهذا مثل مشهور: اتّق شر من أحسنت إليه. ثم قال الله عز وجل فَإِنْ يَتُوبُوا من نفاقهم وكفرهم يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يعرضوا عن الإيمان يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل والخزي وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآية. روى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم أتاه بعد ذلك. فقال: يا رسول الله أدع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ولَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، والذي نفسي بيده لو أردت أن تصير الجبال معي ذهبا وفضة لصارت» ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطينّ كلّ ذي حق حقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم ارزق ثعلبة مالا» [32] . قال: فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها، فنزل واديا من أوديتها وهي تنمو كما تنمو الدود، وكان يصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلّم الظهر، ويصلّي في غنمه ساير الصلوات، ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد إلا الجمعة، ثم كثرت ونمت فتباعد حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة، فكان إذا كان يوم الجمعة يمر على الناس يسألهم عن الأخبار، فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسأل ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ قالوا يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما ما يسعها واد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة» وأنزل الله تعالى آية الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلا من بني سليم ورجل من جهينة وكتب لهما إتيان الصدقة
وكيف يأخذان وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مرّا بثعلبة بن حاطب ورجل من بني سليم فخذا صدقاتهما» . فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وقرءا له كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ، فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان ابله، فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلمّا زادها قالا: ما هذا عليك، قال: خذاه فإن نفسي بذلك طيبة، فمرّا على الناس وأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما فقرأه ثم قال: ما هذه إلا جزية، ما هذه الا أخت الجزية، اذهبا حتى أرى رأيي، قال: فأقبلا فلمّا رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يتكلّما قال: «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة» ثم دعا للسلمي بخير فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، فأنزل الله فيه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إلى قوله وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجل من أقارب ثعلبة فسمع قوله فخرج حتى أتاه فقال: ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله عز وجل فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فسأله أن يقبل منه الصدقة. فقال: «إن الله تعالى منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثي على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني» [33] فلما نهى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يقبض ولم يقبل منه شيئا ثم أتى أبا بكر (رضي الله عنه) حين استخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا أقبلها؟ فلم يقبل، وقبض أبو بكر فلم يقبلها، فلمّا ولي عمر (رضي الله عنه) أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فقال: لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا أبو بكر، أنا لا أقبلها، فقبض عمر ولم يقبلها، ثم ولي عثمان فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها منك رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، أنا لا أقبلها منك، فلم يقبلها منه وهلك في خلافة عثمان «1» . وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة: أتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله أتيت منه كل ذي حق حقه، وتصدّقت منه، ووصلت القرابة، فمات ابن عم له فورثه مالا فلم يوف بما قال، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. وقال مقاتل: مرّ ثعلبة على الأنصار وهو محتاج، فقال: لئن آتاني الله من فضله لأصّدقن ولأكوننّ من الصالحين فآتاه الله من فضله وذلك أن مولى لعمر بن الخطاب قتل رجلا من المنافقين خطأ فدفع النبي صلى الله عليه وسلّم ديته إلى ثعلبة، وكان قرابة المقتول فبخل ومنع حق الله فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وقال الحسن ومجاهد: نزلت هذه الآية في ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما رجلان من بني عمرو بن عوف خرجا على ملأ قعود فقالا: والله لئن رزقنا الله لنصّدقنّ، فلمّا رزقهما الله تعالى بخلا. وقال الضحاك: نزلت في رجال من المنافقين [نبتل] بن الحرث وجدّ بن قيس وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير قالوا: لَئِنْ آتانا الله مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ، ... فَلَمَّا آتاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ وبسط لهم الدنيا بَخِلُوا بِهِ ومنعوا الزكاة. وقال الكلبي: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، كان له مال بالشام فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف بالله: لئن آتانا الله من فضله من رزقه يعني المال الذي بالشام لأصدّقن منه ولأصلنّ ولآتين حق الله منه، فآتاه الله ذلك المال فلم يفعل ما قال، فأنزل الله عزّ وجلّ وَمِنْهُمْ يعني من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا الله مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولنوفّينّ حق الله منه وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي نعمل ما يعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم والنفقة في الخير فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ فأتبعهم، وقيل فجازاهم ببخلهم. قال النابغة: فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وادلله على الرشد «1» نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ حرمهم الله التوبة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ قال معبد بن ثابت: إنما هو [شيء] ظاهر في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع قول الله عزّ وجلّ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ؟ عن مسروق عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خصم فجر» [34] «2» . الأشعث عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وزعم أنه مؤمن. إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، إذا أؤتمن خان» [35] . وقال عبد الله بن مسعود اعتبروا المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، أنزل الله تصديق ذلك في كتابه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ إلى قوله كانُوا يَكْذِبُونَ، وهذا خبر صعب الظاهر. فمن لم يعلم تأويله عظم خطؤه وتفسيره. أخبرني شيخي الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر، قال: أخبرني أبي عن جدي
الحسين بن جعفر، قال: حدّثنا محمد بن يزيد السلمي، قال: حدّثنا عمار بن قيراط عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال: كنت على قضاء سمرقند فقرأت يوما حديث المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق: إذا حدّث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف» [36] . فتوزع فيه فكري وانقسم قلبي وخفت على نفسي وعلى جميع الناس وقلت من ينجو من هذه الخصال؟ [فأخللت] بالقضاء وأتيت بخارى وسألت علماءها فلم أجد فرجا، فأتيت مرو فلم أجد فرجا، فأتيت نيشابور فلم أجد عند علمائها فرجا، فبلغني أن شهر بن حوشب بجرجان فأتيته وعرضت عليه قصتي وسألت عن الخبر، فقال لي: لم [أكن] أنا [حين] سمعت هذا الخبر كالحبة على المقلاة «1» خوفا فأدرك سعيد بن جبير فأنه متولد بالريّ فاطلبه وسله لعلك تجد لي ولك، وسمعت أن عنده فرجا، فأتيت الري وطلبت سعيدا فأتيته وعرضت عليه القصة وسألته عن معنى الخبر. فقال: أنا كذلك خائف على نفسي منذ بلغني هذا الخبر، وأنا خائف عليك وعلى نفسي من هذه الخصال: ولقد قاسيت وعانيت سفرا طويلا وبلايا فعليك بالحسن البصري فإني أرجو أنك تجد عنده لي ولك وللمسلمين فرجا، فأتيت البصرة وطلبت الحسن وقصصت عليه القصة بطولها، فقال رحم الله شهرا قد بلغها النصف من الخبر ولم يبلغهما النصف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قال هذا الخبر شغل قلوب أصحابه [وهابوا] أن يسألوه، فأتوا فاطمة وذكروا لها شغل قلوبهم بالخبر، فأتت فاطمة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته شغل قلوب أصحابه، فأمر سلمان فنادى الصلاة جامعة، فلمّا اجتمعوا صعد المنبر فقال: «يا أيها الناس أما إنّي كنت قلت: ثلاث من كنّ فيه فهو منافق: إذا حدّث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف، ما عنيتكم بها، إنّما عنيت بها المنافقين، إنما قولي: إذا حدّث كذب فإن المنافقين أتوني وقالوا لي: والله إن إيماننا كإيمانك وتصديق قلوبنا كتصديق قلبك، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الآية، وأما قولي: إذا أؤتمن خان: فإن الأمانة الصلاة والدين كلّه أمانة، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا وفيهم قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ وأما قولي: إذا وعد أخلف، فإنّ ثعلبة بن حاطب أتاني فقال: إني فقير ولي غنيمات فادع الله أن يبارك فيهن، فدعوت الله فنمت وزادت حتى ضاقت الفجاج بها، فسألته الصدقات فأبى عليّ وبخل بها، فأنزل الله عزّ وجلّ وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ إلى قوله بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ» [37] .
فسرّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكبّروا وتصدّقوا بمال عظيم «1» . وروى القاسم بن بشر عن أسامة عن محمد [المخرمي] قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: [من] إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» [38] «2» فقال الحسن: يا أبا سعيد والله لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني فتقاضاني وليس عندي فخفت أن يحبسني ويهلكني فوعدته أن أقضيه رأس الهلال فلم أفعل أمنافق أنا؟! هكذا جاء الحديث. ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو أن أباه لما حضره الموت قال: زوّجوا فلانا فإني وعدته أن أزوجه، لا ألقى الله بثلث النفاق، قال: قلت: يا أبا سعيد ويكون ثلث الرجل منافقا وثلثاه مؤمنا؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال محمد: فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح فأخبرته بالحديث الذي سمعته من الحسن وما الذي قلت له عن المنافق وما قال لي: فقال لي أعجزت أن تقول له: أخبرني عن إخوة يوسف ألم يعدوا أباهم فأخلفوه وحدثوه فكذبوه وائتمنهم فخانوه أفمنافقين كانوا ألم يكونوا أنبياء، أبوهم نبيّ وجدّهم نبيّ؟ فقلت لعطاء: يا أبا محمّد حدّثني بأصل هذا الحديث، فقال: حدّثني جابر بن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي صلى الله عليه وسلّم فكذبوه وائتمنهم على سرّه فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه، قال: فخرج أبو سفيان من مكة فأتى جبريل فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» [39] فكتب رجل من المنافقين إليه: إن محمدا يريد بعثكم فأنزل الله عزّ وجلّ لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ «3» وأنزل في المنافقين وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا إلى قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْذِبُونَ. قال: إذا أتيت الحسن فاقرأه مني السلام فأخبره أصل هذا الحديث وبما قلت لك. فقدمت على الحسن وقلت: يا أبا سعيد إن أخاك محمّدا يقرئك السلام، فأخبرته بالحديث الذي حدث. فأخذ الحسن يدي فأحالها وقال: يا أهل العراق أعجزتم أن تكونوا مثل هذا، سمع منا حديثا فلم يقبله حتى استنبط أصله، صدق عطاء هكذا الحديث في المنافقين خاصة «4» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 79 إلى 91]
[سورة التوبة (9) : الآيات 79 الى 91] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ قال أهل التفسير: حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف فجئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، فأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» [40] . فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى مات وعنده امرأتين يوم مات فبلغ ثمن مالهما مائة وستون ألف درهم لكل واحدة منهما ثمانون ألفا، وتصدّق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وستين وسقا من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري- واسمه الحباب- بصاع من تمر وقال: يا رسول الله بت ليلتي أجرّ بالجرير أحبلا حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لأهلي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ينثره في الصدقات، فلمزهم المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلّا رياء، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبي عقيل، ولكنه أحبّ أن يزكي نفسه ليعطي الصدقة «1» فأنزل الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أي يعيبون ويغتابون الْمُطَّوِّعِينَ المتبرعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ.
وقال النضر بن شميل: هو الطيب نفسه في الصدقة يعني عبد الرحمن وعاصم. وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ طاقتهم يعني أبا عقيل. قرأ عطاء والأعرج: جَهْدَهُمْ بفتح الجيم، وهما لغتان مثل الجهد والجهيد، والضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة أهل نجد. وكان الشعبي يفرق بينهما فيقول الجهد: في العمل والجهد في القوة، وقال القتيبي في الجهد: الطاقة والجهد المشقة فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أو جازاهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. روى ابن عليّة عن الحريري عن أبي العليل قال: وقف على الحجر رجل فقال: حدثني أبي أو عمّي قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يقول: «من يصّدق اليوم بصدقة أشهد له بها عند الله يوم القيامة» . قال: وعليّ عمامة لي فنزعت منها لوثا أو لوثين لأتصدق بها ثم أدركني بما يدرك ابن آدم فعصّبت بها رأسي، قال: فجاء رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصر قامة ولا أشدّ سواد ولا أدم منه يقود ناقة لم أر بالبقيع ناقة أحسن ولا أجمل منها. فقال: هي وما في بطنها صدقة يا رسول الله، فألقى إليه بخطامها قال: فلمزه رجل جالس فقال: والله لم يتصدق بها ولهي خير منه. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «بل هو خير منك ومنها «1» » [41] ، يقول ذلك مليا فأنزل الله عزّ وجل هذه الآية ثم قال اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يعني لهؤلاء المنافقين أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لفظه [أمر ومعناه] جزاء تقديره: إن أستغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ والسبعون عند العرب غاية تستقصى بالسبعة، والأعضاء، والسبعة تتمة عدد الخلق، كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم. ورأيت في بعض التفاسير: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً بإزاء صلواتك على [قبر] حمزة «2» لن يغفر الله لهم. قال الضحاك: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله قد رخّص لي فسأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم» [42] . فأنزل الله عزّ وجلّ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «3» . وذكر عروة بن الزبير أن هذه الآيات نزلت في عبد الله بن أبي حين قال لأصحابه: لولا أنكم تنفقون على محمد وأصحابه لانفضّوا من حوله، ثمّ قال: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فأنزل الله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لأزيدن على السبعين»
[43] فأنزل الله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فأبى الله أن يغفر لهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ عن غزوة تبوك بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ قال قطرب والمؤرخ: يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا، وقال أبو عبيدة: يعني بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) . وأنشد الحرث بن خالد: عقب الربيع خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا «1» أي بعدهم، ويدل على هذا التأويل قراءة عمرو بن ميمون: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ وكانت غزوة تبوك في شدة الحر قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ يعلمون ذلك، هو في مصحف عبد الله فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا في الدنيا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال أبو موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار حتى لو أجريت السفن من دموعهم لجرت، ثمّ إنهم ليبكون الدم بعد الدموع ولمثل ما هم فيه فليبكي. وقال ابن عباس: إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا فلا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم. شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال أنس: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا كثيرا فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ رجعك الله من غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ يعني من المخلّفين فإنما قال طائفة منهم لأنه ليس كل من تخلّف عن تبوك كان منافقا فَاسْتَأْذَنُوكَ في أن يكونوا في غزاة أخرى فَقُلْ لهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا عقوبة لهم على تخلّفهم إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بمعنى تخلّفوا عن غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ قال ابن عباس: الرجال الذين تخلفوا بغير عذر. الضحاك: النساء والصبيان والمرضى والزمنى، وقيل: مَعَ الْخالِفِينَ. قال الفراء: يقال: عبد خالف وتخالف إذ كان مخالفا، وقيل: [ضعفاء] الناس ويقال: خلاف أهله إذ كان ذويهم، وقيل مع أهل الفساد من قولهم: خلف الرجل على أهله يخلف خلوفا إذ فسد، ونبيذ خالف أي فاسد [من قولك] : خلف اللبن خلوفا إذا حمض من طول وضعه في السقاء، وخلف فم الصائم إذا تغيّرت ريحه، ومنه خلف سوء، وقرأ مالك بن دينار: مع المخالفين. وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً قال المفسرون- بروايات مختلفة: بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مريض فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له: أهلكك يهود، فقال: يا رسول الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله أن
يكفنه في قميصه ويصلي عليه، فلما مات عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي (عليه السلام) ودعاه إلى جنازة أبيه فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: ما اسمك؟ قال: الحباب بن عبد الله فقال صلى الله عليه وسلّم: «أنت عبد الله بن عبد الله، فإنّ الحباب هو الشيطان» [44] «1» . ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما قام قال له عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : يا رسول الله تصلي على عدو الله ابن أبي القائل يوم كذا وكذا، وجعل يعد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يبتسم حتى إذا أكثر عليه قال: عني يا عمر إنما خيرني الله فاخترت، قيل لي اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ هو أعلم فإن زدت على السبعين غفر له؟؟ ثم شهّده وكفّنه في قميصه ونفث في جنازته «2» ودلاه في قبره. قال عمر (رضي الله عنه) : فعجبت من جرأتي على رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) . فما لبث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلّا يسيرا حتى نزلت وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تصلي على قبره بمحل لا تتولّ دفنه: من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض، وعيّر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه» [45] «3» . قال الزجاج: فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستغفار بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وذكروا أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم أسرّ إلى حذيفة أثني عشر رجلا من المنافقين فقال ستة يكفيهم الله بألف مائة شهاب «4» من نار تأخذ كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتا. فسأل عمر حذيفة عنهم فقال: ما أنا بمخبرك أحد منهم ما كان حيا. فقال عمر: يا حذيفة أمنهم أنا؟ قال: لا. قال: أفي أصحابي منهم أحد. فقال: رجل واحد. قال: قال: فكأنما دلّ عليهم عمر حتى نزعه من غير أن يخبره به «5» . وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها الآية وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ الغني منهم جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأمثالهما وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ ورحالهم رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ
يعني النساء وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ يعني الحسنات. وقال المبرد: يعني الجواري الفاضلات. قال الله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ «1» واحدها الخيرة وهي الفاضلة من كل شيء. قال الشاعر: ولقد طعنت مجامع الربلات ... ربلات هند خير الملكات «2» وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ الآية وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ قرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن والضحاك وحميد ويعقوب ومجاهد وقتيبة: المعذرون خفيفة، ومنهم المجتهدون المبالغون في العذرة، وقال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم تبوك خوفا على أنفسهم فقالوا: يا رسول الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيّ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم: «قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنيني الله عنكم» [46] . قال ابن عباس: هم الذين تخلفوا بغير إذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأن الميم لا تدغم في العين، وقرأ مسلمة: المعّذّرون بتشديد العين والذال ولا وجه لها لأن الميم لا يدغم في العين لبعد مخرجيهما، وقرأ الباقون: بتشديد الذال، وهم المقصرون. يقال: أعذر في الأمر بالمعذرة وعذر إذا قصر. وقال الفراء: أصله المعتذر فأدغمت التاء في الذال وقلبت حركة التاء إلى العين. وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ قراءة العامة بتخفيف الذال يعنون المنافقين، وقرأ أبي والحسن: كَذَّبُوا اللَّهَ بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ثم ذكر أهل العذر فقال لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ قال ابن عباس: يعني الزمنى والمشايخ والعجزة وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ يعني الفقراء حَرَجٌ إثم إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ في مغيبهم ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 92 إلى 105]
[سورة التوبة (9) : الآيات 92 الى 105] وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) قال قتادة نزلت في عايد بن عمرو وأصحابه، وقال الضحاك: في عبد الله بن زائد وهو ابن أم مكتوم وكان ضرير البصر فقال: يا نبي الله إني شيخ ضرير البصر خفيف الحال نحيف الجسم وليس لي فائدة هل لي رخصة في التخلف عن الجهاد؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ نزلت في البكائين وكانوا سبعة: معقل بن يسار وصخر بن خنساء «1» . وهو الذي واقع امرأته في رمضان فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يكفّر «2» - وعبد الله بن كعب الأنصاري وعلبة بن زيد الأنصاري وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن معقل أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله إن الله عزّ وجلّ قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزوا معك، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فتولوا وهم يبكون «3» فذلك قوله تعالى: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ قال مجاهد: نزلت هذه الآية [في عبد الله وعبد الرحمن وعقيل والنعمان وسويد]
[وسنان] «1» إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ الآية يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أن نصدّقكم قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ فيما بعد أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من المحسن والمسيء سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ انصرفتم إِلَيْهِمْ عندهم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [لتصفحوا عن جرمهم ولا] تردونهم ولا تؤنبونهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ودعوهم وما اختاروا لأنفسهم من الشأن والمعصية إِنَّهُمْ رِجْسٌ نجس، قال عطاء: أن عملهم نجس وَمَأْواهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال ابن عباس: نزلت في جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا قدموا المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم» [47] «2» . وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف النبي صلى الله عليه وسلّم بالذي لا إله إلّا هو أن لا يرضى عنهم بعدها، وليكون معه على عدوه وطلب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أن يرضى عنه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الْأَعْرابُ يعني أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر وَأَجْدَرُ أحرى وأولى أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال قتادة: هم أقل علما بالسنن. وروى الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو مع أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال الأعرابي: والله ما أدري إن حديثك ليعجبني وإنّ يدك لترعبني فقال: أي يد من يدي «3» إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً الآية «4» وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً قال عطاء: لا يرجو على إعطائه ثوابا ولا يخاف على إمساكه لها إنما ينفق خوفا رياء وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ يعني صروف الزمان التي تأتي مرّة بالخير ومرّة بالشرّ. قال: أن متى ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ قرأ ابن كثير وابن محصن ومجاهد وأبو عمرو بضم السين هاهنا وفي سورة الفتح، ومعناه الشر والضر والبلاء والمكروه، وقرأ الباقون على الفتح بالمصدر واختاره أبو عبيد وأبو حاتم في هذه الآية مِنَ الْأَعْرابِ أسد وغطفان وتميم واعراب حاضري المدينة ثم استثنى فقال
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مجاهد: هم بنو مقرن من مزينة وقال الضحاك: يعني عبد الله ذا النجادين ورهطه. وقال الكلبي أسلم وغفار بنو جهينة وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ جمع قرابة وَصَلَواتِ الرَّسُولِ يعني دعاءه واستغفاره أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا منازلهم وأوطانهم وَالْأَنْصارِ الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أعدائه من أهل المدينة وأيّدوا أصحابه وقد كانوا آمنوا قبل أن يهاجروا إليهم بحولين وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ يعني الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاء: هم الذين يذكرون المهاجرين بالوفاء والترحّم والدعاء ويذكرون مجاورتهم ويسألون الله أن يجمع بينهم. وروي أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قرأ: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان برفع الواو وحذف الواو من الذين، قال له أبيّ بن كعب: إنما هو وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ وإنه قد كرّرها مرارا ثلاثة، فقال له: إني والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، وإنك يومئذ شيخ تسكن ببقيع الغرقد، قال: حفظتم ونسينا وتفرغتم وشغلنا وشهدتم وغبنا ثم قال عمر لأبيّ: أفيهم الأنصار؟ قال: نعم ولم يستأمن الخطاب ومن ثمّ قال عمر: قد كنت أظن إنّا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا فقال أبي: بلى، تصديق ذلك أول سورة الجمعة وأواسط سورة الحشر وآخر سورة الأنفال. قوله: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ إلى آخره وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ إلى آخر الآية، وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ، وقرأ الحسن وسلام ويعقوب: والأنصار رفعا عطفا على السابقين ولم يجعلوهم منهم وجعلوا السبق للمهاجرين خاصة والمقاسة على الخبر نسقا على المهاجرين. واختلف العلماء في السابقين الأولين من هم. فقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين: هم الذين صلّوا القبلتين جميعا. وقال عطاء بن أبي رباح: هم الذين شهدوا بدرا. وقال الشعبي: هم الذين شهدوا حجة الرضوان. واختلفوا أيضا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد امرأته خديجة بنت خويلد مع اتفاقهم أنها أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم وصدّقته. فقال بعضهم: أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلّى معه على بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهو قول ابن عباس وجابر وزيد بن أرقم ومحمد بن المنكدر وربيعة الرأي وأبي حازم المدني.
وقال الكلبي: أسلم علي وهو ابن تسع سنين ، وقال مجاهد وابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين. وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: كان نعمة الله على علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله للعباس وكانا من أيسر بني هاشم: «يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنخفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا وتأخذ من بنيه رجلا فنكفيهما عنه» . فقال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتيا أبا طالب [فقالا: إنا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه فقال لهما أبو طالب] : إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا كرم الله وجهه فضمّه إليه وأخذ العباس جعفرا يضمّه إليه فلم يزل علي (رضي الله عنه) مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى بعثه الله نبيّا فاتبعه علي (رضي الله عنه) . فآمن به وصدقه ولم يزل جعفر مع العباس رضي الله عنه حتى أسلم واستغنى عنه [48] «1» . وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال: كنت امرأ تاجرا فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقا وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجدا فسجدا معه فرفع الغلام والمرأة فقلت: يا عباس أمر عظيم! فقال: أمر عظيم. فقلت: ويحك ما هذا؟ فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء «2» . قال عبد الله الكندي بعد ما رسخ الإسلام في قلبه: ليتني كنت رابعا. فيروي أن أبا طالب قال لعلي (رضي الله عنه) : أي بني ما هذا الذي أنت عليه قال: آمنت بالله ورسوله وصدقته فيما جاء وصليت معه لله. فقال له: أما أن محمدا لا يدعو إلّا إلى خير فالزمه «3» .
وروى عبد الله بن موسى عن العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عبّاد بن عبد الله قال: سمعت عليّا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلّا كذاب مفتر، صلّيت قبل الناس بسبع سنين «1» . وقال بعضهم: أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر (رضي الله عنه) وهو قول إبراهيم النخعي وجماعة يدلّ عليه ما روى أبو أمامة الباهلي عن عمرو بن عنبسة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو نازل بعكاظ، قلت: يا رسول الله من تبعك في هذا الأمر؟ قال صلى الله عليه وسلّم: «اتبعني رجلان حر وعبد أبو بكر وبلال» [49] فأسلمت عند ذلك، فلقد رأيتني إذ ذلك ربع الإسلام. قال: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الله البدخشي يقول سمعت أبا هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول: سمعت غياث بن معاذ يقول: سمعت وكيع بن الجراح يقول: عن إسماعيل بن خالد عن الشفهي قال: قال رجل لابن عباس: من أول الناس إسلاما قال: أبو بكر (رضي الله عنه) أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أزكاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا الثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدّق الرسلا «2» قال بعضهم: أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة، وهو قول الزهري وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس، وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي جمع بين الأخبار فيقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة. قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله. قال: وكان أبو بكر رجلا مؤالفا لقومه محبا سهلا وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان منها من خير أو شر، وكان رجلا [ناجيا] ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يهابونه ويأتونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه- فيما بلغني- عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبد الله، فجاء بهم إلى رسول الله (رضي الله عنه) حين استجابوا له فأسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام من المهاجرين.
فأما سبّاق الأنصار فأهل بيعة العقبة الأولى فكانوا سبعة، والثانية كانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد الدار فعلّمهم القرآن، فهو أول من جمع الصلاة بالمدينة وكانت الأنصار تحبه فأسلم معه سعد بن معاذ وعمرو بن الجموح وبنو عبد الأشهل كلهم وخلق من النساء والصبيان، وكان مصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر ويوم أحد وكان وقى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفسه يوم أحد حيث انهزم الناس، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نفذت المشاقص في جوفه، فاستشهد يومئذ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عند الله أحتسبه ما رأيت قط أشرف منه لقد رأيته بمكة وإن عليه بردين ما يدري ما قيمتهما وإنّ شراك نعليه من ذهب، وإنّ عن يمينه غلامين وعن يساره غلامين بيد كل واحد منهما [جفنة] من [طعام] يأكل ويطعم الناس، فآثره الله بالشهادة» [50] «1» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا [أهديت إليه طرفة حناها] «2» لمصعب بن عمير فأنزل الله تعالى فيه: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ «3» الآية ، وأخذ أخوه يوم بدر أسيرا فقال: أنا أبو غدير بن عمير أخو مصعب فلم يشدد من الوثاق مع الأسرى وقالوا: هذا الطريق فاذهب حيث شئت، فقال: إني أخاف أن تقتلني قريش فذهبوا به إلى [ ... ] «4» فيمدّ يده بالخبز والتمر وكان يمدّ يده إلى التمر ويدع الخبز، والخبز عند أهل المدينة أعزّ من التمر، والتمر عند أهل مكة أعزّ من الخبز فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير وقالوا له: أخوك عندنا وأخبروه بما فعلوا به. فقال: ما هو لي بأخ ولا كرامة، فشدّوا وثاقه فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليّا فأرسلت أمه في طلبه ثمّ أقبل يوم أحد فلما رأى أخاه مصعب بن عمير. قال في نفسه: والله لا يقتلك غيري فما زال حتى قتله وفيه أنزل الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى. وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى «5» ثمّ جمعهم في الثواب فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وقرأ أهل مكة «6» : من تحتها الأنهار [وكذا هو في مصاحفهم] خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. قال الحسن بن الفضل: والفرق بينهما أن قوله تجري من تحتها الأنهار معناه تجري من تحت الأشجار، وقوله: تجري من تحتها أي ينبع الماء من تحتها ثمّ تجري من تحت الأشجار. وروي في هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لمعاذ بن جبل: «أين السابقون؟» [51] قال معاذ: قد مضى ناس فقال: السابقون المستهترون بذكر الله من أراد أن يرتع في رياض الجنة
فليكثر ذكر الله تعالى وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ نزلت في مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانت منازلهم حول المدينة وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فيه اختصار وإضمار تقديره ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، أي مرّنوا وتربّوا عليه يقال: تمرّد فلان على ربّه ومرد على معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ومنه: تمريد ومارد وفي المثل: تمرّد مارد وعزّ الإباق، وقال ابن إسحاق: لجّوا فيه وأبوا غيره، وقال ابن زيد وابان بن تغلب: أقاموا عليه ولم يتوبوا كما تاب الآخرون، وأنشد الشاعر: مرد القوم على حيهم ... أهل بغي وضلال وأشر لا تَعْلَمُهُمْ أنت يا محمد نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ قال قتادة في هذه الآية: ما بال أقوام يتكلّفون على الناس يقولون فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري أخبرني أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح (عليه السلام) : وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1» وقال نبي الله شعيب (عليه السلام) : وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ «2» وقال الله لنبيه عليه السلام: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ واختلفوا في هذين العذابين وروي عن أبي مالك عن ابن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطيبا يوم الجمعة فقال: «أخرج يا فلان فإنك منافق. اخرج يا فلان فإنك منافق» [52] . فأخرج من المسجد ناسا وفضحهم فهذا العذاب الأول، والثاني عذاب القبر. وقال مجاهد: بالجوع وعذاب القبر، وعنه أيضا: بالجوع والقتل وعنه بالجوع مرّتين، وعنه: بالخوف والقتل. وقال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر، وفيه قصة الاثني عشر في حديث حذيفة. وقال ابن زيد: المرّة الأولى المصائب في الأموال والأولاد، والمرة الأخرى في جهنم. وقال ابن عباس: إن المرة الأولى إقامة الحدود عليهم والثاني عذاب القبر. قال الحسن: إحدى المرتين أخذ الزكاة من أموالهم والأخرى عذاب القبر، فيقول تفسيره في سورة النحل ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ. وقال ابن إسحاق: هو ما يدخل عليهم في الإسلام، ودخولهم من غير حسبة ثمّ عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ثمّ العذاب العظيم في الآخرة والخلد فيه.
وفي بعض التفاسير: الاولى ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم والأخرى عذاب القبر. وقيل: تفسيره في سورة النحل زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ. وقال مقاتل بن حيان: الأول بالسيف يوم بدر والثاني عند الموت. معمر عن الزهري عن الحسن قال: عذاب النبي وعذاب الله. يعني بعذاب النبي صلى الله عليه وسلّم قوله تعالى: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا «1» . قال عطاء: الأمراض في الدنيا والآخرة فإن من مرض من المؤمنين كفّر الله سيّئاته ومحض ذنوبه فأبدله لحما من لحمه ودما كثيرا من دمه وأعقبه ثوابا عظيما، ومن مرض من المنافقين زاده الله نفاقا وإثما وضعفا كما قال في هذه السورة: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ يريد أنهم يمرضون في كل عام مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فيردّون إلى عذاب عظيم شديد فظيع. وقال الربيع: بلايا الدنيا وعذاب الآخرة ثم يردون الى عذاب عظيم عذاب جهنم. وقال إسماعيل بن زياد: أحد العذابين ضرب الملائكة والوجوه والأدبار، والثاني عند البعث يوكل بهم عتق من النار. وقال الضحاك: مرّة في القبر ومرّة في النار، وقيل: المرّة الأولى بإحراق مسجدهم مسجد ضرار والثانية بإحراقهم بنار جهنم، وقيل: مرّة بإنفاق أموالهم ومرّة بقتلهم بالسيف إن أظهروا ما في قلوبهم «2» . وَآخَرُونَ يعني ومن أهل المدينة آخرون أو من الأعراب وليس براجع إلى المنافقين اعْتَرَفُوا أقرّوا بك وبربّهم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وهو إقرارهم وتوبتهم وَآخَرَ سَيِّئاً أي بعمل سيّئ وضع الواو وموضع الياء فكما يقال: استوى الماء والخبث أي بالخبث وخلطت الماء واللبن أي باللبن فالعمل السيء تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتركهم الجهاد عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وعسى ولعل من الله واجب وهما حرف ترجّ. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت هذه الآية في قوم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك ثم ندموا عليه وتذمموا، وقالوا: نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجهاد! والله لنوثقنّ أنفسنا بالقيود في أيدينا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يطلقنا أو يعذبنا، وبقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ بهم فرآهم فقال: من هؤلاء؟ قالوا: تخلّفوا عنك فعاهدوا الله ألّا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم
وتعذرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أؤمر بإطلاقهم، رغبوا عني وتخلّفوا عن الغزو مع المسلمين» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلّم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك فتصدّق بها عنا وطهّرنا واستغفر لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» [53] فأنزل الله عزّ وجل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية «1» . واختلفوا في أعداد هؤلاء الناس وأسمائهم فروى علي بن ابي طلحة عن ابن عباس قال: كانوا عشرة رهط منهم أبو لبابة، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم أبو [منية] : منهم هلال وأبو لبابة وكردم ومرداس وأبو قيس، وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة منهم جد بن قيس وأبو لبابة وجذام وأوس، كلّهم من الأنصار. وقال عطية عن ابن عباس: كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة، وقال آخرون: نزلت في أبي لبابة واختلفوا في ذنبه. فقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال لقريظة: إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى رقبته، وقد مضت القصة في سورة الأنفال. فندم وتاب فأقرّ بذنبه فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. قال الزهري: نزلت في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك فربط نفسه بسارية فقال: والله لا أحل نفسي منها ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتّى خرّ مغشيا عليه فأنزل الله تعالى وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية فقيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة فقال: والله لا أحل نفسي منها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلّني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلّم فحلّه بيده، ثمّ قال أبو لبابة: يا رسول الله إن من توبتي أن أبرّ دار قومي التي أصبت بها الذنب وأن انخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: «يجزيك يا أبا لبابة الثلث» [54] «2» . قالوا جميعا: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم ثلث أموالهم وترك الإثنين لأن الله عزّ وجلّ قال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ولم يقل: أموالهم، فذلك لم يأخذ كلها. وقال الحسن وقتادة: هؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلّفوا تطهرهم بها من ذنوبهم والقراءة بالرفع حالا لا جوابا، أي خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً مطهرة ومزكّية كقول الحطيئة: متى تأته تعشو الى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقف
وقرأ مسلمة بن محارب: تطهِّرْهم وتزكيهم بالجزم على الجواب، وقرأ الحسن: تُطْهِرُهُمْ خفيفة من أطهر تطهير وَتُزَكِّيهِمْ أي تطهرهم، وقيل: تصلحهم، وقيل: ترفعهم من منازل المنافقين الى منازل المخلصين، وقيل: هي أموالهم. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي استغفر لهم وادع لهم، وقيل: هو قول الوالي إذا أخذ الصدقة: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، والصلاة في اللغة الدعاء ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا دعي أحدكم الى طعام فليجبه فإن كان مفطرا فليأكل وإن كان صائما فليصل» [55] «1» أي فليدع، وقال الأعشى: وقابلها الريح في دنّها ... وصلّي على دنّها وارتسم «2» أي دعا لها بالسلامة والبركة. وقال أيضا: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا «3» إِنَّ صَلاتَكَ قرأ أهل الكوفة: صلاتك على الواحد «4» هاهنا وفي سورة هود «5» والمؤمنين بإضماره. أبو عبيد قال: لأن الصلاة هي من الصلوات، وروى ذلك عن ابن عباس، ألا تسمع الله يقول: أَقِيمُوا الصَّلاةَ فهذه صلاة الأبد، والصلوات للجمع كقوله: صليت صلوات أربع وخمس صلوات، وقرأ الباقون كلها بالجمع واختاره أبو حاتم، قال: ومن زعم أنّ الصلوات من الصلاة لأن الجمع بالتاء قليل فقد غلط، لأن الله تعالى قال: ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ «6» وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها «7» لم يرد القليل. سَكَنٌ لَهُمْ قال ابن عباس: رحمة لهم، وقال قتادة: وقار لهم، وقال الكلبي: طمأنينة لهم إن الله قد قبل منهم «8» ، وقال معاذ: تزكية لهم منك، أبو عبيدة: تثبيت.
[سورة التوبة (9) : الآيات 106 إلى 110]
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ شعبة عن عمرو بن مرّة عن عبد الله بن أبي أوفى، وكان من أصحاب الشجرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقاتهم قال: «اللهم صلّ عليهم» ، فأتيته بصدقتي فقال: «اللهم صلّ على أبي أوفى» قال ابن عباس: ليس هذا صدقة الفرض، إنما هو كصدقة كفارة اليمين، وقال عكرمة: هو صدقة الفرض. فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يذنبوا متخلّفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فقال الله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ الآية ومعنى أخذ الصدقات. قبولها. الشافعي عن سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب قوته ولا يقبل الله [عمله] ولا يصعد الى السماء إلّا طيّب إلّا كان إنما يضعها في يدي الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى أن [اللقمة] لتأتي يوم القيامة وإنها كمثل الجبل العظيم» [56] . ثم قرأ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ، وتصديق ذلك في كتاب الله المنزل يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ إلى قوله بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وقال مجاهد: هذا وعيد لهم، وفي الخبر: لو أتى عبد الله في صخرة لا باب لها ولا كوّة لخرج عمله الى الناس كائنا ما كان «1» . [سورة التوبة (9) : الآيات 106 الى 110] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ أي مؤخرون لأمر الله ليقضي فيهم ما هو قاض، وهم الثلاثة الذين خلفوا وربطوا بالسواري أنفسهم ولم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فرفق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونهى الناس عن مكالمتهم وأمر نساءهم باعتزالهم حتى شقهم القلق وتهتكهم الحزن وضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ برحبها وكانوا من أهل [بدر، فجعل الناس] يقولون: هلكوا إذا لم ينزل لهم عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى أن يغفر الله لهم،
فصاروا فرحين لأمر الله لا يدرون يعذبون أو يرحمون حتى تاب الله عليهم بعد خمسين ليلة ونزلت وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً الآية، قال المفسرون: إنّ بني عمر بن عوف اتخذوا مسجد قبا وبعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتيهم فأتاهم فصلى فيهم فحسدهم إخوتهم بنو غنم ابن عوف، وقالوا: نبني مسجدا ونرسل الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا وليصلي فيه أبو عامر النعمان الراهب إذا قدم من الشام وكان أبو عامر رجلا منهم وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان قد ترهّب في الجاهلية وتنصّر ولبس المسوح. فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الذي جئت به؟ قال: «جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم» ، قال أبو عامر: فأنا عليها قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فإنك لست عليها» قال: بلى ولكنك أدخلت في الحنيفيّة ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما فعلت ولكني جئت بها بيضاء نقية» ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلّم: أمات الله الكاذب منّا طريدا وحيدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «آمين» ، وسمي العامر الفاسق. فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله الى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج الى الروم يستنصر وأرسل الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب الى قيصر ملك الروم فآت بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه، وذلك قوله تعالى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فبنوا مسجدا الى جنب مسجد قبا وكان الذين بنوه اثنا عشر رجلا: خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو الأرعد، وعباد بن حنيف، وحارثة بن عامر، [وجارية وابناه] «1» مجمّع وزيد، ونبتل بن الحارث. ولحاد بن عثمان، ووديعة ابن ثابت، وكان يصلي بهم مجمع بن يسار، فلما فرغوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يتجهز الى تبوك، وقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو بالبركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إني على جناح السفر ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه» [57] . فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من تبوك ونزل [بذي أوان] بلد بينه وبين المدينة ساعة، فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فنزل عليه القرآن فأخبره الله عزّ وجلّ خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي قاتل حمزة وقال لهم: «انطلقوا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه» فخرجوا سريعا حتى أتوا سالم بن عوف وأتوا رهط مالك بن الدخشم فقال مالك لهم: انتظروا حتى آتي لكم بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجوا ينشدون
حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدّموه وتفرّق عنه أهله وامر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف والدنس والقمامة، ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا غريبا وفيه يقول كعب بن مالك: معاذ الله من فعل الخبيث ... كسعيك في العشيرة عبد عمرو فاما قلت بأن لي شرف ونخل ... فقدما بعت إيمانا بكفر «1» قال عكرمة: سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم ماذا أعنت في هذا المسجد فقال: أعنت في سارية فقال عمر: أبشر بها في عنقك في نار جهنم. ويروى أنّ بني عمر بن عوف الذين بنوا مسجد قبا سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمّهم في مسجدهم فقال: لا ولا نعمة عين أليس هو مسجد الضرار، فقال له مجمّع: يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ. فو الله لقد صليت فيه واني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولقد علمت ما صلّيت معهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا ثبوتا قد رغبوا وكانوا لا يعلمون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب منعوا شيئا إلّا أنهم يتضرعون الى الله ولم أعلم ما في أنفسهم. فعذره عمر وصدّقه وأمره بالصلاة في مسجد قبا. فهذا قصة مسجد الضرار الذي أنزل الله عزّ وجلّ فيه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً قرأه العامة بالواو، وقول أهل المدينة والشام بغير الواو، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام. قال عطاء: لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم ألّا يتخذوا في مدينتهم مسجدين مجاورا أحدهما لصاحبه. وروى ليث أن شقيقا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا بعد. قال: لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي الى مسجد ضرار «2» . وَكُفْراً نفاقا وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جمعا في مسجد قبا فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم دون مسجد قبا وبعضهم في مسجد قبا فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا وَإِرْصاداً وانتظارا وإعدادا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام ويظهر على رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) .
قرأ الأعمش وإرصادا للذين حاربوا الله وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا ما أردنا إِلَّا الْحُسْنى إلّا الفعلة الحسنى وهي للمرضى المسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المسير الى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم وحلفهم ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً. لَمَسْجِدٌ اللام فيه لام الابتداء والقسم تقديره والله لمسجد أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أى بني أصله وابتدئ بناؤه مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي من أول يوم بني، وقيل معناه: منذ أول يوم وضع أساسه. قال المبرد: قيل في معنى البيت من حج وأمن دهر. أي من هو حج وأمن دهر، وأنشأ زهير: لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين من حج، ومن دهر «1» منذ حج ومنذ دهر. أَحَقُّ أولى أَنْ تَقُومَ فِيهِ مصليا، واختلفوا في المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى ما هو؟ فقال قوم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي فيه منبره وقبره. أخبرنا عبد الله بن حامد وأخبرنا العبدي. حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا الجماني، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عثمان بن عبد الله بن ابي رافع عن ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري قالوا: المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) . يدل عليه ما روى حميد الخراط عن ابي سلمة بن عبد الرحمن، أن عبد الرحمن حدثه أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بيت بعض نسائه قال: فقلت: يا رسول الله اي المسجد الذي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى؟ فأخذ كفّا من الحصى فضرب به الأرض. ثم قال: «هو مسجدكم هذا مسجد المدينة» . وروى أنس بن ابي يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال العوفي: هو مسجد قبا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فقال: هو هذا، يعني مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) . قال ابن يزيد وابن زيد وعروة بن الزبير: هو مسجد قبا، وهي رواية علي بن أبي طلحة وعطية عن ابن عباس. فِيهِ ومن حضر رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من الأحداث والنجاسات بالماء، قال الكلبي: هو غسل الأدبار بالماء، وقال عطاء: كانوا يستنجون بالماء لا ينامون بالليل على الجنابة. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لأهل قبا لما نزلت هذه الآية: «إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم في الطهور فما هو؟» [58] قالوا: إنا نستنجي بالماء «2» .
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ اي المتطهرين فأدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما. قال يزيد بن عجرة: أتت الحمّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صورة جارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من أنت؟» قالت: أم ملدم انشف الدم، وآكل اللحم وأصفر الوجه وارقق العظم. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «فاقصدي الأنصار فإن لهم علينا حقوقا» فحمّ الأنصار. فلما كان الغد قال: «ما للأنصار؟» قال: فحموا عن آخرهم. فقال: «قوموا بنا نعودهم» فعادهم وجعل يقول: «أبشروا فإنها كفارة وطهور» [59] . قالوا: يا رسول الله ادعوا الله أن يديمها علينا [أعواما] «1» حتى تكون كفّارة لذنوبنا، فأنزل الله تعالى عليهم فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بالحمى عن معاصيهم وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ من الذنوب. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ اختلف القراء به فقرأ نافع وأهل الشام: أُسِّسَ بُنْيانُهُ بضم الهمزة والنون على غير تسمية الفاعل، وذكر أبو حاتم عن زيد بن ثابت، وقرأ عمارة بن صايد: آسَسَ بالمد وفتح السين والنون في وزن آمن، وكذلك الثانية وآسس واسّس واحد افعل وفعل يتقاربان في التعدية. وقرأ الباقون بفتح الهمزة وتشديد السين الاولى على تسمية الفاعل واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وقرأ عيسى بن عمر تَقْوًى مِنَ اللَّهِ منوّنا وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا أي شفير وقال أبو عبيد: الشفا الحد وتثنيته: الشفوان. جُرُفٍ قرأ عاصم وحمزة بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتثقيل وهما لغتان وهو البئر التي لم تطؤ. قال أبو عبيدة: هو الهوّة وما يجرفه السيل من الأودية هارٍ أي هائر وهو الساقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرمل والشيء الرخو. يقال هو من المقلوب يقلب ويؤخر ياؤها فيقال هار [ولات] كما يقال شاكي السلاح وشائك السلاح وعاق وعائق، قال الشاعر: ولم يعقني عن هواها عاق. وقيل: هو من هار يهار إذا انهدم مثل: خاف يخاف، وهذا مثل لضعف نيّاتهم وقلّة بصيرتهم في علمهم فَانْهارَ فانتثر يقال: هار وانهار ويهور بمعنى واحد إذا سقط وانهدم ومنه قيل تهوّر الليل إذا ذهب أكثره، وفي مصحف أبيّ: فانهارت به قواعده فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
قال قتادة: والله [ما تنامى] أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيها فرأى الدخان يخرج منه قال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار، وقال خلف بن ياسين الكوفي: حججت مع أبي في زمان بني أمية فرأيت في المدينة مسجد القبلتين يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقبا وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة فهدّم البناء الذي بني على يدي عبد الصمد بن عليّ، ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة «1» . لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً شكّا ونفاقا فِي قُلُوبِهِمْ يحسبون أنهم كانوا ببنائه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى. قال ابن عباس: شكا ونفاقا، وقال الكلبي: حبّبه وزيّنه لأنّهم زعموا أنهم لا يتبعونه، وقال السدي وحبيب والمبرد: لأنّ الله هدم بنيانهم الذي بنوا حزازة في قلوبهم إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ تتقطع قلوبهم فيموتوا كقوله تعالى: لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «2» لأن الحياة تنقطع بانقطاع القلب. وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم: إلى أن تقطع، خفيفة على الغاية، يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة، لا يزالون في شك منهم إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبيّنوا. واختلف القراء في قوله تَقَطَّعَ. قال أبو جعفر وشيبة وابن عامر وحمزة والمفضل وحفص: تَقَطَّعَ بفتح التاء والطاء مشددا، يعني تقطع ثم حذفت إحدى التائين، وقرأ يحيى بن كثير ومجاهد ونافع وعاصم وأبو عمرو والكسائي تُقَطَّعَ بضم التاء وتشديد الطاء على غير تسمية الفاعل وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم، وقرأ يعقوب تُقْطَعَ بضم التاء خفيفة من القطع. وروي عن ابن كثير (تَقْطَعَ) بفتح التاء خفيفة قُلُوبَهُمْ نصبا أي تفعل أنت ذلك بهم، وقرأ ابن مسعود والأعمش ولو قطعت قلوبهم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 إلى 114]
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 114] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا. قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: «اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» ، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنة» [60] «1» . وقال الأعمش: الجنة وهي قراءة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال إبراهيم النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل على معنى فيقتل بعضهم ويقتل الباقون، وقرأ الباقون: بتقديم الفاعل على المفعول وَعْداً نصب على المصدر عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ثم هنّأهم فقال عزّ من قائل: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ قال قتادة: ثامنهم وأغلى ثمنهم، وقال الحسن: أسمعوا بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن، والله ما على وجه الأرض مؤمن إلّا دخل في هذه البيعة. قال: ومرّ أعرابي بالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو يقرأ هذه الآية قال: كلام من هذا؟ قال: كلام الله. قال: بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو فاستشهد «2» . أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي. قال: أنشدنا أبو الحسن العقيلي. أنشدنا بشر بن موسى الأسدي. أنشدني الأصمعي عن جعفر الصادق (رضي الله عنه) . أثامن بالنفس النفيسة ربها ... فليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تشترى الجنات إن أنا بعتها ... بشيء سواها إن ذلكم غبن إذا أذهبت نفسي بدنيا أصبتها ... فقد ذهب الدنيا وقد ذهب الثمن «3» وكان الصادق يقول: أيا من ليست له قيمة أنه ليس لأبدانكم إلّا الجنة فلا تبيعوها إلّا بها.
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي. أنشدنا القاضي أبو الربيع محمد بن علي. أنشدنا أبو علي الحسن بن عاصم الكوفي: من يشتري قبة في العدن عالية ... في ظل طوبى رفيعات مبانيها دلالها المصطفى والله بايعها ... فمن أراد وجبريل يناديها ثم وصفهم فقال التَّائِبُونَ أي هم التائبون، وقرأ ابن مسعود التائبين العابدين بالنصب آخرها، قال المفسرون: تابوا من الشرك وبرأوا من النفاق الْعابِدُونَ المطيعون الذي أخلصوا فيه الشهادة. وقال الحسن وقتادة: هم قوم اتخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم فعبدوا الله على أحايينهم كلها في السراء والضراء الْحامِدُونَ الله على كل حال في كل نعمة السَّائِحُونَ الصائمون. الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «السائحون الصائمون» [61] «1» . وروى شيبان بن عبد الرحمن عن الأشعث قال: سألت سعيد بن جبير عن السائحين فقال: هم الصائمون ألم تر أنّ الله عزّ وجلّ إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين. قال سفيان بن عيينة: أما إنّ الصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح. وقال الشاعر في الصوم: تراه يصلي ليله ونهاره ... يظل كثير الذكر لله سائحا «2» وقال الحسن: السَّائِحُونَ الذين صاموا عن الحلال وأمسكوا عن الحرام وهاهنا والله أقوام رأيناهم يصومون عن الحلال ولا يمسكون عن الحرام فالله ساخط عليهم، وقال عطاء: السَّائِحُونَ الغزاة والمجاهدون، وعن عمرو بن نافع. قال: سمعت عكرمة وسئل عن قول الله تعالى: السَّائِحُونَ قال: هم طلبة العلم الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ قال بسام بن عبد الله: المعروف السنّة والمنكر البدعة. وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ قال ابن عباس: القائمون على طاعة الله، وقال الحسن: أهل
الوفاء ببيعة الله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ. ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية. فروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلّم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أي عم إنك أعظم الناس عليّ حقا وأحسنهم عندي [قولا] ولأنت أعظم عليّ حقا من والدي فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي يوم القيامة. قل: لا إله إلا الله احاجّ لك بها عند الله» . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء تكلم به: أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لأستغفر لك يا عم الله» [62] فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية، ونزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ «1» الآية «2» . قال الحسن بن الفضل: وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلّم بمكة. وقال عمرو بن دينار: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي. فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلّم لعمّه. فأنزل الله تعالى هذه الآية «3» . وروى جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن محمّد بن كعب [قال حدثنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا جعفر بن عون] «4» قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه الذي قبض فيه، قالت قريش له: يا أبا طالب أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنّة فيكون لك شفاء، فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبو بكر معه جالس فقال زيد: إنّ عمك يقول لك يا ابن أخي إني كبير وشيخ ضعيف فادعوا إليّ من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيء يكون لي فيه شفاء.
فقال أبو بكر: إن الله حرّمها على الكافرين. قال: فرجع إليهم الرسول فقال: بلغت محمّدا الذي أرسلتموني به فلم يحر إليّ شيئا فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين قال: فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولا من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ طعامها وشرابها» ، ثم قام في أثره حتى دخل معه البيت فوجده مملوءا رجالا فقال: «خلوّا بيني وبين عمي» ، فقالوا: ما نحن بفاعلين وما أنت أحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فجلس إليه فقال: «يا عم جزيت عني خيرا كفلتني صغيرا وحفظتني كبيرا فجزيت عني خيرا. يا عماه أعنّي على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة، قال: وما هي يا ابن أخي؟ قال: قل لا إله إلّا الله وحده لا شريك له» . قال: إنك لي لناصح، والله لولا أن تعيّر بها بعدي يقال جزع عمك عند الموت لأقررت بها عينك، قال: فصاح القوم: يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ لا تحدث نساء قريش أني جزعت عند الموت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردّني فاستغفر له بعد ما مات» [63] . فقال المسلمون: ما منعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت هذه الآية. والدليل- على ما قيل- أن أبا طالب مات كافرا «1» ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا المزني. قال: حدثنا أحمد بن نجدة حدثنا سعد بن منصور حدثنا أبو الأحوص أخبرنا أبو إسحاق قال: قال علي (عليه السلام) لما مات أبو طالب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله إن عمك.... «2» ... قال: اذهب فادفنه ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني، فانطلقت فواريته ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وعليّ أثر التراب فدعا لي بدعوات ما يسرني أنّ لي بها ما على الأرض من شيء. وقال أبو هريرة وبريدة: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم مكة أتى قبر أمّه آمنة فوقف عليه حتى حميت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية، فقام وبكى وبكى من حوله فقال: «إني استأذنت ربي أن أزورها فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي فزوروا القبور فإنّها تذكّركم الموت» [64] ، فلم نر باكيا أكثر من يومئذ.
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كانوا يستغفرون لأمواتهم المشركين فنزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار فنهاهم ولم ينتهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، وقال قتادة: قال رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم: يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم ألا نستغفر لهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلى، وأنا والله لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» [65] ، فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ أي ما ينبغي للنبي وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ. وقال أهل المعاني: ما كان في القرآن على وجهين أحدهما بمعنى النفي كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها «1» وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «2» والأخرى بمعنى النهي كقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «3» ، وقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا نهي. مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ بموتهم على الكفر، وتأوّل بعضهم الاستغفار في هذه الآية على الصلاة. قال عطاء بن أبي رباح: ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلّا عن المشركين «4» كقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا الآية، ثم عذر خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ الآية. قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : أنزل الله قوله تعالى خبرا عن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم قال: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «5» . [قال علي:] سمعت فلانا يستغفر لوالديه وهما مشركان فقلت له: أتستغفر لهما مشركان، قال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فرويت ذلك له فأنزل الله تعالى هذه الآية «6» ، وأنزل قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ إلى قوله إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «7» وقوله: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ يعني بعد موعده. وقال بعضهم: الهاء في إيّاه عائدة إلى إبراهيم، وذلك إن أباه وعده أن يسلم فعند ذلك
قال إبراهيم: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي وقال بعضهم: هي راجعة إلى إبراهيم وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وهو قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، وقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ الآية، تدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ [بموت أبيه] تَبَرَّأَ مِنْهُ وقيل: معناه: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ في الآخرة أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، وذلك على ما روى في الأخبار أن إبراهيم صلى الله عليه وسلّم يقول يوم القيامة: رب والدي رب والدي، فإذا كانت الثالثة يريه الله فيقول له إبراهيم: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني ولست بتاركك اليوم لشيء فخذ [بحبري] فتعلق به حتى تريد الجواز على الصراط حتى إذا أراد أن يجاوزه به كانت من إبراهيم (عليه السلام) التفاتة فإذا هو بأبيه في صورة ضبع، فتخلّى عنه وتبرأ منه يومئذ وعلى هذا التأويل يكون معنى الكلام الاستقبال، تقديره: يتبيّن ويتبرأ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ اختلفوا في معناه، فروى شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سئل عن الأوّاه فقال: الخاشع المتضرع، وقال أنس: تكلّمت امرأة عند النبي صلى الله عليه وسلّم بشيء كرهه فنهاها عمر (رضي الله عنه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعرض عنها فإنها أوّاهة» قيل: يا رسول الله وما الأوّاهة؟ قال: «الخاشعة» [66] . وروى عبد الله بن رباح عن كعب في قول الله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ فقال: كان إذا ذكر النار قال: أوه. وقال عبد الله بن مسعود وعبيد بن عمير: الأواه الدعّاء، وقال الضحاك: هو الجامع الدعاء. وروى الأعمش عن الحكم عن يحيى بن الجرار قال: جاء أبو العبيدي رجل من سواد وكان ضريرا إلى ابن مسعود قال: يا عبد الرحمن من يسأل إذا لم يسألك، ما الأوّاه؟ فكأن ابن مسعود رق له فقال: الأواه الرحيم. وقال الحسن وقتادة: الأواه الرحيم بعباد الله، وقال أبو ميسرة: الأواه الرحيم يوم الحشر، عطية عن ابن عباس الأواه المؤمن بالحبشية. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الأواه المؤمن التواب، مجاهد: الأواه المؤمن [الموقن، وروي عن......] «1» عن ابن عباس وعلي ابن الحكم عن الضحاك، وقال عكرمة: هو المستيقن، بلغة الحبشة، ألا ترى أنك إذا قلت للحبشي الشيء فعرفه قال: أوّه، ابن أبي نجيح: المؤتمن. الكلبي: الأواه: المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفرة الموحشة، وقال عقبة بن عامر: الأواه الكثير الذكر لله، وروى الحكم عن الحسن بن مسلم بن [ساق] أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إنه أوّاه، وقيل: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
وقال ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دفن ميّتا فقال: «يرحمك الله إن كنت لأواه» [67] ، يعني تلاوة القرآن «1» . وقيل: هو الذي يجهر صوته بالذكر والدعاء والقرآن ويكثر تلاوته، وكان إبراهيم (عليه السلام) يقول: آه من النار قبل أن لا تنفع آه «2» . وروى شعبة عن أبي يونس الباهلي عن قاضي كان يجمع الحديث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: أوه أوه، فشكاه أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «دعه فإنه أواه» [68] . قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح «3» . وقال النخعي: الأواه: الفقيه، وقال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، وقال سعيد بن جبير: الأواه المعلم للخير، وقال عبد العزيز بن يحيى: هو المشفق، وكان أبو بكر (رضي الله عنه) يسمّى الأواه لشفقته ورحمته، وقال عطاء: هو الراجع عن كلمة ما يكره الله، وقال أيضا: هو الخائف من النار، وقال أبو عبيدة: هو المتأوه شفقا وفرقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة. قال الزجاج: انتظم قول أبي عبيدة جميع ما قيل: في الأواه وأصله من التأوه وهو أن يسمع للصدر صوتا من تنفس الصعداء والفعل منه أوه وتأوه، وقال المثقب العبدي: إذا ما قمت ارحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين «4» قال الراجز: فأوه الراعي وضوضا كلبه ... ولا يقال منه فعل يفعل حَلِيمٌ عمن سبه وناله بالمكروه وقد قيل أنه (عليه السلام) استغفر لأبيه عند وعده إياه وشتمه، وقوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا «5» فقال له: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا «6» وقال ابن عباس: الحليم السيد.
[سورة التوبة (9) : الآيات 115 إلى 121]
[سورة التوبة (9) : الآيات 115 الى 121] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يقول: وما كان الله [ليحكم] عليكم بالضلال بعد استغفاركم للمشركين قبل أن يتقدم إليكم بالنهي. وقال مجاهد: بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة، فافعلوا أو ذروا. وقال مقاتل والكلبي: لما أنزل الله تعالى الفرائض فعمل بها الناس [ثم] نسخها من القرآن وقد غاب [ناس] وهم يعملون للأمر الأول من القبلة والخمر وأشباه ذلك، فسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ يعني وما كان الله ليبطل عمل قوم عملوا بالمنسوخ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ قال الضحاك: ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ... حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يأتون وما يذرون إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ثم عظّم نفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني يحكم فيهما بما يشاء يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ قال ابن عباس: ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبدا. واختلفوا في معنى التوبة على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال أهل التفسير: بإذنه للمنافقين في التخلف عنهم، وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام ما كان هو صنف توبتهم ذكر معهم كقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ونحوه وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في وقت العسرة ولم يرد ساعة بعينها. قال جابر: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء. قال الحسن: كان الناس من المسلمين يخرجون على بعير يعقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه، كذلك كان زادهم التمر المسوس والشعير والأهالة المنتنة وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلّا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب عليها جرعة من الماء كذلك حتى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة فمضوا [في قيض شديد] ورسول الله صلى الله عليه وسلّم على صدقتهم ويقينهم.
وقال ابن عباس: قيل لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ما في شأن العسرة؟ فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم [إلى قيض شديد] فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى قلنا أن رقابنا ستقطع، حتى أن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى أنّ الرجل سينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) لرسول الله: إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، قال: «تحب ذلك» ؟ قال: نعم، فرفع يديه ولم يرجع بها حتى أظلت السماء بسحاب ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر «1» . مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ تميل قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لعظم البلاء، وقرأ العامة: تزاغ، بالتاء ودليله قراءة عبد الله قال: [زغيّهم] «2» ، قراءة حمزة والأعمش والجحدري والعباس بن زيد الثقفي بالياء. قال الأعمش: قرأتها بالياء في نية التأخير وفيه ضمير فاعل ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا يعني تاب على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فلم يخرجوا، وقيل: خلفوا عن توبة أبي لبابة وأصحابه وأرجى أمرهم وقد مضت السنة. وقرأ عكرمة وحميد: خَلَفُوا بفتح الخاء واللام والتخفيف أي [فدله بعقب] رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وروي عن جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه) انه قرأ: خالفوا ، وقراءة الأعمش: وعلى الثلاثة المخلفين، وهم كعب بن مالك الشاعر ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية كلهم من الأنصار وروى عبيد عن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري عن أبيه عبد الله بن كعب وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره. قال: سمعت أن كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك غير بدر ولم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلّم أحدا تخلف عن بدر إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغيثين لعيرهم فالتقوا من غير موعد كما قال الله عزّ وجلّ، ولعمري أن أشرف مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الناس لبدر، وما أحب أني كنت شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثم لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم بعد في غزوة غزاها إلى أن كانت غزوة تبوك وأذن الناس بالرحيل وذلك حين طاب الظلال وطابت الثمار، وكان قلّ ما أراد غزوة إلّا [ورى غيرها] «3» وكان يقول: الحرب خدعة فأراد النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك أن يتأهّب الناس أهبتها وأنا أيسر ما كنت قد جهزت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي الجهاد وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال وطيب الثمار فلم أزل كذلك حتى قام النبي صلى الله عليه وسلّم غاديا بالغداة وذلك يوم الخميس وكان يحب أن يخرج يوم الخميس فأصبح
غاديا فقلت: أنطلق غدا إلى السوق أشتري جهازي ثم ألحق بهم فانطلقت إلى السوق من غد فعسر عليّ بعض شأني فرجعت فقلت: أرجع غدا إن شاء الله فألحق بهم، فعسر عليّ بعض شأني أيضا فلم أزل كذلك حتى التبس بي الذنب وتخلّفت عن رسول اله صلى الله سلّم فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف بالمدينة فيحزنني أنّي لا أرى أحدا تخلف إلّا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء وكان الناس كثيرا لا يجمعهم ديوان وكان جميع من تخلّف عن النبي صلى الله عليه وسلّم بضعا وثمانين رجلا ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ تبوك فقال وهو بتبوك جالس: «ما فعل كعب بن مالك؟» [69] . فقال رجال من قومي: يا نبيّ الله خلّفه راحلته والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا نبي الله ما نعلم إلّا خيرا، فبينما هم كذلك إذا همّ برجل مبيضا يزول به السراب فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: كن أبا خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلّم غزوة تبوك وقفل إلى المدينة [جعلت بما أخرج] من سخط النبي صلى الله عليه وسلّم فأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي حتى إذا قيل أن النبي صلى الله عليه وسلّم [مضى يصلي] بالغداة راح عني الباطل وعرفت أن لا أنجو إلّا بالصدق فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم وصلّى في المسجد ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون يحلفون له ويعتذرون إليه فيستغفر لهم فقبل منهم علانيتهم ووكّل سرائرهم إلى الله تعالى فدخلت المسجد فإذا هو جالس فلما رآني تبسّم تبسّم المغضب فجئت فجلست بين يديه فقال: «ألم تكن قد ابتعت ظهرك» [70] قلت: بلى يا رسول الله قال: «فما خلّفك» ؟ [71] . قلت: والله لو كنت بين يديّ أجد من الناس غيرك جلست لخرجته من سخطته بعذر ولقد أوتيت جدلا، ولكن قد علمت يا نبي الله أني أن أخبرك اليوم بقول تجد علي فيه وهو حقّ فإنّي أرجو فيه عفو الله وإن حدّثتك اليوم حديثا ترضى عني فيه وهو كذب أو شك أن يطلعك الله عليه والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حاذا مني حين تخلفت عنك. فقال صلى الله عليه وسلّم: «أما هذا فقد صدقكم الحديث قم حتى يقضي الله فيك» . فقمت فإذا على أثري ناس من قومي فاتبعوني فقالوا: والله ما نعلمك أذنبت ذنبا قبل هذا فهلّا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم حتى يرضى عنك فيه وكان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلّم لك كافيك من ذنبك ولم تقف نفسك موقفا ما تدري ماذا يقضي لك به؟! فلم يزالوا يؤنّبوني حتى صمّمت أن أرجع فأكذب نفسي فقلت: هل قال هذا القول أحد غيري؟ قالوا: نعم، قالوا: هلال بن أمية الواقفي وأبو مرارة بن ربيعة العامري. فذكروا رجلين صالحين قد شهدوا بدرا لي فيهما أسوة فقلت: والله لا أرجع إليه في هذا أبدا، ولا أكذب نفسي قال: ونهى النبي صلى الله عليه وسلّم الناس عن كلامنا [أيها الثلاثة من بين من تخلّف عنه قال: فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد وتنكّر لنا الناس حتى] ما هم بالذين نعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي الحيطان التي نعرف وتنكرت
لنا الأرض حتى ما هي الأرض التي نعرف، [وكنت أقوى أصحابي وكنت أخرج فأطوف بالأسواق وآتي المسجد فأدخل فآتي النبي صلى الله عليه وسلّم فأسلّم عليه فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بالسلام، فإذا قمت فأقبلت فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ بمؤخر عينيه وإذا نظرت إليه، واستكان أعرض عني فاستكانا صاحباي فجعلا يبكيان الليل لا يطلعان نفسيهما فلما طال علي ذلك المسلمين من جفوة حتى تسمّرت بظلّة حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ فسلمت عليه فو الله ما ردّ عليّ السلام فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدران فبينا أطوف في السوق إذا برجل نصراني نبطي من نبط أهل الشام جاء بطعام له يبيعه ويقول: من سيدلّ على كعب بن مالك. فطفق الناس يشيرون له إليّ فأتاني فدفع إليّ كتابا من ملك غسّان فإذا فيه: أمّا بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك [ولست بدار مضيعة ولا هوان] فالحق بنا نواسيك، فقلت: هذا من البلاء والشرف فسجّرت التنور فأحرقته فلما مضيت له بغضون ليلة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أتاني فقال: «اعتزل امرأتك» فقلت: أطلقها. قال: «لا ولكن لا تقربها» وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال فقالت: يا نبي الله إنّ هلال بن أمية شيخ ضعيف فهل تأذن لي أن أخدمه قال: «نعم ولكن لا يقربك» . قالت: يا نبي الله والله ما به حركة لشيء ما زال مكبّا يبكي الليل والنهار. قد كان من أمره ما كان. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله وما يدريني ماذا يقول إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب. فلما مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن كلامنا فصلّيت على ظهر بيت لمّا صلّى الفجر وجلست وأنا في المنزلة التي قال الله عزّ وجلّ: ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وضاقت علينا أنفسنا إذ سمعت نداء من جبل سلع أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدا وعلمت أن الله قد جاء بالفرج ثم جاء رجل يركض على فرس وكان الصوت أسرع من فرسه [فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوتها إياه ببشارته واستعرت ثوبين فلبستهما] «1» قال: وكانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلّم ثلثي الليل فقالت أم سلمة عشيّتئذ: يا نبي الله ألا تبشر كعب بن مالك. قال: إذا يحطمك الناس ويمنعونكم النوم بسائر الليل وكانت أم سلمة محسنة في شأني حزنى بأمري فاستطلت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام إلي طلحة ابن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال: «ليهنك توبة الله عليك» ، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره وكان كعب لا ينساها لطلحة.
قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله وقلت: يا نبي الله من عند الله أم من عندك؟ قال: «بل من عند الله» ثم تلا عليهم: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ إلى قوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وقلت: يا نبي الله إن من توبتي ألّا أحدث الأصدقاء حتى أنخلع من مالي كلّه صدقة إلى الله وإلى رسوله فقال: «أمسك عليك بعض مالك فهو أخير لك» [72] ، قلت: فإني أمسك سهمي الذي من خيبر قال: فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين صدقته أنا وصاحباي أن لا يكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا وأني لأرجو أن لا يكون الله عزّ وجلّ أبلى أحدا في الصدق [منذ ذكرت ذلك لرسول الله أحسن مما ابتلاني والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا] «1» وأني لأرجو أن يحفظني الله عزّ وجلّ فيما بقي ، هذا ما انتهى إلينا من حديث الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «2» . حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ المفسرون: أي ضاقت عليهم الأرض برمّتها وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ [ضاقت صدورهم بالهمّ والوحشة] وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ سمعت الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري وإبراهيم بن محمد بن زيد النيسابوري وعبد الله ختن والي بلد العراق يقول: سئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح قال: أن تضيق علينا بما رحبت ويضيق عليه نفسه كتوبة كعب وصاحبه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إعادة تأكيد لِيَتُوبُوا فهذا بالتوبة منه. سمعت أبا القاسم بن أبي بكر السدوسي، سمعت أبا سعيد أحمد بن محمد بن رميح الزيدي، سمعت الحسن بن علي الدامغاني يقول: قال أبو يزيد: غلطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله سبحانه ظننت أني أحبه فإذا هو أحبّني قال الله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «3» فظننت أني أرضى عنه فإذا هو رضي عني قال الله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وظننت أني أذكره فإذا هو ذكرني قال الله تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ «4» وشئت أن أتوب فإذا هو تاب عليّ قال الله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال نافع: يعني مع محمد وأصحابه. سعيد بن جبير: مع أبي بكر وعمر، ابن جريح وابن حبّان: مع المهاجرين دليله قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «5» . أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد الله. محمد بن عثمان بن الحسن. محمد بن الحسين
ابن صالح. علي بن جعفر بن موسى. جندل بن والق. محمد بن عمر المازني. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال: مع عليّ بن أبي طالب وأصحابه «1» . وأخبرني عبد الله محمد بن عثمان. محمد بن الحسن. علي بن العباس المقانعي. جعفر ابن محمد ابن الحسين. أحمد بن صبيح الأسدي. مفضل بن صالح. عن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال: مع آل محمد (صلى الله عليه وسلّم) . يمان بن رباب: أصدقوا كما صدق الثلاثة الَّذِينَ خُلِّفُوا. ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم فاستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى تبوك. بإخلاص ونيّة. قتادة: يعني الصدق في النية وقال: أو الصدق في الليل والنهار والسرّ والعلانية، وكان ابن مسعود يقول: كُونُوا مَعَ! الصَّادِقِينَ وكذا كان يقرأها، وابن عباس (ورضي عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلّم) . أخبرنا عبد الله بن حامد. عبد الله بن محمد بن الحسين. محمد بن يحيى، وهب بن جرير عن شعيب بن عمرو بن زيد عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: إن الكذب لا يصلح منه جدّ ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجز شيئا اقرءوا إن شئتم الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هل ترون في الكذب [رخصة] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ظاهره خبر معناه نهي كقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ «2» وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ سكان البوادي مزينة وجهينة وأسجح وأسلم وغفار أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا غزا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه. قال الحسن: يعني لا يرغبون بأنفسهم أن تصيبهم من الشدائد مثل ما يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم ظَمَأٌ عطش، وقرأ عبد بن عمير ظماء بالمدّ وهما لغتان مثل خطا وخطأ وَلا نَصَبٌ ولا تعب وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً أرضا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وطيهم إياها وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا ولا يصيبون من عدوهم شيئا قتلا أو أسرا أو غنيمة أو عزيمة يقال: نلت الشيء فهو منيل إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ قال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنة إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فإن أصابهم ظمأ سقاهم الله من نهر الحيوان ولا يصيبهم ظمأ بعد، وإن أصابهم
نصب أعطاهم الله العسل من نهر الحيوان [ولا يصيبهم] فيهم النصب، ومن خرج في سبيل الله لم يضع قدما ولا يدا ولا جنبا ولا أنفا ولا ركبة ساجدا ولا راكعا ولا ماشيا ولا نائما في بقعة من بقاع الله إلّا أذن الله له بالشهادة وبالشفاعة. واختلفوا في حكم هذه الآية، فقال قتادة: وهذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه خلافه إذا لم يكن للمسلمين اليه ضرورة وحاجة. قال: وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلف سريّة يغزو في سبيل الله لكني لا أجد سعة فانطلق بهم معي ويشق عليّ أن أدعهم بعدي» . [73] «1» . وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وابن جابر وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: انها لأول هذه الأمة وآخرها. وقال ابن زيد: هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله وأباح التخلف لمن شاء فقال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية وَلا يُنْفِقُونَ في سبيل الله نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ولو علاقة سوط وَلا يَقْطَعُونَ ولا يتجاوزون وادِياً في مسيرهم مقبلين أو مدبرين إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ يعني آثارهم وخطاهم لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لهم بالثواب ويدخلهم الجنة بغير حساب. قال ابن عباس: أخبرنا أبو عمر الفراتي بقراءتي عليه أخبرنا أبو موسى أخبرنا مسدّد عن هارون ابن عبد الله الجمّال أخبرنا ابن أبي فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسين عن علي ابن أبي طالب وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: ومن أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه وأنفق في وجه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «2» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 122 إلى 129]
[سورة التوبة (9) : الآيات 122 الى 129] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً الآية قال ابن عباس في رواية الكلبي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا خرج غازيا لم يتخلف إلّا المنافقون والمعذرون فلما أنزل الله تعالى عيوب المنافقين ومن نفاقهم في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلّف عن غزوة بعدها يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا عن سرية أبدا. فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسرايا إلى الجهاد ونفر المسلمون جميعا إلى الغزو وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده بالمدينة فأنزل الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً يعني ليس لهم أن يخرجوا جميعا إلى العدو ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده. فَلَوْلا نَفَرَ فهلّا خرج مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ قبيلة مِنْهُمْ طائِفَةٌ جماعة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ يعني الفرقة القاعدين فإذا رجعت السرايا وقد نزلت بعدهم قوله تعالى: الْقاعِدُونَ. قالوا لهم إذا رجعوا: قد أنزل الله على نبيكم بعدكم قرآنا وقد تعلمنا فيمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيّهم من بعدهم ويبعث سرايا أخر فذلك لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ وليعلمونهم الأمر لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ولا يعملون خلافه. وقال الحسن: هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة ومعنى الآية: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أي ليتبصّروا ويتيقنوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ من الكفار إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ من الجهاد فيخبروهم بنصر الله النبي والمؤمنين، ويخبرونهم أنهم لا يدان «1» لهم بقتال النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ قتال النبي صلى الله عليه وسلّم فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار. قال الكلبي: ولها وجه آخر: ذكر أن أحياء من بني أسد بن خزيمة أصابتهم [سنة شديدة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر فقدموا] حتى نزلوا بالمدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» . وقال مجاهد: في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا
وخصبا ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى. قال الناس لهم: ما نراكم إلّا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرج وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ويستمعوا ما أنزل إليهم وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الناس كلهم إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ويدعوهم إلى الله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ بأس الله ونقمته باتباعهم وطاعتهم، وقعدت طائفة تريد المغفرة. وقال عكرمة: لما نزلت إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الآية قال المنافقون من أهل البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرجوا إلى البدو إلى قومهم ليفقهوهم، فأنزل الله تعالى في المعذر لأولئك هذه الآية. وروى عن عبد الرزاق بن همام في قوله فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ قال: هم أصحاب الحديث. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب. قال ابن عباس: مثل قريظة والنضير وخيبر وفدك ونحوها. ابن عمر: أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، والشام كانت أقرب إلى المدينة من العراق. وكان الحسن إذا سئل عن قتال الروم والديلم تلا هذه الآية «1» . وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وحمية، وقال الضحاك: جفاء، وقال الحسن: صبرا على جهادهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ قراءة العامة: برفع الياء لمكان الهاء وقرأ عبيد بن عمير: أَيَّكُمْ بفتح الياء وكلّ صواب زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً يقينا وإخلاصا وتصديقا. وقال الربيع: خشية وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بنزول القرآن. عن الضحاك عن ابن عباس: (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) يعني سورة محكمة فيها الحلال والحرام فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وتصديقا بالفرائض مع إيمانهم بالرحمن
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزول الفرائض وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا إلى كفرهم وضلالا إلى ضلالهم وشكا إلى شكهم. وقال مقاتل: إثما إلى أثمهم وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ قال مجاهد في هذه الآية: الإيمان يزيد وينقص، وقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : لو وزن إيمان أبو بكر (رضي الله عنه) بإيمان أهل الأرض لرجحهم، بلى إن الإيمان ليزيد وينقص، قالها ثلاث مرات. وروى زيد الشامي عن ذر قال: كان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: تعالوا حتى نزداد إيمانا. قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) : إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما ازداد الإيمان عظما ازداد ملك الناس حتى يبيض القلب كله، وأن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما إزداد النفاق إزداد ذلك السواد فيسود القلب كله. فأيم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود. وكتب الحسن إلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : إن للإيمان تشاد شرائع وحدود وفرائض من استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. وقال ابن المبارك عن الحسن: إلّا قرابة بزيادة الإيمان أو أردّ كتاب الله تعالى. أَوَلا يَرَوْنَ قرأ العامة بالياء خبرا عن المنافقين المذكورين، وقرأ حمزة ويعقوب: أولا ترون بالتاء على خطاب المؤمنين، وهي قراءة أبي بن كعب. قرأ الأعمش: أولم تر، وقرأ طلحة: أولا ترى وهي قراءة عبد الله بن عمر أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يختبرون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قال: يكذبون كذبة أو كذبتين يصلون فيه، وقال مجاهد: يُفْتَنُونَ بالقحط والغلاء، عطية: بالأمراض والأوجاع وهي روائد الموت. قتادة: بالغزو والجهاد، وقيل: بالعدوّ، وقيل: يُفْتَنُونَ فيعرفون مرة وينكرون بأخرى. مرّة الهمداني: يُفْتَنُونَ يكفرون. مقاتل بن حيان: يفضحون بإظهار نفاقهم. عكرمة: ينافقون ثم يؤمنون ثمّ ينافقون كما أنهم ينقضون عهدهم في سنة مرة أو مرتين «1» ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نقضهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [بما صنع الله بهم] وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا انقضوا عهودهم بعث إليهم السرايا فيقتلونهم. الحسن: يُفْتَنُونَ بالجهاد في سبيل الله مع رسوله ويرون تصديق ما وعده الله من النصر والظفر على من عاداه الله ثُمَّ لا يَتُوبُونَ لما يرون من صدق موعد الله، ولا يتّعظون، الضحاك: يُفْتَنُونَ بالغلاء والبلاء ومنع القطر وذهاب الثمار ثم لا يرجعون عن نفاقهم ولا يتفكرون في عظمة الله، وفي قراءة عبد الله: وما يذكرون.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها عيب المنافقين وتوبيخهم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ كلام مختصر تقديره نظر بعضهم في بعض وقالوا أو أشاروا هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أحدا يراهم قاموا فانصرفوا ثُمَّ انْصَرَفُوا عن الإيمان بها، وقال الضحاك: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ يعني أطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل قال الله صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان بالقرآن بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ قال ابن عباس: لا تقولوا إذا صليتم: انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة «1» . لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ قراءة العامة بضم الفاء أي: من نسبكم تعرفون نسبه وحسبه وأي قبيلة من العرب من بني إسماعيل. قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلّا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلّم مضريها وربيعها ويمانيها «2» . قال الصادق: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا حامد بن محمد. علي بن عبد العزيز. محمد بن أبي هاشم حدّثني المدني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية وما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام» «3» [74] فإن الله تعالى جعله من أنفسهم، فلا تحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. قرأ ابن عباس وابن ثعلبة: عبد الله بن فسيط المكي وابن محيصن والزهري مِنْ أَنْفَسِكُمْ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم من قولك: شيء نفيس إذا كان مرغوبا فيه. قال يمان: من أعلاكم نسبا عَزِيزٌ شديد عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ما صلة أي عنتكم وهو دخول المشقة والمضرّة عليكم. قال ابن عباس: ما ضللتم. قال الضحاك والكلبي: أثمتم، وقال العتيبي: ما عنتكم وضرّ بكم، وقال ابن الأنباري: ما هلكتم عليه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على إيمانكم وهداكم وصلاحكم، وقال قتادة: حريص على ضالهم أن يهديه الله، وقال الفراء: الحريص الشحيح أن تدخلوا النار. بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رفيق رَحِيمٌ قيل: رَؤُفٌ بالمطيعين رَحِيمٌ بالمذنبين رَؤُفٌ بعباده رَحِيمٌ بأوليائه. رَؤُفٌ بمن يراه رَحِيمٌ بمن لم يره. قال عبد العزيز بن يحيى: نظم الآية: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز حريص
بالمؤمنين رحيم عليه ما عنتم لا يهمه إلّا شأنكم وهو القائم بالشفاعة فلا تهتموا بما عنتم ما أقمتم على سنته فإنه لا يرضيه إلّا دخولكم الجنة لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من ترك ما لا فلنؤتينه ومن ترك كلّا ودينا فعليّ وإلىّ» [75] . فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان وناصبوك فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قراءة العامة بخفض الميم على العرش، وقرأ ابن محيصن: الْعَظِيمُ بالرفع على نعت الربّ، وقال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلّا للنبي صلى الله عليه وسلّم فإنه قال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1» . وقال يحيى بن جعدة: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : لا تثبت آية في المصحف حتى يشهد عليها رجلان فجاء رجل من الأنصار بالآيتين من آخر سورة التوبة لَقَدْ جاءَكُمْ فقال عمر: والله لا أسألك عليها بيّنة، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأثبتهما، وهي آخر آية نزلت من السماء في قول بعضهم، وآخر سورة كاملة نزلت سورة براءة. أخبرنا أبو عبد الله بن حامد، عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن حجاج عن همام. عن قتادة قال: إن آخر القرآن عهدا بالسماء هاتان الآيتان خاتمة براءة لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى قوله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. أبي بن كعب: إن أحدث القرآن عهدا بالله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ إلى آخر السورة.
سورة يونس (ع)
سورة يونس (ع) مكية، وهي عشرة آلاف وثمانمائة وتسع وثمانون حرفا، وألفان وخمسمائة كلمة غير واحدة، ومائة وتسع آيات حدثنا حامد بن أحمد وسعيد بن محمد، ومحمد بن القاسم. قالوا: أخبرنا محمد بن مطر. إبراهيم بن شريك. أحمد بن يونس. سلام بن سليم. هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة يونس أعطي من الأجر ومن الحسنات بعدد من صدّق بيونس وكذّب به، وبعدد من غرق مع فرعون» [76] صدق رسول الله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) الر قرئ بالتفخيم والإمالة وبين اللفظين، وكلها لغات صحيحة فصيحة. ابن عباس والضحاك: أنا الله أرى، وقيل: أنا الرب لا رب غيري. عكرمة والأعمش والشعبي. الر وحم ون حروف الرحمن مقطعة. فإذا وصلت كان الرَّحْمنُ. قتادة: اسم من أسماء القرآن. أبو روق: فاتحة السورة، وقيل: عزائم الله، وقيل: هو قسم كأنّه قال: والله إنّ تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ. قال مجاهد وقتادة: أراد به التوراة والإنجيل والكتب المقدسة، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث. وقال الآخرون: أراد به القرآن وهو أولى بالصواب لأنه لم يخص الكتب المقدمة قبل ذكره
ولأن الحكيم من بعث القرآن، دليله قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «1» ونحوها فيكون على هذا التأويل تِلْكَ يعني هذه وقد مضى القول في هذه المسألة في أول سورة البقرة الْحَكِيمِ المحكوم بالحلال والحرام والحدود والأحكام. وقال مقاتل: المحكم من الباطل لا كذب فيه ولا اختلاف وهو فعيل بمعنى فاعل كقول الأعمش في قصيدته: وعزيمة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها وقيل: هو الحاكم فعيل بمعنى فاعل بأنه قرأ: نزل فيهم الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ «2» وقيل: بمعنى المحكوم فيه فعيل بمعنى المفعول. قال الحسن: حكم فيه بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وحكم فيه بالنهي عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه. وقال عطاء: حكيم بما حكم فيه من الأرزاق والآجال بما شاء. أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الآية، قال ابن عباس: لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت الكفار وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ أهل مكة والألف للتوبيخ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا ... أَنْ في محل الرفع وأَوْحَيْنا صلة له تقديره أكان للناس عجبا لإيحائنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ محمد، وفي حرف عبد الله: عجيب، بالرفع على اسم كان، وأن في محل نصب على خبره أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أن على محل نصب بقصد الخافض وكذلك الثانية. وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ. قال ابن عباس: أجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم. قال الضحاك: ثواب صدق. مجاهد: الأعمال الصالحة، علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول. سلف صدق، زيد بن أسلم: محمد صلى الله عليه وسلّم شفيع لهم. يمان: إيمانهم، عطاء: مقام صدق لا زوال فيه ولا بؤس، نعيم مقيم وخلود وخلود لا موت فيه، الحسن: عمل صالح أسلفوه [فأثابهم] عليه، الأعمش: سابقة صدق. أبو حاتم: منزل صدق نظيره وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ «3» عبد العزيز بن يحيى: قَدَمَ صِدْقٍ. قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى «4» . الزجاج: منزلة رفيعة، وقيل: هو بعثهم وتقديم الله تعالى هذه الأمة في البعث يوم
القيامة، بيانه قوله صلى الله عليه وسلّم: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، وقيل: عدة الله تعالى لهم، والقدم: القدم كالنقص والقبض وأضيف القدم إلى الصدق وهو [علة] كما قيل: مسجد الجامع، وحقّ اليقين. قال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف. قال العجاج: زل بنو العوام عن آل الحكم ... وتركوا الملك لملك ذي قدم «1» أي متقدم. قال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق في خير أو شر فهو عند العرب قدم. يقال: لفلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق، وقدم سوء، وهو مؤنث يقال: قدم حسنة وقدم صالحة. قال حسان بن ثابت: لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لأوّلنا في طاعة الله تابع «2» قال ذو الرمّة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العاديّ طمت على البحر «3» وقال آخر: قعدت بهم قدم الفجار وذكرت ... أنسابهم من فضة من مالق أي ما يقدّم لهم من الفجّار. قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ قال المفسرون: القرآن، وقرأ أهل الكوفة: لَساحِرٌ يعني محمد (صلى الله عليه وسلّم) . إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قال مجاهد: يقضيه وحده ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أمره ذلِكُمُ اللَّهُ الذي فعل هذه الأشياء رَبَّكُمُ لا ربّ لكم سواه فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ معادكم جَمِيعاً نصب على الحال وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا صدقا لا خلف فيه، وهو نصب على المصدر، أي وعد الله وعدا حقّا فجاء به حقّا، وقيل: على القطع، وقرأ ابن أبي عبلة: وعد الله حق على الاستئناف، ثم قال: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يحميهم ابتداء ثم يميتهم ثم يحييهم، وقرأ العامة: إِنَّهُ،
[سورة يونس (10) : الآيات 5 إلى 14]
[بكسر الألف على الاستئناف. وقرأ أبو جعفر: أَنَّهُ، بالفتح على معنى: لأنه وبأنه «1» ، كقول الشاعر: أحقا عباد الله أن لست زائرا «2» ... بثينة أو يلقى الثريا رقيبها «3» لِيَجْزِيَ ليثيب الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ بالعدل ثم قال: مبتدئا وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ ماء حار قد انتهى حرّه حَمِيمٍ وهو بمعنى محموم فعيل بمعنى مفعول، وكل مسخن مغلي عند العرب فهو حميم. قال المرقش: وكل يوم لها مقطرة ... فيها كباء معدّ وحميم «4» وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ. [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 14] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً بالنهار وَالْقَمَرَ نُوراً بالليل. قال الكلبي: تضيء وجوههما لأهل السموات السبع وظهورهما لأهل الأرضين السبع. [قرأ الأكثرون: ضِياءً بهمزة واحدة] وروي عن ابن كثير: ضئاء بهمزت الياء، ولا وجه لها
لأن ياءه كانت واوا مفتوحة، وهي عين الفعل أصله ضواء فسكنت وجعلت ياء كما جعلت في الصيام والقيام وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي قدر له بمعنى هيأ له وسوى له منازل لا يجاوزها ولا يقصر دونها. وقيل: جعل قدر مما يتعدى لمفعولين ولم يقل قدرهما، وقد ذكر الشمس والقمر وفيه وجهان: أحدهما أن يكون الهاء للقمر خاصة بالأهلة يعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس، والآخر أن يكون قد اكتفى بذكر أحدهما من الآخر، كما قال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1» وقد مضت هذه المسألة لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ دخولها وانقضائها وَالْحِسابَ يعني وحساب الشهور والأيام والساعات ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ مثل ما في الفصل والخلق والتقدير، ولولا [وجود] الأعيان المذكور لقال: تلك إِلَّا بِالْحَقِّ لم يخلقه باطلا بل إظهارا لصنعه ودلالة على قدرته وحكمته، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فهذا الحق يُفَصِّلُ الْآياتِ يبيّنها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. قال ابن كثير وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: يُفَصِّلُ بالياء، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله قبله ما خَلَقَ اللَّهُ وبعده وَما خَلَقَ اللَّهُ فيكون متبعا له، وقرأ ابن السميقع بضم الياء وفتح الصاد ورفع التاء من الآيات على مجهول الفعل، وقرأ الباقون بالنون على التعظيم. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ يوقنون فيعلمون ويقرّون. قال ابن عباس: قال أهل مكة: آتينا بآية حتى نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية. إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا يعني لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا، والرجاء يكون بمعنى الهلع والخوف وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا فاختاروها دارا لهم وَاطْمَأَنُّوا بِها وسكنوا إليها. قال قتادة في هذه الآية: إذا شئت رأيت صاحب دنيا لها يفرح ولها يحزن ولها يرضى ولها يسخط. وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا أدلتنا غافِلُونَ لا يعتبرون. قال ابن عباس عَنْ آياتِنا محمد والقرآن غافِلُونَ معرضون تاركون مكذبون أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والتكذيب إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ فيه إضمار واختصار أي يهديهم ربهم بإيمانهم إلى مكان تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ قال أبو روق: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ إلى الجنة، قال عطية: يَهْدِيهِمْ ويثيبهم ويجزيهم، وقيل ينجيهم.
مجاهد ومقاتل: يَهْدِيهِمْ بالنور على الصراط إلى الجنة يجعل لهم نورا يمشون به. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة [حسنة وبشارة حسنة] فيقول له. من أنت فو الله أني لأراك امرأ صدق؟ فيقول له: أنا عملك، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيقول: من أنت فو الله إني لأراك امرء سوء؟ فيقول: أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار «1» . وقيل: معنى الآية: بإيمانهم يهديهم ربهم لدينه أي بتصديقهم هداهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لم يرد أنها تجري تحتهم وهم فوقها، لأن أنهار الجنة تجري من غير أخاديد «2» . وإنما معناه أنها تجري من دونهم وبين أيديهم وتحت أمرهم كقوله تعالى: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا «3» ومعلوم أنه لم يجعل السري تحتها وهي عليه قاعدة وإنما أراد به بين يديها، وكقوله تعالى مخبرا عن فرعون: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «4» ، أو من دوني وتحت أمري فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. دَعْواهُمْ قولهم وكلامهم فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ. قال طلحة بن عبد الله سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عن سُبْحانَ اللَّهِ، فقال: هو تنزيه الله من كل سوء ، وسأل ابن الكوّا عليا عن ذلك فقال: كلمة رضيها الله لنفسه «5» . قال المفسرون: [هذه نعمة علم بين له وعين الخدام في] «6» الطعام فإذا اشتهوا شيئا من الطعام والشراب قالوا: سبحانك اللهم. فيأتوهم في الوقت بما يشتهون على مائدة، فإذا فرغوا من الطعام والشراب حمدوا الله على ما أعطاهم فذلك قوله تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ قولهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وما يريد آخر كلام يتكلّمون به ولكن أراد ما قبله. قال الحسن: بلغني بأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال حين قرأ هذه الآية: «إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس» «7» . وذلك قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها في الجنة سَلامٌ يحيّي بعضهم بعضا بالسلام وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام. قال ابن كيسان: يفتحون كلامهم بالتوحيد ويختمون بالتحميد.
وقرأ العامة: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بالتخفيف والرفع، وقرأ بلال بن أبي بردة وابن محيصن أَنَّ مثقلا الْحَمْدَ نصبا. وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ فيه اختصار ومعناه: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الآية ذهابهم في الشرك اسْتِعْجالَهُمْ بالإجابة في الخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي لفرض من هلاكهم ولماتوا جميعا. قال مجاهد: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب: [اللهم أهلكه، اللهم لا تبارك له فيه والعنه] يتخذها الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له. شهر بن حوشب. قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول للملكين الموكلين: لا تكتبا على عبدي في حال ضجره شيئا. وقرأ العامة: لقضي إليهم آجالهم برفع القاف واللام على خبر تسمية الفاعل، وقرأ عوف وعيسى وابن عامر ويعقوب: بفتح القاف واللام، وقرأ الأعمش: لقضينا، وكذلك هو في مصحف عبد الله، وقيل: أنها نزلت في النضر بن الحرث حين قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «1» الآية يدل عليه قوله تعالى: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يخافون البعث والحساب ولا يأملون الثواب فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَإِذا مَسَّ أصاب الْإِنْسانَ الضُّرُّ الشدة والجهد دَعانا لِجَنْبِهِ على جنبه مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فإنما يريد جميع حالاته لأن الإنسان لا يعدو أحد هذه الخلال فَلَمَّا كَشَفْنا رفعنا وفرجنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أي استمر على طريقته الأولى، قيل: أن يصيبه الضرّ ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء وترك الشكر والدعاء، قال الأخفش: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا وكَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا وأمثالها، كأن الثقيلة والشديدة كأنه لم يدعنا كَذلِكَ أي كما زيّن لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ الآية زين الجد في الكفر والمعصية ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعصية والإسراف يكون في النفس، وفي قراءة: ضيّع نفسه وجعلها عابد وثن وضيع ماله إذ جعله [سائبا بلا خير] «2» ، ومعنى الكلام أسرفوا في عبادتهم وأسرفوا في نفقاتهم. وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني الأمم الماضية. قال ابن عباس: بين القرنين ثمان وعشرون سنة. لَمَّا ظَلَمُوا أشركوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ أي كما أهلكناهم بكفرهم وتكذيبهم رسلهم نَجْزِي نهلك الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ المشركين تكذيبهم
[سورة يونس (10) : الآيات 15 إلى 20]
محمد صلى الله عليه وسلّم يخوّف كفّار مكة عذاب الأمم الخالية المكذبة ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد القرون التي أهلكناهم لِنَنْظُرَ لنرى كَيْفَ تَعْمَلُونَ وهو أعلم بهم. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الدنيا خضرة حلوة وأن الله استخلفكم فيها فانظر كَيْفَ تَعْمَلُونَ» [77] . قتادة: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلّا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار والسرّ والعلانية. وروى ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيت فيما يرى النائم كأنّ شيئا دلّي من السماء فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أعيد فانتشط أبو بكر (رضي الله عنه) ثم ذرع الناس حول المنبر ففصّل عمر بثلاثة أذرع إلى المنبر، فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها، فلما استخلف عمر قال: قل يا عوف رؤياك، قال: هل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنهوني؟ فقال: ويحك إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم نفسه. فقصّ عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس المنبر بهذه الثلاثة الأذرع. قال: أما إحداهن فإنّه كائن خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم، وأما الثالثة فإنّه شهيد، ثم قال: يقول الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل، وأما قوله: فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله، وأما قوله: إني شهيد فإنّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به، ثم قال: إن الله على ما يشاء لقدير. [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 20] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا قتادة: يعني مشركي مكة، مقاتل: هم خمسة نفر: عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هاشم. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: ائْتِ بِقُرْآنٍ ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل وليس فيه عنهما أي بَدِّلْهُ تكلم به من تلقاء نفسك.
وقال الكلبي: نزلت في المستهزئين، قالوا: يا محمد ائْتِ بِقُرْآنٍ غيره [ليس فيه ما يغيظنا، أَوْ بَدِّلْهُ] فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة أو آية رحمة آية عذاب أو حرام حلالا أو حلال حراما قُلْ لهم يا محمد ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي ومن عندي إِنْ أَتَّبِعُ ما أطيع فيما آمركم وأنهاكم إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ أعلمكم بِهِ وقرأ الحسن: ولا أدراتكم «1» به، وهي لغة بني عقيل يحولون الياء ألفا فيقولون: أعطأت بمعنى أعطيت، ولبأت بمعنى لبّيت وجاراة وناصاة للجارية والناصية. فأنشد المفضل: لقد أذنت أهل اليمامة طيّ ... بحرب كناصاة الأغر المشهر وقال زيد الخيل: لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقا ... على الأرض قيسيّ يسوق الأباعرا أي ما بقي، وقال آخر: زجرت فقلنا لا نريع لزاجر ... إن الغويّ إذا نها لم يعتب أي نهى «2» . وروى البري عن ابن كثير ولا دراكم بالقصر على الإيجاب يريد: ولا عملكم به من غير قراءتي عليكم «3» . وقرأ ابن عباس: ولا أدراتكم «4» من الإنذار، وهي قراءة الحسن فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً حينا وهو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ من قبل نزول القرآن ولم آتكم بشيء أَفَلا تَعْقِلُونَ انه ليس من قبلي. قال ابن عباس: نبّئ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو ابن أربعون سنة وأقام بمكة ثلاثة عشرة وبالمدينة عشرة وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم أنه له شريكا أو صاحبة أو ولدا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ محمد والقرآن إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ لا يأمن ولا ينجو المشركون وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ إن عصوه وَلا يَنْفَعُهُمْ أن أطاعوه يعني الأصنام وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ تخبرون اللَّهِ قرأه العامة: بالتشديد، وقرأ أبو الشمال العدوي: أَتُنْبِئُونَ بالتخفيف وهما لغتان. نبأ ينبئ بنية، وأنبأني إنباء بمعنى فاعل جمعها.
قوله تعالى: قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ «1» بِما لا يَعْلَمُ بما لا يعلم الله تعالى صحته وحقيقته ولا يكون فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ومعنى الآية: أتخبرون الله أنّ له شريكا أو عنده شفيعا بغير إذنه ولا يعلم الله أنّ له شريكا في السماوات وَلا فِي الْأَرْضِ لأنه لا شريك له فلذلك لا يعلمه نظيره قوله عزّ وجلّ: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ «2» . ثم نزّه نفسه فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وأبو حمزة والكسائي وخلف: تشركون بالتاء هاهنا وفي سورة النحل والروم، وهو اختيار أبي عبيد للمخاطبة التي قبلها، وقرأ الباقون كلها بالياء، واختارها أبو حاتم، وقال: كذلك تعلمناها. وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً على ملة واحدة الإسلام دين آدم (عليه السلام) إلى أن قتل أحد ابني آدم أخاه فَاخْتَلَفُوا. قاله مجاهد والسدي. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فَاخْتَلَفُوا على عهد نوح فبعث الله إليهم نوحا، وقيل: كانوا أمة واحدة مجتمعة على التوحيد يوم الميثاق. وقيل: أهل سفينة نوح «3» ، وقال أبو روق: كانوا أمة واحدة على ملّة الإسلام زمن نوح (عليه السلام) بعد الغرق، وقال عطاء: كانوا على دين واحد الإسلام من لدن إبراهيم (عليه السلام) إلى أن غيّره عمرو بن يحيى «4» ، عطاء: يدلّ على صحة هذه التأويلات قراءة عبد الله: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً على هدى فَاخْتَلَفُوا عنه، وقال الكلبي: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً كافرة على عهد إبراهيم فَاخْتَلَفُوا فتفرقوا، مؤمن وكافر. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بأن جعل للدنيا مدة لكل أمة أجلا لا تتعدى ذلك، قال أبو روق وقال الكلبي: هي أن الله أخّر هذه الأمة ولا يهلكهم بالعذاب في الدنيا، وقيل: هي أنه لا يأخذ إلّا بعد إقامة الحجة. وقال الحسن، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ مضت في حكمه أنه لا يقضي فيهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا فأدخل المؤمنين الجنة بأعمالهم والكافرين في النار بكفرهم ولكنه سبق من الله الأجل فجعل موعدهم يوم القيامة.
[سورة يونس (10) : الآيات 21 إلى 25]
وقال أبو روق: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، لأقام عليهم الساعة، وقيل: الفزع من هلاكهم، وقال عيسى ابن عمر: لَقَضَي بَيْنَهُمْ بالفتح لقوله: مِنْ رَبِّكَ ... فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الذين وَيَقُولُونَ يعني أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على محمد آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ لهم يا محمد ما سألتموني الغيب إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ ما يعلم أحدكم بفعل ذلك إلّا هو، وقيل: الغيب، نزول الآية متى تنزل نزل فَانْتَظِرُوا نزول الآية إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزولها، وقيل: فَانْتَظِرُوا قضاء الله بيننا بإظهار الحق على الباطل. وقال الحسن: فَانْتَظِرُوا مواعيد الشيطان وكانوا مع إبليس على موعد فيما يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. فأنجز الله وعده ونصر عبده. [سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 25] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ يعني الكفار رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ أي راحة ورخاء بعد شدة وبلاء، وقيل: عنى به القطر بعد القحط إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قال مجاهد: استهزاء وتكذيب. مقاتل بن حسان: لا يقولون هذا رزق الله فإنما يقولون: سقينا بنوء كذا «1» وهو قوله: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «2» قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أعجل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء، وقال مقاتل صنيعا. إِنَّ رُسُلَنا حفظتنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ قرأ العامة بالتاء لقوله، وقراءة الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب: يمكرون بالياء لقوله: إِذا لَهُمْ وهي رواية هارون عن أبي عمرو «3» . هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يبحر بكم ويحملكم على التسيير، وقرأ أبو جعفر وابن عامر: ينشركم بالنون من النشر، وهو [البسط] في البر على الظهر وفي البحر على الفلك
حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي في السفن يكون واحد أو جمعا، وقرأ عيسى الْفُلُكِ بضم اللام. وَجَرَيْنَ بِهِمْ يعني جرت السفن بالناس وهذا خطاب تكوين رجع من الخطاب إلى الخبر بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها أي الريح جاءَتْها يعني الفلك وهو جواب لقوله حتى إذا جاءتها رِيحٌ عاصِفٌ شديد يقال: عصفت الريح وأعصفت والريح، مذكر ومؤنث، وقيل: لم يقل: عاصفة لاختصاص الريح بالعصوف، وقيل: للنسب أي ذات عصوف وَجاءَهُمُ يعني سكان السفينة الْمَوْجُ وهو حركة الماء وأخلاطه مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا وأيقنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ إذا أحاط بهم الهلاك دَعَوُا اللَّهَ هنالك مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ للدعاء دون أوثانهم وكان مفزعهم إلى الله دونها. روى [الثوري] عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد في قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ قال: قالوا في دعائهم: أهيا شراهيا «1» وتفسيره: يا حيّ يا قيوم لَئِنْ أَنْجَيْتَنا خلصتنا يا ربنا مِنْ هذِهِ الريح العاصف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك بالإيمان والطاعة فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ يظلمون ويتجاوزون إلى غير أمر الله فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ الآن وباله راجع إليها وجزاؤه لاحق، وأتم الكلام هاهنا كقوله تعالى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ «2» أي هذا بلاغ وقيل هو كلام متصل، والبغي ابتداء ومتاع خبره، وقوله عَلى أَنْفُسِكُمْ صلة المتاع ومعناه إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ولا يصلح لزاد المعاد لأنّكم استوجبتم غضب الله. وقرأ ابن إسحاق وحفص: متاعا بالنصب على الحال ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا في فنائها وزوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الحبوب والبقول والثمار وَالْأَنْعامُ من الحشيش والمراعي. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها حسنها وبهجتها وَازَّيَّنَتْ هذا قراءة العامة، وتصديقها قراءة عبد الله بن مسعود: وتزينت، وقرأ أبو عثمان النهدي والضحاك: وازّانت على وزن اجّازت قال عوف بن أبي جميلة: كان أشياخنا يقرءونها كذلك «3» وازيانت نحو اسوادّت، وقرأ أبو رجاء وأبو العالية والشعبي والحسن والأعرج: وازينت على وزن أفعلت مقطوعة الألف [بالتخفيف] ، قال قطرب: معناه: أتت بالزينة عليها، كقولهم: أحبّ فأذمّ واذكرت المرأة فأنثت وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أخبر عن الأرض ويعني للنبات إذ كان مفهوما وقيل: ردّه إلى الغلّة وقيل: إلى الزينة أَتاها أَمْرُنا قضاؤنا بهلاكها لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً مقطوعة
مقلوعة وهي محصورة صرفت إلى حصيد كَأَنْ لَمْ تَغْنَ تكن، وأصله من غني المكان إذا أقام فيه وعمّره، وقال مقاتل: تغم، وقرأها العامة: تَغْنَ بالتاء لتأنيث الأرض، وقرأها قتادة بالياء يذهب به إلى الزخرف «1» كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ قال قتادة: السلام الله وداره الجنة، وقيل: السلام والسلامة واحد كاللذاذ واللذاذة والرضاع والرضاعة. قال الشاعر: تحيّى بالسلامة أم بكر ... وهل لك بعد رهطك من سلام «2» فسميت الجنة دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات. قال الله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ «3» ، وقال ذو النون المصري: سميت بذلك لأن من دخلها سلم من القطيعة والفراق، وقيل: أراد به التحية يقال: سلم تسليما وسلاما كما يقال: كلم تكليما وكلاما فسميت الجنة دار السلام لأن أهلها يحيي بعضهم بعضا والملائكة يسلمون عليهم، وقال الحسن: السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم. وقال أبو بكر الوراق: سميت بذلك لأن من دخلها سلم عليه المولى وذلك أن الله يعلم ما فيه أهل الجنة من ذكر الذنوب والهيبة لعلّام الغيوب فيبدأ هم بالسلام والتحية لهم تقريبا وإيناسا وترحيبا. قال جابر بن عبد الله خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما فقال: «إني رأيت في المنام كأن جبرائيل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعت اذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعوهم إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول، من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها» [78] «4» . قال يحيى بن معاذ: يا ابن آدم دعاك الله إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه فإن أجبته من دنياك دخلتها وإن أجبته من قبرك منعتها ثم قال: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عمّ بالدعوة إظهارا لحجته وخصّ بالهداية استغناء عن خلقه، وقيل: الدعوة إلى الدار عامة لأنها الطريق إلى النعمة وهداية الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم.
[سورة يونس (10) : الآيات 26 إلى 36]
[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 36] لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بن يعقوب الفقيه في آخرين قالوا: حدثنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار. الحسن بن عرفة العبدي حدثني سلم بن سالم البلخي عن نوح عن أبيّ عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ فقال: «الذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنّة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم» [79] » . وهو قول أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وحذيفة وأبي موسى وصهيب وعبادة بن الصامت وكعب ابن عجرة وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن سابط والحسن وعكرمة وأبي الجوزاء والضحاك والسدي وعطاء ومقاتل، يدلّ عليه: ما أخبرنا أبو إسحاق بن الفضل القهندري أخبرنا أبو علي الصفار. الحسن بن عرفة. يزيد ابن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا لم تروه، قال: فيقولون وما هو؟ ألم تبيضّ وجوهنا وتزحزحنا عن النار وتدخلنا الجنة. قال: فيكشف الحجاب- تبارك وتعالى- فينظرون إليه- قال: فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم منه [80] «2» .
قال ابن عباس: الذين أَحْسَنُوا الْحُسْنى يعني الذين شهدوا أن لا إله إلّا الله الجنة. وروى عطية عنه هي أن واحدة من الحسنات واحدة والزيادة التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف «1» . وروى جويبر عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط قال: الحسنى: النظرة، والزيادة: النظر. قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «2» . وروى الحكم عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: الزيادة غرفة من لؤلؤ واحدة لها أربعة ألف باب. مجاهد: الحسنى: حسنة مثل حسنة والزيادة مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، ابن زيد: الحسنى: الجنة والزيادة ما أعطاهم في الدعاء لا يحاسبهم به يوم القيامة. حكى منصور بن عمار عن يزيد بن شجرة قال: الزيادة: هي أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتمطرهم من كل النوادر، وتقول لهم: ما تريدون ان أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلّا مطرتهم. وَلا يَرْهَقُ يغشى ويلحق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ غبار وهو جمع قترة. قال الشاعر: متوج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا «3» وقال ابن عباس وقتادة: سواد الوجوه، وقرأ الحسن: قَتْرٌ بسكون التاء وهما لغتان كالقدر والقدر وَلا ذِلَّةٌ هوان، وقال قتادة: كآبة وكسوف. قال ابن أبي ليلى: هذا بعد نظرهم إلى ربهم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها يجوز أن يكون الجزاء مرفوعا بإضمار أي: لهم جزاء، ويجوز أن يكون مرفوعا بالياء، فيجوز أن يكون ابتداء وخبره بمثلها أي: مثلها بزيادة الباء فيها كقولهم: بحسبك قول السوء. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ من عذاب الله مِنْ عاصِمٍ أي من مانع، ومن صلة كَأَنَّما أُغْشِيَتْ ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً أكثر القراء على فتح الطاء وهو جمع قطعة ويكون «مُظْلِماً» على هذه القراءة نصبا على الحال والقطع دون النعت كأنه أراد قطع من الليل المظلم فلما حذف الألف واللام نصب. يجوز أن يكون مُظْلِماً صفة لقطع- وسط الكلام- كقول الشاعر: لو أن مدحة حي منشر أحدا وقرأ أبو جعفر والكسائي وابن كثير قِطَعاً بإسكان الطاء وتكون مُظْلِماً على هذا نعت كقوله: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، اعتبارا بقراءة أبيّ: كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ
اثبتوا وقفوا في موضعكم ولا تبرحوا أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ يعني الأوثان فَزَيَّلْنا ميّزنا وفرقنا بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا بذلك حين [اتخذوا] كل معبود من دون الله من خلقه وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ يقولون بلى كنا نعبدكم فيقول الأصنام: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ أي ما كنا عن عبادتكم إيّانا إلّا غافلين، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل. قال الله تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا أي تخبر وقيل: تعلم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة وعيسى وحمزة والكسائي (تَبْلُوا) بالتاء «1» ، وهي قراءة ابن مسعود في معنى: وتقرأ. كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ صحيفتها، وقيل: معناه تتبع ما قدمت من خير وشرّ، وقال ابن زيد [تعاون] وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ [بطل] عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [من الآلهة] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَالْأَرْضِ النبات أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ الذي فعل هذه الأشياء فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تخافون عقابه في شرككم فَذلِكُمُ اللَّهُ الذي يفعل هذه الأشياء رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ فمن أين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرّون كَذلِكَ فسرها الكلبي هكذا في جميع القرآن حَقَّتْ وجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ حكمه وعلمه السابق. وقرأ الأعرج: كلمات عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا كفروا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئ من غير أصل ولا [مثال] ثُمَّ يُعِيدُهُ يحييه بهيئته بعد الموت [أي قل لهم يا محمد ذلك على وجهة التوبيخ والتقرير] «2» فإن أجابوك وإلّا قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عن قصد السبيل قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أوثانكم مَنْ يَهْدِي يرشد إِلَى الْحَقِّ فإذا قالوا: لا، فلا بدّ لهم منه قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي إلى الحق أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي. اختلف القراء فيه، فقرأ أهل المدينة: مجزومة الهاء مشدّدة الدال لأن أصله يهتدي فأدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على [السكون] في قراءتهم بين ساكنين كما فعلوا في قوله: (تَعُدُّوا ويَخِصِّمُونَ) . وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الهاء وتشديد الدال وقلبت الياء المدغمة الى الهاء، فاختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ عاصم وورش بكسر الهاء وتشديد الدال فرارا من التقاء الساكنين. [لأن الجزم إذا اضطر إلى حركته] تحول إلى الكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر.
[سورة يونس (10) : الآيات 37 إلى 52]
وروى يحيى ابن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الهاء والياء وتشديد الدال [لإتباع] الكسر الكسر وقيل: هو على لغة من يقرأ نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ ونحوها، وقرأ أبو عمرو بين الفتح والجزم على مذهبه في الإخفاء، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: بجزم الهاء وتخفيف الدال على معنى يهتدي، يقال: هديته فهدى أي اهتدى فقال: خبرته فخبر ونقصته فنقص. إِلَّا أَنْ يُهْدى في معنى الآية وجهان: فصرفها قوم إلى الرؤساء والمظلين. أراد لا يرشدون إلّا أن يرشدوا وحملها الآخرون على الأصنام، قالوا: وجه الكلام والمعنى لا يمشي إلّا أن يحمل وينتقل عن مكانه إلّا أن ينقل كقول الشاعر: للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه «1» يريد حيث يحمل فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تقضون لأنفسكم وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا منهم إنها آلهة وأنها تشفع لهم في الآخرة وأراد بالأكثر الكل إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ. [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 52] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الفراء: معناه وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى كقوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ «1» وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «2» ، وقال الكسائي: أن في محل نصب الخبر ويفترى صلة له وتقديره: وما كان هذا القرآن مفترى، وقيل: أن بمعنى اللام أي وما كان القرآن ليفترى من دون الله وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ تمييز الحلال من الحرام والحق من الباطل لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ أي يقولون. قال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو أي ويقولون افتراه، اختلق محمّد القرآن من قبل نفسه. قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ شبيه القرآن وقرأ ابن السميقع: بِسُورَةِ مِثْلِهِ مضافة، فتحتمل أن تكون الهاء كناية عن القرآن وعن الرسول وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ممن تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ ليعينوكم على ذلك، وقال ابن كيسان: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ على المخالفة ليعينوكم، وقال مجاهد: شهداءكم بمعنى ناسا يشهدون لكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ محمدا افتراه. ثم قال: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ يعني القرآن وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ تفسيره. وقال الضحاك: يعني عاقبته وما وعد الله في القرآن انه كائن من الوعيد والتأويل ما يؤول إليه الأمر. وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن (من جهل شيئا عاداه؟) فقال: نعم في موضعين بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وقوله: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «3» كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الخالية فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي كما كذب هؤلاء المشركون بالقرآن كذلك كذب في هذا وبشّر المشركون بالهلاك والعذاب وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي ومن قومك من سيؤمن بالقرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ لعلم الله السابق فيهم وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين لا يؤمنون وَإِنْ كَذَّبُوكَ يا محمد فَقُلْ لِي عَمَلِي الإيمان وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ الشرك أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية الجهاد، ثم أخبر أن التوفيق للإيمان به لا بغيره، وأن أحدا لا يؤمن إلّا بتوفيقه وهدايته، وذكر أن الكفار يستمعون القرآن وقول محمد صلى الله عليه وسلّم فينظرون إليه ويرون أعلامه وأدلته على نبوته ولا ينفعهم ذلك ولا يهتدون لإرادة الله وعلمه فيهم فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بأسماعهم الظاهرة أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ
بأبصارهم الظاهرة أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ وهذا تسلية من الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم يقول ما لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع، ولا تقدر أن تخلق للأعمى بصرا يهتدي به فكذلك لا تقدر أن توفقهم للإيمان وقد حكمت عليهم أن لا يؤمنوا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً لأنه في جميع أفعاله عادل. وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والمعصية وفعلهم ما ليس لهم أن يفعلوا [وألزمهم] ما ليس للفاعل أن يفعله. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قال الضحاك: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ قصرت الدنيا في أعينهم من هول ما استقبلوا، وقال ابن عباس: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في قبورهم إلّا قدر ساعة مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ حين بعثوا من القبور يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ يا محمد في حياتك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في الآخرة ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ مجزيهم به. قال المفسرون: فكان البعض الذي أراه قبلهم ببدر وسائر العذاب بعد موتهم وَلِكُلِّ أُمَّةٍ خلت رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فكذبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي عذبوا في الدنيا واهلكوا بالحق والعدل. وقال مجاهد ومقاتل: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ يوم القيامة قُضِيَ بينه وبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا يعذبون بغير ذنب ولا يؤاخذون بغير حجة ولا ينقصون من حسناتهم ويزادوا على سيئاتهم وَيَقُولُونَ أي المشركون مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي وعدتنا يا محمد من العذاب. وقيل: قيام الساعة إِنْ كُنْتُمْ أنت يا محمد وأتباعك صادِقِينَ. قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً لا أقدر لها على ضرّ ولا نفع إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة [وأجل] إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وقت [انتهاء] أعمارهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ لهم إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الله بَياتاً ليلا أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ المشركون وقد وقعوا فيه أَثُمَّ هنالك وحينئذ، وليس بحرف عطف إِذا ما وَقَعَ نزل العذاب آمَنْتُمْ بِهِ صدقتم بالعذاب في وقت نزوله. وقيل: بأنه في وقت البأس آلْآنَ فيه إضمار أي، وقيل: أنّهم الآن يؤمنون وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ وتكذبون ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ اليوم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في الدنيا.
[سورة يونس (10) : الآيات 53 إلى 61]
[سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 61] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ويستخبرونك يا محمد أَحَقٌّ هُوَ ما تعدنا من العذاب وقيام الساعة قُلْ إِي كلمة تحقيق وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ لا شك فيه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فأتيقن وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ أشركت ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ يوم القيامة وَأَسَرُّوا وأخفوا النَّدامَةَ على كفرهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وفرغ من عذابهم وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ إلى قوله قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ تذكرة مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ ودواء لِما فِي الصُّدُورِ إلى قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ. قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. وقال ابن عمر: فضل الله الإسلام وَبِرَحْمَتِهِ تزيينه في القلب. خالد بن معدان: فضل الله الإسلام وَبِرَحْمَتِهِ السنّة. الكسائي: فضل الله النعم الظاهرة، ورحمته النعم الباطنة. بيانه: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً. أبو بكر الوراق: فضل الله النعماء وهو ما أعطى وجنى ورحمته الآلاء وهي ما صرف. وروى ابن عيينة فضل الله التوفيق ورحمته العصمة. سهل بن عبد الله: فضل الله الإسلام ورحمته السنة. الحسين بن الفضل: فضل الله الإيمان ورحمته الجنة. ذو النون المصري: فضل الله دخول الجنان ورحمته النجاة من النيران. عمر بن عثمان الصدفي: فضل الله كشف الغطاء ورحمته الرؤية واللقاء. وقال هلال بن يساف ومجاهد وقتادة: فضل الله الإيمان ورحمته القرآن فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال قرأ العامة كلاهما بالياء على الخبر، وقرأهما أبو جعفر:
بالتاء وذكر ذلك عن أبي بن كعب، وقرأ الحسين ويعقوب: فلتفرحوا بالتاء خطابا للمؤمنين يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم في بعض مغازيه «لتأخذوا [مصافكم] [81] ويجمعون» بالياء خبرا عن الكافرين قُلْ يا محمد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ خلق الله لَكُمْ عبّر عن الخلق بالإنزال لأن ما في الأرض من خيراتها أنزل من السماء مِنْ رِزْقٍ زرع أو ضرع فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا وهو ما حرموا من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي. قال الضحاك: هو قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً «1» الآية قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في هذا التحريم والتحليل أَمْ بل عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وهو قولهم: اللَّهُ أَمَرَنا بِها وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم ولا يعاتبهم عليه إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ منّ على الناس حين لا يعجل عليهم بالعذاب بافترائهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ. وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ عمل من الأعمال، وجمعه: شؤون، قال الأخفش: يقول العرب ما شأنك شأنه، أي لمّا عملت على عمل وَما تَتْلُوا مِنْهُ من الله مِنْ قُرْآنٍ ثم خاطبه وأمته جميعا فقال: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تأخذون وتدخلون فيه، والهاء عائدة على العمل، يقال: أفاض فلان في الحديث وفي القول إذا أبدع فيه. قال الراعي: وأفضن بعد كظومهن بجرة ... من ذي الأبارق إذ رعين حقيلا «2» قال ابن عباس: تُفِيضُونَ تفعلون، الحسن: تعملون، الأخفش: تكلمون، المؤرّخ: تكثرون، ابن زيد: تخرصون. ابن كيسان: تنشرون. يقال: حديث مستفيض، وقيل: تسعون. وقال الضحاك: الهاء عائدة إلى القرآن أي تستمعون في القرآن من الكذب. قيل: من شهد شهود الحق قطعا ذلك عن مشاهدة الأغيار أجمع وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ قال ابن عباس: فلا يغيب، أبو روق: يبعد، وقال ابن كيسان يذهب «3» . وقرأ يحيى والأعمش والكسائي: يَعْزِبُ بكسر الزاء وقرأ الباقون: بالضم وهما لغتان [صحيحتان] مِنْ مِثْقالِ من صلة معناه وما يعزب عن ربك مثقال ذرة أو وزن ذرة [وهي النملة الحمراء الصغيرة] ، يقول العرب: [خذ] هذا، فإنهما أثقل مثقالا وأخفها مثقالا أي وزنا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ قرأ الحسن وابن أبي يحيى وحمزة برفع
[سورة يونس (10) : الآيات 62 إلى 70]
الراء فيهما عطفا على موضع المثقال فبرّر دخول من، وقرأ الباقون بفتح الراء عطفا على الذرة ولا مثقال أصغر وأكبر إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بمعنى اللوح المحفوظ. [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 70] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ثم وصفهم فقال الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ قال ابن زيد: فلن يقبل الإيمان إلّا بالتقوى، واختلفوا فيمن يستحق هذا الاسم. فروى سعيد بن جبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه سئل عن أولياء الله تعالى فقال: «هم الذين يذكر الله لرؤيتهم» «1» . وقال عمر (رضي الله عنه) في هذه الآية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بإيمانهم عند الله تعالى، قالوا: يا رسول الله خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبّهم؟ قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام منهم ولا أموال يتعاطونها، والله ان وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [82] «2» . قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر [عمش] العيون من العبر خمص البطون من الخواء «3» يبس الشفاه من الذوي «4» .
وقال ابن كيسان: [هم الذين] تولى الله هداهم بالبرهان الذي أتاهم وتولّوا القيام بحقّه والدعاء إليه. هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. عن عبادة بن الصامت قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلّم عن قول الله عزّ وجلّ: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ . قال: «هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له» [83] . وعن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سئل عن هذه الآيةهُمُ الْبُشْرى قال: لقد سألت عن [شيء] ما سمعت أحدا سأل عنه بعد أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما سألني عنها أحد قبلك منذ نزل الوحي، هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وفي الآخرة الجنة» [84] «1» . وعن يمان بن عبيد الراسبي قال: حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا نبوة بعدي إلّا المبشرات» . قيل: يا رسول الله وما المبشرات؟. قال: «الرؤيا الصالحة» [85] «2» . محمد بن سيرين عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا قال: والرؤيا ثلاثة: فرؤيا بشرى من الله ورؤيا من الشيء يحدث الرجل به نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان، والرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يقصّه فليقم وليصل، قال: وأحبّ القيد في النوم وأكره الغل، القيد ثبات في الدين» «3» . وقال عبادة بن الصامت: قلت: يا رسول الله الرجل يحبّه القوم لعمله ولا يعمل مثل عمله. قال صلى الله عليه وسلّم: «تلك عاجل بشرى المؤمن» «4» . وقال الزهري وقتادة: هي البشارة التي يبشر بها المؤمن بالدنيا عند الموت، وقال الضحاك: هي أن المؤمن يعلم أين هو قبل أن يموت، وقال الحسن: هي ما بشرهم الله به في كتابه، جنته وكرم ثوابه لقوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «5» وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ «6» وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ «7» .
وقال عطاء: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة والبشارة من الله وتأتي أعداء الله بالغلظة والفظاظة في الآخرة ساعة خروج نفس المؤمن تعرج بها إلى الله كما تزف العروس تبشر برضوان من الله، قال الله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ «1» الآية قال ابن كيسان: هي ما بشرهم الله في الدنيا بالكتاب والرسول بأنّهم أولياء الله وتبشرهم في قبورهم وفي كتابهم الذي فيه أعمالهم بالجنة. وسمعت أبا بكر محمد بن عبد الله الجوزقي يقول: رأيت أبا أحمد «2» الحافظ في المنام راكبا برذونا وعليه طيلسان وعمامة فسلمت عليه وسلّم عليّ فقلت له: أيها الحاكم نحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، فعطف عليّ وقال لي: ونحن لا نزال نذكرك ونذكر محاسنك، قال الله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ الثناء الحسن، وأشار بيده تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لا تغيير لقوله ولا خلف لوعده. روى ابن عليّة عن أيوب عن نافع. قال: أطال الحجاج الخطبة فوضع ابن عمر رأسه في حجري. فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدّل كتاب الله، فقعد ابن عمر فقال: لا تستطيع أنت ذلك ولا ابن الزبير تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ . فقال الحجاج: لقد رأيت حلما وسكت [لقد أوتيت علما أن تفعل، قال أيوب: فلما أقبل عليه في خاصة نفسه سكت] «3» . ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني قول المشركين، تمّ الكلام هاهنا. ثم قال مبتدئا: إِنَّ الْعِزَّةَ القدرة لِلَّهِ جَمِيعاً وهو المنتقم منهم. قال سعيد بن المسيب: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعني أن الله يعز من يشاء كما قال في آية أخرى: لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وعزة الرسول والمؤمنين من الله فهي كلها لله قال الله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «4» هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ هو ما الاستفهام يقول وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يعني أنهم ليسوا على شيء، وقراءة السلمي: تدعون بالتاء أي ما تصنع شركاؤكم في الآخرة إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ يعني ظنوا أنها تشفع لهم يوم القيامة، ويقربهم إلى الله زلفى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا لتهدءوا وتقروا وتستريحوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً مضيئا يبصر فيه كقولهم: ليل نائم وسرّ كاتم وماءٍ دافِقٍ وعِيشَةٍ راضِيَةٍ، وقال جرير:
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم «1» وقال قطرب: يقول العرب: أظلم الليل وأضاء النهار فأبصر، أي صار ذا ظلّة وضياء وبصر. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ المواعظ فيعتبرون قالُوا يعني المشركين اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً هو قولهم: الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقهما إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا [ما عندكم من حجة] وبرهان بهذا، إنما سميتموها جهلا بها سلطانا [ولا يمكن] التمسك بها أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. قال الكلبي: لا يؤمنون، وقيل: لا ينجون، وقيل: لا يفوزون، وقيل: لا يبقون في الدنيا ولكن متاع قليل يتمتعون به متاعا وينتفعون به إلى وقت انقضاء أجلهم، ومتاع رفع بإضمار أي لهم متاع، قاله الأخفش، وقال الكسائي: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا «2» ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 71 إلى 87]
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 87] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ اقرأ يا محمد على أهل مكة نَبَأَ خبر نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ولد وأهل يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عظم وثقل وشق عَلَيْكُمْ مَقامِي فلو شق مكثي بين أظهركم وَتَذْكِيرِي ووعظي إياكم بِآياتِ اللَّهِ بحججه وبيناته فعزمتم على قتلي أو طردي فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فبالله وثقت فَأَجْمِعُوا قرأه العامة بقطع الألف وكسر الميم أي فأعدوا وأبرموا وأحكموا أَمْرَكُمْ فاعزموا عليه. قال المؤرخ: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه، وأنشد: يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مجمع «1» وقرأ الأعرج والجحدري موصولة مفتوحة الميم من الجمع اعتبارا بقوله فَجَمَعَ كَيْدَهُ، وقال أبو معاذ: ويجوز أن يكون بمعنى وأجمعوا أي فأجمعوا واحد يقال: جمعت وأجمعت بمعنى واحد. قال أبو ذؤيب: [عزم عليه كأنه جمع نفسه له، والأمر مجمع] » وَشُرَكاءَكُمْ فيه إضمار أي: وادعوا شركاءكم أي آلهتكم فاستعينوا، وكذلك في مصحف أبي وادعوا شركاءكم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب: وشركاؤكم رفعا على معنى: فأجمعوا أمركم أنتم وشركاؤكم، أي وليجمع معكم شركاؤكم، واختار أبو عبيد وأبو حاتم النصب لموافقة الكتاب وذلك أنه ليس فيه واو. ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي خفيا مظلما ملتبسا مبهما من قولهم: غمّ الهلال على الناس إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه، قال طرفة: لعمرك ما أمري عليّ بغمّة ... نهاري وما ليلي عليّ بسرمد «3» وقيل: هو من الغمّ لأن الصدر يضيق فلا يتبين صاحبه لأمره مصدرا ينفرج عنه ما بقلبه، قالت الخنساء: وذي كربة راخى ابن عمرو خناقه ... وغمته عن وجهه فتجلت «4» ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي آمنوا إلى ما في أنفسكم أو افرغوا منه، يقال: قضى فلان إذا مات ومضى وقضى منه إذا فرغ منه.
وقال الضحاك: يعني انهضوا إليّ، وحكى الفراء عن بعض القرّاء: افضوا إليّ بالفاء، أي توجهوا حتى تصلوا إليّ، كما يقال أنصت [الخلائق] إلى فلان وأفضى إلى الوجه وَلا تُنْظِرُونِ ولا تؤمرون، وهذا إخبار من الله تعالى عن نبيه نوح (عليه السلام) أنه كان من نصر الله واثقا ومن كيد قومه وبوائقهم غير خائف علما منه بأنهم وآلهتهم لا تنفع ولا تضر شيئا إلّا أن يشاء الله، وتعزية لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم وتقوية لقلبه فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن قولي وأبيتم أن تقبلوا نصحي فَما سَأَلْتُكُمْ على الدعوة وتبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ جعل وعوض إِنْ أَجْرِيَ ما جزائي وثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَكَذَّبُوهُ يعني نوحا فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ سكان الأرض خلفا عن الهالكين وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ يعني [أخزى] من الذين أنذرتهم الرسل ولم يؤمنوا ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالآيات والأمر والنهي فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا ليصدقوا بِما كَذَّبُوا بما كذبت بِهِ وأنّهم مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ نختم عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين الحلال إلى الحرام ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد نوح (مُوسى) وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ يعني أفراد قومه بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ يعني فرعون وقومه الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا تقدير الكلام: أتقولون للحق لما جاءكم سحرا سحر هذا الحذف السحر الأول، فدلالة الكلام عليه كقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ «1» المعنى: يغشاكم ليسوؤا وجوهكم. وقال ذو الرمّة: فلما لبسن الليل أو حين نصبت ... له من خذا آذانها وهو جانح «2» أي: أو حين أقبل وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ. قالُوا يعني فرعون وقومه أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا لتلوينا وتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ الملك والسلطان فِي الْأَرْضِ أرض [مصر] وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ. وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي الذي جئتم به السحر. وقراءة مجاهد وأبو عمر وأبو جعفر: آلسحر بالمد على الاستفهام، ودليل قراءة العامة قراءة ابن مسعود: ما جئتم به سحر وقراءة أبيّ: ما أتيتم به سحر إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ. فَما آمَنَ لِمُوسى لم
يصدق موسى مهما آتاهم من الحجج إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ فقال قوم: هي راجعة إلى موسى وأراد بهم مؤمني بني إسرائيل. قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف وذلك أن يعقوب (عليه السلام) دخل مصر في اثني وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف. وقال مجاهد: أراد بهم أولاد الذين أرسل إليهم موسى إلى بني إسرائيل لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء، وقال آخرون: الهاء راجعة إلى فرعون. روى عطية عن ابن عباس: هم ناس يسير من قوم فرعون آمنوا منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته. وروي عن ابن عباس من وجه آخر: أنهم سبعون أهل بيت من القبط من آل فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل فجعل الرجل يتبع أمه وأخواله. قال الفراء: وإنما سموا ذرية لأن آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد أهل فارس الذين انتقلوا إلى اليمن الأبناء، لأن أمهاتهم من غير جنس آبائهم والذرية العقب من الصغار والكبار عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ يريد الكناية في قومه إلى فرعون، ردّ الكناية في قوله: وَمَلَائِهِمْ، إلى الذرية، ومن رد الكناية إلى موسى يكون: إلى ملأ فرعون. قال الفراء: وإنما قال: وَمَلَائِهِمْ بالجمع وفرعون واحد لأن الملك إذا ذكر ذهب الوهم إليه وإلى أصحابه «1» . [فيكون من باب حذف المضاف] وذكر وهب بن منبه، [أنه] إليه وإلى عصابته كما يقال: قدم الخليفة تريد والذين معه، ويجوز أن يكون أراد بفرعون آل فرعون [كقوله تعالى] : سْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ «3» أَنْ يَفْتِنَهُمْ بصرفهم عن دينهم، ولم يقل: يفتنوهم لأنّه أخبر أنّ فرعون وقومه كانوا على [الضلال] . وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [من المجاوزين الحدّ في العصيان والكفر] لأنّه كان قد ادّعى الربوبية وَقالَ مُوسى لمؤمني قومه: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا. ثم دعوا فقالوا: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قال أبو مجلز: ربّنا لا تظهر فرعون وقومه علينا فيروا أنّهم خير منا فيزدادوا طغيانا. وقال عطية: لا تسلّطهم علينا فيسيئون
[سورة يونس (10) : الآيات 88 إلى 92]
ويقتلون. وقال مجاهد: لا تعذّبنا بأيدي قوم [ظالمين ولا تعذّبنا] بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق لما عذّبوا، ولا تسلّطنا عليهم فيفتتنوا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ [أمرناهما] أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً يقال: تبوّأ فلان لنفسه بيتا [والمبوأ المنزل ومنه بوّأه الله منزلا] «1» إذا اتخذه له. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال أكثر المفسّرين: كانت بنو إسرائيل لا يصلّون إلّا في كنائسهم وبيعهم، وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخرّبت، ومنعهم من الصلاة، فأمروا أن يتّخذوا مساجد لهم يصلّون فيها خوفا من فرعون، وهذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وهي كذلك، ورواية عكرمة عن ابن عباس. قال مجاهد وخلف: [قال موسى] لمن معه من قوم فرعون أن صلّوا إلى الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة للكعبة فيصلّون فيها سرّا. ومعنى البيوت هنا [يكون] المساجد. وتقدير الآية: واجعلوا بيوتكم إلى القبلة. وهذا رواية ابن جريج عن ابن عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه. قال سعيد بن جبير: معناه: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا، والقبلة الوجهة. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يا محمد. [سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 92] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً من متاع الدنيا وأثاثها. مقاتل: شارة حسنة، لقوله: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ... وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ. اختلفوا في هذه اللام فقال بعضهم هي لام (كي) ومعناه [أعطيتهم لكي يضلّوا ويبطروا ويتكبّروا] لتفتنهم بها فيضلّوا ويضلّوا إملاء منك، وهذا كقوله تعالى: لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ،
وقيل: هي لام العاقبة ولام الصيرورة يعني أعطاهم ليضلّوا [......] «1» آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً، وقيل: هي لام أي آتيتهم لأجل ضلالهم عقوبة لهم كقوله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي لأجل إعراضكم عنهم، ولم يحلفوا لتعرض عنهم. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، قال عطية ومجاهد: أعفها، فالطمس: المحو والتعفية، وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيّرها عن هيئتها، قال محمد بن كعب القرضي: جعل سكّتهم حجارة، وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم صارت حجارة، وقال ابن عباس: إن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأثلاثا وأنصافا. قال ابن زيد: صارت حجارة ذهبهم، ودراهمهم وعدسهم وكل شيء، وقال السدّي: مسخ الله أموالهم حجارة، النخل والثمار والدقيق والأطعمة، وكانت احدى الآيات التسع. وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان. فَلا يُؤْمِنُوا قيل: هو نصب جواب الدعاء بالفاء، وقيل: عطف على قوله: [لِيُضِلُّوا] . قال الفراء: هو دعاء ومحله جزم كأنه: اللهم فلا يؤمنوا وقيل: معناه فلا آمنوا. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما [وقرأ علي والسملي: «دعواتكما» بالجمع وقرأ ابن السميقع: قد أجبت دعوتكما] خبرا عن الله تعالى. كقول الأعشى: فقلت لصاحبي لا تعجلانا ... بنزع أصوله واجتز شيحا «2» فَاسْتَقِيما على الرسالة والدعوة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم عقاب الله. قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة. وَلا تَتَّبِعانِّ نهي بالنون الثقيلة ومحله جزم ويقال في الواحد لا تتبعن، فيفتح النون لالتقاء الساكنين، وتكسر في التثنية لهذه العلة. وقرأ ابن عامر بتخفيف النون لأن نون التوكيد تثقّل وتخفف. سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني: ولا تسلكا طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي فتستعجلان قضائي فإن قضائي ووعدي لا خلف لهما، ووعيدي نازل بفرعون وقومه. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ الآية، وذلك أن الله تعالى أمر موسى (عليه السلام) أن يخرج ببني إسرائيل من مصر و [تبعا] بنو إسرائيل من القبط [فأخرجهم] بعلة عرس لهم وسرى
بهم موسى وهم ستمائة ألف وعشرون ألفا لا يعدّ فيهم ابن سبعين سنة ولا ابن عشرين سنة، [إلى البحر وقال لكما] «1» القبط تلك الليلة، فتتبعوا بني إسرائيل حتى أصبحوا وهو قوله: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ بعد ما دفنوا أولادهم، فلمّا بلغ فرعون ركب [البحر] ومعه ألف ألف وستمائة ألف. قال محمد بن كعب: كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم سوى سائر الشهبان، وكان [........] «2» وكان هارون على مقدمة بني إسرائيل وموسى في الساقة، فلمّا انتهوا إلى البحر وقربت منهم مقدمة فرعون مائة ألف رجل، كل قد غطّى أعلى رأسه ببيضة وبيده حربة، وفرعون خلفهم في الدميم، فقالت بنو إسرائيل لموسى: أين ما وعدتنا؟ هذا البحر أمامنا [إن عبرناه] غرقنا وفرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا، ولقد أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا. ف قالَ موسى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وقالَ: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ، فأوحى الله إليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه فلم ينفلق وقال: أنا أقدم منك وأشد خلقا، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن كنه وقل: انفلق أبا خالد بإذن الله عزّ وجل، ففعل ذلك فانفلق البحر وصار اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق. وكشف الله عن وجه الأرض فصارت يابسة وارتفع بين كل طريقين جبل. وكانوا بني عمّ لا يرى بعضهم بعضا ولا يسمع بعضهم كلام بعض، فقال كل فريق: قد غرق أصحابنا فأوحى الله تعالى إلى الجبال من الماء تشبّكي فتشبكت وصارت فيه شبه الخروق فجعل ينظر بعضهم إلى بعض. فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر ورأوا البحر بتلك الهيئة قال فرعون: هابني البحر، وهابوا دخول البحر، وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبرئيل على فرس وديق «3» وخاض البحر وميكائيل يسوقهم، لا يشذ رجل منهم إلّا ضمّه إليهم. فلما شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل، وفرعون لا يراه انسلّ خلف فرس جبريل ولم يملك فرعون من أمره شيئا واقتضمت الخيول في الماء، فلما دخل آخرهم البحر وهمّ أولهم أن يخرج انطبق الماء عليهم، فلمّا أدرك فرعون الغرق: قال آمنت بالذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ فدسّ جبرئيل في فيه من حمأة البحر، وقال: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ. قال أبو بكر الوراق: قال الله لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى حين لم ينفعه تذكّره وخشيته.
قال كعب: لمّا أمسك نيل مصر عن الجري قالت القبط لفرعون: [إن كنت ربّنا فأجر لنا الماء] ، فركب وأمر جنوده بالركوب وكان مناديه ينادي كل ساعة: ليقف فلان بجنوده قائدا قائدا فجعلوا يقفون على درجاتهم [وقفز] حتى بقي هو وخاصته، فأمرهم بالوقوف حتى بقي في حجّابه وخدّامه، فأمرهم بالوقوف وتقدّم وحده بحيث لا يرونه [ونزل عن دابته] ولبس ثيابا أخر وسجد وتضرع إلى الله، فأجرى الله تعالى له الماء فأتاه جبرئيل وحده في هيئة مستفت وقال: ما يقول الأمير في رجل له عبد قد نشأ في نعمته لا سيد له غيره، فكفر نعمته وجحد حقّه وادعى السيادة دونه؟ [فكتب فرعون: جزاؤه أن يغرق في البحر] «1» . فلمّا أخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون ولا يموت أبدا، فأمر الله تعالى بالبحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصير كأنه ثور فتراءاه بنو إسرائيل، البحر حتى جازوه، وقرأ الحسن [وجوزنا، وهما لغتان] . فَأَتْبَعَهُمْ فأدركهم، يقال: تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه، واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه [واقتدى به] فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ. بَغْياً وَعَدْواً ظلما واعتداء، يقال: عدا يعدو عدوا مثل: غزا يغزو غزوا، وقرأ الحسن (عُدُوّا) بضم العين وتشديد الواو مثل: علا يعلو علوّا. قال المفسرون: بَغْياً في القول وَعَدْواً في الفعل. حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أي أحاط به قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ قرأ حمزة والكسائي وخلف إنّه بالكسر أي آمنت وقلت: إنّه، وهي قراءة عبد الله. وقرأ الآخرون: أنّ بالفتح لوقوع آمَنْتُ عليها، وهي اختيار أبو عبيد وأبي حاتم. لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال جبرئيل آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قال لي جبرئيل: ما أبغضت أحدا من عباد الله إلّا أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس، فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة» [86] «2» .
[سورة يونس (10) : الآيات 93 إلى 97]
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نجعلك على نجوة من الأرض وهي النجو: المكان المرتفع، قال أوس بن حجر: فمن بعقوته كمن بنجوته ... والمستكنّ كمن يمشي بقرواح «1» بِبَدَنِكَ بجسدك لا روح فيك. وقال مجاهد والكسائي: البدن هاهنا الدرع وكان دارعا. قال الأعشى: وبيضاء كالنهى موضونة ... لها قونس فوق جيب البدى «2» وقرأ عبد الله: فاليوم ننجيك ببدنك، أي نلقيك على ناحية البحر. وقيل: شعرك. لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً عبرة وعظة. وقرأ علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : لِمَنْ خَلَقَكَ [بالقاف] ، أي تكون آية لخالقك «3» . وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ قال مقاتل: يعني أهل مكة، قال الحسن: هي عامة. عَنْ آياتِنا عن الإيمان بآياتنا لَغافِلُونَ. [سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 97] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) وَلَقَدْ بَوَّأْنا أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ بعد هلاك فرعون مُبَوَّأَ منزل صِدْقٍ يعني خير، وقيل الأردن وفلسطين وهي: الأرض المقدسة التي بارك الله فيها لإبراهيم وذريته. الضحاك: هي مصر والشام. وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الحلالات. فَمَا اخْتَلَفُوا يعني اليهود الذين كانوا على عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلّم حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ البيان بأن محمدا صلى الله عليه وسلّم يقول صدقا ودينه حق. وقيل: العلم بمعنى المعلوم لقولهم للمخلوق: خلق، وللمقدور: قدر، وهذا [....... فتم طرف الأمر، قال الله.....] «4» ، ومعنى الآية
فما اختلفوا في محمد حتى جاءهم المعلوم وهو كون محمد صلى الله عليه وسلّم نبيا لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين. فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، الآية، وقد أكثر العلماء في تفسير معنى الآية، قال مقاتل: قالت كفار مكة: إنما ألقى هذا الوحي على لسان محمد شيطان، فأنزل الله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يعني القرآن. فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يخبرونك أنه مكتوب عندهم في التوراة رسولا نبيا. وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم والمراد به غيره من الشاكّين به، كما ذهب العرب في خطابهم الرجل بالشيء ويريدون به غيره، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ كأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم والمراد به المؤمنون، ويدلّ عليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ولم يقل: تعمل. قال المفسرون: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالوا: آمنا بالله بلسانهم، ومنهم كافر مكذّب لا يرى إلّا أن ما جاء به باطل، أو شاكّ في الأمر لا يدري كيف هو يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى، فخاطب الله هذا الصنف من الناس فقال: فَإِنْ كُنْتَ أيها الإنسان فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من الهدى على لسان محمد (صلى الله عليه وسلّم) . فَسْئَلِ الأكابر من علماء أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلّام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري وأشباههم فيشهدوا على صدقه، ولم يرد المعاندين منهم. وقيل: إن بمعنى (ما) ، وتقديره: فما كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسألوا يا معاشر الناس أنتم دون النبي. كما قال: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ بمعنى وما كان مكرهم. وقيل: إنّ الله علم أن الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يشكّ ولكنّه أراد أن يأخذ الرسول بقوله لا أشك ولا [أماري] إدامة للحجة على الشاكّين من قومه كما يقول لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهو يعلم أنه لم يقل ذلك، بدليل قوله: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إدامة للحجة على النصارى. وقال الفرّاء: علم الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم غير شاكّ، فقال له: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ، وهذا كما تقول لغلامك الذي لا تشك في ملكك «1» إياه: إن كنت عبدي فأطعني، أو تقول لابنك: إن كنت ابني فبرّني.
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: الشاك في الشيء يضيق به صدرا، فيقال لضيّق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعا بما تعاين من تعنتهم وأذاهم فاصبر، واسأل الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ يخبروك كيف صبر الأنبياء على أذى [قومهم] وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر والتمكين. وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن حبيب سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن أحمد القطان في [ذلك:] كان جائزا على الرسول صلى الله عليه وسلّم وسوسة الشيطان لأن المجاهدة في ردّها يستحق عليها عظيم الثواب والله [.........] «1» وكان يضيق صدره من ذلك والله أعلم. وقال الحسين بن الفضل مع [حيث] «2» الشرط لا يثبت الفعل. والدليل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لما نزلت هذه الآية: «والله لا أشك ولا أسأل» [87] «3» . ثم أفتى [وزوّدنا] «4» بالكلام فقال: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ القرآن. فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ [الذين تحبط أعمالهم] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لعنته إياهم [لنفاقهم] ، قال ابن عباس: ينزل بك السخط، وقال: إن الله خلق الخلق [فمنهم شقي ومنهم] سعيد، فمن كان سعيدا لا يكفر إلّا ريثما يراجع الإيمان ومن كان شقيا لا يؤمن إلّا ريثما يراجع الكفر، وإنما العمل [ ... ] «5» وقرأ أهل المدينة: (كلمات) جمعا. لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ دلالة حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قال الأخفش: أنّث فعل (كل) لأنها مضافة إلى مؤنث، ولفظة كل للمذكر والمؤنث سواء.
[سورة يونس (10) : الآيات 98 إلى 103]
[سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 103] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) فَلَوْلا أي فهلّا، وكذلك هي في حرف عبد الله وأبي، قال الشاعر: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... [بني ضوطري] لولا الكميّ المقنعا «1» أي فهلّا. وقرأ في الآية: (فلا تكن قرية) لأن في الاستفهام ضربا من الجحد. آمَنَتْ عند معاينتها العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها في وقت اليأس إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فإنّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت لما علم من صدقهم. قال أهل النحو: قوم منصوب على الاستثناء المنقطع، وإن شئت قلت من جنسها لأن القوم مستثنى من القرية، ومنجون من الهالكين، وتقديره: لكن قوم يونس كقول النابغة: وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... أعيت جوابا وما بالربع من أحد ألا الأواري لأيا ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد «2» وفي يونس ست لغات، ضم النون، وقرأ [ ... ] «3» بضمّ الياء لكثرة من قرأ بها، وقرأ طلحة والأعمش والحميري وعيسى بكسر النون، وعن بعضهم بفتح النون، وروى أبو قرظة الأنصاري عن العرب همزة مع الضمة والكسرة والفتحة. لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ وهو وقت انقضاء آجالهم، قال بعضهم: إنّما نفعهم إيمانهم في وقت اليأس لأن آجالهم بقي منها بقية فنجوا لما بقي من آجالهم، فأما إيمان من انقضى أجله فغير نافع عند حضور العذاب. وقصة الآية على ما ذكره عبد الله بن مسعود وسعيد بن جبير والسدّي ووهب وغيرهم أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب يجيئهم إلى ثلاث، فأخبرهم بذلك فقالوا: إنّا لم نجرّب عليه كذبا فانظروا، فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم، فلمّا كان في جوف الليل خرج ماشيا من بين ظهرانيهم فلمّا أصبحوا تغشّاهم العذاب كما يغشي الثوب القصير إذا أدخل فيه صاحبه.
قال مقاتل: كان العذاب فوق رؤوسهم قدر ميل. قال ابن عباس: قدر ثلثي ميل. قال وهب: غامت السماء غيما أسود هائلا يدخل دخانا شديدا، وهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك فطلبوا نبيّهم فلم يجدوه، فقذف الله في قلوبهم التوبة فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابّهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، فحنّ بعضهم إلى بعض، وعلت أصواتهم واختلطت أصواتها بأصواتهم وحنينها بحنينهم، وعجوا وضجوا إلى الله تعالى وقالوا: آمنّا بما جاء به يونس، فرحمهم ربّهم واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلّهم وتدلّى إلى سمعهم، وذلك يوم عاشوراء. قال ابن مسعود: بلغ من توبة أهل نينوى أن ترادّوا المظالم بينهم حتى أن كان الرجل ليأتي الحجر وقد وضع عليه أساس فيقلعه ويردّه. وروى صالح المري عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد، قال: لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا له: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا: يا حيّ حين لا حي ويا حي [يا] محيي الموتى، ويا حي لا إله إلّا أنت، فقالوها، فكشف عنهم العذاب ومتّعوا إلى حين. قالوا: وكان يونس (عليه السلام) وعدهم العذاب فخرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا، وكان من كذب ولم تكن له بيّنة قتل، فقال يونس لما كشف عنهم العذاب: كيف أرجع إلى قومي وقد كذبتهم؟ فانطلق عاتبا على ربه، مغاضبا لقومه فأتى البحر [فإذ سفينة قد شحنت] فركب السفينة [لوحده] بغير أجر، فلمّا دخلها وقفت السفينة، والسفن تسير يمينا وشمالا قالوا: ما لسفينتكم؟ قال يونس: إنّ فيها عبدا آبقا ولا تجري ما لم تلقوه، فقالوا: وأنت يا نبي العبد فلا نلقيك، فاقترعوا فوقعت القرعة عليه ثلاثا فوقع في الماء ووكل عليه حوت فابتلعه. قال ابن مسعود: فابتلعه الحوت وجرى به حتى أتاه إلى قرار الأرض، وكان في بطنه أربعين ليلة فسمع تسبيح الحصى فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فاستجاب الله له فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر [عريانا] ، فأنبت الله عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، فجعل يستظلّ بها، ووكل الله به سخلا يشرب من لبنها، فيبست الشجرة فبكى عليها، فأوحى الله إليه: تبكي على شجرة يبست، ولا تبكي على مائة ألف إنسان أهلكهم! فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس، قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنك لقيت يونس، قال الغلام: إن كنت يونس فقد تعلم أنه لم يكن لي بينة، [فإن] قلت: فمن يشهد لي؟ قال يونس: يشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة، قال الغلام: أراهما؟ قال يونس: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالا:
نعم. فرجع الغلام إلى قومه، فقال للملك: إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، وكان له أخوة وكان في منعة فأمر الملك بقتله، فقال: إنّ لي بينة فانسلّوا معه إلى البقعة والشجرة، فقال الغلام: أنشدكما هل أشهدكما يونس؟ قالا: نعم، فرجع القوم مذعورين، وقالوا للملك: شهد له الشجرة والأرض، فأخذ الملك بيد الغلام فأجلسه في مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني، قال ابن مسعود: فأقام لهم أميرا فيهم ذلك الغلام أربعين سنة «1» . وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمد لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً قال الحسين بن الفضل: لأضطرّهم إلى الإيمان. قال الأخفش: جاء بقوله: (جَمِيعاً) مع (كل) تأكيدا كقوله: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم حريصا على أن يؤمن جميع الناس ويبايعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنّه لا يؤمن إلّا من سبق له من الله سعادة في الكتاب الأول، ولا يضلّ إلّا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول. وَما كانَ لِنَفْسٍ قال الحسن: وما ينبغي لنفس. وقال المبرد: معناه وما كنت لتؤمن إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. قال ابن عباس: بأمر الله. وقال عطاء: بمشيئة الله، كقوله: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. وقال الكوفي: ما سبق من قضائه. وقال [الدّاني] : بعلمه وتوفيقه. وَيَجْعَلُ أي ويجعل الله، وقرأ الحسن وعاصم بالنون الرِّجْسَ العذاب والسخط. وقرأ الأعمش الرجز بالزاي عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ حجج الله في التوحيد والنبوة. قُلِ يا محمد لهؤلاء المشركين السائليك الآيات انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم وَالْأَرْضِ من الجبال والبحار والأنهار والأشجار وغيرها من الآيات ثم قال: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ في علم الله. فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ يعني مشركي مكة إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الذين مضوا. قال قتادة: يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود، والعرب تسمي العذاب والنعيم: أياما، كقوله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وكل ما مضى عليك من خير أو شر فهو أيام. قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا معهم عند نزول العذاب، كذلك كما أنجيناهم. كَذلِكَ حَقًّا واجبا، عَلَيْنا غير شك، نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بك يا محمد. وقرأ
[سورة يونس (10) : الآيات 104 إلى 109]
يعقوب: نُنْجِي رُسُلَنا بالتخفيف، وقرأ الكسائي وحفص: نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بالتخفيف وشدّدهما الآخرون، وهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاء ونجّي ينجّي تنجية بمعنى واحد. [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي أدعوكم إليه. فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان التي لا تعقل ولا تفعل ولا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ تقدير أن يسلم ويقبض أرواحهم. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ قال ابن عباس: عملك. وقيل: نفسك، أي استقم على الدين حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر: «لم أعبد ربي بالرهبانية وأن خير الدين الحنيفية السهلة» [88] «1» . وَلا تَدْعُ تعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ إن أطعته وَلا يَضُرُّكَ إن عصيته فَإِنْ فَعَلْتَ فعبدت غير الله فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ الضارّين لأنفسهم، الواضعين العبادة في غير موضعها وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ يصبك الله ببلاء وشدّة فَلا كاشِفَ دافع لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ رخاء ونعمة فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ فلا مانع لرزقه. يُصِيبُ بِهِ واحد من الضر والخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن فيه البيان. فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [أي له ثواب اهتدائه] «2» وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فعلى نفسه جنا وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بكفيل وحفيظ يحفظ أعمالكم. قال ابن عباس: نسختها آية القتال.
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ من نصرك وقهر أعدائك وإظهار دينه وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. قال الحسن: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصار وقد تجمع خيرتهم فقال: «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» [89] » قال أنس: فلم نصبر. فأمرهم بالصبر كما أمره الله به. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: لما قدم معاوية المدينة تلقّته الأنصار وتخلّف أبو قتادة ودخل عليه بعد فقال: ما لك لا تلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب، قال: فأين النواضح؟ قال: ربطناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاصبروا حتى تلقوني» [90] «2» ، قالوا: إذا نصبر، ففي ذلك قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: ألا أبلغ معاوية بن حرب ... أمير المؤمنين ثنا «3» كلام فإنّا صابرون ومنظروكم ... إلى يوم التغابن والخصام «4»
سورة هود (ع)
سورة هود (ع) مكية، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثني أبو بكر محمد بن إسحاق، محمد بن علي بن محمد، محمد بن علي بن صالح عن ابن إسحاق عن أبي جحيفة قال: قيل: يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب، قال: «شيبتني هود وأخواتها: الحاقة، والواقعة، وعَمَّ يَتَساءَلُونَ، وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» [91] «1» . وعن زيد قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم في المنام فقرأت عليه سورة هود فلمّا ختمتها قال: يا زيد قرأت، فأين البكاء؟. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) الر كِتابٌ قيل الر مبتدأ وكِتابٌ خبره، وقيل: كِتابٌ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: هذا كتاب أُحْكِمَتْ آياتُهُ قال ابن عباس: أُحْكِمَتْ آياتُهُ: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها ثُمَّ فُصِّلَتْ بيّنت بالأحكام والحلال والحرام، قال الحسن وأبو العالية: فُصِّلَتْ: فسّرت مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا يحتمل أن يكون موضع أن رفعا على مضمر تقديره: وفي ذلك الكتاب أن لا تعبدوا، ويحتمل أن يكون محله نصبا بنزع الخافض تقديره: ثم فصّلت أن لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ أو لئلّا تعبدوا إلّا الله. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ من الله نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وأن عطف على الأول وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
أي ارجعوا إلى الله بالطاعة والعبادة، وقال الفرّاء: ثمّ هاهنا بمعنى (الواو) أي وتوبوا إليه لأنّ الاستغفار من التوبة، والتوبة من الاستغفار يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً أي يعيشكم عيشا في [منن] ودعة وأمن وسعة [رزق] ، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو الموت وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ويؤت كل ذي عمل مبلغ أجره وثوابه [سمى فضله] باسم الابتداء. قال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر، واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم قال: هلك من غلبت آحاده عشراته. وقال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أهل الأعراف، ثم يدخلون الجنة بعد، وقال أبو العالية: من زادت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنة، لأن الدرجات تكون بالأعمال. وقال مجاهد: إن ما يحتسب الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده ورجله، أو ما يتصدّق به من حق ماله. وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وهو يوم القيامة. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ قال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة، نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام، حلو المنظر، يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يحب وينطوي بقلبه على ما يكره. مجاهد: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ شكّا وامتراء، السدّي: يعرضون بقلوبهم عنك من قولهم [..............] «1» . عن عبد الله بن شداد: نزلت في بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وتغشّى ثوبه كي لا يراه النبي (صلى الله عليه وسلم) . قتادة: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره. ابن زيد: هذا حين يناجي بعضهم بعضا في أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد: ليستخفوا من الله إن استطاعوا، وقال ابن عباس: يثنون صدورهم على وزن يحنون، جعل الفعل للصدور أي [يلقون] . أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يغطّون رؤوسهم بثيابهم، وذلك أخفى ما يكون لابن آدم إذا حنى صدره وتغشّى ثوبه وأضمر همه في نفسه. يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَما مِنْ دَابَّةٍ من بغلة وليس دابّة وهي كل حيوان دبّ على وجه الأرض، وقال بعض العلماء: كل ما أكل فهو دابة.
[سورة هود (11) : الآيات 7 إلى 16]
إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غذاؤها وقوتها وهو المتكفّل بذلك فضلا لا وجوبا، وقال بعضهم: (على) بمعنى (من) أي من الله رزقها، ويدل عليه قول مجاهد، قال: ما جاء من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا، ولكن ما كان من رزق فمن الله. وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها أي مأواها الذي تأوي إليه وتستقر فيه ليلا ونهارا، وَمُسْتَوْدَعَها الموضع الذي تودع فيه أما بموتها أو دفنها، قال ابن عباس: مُسْتَقَرَّها حيث تأوي، وَمُسْتَوْدَعَها حيث تموت، مجاهد: مُسْتَقَرَّها في الرحم وَمُسْتَوْدَعَها في الصلب، عبد الله: مُسْتَقَرَّها الرحم، وَمُسْتَوْدَعَها المكان الذي تموت فيه، الربيع: مُسْتَقَرَّها أيام حياتها، وَمُسْتَوْدَعَها حيث تموت، ومن حيث تبعث. وقيل: يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها في الجنة أو في النار، وَمُسْتَوْدَعَها القبر، ويدلّ عليه قوله تعالى في وصف أهل الجنة والنار: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها. [سورة هود (11) : الآيات 7 الى 16] وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قبل أن يخلق السماوات والأرض وذلك الماء على متن الريح. وقال كعب: خلق الله ياقوتة حمراء لا نظير لها [فنظر إليها بالهيبة] فصارت ماء، [يرتعد من مخافة الله تعالى] ثمّ خلق الريح فجعل الماء [على قشرة] «1» ثم وضع العرش على الماء. وقال ضمرة: إنّ الله تعالى كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ ثم
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بالحق، وخلق القلم وكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجدّه قبل أن يخلق شيئا من الخلق. لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم وهو أعلم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا روى عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليبلوكم أيّكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله» [92] «1» . قال ابن عباس: أيّكم أعمل بطاعة الله. قال مقاتل: أيّكم أتقى لله، الحسن: أيّكم أزهد في الدنيا زاهدا وأقوى لها تركا. وَلَئِنْ قُلْتَ يا محمد إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعنون القرآن، ومن قرأ: ساحر ردّه إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) . وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ إلى أجل معدود ووقت محدود، وأصل الأمّة الجماعة، وإنما قيل للحين: أمّة، لأن فيه يكون الأمّة، فكأنه قال: إلى مجيء أمّة وانقراض أخرى قبلها، كقوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ. لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ يقولون استعجالا للعذاب واستهزاء، يعنون أنه ليس بشيء. قال الله تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ خبر (ليس) عنهم. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي رجع إليهم ونزل بهم وبال استهزائهم وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً سعة ونعمة ثُمَّ نَزَعْناها سلبناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ قنوط في الشدّة كَفُورٌ في النعمة. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بعد بلاء وشدة لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي زالت الشدائد عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ أشر بطر، ثم استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم إن نالتهم شدّة وعسرة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وهو الجنة، وإنما جاز الاستثناء مع اختلاف الحالين لأن الإنسان اسم الجنس كقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. فَلَعَلَّكَ يا محمد تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ فلا تبلّغه إياهم، وذلك أن مشركي مكة قالوا: آتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا. وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لأن يقولوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ينفقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدّقه، قال عبد الله بن أمية المخزومي قال الله: يا أيها النذير ليس عليك إلّا البلاغ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مثله مُفْتَرَياتٍ بزعمكم وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ لفظه جمع والمراد به الرسول وحده كقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ ويعني الرسول.
وقال مجاهد: عنى به أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ يعني القرآن وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لفظه استفهام ومعناه أمر. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا أي من كان يريد بعمله الحياة الدنيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ نوفر لهم أجور أعمالهم في الدنيا وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون. قتادة يقول: من كانت الدنيا همّه وقصده وسروره وطلبته ونيّته جازاه الله تعالى ثواب حسناته في الدنيا، ثم يمضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أحسن من محسن فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ في عاجل الدنيا وآجل الآخرة» «1» . واختلفوا في المعنيّ بهذه الآية فقال بعضهم: هي للكفار، وأما المؤمن فإنه يريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته للدنيا، ويدل عليه قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها في الدنيا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال مجاهد: هم أهل الربا. وروى ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد بن أبي الوليد بن عثمان أن عقبة بن مسلم حدّثه أن شقي بن قابع الأصبحي حدّثنا أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قيل: أبو هريرة. قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدّث الناس، فلما سكت وخلا، قلت: وأنشدك الله لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [عقلته وعلمته] فقال: لأحدّثنّك حديثا حدثنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في [هذا البيت] ثم غشي عليه ثم أفاق فقال: أحدثك حديثا حدّثنيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا البيت، ولم يكن أحد غيره وغيري، ثم شهق أبو هريرة شهقة شديدة ثم قال: [فأرى على وجهه ثمّ استغشى] طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة دعا «2» العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية فأول من يدعو رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله للقارئ: ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: ماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، فيقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد
[سورة هود (11) : الآيات 17 إلى 22]
قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له: ألم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدّق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذلك» ثم ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» [93] «1» . قال الوليد: وأخبرني غيره أن شقيا دخل على معاوية وأخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية: وقد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية [وضرب خدّيه] حتى ظننّا أنه هالك، ثم أفاق معاوية لا يمسح وجهه وقال: صدق الله ورسوله مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وقرأ إلى قوله: باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. [سورة هود (11) : الآيات 17 الى 22] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ بيان وحجة مِنْ رَبِّهِ وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ يتبعه من يشهد له ويصدقه. واختلفوا في هذا الشاهد فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد والضحاك وأبو صالح وأبو العالية وعكرمة: هو جبريل (عليه السلام) ، وقال الحسن (رضي الله عنه) : هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال الحسن وقتادة: هو لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال محمد بن الحنفية: قلت لأبي أنت التالي؟ قال: وما تعني بالتالي؟ قلت: قوله: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ قال: وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وقال بعضهم: الشاهد صورة
النبي صلّى الله عليه وسلّم ووجهه ومخائله، لأنّ كل من كان له عقل ونظر إليه علم أنه رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) . وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن في نظمه وإعجازه والمعاني الكثيرة منه في اللفظ القليل. وروى ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هو ملك يحفظه ويسدّده. وقيل: هو علي بن أبي طالب. أخبرني عبد الله الأنصاري عن القاضي أبو الحسين النصيري، أبو بكر السبيعي، علي بن محمد الدهان والحسن بن إبراهيم الجصاص، قال الحسين بن حكيم، الحسين بن الحسن عن حنان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ علي خاصة (رضي الله عنه) «1» . وبه عن السبيعي عن علي بن إبراهيم بن محمد [العلوي] ، عن الحسين بن الحكيم، عن إسماعيل بن صبيح، عن أبي الجارود، عن حبيب بن يسار، عن زاذان قال: سمعت عليا يقول: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو ثنيت لي وسادة فأجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي إلّا وأنا أعرف به يساق «2» إلى جنة أو يقاد إلى نار. فقام رجل فقال: ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك؟ قال: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بينة من ربه وأنا شاهد منه [94] «3» . وبه عن [السبيعي] ، وأحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثني الحسن بن علي بن برقع وعمر بن حفص الفراء، حدثنا صباح القرامولي، عن محارب عن جابر بن عبد الله [الأنصاري] ، قال علي (رضي الله عنه) : ما من رجل من قريش إلّا وقد نزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل: فأنت أي شيء نزل فيك؟ قال علي (رضي الله عنه) : أما تقرأ الآية التي في هود، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ «4» . وفي الكلام محذوف تقديره: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كمن هو في الضلالة [متردّد] ، ثم قال: وَمِنْ قَبْلِهِ يعني ومن قبل محمد والقرآن كان كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ أي
بني إسرائيل يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بمحمد وقيل بالقرآن، وقيل بالتوراة مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ. روى سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يستمع لي يهودي ولا نصراني، ولا يؤمن بي إلّا كان من أهل النار» [95] . قال أبو موسى فقلت في نفسي: إن النبي لا يقول مثل هذا القول إلّا من الفرقان فوجدت الله يقول: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ. فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شكّ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً زعم أن لله ولدا أو شريكا أو كذب بآيات القرآن أُولئِكَ يعني الكاذبين، يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ فيسألهم عن أعمالهم ويجزيهم بها. وَيَقُولُ الْأَشْهادُ يعني الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا، في قول مجاهد والأعمش، وقال الضحاك: يعني الأنبياء والرسل، وقال قتادة: يعني الخلائق. وروى صفوان بن محرز المازني قال: بينا نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر إذ عرض له رجل فقال: يا بن عمر ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت نبي الله صلّى الله عليه وسلّم [يقول] : «يدنو المؤمن من ربّه حتى يضع كتفيه عليه فيقرّره بذنوبه فيقول: هل [تعرف ما فعلت؟ يقول: [رب أعرف مرّتين، حتى إذا بلغ ما شاء الله أن يبلغ فقال: وإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، وقال [ثمّ يعطى صحيفة حسناته، أو كتابه بيمينه قال] : وأما الكافر والمنافق فينادى بهم على رؤوس الأشهاد» [96] «1» . هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: سابقين. مقاتل بن حيان: قانتين، قتادة: [هرابا] وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أنصار تغني [عنهم] يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ يعني يزيد في عذابهم. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ اختلف في تأويله: قال قتادة (....) «2» : وَما كانُوا يُبْصِرُونَ الهدى، وقوله: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ قال ابن عباس: إن الله تعالى إنّما حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا، وأما في الدنيا فإنه قال ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ
[سورة هود (11) : الآيات 23 إلى 40]
فإنه قال: فلا يستطيعون خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ، وقال بعضهم: إنما عنى بذلك الأصنام. أُولئِكَ وآلهتهم لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ويُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ يوم القيامة ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ولا يسمعونه وَما كانُوا يُبْصِرُونَ [......] «1» فلا يعتبرون بها، فحذف الباء، كما يقول: لا يجزينك ما عملت وبما عملت. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ لا جَرَمَ أي [.....] «2» ، قال الفرّاء: معناها لا بدّ ولا محالة أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ يعني من غيرهم، وإن كان الكل في الخسار. [سورة هود (11) : الآيات 23 الى 40] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ قال عطية عن ابن عباس وقتادة: أنابوا وتضرّعوا إليه، مجاهد: اطمأنّوا إلى ذكره، مقاتل: أخلصوا، الأخفش «1» : تخشّعوا له، وقيل «2» : تواضعوا له. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المؤمن والكافر كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا قال الفرّاء: وإنّما لم يقل هل يستوون مثلا، لأنّ الأعمى والأصم في خبر كأنهما واحد، لأنهما من وصف الكافر، والسميع والبصير في خبر كأنهما واحد، لأنهما من وصف المؤمن. أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي قرأ أهل مكة وأبو عمرو والكسائي: أَنِّي بفتح الألف ويعنون بأني، وقرأ الباقون بكسر الألف إني، قال: إني لأن في الإرسال معنى القول. لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم، قال مقاتل: بعث نوح وأمره ربّه ببناء، السفينة وهو ابن ستمائة سنة وكان عمره ألفا وخمسين عاما ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، قال الله تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً أي فلبث فيهم داعيا فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا آدميا مثلنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا سفلتنا بادِيَ الرَّأْيِ قال مجاهد وأبي المعين وحمزة أبو عمرو وبصير على معنى بادِيَ الرَّأْيِ من غير روية ولا فكرة يعني: آمنوا من غير روية. وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ قالَ نوح يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً هدى ومغفرة مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ التبست واشتبهت وقرأ أهل الكوفة: فَعُمِّيَتْ بضم العين وتشديد الميم، أي اشتبهت ولبّست ومعنى الكلام: عمّيت الأبصار عن الحق، وهذا كما يقال: دخل الخاتم في إصبعي، والخفّ في رجلي وإنما يدخل الأصبع في الخاتم والرجل في الخفّ أَنُلْزِمُكُمُوها يعني البيّنة والرحمة وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تريدونها يعني لا يقبل ذلك. وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا أي على الوحي وتبليغ الرسالة كناية عن غير مذكور إِنْ أَجرِيَ ما ثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا الباء صلة إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بالمعاد فيجزيهم بأعمالهم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
تحتقر وتستصغر أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً يعني يؤخذ وانما اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من النية والعزم والخير والشر إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن فعلت ذلك. قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا ماريتنا وخاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا يعني العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي نصيحتي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يهلككم ويضلكم هُوَ رَبُّكُمْ والأمر والحكم له وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم بأعمالكم وهو ردّ على المعتزلة و [المرجئة] . أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قال ابن عباس: يعني نوحا، مقاتل يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي إثمي ووبال أمري، لا تؤخذون بذنبي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ لا أواخذ بذنوبكم وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ ولا تحزن وهو منفعل من البؤس بِما كانُوا يَفْعَلُونَ فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا عليهم وقال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ واعمل السفينة بِأَعْيُنِنا بمرأى منّا، الضحاك: بمنظر منّا، مقاتل: بعلمنا، ربيع: بمسمعنا «1» وَوَحْيِنا [على ما أوحينا إليك] ، قال ابن عباس: وذلك إنّه لم يعلم كيف يصنع الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها على جؤجؤ الطائر وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ولا تسألني العفو عن هؤلاء الذين كفروا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بالطوفان، أمر أن لا يشفع لهم عنده، وقال: عنى امرأته وابنه. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ قيل: معناه وكان يصنع الفلك، وقيل: معناه وصنع الفلك وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ هزءوا به. قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الآن فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إذا عاينتم عذاب الله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يهينه وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم، قال ابن عباس: اتخذ نوح (عليه السلام) السفينة في سنتين، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين، وطولها في السمك ثلاثين ذراعا، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو في البطن الأعلى [.....] «2» ، عمّا يحتاج إليه من الزاد. روي عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مكث نوح في قومه أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً
يدعوهم إلى الله، فأوحى الله عزّ وجلّ لما كان آخر زمانه وغرس شجرة [فعظمت وذهبت كلّ مذهب ثمّ قطعها] «1» ويقطع ما يبس منها، ثمّ جعل يعمل سفينة ويمرون عليه قومه فيسألونه فيقول: أعمل سفينة فيسخرون منه ويقولون: يعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ فيقول: فسوف تعلمون، فلمّا فرغ منها وَفارَ التَّنُّورُ وكثر الماء في السكك، خشيت أمّ صبي عليه وكانت تحبّه حبّا شديدا، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثيه، فلمّا بلغها الماء خرجت حتى صعدت على الجبل فلما بلغ الماء رقبته رفعته بيديها حتى ذهب بها الماء، فلو رحم الله أحدا منهم لرحم أمّ الصبي» [97] «2» . وروى علي بن زيد بن صوحان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فيحدّثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفّا من ذلك التراب بكفّه قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كفن حام بن نوح، قال: فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، قال له عيسى: هكذا هلكت؟ قال: لا بل متّ وأنا شاب ولكنني ظننت أنها الساعة فمن ثمّ شبت، قال: حدّثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلمّا كثرت فضلات الدواب أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث، فلمّا وقع الفار بحوض السفينة وحبالها فقرضها، وذلك أن الفار ولدت في السفينة فأوحى الله تعالى إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وهرّة فأقبلا على الفار. فقال له عيسى: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت، ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها فعلم أن البلاد قد غرقت قال: فطوّقها بالحمرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في قصر بأمان «3» فمن ثم تألف البيوت. قال: فقالوا: يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلنا فيجلس معنا ويحدّثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ فقال له: عد بإذن الله، قال: فعاد ترابا «4» .
وروى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير أنّه كان يحدّث الأحاديث وكانوا يبطشون به، يعني قوم نوح- فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال: ربّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون، حتى إذا تمادوا في المعصية وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاولوا عليه، وتطاول عليه وعليهم الشأن واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر البخل بعد البخل، فلا يأتي قرن إلّا كان أخبث من الذي قبله حتى إذا كان الآخر منهم ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا، حتى شكا ذلك من أمرهم إلى الله عزّ وجل فقال: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً، حتى قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إلى آخر القصة، فأوحى الله إليه أن اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بعد اليوم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. فأقبل نوح على [عمل] الفلك ولجأ عن قومه إلى جبل يقطع الخشب ويضرب بيديه [الحديد] ، ويهيّئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلّا هو، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله فيسخرون منه ويقولون: يا نوح هل صرت نجارا بعد النبوة؟ وأعقم الله أرحام النساء فلبثوا سنين فلا يولد لهم ولد. قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يصنعه أزور وأن يطليه بالقار من أسفله وخارجه، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا، ومائة في عرضه وبطوله في السماء ثلاثين ذراعا، والذراع إلى المنكب، وجعلها ثلاثة طوابق سفلى ووسطى وعليا، فجعل فيه كوى، ففعل نوح كما أمره الله تعالى «1» . حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا عذابنا وَفارَ التَّنُّورُ يعني انبجس الماء من وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تنور الأرض، وذلك أنه إذا قيل: إذا رأيت الماء يسيح على وجه الأرض فاركب أنت ومن اتبعك، ومنها قول ابن عباس وعكرمة والزهري وابن عيينة، وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) في تفسير ووَ فارَ التَّنُّورُ: أي طلع الفجر ونور الصبح ، ومن ذلك عبارته نوّر الفجر تنويرا، قتادة: موضع في الأرض وأعلى مكان فيها. قال الحسن: أراد بالتنور الذي يخبز فيه وكان تنورا من حجارة وكان لحواء حتى صار إلى نوح، فقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك، فنبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته، وهذا قول مهران «2» . ورواه عطية عن ابن عباس، قال مجاهد: وكان ذلك في ناحية الكوفة، وروى السدي عن الشعبي أنه كان يحلف بالله ما يظهر التنور إلّا من ناحية الكوفة، وقال: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة، وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان فوران الماء منه علما لنوح ودليلا على هلاك قومه.
وقال مقاتل: كان ذلك تنور آدم وإنّما كان بالشام بموضع يقال له: عين وردة، وقال ابن عباس: فارَ التَّنُّورُ بالهند، والفور: الغليان. قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال المفسرون أراد بالزوجين: اثنين ذكرا وأنثى، وقال أهل المعاني: كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه، فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجا، يقال له: زوجا نعال إذا كانت له نعلان وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود، قال الله تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، وقال بعضهم: أراد بالزوجين الضربين والصنفين وكل ضرب يدعى زوج، قال الأعشى: وكل زوج من الديباج يلبسه ... أبو قدامة محبوّ بذاك معا «1» أراد كل ضرب ولون. وقال لبيد: وذي [.....] «2» كرّ المقاتل صولة ... وذرّته أزواج [........] «3» يشرّب أي ألوان وأصناف، وقرأ حفص هاهنا وفي سورة المؤمنين مِنْ كُلٍّ بالتنوين أي من كل صنف، وجعل اثْنَيْنِ على التأكيد. وَأَهْلَكَ أي واحمل أهلك ومالك وعيالك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بالهلاك يعني امرأته راحلة وابنه كنعان. وَمَنْ آمَنَ يعني واحمل من آمن بك، قال الله تعالى وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ واختلفوا في عددهم، فقال قتادة والحكم وابن جريج ومحمد بن كعب القرضي: لم يكن في السفينة إلّا نوح وامرأته» وثلاثة بنيه، سام وحام ويافث أخوة كنعان وزوجاتهم [ورحلهم] فجميعهم ثمانية، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا الله نوح أن يغير نطفته فجاء بالسودان. وقال الأعمش: كانوا سبعة: نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين له. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم: نوح وبنوه حام وسام ويافث وستة أناس ممن كان آمن معه وأزواجهم جميعا. وقال مقاتل: [كانوا] اثنين وسبعين رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم، فكان الجميع ثمانية وسبعين نفسا، نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساء. قال ابن عباس: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانا أحدهم جرهم «5» .
[سورة هود (11) : الآيات 41 إلى 48]
قال مقاتل: وحمل نوح معه جسد آدم وجعله معترضا بين الرجال والنساء، وحمل نوح جميع الدواب من الغنم والوحوش والطير وفرق فيما بينها. قال ابن عباس: أول ما حمل نوح في السفينة من الدواب الإوزة، وآخر ما حمل الحمار، فلمّا دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول له: ادخل فينهض فلا يمشي، حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال له نوح: ما أدخلك عليّ يا عدو الله؟ فقال له: ألم تقل ادخل وان كان الشيطان معك، قال نوح: اخرج عني يا عدو الله، قال: ما لك بدّ من أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك «1» . وفي تفسير مالك بن إبراهيم الهروي الذي أخبرني بالإسناد إلى أبي القاسم والحسن بن محمد ببعضه قراءة وأجاز لي بالباقي في غير مرة، قال يحدثنا أبو العباس محمد بن الحسن الهروي، قال: حدثنا جابر بن عبد الله عنه أن الحية والعقرب أتيا نوحا فقالتا: احملنا، فقال نوح: إنكما سبب الضرّ والبلايا والأوجاع فلا أحملكما، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك بأن لا نضر أحدا ذكرك، فمن قرأ حين خاف مضرّتهما: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ما ضرّتاه. [سورة هود (11) : الآيات 41 الى 48] وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) وَقالَ نوح لهم: ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها قرأ أبو رجاء العطاردي: مُجْراها وَمُرْساها بضم الميمين وكسر الراء والسين وهي قراءة عبد الله. قال ابن عباس: مَجْراها حيث تجري وَمُرْساها حيث ترسو، أي تحسر في الماء. وقرأ محمد بن محيصن بفتح الميمين وهما مصدران، يعني أن الله تعالى بيده جريها
ورسوّها أي ثبوتها، جرى يجري جريا ومجرى، ورسا يرسو رسوّا ومرسى، مثل ذهب مذهبا وضرب مضربا. قال امرؤ القيس: تجاوزت أحراسا وأهوال معشر ... عليّ حرام لو يسرّون مقتلي «1» أي: قتلي. وقرأ الباقون بضم الميمين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، ومعناه: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، كقوله تعالى أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وأَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ بمعنى الإنزال والإدخال والإخراج. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قال الضحاك: كان نوح إذا أراد أن يرسو قال: بِسْمِ اللَّهِ، فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بِسْمِ اللَّهِ، فجرت. وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وكان عنيدا وقيل وكان كافرا. وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عنه لم يركب معه الفلك. يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فتهلك، قال له ابنه: سَآوِي سأصير وأرجع إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي يمنعني مِنَ الْماءِ ومنه عصام القربة الذي [يربط] رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها. قالَ نوح لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عذاب الله إلّا من رحمناه، وأنقذناه منه، ومن في محل رفع، وقيل: في محل النصب ومعناه لا معصوم اليوم من أمر الله إلّا من رحمه الله، كقوله تعالى عِيشَةٍ راضِيَةٍ وماءٍ دافِقٍ قال الشاعر: بطيء القيام رخيم الكلام ... أمسى فؤادي به فاتنا أي مفتونا. وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ فصار مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ بعد ما تناهى أمر الطوفان يا أَرْضُ ابْلَعِي أي اشربي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي امسكي وَغِيضَ الْماءُ فذهب ونقص ومصدره الغيض والغيوض. وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي وفرغ من العذاب وَاسْتَوَتْ يعني السفينة استقرّت ورست وحلّت عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل، قال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلّا ينالها الماء فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعا وتواضع الجودي وتطامن لأمر ربّه فلم يغرق، فأرسيت السفينة عليه.
وَقِيلَ بُعْداً هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «في أوّل يوم من رجب وفي بعض الأخبار: لعشر مضت من رجب- ركب نوح في السفينة فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر، ومرّت بالبيت فطاف به سبعا وقد رفعه الله من الغرق، وأرسيت السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح وأمر جميع من معه من الوحوش والدواب فصاموا شكرا لله عزّ وجلّ» [98] «1» . وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي الصدق وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أي تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وقرأ أهل الكوفة (عَمِلَ) بكسر الميم وفتح اللام، غَيْرَ بنصب الراء على الفعل ومعناه: إنه عمل الشرك والكفر، وقرأ الباقون عَمَلٌ بفتح الميم وضمّ اللام وتنوين غير بالرفع ومعناه: إنّ سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح. فَلا تَسْئَلْنِ يا نوح ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بما لا تعلم وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتحه، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسره. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ واختلفوا في هذا الابن فقال بعضهم: إنه لم يكن ابن نوح، ثم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: كان ولد خبث من غيره، ولم يعلم بذلك نوح، فقال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي من ولدك، وهو قول مجاهد والحسن، وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان بابنه، وقرأ فَخانَتاهُما فقال: إن الله حكى عنه إنه قال: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وقال: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وأنت تقول: لم يكن ابنه، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في انه كان ابنه. فقال الحسن: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، إنهم يكذبون. وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنه، وكان ولد على فراشه، وقال عبيد بن عمير، نرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما قضى أن الولد للفراش من أجل ابن نوح، وقال بعضهم: إنه كان ابن امرأته واستدلّوا بقول نوح: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ولم يقل: منّي، وهو قول أبي جعفر الباقر. وقال الآخرون: كان ابنه ومن فصيلته، ومعنى قوله: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، وقالوا: ما بغت امرأته ولا امرأة لوط وإنما كانت خيانتهما في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وهذه كانت تدلّ على الأضياف، وهو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران. قال أبو معاوية البجلي: قال رجل لسعيد بن جبير: قال نوح إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، أكان ابن نوح؟ فسبّح طويلا، وقال: لا إله إلّا الله يحدث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم انه ابنه وتقول ليس ابنه، كان
[سورة هود (11) : الآيات 49 إلى 60]
ابنه ولكنه كان مخالفا في النية والعمل والدين، فمن ثم قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، وهذا القول أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب. فقال نوح (عليه السلام) عند ذلك رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ انزل من السفينة إلى الأرض بِسَلامٍ بأمن وسلامة مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وهم الذين كانوا معه في السفينة. وقال أكثر المفسّرين: معناه وعلى قرون تجيء من ذريّة من معك من الذين آمنوا معك من ولدك، وهم المؤمنون وأهل السعادة من ذريته وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ وهم الكافرون وأهل الشقاوة. وقال محمد بن كعب القرضي: داخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك داخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. قال الضحاك: زعم أناس إن من غرق من الولدان مع آبائهن وإنّما ليس كذلك وإنّما الولدان بمنزلة الطير، وسائر من أغرق الله يعود لابنه ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم والمذكورين من الرجال والنساء ممّن كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا ثم مصيرهم إلى النار. [سورة هود (11) : الآيات 49 الى 60] تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) تِلْكَ الذي ذكرت مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ يا محمد وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا من قبل إخباري إياك فَاصْبِرْ على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة لِلْمُتَّقِينَ كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم.
وَإِلى عادٍ أي فأرسلنا إلى عاد أَخاهُمْ هُوداً في النسب لا في الدين قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحّدوا الله وأكثروا العبادة في القرآن بمعنى التوحيد ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ما أنتم في إشراككم معه الأوثان إلّا كاذبون. يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة ولا أبتغي جعلا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي والفطرة ابتداء الخلقة أَفَلا تَعْقِلُونَ وذلك أن الأمم قالت للرسل: ما تريدون إلّا أن تأخذوا أموالنا فقالت الرسل لهم هذا. وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي آمنوا به يغفر لكم، والاستغفار هنا بمعنى الإيمان ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ من عبادتكم غيره وسالف ذنوبكم، وقال الفرّاء: معناه وتوبوا إليه لأن التوبة استغفار والاستغفار توبة. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً متتابعا، وقال مقاتل بن حيان وخزيمة بن كيسان: غزيرا كثيرا. وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ شدّة مع شدّتكم، وذلك أن الله حبس عنهم القطر في سنين وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد. وَلا تَتَوَلَّوْا ولا تدبروا مشركين قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بيان وبرهان على ما تقول فنقر ونسلّم لك وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ أي بقولك، والعرب تضع الباء موضع عن، وعن موضع الباء. وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ يعني لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسبّ آلهتنا إلّا أن بعض آلهتنا اعتراك وأصابك بسوء، بل جنون، وهذيان، هو الذي يحملك على ما تقول وتفعل، ولا نقول فيك إلّا هذا ولا نحمل أمرك إلّا على هذا، فقال لهم هود: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ على نفسي وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان فَكِيدُونِي جَمِيعاً فاحتالوا جميعا في ضرّي ومكري أنتم وأوثانكم ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها. قال الضحاك: يحييها ويميتها، قال الفرّاء: مالكها والقادر عليها، قال القتيبي: يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، قال ابن جرير: إنما خصّ الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع فيقولون: ما ناصية فلان إلّا بيد فلان أي إنه مطيع له يصرفه كيف شاء، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه جزوا [ناصيته] ليغتروا بذلك فخرا عليه، فخاطبهم بما يعرفون في كلامهم.
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يقول: إنّ ربي على طريق الحق يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بمعصيته ولا يظلم أحدا غيّا ولا يقبل إلّا الإسلام، والقول فيه إضمار أنّي: إنّ ربي يدلّ أو يحثّ أو يحملكم على صراط مستقيم. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ أي قل يا محمد: فقد أبلغتكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يوحّدونه ويعبدونه وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً بتولّيكم وإعراضكم وإنما تضرون أنفسكم، وقيل: معناها لا تقدرون له على خير إن أراد أن يضلكم، وقرأ عبد الله: ولا يضره هلاككم إذا أهلككم ولا تنقصونه شيئا، لأنه سواء عنده كنتم أو لم تكونوا. إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي لكل شيء حافظ، على بمعنى اللام، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء. وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وكانوا أربعة آلاف بِرَحْمَةٍ بنعمة مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ وقيل: الريح، قيل: أراد بالعذاب الغليظ عذاب القيامة أي كما نجّيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجّيناهم في الآخرة من العذاب. وَتِلْكَ عادٌ رده إلى القبيلة جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ يعني هودا وحده لأنه لم يرسل إليهم من الرسل سوى هود، ونظيره قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هاهنا لأن من كذّب رسولا واحدا فقد كذّب جميع الرسل. وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ متكبّر لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند: المعارض لك بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي يفجر دما فلا يرقى: عاند قال الراجز: إنّي كبير لا أطيق العندا «1» وَأُتْبِعُوا ألحقوا وأردفوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً يعني بعدا وعذابا وهلاكا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي وفي يوم القيامة أيضا كذلك لعنوا في الدنيا والآخرة أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي بربهم، كما يقال: شكرته وشكرت له، وكفرته وكفرت به ونصحته ونصحت له، قيل بمعنى: كفروا نعمة ربهم. أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ البعد بعدان: أحدهما البعد ضد القرب، يقال: بعد يبعد بعدا، والآخر بمعنى الهلاك ويقال منه: بعد يبعد بعدا وبعدا.
[سورة هود (11) : الآيات 61 إلى 68]
[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ ابتدأ خلقكم مِنَ الْأَرْضِ وذلك أن آدم خلق من الأرض وهم منه وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها وجعلكم عمّارها وسكانها، قال ابن عباس: أعاشكم فيها، الضحّاك: أطال أعماركم، مجاهد: أعمركم من العمر أي جعلها داركم وسكنكم، قتادة: أسكنكم فيها. فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ ممّن رجاه مُجِيبٌ لمن دعاه. قالُوا يعني قوم ثمود يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا القول أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّدا، وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الآلهة. وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ موقع في الريبة وموجب إليها، يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، قال الهذلي: كنت إذا أتيته من غيب ... يشم عطفي ويبز ثوبي كأنما أربته بريب «1» قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوة وحكمة فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ لا يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ قال ابن عباس: غير خسارة في خسارتكم، الفرّاء: تضليل، قال الحسين بن الفضيل: لم يكن صالح في خسارة حين قال، علمت علم العرب، فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وإنما المعنى ما تزيدونني، كما يقولون: ما أسبق إياكم إلى الخسارة، وهو قول العرب: فسقته وفجرته إذا نسبته إلى الفسق والفجور، وكذلك خسرته: نسبته إلى الخسران.
[سورة هود (11) : الآيات 69 إلى 73]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً نصب على الحال والقطع فَذَرُوها أي دعوها تأكل في أرض الله من العشب والنبات فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ ولا تصيبوها بعقر ونحر فَيَأْخُذَكُمْ إن قتلتموها عَذابٌ قَرِيبٌ من عقرها فَعَقَرُوها فَقالَ لهم صالح تَمَتَّعُوا حتى يحين [عذابه] فِي دارِكُمْ منازلكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ تمهلون ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ غير كذب وقيل: غير مكذوب فيه. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ نعمة وعصمة مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ عذابه وهوانه. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ يعني صيحة جبريل فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ صرعى، هلكى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا يقيموا ويكونوا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ. [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 73] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا يعني الملائكة، واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس: كانوا ثلاثة: جبرئيل وميكائيل وإسرافيل. الضحّاك: تسعة، السدّي: أحد عشر، وكانوا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم. إِبْراهِيمَ الخليل بِالْبُشْرى بالبشارة بإسحاق ويعقوب، وبإهلاك قوم لوط قالُوا لإبراهيم سَلاماً سلّموا عليه ونصب سَلاماً بإيقاع القول عليه، لأن السلام قول أي [مثل] قالُوا وسلّموا سَلاماً (قالَ) إبراهيم (سَلامٌ) أي عليكم سلام، وقيل: لكم سلام وقيل: رفع على الحكاية، (قِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ، وقرأ حمزة والكسائي سِلام بكسر السين من غير ألف ومثله في والذاريات، وكذلك هو في مصحف عبد الله ومعناه: نحن سلام صالح لكم غير حرب، وقيل: هو بمعنى السلم أيضا كما يقال: حل وحلال، وحرم وحرام. وأنشد الفراء: مررنا فقلنا إيه سلّم فسلمت ... كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح «1»
فَما لَبِثَ فما أقام ومكث إبراهيم أَنْ بمعنى حتى بإسقاط الخافض أي بأن جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قال ابن عباس: مشوي بالحجارة الحارة في خد من الأرض، قتادة ومجاهد: نضج بالحجارة وشوي، ابن عطية: شوي بعضه بحجارة، أبو عبيدة: كل ما أسخنته فقد حنذته فهو حنيذ ومحنوذ وأصل يحنذ أن إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق «1» . فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ أي للعجل نَكِرَهُمْ أي: أنكرهم، ويقال: نكرت الشيء وأنكرته بمعنى واحد. قال الأعشى: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلّا الشيب والصلعا «2» فجمع المعنيين في وقت واحد. وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أضمر وأحسّ منهم خوفا، وقال مقاتل: وقع في قلبه، الأخفش: خامر نفسه. الفرّاء: استشعر. الحسن: حدّث نفسه، وأصل الوجوس الدخول، وكان الخوف دخل قلبه. قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجئ لخير وأنّه يحدّث نفسه بشرّ. قالُوا لا تَخَفْ يا إبراهيم فإنّا ملائكة الله إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ قال الوالبي: لمّا عرف إبراهيم أنهم ملائكة خاف أنه وقومه المقصودون بالعذاب لأن الملائكة كانت تنزل إذ ذاك بالعذاب، نظير ما في الحجر ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعذاب، قالت الملائكة: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لا إلى قومك. وَامْرَأَتُهُ سارة بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغوا بن فالغ وهي ابنة عم إبراهيم قائِمَةٌ من وراء الستر تسمع كلام الملائكة وكلام إبراهيم، وقيل: كانت قائمة (......) «3» الرسل وإبراهيم جالس معهم فهو كلام أوّلي، وقرأ ابن مسعود: وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وهو جالس فَضَحِكَتْ. واختلفوا في العلة الجالبة للضحك، فقال السدي: لما قرب إليهم الطعام فلم يأكلوا خاف إبراهيم فظنهم لصوصا، فقال لهم: أَلا تَأْكُلُونَ؟ فقالوا: يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلّا بثمن، قال: فإن لهذا ثمنا، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوّله وتحمدون على آخره، فنظر جبريل إلى ميكائيل وقال: حق أن يتخذك خليلا، فَلَمَّا رَأى إبراهيم وسارة أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ
إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ، ... فَضَحِكَتْ سارة وقالت: إنا قمنا لأضيافنا هؤلاء أنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا. وقال قتادة: فَضَحِكَتْ من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال مقاتل والكلبي: فَضَحِكَتْ من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر وهو فيما بين خدمه وحشمه، وقال ابن عباس ووهب: ضحكت عجبا من أن يكون لها ولد على كبر سنّها وسنّ زوجها، وقالوا: هو من التقديم الذي معناه التأخير، وكان بمعنى: [.....] «1» وامرأته قائمة. فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فضحكت وقالت يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ الآية، وقيل: ضحكت سرورا بالأمن عليهم لما قالوا: لا تخف. وقال مجاهد وعكرمة: فَضَحِكَتْ أي حاضت في الوقت، تقول العرب: ضحكت الأرنب إذا حاضت، وقال الشاعر: وضحكت الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الخوف يوم اللقا فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قال ابن عباس والشعبي: الوراء ولد الولد، واختلف القرّاء في قوله: يَعْقُوبَ، فنصبه ابن عامر وعاصم وقيل: في موضع جر في الصفة أي من وراء إسحاق بيعقوب، فلمّا حذف الباء نصب، وقيل: بإضمار فعل له، ووهبنا له يعقوب. ورفعه الآخرون على خبر حذف الصفة، فلمّا بشّرت بالولد والحفيد صكت وَجْهَها أي ضر الله تعجبا وقالَتْ يا وَيْلَتى والأصل: يا ويلتاه أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وكانت لتسعين سنة في قول ابن إسحاق، وتسع وتسعين سنة في قول مجاهد. وَهذا بَعْلِي زوجي سمي بذلك لأنه قيّم أمرها كما سمّي مالك الشيء بعله، والنخل الذي استغنى بالأمطار عن ماء الأنهار يسمّى بعلا شَيْخاً وكان إبراهيم ابن مائة سنة في قول مجاهد، وعشرين ومائة سنة في قول ابن إسحاق. إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ فقالت الملائكة أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ يعني هنا إبراهيم إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ قال السدّي: قالت سارة لإبراهيم (عليه السلام) : ما آية قولك؟ قال: فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه، فاهتزّ أخضر فقال إبراهيم: هو لله إذا ذبيحا.
[سورة هود (11) : الآيات 74 إلى 83]
[سورة هود (11) : الآيات 74 الى 83] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ الخوف وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بإسحاق ويعقوب يُجادِلُنا في [.......] «1» لأنّ إبراهيم لا يجادل ربّه إنّما يسأله ويطلب إليه. وقال عامّة أهل التفسير معناه يجادل رسلنا وذلك أنهم لما قالوا: إنا مهلكوا أهل هذه القرية، قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا لا، فقال إبراهيم: وأربعون؟ قالوا: لا، قال: أو ثلاثون؟ قالوا: لا، قال: حتى بلغ عشرة، قالوا: لا، فقال: خمسة قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونه؟ قالوا: لا، فقال إبراهيم عند ذلك: إِنَّ فِيها لُوطاً، ف قالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. قال ابن جريج: وكان في قرى لوط أربعة آلاف ألف، قال قتادة: في هذه الآية لا يرى مؤمن إلّا لوط المؤمن، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا أي دع عنك الجدال، وأعرض عن هذا المقال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ عذاب ربك وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ نازل بهم، يعني قوم لوط عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مدفوع ولا ممنوع. وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا يعني الملائكة لُوطاً سِيءَ بِهِمْ حزن لمجيئهم، يقال: سؤته فسيء مثل شغلته فانشغل، وسررته فانسر وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قلبا وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد، ومنه عصبصب، كالعصب به الشر والبلاء أي شدّ ومنه عصابة الرأس، قال عدي بن زيد: وكنت لزاز خصمك لم أعرد ... وقد سلكوك في يوم عصيب «2» وقال آخر: وانك إلّا ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب «3»
وقال الراجز: يوم عصيب يعصب الأبطالا ... عصب القوي السلم الطوالا «1» وذلك أن لوطا (عليه السلام) لم يكن يعلم أنهم رسل الله في تلك الحال، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيان الفواحش فخاف عليهم، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه قال قتادة والسدّي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام نحو قرية لوط فأتوا لوطا وهو في أرض يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطا أربع شهادات، واستضافوه فانطلق معهم، فلمّا خشي عليهم، قال لهم: ما بلغكم، أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرّ قرية في الأرض عملا يقول، ذلك أربع مرات، فدخلوا معه منزله، ولم يعلم بذلك أحد إلّا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، وقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط. وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال ابن عباس وقتادة والسدّي: يسرعون، ومجاهد: يهرولون، الضحاك: يسعون، ابن عيينة: كأنهم يدفعون، شمر بن عطية: مشي بين الهرولة والجمزى «2» ، الحسن: مشي بين مشيتين، قال أهل اللغة: يقال: أهرع الرجل من برد وغضب أو أهرع إذا أرعد فهو مهرع إذا كان معجلا مسرعا، قال مهلهل: فجاءوا يهرعون وهم أسارى ... يقودهم على رغم الأنوف «3» وقال الراجز: بمعجلات نحوه مهارع «4» وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي من قبل مجيء الرسل إلى لوط كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، فقال لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا أنهم غلمان: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ واختلفوا في معنى قوله، قال محمد بن الفضل: يعني على شريعة الإسلام. وقال تميم: فلعلّ ذلك إلّا إذا كان تزويجه بناته من الكفرة جائزا كما زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم بنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وكانا كافرين، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: أراد بقوله بَناتِي: النساء، وكلّ نبي أبو أمّته. وقرأ بعض القراء النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم، وقال بعضهم: كان لهم سيّدان مطاعان فأراد أن يزوجهما بنتيه، زعوراء وريثا.
وقوله: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قراءة العامة برفع الراء، وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو: (أَطْهَرَ) بالنصب على الحال «1» ، فإن قيل: فأي طهارة في نكاح الرجال حتى قال لبناته هن أطهر لكم؟ قيل: ليس هذا زيادة النسل، إنما يقال ليس ألف «أطهر» للتفضيل وهذا سائغ جائز في كلام العرب كقول الناس: الله أكبر، فهل يكابر الله أحد حتى يكون هو أكبر منه؟ ويدلّ عليه ما روي عن أبي سفيان حين قال يوم أحد: أعل هبل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعمر: «قل الله أعلى وأجل» [99] «2» ، وهبل لم يكن قط عاليا. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تهينوني فيهم بركوبهم، وهم لا يركبون، وعجزي من دفعهم عنهم. وقيل: أراد ولا تشهروني بهم. تقول العرب: خزي خزيا إذا افتضح، وخزي يخزي خزاية بمعنى الاستحياء، قال ذو الرمة: خزاية أدركته بعد جولته ... من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب «3» أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ صالح، قال ابن عباس: معناه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي ليس لنا أزواجا [نلتصقهنّ] بالتزويج وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ من إتيان الأضياف، فقال لهم لوط عند ذلك لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي منعة وشيعة تنصرني أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ أي ألجأ وأنضوي إلى عشيرة مانعة، وجواب (لو) مضمر [تقديره: لرددت أهل الفساد] ، وقالوا: ما بعث الله بعده نبيا إلّا في ثروة من قومه، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ هذه الآية قال: «رحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» [100] «4» . قال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسوّر الجدار، فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إنّ ركنك لشديد وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فافتح الباب ودعنا وإيّاهم ففتح الباب ودخلوا، فاستأذن جبريل (عليه السلام) ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان [وعليه وشاح من در منظوم وهو برّاق الثنايا أجلى الجبين، ورأسه بك حبك] مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنّه ثلج، وقدماه إلى الخضرة فقال: يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، امض يا
لوط من الباب، ودعني وإيّاهم، فتنحى لوط عن الباب فخرج عليهم فنشر جناحه فضرب [به] «1» وجوههم فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم فلم يعرفوا طريقا ولم يهتدوا إلى بيوتهم. فانصرفوا وهم يقولون: النجا النجا فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقد سحرونا، وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح، يتوعدونه، فقال لهم لوط: متى موعد هلاكهم؟ فقالوا: الصبح قال: أريد أسرع من ذلك أن تهلكونهم الآن، فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قالوا له: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، قرأ أهل الحجاز بوصل الألف من سرى يسري ويدلّ عليه قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري اعتبارا بقوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وهما بمعنى واحد. فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس: بطائفة من الليل، الضحّاك: ببقية، قتادة: بعد مضي صدره، الأخفش: بعد جنح، وقيل: بعد هدوء، وبعضها قريب من بعض. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: إِلَّا امْرَأَتُكَ برفع التاء على الاستثناء من الالتفات أي وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ فإنها تلتفت وتهلك، وإنّ لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: وا قوماه فأدركها حجر فقتلها. وقرأ الباقون بنصب المرأة على الاستثناء من الأهل، أي فأسر بأهلك بقطع من الليل إلّا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد، ف إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ من العذاب غير مخطئها ولا يخطيهم. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي إن موعد هلاكهم هو الصبح، فقال لوط: أريد أسرع من ذلك، فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وذلك أن جبريل (عليه السلام) أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات سدوم وعامورا ودادوما وصبوا، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عالِيَها سافِلَها. روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل (عليه السلام) : «إن الله تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي، قال الله في وصفك ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ فأخبرني عن قوّتك، قال: يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهرا لبطن، قال: فأخبرني عن قوله مُطاعٍ قال: إن رضوان خازن الجنان، ومالكا خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي، قال: فأخبرني عن قوله أَمِينٍ قال: إن الله عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري» [101] .
وَأَمْطَرْنا عَلَيْها أي على شذاذها وسافليها، وقال أبو عبيدة: مطر في الرحمة، وأمطر في العذاب حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين، وقال ابن عباس ووهب وسعيد بن جبير (سنك) «1» : و (كل) حجارة وطين، قتادة وعكرمة: السجّيل: الطين دليله قوله تعالى لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ قال الحسن: كان أصل الحجارة طينا فشدّدت. وروى عكرمة أيضا أنه قال: هو حجر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزل الحجارة، وقيل: هو جبال في السماء وهي التي أشار الله إليها فقال: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ وقال أهل المعاني: السجّيل والسجّين واحد، وهو الشديد من الحجر والضرب. قال ابن مقبل: ورجلة يضربون البيض عن عرض «2» ... ضربا تواصت به الأبطال سجينا «3» والعرب تعاقب بين اللام والنون، قالوا: لأنّها كلها ذلقة من مخرج واحد ونظيره في الكلام هلّت العين وهنّت إذا أصيبت وبكت، وقيل: هو فعيل من قول العرب أسجلته إذا أرسلته فكأنها مرسلة عليهم، وقيل: من سجلت لهم سجلا إذا أعطيتهم كأنهم أعطوا ذلك البلاء والعذاب، قال الفضل بن عباس: من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب «4» مَنْضُودٍ قال ابن عباس: متتابع، قتادة: بعضها فوق بعض، الربيع: قد نضد بعضه على بعض، عكرمة: مصفوف، أبو بكر الهذلي: معدّ وهي من عدة [الله] التي أعدت للظلمة. مُسَوَّمَةً من نعت الحجارة، وهي نصب على الحال ومعناها معلّمة قتادة وعكرمة: مطوقة بها نضح من حمرة، ابن جريج: كانت لا تشاكل حجارة الأرض، الحسن والسدّي: مختومة، وقيل: مشهورة، ربيع: مكتوب على كل حجر اسم من رمي به. وَما هِيَ يعني تلك الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ من مشركي مكّة بِبَعِيدٍ قال مجاهد: يرهب بها قريشا، قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأمة والله ما أجار الله منها ظالما بعد، وقال أنس بن مالك: سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل (عليه السلام) عن قوله تعالى وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ قال: يعني بها ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلّا هو يعرف أي حجر سقط عليه «5» .
[سورة هود (11) : الآيات 84 إلى 109]
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 109] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَإِلى مَدْيَنَ يعني وأرسلنا إلى قوم مدين بن إبراهيم، أَخاهُمْ شُعَيْباً بن شرون بن أيوب بن مدين بن إبراهيم. قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ وكانوا يطفّفون
إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ قال ابن عباس (رضي الله عنه) : موسرين في نعمة، الحسن: الغنى ورخص السعر، قتادة: المال وزينة الدنيا، الضحاك: رغد العيش وكثرة المال، مجاهد: خصب وسعة، وغيرهم في غلاء السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ محيط بكم فلا يفلت منكم أحد. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ اكتالوا بالقسط وَلا تَبْخَسُوا ولا تنقصوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: ما أبقى الله لكم من الحلال، وإيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف «1» ، قال مجاهد: الطاعة، سفيان «2» : رزق الله، قتادة: حظكم من ربكم، ابن زيد: الهلاك في العذاب والبقية: الرحمة، الفرّاء: مراقبة الله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وإنما قال هذا لأن شعيبا لم يؤمر بالقتال. قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان، قال ابن عباس: كان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا، قال الأعمش: يعني قراءتك أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا يعني أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ بعضهم: تفعل وتشاء بالتاء يعني: تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء فيكون راجعا إلى الأمر لا إلى الترك. قال أهل التفسير: كان هذا نهيا لهم عنه وعذبوا لأجله قطع الدنانير والدراهم. فلذلك قالوا: وأن نفعل ما نشاء إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قال ابن عباس: السفيه الغاوي. قال القاضي: والعرب تصف الشيء بضده، للتطير والفأل كما قيل للديغ: سليم، وللفأرة: مفازة. وقيل: هو على الاستهزاء، كقولهم للحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض: أبو الجون، ومنه قول خزنة النار لأبي جهل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. وقيل: معناه الحليم الرشيد بزعمك وعند كن ومثله في صفة أبي جهل، وقال ابن كيسان: هو على الصحة أي أنّك يا شعيب لنا حليم رشيد، فليس يجمل بك شق عصا قومك ولا مخالفة دينهم، كقول قوم صالح له: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا. قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجّة وبصيرة وبيان وبرهان مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً حلالا طيبا من غير بخس ولا تطفيف، وقيل: علما ومعرفة وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ ما أريد أن أنهاكم عن أمر وأرتكبه إِنْ أُرِيدُ ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع فيما ينزل بي من النوائب، وقيل: إليه أرجع في الآخرة.
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يحملنكم شِقاقِي خلافي وفراقي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من العذاب وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط، وقيل: ما دار قوم لوط منكم ببعيد وَيا قوم اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ محبّ المؤمنين، وقيل: مودود للمؤمنين ومحبوبهم. قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وذلك أنه كان ضريرا، قال سفيان: كان ضعيف البصر، وكان يقال له خطيب الأنبياء وَلَوْلا رَهْطُكَ عشيرتك وكان في عزة ومنعة من قومه لَرَجَمْناكَ لقتلناك وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا قيل: الهاء راجعة إلى الله وقيل: إلى أمر الله وما جاء به شعيب، أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتموه، يقال: جعلت أمري بظهر إذا قصر في أمره وأخلّ بحقه. إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي تؤدتكم ومكانكم، يقال: فلان يعمل على مكانته ومكنته إذا عمل على تؤدّه تمكن. ويقال: مكن يمكن مكنا مكانا ومكانة، إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيّنا الجاني على نفسه، والأخطى في فعله، وذلك قوله مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ قيل: (مَنْ) في محل النصب أي فسوف تعلمون من هو كاذب، وقيل: ويخزي من هو كاذب، وقيل: محله رفع تقديره: ومن هو كاذب فيعلم كذبه ويذوق وبال أمره ف ارْتَقِبُوا وانتظروا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ منتظر. وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ صيحة من السماء أخذتهم وأهلكتهم، ويقال: إن جبريل صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم من أجسادهم. فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ميتين ساقطين هلكى صرعى كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا يكونوا فِيها أَلا بُعْداً هلاكا وغضبا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ هلكت ثَمُودُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة بيّنة إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وخالفوا أمر موسى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي يتقدمهم ويقودهم إلى النار يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وبئس المدخل المدخول فيه. وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ العون المعان، وذلك أنه ترادفت عليهم اللعنات، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ خراب، ابن عباس: قائِمٌ ينظرون إليه، وَحَصِيدٌ قد خرب وهلك أهله، مقاتل: قائِمٌ يعني له أثر، وَحَصِيدٌ لا أثر له، مجاهد:
قائِمٌ: خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَحَصِيدٌ: مستأصل يعني محصودا كالزرع إذا حصد، قال قتادة: القائم منها لم يذهب أصلا، ومنها حصيد قد ذهب أصلا، القرضي: مِنْها قائِمٌ بجدرانها وحيطانها، وحصيد: ساقط، محمد بن إسحاق: منها قائم يعني [.....] «1» وأمثالها من القرى التي لم تهلك، وَحَصِيدٌ يعني التي قد أهلكت. وَما ظَلَمْناهُمْ بالعذاب والإهلاك وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية يظلمون فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (مِنْ شَيْءٍ) لَمَّا جاءَ أَمْرُ عذاب رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ غير تخسير. وَكَذلِكَ وهكذا أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ نظير قوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» . إِنَّ فِي ذلِكَ لعبرة وعظة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يعني يوم القيامة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد تسمعون الداعي [......] «3» وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهده أهل السماء وأهل الأرض. وَما نُؤَخِّرُهُ يعني وما نؤخّر ذلك اليوم ولا نقيم عليكم القيامة إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي مؤقّت لا يتقدم ولا يتأخر يَوْمَ يَأْتِ وقرئ بإثبات الياء وحذفه، وهما لغتان وحذف الياء له طريقان كالكسرة عن الياء «4» والضمة من الواو، كقول الشاعر: كفاك كفّ ما تليق ودرهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما «5» لا تَكَلَّمُ أي: لا تتكلم نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ نظير تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ أي: تتنزل. قال لبيد: والعين ساكبة على أطلائها ... عوذا تأجّل بالفضاء بهامها «6» [أي تتأجل] . فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قال ابن عباس: فمنهم شقي كتبت عليه السعادة، وروى عبد الله ابن دينار عن ابن عمر عن عمر، قال: لمّا نزلت هذه الآية سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا نبي الله
فعلى ما عملنا، على شيء فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «على شيء قد فرغ منه يا عمر، وجرت به الأقلام ولكن كلّ ميسّر لما خلق له» [102] «1» . وروي عنه (عليه السلام) : «الشقي من شقي في بطن أمّه، والسعيد من سعد في بطن أمّه» [103] «2» . فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ خالدين فيها لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ قال ابن عباس: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، الضحّاك ومقاتل: الزفير: أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا ردّده في الجوف. أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر خالِدِينَ لابثين ومقيمين فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ يسمى هنا (ما) الوقت. قال ابن عباس: ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ من ابتدائها إلى وقت فنائها، قال الضحّاك: ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك فأظلّك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض. قال الحسين: أراد ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، قال أهل المعاني: العرب [ ... ] «3» في معنى التأبيد والخلود، يقولون: هو باق ما [ ... ] «4» وأطت الإبل، وأينع الثمر، وأورق الشجر، ومجن الليل وسال سيل، وطرق طارق، وذرّ شارقن ونطق ناطق، وما اختلف الليل والنهار، وما اختلف الذرة والجمرة، وما دام عسيب، وما لألأت العفراء ونابها، وما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، فخاطبهم الله تعالى بما تعارفوا بينهم. ثم استثنى فقال: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ اختلف العلماء في هذين الاستثناءين، من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة، فقال بعضهم هو في أهل التوحيد الذين يخرجهم الله من النار. قال ابن عباس: وما شاءَ رَبُّكَ أن يخرج أهل التوحيد منها، وقال في قوله في وصف السعداء: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ أن يخلدهم في الجنة، وقال قتادة: في هذه الآية الله أعلم بها، وذكر لنا أن ما أقوله سيصيبهم سفع من النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم الله منها، وعلى هذا القول يكون استثناء من غير جنسه لأن الأشقياء في الحقيقة هم الكافرون، والسعداء في الحقيقة هم المؤمنون.
وقال أبو مجلز: هو جزاؤه إلّا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم، ولا يدخلهم النار، وفي وصف السعداء إلّا ما شاء ربك بقاءهم في الجنة. قال ابن مسعود: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ. وهو أن يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ثم يجدّد خلقهم. قال: وليأتين على جهنم زمان تغلق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فِيها أَحْقاباً، وقال الشعبي: جهنم أسرع الدارين عمرا وأسرعهما خرابا، وقال ابن زيد: في هذه الآية أخبرنا بالذي أنشأ لأهل الجنة فقال: هذا غير مجذوذ، ولم يخبرنا بالذي أنشأ لأهل النار، وقال ابن كيسان: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من الفريقين من تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار، وقيل: ما شاءَ رَبُّكَ من احتباس الفريقين في البرزخ ما بين الموت والبعث. الزجّاج: في هذه الآية أربعة أقوال: قولان منها لأهل اللغة، وقولان لأهل المعاني، فأمّا أحد قولي أهل اللغة فإنهم قالوا: إِلَّا هاهنا بمعنى سوى كما يقال في الكلام: ما كان معنا رجل إلّا زيد، ولي عليك ألف درهم إلّا الألفان التي لي عليك، فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود، والقول الثاني: إنّه استثنى من الإخراج وهو لا يريد أن يخرجهم منها، كما يقول في الكلام: أردت أن أفعل كذا إلّا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل، والمعنى أنّه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنّه أعلمهم أنهم خالدون فيها، قال الزجّاج: فهذان مذهبا أهل اللغة. وأما قولا أهل المعاني، فإنهم قالوا: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من مقدار مواقفهم على رأس قبورهم وللمحاسبة إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم، وقال الفراء: معناه: وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة، وإِلَّا بمعنى الواو سائغ جائز في اللغة، قال الله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ومعناه، ولا الذين ظلموا، وأنشدني أبو ثروان: من كان أشرك في تفرّق فالج ... فلبونه جربت معا وأغدت إلّا كناشرة الذي ضيعتم ... كالغصن في غلوائه المثبت «1» معناه، لكن هنا كناشرة، وهي كاسم قبيلة، وقال: معناه كما شاء ربك كقوله وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ معناه كما قد سلف. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا قرأ أهل الكوفة: (سعدوا) بضم السين أي رزقوا السعادة، وسعد وأسعد بمعنى واحد، وقرأ الباقون بفتح السين قياسا على الذين شقوا، واختاره أبو عبيد وأبو
[سورة هود (11) : الآيات 110 إلى 115]
حاتم فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ. الضحّاك: إلّا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة، أبو سنان: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من الزيادة على قدر مدة دوام السماء والأرض، وذلك هو الخلود فيها، قال الله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع. وكيع بن الجراح: كفرت الجهمية بأربع آيات من كتاب الله، قال الله تعالى في وصف نعيم الجنة مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وقالت الجهمية: يقطع فيمنع عنهم، وقال الله أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها وقالوا: لا يدوم، وقال الله ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وقالوا: لا يبقى، وقال الله عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ وقالوا: يجذ ويقطع. فَلا تَكُ يا محمد فِي مِرْيَةٍ في شك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ فهم ضلّال. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ فيه إضمار أي: [كعبادة] آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ حظهم من الجزاء غَيْرَ مَنْقُوصٍ. [سورة هود (11) : الآيات 110 الى 115] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) وَلَقَدْ آتَيْنا أعطينا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ممّن صدف عنه وكذّب به، كما فعل قومك بالقرآن يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلّم وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أفرغ من عقابهم وإهلاكهم، يعني المختلفين المخالفين. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ موقع في الريب والتهمة، يقال: أراب الرجل، أي جاء بريبة، وألام إذا أتى بما يلام عليه، قال الشاعر: تعد معاذرا لا عذر فيها ... ومن يخذل أخاه فقد ألاما «1» وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا اختلف فيه القرّاء، فقرأ ابن عامر وأبو جعفر وحمزة وأن بتخفيف النون ولَمَّا بتشديد الميم على معنى فإنّ كلا لمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة، كقول الشاعر: كان من أخرها لقادم ... مخرم نجد فارع المحارم «2»
أراد إلى القادم، فحذف اللام عند اللام وتكون (ما) بمعنى من تقديره لممّن يوفينّهم، كقول الشاعر: وأنّي لمّا أصدر الأمر وجهه ... إذا هو أعيا بالسبيل مصادره «1» وقيل: أراد وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بالتنوين والتشديد، قرأها الزهري بالتنوين أي وَإِنَّ كُلًّا شديدا وحقا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ من قوله تعالى: كُلًّا لَمَّا، أي شديدا فحذفوا التنوين وأخرجوه على هذا فعلى، كما فعلوا في قوله: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا، وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف النون والميم على معنى إن الثقيلة مخفّف، وأنشد أبو زيد: ووجه مشرق النحر كأن ثدييه حقّان «2» أراد كان فخفّف ونصب به، و (ما) صلة تقديره وإن كلا ليوفينّهم. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب وحفص وأيوب وخلف بتشديد النون وتخفيف الميم على معنى وأن كلا ليوفينّهم، جعلوا (ما) صلة. وقيل: أرادوا وأن كلا لممّن كقوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي من. وقرأ أبو بكر بن عياش بتخفيف النون وتشديد الميم أراد أن الثقيلة فخفّفها. وقيل: (أن) بمعنى (ما) الجحد و (لما) بمعنى (إلا) تقديره وما كلا إلّا ليوفينّهم، ولكنه نصب كلّا بإيقاع التوفية عليه أي ليوفينّ كلا وهو أبعد القراءات فيها من الصواب، إنه بما تعملون خبير. فَاسْتَقِمْ يا محمد على أمر ربك والعمل به والدعاء إليه كَما أُمِرْتَ أن لا تشرك بي شيئا وتوكّل عليّ مما ينوبك، قال السدّي: الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته. وَمَنْ تابَ مَعَكَ فليستقيموا، يعني المؤمنين وَلا تَطْغَوْا ولا تجاوزوا أمري، وقال ابن زيد: ولا تعصوا الله ولا تخالفوه، وقيل: ولا تتخيّروا «3» . إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشقّ عليه من هذه الآية، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب، فقال: «شيبتني سورة هود وأخواتها» [104] «4» . وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن عباس: ولا تميلوا على غيّهم ولا تدهنوا لهم
قال، أبو العالية: لا ترضوا على أعمالهم. قتادة: لا تلحقوا بالمشركين. السدّي وابن زيد، ولا تداهنوا الظلمة، ابن كيسان: لا تسكنوا إلى الذين ظلموا. فَتَمَسَّكُمُ تصيبهم النار وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ أي أعوان يمنعون ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ يعني الغداة والعشي، قال ابن عباس: يعني صلاة العصر والمغرب. مجاهد: صلاة الفجر وصلاة العشاء، القرظي: هي الفجر والظهر والعصر، الضحاك: صلاة الفجر والعصر، [وقيل: الطرفان] صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف. وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ يعني صلاة العتمة، وقال الحسن: هما المغرب والعشاء، قال الأخفش: يعني ساعات الليالي واحدتها زلفة، وأصل الزلفة المنزلة والقربة، ومنه المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة، قال العجاج: طيّ الليالي زلفا فزلّفا ... سماوة الهلال حتى أحقوقفا «1» وفيه أربع لغات زُلَفاً: بفتح الفاء وضم اللام وهي قراءة العامة، وقرأ أبو جعفر بضم الزاي واللام، وقرأ ابن محيصن بضم الزاي وجزم اللام، وقرأ مجاهد زلفى، مثل قربى. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يعني: إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات، هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: هي قول العبد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر. نزلت هذه الآية في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري وكان يبيع التمر فأتته امرأة تبتاع تمرا فقال: إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه، فهل لك فيه، فقالت: نعم، فذهب بها إلى بيته فضمها إليه وقبّلها، فقالت له: اتق الله فتركها وندم على ذلك، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل راود امرأة عن نفسها ولم يبق شيئا مما يفعل الرجال بالنساء إلّا ركبه غير أنه لم يجامعها، فقال عمر بن الخطاب: لقد ستر الله عليك لو سترت على نفسك، فلم يردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا، وقال: أنظر فيه أمر ربي، وحضرت صلاة العصر، فصلّى النبي صلّى الله عليه وسلّم العصر، فلما فرغ أتاه جبريل بهذه الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أين أبو اليسر؟» فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: «أشهدت معنا هذه الصلاة؟» قال: نعم، قال: «اذهب فإنها كفارة لما عملت» فقال عمر: يا رسول الله أهذا له خاصّة أم لنا عامة؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل للناس عامة» [105] «2» . ذلِكَ الذي ذكرناه، وقيل: هو إشارة إلى القرآن ذِكْرى عظة لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ يا
[سورة هود (11) : الآيات 116 إلى 123]
محمد على ما تلقى من الأذى، وقيل: على الأذى، وقيل: على الصلاة، نظير قوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ من أعمالهم، وقال فيه ابن عباس: يعني المصلّين. [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 123] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) فَلَوْلا كانَ فهلّا كان مِنَ الْقُرُونِ التي أهلكناهم مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أصحاب دين وعقل يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ومعناه: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد إِلَّا قَلِيلًا استثناء منقطع مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق. وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ قال ابن عباس: ما أنظروا فيه، وروي عنه: أبطروا. الضحّاك: اعتلّوا، مقاتل بن سليمان: أعطوا، ابن حيان: خوّلوا، مجاهد: تجبّروا في الملك وعتوا عن أمر الله، الفرّاء: ما سوّدوا من النعيم واللذات وإيثار الدنيا على الآخرة وَكانُوا مُجْرِمِينَ كافرين وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ [بظلم منه لهم] وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ في أعمالهم غير مسيئين، لكنه يهلكها بكفرهم وإتيانهم السيئات، وقيل: معناه لم يكن ليهلكهم بشركهم وأهلها مصلحون فيما بينهم لا يتظالمون، ويتعاطون الحق بينهم وإن كانوا مشركين، وإنّما يهلكهم إذا ظلموا. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ كلّهم أُمَّةً جماعة واحِدَةً على ملّة واحدة وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ على أديان شتى من يهودي ونصراني ومجوسي ونحو ذلك إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ويعني بهم المؤمنون وأهل الحق. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال الحسن ومقاتل بن حيان ويمان وعطاء: وللاختلاف خلقهم، قال الأشهب: سألت مالكا عن هذه الآية فقال: خلقهم ليكون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وقيل: اللام بمعنى على، أي وعلى ذلك خلقهم، كقول الرجل للرجل: أكرمتك على برّك بي ولبرّك بي، ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة: وللرحمة خلقهم ولم يقل: ولتلك، والرحمة مؤنّثة لأنها مصدر وقد مضت هذه المسألة، وهذا باب سائغ في اللغة [وهو أن يذكر] لفظان
متضادان ثم يشار إليهما بلفظ التوحيد فمن ذلك قوله تعالى لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ ثم قال: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ، وقوله وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا وقوله: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا فكذلك معنى الآية، ولذلك أي وللاختلاف والرحمة خلقهم أحسن خلق، هؤلاء لجنّته، وهؤلاء لناره. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ قال ابن عباس: نسدد، الضحاك: نقوّي، ابن جريج: نصبّر حتى لا تجزع، أهل المعاني: ما نثبّت به قلبك. وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ قال الحسن وقتادة: في هذه الدنيا، وقال غيرهما: في هذه السورة، وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا ما يحلّ بنا من رحمة الله إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يحل بكم من النقمة. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: خزائن الله، الضحّاك: جميع ما غاب عن العباد، وقال الباقون: غيب نزول العذاب من السماء وإلينا يرجع الأمر كله في المعاد حتى لا يكون للخلق أمر، وقرأ نافع وحفص بضم الياء أي يُرْجَعُ ... فَاعْبُدْهُ وحده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ توثّق به وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ قال كعب: خاتمة التوراة خاتمة هود والله أعلم. يعملون قراءة العامة بالياء، وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالتاء.
سورة يوسف (ع)
سورة يوسف (ع) مكية، وهي سبعة آلاف وستة وسبعون حرفا، وألف وسبعمائة وستة وسبعون كلمة، ومائة وإحدى عشرة آية أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقرئ غير مرة، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني، وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصفهاني قالا: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، قال: حدثنا أحمد بن يونس اليربوعي، قال: حدثنا سلام بن سليم المدائني، قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «علّموا أرقّاءكم سورة يوسف فإنه أيّما مسلم تلاها وعلّمها أهله وما ملكت يمينه هوّن الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما» [106] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ يعني البيّن حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهداه وبركته، قال معاذ بن جبل: بيّن فيه الحروف التي سقطت من ألسن الأعاجم وهي ستة أحرف. إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا بلغتكم يا معشر العرب لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تعلموا معانيه وتقيموا ما فيه نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نقرأ، وأصل القصص تتبع الشيء، ومنه قوله تعالى وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فالقاص يتتبع الآثار ويخبر بها. أَحْسَنَ الْقَصَصِ يعني قصة يوسف بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ و (ما) المصدر أي بإيحائنا إليك هذا القرآن وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ من قبل وحينا لَمِنَ الْغافِلِينَ قال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلاه عليهم زمانا، وكأنهم ملّوا فقالوا: لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الآية، فقالوا: يا رسول الله لو ذكرتنا وحدثتنا فأنزل الله تعالى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ الآية، فقال الله تعالى على هذه الآية: أَحْسَنَ الْقَصَصِ. واختلف الحكماء فيها لم سميت أحسن القصص من بين الأقاصيص؟ فقيل: سماها أَحْسَنَ
الْقَصَصِ لأنه ليست قصة في القرآن تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة، وقيل: سمّاها أحسن لامتداد الأوقات فيما بين مبتداها إلى منتهاها، قال ابن عباس: كان بين رؤيا يوسف ومصير أبيه وأخوته إليه أربعون سنة، وعليه أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري: كان بينهما ثمانون سنة. وقيل: سماها أَحْسَنَ الْقَصَصِ لحسن مجاورة يوسف إخوته، وصبره على أذاهم، وإغضائه عند الالتقاء بهم عن ذكر ما تعاطوه، وكرمه في العفو عنهم وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والأنس والجن والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار والعلماء والجهال، والرجال والنساء، وحيلهن ومكرهن، وفيها أيضا ذكر التوحيد والعفة والسير وتعبير الرؤيا والسياسة وتدبير المعاش، وجعلت أحسن القصص لما فيها من المعاني الجزيلة والفوائد الجليلة التي تصلح للدين والدنيا، وقيل: لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب. وقيل: أَحْسَنَ الْقَصَصِ هاهنا بمعنى أعجب. إِذْ قالَ يُوسُفُ قراءة العامة يوسف بضم السين، وقرأ طلحة بن مصرف بكسر السين، واختلفوا فيه فقال أكثرهم: هو اسم عبريّ فلذلك لا يجري، وقال بعضهم: هو اسم عربي. سمعت أبا القاسم الحبيبي، قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا الحسن الأقطع، وكان حكيما، وسئل عن يوسف، فقال: الأسف: الحزن، والأسيف: العبد واجتمعا في يوسف فلذلك سمي يوسف. لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) . روى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام) » [107] «1» . يا أَبَتِ قرأ أبو جعفر وابن عامر بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير يا أبتاه، وقرأ الباقون بالكسر، لأنه أصله يا أبه على هاء الوقف والجر. إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً نصب الكوكب على التمييز، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ولم يقل: رأيتها لي ساجدة، والهاء والميم والياء والنون من كنايات ما يعقل لأن السجود فعل ما يعقل فعبّر عنها بكنايتها كقوله يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ الآية. روى السدّي عن عبد الرحمن بن [ساريا] ، عن جابر، قال: سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجل من اليهود يقال له بستان، فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها، فسكت؟ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «هل أنت مؤمن إن أخبرت بأسمائها؟» قال: نعم،
فقال: «حرثان «1» والطارق والذيال وذو النقاب «2» وقابس ووثاب وعمودان والمصبح والفليق والضروح وذو الفرغ «3» ، رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء فسجدن له» فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها [108] «4» . قال ابن عباس: الشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر. وقال قتادة: الشمس أبوه والقمر خالته، وذلك أن أمه راحيل كانت قد ماتت، قال وهب: وكان يوسف رأى وهو ابن سبع سنين، أن احدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة ثبتت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه، فقال له: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن اثني عشرة سنة أنّ أحد عشر كوكبا والشمس والقمر سجدن له فقصّها على أبيه فقال له: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فيبغوا لك الغوائل ويحتالوا في إهلاكك، لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. واختلف النحاة في وجه دخول اللام في قوله لك، فقال بعضهم: معناه فيكيدوك واللام صلة، كقوله لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ «5» وقال آخرون: هو مثل قولهم: نصحتك ونصحت لك، وشكرتك وشكرت لك، وحمدتك وحمدت لك، وقصدتك وقصدت لك. وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ كقوله: [يصطفيك ويختارك] ليوسف وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا وسمي تأويلا لأنه يؤوّل أمره إلى ما رأى في منامه وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ بالخلة وإنجائه من النار قال عكرمة: بأن نجّاه من الذبح وفداه بذبح عظيم. وقال الباقون: بإخراج يعقوب، والأسباط من صلبه. إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ولهذا قيل: العرق نزّاع والأصل لا يخطئ، فلمّا بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف حسدوه، قال ابن زيد: كانوا أنبياء، وقالوا: ما رضي أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه، فبغوه بالعداوة «6» .
[سورة يوسف (12) : الآيات 7 إلى 18]
[سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 18] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) يقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ أي في خبره وخبر إخوته وَإِخْوَتِهِ وأسماؤهم روبيل وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوي، ويهودا، وزيالون، وأمنجر، وأمهم ليا بنت أيان وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريّتين له اسم إحداهما زاد والأخرى ملده، أربعة نفر، دان ونفتالي وجاد وآشر، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا. آياتٌ قرأ أهل مكة آية على الواحد، أي عظة وعبرة، وقيل: عجب، يقال: فلان آية في الحسن والعلم أي عجب، وقرأ الباقون: آياتٌ على الجمع لِلسَّائِلِينَ وذلك أن اليهود سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه وقالوا: من أين لك هذا يا محمد؟ قال: «علّمنيه ربي» [109] وقيل: معناه للسائلين ولمن لم يسأل، كقوله: سَواءً لِلسَّائِلِينَ. إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ اللام فيه جواب القسم تقديره: تالله ليوسف وأخوه بنيامين أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي جماعة والعصبة ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى الخمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ خطأ بيّن في إيثاره يوسف وأخاه علينا. اقْتُلُوا يُوسُفَ اختلفوا في تأويل هذا القول، فقال وهب: قاله شمعون، كعب: دان، مقاتل: روبيل أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً أي في أرض يَخْلُ لَكُمْ يخلص ويصفو لكم. وَجْهُ أَبِيكُمْ عن شغله بيوسف فإنه قد شغله عنّا وصرف وجهه إليه عنّا وَتَكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ من بعد قتل يوسف قَوْماً صالِحِينَ تائبين، وقال مقاتل: يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو روبيل، وقال السدي: هو يهودا، وهو أعظمهم وكان ابن خالة يوسف، وكان أحسنهم فيدايا نهاهم عن قتله وقال لهم: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإن قتله عظيم. وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في قعر الجب وظلمته حيث يغيب خبره، قتادة: في أسفله، والغيابة: كل شيء غيّب شيئا، وأصلها من الغيبوبة، وقرأ أهل المدينة: غيابات الجب، على الجمع، والباقون: غَيابَتِ، على الواحد، والجبّ: البئر غير المطويّة، قتادة: هو بئر بيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، كعب: بين مدين ومصر، مقاتل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب. يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ يأخذه، قراءة العامة بالياء لأنه البعض وقرأ الحسن: تلتقطه بالتاء لأجل السيارة، والعرب تفعل ذلك في كل خبر كان عن مضاف إلى مؤنث يكون الخبر عن بعضه خبرا عن جميعه، كقول الشاعر: أرى مرّ السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال «1» ولم يقل أخذت وقال الآخر: إذا مات منهم سيد قام سيد ... فدانت له أهل القرى والكنائس «2» بَعْضُ السَّيَّارَةِ بعض مارّي الطريق من المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى فينستر خبره إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ما أقول لكم. قيل للحسن: أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك بني يعقوب؟ ولهذا قيل: الأب جلاب، والأخ سلاب، فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضرب من الاحتيال، فقالوا ليعقوب قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرأ أبو جعفر بالنون، وقرأ الباقون بإشمام النون للضمّة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأن أصله تأمننا بنونين فأدغمت أحدهما في الأخرى. وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ نحوطه ونحفظه حتى نردّه إليك، مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير وذلك أن أخوة يوسف قالوا لأبيهم أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قال أبوهم: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ فحينئذ قالوا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ.
وقرأ أبو عمرو بالنون فيهما وكذلك ابن عامر قال، هارون: فقلت لأبي عمرو: كيف تقرأ نرتع ونلعب وهم أنبياء؟ قال: لم يكونوا يومئذ أنبياء «1» ، وقرأ أهل الكوفة كلاهما بالياء أي ننعم ونأكل وننشط ونلهو، يقال: رتع فلان في ماله إذا أنعم وأنفقه في شهواته. قال القطامي: أكفرا بعد ردّ الموت عنّي ... وبعد عطائك المائة الرتاعا «2» وقال ابن زيد: معناه يرعى غنمه، وينظر ويعقل فيعرف ما يعرف الرجل «3» . وقرأ يعقوب نرتع بالنون وَيَلْعَبْ بالياء ردّا للعب إلى يوسف والرتوع إلى إخوته، وقرأ أهل الحجاز نرتعِ بكسر العين من الارتعاء، أي نتحارس ويحفظ بعضنا بعضا وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ. قالَ لهم يعقوب إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ أي ذهابكم وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لا تشعرون، وذلك أن يعقوب رأى في منامه أن الذئب قد شدّ على يوسف وكان يحذره، ومن ثم قال هذا فلقّنهم العلة وكانوا لا يدرون فقالوا: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ عشرة رجال إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ضعفة عجزة مغبونون. فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ في الكلام إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلمّا ذهبوا به وَأَجْمَعُوا وعزموا على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ هذه الواو مقحمة زائدة تقديره أوحينا، كقوله تعالى فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أي ناديناه وقال امرؤ القيس: فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل «4» أراد انتحى. لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يعني أوحينا إلى يوسف، [سوف تتحقق] رؤياك، ولتخبرنّ إخوتك بصنيعهم هذا وما فعلوه بك، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بوحي الله إليه وإعلامه إياه ذلك، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل «5» : معناه وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف. قال ابن عباس: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ وقال: أنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، يدنيه دونكم، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجب ثم جئتم أباكم فقلتم: إن
الذئب أكله وبعتموه بِثَمَنٍ بَخْسٍ، فذلك قوله لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . قال السدّي: أرسل يعقوب يوسف معهم فأخرجوه وبه عليهم من الكرامة، فلمّا برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة وجعل أخوه يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يجد منهم رحمة، فضربوه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه يا يعقوب، لو تعلم ما يصنع بابنك هؤلاء الأبناء. فلمّا كادوا ليقتلوه قال يهودا: أليس سألنا أبانا موثقا ألّا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فجعلوا يدلونه في البئر، فتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه، ردّوا عليّ القميص أتوارى به في الجب، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك، قال: إنّي لم أر شيئا. فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيه فقام عليها، فلمّا ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه فظن أنّها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه فقام يهودا فمنعهم وقال: قد أعطيتموني موثقا ألّا تقتلوه، وكان يهودا يأتيه بالطعام «2» . ويقال: إن الله تعالى أمر صخرة حتى ارتفعت من أسفل البئر فوقف يوسف عليها وهو عريان، وكان إبراهيم الخليل صلّى الله عليه وسلّم حين ألقي في النار جرّد من ثيابه وقذف في النار عريانا فأتاه جبريل (عليه السلام) بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه وكان ذلك [القميص] عند إبراهيم، فلمّا مات ورثه إسحاق، فلمّا مات إسحاق ورثه يعقوب، فلمّا شب يوسف جعل يعقوب ذلك القميص في تعويذ وعلّقه في عنقه، فكان لا يفارقه، فلمّا ألقي في البئر عريانا جاء جبرئيل وكان عليه ذلك التعويذ فأخرج القميص منه وألبسه إياه، قال ابن عباس: ثم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف. وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار وترويج ما مكروا، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل وإن الحياء في العينين، ولا يعتذر من ذنب في النهار فيتلجلج في الاعتذار فلا يقدر على إتمامه، وقيل: أخّروا المجيء إلى وقت العشاء الآخرة ليدلّسوا على أبيهم. قال السدّي: فلمّا سمع أصواتهم فزع وقال: ما لكم يا بنىّ؟ وهل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما أصابكم؟ وأين يوسف؟
[سورة يوسف (12) : الآيات 19 إلى 22]
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نترامى، دليله قول عبد الله: ننتضل، السدّي وابن حيان: نشتد وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ مصدّق لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ لسوء ظنّك بنا وتهمتك لنا، وهذا قميصه ملطخ بالدم فذلك قوله وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي بدم كذب، وقيل: بدم ذي كذب لأنه لم يكن دم يوسف وإنما كان دم شاة، وهذا كما يقال: الليلة الهلال، وقيل: معناه بدم مكذوب فيه، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال: ماله عقل ولا معقول. وقرأت عائشة: بدم كدب بالدال غير المعجمة، أي طري، فبكى يعقوب عند ذلك، وقال لبنيه: أروني قميصه فأروه، فقال: يا لله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يخرق عليه قميصه، فحينئذ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ رتبت لكم أَمْراً فَصَبْرٌ أي فمنّي أو فعليّ صبر، وقيل: فصبري صبر جَمِيلٌ وقرأ الأشهب والعقيلي: فصبرا على المصدر أي فلأصبرنّ صبرا جميلا، وهو الصبر الذي لا جزع ولا شكوى فيه. وقيل: معناه لا أعاشركم على كآبة الوجه وحبوس الحنين، بل أكون في المعاشرة معكم جميلا كما كنت. وروى عبد الرزاق عن الثوري عن حبيب بن ثابت أن يعقوب النبي (عليه السلام) كان قد سقط حاجباه على عينيه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ من الكذب، قالوا: وكان يوسف حين ألقي في الجب ابن ثماني عشرة سنة، وقيل: سبع عشرة سنة، وقيل: كان ابن عشر، ومكث فيه ثلاثة أيام. [سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 22] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ أي رفقة مارة من قبل مدين يريدون مصر، فأخطأوا الطريق فانطلقوا يمشون على غير الطريق حتى نزلوا قريبا من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدا من العمران، إنما هو للرعاة والمجتازة، وكان ماؤه مالحا فعذب حين ألقي فيه يوسف، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ليطلب لهم الماء فذلك قوله فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ الوارد: الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيّئ الأرشية والدلاء، فوصل إلى البئر فَأَدْلى فيها
دَلْوَهُ أي أرسلها يقال: أدليت الدلو في الماء إذا أرسلتها فيها، ودلوتها دلوا إذا أخرجتها منها، فتعلّق يوسف (عليه السلام) بالحبل، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس» [110] ، قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا ابتسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور، ينبهر بين ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم (عليه السلام) يوم خلقه الله وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن. فلمّا رآه مالك بن ذعر قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ واختلفت القراء في قوله: يا بُشْرى، فقرأ أهل الكوفة بسكون الياء، وقالوا: نادى مالك في رجلا من أصحابه، اسمه بشري، فقال: يا بشر، كما يقول: يا زيد، وهذا في محل رفع على النداء المفرد، وهذا قول السدّي. وقرأ الباقون: يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة وقالوا: بشّر المستقي أصحابه بأنه أصاب عبدا. وَأَسَرُّوهُ واخفوه بِضاعَةً نصب على الحال، قال مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معه وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه الشركة إن علموا بثمنه، عطية عن ابن عباس: يعني بذلك إخوة يوسف، أسرّوا شأن يوسف أن يكون أخاهم وقالوا: هو عبد لنا أبق منّا. قال الله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ فأتى يهودا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر أخوته بذلك فطلبوه، فإذا هم مالك وأصحابه نزول، فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا: هذا عبد أبق منّا، وقال وهب: كان يهودا [مستندا] من بعيد ينظر ما يطرأ على يوسف، فلمّا أخرجوه رآه فأخبر الآخرين، فأتوا مالكا وقالوا: هذا عبدنا، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك: أنا أشتريه منكم، فباعوه منه فذلك قوله تعالى وَشَرَوْهُ أي باعوه، قال ابن مفرغ الحميري: وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامة «1» أي بعت بردا وهو غلامه. بِثَمَنٍ بَخْسٍ ناقص وهو مصدر وضع موضع الاسم، قال قتادة: ظلم، الضحاك ومقاتل
والسدي: حرام، لأن ثمن الحر حرام، عكرمة والشعبي: قليل، ابن حيان: زيف دَراهِمَ بدل من الثمن مَعْدُودَةٍ وذكر العدد عبارة عن القلة، أي باعوه بدراهم معدودة قليلة غير موزونة، ناقصة غير وافية، وقال قوم: إنما قال مَعْدُودَةٍ لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقل من أربعين درهما، إنما كان يعدونها عدّا، فإذا بلغ أوقية وزنوه، لأن أقل أوزانهم وأصغرها يومئذ كان أوقية، والأوقية أربعون درهما. واختلف العلماء في مبلغ عدد الدراهم التي باعوه بها، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن قتادة والسدّي: عشرون درهما، فاقتسموها درهمين درهمين، مجاهد: اثنان وعشرون درهما، عكرمة: أربعون درهما. وَكانُوا يعني أخوة يوسف فِيهِ في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ لم يعلموا كرامته على الله ولا منزلته عنده. ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق، فذهبوا حتى قدموا به مصر، فاشتراه قطفير، قاله ابن عباس، وقيل: اطفير بن روجيت وهو العزيز وكان على خزائن مصر. وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها الريان بن الوليد بن ثروان بن ارامة بن فاون بن عمرو ابن عملاق بن لاود بن سام بن نوح، وقيل: إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف بعد حيّ، فملك بعده قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن اليبلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوي بن سام بن نوح وكان كافرا فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى أن يقبل. قال ابن عباس: لما دخلوا مصر تلقى قطفير مالك بن ذعر فابتاع يوسف منه بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين، وقال ابن منبه: قدمت السيّارة بيوسف مصر [فعرضوه] للبيع فترافع الناس في ثمنه وتزايد حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا فابتاعه قطفير بن مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ. فإن قيل: كيف أثبت الشرى في قوله وَشَرَوْهُ واشْتَراهُ ولم ينعقد عليه؟ والجواب: إن الشراء هو المماثلة فلمّا ماثله بمال من عنده جاز أن يقال: اشْتَراهُ، على التوسع، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية، فلمّا مرّ قطفير وأتى به منزله قال لامرأته- واسمها راحيل بنت رعابيل، قاله محمد بن إسحاق بن يسار. قال الثعلبي: وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن منبه، قال: حدثنا أبو حامد المستملي، حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: اسم امرأة العزيز التي ضمّت يوسف زليخا بنت موسى-.
أَكْرِمِي مَثْواهُ منزله ومقامه، قتادة وابن جريج: منزلته عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فيكفينا إذا بلغ وفهم الأمور وبعض ما نحن [نستقبله] من أمورنا. أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نتبنّاه، قال ابن إسحاق: كان قطفير لا يأتي النساء، وكانت امرأته راحيل «1» حسناء ناعمة طاعمة في ملك ودنيا «2» . قال الثعلبي: أخبرنا أبو بكر الجوزقي، أخبرنا أبو العباس الدغولي، حدثنا علي بن الحسن الهلالي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا زهير عن أبي إسحاق عن أبي عبيد عن عبد الله قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرّس في يوسف فقال: أَكْرِمِي مَثْواهُ، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، وأبو بكر حين استخلف عمر. وَكَذلِكَ أي وكما أنقذ يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله فأخرجناه من الجبّ بعد أن ألقي فيه، فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر، فجعلناه على خزائنها، قال أهل الكتاب: لما تمّت ليوسف (عليه السلام) ثلاثون سنة، استوزره فرعون. وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي ولكي نعلّمه من عبارة الرؤيا، مكنّا له في الأرض وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ اختلفوا في هذه الكناية، فقال قوم: هي راجعة إلى الله عزّ وجلّ، وتقدير الكلام: لا يغلب الله شيء، بل هو الغالب على أمره يفعل ما يشاء، ويعلم ما يريد، وقال آخرون: راجعة إلى يوسف، ومعنى الآية: والله مستول على أمر يوسف يسوسه ويحوطه ويدبّر أمره، ولا يكله إلى غيره. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما الله صانع بيوسف، و [ما] إليه يوسف من أمره صائر، وهم الذين زهدوا فيه وباعوه بثمن بخس وفعلوا به ما فعلوا «3» . قالت الحكماء في هذه: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ حيث أمر يعقوب يوسف (عليهما السلام) أن لا يقصّ رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حين قصّ، ثم أراد يعقوب أن لا يكيدوا فغلب أمره حتى كادوا، ثم أراد أخوة يوسف قتله فغلب أمره حتى لم يقتلوه، ثم أرادوا أن يلقوه في الجب ليلتقطه بعض السيارة فيندرس اسمه، فغلب أمره حتى لم يندرس اسمه وصار مذكورا مشهورا. ثم باعوه ليكون مملوكا فغلب أمره حتى صار ملكا والعبيد بين يديه، ثم أرادوا أن يخلوا لهم وجه أبيهم، فغلب أمره حتى ضاق عليهم قلب أبيهم، ثم تدبّروا أن يكونوا من بعده قوما
صالحين تائبين، فغلب أمره حتى نسوا الذنب وأصروا حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد أربعين سنة، وقالوا: وإن كنا خاطئين، وقالوا لأبيهم: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. ثم أرادوا أن يغرّوا باسم القميص والدم والبكاء، فغلب أمره حتى لم يخدع، وقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ثم احتالوا أن تذهب محبته من قبل أبيه، فغلب أمره حتى ازدادت المحبة والشوق في قلبه، ثم تدبّر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي، فغلب أمره حتى نسي الساقي في ذكره، ولبث في السجن بضع سنين، ثم احتالت امرأة العزيز أن [تترك] المراودة عن نفسها حتى قالت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً الآية، فغلب أمره حتى شهد الشاهد من أهلها. وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي منتهى شبابه وشدّة قوته، قال مجاهد: ثلاثا وثلاثين سنة، الضحاك: عشرين سنة، وروى ابن عباس أنه ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقيل: إلى أربعين، وقيل: إلى ستين، والأشدّ: جمع شد، مثل قدّ، أقدّ، وشرّ وأشرّ، وضر وأضرّ، قال حميد: وقد أتى لو تعبت العواذل ... بعد الأشل أربع كوامل قال الشاعر: هل غير أن كثر الأشل وأهلكت ... حرب الملوك أكاثر الأموال «1» آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً قال مجاهد: العقل والفهم والعلم قبل النبوة، وقال أهل المعاني: يعني إصابة في القول، وعلما بتأويل الرؤيا وموارد الأمور ومصادرها. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: المؤمنين، وعنه أيضا: المهتدين، وقال [الصدوق] عن الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف، وقال محمد بن كعب: هذا وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فإن المراد به محمد نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كما فعلت بيوسف بعد ما لقي من إخوته ما لقي وقاسى من البلاء ما قاسى فمكّنته في الأرض، ووطّأت له في البلاد، وآتيته الحكم والعلم فكذلك أفعل بك، أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة، وأمكّن لك في الأرض، وأزيدك الحكم والعلم لأن ذلك جزائي لأهل الإحسان في أمري ونهيي.
[سورة يوسف (12) : الآيات 23 إلى 29]
[سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها يعني امرأة العزيز، وطلبت منه أن يواقعها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وكانت سبعة. وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ، اختلف القراء فيه، فقرأ ابن عباس والسلمي وأبو وائل وقتادة: هئت لك بكسر الهاء وضم التاء مهموزا، بمعنى تهيأت لك، وأنكرها أبو عمرو، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: سمعت أبا عمرو وسئل عن قراءة من قرأ: هئت لك بكسر الهاء وهمز الياء فقال أبو عمرو: باطل، جعلها من تهيأت، اذهب واستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن، هل تعرف أحدا يقول هذا؟ وقال الكسائي أيضا: لم يحك هئت عن العرب، وقال عكرمة: هئت لك: أي زيّنت لك وحسنت وهي قراءة غير مرضية، وقرأ نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر وعبد الله بن أبي إسحاق: هيت لك بفتح الهاء وكسر التاء، وقرأ يحيى بن وثاب: هِيتُ بكسر الهاء وضم التاء، وقرأ ابن كثير بفتح الهاء وضم التاء، وأنشد طرفة: ليس قومي بالأبعدين إذا ... ما قال داع من العشيرة هيت هم يجيبون إذا هم سراعا ... كالأبابيل لا يغادر بيت «1» وقرأ أهل المدينة والشام بكسر الهاء وفتح التاء، وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء، وهي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم واللغة المعروفة عند العرب، الشعبي عن عبد الله بن مسعود: أقرأني النبي صلّى الله عليه وسلّم هيت لك. وروى الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود أنه قرأ هيت لك، فقيل له: هَيْتَ لَكَ، فقال ابن مسعود: إنما نقرأها كما تعلّمناها وسمعناها جميعا هلمّ وأقبل وادن، قال الشاعر [يخاطب] أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) : أبلغ أمير المؤمنين اهل العراق إذا أتيتا ... أن العراق وأهله سلم [إليك] فهيت هيتا «2»
قال السّدّي: هي بالقبطيّة هلمّ لك، وقال الحسين: هَيْتَ لَكَ كلمة بالسريانية أي عليك، قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول هي لغة لأهل حوران وقعت إلى الحجاز معناها تعال، قال أبو عبيد: سألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم، وكذا قال عكرمة، وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها وهي كلمة حثّ وإقبال على الشيء، وأصلهما من [الدعوة] والصياح تقول العرب: هيّت فلان بفلان إذا دعاه وصاح به، قال الشاعر: قد رابني أنّ الكريّ أسكتا ... لو كان معنيّا بها لهيّتا «1» أي صاح به، والكريّ المكاري. وقال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب: رأيت في بعض التفاسير هَيْتَ لَكَ يقول: هل لك رغبة في حسني وجمالي، وذكر أبو عبيدة أن العرب لا تثنّي هيت ولا تجمع ولا تؤنّث، وإنّها بصورة واحدة في كلّ حال وإنّما تتميّز بما بعدها وبما قبلها. قالَ يوسف (عليه السلام) عند ذلك: مَعاذَ اللَّهِ أعتصم وأستجير بالله ممّا دعوتني إليه وهو مصدر تقديره: عياذا بالله. إِنَّهُ رَبِّي يعني إنّ زوجك قطفير سيدي، أَحْسَنَ مَثْوايَ أي منزلتي، وعلى هذا أكثر المفسّرين، قال بعضهم: إنّها مردودة الى الله أَحْسَنَ مَثْوايَ أي آواني ومن بلاء الحب عافاني. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعني إن فعلت، وأتمنني هذا فخنته في أهله بعد ما أكرمني وأتمنني وأَحْسَنَ مَثْوايَ فأنا ظالم ولا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وقيل الزناة. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها يعني الهمّ بالشيء: حديث المرء نفسه به، ولمّا يفعل ذلك. يقول الشاعر: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله «2» فأما ما كان من همّ يوسف (عليه السلام) بالمرأة وهمتها به، فإنّ أهل العلم [اختلفوا] في ذلك، فروى سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس سئل: ما بلغ من همّ يوسف قال: حلّ الهميان وجلس منها مجلس المجامع. وروى ابن جريح عن ابن أبي عطية، قال: سألت ابن عباس (رضي الله عنه) : ما بلغ من همّ يوسف، قال: استلقت له على قفاها وقعد بين رجليها لينزع ثيابه.
سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله، مجاهد: حل السراويل حتّى بلغ الثفن، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. الضحاك: جرى الشيطان فيما بينهما فضرب بيده إلى جيد يوسف، وباليد الأخرى إلى جيد المرأة حتّى جمع بينهما. قال السديّ وابن إسحاق: لمّا أرادت امرأة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وتشوّقه إلى نفسها فقالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أوّل ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينك! قال: هي أوّل ما تسيل إلى الأرض من جسدي، قالت: ما أحسن وجهك! قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل تطيعه مرّة وتخيفه أخرى وتدعوه إلى اللذّة، وهو شاب مستقبل بجد من شبق الشباب ما يجد الرجل، وهي حسناء جميلة حتى لان لها ممّا يرى من كلفها به ولما يتخوف منها حتى خليا في بعض البيوت وهمّ بها، فهذه أقاويل المفسّرين من السلف الصالحين. وقالت جماعة من المتأخرين: لا يليق هذا بالأنبياء [:] فأوّلوا الآية بضروب من التأويل، وقال بعضهم: وهمّ بالفرار منها، وهذا لا يصحّ لأنّ الفرار مذكور وليس له في الآية ذكر، وقيل: همّ بضربها ودفعها، وقيل: همّ بمخاصمتها ومرافعتها إلى زوجها، وقيل: وَهَمَّ بِها هو كناية عن غير مذكور، وقيل: تمّ الكلام عند قوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ثمّ ابتدأ الخبر عن يوسف وقال: وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ: على التقديم والتأخير تقديرها: لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها ولكنّه رأى البرهان فلم يهمّ كقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ «1» وهذا فاسد عند أهل اللغة لأنّ العرب لا تقدّم جواب (لولا) قبلها، لا يقول: لقد قمت لولا زيد، وهو يريد، لولا زيد لقمت، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: همّت بيوسف أن يفترشها وَهَمَّ بِها يوسف يعني تمنّاها أن تكون له زوجة. وهذه التأويلات التي حكيناها كلها غير قويّة ولا مرضية لمخالفتها أقوال القدماء من العلماء الذين يؤخذ عنهم التأويل، وهم قد أخذوا عن الذين شهدوا التنزيل. وكما روي في الخبر الصحيح أنّ يوسف لما دخل على الملك وأقرّت المرأة، وقال يوسف: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرئيل عليه السلام: ولا حين هممت بها يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي.
وأما أهل الحقائق فإنّهم قالوا في وجه هذه الآية: إنّ الهمّ همّان: همّ مقيم (ثابت) وهو إذا كان مع عزيمة وعقد ونيّة ورضى مثل همّ امرأة العزيز فالعهد مأخوذ. وهمّ عارض وارد وهو الخطرة والفكرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزيمة مثل همّ يوسف (عليه السلام) ، والعهد غير مأخوذ ما لم يتكلّم به أو يفعله، يدلّ عليه ما روي عن ابن (المبارك) قال: قلت لسفيان: أيؤخذ العهد بالهمّة؟ قال: إذا كان عزما أخذ بها. وروي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يقول الله عزّ وجل: «إذا همّ عبدي بالحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، وإن عملها كتبتا له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا همّ عبدي بالسيّئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيّئة واحدة، فإن تركها من أجلي كتبتها له حسنة» [111] «1» . والقول بإثبات مثل هذه: الزلّات والصغائر على الأنبياء (عليهم السلام) غير محظور لضرب من الحكمة: أحدها: ليكونوا من الله تعالى على وجل إذا ذكروها فيجدّون في طاعته إشفاقا منها ولا يتّكلون على سعة رحمة الله. والثاني: ليعرّفهم موقع نعمته وامتنانه عليهم بصرفه عنهم. والثالث: ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله وترك اليأس من عفوه وفضله. وقد روى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد إلّا يلقى الله عزّ وجل قد همّ بخطيئة أو عملها إلّا يحيى بن زكريا فإنّه لم يهم ولم يعملها» «2» [112] . وعن مصعب بن عبد الله قال: حدّثني مصعب بن عثمان قال: كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجها، فدخلت عليه امرأة تستفتيه: [فتأمنته] بنفسه فامتنع عليها وذكّرها، فقالت له: إن لم تفعل لأشهّرنّ بك ولأصيحنّ بك، قال: فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف النبي (عليه السلام) ، فقال له: أنت يوسف؟ قال: أنا يوسف النبي هممت وأنت سليمان الذي لم تهمّ. وأمّا البرهان الذي رآه يوسف (عليه السلام) فإنّ العلماء اختلفوا فيه، فأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى عن أبي العباس الأصمّ عن الحسن بن علي، عن الحسين بن عطية عن إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد عن ابن عباس لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ قال: مثل له يعقوب فضرب يده في صدره، فخرجت شهوته من أنامله.
وقال الحسن وسعيد بن جبير وحميد بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وابن سيرين وأبو صالح وشمر بن عطية والضحّاك: انفرج له سقف البيت فرأى يعقوب عاضا على إصبعه. وقال ابن جبير: فكل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر ولدا إلّا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل نقص من شهوته حين رأى صورة أبيه فاستحياه. قتادة: رأى صورة يعقوب فقال: يا يوسف تعمل عمل السّفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء؟ ابن أبي مليكه: عن ابن عباس قال: نودي: يا يوسف أتزني فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له؟ السدّي: نودي يا يوسف تواقعها؟ إنّما مثلك- ما لم تواقعها- مثل الطير في جو السماء لا يطلق، ومثلك إن واقعتها مثل [الطير] إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه، فلا يستطع أن يدفع عنه نفسه. أبو مردود عن محمّد بن كعب القرضي: قال: رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت حين همّ فرأى كتابا في حائط البيت لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «1» . أبو معشر عنه: لولا ما رأى بالقرآن من تعظيم الزنا وتحريمه، وزاد القرضي: بالقرآن وصحف إبراهيم (عليه السلام) . ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها قال: حلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وإذا بكفّ قد مدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها: إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ «2» . قال: فقام هاربا وقامت، فلمّا ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد مدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ «3» ، فقام هاربا وقامت فلمّا ذهب عنهما الرعب عادت وعاد، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته، قال الله تعالى لجبريل (عليه السلام) : يا جبرئيل أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فرأى جبريل عاضّا على إصبعه أو كفّه وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟ فذلك قوله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ.
قتادة عن عطية عن وهب بن منبه، إنّه قال: لمّا همّ يوسف وامرأة العزيز بما همّا خرجت كفّ بلا جسد بينهما مكتوب عليها بالعبرانية أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «1» ثمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما، ثمّ رجعت الكفّ بينهما مكتوب عليها بالعبرانية إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ، ثمّ انصرفت الكفّ وقاما مقامهما، فعادت الكفّ بالعبرانية مكتوب عليها: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا «2» فانصرفت الكفّ وقاما مقامهما، فعادت الكفّ رابعة مكتوب عليها بالعبرانية: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فولّى يوسف هاربا. وروى عطية عن ابن عباس، أنّ البرهان الذي رآه يوسف أنّه أري تمثال الملك، وروى عمر بن إسحاق عن بعض أهل العلم أنّه قطفير سيّده حين دنا من الباب في ذلك الحين، إنّه لما هرب منها واتّبعته ألفاه لدى الباب. روى علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر الصادق رضي الله عنه قال: حدّثني أبي عن أبيه علي ابن الحسين، في قوله تعالى: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ قال: قامت امرأة العزيز إلى الصنم فأظلت دونه بثوب فقال لها يوسف: ما هذا؟ فقالت: أستحيي من الصنم أن يرانا، فقال يوسف: أتستحيين ممّن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه ولا يشهد ولا أستحيي ممّن خلق الأشياء وعلّمها؟ وقال جعفر بن محمد: البرهان النبوّة التي: أودع الله صدره هي التي حالت بينه وبين ما يسخط الله. وقيل: هو ما آتاه الله من العلم والحكمة، وقال أهل الإشارة: إنّ المؤمن له برهان من ربّه في سرّه من معرفته فرأى ذلك البرهان وهو زاجره. فالبرهان الآية والحجّة، وجواب (لولا) محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربّه لزنا، وحقّق الهمّة الغريزية بهمّة الكسب، لقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ مجازه لهلكتم، وقال امرؤ القيس: فلو أنّها نفس تموت سوية ... ولكنّها نفس تساقط أنفسنا «3» أراد [بسقطت] فنيت ولهان عليّ، ونحوها. قال الله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ الإثم وَالْفَحْشاءَ الزنا. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ قرأ أهل مكّة والبصرة بكسر اللام أي المخلصين التوحيد
والعبادة لله، وقرأ الآخرون بفتح اللام أي المختارين للنبوّة، دليلها قوله إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ. وروى الزهري عن حمزة بن عبيد الله بن عمران بن عمر قال: قال: لمّا اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلّم الألم الذي توفّي فيه، قال صلّى الله عليه وسلّم: «يصلّي بالناس أبو بكر» «1» ، قالت عائشة: يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق، وإنّه لا يملك نفسه حين يقرأ القرآن، فمره عمر يصلّي بالناس، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يصلّي بالناس أبو بكر» فراجعته، فقال «ليصلّ بالناس أبو بكر فإنّكن صويحبات يوسف» «2» [113] ، قالت عائشة: والله ما حملني في ذلك الأمر عليهم أن يكون أوّل رجل قام مقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن شيبة قال: حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال: حدّثنا بعض أصحابنا قال: قال جعفر بن سليمان: سمعت امرأة في بعض الطرق وهي تتكلّم ببعض الرفث فقلت لها [....] «3» إنّكن صويحبات يوسف، فقالت له المرأة: وا عجبا نحن دعوناه إلى اللذّة، وأنتم أردتم قتله، فمن أصحابه نحن أو أنتم، وقتل النفس أعظم ممّا أردناه؟ وَاسْتَبَقَا الْبابَ وذلك أنّ يوسف لمّا رأى البرهان قام مبادرا إلى باب البيت، هاربا ممّا أرادته منه، واتبعته المرأة فذلك قوله تعالى. وَاسْتَبَقَا الْبابَ: يعني بادر يوسف وراحيل إلى الباب، أمّا يوسف ففرارا من ركوب الفاحشة، وأمّا المرأة فطلبها ليوسف لتقضي حاجتها أيّ راودته عليها، فأدركته فتعلّقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها مانعة له من الخروج. وَقَدَّتْ أي خرّقت وشقّت قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ: من خلف لا من قدّام، لأنّ يوسف كان الهارب والمرأة الطالبة، فلمّا خرجا وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ، أي وجدا زوجها قطفير عند الباب جالسا مع ابن عمّ لراحيل، فلمّا رأته هابته فقالت: سابقة بالقول لزوجها: قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً يعني الزنا، إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ يحبس، أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني الضرب بالسياط، قاله ابن عباس: قالَ يوسف: بل هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها، اختلفوا في هذا الشاهد، قال سعيد بن جبير وهلال بن يسار والضحّاك: كان صبيّا في المهد أنطقه الله بقدرته.
وحدّثنا العوفي عن ابن عباس وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، ويدلّ عليه ما روى عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: تكلّم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب بن جريج، وعيسى ابن مريم (عليه السلام) . وقيل: كان ذلك الصبيّ ابن خال المرأة، وقال الحسن: غلامه، قتادة والضحّاك ومجاهد برواية [ ... ] «1» : ما كان بصبي ولكنه كان رجلا حكيما ذا لحية، له رأي ومقال وآية، وهو رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس، قال: وكان من خاصّة الملك. وقال السدي: هو ابن عمّ راحيل، وكان جالسا مع زوجها على الباب فحكّم وأخبر الله تعالى عنه: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ الآية. قال عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إنّ الشاهد قميصه المقدود من دبر، ومعنى شَهِدَ شاهِدٌ حكم حاكم مِنْ أَهْلِها، قال مجاهد: قال الشاهد: تبيان هذا الأمر في القميص. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ وإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي قدام فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وخفّف ابن أبي إسحاق القبل والدبر وثقّلهما الآخرون وهما لغتان. فجيء بالقميص فإذا هو قدّ من دبر، فلمّا رأى قطفير قميصه قدّ من دبر عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف ف قالَ لها إِنَّهُ أي إنّ هذا الصنيع مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، وقيل: إنّ هذا من قول الشاهد. ثمّ أقبل قطفير على يوسف فقال: يُوسُفُ يعني يا يوسف، لفظ مفرد أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث فلا تذكره لأحد، وقيل: معناه لا تكترث له فقد كان عفوك لبراءتك، ثمّ قال لامرأته: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ وقيل: هو من الشاهد ليوسف والراحيل، وأراد بقوله: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، يقول: سلي زوجك ألّا يعاقبك على ذنبك ويصفح عنك، وهذا معنى قول ابن عباس. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من المذنبين حين راودت شابّا عن نفسه وخنت زوجك، فلمّا استعصم كذبت عليه، يقال خطأ يخطأ خطأ، وخطأ، وخطا وخطاء، إذا أذنب والاسم منه الخطيئة، قال الله تعالى: كانَ خِطْأً كَبِيراً وقال أميّة: عبادك يخطئون وأنت ربّ ... بكفّيك المنايا والحتوم «2» أيّ يذنبون فإذا أرادوا التعمّد قيل: خطأ خطأ هنا لأنّ الفعل بالألف قال الله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، وإنّما قال مِنَ الْخاطِئِينَ ولم يقل: الخاطئات
[سورة يوسف (12) : الآيات 30 إلى 35]
لأنّه لم يقصد بذلك قصد الخبر عن النساء، وإنّما قصد به الخبر عمّن يفعل ذلك، وتقديره: من القوم الخاطئين. ومثله قوله: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ، بيانه قوله: إنّها كانت من قوم كافرين. [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ يقول: شاع أمر يوسف والمرأة في مدينة مصر وتحدّثت النساء بذلك، وقلن يعني امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب، قاله مقاتل امْرَأَتُ الْعَزِيزِ وهو في كلام العرب الملك، قال أبو داود: درّة غاص عليها تاجر ... جليت عند عزيز يوم طلّ «1» أيّ ملك. تُراوِدُ فَتاها عدّها الكنعاني عن نفسه. قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي أحبّها حتى دخل حبّه شغاف قلبها، وهو حجابه وغلافه. قال السدّي: الشغاف جلدة رقيقة على القلب يقال لها: لسان القلب، تقول: دخل الحبّ الجلد حتى أصاب القلب، قال النابغة الذبياني: وقد حال همّ دون ذلك داخل ... دخول الشّغاف تبتغيه الأصابع «2» وقال ابن عباس: علقها حبّا، الحسن: بطنها حبا، قتادة: استبطنها حبّها إيّاه، أبو رجاء: صدقها حبّا، الكلبي: حجب حبّه قلبها حتى لا يعقل سواه. وقرأ أبو رجاء العطاردي والشعبي والأعرج، شعفها بالعين غير معجمة واختلفوا في معناها فقال الفرّاء: ذهب بها كلّ مذهب، وأصله من شعف الجبال وهي رؤوسها، والنخعي والضحّاك: فتنها، وذهب بها، وأصله من شعف الدابة حين تتمرّغ بذعر، قال امرؤ القيس:
أتقتلني وقد شعفت فؤادها ... كما شعف المهنوءة الرجل الطالي «1» ومراده: ذهب قلب امرأته كما ذهب الطالي بالإبل بالقطران يتلو بها، والإبل تخاف من ذلك ثمّ تستروح إليه، وقال الأخفش: من حبّها، وقال محمد بن جرير: عمّها الحب. إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ: خطا بيّن، فَلَمَّا سَمِعَتْ راحيل، بِمَكْرِهِنَّ بقولهنّ وحديثهنّ، قال قتادة والسدّي وقال ابن إسحاق: وإنّما قلن ذلك مكرا بها ليرين يهمّن يوسف وكان قد وصف لهنّ حسنه وجماله أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ قال وهب: اتّخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة فيهنّ هؤلاء اللائي عيّرنها، وَأَعْتَدَتْ وأعدّت وهو أفعلت العتاد وهو العدّة، قال الله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً «2» . لَهُنَّ مُتَّكَأً مجلسا للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، يقال: ألقى له متّكأ أيّ ما يتّكأ عليه، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة. وقال سعيد بن جبير والحسن وقتادة وأبي إسحاق وابن زيد: طعاما، قال القتبيّ: والأصل فيه أنّ من دعوته إلى مطعم عندك أعددت له وسادة أو متّكأ، فسمّي الطعام متّكأ على الاستعارة، يقال: اتّكأنا عند فلان أي أكلنا، قال عدي بن زيد: فظللنا بنعمة واتّكأنا ... وشربنا الحلال من قلله «3» وروي عن الحسن أنّه قال: متّكاء بالتشديد والمدّ وهي غير فصيحة، وعن الحسن: فما أظنّ بصحيحة، وقرأ مجاهد متّكأ خفيفة غير مهموزة، وروي ذلك عن ابن عباس. واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس: هو الأترج، عكرمة: هو الطعام، وأبو روق عن الضحّاك: الزماورد، علي بن الحكم وعبيد بن حكيم، عنه: كلّ شيء يحزّ بالسكّين فهو عند العرب المتّكأ، والمتك والبتك: القطع والعرب تعاقب بين الباء والميم تقول سمد رأسه وسبده، وأغبطت عليه وأغمطته [لازب] ولازم قال الله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ «4» . وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ ليوسف اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ وذلك أنّها قد كانت أجلسته في مجلس غير المجلس الذي هنّ فيه جلوس، فخرج عليهنّ يوسف (عليه السلام) ، قال عكرمة: وكان فضل يوسف على الناس في الحسن والجمال كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مررت ليلة أسري بي إلى السماء فرأيت يوسف، فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا يوسف» قالوا: وكيف رأيته يا رسول الله، قال: «كالقمر ليلة البدر» [114] «1» . وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: قال: «هبط جبرئيل فقال: يا محمد إنّ الله تعالى يقول: كسوت حسن يوسف من نور الكرسي، وكسوت نور حسن وجهك من نور عرشي» » [115] . وروى الوليد بن مسلم عن إسحاق عن عبد الله بن أبي فروة قال: كان يوسف إذا سار في أزقّة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس والماء على الجدران. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه وأجللنه، قال أبو العالية: هالهنّ أمره وبهتن، وروى عبد الصمد بن علي عن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ قال حضن من الفرح، ثم قال: نأتي النساء على أطهارهنّ ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا «3» وعلى هذا التأويل يكون أَكْبَرْنَهُ بمعنى أكبرن له أي حضن لأجله من جماله، ووجدن ما تجد النساء في مثل تلك الحال «4» وهذا كقول عنترة: ولقد أبيت على الطوى وأظلّه ... حتى أنال به كريم المطعم «5» أي وأظلّ عليه. قال الأصمعي: أنشد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذا البيت، فقال: ما من شاعر جاهلي أحببت أن أراه ... دون [.............] «6» البيت وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، يعني وحززن أيديهنّ بالسكاكين التي معهنّ وكنّ يحسبن أنّهنّ يقطّعن الأترج، عن قتادة: قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حتى ألقينها، وقال مجاهد: فما أحسسن إلّا بالدم ومنهنّ لم يجدن من ألم إلّا يرى الدم لشغل قلوبهنّ بيوسف، قال وهب: وبلغني أنّ تسعا من الأربعين متن في ذلك المجلس وجدا بيوسف.
وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي معاذ الله، قال أبو عبيدة: لهذه الكلمة معنيان: التنزيه والاستثناء، واختلف القرّاء فيها فقرأت العامّة: حاشَ لِلَّهِ، [ ... ] «1» حذفوا الألف لكثرة دورها على الألسن كما حذفت العرب الألف من قولهم: لأب لغيرك ولأب لشانئك، وهم يعنون لا أب، واختار أبو عبيدة هذه القراءة وقال: اتّباعا للكتاب وهو الذي عليه الجمهور الأعظم، مع إنّي قرأتها في الإمام مصحف عثمان (عليه السلام) : حاشَ لِلَّهِ والأخرى مثلها. وقرأ أبو عمرو: حاشي لله بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن مسعود حاشى الله، كقول الشاعر: حاشا أبي ثوبان إن به ... ضنّا عن الملحاة والشتم «2» ما هذا بَشَراً نصب بنزع حرف الصفة وعلى خبر ما الجحد كما تقول: ما زيد قائما، وقرأ الأعمش: ما هذا بشر بالرفع وهي لغة أهل نجد، وأنشد الفرّاء: ويزعم «3» حسل أنه فرع قومه ... وما «4» أنت فرع يا حسيل ولا أصل «5» وأنشد آخر: لشتّان ما أنوي وينوي بنو أبي ... جميعا فما هذان مستويان تمنّوا لي الموت الذي يشعب الفتى ... وكلّ فتى والموت يلتقيان «6» وروى الفرّاء عن دعامة بن رجاء التيمي عن أبي الحويرث الحنفي أنّه قرأ: ما هذا بشريّ، قال الفرّاء: يعني بمشتري، إِنْ هذا ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ من الملائكة. قال الثعلبي: سمعت ابن فورك يقول: إنّما قلن له مَلَكٌ كَرِيمٌ لأنّه خالف ميوله وأعرض عن الدنيا وزينتها وشهوتها حين عرضن عليه، وذلك خلاف طبائع البشر. قالَتْ: راحيل للنسوة: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي في حبّه وشغفي فيه، ثمّ أقرّت لهنّ فقالت: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ أي امتنع واستعصى، فقلن له أطع مولاتك، فقالت راحيل: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ ولئن لم يطاوعني فيما دعوته إليه، لَيُسْجَنَنَّ أحبسنّه، وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ أي الأذلّاء ونون التوكيد تثقّل وتخفّف والوقف على قوله: لَيُسْجَنَنَّ بالنون لكنّها مشدّدة. وعلى قوله: وَلَيَكُوناً بالألف لأنّها مخفّفة وهي تشبه نون الإعراب في
الأسماء كقولك: رأيت رجلا، فإذا وقفت قلت: رجلا ومثله قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ «1» ، ونحوه الوقف عليها بالألف كقول الأعشى: وصلّ على حين العشيّات والضحى ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا «2» أي أراد فاعبدن، فلمّا وقف عليه كان الوقف بالألف. واختار يوسف حين عاودته المرأة في المراودة وتوعّدته، السجن على المعصية، قالَ رَبِّ: يا ربّ، منادى مضاف، السِّجْنُ المحبس، قراءة العامّة بكسر السين على الاسم وقرأ يعقوب برفع السين على المصدرية يعني الحبس، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، ثمّ علم أنّه لا يستعصم إلّا بعصمة الله فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ أمل إِلَيْهِنَّ وأبايعهن، فقال صبا فلان إلى كذا، وصبا يصبو، صبوا وصبوة، إذا مال واشتاق إليه، قال يزيد بن ضبّة: إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبي «3» وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعائه وشكايته، الْعَلِيمُ بمكرهنّ. ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي العزيز وأصحابه، في الرأي مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدّالة على براءة يوسف، وهي قدّ القميص من دبر وخمش في الوجه وتقطيع النسوة أيديهنّ لَيَسْجُنُنَّهُ قال الفرّاء: هذه اللام في اليمين وفي كلّ مضارع القول كقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ «4» وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ «5» دخلتهما (اللام وما) لأنّهما في معنى القول واليمين. حَتَّى حِينٍ يعني إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم. قال عكرمة: تسع سنين، الكلبي: خمس سنين، و (حتى) بمعنى (إلى) كقوله تعالى: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ، وقال السدّي: وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها: إنّ هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس، يعتذر إليهم ويخبرهم أنّي راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإمّا أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وأمّا أن تحبسوه كما حبستني، فحبسه بعد علمه ببراءته، وذكر أنّ الله تعالى جعل ذلك الحبس تطهيرا ليوسف من همّته بالمرأة وتكفيرا لزلّته. قال ابن عباس: عثر يوسف ثلاث عثرات: حين همّ بها فسجن، وحين قال:
[سورة يوسف (12) : الآيات 36 إلى 49]
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ... فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ... فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، وحين قال لهم: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ف قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 49] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ وهما غلامان كانا للملك الأكبر الوليد بن الريان، أحدهما خبّازه صاحب طعامه واسمه مجلث، والآخر ساقيه صاحب شرابه واسمه بنو غضب عليهما الملك فحبسهما، وذلك أنّه بلغه أنّ خبازه يريد أن يسمّه وأنّ ساقيه مالا على ذلك، وكان السبب أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فدسّوا إلى هذين، وضمنوا لهما مالا ليسمّا طعام الملك وشرابه فأجاباهم إلى ذلك، ثمّ إنّ الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسمّ الطعام.
فلمّا حضر وقته وأحضر الطعام، قال الساقي: أيّها الملك لا تأكل فإنّ الطعام مسموم، فقال الخباز: لا تشرب أيّها الملك فإنّ الشراب مسموم، فقال الملك للساقي: اشرب فشربه فلم يضرّه، وقال للخباز: كل من طعامك، فأبى، فجرّب ذلك الطعام على دابّة من الدواب فأكلته فهلكت، فأمر الملك بحبسهما. وكان يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله: إنّي أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيان لصاحبه: هلمّ فلنجرّب هذا العبد العبراني، فتقرّبا له وسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا، قال عبد الله بن مسعود: ما رأى صاحبا يوسف شيئا، إنّما كانا تحالفا أن يجرّبا علمه. روى عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أرى عينيه في المنام ما لم تريا كلّف أن يعقد بين شعرتين «1» يوم القيامة، ومن استمع لحديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنه الآنك» «2» [116] . وقال قوم: كانا رأيا على صحّة وحقيقة، قال مجاهد: لمّا رأى الفتيان يوسف قالا له: والله لقد أحببناك حين رأيناك فقال لهما يوسف: أنشدكما الله أن لا تحباني فإنّه ما أحبّني أحد قط إلّا دخل عليّ من حبّه بلاء. لقد أحبتني عمّتي فدخل عليّ في حبّها بلاء، ثمّ أحبّني أبي فدخل عليّ بحبه بلاء ثمّ أحبتني زوجة الملك هذا، فدخل عليّ بحبّها إيّاي بلاء، فلا تحبّاني بارك الله فيكما، قال: فأبيا إلّا حبّه وألفته حيث كان، وجعلا يعجبهما ما يريان من فهمه وعقله، وقد كانا رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف فقال له الساقي: أيّها العالم إنّي رأيت كأنّي غرست حبّة من عنب عليها ثلاث عناقيد من عنب فحبستها، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه. وقال الخبّاز: إنّي رأيت كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة فإذا سباع الطير تنهش منه، فذلك قوله تعالى: قالَ أَحَدُهُما يعني بنو إِنِّي أَرانِي أي رأيتني، أَعْصِرُ خَمْراً يعني عنبا بلغة عمان، ويدلّ عليه قراءة ابن مسعود أعصر عنبا. قال الأصمعي: أخبرني المعتمر أنّه لقي أعرابيا معه عنب، فقال: ما معك؟ قال: خمر، ومنه يقال للخلّ العنبي خلّ خمرة، وهذا على قرب الجوار، قال القتيبي: وقد تكون هي الخمر بعينها كما يقال: عصرت زيتا وإنّما عصر زيتونا. وقال الآخر: وهو مجلث: إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ أخبرنا تفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا.
إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي العالمين الذين أحسنوا، قال الفرّاء وقال ابن إسحاق: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا إن فعلت ذلك وفسّرت رؤيانا، كما يقال: افعل كذا وأنت محسن. وروى سلمة بن نبط عن الضحّاك بن مزاحم في قوله: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ما كان إحسانه؟ قال كان إذا مرض رجل في السجن قام إليه، وإذا ضاق وسع له، وإن احتاج جمع له، وسأل له. قتادة: بلغنا أنّ إحسانه كان يداوي مريضهم، ويعزّي حزينهم، ويجتهد لربّه. وقيل: لمّا انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتدّ بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا واصبروا تؤجروا، وإنّ لهذا لأجرا وثوابا، فقالوا له: يا فتى بارك الله فيك، ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك! لقد بورك لنا في جوارك بالحبس، إنّا كنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله، فقال له عامل السجن: يا فتى والله لو استطعت لخلّيت سبيلك، ولكن ما أحسن جوارك وأحسن أخبارك! فكن في أي بيوت السجن شئت. فكره يوسف (عليه السلام) أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره، قال لهما: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في نومكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ في اليقظة. هذا قول أكثر المفسّرين، وقال بعضهم: أراد به في اليقظة فقال: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ تطعمانه وتأكلانه إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ بتفسيرة قال: إنّه أيّ طعام أكلتم ومتى أكلتم وكم أكلتم، فقالا له: هذا من فعل العرّافين والكهنة، فقال لهما (عليه السلام) : ما أنا بكاهن وإنّما ذلِكُما العلم مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ كرّرهم على التأكيد. وقيل: هم الأوّل جماد كقوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «1» فصارت الأولى الملغاة والثانية ابتداء، وكافرون خبره. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي فتح ياءه قوم وسكّنها آخرون، [فما وفي] أمثالها فالجزم على الأصل والفتح على موافقة الألف استقلّته لأنّها أخت الفتحة وقرأها الأعمش آباي إبراهيم دعاي إلّا فرارا مقصورا غير مهموز وفتح ياءهما مثل [ ... ] . إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا ما ينبغي أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من صلة، تقديره: أن نشرك بالله شيئا.
ذلِكَ التوحيد والعلم مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ فأراهما يوسف فطنته وعلمه ثمّ دعاهما إلى الإسلام، فأقبل عليهما وعلى أهل السجن وكان بين أيديهم أصناما يعبدونها فقال إلزاما للحجّة يا صاحِبَيِ السِّجْنِ جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه كقوله تعالى لسكّان الجنّة أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» ولسكّان النار: أَصْحابَ النَّارِ «2» . أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ آلهة شتى لا تنفع ولا تضرّ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا ثاني له الْقَهَّارُ قد قهر كلّ شيء، نظيرها، قوله: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ «3» ثمّ بين الحجر والأصنام وضعفها فقال: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أي ممّن دون الله، وإنّما قال ما تَعْبُدُونَ وقد ابتدأ الكلام بخطاب الإثنين لأنّه قصد به جميع من هو على مثل حالهما من الشرك، إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها وذلك تسميتهم أوثانهم آلهة وأربابا من غير أن تكون تلك التسمية حقيقة، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ حجّة وبرهان إِنِ الْحُكْمُ القضاء والأمر والنهي، إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ نظيره وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ذلِكَ الذي دعوتكم إليه من التوحيد وترك الشرك، الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. ثمّ فسّر رؤياهما فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الساقي، فَيَسْقِي رَبَّهُ سيّده يعني الملك خَمْراً وأمّا العناقيد الثلاثة التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام، يبقى في السجن ثمّ يخرجه الملك ويكون على ما كان عليه، وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ وأمّا السلال الثلاث التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام، يبقى في السجن ثمّ يخرجه الملك [في] اليوم الرابع فيصلبه، فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ. قال ابن مسعود: لمّا سمعا قول يوسف قالا: ما رأينا شيئا إنّما كنا نلعب، فقال يوسف (عليه السلام) : قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي فرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به. معلّى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين العقيلي قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبّرت وقعت، وإنّ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة، فأحسبه قال: لا تقصّه إلّا على ذي رأي» [117] «4» . وأخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد عن الحسن بن علي بن عفان عن ابن نمير
عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الرؤيا لأول عابرة» «1» [118] . وَقالَ يوسف عند ذلك، لِلَّذِي ظَنَّ علم، أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا وهو الساقي، هذا قول أكثر المفسّرين، وفسّره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين، وقال: إنّما عبارة الرؤيا بالظنّ ويخلق الله ما يشاء، والقول الأوّل أولى وأشبه بحال الأنبياء، اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ سيّدك يعني الملك، وقيل له: إنّ في السجن غلاما محبوسا ظلما فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه عزّ وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بالمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، ونسي لهذا ربّه عزّ وجلّ الذي لو به استغاث لأسرع خلاصه ولكنّه [غفل] وطال من أجلها حبسه. وقال محمد بن إسحاق: الهاء راجعة في قوله فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ إلى الساقي فنقول: أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك وعلى هذا القول يكون معنى الآية: فأنساه الشيطان ذكره لربه كقوله: خوف يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ «2» أي يخوّفكم بأوليائه. فَلَبِثَ مكث، فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ اختلف العلماء في معنى بضع فقال أبو عبيدة: هو ما بين الثلاثة إلى الخمسة، ومجاهد: ما بين الثلاث إلى التسع، الأصمعي: ما بين الثلاث إلى التسع، وابن عباس: ما دون العشرة، وزعم الفرّاء أنّ البضع لا يذكر إلّا مع العشرة والعشرين إلى التسعين، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال: كذلك رأيت العرب تعمل ولا يقولون: بضع ومائة ولا بضع وألف، وإذا كانت للذكران قيل: بضعة، وأكثر المفسّرين على أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين، قال وهب: أصاب أيوب (عليه السلام) البلاء سبع سنين، وترك يوسف في السجن سبع سنين، وعذّب بخت نصّر فحوّل في السباع سبع سنين. روى يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله يوسف، لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث» «3» [119] ، يعني قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ قال: ثمّ بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر نزعنا إلى الناس ، وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، قيل له: يا يوسف اتّخذت من دوني وكيلا لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف (عليه السلام) وقال: يا ربّ إنّني رابني كثرة الطوى فقلت كلمة، فويل لإخوتي. وحكي أنّ جبرئيل دخل على يوسف (عليهما السلام) ، فلمّا رآه يوسف عرفه وقال: يا أخا
المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين؟، ثمّ قال له جبرئيل: يا طاهر الطاهرين، يقرأ عليك السلام ربّ العالمين ويقول: مالك؟ أما استحييت منّي إذ استغثت بالآدميين؟، فو عزّتي لألبثنّك فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، قال يوسف: وهو في ذلك عليّ راض؟ قال: نعم، قال إذا لا أبالي. وقال كعب: قال جبرئيل ليوسف: إنّ الله تعالى يقول: من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن حبّبك إلى أبيك؟ قال: الله، قال فمن أنيسك في البئر إذ دخلته عريان؟ قال: الله، قال: فمن نجّاك من كرب البئر؟ قال: الله، قال: فمن علّمك تأويل الرؤيا؟ قال: الله، قال فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟ فلمّا انقضت سبع سنين، قال الكلبي- وهذه السبعة سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك- ولمّا دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هائلة وذلك أنّه رأى، إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف أيّ مهازيل فابتلعت العجاف السمان، أكلنهنّ حتى أتين عليهنّ فلم ير منهنّ شيئا، وأرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبّها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأفركت والتفّت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فجمع السحرة والكهنة والحازة والقافة وقصّها عليهم وقال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي الأشراف أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ فاعبروها، إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ تفسّرون، والرؤيا: الحلم وجمعها رؤي. قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أحلام مختلطة مشتبهة، أهاويل بأباطيل، واحدها ضغث، وأصله الحزمة من الزرع والحشيش، قال الله تعالى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً قال ابن مقبل: خود كأنّ فراشها وضعت ... أضغاث ريحان غداه شمال وقال آخر: بحمى ذمار حين قلّ مانعه ... طاو كضغث الخلا في البطن مكتمن «1» والأحلام جمع الحلم وهو الرؤيا والفعل منه حلمت وأحلم، بفتح العين في الماضي، وحلمتها في الغابرة لها وحلما فعاد فحذف يا من حالم. وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ، وَقالَ الَّذِي نَجا من القتل، منهما: من الفتيين وهو الساقي، وَادَّكَرَ: أي وتذكر حاجة يوسف قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، ... بَعْدَ أُمَّةٍ: بعد حين، قراء ابن عباس وعكرمة والضحّاك [بعد أمة] أي بعد نسيان ويقال أمة، يأمه، أمها، إذا نسي، ورجل [ما هو] أي ذاهب العقل. وأنشد أبو عبيدة:
أمهت وكنت لا أنسى حديثا ... كذاك الدّهر يودي بالعقول «1» وقرأ مجاهد: أَمْه، بسكون الميم وفتح الألف وهاء لخالصة، وهو مثل الأمه أيضا وهما لغتان ومعناهما النسيان، أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ: أخبركم بتفسيره وما ترون فَأَرْسِلُونِ: فأطلقوني، وأذنوا لي أمضي وآتيكم بتأويله وفي الآية اختصار تقديرها فأرسلون، فأتي السجن، قال ابن عباس لم يكن السجن في المدينة فقال يُوسُفُ يعني يا يوسف، أَيُّهَا الصِّدِّيقُ: فيما عبّرت لنا من الرؤيا والصدّيق الكثير الصديق ولذلك سمّي أبو بكر صدّيقا، وفعّيل للمبالغة والكثرة مثل الفسّيق والضليل والشريب والخمير ونحوها. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ: الآية فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا. لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أهل مصر، لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، تأويلها، وقيل: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فضلك وعلمك، فقال لهم يوسف معلّما ومعبّرا: أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات السنون المهولة المجدبة، وذلك قوله تعالى: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي كعادتكم، وقال: بعضهم أراد بجدّ وو اجتهاد وقرأ بعضهم دَأَباً بفتح الهمزة وهما لغتان، يقال دبت في الأمر أدأب دأبا ودأبا إذا اجتهد، قال الفرّاء: وكذلك كلّ حرف فتح أوّله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذ كان ثانيه همزة أو عينا أو حاء أو خاء أو هاء. فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ في [بذره] إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ وإنّما أشار عليهم بذلك بذلك ليبقى ولا يفسد، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يعني سبع سنين جدد بالقحط يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ يعني يؤكل، فيهنّ ما أعددتم لهنّ من الطعام في السنين الخصبة، وهذا كقول القائل: نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم «2» والنهار لا يسهو والليل لا ينام، وإنّما يسهى في النهار وينام في الليل. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي: تخزنون وخزنون وتدّخرون. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ وهذا خبر من يوسف (عليه السلام) عمّا لم يكن في رؤيا الملك، ولكنّه من علم الغيب الذي آتاه الله عزّ وجلّ، كما قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها، فقال: ثُمَّ يَأْتِي (مِنْ) بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي يمطرون بالغيث وهو المطر، وقيل: يغاثون، من قول العرب استغثت بفلان وأغاثني، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ قرأ أهل الكوفة إلّا
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 إلى 57]
عاصما تعصرون، بالتاء لأنّ الكلام كلّه بالخطاب، وقرأ الباقون بالياء ردّا إلى الناس، قال أكثر المفسّرين يعصرون العنب خمرا، والزيتون زيتا، والسمسم دهنا، وإنّما أراد بعض الأعناب والثمار والحبوب كثرة النعم والخير، وروى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تعصرون تحلبون، وقال أبو عبيدة: ينجون من الجدب والكرب، والعصر: المنجى والملجأ، وقال أبو زبيد الطائي: صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود «1» وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، أبو علي بن حبش المقرئ، أبو القاسم بن الفضل المقرئ، حدّثني أبو زرعة، حدّثني حفص بن عمر، حدّثني أبو جميلة عن عيسى بن عبيد قال: سمعت عيسى بن الأعرج يقرأها فيه يغاث الناس وفيه يُعْصَرُونَ، برفع الياء قال: قلت: ما يُعْصَرُونَ؟ قال: المطر أي تمطرون وقرأ وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً «2» . [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 57] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ الآية، وذلك أن بنو لمّا رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف من تأويل رؤياه كالنهار، وعرف الملك أنّ الذي قال كائن، قال: ائتوني بالذي عبر رؤياي هذه، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ يوسف، وقال له: أخبر الملك أبى أن يخرج مع الرسول حتى يظهر عذره وبراءته ويعرف صحة أمره من قبل النسوة ف قالَ للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أيّ سيّدك يعني الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ والمرأة التي سجنت بسوء فعلها وروى عبد الحميد بن صباح البرجمي ومحمد بن حبيب الشموني عن أبي بكر بن عباس عن عاصم قرأ النُسوة بضمّ النون. إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ إنّ الله تعالى بصنيعهنّ عالم، وقيل: معناه: إنّ سيدي قطفير العزيز عالم ببراءتي ممّا ترميني به المرأة. قال ابن عباس: فأخرج يوسف يومئذ قبل أن يسلّم الملك لشأنه، فلما زالت في نفس العزيز منه شيء يقول: هذا الذي راود امرأتي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى
اشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حتى أتاه الرسول فقال ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ، ولو كنت مكانه ولبث في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة ولبادرتهم الباب، وما ابتغيت الغفران كان حليما ذا أناة» [120] «1» . قالَ ما خَطْبُكُنَّ: الآية، في الكلام متروك قد استغني عنه (يدلّ) الكلام عليه، وهو: فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالة، فدعا الملك النسوة اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وامرأة العزيز فقال لهنّ: ما خَطْبُكُنَّ: ما شأنكنّ وأمركنّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، فأحببنه ف قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ معاذ الله، ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي ظهر وتبيّن والأصل فيه: حصّ وقيل: حصّص، كما قيل: كبكبوا في كبوا، وكفكف في كفّ، وردد في ردّ، وأصل الحص استئصال الشيء، يقال حصّ شعره إذا استأصله جزّا، وقال أبو قيس ابن الأصلت: قد حصّت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع «2» وتعني ب الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ: ذهب الباطل والكذب وانقطع وتين الحق فظهر وبهر أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فتنته عن نفسه، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله: هِيَ راوَدَتْنِي. فلمّا سمع ذلِكَ يوسف، قال: ليعلم ذلك الذي [مضى] من ردّي رسول الملك في شأن النسوة لِيَعْلَمَ العزيز. أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في زوجته بِالْغَيْبِ في حال غيبتي عنه وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ واتّصل قول يوسف: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بقول المرأة: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ من غير تبيين، وفرّق بينهما لمعرفة السامعين معناه، كاتّصال قول الله تعالى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «3» بقول بلقيس: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وكذلك قول فرعون لأصحابه: فَماذا تَأْمُرُونَ وهو متّصل بقول الملأ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ «4» . روى أبو عبيدة عن الفراء أنّه قال هذا من أغمض ما يأتي في الكلام أنّه حكى عن رجل شيئا ثمّ يقول في شيء آخر من قول رجل آخر لم يجر له ذكر. وحدّثنا الحسين بن محمد بن الجهمين، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن علي قال: حدّثنا علي بن الحسين بن مجلز، قال الحسن بن علي البغدادي، خلف بن تيم عن عطاء بن مسلم عن
الخفاف عن جعفر بن نوقان عن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر أنّ علي بن أبي طالب أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه بالسلام وقال إنّي قد جئت لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال: جزاك الله خيرا، لا حاجة في قتال القوم، فأخذ عليّ عمامته عن رأسه، فنزعها فألقاها في الدار ثمّ ولّى وهو يقول ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. قال أهل التفسير: لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبرئيل: ولا حين هممت بها؟ فقال عند ذلك يوسف وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الخطأ والزلل فاركبها، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ بالمعصية إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي يعني إلّا من رحمه ربي فعصم، وما بمعنى من كقوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» أي من طاب، وقوله إلّا استثناء منقطع عمّا قبله كقوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ. إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا «2» يعني إلّا أن يرحموا، فإنّ إذا كانت في معنى المصدر تضارع ما. إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، فلمّا تبيّن للملك [حق] يوسف وعرف أمانته وعلمه، قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أجعله خالصا لي دون غيره، فلمّا جاء الرسول يوسف قال له: أجب الملك، الآن، فخرج يوسف ودعا لأهل السجن بدعوة تعرف إلى اليوم وذلك أنّه قال: اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في كلّ بلدة، فلمّا خرج من السجن كتب على باب السجن: (هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء) ، ثمّ اغتسل يوسف (عليه السلام) وتنظّف من قذر السجن، ولبس ثيابا جددا حسانا، وقصد الملك. قال وهب: فلمّا وقف بباب الملك قال (عليه السلام) : حسبي ربي من دنياي، وحسبي ربّي من خلقه، عزّ جاره، وجلّ ثناؤه ولا إله غيره. ثمّ دخل الدار، فلمّا دخل على الملك قال: اللهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره، وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره، فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية، فقال له: الملك، ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمّي إسماعيل، ثمّ دعا له بالعبرانية، فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي. قال وهب: وكان الملك يتكلّم بسبعين لسانا، فكلّما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأجابه الملك، فأعجب الملك ما رأى منه، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فلمّا رأى الملك حداثة سنة، قال لمن عنده: إنّ هذا علم تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة والكهنة،
ثمّ أجلسه على سريره، وقال له: إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاها، فقال له يوسف: نعم، أيّها الملك، رأيت سبع بقرات سمان شهب غرّ حسان، كشف لك عنهنّ النيل وطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهنّ لبنا، فبينا أنت تنظر إليهنّ وتتعجّب من حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبسا، فخرج من حمأته ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلّصات البطون، ليس لهنّ ضروع ولا أخلاف، ولهنّ أنياب وأضراس وأكفّ كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع، فأكلن لحومهنّ ومزّقن جلودهنّ وحطّمن عظامهنّ وتشمشن مخّهنّ. فبينا أنت تنظر وتتعجّب وإذا بسبع سنابل خضر وسبع أخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى والماء، فبينا أنت تقول في نفسك: أنّى هذا؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد، وأصولهنّ في الماء إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهنّ النار فاحرقتهنّ وصرن سودا متغيّرات. فهذا آخر ما رأيت من الدنيا ثمّ انتبهت من نومك مذعورا، فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجبا بأعجب ممّا سمعته منك، فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع الزرع الكثير في هذه السنين المخصبة وتبني [الأهواء] والخزائن، فتجعل الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفا للدواب، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، وتأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه و [يبيعه] ويكفي الشغل فيه؟ فقال: يوسف اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ مجاز الآية: على خزائن أرضك وهي جمع الخزانة فدخلت الألف واللام خلفا من الإضافة، كقول النابغة: والأحلام غير كواذب. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ: كاتب حاسب، قتادة: حَفِيظٌ لما وليت، عَلِيمٌ بأمره، ابن إسحاق: حَفِيظٌ لما استودعتني، عَلِيمٌ بما ولّيتني، شيبة الضبي: حَفِيظٌ لما استودعتني وعَلِيمٌ بسنّي المجاعة، الأعشى: حافظ للحساب عَلِيمٌ بالألسن أعلم لغة من سألني، الكلبي: حفيظ التقدير في هذه السنين الجدبة، عَلِيمٌ بوقت الجوع متى يقع، وقيل: حَفِيظٌ لما وصل إليّ عَلِيمٌ بحسابة المال، فقال له الملك: ومن أحقّ به منك؟ فولّاه ذلك، وقال له: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ذو مكانة ومنزلة، أَمِينٌ على الخزائن، روى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ لاستعمله من ساعته ولكنّه أخّر ذلك سنة فأقام عنده في بيته سنة مع الملك [121] «1» .
روى سفيان عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل، قال: قال الملك ليوسف: إنّي أريد أن تخالطني في كلّ شيء غير أنّي آنف أن تأكل معي، فقال يوسف (عليه السلام) : أنا أحقّ أن آنف، أنا ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، فكان يأكل بعدئذ معه. روى حمزة الريّان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، قال: لما رأى العزيز رأي يوسف وظرفه دعاه وكان يتغدّى ويتعشى معه دون غلمانه، فلمّا كان بينه وبين المرأة ما كان، قالت له مرّة: فليتغدّ مع الغلمان، فقال: اذهب فتغدّ مع الغلمان فقال له يوسف في وجهه استنكفت أن تأكل معي، أنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. روى مقاتل عن يحيى بن أبي كثير أنّ عمر بن الخطاب عرض على أبي هريرة الإمارة فقال: لا أفعل ولا أريدها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «من طلب الإمارة لم يعدل» [122] «1» فقال عمر: لقد طلب الإمارة من هو خير منك، يوسف (عليه السلام) ، قال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ. روى بن إسحاق عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوّجه وردّأه سيفه، ووضع له سريرا من ذهب، مكلّلا بالدرّ والياقوت، وضرب عليه حلّة من إستبرق، وكان طول السرير ثلاثين ذراعا وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشا وتسعون مرفقة، ثمّ أمره أن يخرج فخرج متوّجا، لونه كالثلج ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه، فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عمّا كان عليه وجعل يوسف مكانه. قال ابن إسحاق: قال ابن زيد: وكان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلّم سلطانه كلّه إليه، وجعل أمره وقضاءه نافذا، ثمّ أنّ قطفير هلك في تلك الليالي فزوّج الملك يوسف راحيل امرأة قطفير، فلمّا دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيّها الصدّيق لا تلمني فإنّي كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى، في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: أفرائيم بن يوسف ومنشا بن يوسف. واستوسق ليوسف ملك مصر وأقام فيهم العدل فأحبّه الرجال والنساء فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر: أي مكّناه يَتَبَوَّأُ مِنْها أين نزل حَيْثُ يَشاءُ: ويصنع فيها ما يشاء، والبواء المنزل يقال: بوّأته فتبوّأ، وقرأ أهل مكّة: حيث نشاء بالنون ردّا على قوله مَكَّنَّا وبعده، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ أي بنعمتنا.
[سورة يوسف (12) : الآيات 58 إلى 71]
وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس ووهب: يعني الصابرين كصبره في البئر، وصبره في السجن وصبره في الرق، وصبره عما دعته اليه المرأة، قال مجاهد وغيره: فلم يزل يدعو ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ [نعيم] الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ قال البحتري: أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوسا [....] «1» أقام جميل الصبر في الحبس برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك «2» وكتب بعضهم إلى صديق له: وراء مضيق الخوف متّسع الأمن ... وأوّل مفروح به آخر الحزن فلا تيأسن فالله ملّك يوسفا ... خزائنه بعد الخلاص من السجن «3» [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 71] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71)
قالوا: فلمّا اطمأنّ بيوسف ملكه دخلت السنون المخصبة، ودخلت السنون المجدبة أصاب الناس الجوع وجاءت تلك السنون [.......] «1» وكان ابتداء القحط، بينا الملك ذات ليلة أصابه الجوع نصف الليل، وهتف الملك: يا يوسف الجوع الجوع فقال: هذا أوّل القحط، فلمّا دخلت السنة الأولى من سنيّ الجدب هلك فيها كلّ شيء أعدّوه في السنين المخصبة، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف، فباعهم أوّل سنة بالنقود حتى لم يبق في مصر دينار ولا درهم إلّا قبضه، وباعهم في السنة الثانية بالحليّ والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء، وباعهم بالسنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع، وباعهم بالسنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق عبد ولا أمّة في يد أحد منهم، ثمّ باعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقّهم، وباعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرّة إلّا صار عبدا له، حتى قال الناس: تالله ما رأينا كاليوم ملكا أجلّ ولا أعظم من هذا، ثمّ قال يوسف لفرعون كيف رأيت صنيع ربّي فيما خوّلني، فما ترى لي؟ قال الملك: الرأي رأيك، وإنّما نحن لك تبع، قال: فإنّي أشهد وأشهدك أنّي أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أموالهم وأملاكهم. وروي أنّ يوسف (عليه السلام) كان لا يشبع من طعام في تلك الأيّام، فقيل له: تجوع وبيدك خزائن الأرض، فقال: أخاف أن شبعت أن أنسى الجائع، وأمر يوسف أيضا طباخي الملك أن جعلوا الغداة نصف النهار، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين، ويحسن إلى المحتاجين، ففعل الطهاة ذلك، ومن ثمّ جعلت الملوك غداءهم نصف النهار. قالوا: وقصد الناس مصر من كلّ حدب يمتارون، فجعل يوسف لا يمكّن أحدا منهم وإن كان عظيما بأكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس وتوسّعا عليهم، وتزاحم الناس عليه، قالوا: وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام من القحط والشدّة ما أصاب سائر البلاد، ونزل بيعقوب ما نزل بالناس فأرسل بنيه إلى مصر للميرة، فأمسك بنيامين أخا يوسف لأمّه فذلك قوله تعالى: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالقربات من أرض فلسطين ثغور الشام، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ يوسف وأنكروه لما أراد الله أن يبلغ يوسف فيما أراد. قال ابن عباس: وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا مصر أربعين سنة فلذلك أنكروه وقيل: إنّه كان متّزيا بزيّ فرعون مصر، عليه ثياب حرير، جالس على سريره، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج، فلذلك لم يعرفوه، وكان بينه وبينهم ستر ولذلك لم يعرفوه.
قال بعض الحكماء: المعصية تورث الكبرة، قال الله تعالى: فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ فلمّا نظر إليهم يوسف وكلّموه بالعبرانية، قال لهم: أخبروني من أنتم؟ وما أمركم؟ فإنّي أنظر شأنكم، قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار، قال: لعلّكم عيون تنظرون عورة بلادي، قالوا: والله ما نحن جواسيس وإنّما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صدّيق يقال له: يعقوب، نبي من أنبياء الله، قال: وكم أنتم؟. قالوا: كنّا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البريّة فهلك فيها، وكان أحبّنا إلى أبينا، فقال: فكم أنتم ها هنا، قالوا: عشرة، قال: فأين الآخر؟ قالوا: عند أبينا لأنّه أخ الذي هلك من أمّه، وأبونا يتسلّى به، قال: فمن يعلم أنّ الذي تقولون حقّ؟ قالوا: أيّها الملك إنّا ببلاد لا يعرفنا أحد، قال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك. قالوا: إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه وإنّا لفاعلون، قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف وأبرّهم به فخلّفوه عنده، فذلك قوله تعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ يعني حمل لكل رجل منهم بعيرا بعدّتهم، قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ يعني بنيامين، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أي لا أبخس الناس شيئا وأتمّ لهم كيلهم فأزيد لكم حمل بعير في خراجكم، وأكرم مثواكم، وأحسن إليكم، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ المضيّفين. فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي ليس لكم عندي طعام أكيله لكم وَلا تَقْرَبُونِ ولا تقربوا بلادي بعد ذلك، وهو جزم يدلّ على النهي. قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ نطلبه ونسأله أن يرسله معنا، قال ابن عباس: سنخدعه حتى نخرجه معنا، وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ما أمرت به. وَقالَ يوسف لِفِتْيانِهِ أي لغلمانه الذين يعملون بالطعام، قرأ الحسن وحميد ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص، لِفِتْيانِهِ بالألف والنون وهو اختيار أبي عبيدة، وقال: هي في مصحف عبد الله كذلك، وقرأ الباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان مثل الصبيان والصبية. اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ أي طعامهم، قال قتادة: أوراقهم، الضحّاك عن ابن عباس قال: كانت النعل والأدم، فِي رِحالِهِمْ في أوعيتهم وهي جمع رحل، والجمع القليل منه الرحيل، قال ابن الأنباري: يقال للوعاء: رحل وللمسكن رحل. لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا، إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إليّ واختلف العلماء في السبب الذي فعل يوسف من أجله، فقال الكلبي: تخوّف يوسف أن لا يكون عند أبيه من الورق فلا يرجعون مرّة أخرى، وقيل: خشي أن يضرّ أخذه ذلك منهم بأبيه إذ كانت السنة سنة
جدب وقحط، فأحبّ أن يرجع إليه، وإنّما أراد أن يتّسع به أبوه، وقيل: رأى لو أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه فردّه عليهم من حيث لا يعلمون تكرّما وتفضّلا. وقيل: فعل لأنّه علم أنّ ديانتهم وأمانتهم تحملهم على ردّ البضاعة ولا يستحلّون إمساكها فيرجعون لأجلها، وقيل: أبدا لهم كرمه في ردّ البضاعة وتقديم الضمان في البرّ والإحسان ليكون أدعى لهم إلى العود إليه طمعا في برّه. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته، قال لهم يعقوب: إذا أتيتم ملك بمصر فاقرؤوه منّي السلام وقولوا له: إنّ أبانا يصلّي عليك ويدعو لك بما أوليتنا، ثمّ قال: أين شمعون؟ قالوا: إنّه عند ملك مصر وأخبروه بالقصّة، فقال: ولم أخبرتموه؟ قالوا: إنّه أخذنا وقال: إنّكم جواسيس عند ما كلّمناه بلسان العبرانيين، وقصّوا عليه القصّة. وقالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين نَكْتَلْ قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي يكتل بالياء يعني يكتل لنفسه هو كما كنّا نكتل نحن، وقرأ الآخرون بالنون بمعنى نكتل نحن، واختاره أبو عبيد وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قالَ يعقوب، هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً قرأ ابن محصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي: حافِظاً بالألف على التمييز والتفسير، كما يقال: هو خير رجلا، ومجاز الآية خيركم حافظا فحذف الكاف والميم، ويدلّ عليه أنّها مكتوبة في مصحف عبد الله: والله خير الحافظين. وقرأ الآخرون حفظا بغير الألف على المصدر بمعنى خيركم حفظا واختلف فيه عن عاصم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ الذي حملوه من مصر وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ ثمن الطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي أي ماذا نبغي؟ وأي شيء نطلب وراء هذا؟ أوفى لنا الكيل وردّ علينا الثمن، أرادوا بذلك أن يطيّبوا نفس أبيهم، و (ما) استفهام في موضع نصب ويكون معناه جحدا كأنّهم قالوا: لسنا نريد منك دراهم. هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا ونشتري لهم الطعام فنحمله إليهم، يقال مار أهله يمير ميرا فهو مائر، إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده في مثله امتار يمتار امتيارا، قال الشاعر: بعثتك مائرا فمكثت حولا ... متى يأتي غياثك من تغيث «1» وقال آخر:
أتى قرية كانت كثيرا طعامها ... كعفر التراب كل شيء يميرها «1» وَنَحْفَظُ أَخانا بنيامين وَنَزْدادُ على أحمالنا كَيْلَ بَعِيرٍ لنا من أجله ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ: لا مؤونة فيه ولا مشقّة، وقال مجاهد: كَيْلَ بَعِيرٍ يعني: حمل حمار، قال: وهي لغة يقال للحمار بعير، قالَ لهم يعقوب: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ تعطوني مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ يعني تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيين وسيد المرسلين أن لا تغدروا بأخيكم لَتَأْتُنَّنِي بِهِ وإنّما دخلت فيه اللام لأنّ معنى الكلام اليمين إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلّا أن تهلكوا جميعا، قاله مجاهد، وقال قتادة: إلّا أن يغلبوا حتى لا يطيقوا ذلك. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أعطوه عهودهم، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: حلفوا له بحقّ محمد صلّى الله عليه وسلّم ومنزلته من ربّه قالَ يعقوب اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ أي شاهد وحافظ بالوفاء، وقال القتيبي: كفيل، وقال كعب: لمّا قال يعقوب: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً، قال الله جلّ ذكره: وعزّتي لأردّن عليك كليهما بعد ما توكّلت عليّ، وقال لهم يعقوب لما أرادوا الخروج [هذا] ، وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وذلك أنّه خاف عليهم العين لأنّهم كانوا ذوي جمال وهيئة وصور حسان وقامات ممتدّة، وكانوا ولد رجل واحد، وأمرهم أن يفترقوا في دخولها ثمّ، قال: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ علم (عليه السلام) أنّ المقدور كائن، وأنّ الحذر لا ينفع من القدر، وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وإلى الله فليفوّض أمورهم المفوّضون. وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ وكان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلّها، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ صدّق الله تعالى يعقوب فيما قال إِلَّا حاجَةً حزازة وهمّة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم وَإِنَّهُ يعقوب لَذُو عِلْمٍ لِما: أي مما عَلَّمْناهُ يعني لتعليمنا إيّاه، قاله قتادة، وروى سفيان عن [ابن] أبي عروة قال: إنّه العامل بما علم، قال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالما، وقيل: إنّه لذو حظّ لما علّمناه. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ما يعلم يعقوب، أي لا يعرفون مرتبته في العلم. وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي، ثمّ أنزلهم فأكرم منزلهم ثمّ أضافهم وأجلس كلّ اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحيدا، فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيّا لأجلسني معه، فقال لهم يوسف (عليه السلام) : لقد بقي هذا أخوكم وحيدا، فأجلسه على مائدته فجعل يؤاكله.
فلمّا كان الليل أمر لهم بمثل أي فرش، فقال: لينم كلّ أخوين منكم على مثال، فلمّا بقي بنيامين وحده، قال يوسف (عليه السلام) : هذا ينام معي على فراشي فبات معه فجعل يوسف يضمّه إليه ويشمّ خدّه حتى أصبح فجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا، فلمّا أصبح قال لهم: إنّي أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان فسأضمّه إليّ فيكون منزله معي، ثمّ أنزلهم [معه] ، وأجرى عليهم الطعام والشراب وأنزل أخاه لأمّه معه فذلك، قوله تعالى: آوى إِلَيْهِ أَخاهُ فلمّا خلا به قال له: ما اسمك؟ قال: بنيامين. قال ابن من يا بنيامين؟ قال: ابن المثكل، وذلك أنّه لما ولد هلكت أمّه، قال: وما اسمها؟ قال: راحيل بنت لاوي بن ناحور، قال: فهل لك بنون؟ قال: نعم، عشر بنين وقد اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي من أمّي هلك، قال: لقد اضطرّك إلى ذاك حزن شديد، قال: فما سمّيتهم؟ قال: بالعا وأخيرا وأثكل وأحيا وكنر ونعمان وادر وأرس وحيتم وميثم، قال فما هذه؟ قال: إما بالعا فإنّ أخي قد ابتلعته الأرض، وأما أخيرا فإنه بكر أبي لأمّي، وأمّا أثكل فإنّه كان أخي لأبي وأمي وسنّي، وأما كثير فإنّه خير حبيب كان، وأمّا نعمان فانه ناعم بين أبويه وأمّا أدّر فإنّه كان بمنزلة الورد في الحسن، قال: وأما أرس فإنّه كان بمنزلة الرأس من الجسد، وأما حيتم فأعلمني أنّه حيّ، وأمّا ميثم فلو رأيته قرّت عيني. فقال يوسف: أتحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف (عليه السلام) وقام إليه وعانقه وقالَ له: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لشيء فعلوه بنا فيما مضى فإنّ الله قد أحسن إلينا ولا تعلمهم شيئا ممّا علمت. وقال عبد الصمد بن معقل: سمعت وهب بن منبه وسئل عن قول يوسف لأخيه: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ، فقيل له كيف آخاه حين أخذ بالصواع وقد كان أخبره أنّه أخوه، وأنتم تزعمون أنّه لم يزل متنكّرا لهم يكابرهم حتى رجعوا؟ فقال: إنّه لم يعترف له بالنسبة ولكنّه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، ومثله قال الشعبي، قال: لم يقل له: أنا يوسف، ولكن أراد أن يطيّب نفسه «1» . ومجاز الآية أي: أَنَا أَخُوكَ بدل أخيك المفقود فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فلا تشتك ولا تحزن لشيء سلف من إخوتك إليك في نفسك وفي أخيك من أمّك، وما كانوا يفعلون قبل اليوم بك، ثمّ أوفى يوسف لإخوته الكيل وحمل لهم بعيرا، وحمل لبنيامين بعيرا باسمه كما حمل لهم، ثمّ أمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين، قال السدّي: جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، والأخ لا يشعر.
قال كعب: لما قال له: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، قال يوسف (عليه السلام) : قد علمت [عنهم] والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، فلا يمكنني هذا إلّا أن أشهرك بأمر وأنسبك إلى ما لا يجمل بك، قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك فإنّي لا أفارقك. قال: فإنّي أدسّ صاعي هذا في رحلك ثمّ أنادي عليك بالسرقة لجهازي ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك، قال: فافعل، فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أي لما قضى لهم حاجتهم، جَعَلَ السِّقايَةَ: وهي المشربة التي كان يشرب بها الملك، قال ابن زيد: وكان كأسا من ذهب فيما يذكرون، وقال ابن إسحاق: هو شيء من فضّة، عكرمة: مشربة من فضّة مرصّعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيلا لئلّا يكال بغيرها وكان يشرب بها، سعيد بن جبير: هو [المقياس] الذي يلتقي طرفاه وكان يشرب بها الأعاجم وكان للعباس منها واحدة في الجاهلية، والسقاية والصواع واحد، فِي رَحْلِ أَخِيهِ في متاع بنيامين، ثمّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ومضوا ثمّ أمر بهم فأدركوا وحبسوا. ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، أَيَّتُهَا الْعِيرُ هي القافلة التي فيها الأحمال، قال الفرّاء: لا يقال عير إلّا لأصحاب الإبل، وقال مجاهد كانت العير حميرا. إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قفوا، فوقفوا، فلمّا انتهى إليهم الرسول قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منزلكم ونوفكم كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال: سقاية الملك، فقال: إنّه لا يتّهم عليها غيركم، فذلك قوله تعالى: قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ عطفوا على المؤذّن وأصحابه: ماذا تَفْقِدُونَ؟ ما الذي ضلّ منكم؟ فالفقدان ضدّ الوجود، والمفقد: الطلب.
[سورة يوسف (12) : الآيات 72 إلى 83]
[سورة يوسف (12) : الآيات 72 الى 83] قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فروى قثم عن داود بن أبي هند عن مولى بني هاشم عن أبي هريرة أنّه قرأ صاع الملك، وقرأ أبو رجاء صوع، وقرأ يحيى بن معمر صوغ بالغين، [فإنّه] وجهنا إلى مصر، صاغ يصوغ صوغا، وجمع الصواع صيعا، وجمع صاع أصواع. وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل يقوله المؤذّن، وأصل الزعيم: القائم بأمر القوم، ويقال للرئيس زعيم، يقال: زعم، زعامة وزعاما، قالت ليلى الأخيلية: حتى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما «1» وقالُوا يعني اخوة يوسف، تَاللَّهِ أي والله، أصلها الواو قلبت تاء كما فعل القراء في التقوى والتكلان والتراب والتخمة، وأصلها الواو، والواو في هذه الحروف كلّها حرف من الأسماء، وليست كذلك في تَاللَّهِ لأنّها إنّما هي واو القسم وإنّما جعلت بالكثرة ما جرى على ألسن العرب، وهم زعموا أنّ الواو من نفس الحرف فقلبوها تاء، ووضعت في هذه الكلمة الواحدة دون غيرها من أسماء الله تعالى. لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ فإن قيل: من أين علموا ذلك؟ الجواب عنه: قال الكلبي قال: إن فتى يوسف وهو المؤذّن قال لهم: إنّ الملك ائتمنني بالصاع وأخاف عقوبة الملك، فلي اليوم عنده مقولة حسنة، فإن لم أجده تخوّفت أن تسقط منزلتي وأفتضح في مصر، قالُوا: ... لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ إنا منذ قطعنا هذا الطريق لم ننزل عند أحد ولا أفسدنا شيئا وسلوا عنا من مررنا به، هل ضررنا أحدا؟ أو هل أفسدنا شيئا؟ وإنّا قد رددنا الدراهم كما وجدنا في رحلنا، فلو كنّا سارقين ما رددناها. قال فتى يوسف: إنّه صواع الملك الأكبر الذي يكتال فيه، وقال بعضهم: إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا معروفين أنّهم لا يتناولون ما ليس لهم، وقيل: إنّهم كانوا حين دخلوا مصر كمّوا أفواه دوابهم لكي لا تتناول من حروث الناس. فإن قيل: كيف استجاز يوسف تسميتهم سارقين؟
قيل: فيه جوابان: أحدهما أنّه أضمر في نفسه أنّهم سرقوه من أبيه، والآخر أنّه من قول المنادي لا من أمر يوسف والله أعلم. قالُوا يعني المنادي وأصحابه، فَما جَزاؤُهُ ثوابه قال الأخفش: إن شئت رددت الكناية إلى السارقين، وإن شئت رددتها إلى السّرق إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في قولكم: (ما كُنَّا سارِقِينَ) . قالوا: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أن يسلّم سرقته إلى المسروق منه، ويسترقّ سنة، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الفاعلين ما ليس لهم فعله من أخذ مال غيره سرقا، وأما وجه الكلام فقال الفرّاء من في معنى جزاؤه، ومن معناها الرفع بالهاء التي جاءت وجواب الجزاء الفاء في قوله فَهُوَ جَزاؤُهُ ويكون قوله: جَزاؤُهُ الثانية مرتفع بالمعنى المجمل في الجزاء وجوابه، ومثله في الكلام أن يقول: ماذا لي عندك؟ فيقول: لك عندي أن بشّرتني فلك ألف درهم كأنّه قال: لك عندي هذا، وإن شئت الجزاء مرفوعا بمن خاصّة وصلتها كأنّك قلت: جزاؤه الموجود في رحله، كأنّك قلت: ثوابه أن يسترق [في المستأنف] أيضا فقال: فَهُوَ جَزاؤُهُ، وتلخيص هذه الأقاويل: جزاؤه جزاء الموجود في رحله، أو جزاؤه الموجود في رحله. تمّ الكلام. وقال مبتدئا فَهُوَ جَزاؤُهُ فقال الرسول عند ذلك: إنّه لا بدّ من تفتيش أمتعتكم ولستم سارقين حتى أفتّشها فانصرف بهم إلى يوسف، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ لإزالة التهمة قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ وكان فتّش أمتعتهم واحدا واحدا، قال قتادة: ذكر لنا أنّه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر في وعاء إلّا استغفر الله تأثّما ممّا قذفهم به، حتى إذا لم يبق إلّا الغلام، قال: ما أظنّ هذا أخذ شيئا، فقال أخوته: والله لا نتحرّك حتى تنظر في رحله، فإنّه أطيب من نفسك وأنفسنا، فلمّا فتحوا متاعه استخرجوه منه فذلك قوله تعالى: اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ وإنّما أتت الكناية في قوله استخرجها والصواع مذكر، وقد قال الله تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ لأنّ ردّه إلى السقاية كقوله: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، ثمّ قال: هُمْ فِيها خالِدُونَ «1» ردّها إلى الجنّة وقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ، ثمّ قال: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ «2» ، أي من الميراث. وقيل: ردّ الكناية إلى السرقة. وقيل: إنّما أنّثها لأنّ الصواع يذكر ويؤنّث فمن أنّثه قال: ثلاث أصوع مثل أدود ومن ذكّره قال: ثلاثة أصواع مثل ثلاثة أثواب.
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف فعلنا بهم لأنّ الله تعالى حكى عن يعقوب أنّه قال ليوسف فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فالكيد جزاء الكيد، قال ابن عباس: كَذلِكَ كِدْنا أي صنعنا، ربيع: ألهمنا، ابن الأنباري: أردنا. ومعنى الآية: كذلك صنعنا ليوسف حتى ضمّ أخاه إلى نفسه وفصل بينه وبين إخوته بعلّة كادها الله له فاعتلّ بها يوسف، ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ إليه ويضمّه إلى نفسه فِي دِينِ الْمَلِكِ في حكمه وقضائه، قاله قتادة. وقال ابن عباس: في سلطان الملك، وأصل الدين: الطاعة، وكان حكم الملك في السارق أن يسترقّ ويغرّم ضعف ما سرق للمسروق منه، وقال الضحّاك: كان الملك إذا أتي بسارق كشف عن فرجتيه وسمل عينيه، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يعني أنّ يوسف لم يكن ليتمكّن من أخذ أخيه بنيامين من أخوته وحبسه عنده في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجراه على ألسنة إخوته أنّ جزاء السارق الاسترقاق فأقرّوا به وأبدوا من تسليم الأخ إليه، وكان ذلك مراد يوسف (عليه السلام) «1» . نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالحكم كما رفعنا يوسف على إخوته. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ قال ابن عباس: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كلّ عالم، قال قتادة والحسن: والله ما من عالم على ظهر الأرض إلّا فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله الذي علّمه ومنه بدأ وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله: وفوق كلّ عالم عليم. وعن محمّد بن كعب القرضي أنّ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قضى بقضية فقال رجل من ناحية المسجد: يا أمير المؤمنين ليس القضاء كما قضيت، قال فكيف هو؟ قال: كذا وكذا قال: صدقت وأخطأت!!، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. قالوا: فلمّا أخرج الصواع من رحل بنيامين نكّس إخوته رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين وقالوا: يا بنيامين أي شيء الذي صنعت، فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت الصواع؟. فقال بنيامين: بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه بالبرّيّة، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم. ثمّ قالوا ليوسف: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ: من أبيه وأمّه، من قبل، واختلف العلماء في السرقة التي وصفوا بها يوسف، فقال سعيد بن جبير وقتادة: سرق يوسف صنما لجدّه أبي أمّه
فكسّره وألقاه في الطريق، الكلبي: بعثته أمّه حين أرادت أن ترتحل من حران مع يعقوب إلى فلسطين والأردن، أمرته أن يذهب فأخذ جونة فيها أوثان لابنها [أي] ذهب فيأتيها بها لكي إذا فقدها أبوها أسلم، فانطلق فأخذها وجاء بها إلى أمّة، فهذه سرقته التي يعنون. وعن ابن جريح: كانت أمّ يوسف أمرته أن يسرق صنما لخاله يعبده وكانت مسلمة، وروى أبو كريب عن أبي إدريس قال سمعت أبي قال: كان أولاد يعقوب على طعام ونظر يوسف إلى عرق فخبّأه فعيّروه بذلك، وأخبر عبد الله بن السدّي، عن أبيه عن مجاهد أنّ يوسف جاءه سائل إلى البيت فسرق [جبّة] من البيت فناولها السائل فعيّروها بها، وقال سفيان بن عيينة: سرق يوسف دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا. كعب: كان يوسف في المنزل وحده فأتاه سائل وكان في المنزل عتاق وهي الأنثى من الجدي، فدفعها إلى السائل من غير أمر أبيه. وهب: كان يخبّئ الطعام من المائدة للفقراء. هشام عن سعد بن زيد بن أسلم في هذه الآية قال: كان يوسف (عليه السلام) مع أمّه عند خال له، قال: فدخل وهو صبي يلعب وأخذ تمثالا صغيرا من الذهب، فذلك تعيير إخوانه إيّاه. وروى ابن إسحاق عن مجاهد عن جويبر عن الضحّاك قال: كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أنّ عمّته بنت إسحاق وكانت أكبر أولاد إسحاق، وكانت لها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثوها بالكبر من أختانها ممّن وليها كان له سلما لا ينازع فيه، يصنع فيه ما يشاء، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت فحضنته عمّته وأحبّته حبّا شديدا، وكانت لا تصبر عنه. فلمّا ترعرع وبلغ سنوات وقعت محبّة يعقوب عليه فأتاها يعقوب فقال: يا أختاه سلّمي إليّ يوسف، فو الله ما أقدر على أن يغيب عنّي ساعة، فقالت: لا، فقال: والله ما أنا بتاركه. قالت: فدعه عندي أيّاما أنظر إليه لعلّ ذلك يسلّيني عنه، ففعل، فلمّا خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثمّ قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها فالتمسوها فلم توجد فقالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجودها مع يوسف، فقالت: والله إنّه لسلم لي أصنع فيه ما شئت، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال: إن كان فعل ذلك فهو سلم لك، ما أستطيع غير ذلك، فأمسكته، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، فهذا الذي قال أخوة يوسف: إن سرق فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، وهذا هو المثل السائر الذي يقال عذره شر من جرمه. فَأَسَرَّها فأضمرها، يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ وإنّما أنّث الكناية لأنّه عنى بها الكلمة والمقالة وهي قراءة. قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي شرّ منزلا عند الله ممّن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ تقولون، قتادة: تكذبون.
وقالت الرواة: لما دخلوا على يوسف واستخرج الصواع من رحل بنيامين دعا يوسف بالصواع فنقر فيه ثمّ أدناه من أذنه ثمّ قال: إنّ صواعي هذا ليخبرني أنّكم كنتم اثني عشر رجلا وانّكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه، فلمّا سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثمّ قال: أيّها الملك سل صواعك هذا عن أخي أين هو فنقره ثمّ قال: هو؟ حيّ وسوف تراه قال: فاصنع فيّ ما شئت فإنّه إن علم بي فسوف يستنقذني، قال: فدخل يوسف فبكى، ثمّ توضّأ وخرج فقال بنيامين: أيّها الملك إنّي أرى أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحقّ من الذي سرقه فجعله في رحلي؟ فنقره فقال: إنّ صواعي هذا عصاني وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ قال: وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا فغضب روبيل، وقال: والله أيّها الملك لتتركنّا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلّا ألقت ما في بطنها وقامت كلّ شعرة في جسد روبيل فجرجت من [......] «1» فمسّه فذهب غضبه، فقال روبيل من هذا؟ إن في هذا البلد لبذرا من بذر يعقوب. فقال يوسف: ومن يعقوب؟ فغضب روبيل وقال: يا أيّها الملك لا يذكر يعقوب فإنّه سري الله ابن ذبيح الله ابن خليل الرحمن، قال يوسف [اشهد] إذا أنت كنت صادقا، احتبس يوسف أخاه وصار بحكم اخوته أولى به منهم، فرأوا أنّه لا بدّ لهم إلى تخليصه منه سألوه تخليته ببدل منهم يعطونه إيّاه، ف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً: متعلّقا بحبّه يعنون يعقوب، فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ: بدلا منه إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في أفعالك قيل: إلينا، وقال ابن إسحاق: يعنون إن فعلت ذلك كنت من المحسنين. قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ أعوذ بالله وهو نصب على المصدر، وكذلك تفعل العرب في كلّ مصدر وضع موضع الفعل، تقول: حمدا لله وشكرا لله، بمعنى أحمد الله وأشكره أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ولم يقل من سرق تحرّزا من الكذب، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ إن أخذنا بريئا بسقيم. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ يعني أيسوا من يوسف من أن يجيبهم إلى ما سألوه خَلَصُوا نَجِيًّا أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم، والنجيّ لقوم يتناجون وقد يصلح للواحد أيضا، قال الله في الواحد: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا «2» ، وقال في الجمع خَلَصُوا نَجِيًّا وإنّما جاز للواحد والجمع لأنّه مصدر أبدل نعتا كالعدل والزور والفطر ونحوها، وهو من قول القائل نجوت فلانا أنجوه نجيّا، ومثله النجوى يكون اسما ومصدرا، قال الله تعالى:
وَإِذْ هُمْ نَجْوى «1» أي يتناجون وقال: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ «2» وقال في المصدر إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ «3» وقال الشاعر: بني بدا خبّ نجوى الرجال ... (وك) «4» عند سرّك خبّ النجيّ «5» والنجوى والنجيّ في هذا البيت بمعنى المناجاة، وجمع النجيّ أنجية، قال لبيد: وشهدت أنجية الإفاقة عاليا ... كعبي وأرداف الملوك شهود «6» وقال آخر: إنّي إذا ما القوم كانوا أنجيه ... واضطربت أعناقهم كالأرشية هناك أوصيني ولا توصي به «7» . قالَ كَبِيرُهُمْ يعني في العقل والعلم لا في السنّ وهو شمعون، وكان رئيسهم، قاله مجاهد، وقال قتادة والسدّي والضحاك وكعب: هو روبيل وكان أسنّهم وهو ابن خالة يوسف، وهو الذي نهى إخوته عن قتله، وهب والكلبي: يهودا، وكان أعقلهم، محمد بن إسحاق: لاوي. أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهدا من الله وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ اختلفوا في محلّ ما فقال بعضهم: هو نصب إيقاع العلم عليه يعني: ألم تعلموا من قبل فعليكم بهذه تفريطكم في يوسف؟ وقيل: هو في محلّ الرفع على الابتداء، وتمام الكلام عند قوله: مِنَ اللَّهِ يعني: ومن قبلي هذا تفريطكم في يوسف، فيكون ما مرفوعا يخبر [....] الصفة وهو قوله: وَمِنْ قَبْلُ، وقيل: ما صلة، ويعني ومن هذا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ أي قصّرتم وضيّعتم، وقيل: رفع على الغاية. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ التي أنا بها وهي أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي بالخروج منها أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها وترك أخي بنيامين بها أو معه، وإلّا فإنّي غير خارج منها، وقال أبو صالح: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالسيف فأحارب من حبس أخي بنيامين. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ أفضل وأعدل من يفصل بين الناس.
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ يقوله الآخر في المحتبس بمصر لإخوته فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ بنيامين سَرَقَ الصواع، وقرأ ابن عباس والضحاك: سرّق بضمّ السين وكسر الراء وتشديده على وجه ما لم يسمّ فاعله، يعني أنّه نسب إلى السرقة مثل: خوّنته وفجّرته [....] أي نسبته إلى هذه الخلال. وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا يعني ما كانت منّا شهادة في عمرنا على شيء إلّا بما علمنا وليست هذه شهادة منّا إنّما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم، وقال ابن إسحاق: معناه: وما قلنا: إنّه سرق إلّا بما علمنا، قال: وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يسترقّ السارق بسرقته. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ قال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أنّ ابنك يسرق ويصير أمرنا إلى هذا، فلو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنّما قلنا ونحفظ أخانا ممّا لنا إلى حفظه منه سبيل، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس يعنون: أنّه سرق ليلا وهم نيام والغيب هو الليل بلغة حمير، وقال ابن عباس: لم نعلم ما كان يعمل في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه، عكرمة وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ لعلّها دسّت بالليل في رحله. وقيل معناه: قد أخذت السرقة من رحله ونحن ننظر إليه، ولا علم لنا بالغيب فلعلّهم سرّقوه ولم يسرق، وهذا معنى قول أبي إسحاق، وقال ابن كيسان: لم نعلم أنّك تنصاب كما أصبت بيوسف، ولو علمنا ذلك لم [نأخذ] فتاك ولم نذهب به. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعني أهل القرية وهي مصر، ابن عباس: قرية من قرى مصر. وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها يعني القافلة التي كنا فيها وكان معهم قوم من كنعان من جيران يعقوب (عليه السلام) ، قال ابن إسحاق: قد عرف الأخ المحتبس بمصر أنّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما صنعوا في أمره فأمرهم أن يقولوا هذا الاسم، وَإِنَّا لَصادِقُونَ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ في الآية اختصار معناها، فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له ذلك، فقال: بَلْ سَوَّلَتْ أي زيّنت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يوسف وبنيامين وأخيهما المقيم بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحزني ووجدي على فقدهم الْحَكِيمُ في تدبير خلقه.
[سورة يوسف (12) : الآيات 84 إلى 93]
[سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 93] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وذلك أنّ يعقوب لمّا بلغه خبر بنيامين تتامّ حزنه وبلغ جهده وجدّد حزنه على يوسف، فأعرض عنهم وَقالَ يا أَسَفى يا حزني عَلى يُوسُفَ وقال مجاهد: يا جزعاه، والأسف: شدّة الحزن والندم. وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ مقاتل: لم يبصر بهما ستّ سنين فَهُوَ كَظِيمٌ أي مكظوم مملوء من الحزن، ممسك عليه لا يبثّه، ومنه كظم الغيظ، عطاء الخراساني: كَظِيمٌ: حزين، مجاهد: مكبود، الضحّاك: كميد، قتادة: تردّد حزنه في جوفه، ولم يتكلّم بسوء، ولم يتكلّم إلّا خيرا، ابن زيد: بلغ به الجزع حتى كان لا يكلّمهم، ابن عباس: مهموم، مقاتل: مكروب، وكلّها متقاربة. سعيد بن جبير: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم يعط أمّة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عند المصيبة إلّا أمّة محمّد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه لم يسترجع: إنّما قال يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ؟» [123] «1» . وأخبرني ابن فنجويه [قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك] القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، [قال: حدّثني] أبي، عن هشام [بن القاسم] عن الحسن، قال: كانت بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانين عامّا لا تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. قالُوا يعني ولد يعقوب تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ أي لا تزال تذكر يوسف، لا تفتر من حبّه، يقال: ما فتئت أقول ذلك، وما فتأت أو أفتؤ، فتأ وفتوّا، قال أوس بن حجر: فما فتئت حيّ كأن غبارها ... سرادق يوم ذي رياج ترفع «2» وقال آخر:
فما فتئت خيل تثوب وتدّعي ... ويلحق منها لا حق وتقطع «1» أي فما زالت. وحذف (لا) قوله فتئ كقول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي «2» أي: لا أبرح. وقال خداش بن زهير: وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقا مجيدا «3» أي لا أبرح ومثله كثير. حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً اختلف ألفاظ المفسّرين فيه، فقال ابن عباس: دنفا، العوفي: يعني الهد في المرض، مجاهد: هو ما دون الموت، يعني قريبا من الموت، قتادة: هرما، الضحّاك: باليا مدبرا، ابن إسحاق: فاسدا لا عمل لك، ابن زيد: الحرض: الذي قد ردّ إلى أرذل العمر حتى لا يعقل، الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم، مقاتل: مدنفا، الكسائي: الحرض: الفاسد الذي لا خير فيه، الأخفش: يعني ذاهبا، المخرج: ذائبا من الهمّ، الفرّاء عن بعضهم: ضعيفا لا حراك بك، الحسن: كالشنّ المدقوق المكسور، علام تعبا مضنى، ابن الأنباري: هالكا فاسدا، القتيبي: ساقطا، وكلّها متقاربة. ومعنى الآية: حتى يكون دنف الجسم مخبول العقل، وأصل الحرض: الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، ومنه قول العرجي: إنّي امرؤ لجّ بي حبّ فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم «4» يقال: منه رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض، ورجال ونساء حرض يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكّر والمؤنّث، لأنّه مصدر وضع موضع الاسم، ومن العرب من يقول للذكر حارض وللأنثى حارضة، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنّى وجمع وانّث، ويقال: حرض، يحرّض، حرضا وحراضة فهو حرض، ويقال: رجل محرّض وأنشد في ذلك: طلبته الخيل يوما كاملا ... ولو آلفته لأضحى محرضا «5»
وقال امرؤ القيس: أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا ... كإحراض بكر في الدّيار مريض «1» أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ أي الميّتين، وقال يعقوب عند ذلك لمّا رأى غلظتهم وسوء لفظهم، نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ لا إليكم، قال المفسّرون دخل على يعقوب جار له فقال: يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك؟ قال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من مصاب يوسف، فأوحى الله إليه: يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي، قال: فإنّي قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سئل الَ: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ. وقال حبيب بن أبي ثابت: بلغني أنّ يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه، وكان يرفعهما بخرقة، فقال له رجل: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله إليه: يا يعقوب تشكوني، فقال: خطيئة أخطأتها فاغفرها لي. وعن عبد الله بن قميط، قال: سمعت أبي يقول: بلغنا أنّ رجلا قال ليعقوب (عليه السلام) : ما الذي أذهب بصرك؟ قال: حزني على يوسف، قال: فما الذي قوّس ظهرك؟ قال: حزني على أخيه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا يعقوب أتشكوني؟ وعزّتي وجلالي لو كانا ميّتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما، وإنّما وجدت عليكم أنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئا، وأنّ أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثمّ المساكين، فاصنع طعاما وادع إليه المساكين، فصنع طعاما، ثمّ قال: من كان صائما فليفطر الليلة عند آل يعقوب. وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه، قالا: أوحى الله تعالى إلى يعقوب: تدري لم عاقبتك وغيّبت عنك يوسف وبنيامين؟ قال: لا إلهي، قال: لأنّك شويت عتاقا وقترت على جارك، وأكلت ولم تطعمه، ويقال: إنّ سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف، أنّه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها، وإنّما كانت تخور فلم يرحمها، فأخذه الله به وابتلاه بفقد يوسف أعزّ ولده. وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما: أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن، فقال: هل تعرفني أيّها الصدّيق؟ قال: أرى صورة طاهرة وريحا طيّبة، قال: فإنّي رسول ربّ العالمين، وأنا الروح الأمين، قال: فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين، ورأس المقرّبين، وأمين ربّ العالمين؟ قال: ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين، وأنّ الأرض
التي تدخلونها هي أطهر الأرضين، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين؟ قال: كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين، وقد أدخلت مدخل المذنبين، وسمّيت باسم المفسدين؟ قال: لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذلك سمّاك الله في الصدّيقين، وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين، قال: هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين؟ قال: نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فَهُوَ كَظِيمٌ، قال: فما قدر حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟ قال: أجر مائة شهيد، قال: أفتراني لاقيه؟ قال: نعم، فطابت نفس يوسف، قال: ما أبالي ما ألفيته أن رأيته. وأمّا قوله ثِّي فالبثّ: أشدّ الحزن سمّي بذلك لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يظهره، يقال: بثّ، يبثّ فهو باثّ وأبثّ [يأبثه أبثا] «1» يبثّ فهو مبثّ إذا أظهره قال ذو الرمّة: وقفت على ربع لميّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتى كاد ممّا أبثّه ... تكلّمني أحجاره وملاعبة «2» وقال الحسن: ثِّي أي حاجتي، وقال محمّد بن القاسم الأنباري: البثّ: التفرق، وقال محمّد بن إسحاق: معناه: إنّما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى الله، وهو من بثّ الحديث. أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ قال ابن عباس: يقول أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له، وقال آخرون: وأعلم أنّ يوسف حيّ. قال السدّي: لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحسّت نفس يعقوب فطمع وقال: لعلّه يوسف، ويروى أنّه رأى الملك في المنام فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا والله، وهو حيّ. ويقال: أرسل الله إليه ذئبا فسلّم عليه وكلّمه، فقال له يعقوب: أكلت ابني وقرّة عيني وثمرة فؤادي؟ قال: قد والله علمت يا يعقوب أنّ لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام، فلذلك قال لبنيه: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ سيروا واطلبوا الخبر، من يوسف وأخيه: وهو تفعّلوا من الحسّ يعني تتّبعوا، قال ابن عباس: التمسوا، وَلا تَيْأَسُوا، أي لا تقنطوا، مِنْ رَوْحِ اللَّهِ: من فرج الله، قال ابن زيد وقتادة، والضحّاك: من رحمة الله، ف إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ. يقال: سئل ابن عباس عن الفرق بين التجسّس والتحسّس فقال: لا يبعد أحدهما عن
الآخر إلّا أنّ التحسّس في الخير والتجسّس في الشرّ، الحسن وقتادة: ذكر لنا أنّ نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلّا أتى حسن ظنّه بالله من ورائه، وما ساء ظنّه بالله ساعة قط من ليل أو نهار، الحسن عن الأحنف بن قيس عن ابن عباس بن عبد المطّلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال داود: (إلهي) «1» أسمع الناس يقولون إله «2» إبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني رابعا: فقال: لست هناك، إنّ ابراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلّا اختارني، وإنّ إسحاق جاد لي بنفسه، وإنّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف» [124] «3» . قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ في الآية متروك يستدلّ بسياق الكلام عليه تقريره: فجاؤوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف، فقالوا له: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ، يا أيّها الملك بلغة حمير، مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الشدّة والجوع وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ قليلة، رديئة ناقصة، كاسدة. لا تنفق في شيء من الطعام إلّا [يتوجبن] من البائع فيها، وأصل الإزجاء السوق والدفع، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً «4» قال النابغة الذبياني: وهبّت الريح من تلقاء ذي أزل ... تزجي مع الليل من صرّادها «5» صرما «6» «7» وقال حاتم الطائي: ليبك على ملحان ضيف مدفّع ... وأرملة تزجي مع الليل أرملا «8» وإنّما قيل للبضاعة: مزجاة لأنّها غير نافقة وإنّما يجوز تجويزا على دفع من أخذها. وأمالها حمزة والكسائي وفخّمها الباقون. واختلف المفسّرون في هذه البضاعة ما هي؟ عكرمة عن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا لا تنفق إلّا بوضيعه بإذن عنه، يعني لا تنفق في الطعام لأنّه لا يؤخذ في ثمن الطعام إلّا الجيّد، ابن أبي مليكة: حبل خلق الغرارة والحبل ورثة المتاع، عبد الله بن الحرث: متاع الأعراب، الصوف والسّمن، الكلبي ومقاتل وابن حيّان: الصنوبر وحبّة خضراء، سعيد بن جبير: دراهم [قليلة] ، ابن إسحاق: قليلة لا تبلغ ما كان يشترى به إلّا أن تتجاوز لنا فيها أحسن كانت أو أوطأ، جويبر عن الضحّاك: النعال والأدم، وروي عنه أنّها سويق المقل.
فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أعطنا بها ما كنت تعطينا من قبل بالثمن الجيّد الوافي وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا وتفضّل علينا بما بين الثمنين الجيّد والرديء. ولا تنقصنا من السعر، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال ابن جريج والضحّاك: تَصَدَّقْ عَلَيْنا بردّ أخينا إلينا. إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قال الضحّاك: لم يقولوا: إنّ الله يجزيك أن تصدّقت علينا لأنّهم لم يعلموا أنّه مؤمن، قال عبد الجبار بن العلاء: سئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم؟ قال سفيان: ألم تسمع قوله: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا أراد سفيان أنّ الصدقة كانت لهم حلالا وأنّها إنّما حرّمت على نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وروي أنّ الحسن البصري سمع رجلا يقول: اللهمّ تصدّق عليّ، فقال: يا هذا إنّ الله لا يتصدّق إنّما يتصدّق من يبغي الثواب، قل: اللهمّ أعطني أو تفضّل عليّ. قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول، فقال ابن إسحاق: ذكر لي أنّهم لمّا كلّموه بهذا الكلام غلبته نفسه وأدركته الرقّة فانفضّ دمعه باكيا ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم فقال: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ. وقال الكلبي: إنّما قال ذلك حين حكى لإخوانه: أنّ مالك بن أذعر قال: إنّي وجدت غلاما في بئر حاله كيت وكيت وابتعته من قوم بألف درهم فقال: أيّها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولّى يهوذا وهو يقول: كان يعقوب يحزن لفقد واحد منّا حتى كفّ بصره فكيف به إذا لو قتل بنوه كلّهم، ثمّ قالوا: إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا وإنّه في مكان كذا وكذا، فذاك حين رحمهم وبكى وقال لهم ذلك القول. وقال بعضهم: إنّما قال ذلك حين قرأ كتاب أبيه إليه وذلك أنّ يعقوب لما قيل له: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ، كتب إليه: من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله، بن ابراهيم خليل الله أمّا بعد فإنّا أهل بيت موكّل بنا البلاء، فأمّا جدّي فشدّت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكّين على قفاه، ليقتل، ففداه الله، وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البريّة ثمّ أتوني بقميصه ملطّخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب وذهب [..........] «1» ثمّ كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلّى به، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا: إنّه سرق، وإنّك حبسته بذلك وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته إليّ وإلّا دعوت عليك دعوة تنزل بالسابع من ولدك، فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك.
وقال بعضهم: إنّما قال ذلك حين سأل أخاه بنيامين: هل لك ولد؟ قال: نعم، ثلاثة بنين، قال: فما سمّيتهم؟ قال: سمّيت الأكبر يوسف قال: ولم؟ قال: محبّة لك، لأذكرك به، قال: فما سمّيت الثاني؟ قال: ذئبا، قال: ولم سمّيته بالذئب وهو سبع عاقر؟ قال: لأذكرك به، قال: فما سمّيت الثالث؟ قال: دماء، قال: ولم؟ قال لأذكرك به، فلمّا سمع يوسف المقالة خنقته العبرة، ولم يتمالك، فقال لإخوته: لمّا دخلوا عليه: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إذ فرّقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ، بما يؤول إليه أمر يوسف. وقيل: يكون المذنب جاهل وقت ذنبه. قال ابن عباس: إذا أنتم صبيّان، الحسن: شبان وهذا غير بعيد من الصواب لأنّ مظنّة الجهل الشباب. فإنّ سئل عن معنى قول يوسف ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وقيل ما كان عنهم إلى أخيه وهم لم يسعوا في حبسه، فالجواب أنّهم لمّا أطلقوا ألسنتهم على أخيهم بسبب الصاع [حبس] وقالوا: ما رأينا منكم يا بني راحيل كما ذكرناه، فعاتبهم يوسف على ذلك. وقيل: إنّهما لمّا كانا من أمّ واحدة وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف فعاتبهم على ذلك. قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ: قرأ ابن محصن وابن كثير: إنّك على الخبر، وقرأ الآخرون على الاستفهام، ودليلهم قراءة أبي بن كعب أو أنت يوسف، قال ابن إسحاق: لمّا قال يوسف لأخوته هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ الآية، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب فعرفوه، فقالوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس، قال: قالَ يوسف: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ؟ ثمّ تبسّم، وكان إذا تبسّم كأنّ ثناياه اللؤلؤ المنظوم، فلمّا أبصروا ثناياه شبّهوه بيوسف، فقالوا له استفهاما: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟، ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس قال: إنّ إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان في قرنه علامة، وكان ليعقوب مثلها، وكان لإسحاق مثلها، وكان لسارة مثلها شبه الشامة البيضاء، فلمّا قال لهم: [هَلْ] عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ ورفع التاج عنه، فعرفوه فقالوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ «1» . قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأن جمع بيننا بعد ما فرّقتم إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، وَيَصْبِرْ عمّا حرّم الله عليه، قال ابن عباس: يَتَّقِ الزنا وَيَصْبِرْ على العزوبة، مجاهد: يَتَّقِ معصية الله وَيَصْبِرْ على السجن فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، ف قالُوا مقرّين معتذرين: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا اختارك الله علينا بالعلم والحكم والعقل والفضل والحسن والملك وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ وإن كنّا في صنيعنا بك
لمخطئين، مذنبين، يقال: خطئ، يخطأ، خطأ وخطأ وأخطأ إذا أذنب، قال أميّة بن الأكسر: وإنّ مهاجرين تكنّفاه ... لعمر الله قد خطئا وخابا «1» وقيل لابن عباس: كيف قالوا: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ وقد تعمّدوا لذلك؟ فقال: أخطئوا الحقّ وإن تعمّدوا، وكلّ من أتى ذنبا كذلك يخطئ المنهاج الذي عليه من الحقّ حتى يقع في الشبهة والمعصية ف قالَ يوسف وكان حليما موفّقا: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لا تعيير ولا تأنيب عليكم، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم، وأصل التثريب: الإفساد، وهي لغة أهل الحجاز، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها» [125] «2» أي لا يعيّرها، ثمّ دعا لهم يوسف وقال: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. عطاء عن ابن عباس قال: أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت، وقال: «الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» «3» [126] ثمّ قال: «ما «4» تظنون؟» قالوا: نظنّ خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، قال: «وأنا أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» [127] «5» . قال السدي وغيره: فلمّا عرّفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل؟ قالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه وقال لهم: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً يعود مبصرا، لأنّه كان دعاء. قال الضحاك: كان ذلك القميص من نسج الجنّة، روى السدّي عن أبيه عن مجاهد عن هذه الآية قال: كان يوسف أعلم بالله عزّ وجل من أن يعلم أنّ قميصه يردّ على يعقوب بصره، ولكنّ ذلك قميص إبراهيم الذي ألبسه الله عزّ وجل في النار من حرير الجنّة، وكان كساه إسحاق، وكان إسحاق كساه يعقوب وكان يعقوب، أدرج القميص وجعله في قصبة وعلّقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، ثمّ أمره جبرئيل (عليه السلام) أن أرسل بقميصك فإنّ فيه ريح الجنّة لا يقع على مبتل ولا سقيم إلّا صحّ وعوفي. وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 إلى 101]
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 101] وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ يعني خرجت من عريش مصر متوجّهة إلى كنعان. قالَ أَبُوهُمْ لولد ولده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ روي أنّ الريح استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب (عليه السلام) بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير، فأذن لها فأتته بها، ابن السدّي عن أبيه عن مجاهد، قال: أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيّام وذلك أنّه هبّت فصفقت القميص فاحتملت الريح ريح القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنّة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنّة إلّا أن تأتي من ذلك القميص فمن ثمّ قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، وهو منه على مسيرة ثماني ليال. وروى شعيبة عن أبي سنان قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل قال: سمعت ابن عباس يقول: وجد يعقوب ريح يوسف روى أبو سنان عن أبي هذيل قال: سمعت ابن عباس يقول: وجد يعقوب ريح يوسف وهو منه على مسيرة ثماني ليال، وروى شعيبة عن أبي سنان قال: سمعت عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس في هذه الآية قال: وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة والكوفة. وقال الحسن: ذكر لنا أنّه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخا. لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ: سفيان عن حصيف، عن مجاهد لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ، قال: تسفهون الرأي، عن ابن عباس: تجهلون، ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد: لولا أن تقولوا ذهب عقلك: سعيد بن جبير والسدّي ولضحّاك: تكذّبون، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والحسن وقتادة: تهرمون، ومثله روى إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد، ربيع: تحمقون، جويبر عن الضحّاك: تهرمون، فتقولون: شيخ كبير قد خرف وذهب عقله، ابن يسار: تضعفون، أبو عمرو بن العلاء: تقبحون، الكسائي: تعجزون، الأخفش: تلومون، أبو عبيدة: تضللون، وأصل الفند: الفساد، قال النابغة: إلّا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاحددها عن الفند «1»
أي أمنعها من الفساد، ولذلك يقال: اللوم تفنيد، قال الشاعر: يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما فات من أمر بمردود «1» وقال جرير بن عطية: يا عاذليّ دعا الملام وأقصرا ... طال الهوى وأطلتما التفنيدا «2» وقال آخر: أهلكتني باللوم والتفنيد «3» والفند: الخطأ في الكلام والرأي ويقال: أفند فلانا الدهر إذا أفسده، ومنه قول ابن مقبل: دع الدهر يفعل ما أراد فإنّه ... إذا كلّف الافناد بالناس أفندا «4» قالُوا يعني أولاد أولاده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ خطأك الْقَدِيمِ من حبّك يوسف لا تنساه، فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ المبشّر برسالة يوسف، قال ابن عباس: البريد يهوذا بن يعقوب، ابن مسعود: جاءَ الْبَشِيرُ من بين يدي العير قال السدّي: قال يهوذا: أنا ذهبت بالقميص ملطّخا بالدم إلى يعقوب وأخبرته أنّ يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنّه حيّ وأفرحه كما أحزنته، قال ابن عباس: حمله يهوذا دونهم، وخرج حاسرا حافيا وجعل يعدو حتى أتى أباه، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، وروى الضحّاك عن ابن عباس، قال: البشير مالك بن ذعر من أهل مدين. أَلْقاهُ يعني ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب، فَارْتَدَّ بَصِيراً: فعاد بصيرا بعد ما كان عمي. عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عبد الله السلمي: قال سمعت يحيى بن مسلم عمّن ذكره قال: كان يعقوب أكرم أهل الأرض على ملك الموت، وإنّ ملك الموت استأذن ربّه في أن يأتي يعقوب فأذن له فجاءه فقال يعقوب: يا ملك الموت أسألك بالذي خلقك، هل أخذت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس؟ قال: لا، قال ملك الموت: يا يعقوب ألا أعلّمك دعاء؟ قال: بلى، قال: قل: يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ولا يحصيه غيرك، قال: فدعا به يعقوب في تلك الليلة فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً، قال الضحّاك: رجع إليه
بصره بعد العمى والقوّة بعد الضعف والشباب بعد الهرم والسرور بعد الحزن. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف وأنّ الله يجمع بيننا قالُوا بعد ذلك يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ مذنبين. قالَ يعقوب (عليه السلام) : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي في صلاة الليل، قال أكثر المفسّرين: أخّره من الليل إلى السحر، وذلك أنّ الدعاء بالأسحار لا يحجب عن الله، فلمّا انتهى يعقوب إلى الموعد تقدّم إلى الصلاة بالسحر، فلمّا فرغ منها رفع يده إلى الله تعالى: اللهمّ اغفر لي حزني على يوسف وقلّة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا على يوسف، فأوحى الله إليه: إنّي قد غفرت لك ولهم أجمعين. قال محارب بن دثار: كان عمّ لي يأتي المسجد، قال: فمررت بدار عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: اللهمّ إنّك دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت فهذا سحر فاغفر لي. فسألته عن ذلك فقال: إنّ يعقوب أخّر استغفار بنيه إلى السحر بقوله: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سوف أستغفر لكم ربّي، يقول: حتى يأتي يوم «1» الجمعة» [128] «2» . قال وهب: كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، وقال طاوس: أخّر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء. عن أبي سلمة عن عطاء الخراساني قال: طلب الحوائج إلى الشاب أسهل منها في الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، وقول يعقوب (عليه السلام) : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. أبو الحسن الملاني الشعبي: قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، قال: أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ روي أنّ يعقوب (عليه السلام) قال للبشير لمّا أخبره بحياة يوسف، قال: كيف تركت يوسف؟ قال: إنّه ملك مصر، فقال يعقوب: ما أصنع بالملك؟ على أيّ دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. فقال يعقوب: الآن تمّت النعمة. وقال الثوري: لمّا التقى يعقوب ويوسف (عليهما السلام) عانق كلّ واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبة بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى بنيّ، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك.
قالوا: قد كان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، متهيّأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلمّا دنا من مصر كلّ يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند، وركب أهل مصر معهما، يتلقون يعقوب، ويعقوب يمشي ويقود ركابه يهوذا، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس، فقال ليهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا، هذا ابنك. فلمّا دنا كلّ واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك وكان يعقوب أحقّ بذلك منه وأفضل، فابتدأه يعقوب بالسلام وقال: السلام عليك أيّها الذاهب بالأحزان، فذلك قوله عزّ وجل: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. فإن قيل: كيف قال لهم يوسف: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ بعد ما دخلوها، وقد أخبر الله أنّهم لما دخلوا على يوسف وضمّ إليه أبويه قال لهم هذا القول حين تلقّاهم قبل دخولهم مصر كما ذكرنا. وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، وهذا الاستثناء من قول يعقوب حين قال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ومعنى الكلام: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إن شاء الله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ: ادْخُلُوا مِصْرَ ... آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وهذا معنى قول أبي جرير، وقال بعضهم: إنّما وقع الاستثناء على الأمن لا على الدخول كقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «1» وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المقابر: «وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» [129] «2» . فالاستثناء وقع على اللحوق بهم لا على الموت، وقيل: (إن) هاهنا بمعنى (إذ) كقوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» ، وقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «4» ، وقوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «5» . وقال ابن عباس: إنّما قال: آمِنِينَ لأنّهم فيما خلا كانوا يخافون ملوك مصر ولا يدخلون مصر لأنّهم لا جواز لهم، وأمّا قوله تعالى آوى فقال ابن إسحاق: أباه وأمّه وقال الآخرون:
أبوه وخالته لعيّا، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت في نفاسها وتزوّج يعقوب بعدها أختها لعيا فسمى الخالة أمّا كما سمّى العمّ أبا في قوله: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وروى إسحاق عن بشر عن سعيد عن الحسن، قال: نشر الله راحيل أمّ يوسف من قبرها حتى سجدت تحقيقا للرؤيا. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ على السرير، يعني أجلسهما عليه قال ابن إسحاق يعني رفع اسمهما وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً يعني يعقوب وخالته وإخوته، كانت تحيّة الناس يومئذ السجود، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض، لأنّ ذلك لا يجوز إلّا لله تعالى وإنّما هو الانحناء والتواضع على طريق التحيّة والتعظيم والتسليم إلّا على جهة العبادة والصلاة، وهذا قول الأعشى بن ثعلبة: فلمّا أتانا بعيد الكرى ... سجدنا له ورفعنا العمارا «1» وقال آخر: فضول أزمتها لأمّها أسجدت ... سجود النصارى لأربابها «2» وقيل: السجود في اللغة الخضوع كقول النابغة «3» : بجمع تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجّدا للحوافر «4» أي متطامنة ذليلة. قال [ثعلبة] : خرّوا يعني مرّوا، ولم يرد الوقوع والسقوط على الأرض، نظيره قوله تعالى: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً «5» إنّما أراد لم يمرّوا كذلك، مجاهد: بمعنى المرور، وروي عن ابن عباس أنّ معناه خرّوا لله سجّدا فقوله: له كناية عن الله تعالى وَقالَ يوسف عند ذلك واقشعرّ جلده: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا، وهو قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً. واختلفوا في مدّة غيبة يوسف عن يعقوب، فقال الكلبي: مائتان وعشرون سنة، سلمان الفارسي: أربعون سنة، عبد الله بن شدّاد: سبعون سنة وقيل: سبع وسبعون سنة، وقال الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد لقائه
بيعقوب ثلاثا وعشرين سنة، ومات وهو ابن عشرين ومائه سنة، وفي التوراة: مائة وستّ وعشر سنين. في قول ابن إسحاق بن يسار: ثمانين وسبعة أعوام، وقال ابن أبي إسحاق: ثماني عشرة سنة، وولد ليوسف من امرأة العزيز: افراثيم وميشا ورحمة امرأة أيّوب، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ولم يقل من الجبّ استعمالا للكرم لئلّا يذكّر إخوته صنيعهم، وقيل: لأنّ نعمة الله عليه في النجاة من السجن أكبر من نعمته عليه في إنقاذه من الجب، وذلك أنّ وقوعه في البئر كان لحسد إخوته، ووقوعه في السجن مكافأة من الله لزلّة كانت منه. وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ وذلك أنّ يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي، والبدو مصدر قولك: بدا، يبدو، بدوّا، إذا صار بالبادية، مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ أفسد الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ ذو لطف وصنع لِما يَشاءُ عالم بدقائق الأمور وحقائقها، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. روى عبد الصمد عن أبيه عن وهب: قال: دخلوا- يعني يعقوب وولده- مصر وهم اثنان وسبعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستّمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرّية والهرمى والزمنى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة. قال أهل التاريخ: أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش، ثمّ مات بمصر، ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام، ثمّ انصرف إلى مصر. قال سعيد بن جبير: نقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد، فمن ثمّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم، وولد يعقوب وعيص في بطن واحد، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعة وأربعين سنة. قالوا: فلمّا جمع الله ليوسف شمله وأقرّ له عينه وأتمّ له رؤياه، وكان موسّعا له في ملك الدنيا ونعيمها علم أنّ ذلك لا يدوم له وأن لا بدّ له من فراقه فأراد نعيما هو [أدوم] منه، فاشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنى الموت ودعا ربّه، ولم يتمنّ نبي قبله ولا بعده الموت فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ يعني ملك مصر وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ يعني تعبير الرؤيا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقها وبارئها. أَنْتَ وَلِيِّي معيني فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تتولّى أمري تَوَفَّنِي اقبضني إليك مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بآبائي النبيين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 إلى 111]
قيل: فتوفّاه الله طيّبا طاهرا بمصر، ودفن في النيل في صندوق رخام، وذلك أنّه لما مات تشاحّ الناس عليه كلّ يحب أن يدفن في محلّتهم لما يرجون من بركته، فاجتمعوا على ذلك حتى همّوا بالقتال، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل الماء إلى جميع مصر، فيكونوا كلّهم فيه شرعا واحدا ففعلوا. وروى صالح المرّي، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، قال: إنّ الله عزّ وجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيّا، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف؟ قالوا: بلى، قال: فإن أعفوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم؟، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد. قالوا: يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله، حتى حرّكوه، والأنبياء (عليهم السلام) أرحم البريّة، فقال: ما لكم يا بنيّ؟ قالوا: ألست قد علمت ما كان منّا إليك، وما كان منّا إلى أخينا يوسف؟ قالا: بلى، وقالوا: أفلستما قد عفوتما، قالا: بلى، قالوا: فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إن كان الله لم يعف عنّا، قال: فما تريدون يا بني؟ قالوا: نريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنّه قد عفا صنعنا قرّت أعيننا واطمأنّت قلوبنا، وإلّا فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبدا، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه، وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين، فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة. قال صالح المرّي: يخيفهم، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال: إنّ الله تبارك وتعالى بعثني إليك أبشّرك، فإنّه قد أجاب دعوتك في ولدك، وإنّه قد عفا عمّا صنعوا، فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة، وذلك الذي ذكرت وقصصت عليك. [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وما كنت يا محمّد عند أولاد يعقوب إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أي تعاهدوا على إلقاء يوسف في غيابة الجب، وَهُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف، وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم بِمُؤْمِنِينَ وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله مِنْ أَجْرٍ: جعل وجزاء إِنْ هُوَ يعني القرآن والوحي إِلَّا ذِكْرٌ: عظة وتذكير لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ وكم قول فيه عظة وعبرة ودلالة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها. الحرث بن قدامة عن عكرمة أنّه قرأ: وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها رفعا، عن محمّد بن عمر قال: سمعت عمرو بن وائل يقرأ: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ قطعا، وَالْأَرْضُ يَمُرُّونَ عَلَيْها رفعا، أبو حمزة الثمالي عن السدي: أنّه قرأ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها نصبا، وقرأ: يمرون على الأرض، وعن ابن مجاهد قال: حدّثنا إسحاق الحربي أبو حذيفة، حدّثنا سفيان قال: وقرأ عبد الله: وكأيّن من آية في السماوات والأرض يمشون عليها. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ عكرمة في قول الله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال: من إيمانهم إذا سئلوا: مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ قالوا: الله، وإذا سئلوا من نزّل القطر؟ قالوا: الله، ثمّ هم يشركون، وروى جابر عن عكرمة وعامر، في قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قالا: يؤمنون بالله أنّه ربّهم وهو خالقهم ويشركون من دونه، وهذا قول أكثر المفسّرين. وروى بن جبير عن الضحّاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك، تملكه وما ملك، وكان فيها يخزونك من تلبي: فأجب يا الله لولا أن بكرا دونك بني غطفان وهم يلونك، ينزل الناس ويخزونك، ما زال منا غنجا يأتونك، وكانت تلبية حرمهم: خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك، وهم قديما عمّروا بلادك، وقد تعادوا فيك من يعادك، وكانت تلبية قريش: [اللهمّ لبّيك، لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك] «1» ، وكانت تلبية حمدان وغسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا: نحن عبادك اليماني إنّا نحجّ ثاني [على الطريق الناجي نحن نعادي] جئنا إليك حادي «2» . فأنزل الله وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ يعني في التلبية. وقال: لمّا سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا: فإنّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ولكنّا نزعم أنّ له شريكا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
عطاء: هذا في الدعاء وذلك أنّ الكفّار أشركوا بربّهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، بيانه قوله تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1» وقوله تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «2» وقوله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ «3» وقوله: وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «4» . وقال بعض أهل المعاني: معناه وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قبل إيمانهم، نظيره قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً «5» يعني كانوا هم أشدّ منهم بطشا. وقال وهب: هذه في وقعة الدخان وذلك أنّ أهل مكّة لمّا غشيهم الدخان في سنيّ القحط قالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله: إِنَّكُمْ عائِدُونَ «6» والعود لا يكون، إلّا بعد ابتداء والله أعلم أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ قال ابن عباس: مجللة، مجاهد: عذاب يغشاهم، نظيره قوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «7» : قتادة: وقيعة، الضحّاك: يعني الصواعق والقوارع أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ القيامة بَغْتَةً فجأة، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بقيامها، ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم. قُلْ لهم يا محمّد هذِهِ الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سَبِيلِي سنّتي ومنهاجي، قاله ابن زيد، وقال الربيع: دعوتي، الضحّاك: دعائي، مقاتل: ديني، نظيره قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ «8» أي دينه، أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ على يقين، يقال: فلان مستبصر في كذا أي مستيقن أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي آمن بي وصدّقني فهو أيضا يدعو إلى الله، هذا قول الكلبي، وابن زيد قال: أحقّ والله على من اتّبعه أن يدعو إليّ بما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله. وقيل: معناه أنا ومن اتّبعني على بصيرة، يقول: كما أنّي على بصيرة، فكذلك من آمن بي واتّبعني فهو على بصيرة أيضا، قال ابن عباس: يعني أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن. وَسُبْحانَ اللَّهِ أي وقل:
سبحان الله تنزيها له عمّا أشركوا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ: يا محمّد إِلَّا رِجالًا لا ملائكة، نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأنّ أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم. أَفَلَمْ يَسِيرُوا يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوّتك فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أخبر بأمر الأمم المكذّبة من قبلهم، فيعتبروا وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يقول جلّ ثناؤه: هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن ننجيهم عند نزول العذاب، وما في دار الآخرة لهم خير، فترك ما ذكرنا، آنفا لدلالة الكلام عليه، وأضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «1» وقولهم: عام الأوّل، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر: وقال الشاعر: ولو أقوت عليك ديار عبس ... عرفت الذلّ عرفان اليقين «2» يعني عرفانا. أَفَلا يَعْقِلُونَ يؤمنون حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا اختلف القرّاء في قوله: كُذِبُوا فقرأها قوم بالتخفيف «3» وهي قراءة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي عبد الرحمن السلمي وعكرمة والضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي إسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد، وعبد الله بن مسلم وابن يسار ، واختارها الكسائي وأبي عبيدة. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قرأ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مخفّفة وهي قراءة عائشة و [هرقل] الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبد الله بن كثير وعبد الله بن الحارث وأبي رجاء والحسن. وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب، ورويت أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب. وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري: قال صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا منهم: سعيد بن جبير وأرسلت إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن
يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء، قال: فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل كذّبوهم. قال: فقال الضحّاك: ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا «1» . وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من إيمان قومهم وظنّت الرسل أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فيما وجدوا من النصرة. وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ الآية، ومن قرأ بالتشديد فمعناها، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرسل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم جاءَهُمْ نَصْرُنا، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر: فقلت لهم ظنوا بألفي متلبب «2» ... سراتهم في الفارسيّ المسرد «3» أي أيقنوا. وهذا معنى قول قتادة، وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر جاءَهُمْ نَصْرُنا وهذا معنى قول عائشة. وقرأ مجاهد كذبوا بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان: أحدهما: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ أن يعذب قومهم، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا، والثاني: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل، والله أعلم. فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني المشركين، واختلف القرّاء في قوله فنجّي فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأخرى فقرأ: فَنُجِّيَ بنون واحدة وتشديد الجيم، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم
يسمّ فاعله، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن محيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعا، وعلى قراءة الباقين نصبا. لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي في خبر يوسف وأخوته عِبْرَةٌ عظة لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ يعني القرآن حَدِيثاً يُفْتَرى يختلق وَلكِنْ تَصْدِيقَ يعني ولكن كان تصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي ما قبله من الكتب وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ممّا يحتاج إليه العباد وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
سورة الرعد
سورة الرعد مدنية قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنّها مكّيّة إلّا آيتين، قوله: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا، وقوله وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ. وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وست أحرف وثمان و [..........] «1» وخمسون كلمة وثلاث وأربعون آية. سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ سحاب مضى وكلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله عزّ وجلّ» [130] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) المر قال ابن عباس: معناه: أنا الله أعلم وأرى تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني تلك الأخبار التي قصصناها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة وَالَّذِي أُنْزِلَ يعني وهذا القرآن الذي أنزل إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فاعتصم به واعمل بما فيه، فيكون محلّ الَّذِي رفعا على الابتداء و (الْحَقُّ) خبره، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة، ويجوز أن يكون محلّ
(الَّذِي) خفضا يعني تلك آيات الكتاب وآيات الذي أنزل إليك ثم ابتداء الحقّ يعني ذلك الحقّ كقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ يعني ذلك الحقّ. وقال ابن عباس: أراد بالكتاب القرآن فيكون معنى الآية على هذا القول: هذه آيات الكتاب يعني القرآن، ثمّ قال: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربّك هو الحقّ، قال الفرّاء: وإن شئت جعلت (الَّذِي) خفضا على أنّه نعت الكتاب وإن كانت فيه الواو كما تقول في الكلام: أتانا هذا الحديث عن أبي حفص والفاروق وأنت تريد ابن الخطّاب، قال الشاعر: أنا الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم «1» وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ قال مقاتل: نزلت هذه الآية في مشركي مكّة حين قالوا: إنّ محمّدا يقول القرآن من تلقاء نفسه، ثمّ بين دلائل ربوبيّته وشواهد قدرته فقال عزّ من قائل: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ وهذه الآية من جملة مائة وثمانين آية أجوبة لسؤال المشركين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الربّ الذي تعبده ما فعله وصنيعه؟ وقوله: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها يعني السواري والدعائم واحدها عمود وهو العمد والبناء، يقال: عمود وعمد مثل أديم وأدم، وعمدان، وكذا مثل رسول ورسل، ويجوز أن يكون العمد جمع عماد، ومثل إهاب وأهب، قال النابغة: وخيس الجنّ إنّي قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصّفاح والعمد «2» واختلفوا في معنى الآية فنفى قوم العمد أصلا، وقال: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وهو الأقرب الأصوب، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: يعني ليس من دونها دعامة تدعهما، ولا فوقها علاقة تمسكها، وروى حمّاد بن سملة عن إياس بن معاوية قال: السماء مقبّبة على الأرض مثل القبر، وقال آخرون: معناه: الله الذي رفع السماوات بعمد ولكن لا ترونها، فأثبتوا العمد ونفوا الرؤية، وقال الفرّاء من تأوّل ذلك فعلى مذهب تقديم العرب الجملة من آخر الكلمة الى أوّلها كقول الشاعر: إذا أعجبتك الدهر حال من أمرى ... فدعه وأوكل «3» حاله واللياليا تهين «4» على ما كان عن صالح به ... فان كان فيما لا يرى الناس آليا «5» معناه: وإن كان فيما يرى الناس لا يألو. وقال الآخر:
ولا أراها تزال ظالمة ... تحدث لي نكبة وتنكرها «1» معناه: أراها لا تزال ظالمة فقدّم الجحد. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ علا عليه وقد مضى تفسيره، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أي ذلّلها لمنافع خلقه ومصالح عباده كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي كلّ واحد منهما يجري الى وقت قدّر له، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس ويخسف القمر وتنكدر النجوم، وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمّى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهين إليها لا يجاوزانها. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قال مجاهد: يقضيه وحده يُفَصِّلُ الْآياتِ ينتهيان، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ لكي توقنوا بوعدكم وتصدّقوه وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا، واحدتها راسية وهي الثابتة، يقال: إنّما رسيت السفينة، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبتّها، قال الشاعر: حبّذا ألقاه سائرين وهامد ... وأشعث أرست الوليدة بالفهر قال ابن عباس: كان أبو قبيس أوّل جبل وضع على الأرض، وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ صنفين وضربين اثْنَيْنِ: قال أبو عبيدة يكون الزوج واحدا واثنين، وهو هاهنا واحد، قال القتيبي: أراد من كلّ الثمرات لونين حلوا وحامضا يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يستدلّون ويعتبرون وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أبعاض متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ويختلف بالتفاضل، ومنها عذبة ومنها طيبة ومنها طيبة منبت لأنها بجنته ومنها سبخة لا تنبت. وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ رفعها ابن كثير وأبو عمرو عطفا على الجنات، وكسرها الآخرون عطفا على الأعناب. والصنوان جمع صنو، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد فيكون الأصل واحد، ويتشعب به الرءوس فيصير نخلا، كذا قال المفسرون، قالوا: صِنْوانٌ مجتمع وَغَيْرُ صِنْوانٍ متفرق. قال أهل اللغة: نظيرها في كلام العرب، صِنْوانٌ واحد، واحدها صنو والصنو المثل وفيه قيل: شمّ الرجل صنوانه ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع إلّا بالإعراب وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة تجري جريان الإعراب. خالفوا كلهم على خفض الصاد من صنوان إلّا أبا عبد الرحمن السلمي فإنه ضم صاده.
يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ. قرأ عاصم وحميد وابن الحسن وابن عامر: بالياء على معنى يسقى ذلك كله بماء واحد. وقرأ الباقون: بالتاء لقوله جَنَّاتٌ. واختاره أبو عبيد قال: وقال أبو عمرو: مما يصدق التأنيث قوله بَعْضَها عَلى بَعْضٍ ولم يقل بعضه. وَنُفَضِّلُ. قرأ الأعمش وحمزة والكسائي: بالياء ردا على قوله يُدَبِّرُ ويفضّل ويُغْشِي. وقرأها الباقون: بالنون بمعنى ونحن نفضل بعضها على بعض في الأكل. قال الفارسي: والدفل «1» والحلو والحامض. قال مجاهد: كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد. عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول لعلي كرم الله وجهه: «الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة» [131] ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ حتى بلغ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ «2» . قال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فبسطها وبطحها فصارت الأرض قطعا متجاورة، فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها ويخرج قاتها «3» ويحيي موتاها ويخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو كان الماء مجا قيل: إنما هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترقّ قلوب فتخنع وتخشع، تقسوا قلوب فتلهو وتقسو وتجفو. وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلّا قام من عنده إلّا في زيادة ونقصان. قال الله عزّ وجلّ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ... إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 إلى 10]
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 10] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمد من تكذيب هؤلاء المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهة يعبدونها من دون الله، وهم قراء تعبدون من الله وامره وما ضرب الله من الأمثال فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ فتعجب أيضا من قيلهم إِذا كُنَّا تُراباً بعد الموت إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فيعاد خلقنا جديدا كما كنا قبل الوجود. قال الله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ «1» يوم القيامة وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ جهنم وَيَسْتَعْجِلُونَكَ يعني مشركي مكة بِالسَّيِّئَةِ بالبلاء والعقوبة قَبْلَ الْحَسَنَةِ الرخاء والعافية، وذلك أنّهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن جاءهم العذاب فاستهزأ منهم بذلك. وقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ «2» الآية وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وقد مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها، العقوبات المنكلات واحدتها: مثلة بفتح الميم وضم التاء مثل صدقة وصدقات. وتميم: بضم التاء والميم جميعا، وواحدتها على لغتهم مثلة بضم الميم وجزم الثاء مثل عرفة وعرفات والفعل منه مثلت به أمثل مثلا بفتح الميم وسكون الثاء. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ. أحمد بن منبه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: ولما نزلت هذه الآية وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد» [132] «3» . وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعني على محمد صلّى الله عليه وسلّم آيَةٌ علامة وحجة على نبوته، قال الله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مخوف وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ داع يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ إمام يأتمون به. وقال الكلبي: داع يدعوهم إلى الضلالة أو إلى الحق.
أبو العالية: قائد، أبو صالح قتادة مجاهد: نبي يدعوهم إلى الله. سعيد بن جبير: يعني بالهادي الله عزّ وجلّ. وهي رواية العوفي، عن ابن عباس قال: المنذر محمد، والهادي الله. عكرمة وأبو الضحى: الهادي محمد (صلى الله عليه وسلم) . وروى السدي عن عبد الله بن علي قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المنذر أنا، الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه» [133] «1» . وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره فقال: «أنا المنذر» وأومأ بيده إلى منكب علي (رضي الله عنه) فقال: «فأنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون من بعدي» [134] «2» . ودليل هذا التأويل: ما روي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن زيد عن ربيع عن حذيفة: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن وليتموها أبا بكر فزاهد في الدنيا راغب في الآخرة وفي جسمه ضعف، وإن وليتموها عمر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم، وإن وليتموها عليا فهاد مهدي يقيمكم على طريق مستقيم» [135] «3» . ردا على منكري البعث القائلين أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فقال سبحانه: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يعني تنقص. قال المفسرون: غيض الأرحام الحيض على الحمل، فإذا حاضت الحامل كان نقصانا في غذاء الولد وزيادة في مدة الحمل، فإنها بكل يوم حاضت على حملها يوم تزداد في طهرها حتى يستكمل ستة أشهر ظاهرا. فإن رأت الدم خمسة أيام ومضت التسعة أشهر وخمسة أيام، وهو قوله: وَما تَزْدادُ. روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ خروج الدم حتى تحض، يعني حين المولد، وَما تَزْدادُ استمساك الدم إذا لم تهرق المرأة تم الولد وعظم، وفي هذه الآية دليل على أنّ الحامل تحيض وإليه ذهب الشافعي. وقال الحسن: غيضها ما تنقص من التسعة الأشهر وزيادتها ما تزداد على التسعة الأشهر.
الربيع بن أنس: ما يغيض الأرحام يعني السقط وَما تَزْدادُ يعني توأمين إلى أربعة. جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ يعني به السقط. وروى عبيد بن سليمان عن الضحاك قال: الغيض النقصان من الأجل، والزيادة ما يزداد على الأجل، وذلك أنّ النساء لا يلدن لعدّة واحدة ولا لأجل معلوم وقد يولد الولد لستة أشهر فيعيش ويولد لسنتين ويعيش. قال: وسمعت الضحاك يقول: ولدت لسنتين قد نبتت ثناياي، وروى هيثم عن حصين قال: مكث الضحاك في بطن أمه سنتين. وروى ابن جريح عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحو ظل المغزل، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وجماعة من الفقهاء «1» . وقال الشافعي وجماعة من الفقهاء: أكثر الحمل أربع سنين، يدل عليه ما أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ، أحمد بن إبراهيم بن الحسين بن محمد قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الفرج الأحمري سمعت عباس بن نصر البغدادي سمعت صفوان ابن عيسى يقول: مكث محمد بن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين فشق بطن أمه وأخرج وقد نبتت أسنانه. وروى ابن عائشة عن حماد بن سلمة قال: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، والمقدار مفعال من القدر عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء بقدرته سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ في ظلمته وَسارِبٌ ظاهر بِالنَّهارِ ضوءه لا يخفى عليه من ذلك. وقال أبو عبيدة: سارِبٌ بِالنَّهارِ أي سالك في سربه أي مذهب ووجهة، يقال: سارب سربه بفتح السين أي طريقه. قال قيس بن الحطيم: إني سربت وكنت غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب الشعبي: سارِبٌ بِالنَّهارِ منصرف في حوائجه يقال: سرب يسرب. قال الشاعر:
[سورة الرعد (13) : الآيات 11 إلى 14]
أرى كلّ قوم قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب «1» أي ذاهب. قال ابن عباس: في هذه الآية هو صاحب ريبة مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، فإذا خرج بالنهار رأى الناس أنه بريء من الإثم. وقال بعضهم: مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي ظاهر، من قولهم: خفيت الشيء إذا أظهرته، وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي متوار داخل في سرب. [سورة الرعد (13) : الآيات 11 الى 14] لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) لَهُ أي لله تعالى مُعَقِّباتٌ ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل، والتعقيب العود بعد المبدأ، قال الله وَلَمْ يُعَقِّبْ وإنما ذكرها هنا بلفظ جمع التأنيث لأنّ واحدهما معقب وجمعه معقبة، ثم جمع المعقبة معقبات فهي جمع الجمع. كما قيل أما قال قد حالات بكم وقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يعني من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار وَمِنْ خَلْفِهِ من وراء ظهره. قال ابن عباس: ملائكة يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ... مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ فإذا جاء القدر خلوا عنه. حماد بن سلمة عن عبد الله بن جعفر عن كنانه العمري قالوا: دخل عثمان بن عفان (رضي الله عنه) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أسألك عن العبد كم معه من ملك؟ قال: «ملك على يمينك يكتب حسناتك، وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أأكتب؟ قال: لا، لعله يستغفر الله أو يتوب فإذا قال ثلاثا قال: نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عزّ وجلّ وأقل استحياء منا يقول الله ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «2» وملكان من بين يديك
ومن خلفك يقول الله لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وملك قابض على ناصيتك، فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلّا الصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وآله، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك، وملكان على عينيك هؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل أي ليسوا من ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع بني آدم بالنهار وولده بالليل» [136] «1» . قتادة وابن جريح: هذه ملائكة الله عزّ وجلّ يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، وذكر لنا أنّهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح. همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» [137] «2» . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال: ذكر [أنّ] «3» ملكا من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس فإذا جاء أمر الله لم ينفعوا شيئا. عكرمة: هؤلاء ملائكة من بين أيديهم ومن خلفهم لحفظهم. شعبة عن شرفي عن عكرمة قال: الجلاوزة «4» . الضحاك: هو السلطان المحترس من الله وهم أهل الشرك، وقوله يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ اختلفوا فيه فقال قوم: يعني: بأمر الله، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وهذا قول مجاهد وقتادة ورواية الوالبي عن ابن عباس، وقال الآخرون: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ما لم يجئ القدر «5» . لبيد عن مجاهد: ما من عبد إلّا به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس الهوام فما منهم شيء بأمره يريده إلّا قال فذاك لا يأتي بإذن الله عزّ وجلّ فيه فيصيبه. وقال كعب الأحبار: لولا وكل الله بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا يحيطكم الجن.
وروى عمار بن أبي حفصة عن أبي مجلز قال: جاء رجل من مراد إلى علي (رضي الله عنه) وهو يصلي، فقال: احترس فإنّ ناسا من مراد يريدون قتلك. فقال: إنّ مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإنّ الأجل جنة حصينة ، وقال أهل المعاني: إنّ أوامر الله عزّ وجلّ على وجهين أحدهما قضى حلوله ووقوعه بصاحبه، فذلك ما لا يدفعه أحد ولا يغيره بشر ولا حتى الجن ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظة كقصة يونس (عليه السلام) ، وقال ابن جريج: معناه يكنصون من الله أمر الله يعني يحفظون عليه الحسنات والسيئات، وقال بعض المفسرين أن هذه الآية أنّ الهاء في قوله: لَهُ راجعة إلى رسول الله (عليه السلام) . جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لَهُ مُعَقِّباتٌ يعني محمد (عليه السلام) من الرحمن حراس مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، يعني من شر الجن والإنس ومن شر طارق الليل والنهار، وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وزيد بن ربيعة وكانت قصتهما على ما روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أقبل علينا زيد بن ربيعة هو وعامر بن الطفيل يريدان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس. وقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل وهو مشرك. فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا بهذه، فأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، قال: تجعل لي الأمر بعدك. قال: ليس ذلك إليّ إنما ذاك إلى الله يجعله حيث يشاء. قال: فجعلني على الوبر وأنت على المدر، قال الرجل: فماذا يجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال: أوليس ذلك لي اليوم؟ قال: لا. قال: قم معي أكلمك، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان يوصي إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من ورائه بالسيف فجعل يخاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدار أربد بن ربيعة خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم ليضربه فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على قتله وعامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأى أربد وما منع بسيفه. فقال: اللهم أكفنيهما بما شئت، فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف وولى عامر هاربا. وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة» [138] «1» يعني الأوس والخزرج، فنزل عامر ببيت امرأة سلولية فأنشأ يقول: بخير أبيت اللعن إن شئت ودّنا ... فإن شئت حربا بأس ومصدق وإن شئت فنسيا ما يكفي أمرهم ... يكبون كبش العارفين متألق فلما أصبح ضم إليه سلاحه وقد تغير لونه، وهو يقول: واللات لئن أصحر محمد إلي وصاحبه- عني ملك الموت- لأنفذنهما برمحي، فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التارب، وخرجت على ركبته غدة في الوقت كغدة البعير فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير وموت في السلولية ثم مات على ظهر فرسه «2» . لعمري وما عمري علي بهين ... لقد شأن حمر الوجه طعنة مسهر قد علم المزنوق أني أكرّ ... على جمعهم كرّ المنيح المشهر «3» وأزود من وقع السنان زجرته ... وأخبرته أني امرؤ غير مقصر وأخبرته أن الفرار خزاية ... على المرء ما لم يبل عذرا فيعذر. لقد علمت عليا هوازن أنني ... أنا الفارس الحامي حقيقة «4» جعفر فجعل يركض في الصحراء ويقول: أبرز يا ملك الموت، ثم أنشأ يقول: لا قرب المزنوق ولتجد ما أرى لنفر ... من يوم شره غير حامد. إلا قرباه إن غاية حرمناه إذا ... قرب المزنوق بين الصفائد هو من عامر قدن إذا ما دعوتهم أجابوا ... ولبى منهم كل ماجد وكان بعضهم يعيّر بعضا النزول على سلولية ولذلك ركب فرسه ليموت خارجا من بيتها ما أحس بالموت، ثم دعا بفرسه يركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره. فأجاب الله تعالى دعاء رسوله صلّى الله عليه وسلّم وقتل عامرا بالطاعون وأربد بالصاعقة، فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثي فمنها هذه: وانا لك فاذهب والحق ... بأسرتك الكرام الغيب
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب «1» ، يتآكلون مغالة وملاذة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب فنعد في هذا وقل في غيره ... واذكر شمائل من أخ لك معجب إنّ الرزيئة لا رزيئة بعدها ... مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب من معشر بنت لهم آباؤهم ... والعز لا يأتي بغير تطلب يا أربد الخير الكريم جدوده ... أفردتني أمشري بقرن أعضب «2» ومنها قوله: ما أن تعزي المنون من أحد ... لا والد مشنق ولا ولد أخشى على أربد الحتوف ... أرهب نوأ السماك والأسد فعين هلا بكيت أربد إذ ... قمنا وقام النساء في كبد فجعني البرق والصواعق ... بالفارس يوم الكريهة النجد «3» فأنزل الله تعالى في هذه القصة سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ الآية لَهُ مُعَقِّباتٌ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له معقبات يحفظونه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يعني تلك المعقبات من أمر الله وهي مقدم ومؤخر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم معقبات يحفظونه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ تلك المعقبات من أمر الله وقال الذين [آمنوا:] إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «4» . وقرأ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ حتى بلغ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، ... إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الحال لا [.........] «5» فيعصون ربهم ويظلمون بعضهم بعضا. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً عذابا وهلاكا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ علمها المخاوف «6» بالله وقيل: وال ولي أمرهم ما يدفع العذاب عنهم هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً يخاف أذاه ومشقته وَطَمَعاً للمقيم يرجو بركته وشفعته أن يمطر وَيُنْشِئُ بينهم
السَّحابَ الثِّقالَ يعني قال إن شاء الله السحابة فيشاء أي أبدأها فبدلت وأسحاب جمع واحدتها سحابة وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت اليهود إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم نسألك خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك قال: فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ. قال صلّى الله عليه وسلّم: «هاتوا» ، قالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من الملائكة الموكلة بالسحاب معه مخاريف من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله» . قالوا: فما هذا الذي نسمع؟ قال: «زجر السحاب إذا زجر حتى ينتهي إلى حيث أمر» . قالوا: صدقت «1» [139] . قال عطية: الرعد ملك، وهذا تسبيحه، والبرق سوطه الذي يزجر به السحاب فقال: لذلك الملك رعد وقد ذكرنا معنى الرعد والبرق بما أغنى عن إعادته. وقال أبو هريرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [إذا سمع صوت الرعد] قال سبحانه من يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ. عكرمة عن ابن عباس: إنه كان إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وقال ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ في خيفته وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فإن أصابته صاعقة فعلى ذنبه. وروى مالك بن أنس عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان من يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ويقول: إن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد. وروى حجاج بن أرطأة عن أبي مطر عن سالم يحدث عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» [140] «2» . وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته، وقيل أراد هو أنّ الملائكة أعوان الرعد، جعل لله تعالى له أعوانا فهم جميعا خائفون، خاضعون طائعون به يُرْسِلُ الصَّواعِقَ «3» عن الضحاك عن ابن عباس قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإنّ بحور الماء لفي
نقرة «1» إبهامه وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث ويؤمر وإنه يسبح الله فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر «2» وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ أصاب أربد بن ربيعة. قال أبو جعفر الباقر: الصواعق تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب ذاكرا. وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وقد أصابت أربد وعامر، وقيل نزلت هذه الآية في بعض كفار العرب «3» . حديث إسحاق الحنظلي عن ريحان بن سعيد الشامي عن عماد بن منصور عن عباس بن الناجي قالت: سألت الحسن عن قوله: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الآية. فقال كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام، فقال لهم: أخبروني عن رب محمد هذا الذي يدعوني إليه وما هو، ومم هو أمن فضة أم حديد أم نحاس، فاستعظم القوم مقالته وانصرفوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله ما رأينا رجلا آخر أكفر منه، ولا أعتى على الله منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارجعوا إليه» ، فرجعوا إليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الاولى «4» وقال: أجيب محمدا إلى ربّ لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا إليه، فقالوا: يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى إلّا قوله: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه، فقال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ارجعوا إليه، فرجعوا إليه فبينا هم عنده ينازعونه ويدعونه ويعظمون عليه، وهو يقول: هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت ثم برقت فرمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستقبلهم بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا لهم: احترق صاحبكم. قالوا: من أين علمتم؟ قال: أوحى الله إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ فقال الحسن: ما شَدِيدُ الْمِحالِ؟ قال: شديد الحمل. قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: شديد الأخذ «5» . مجاهد: شديد القوة. أبو عبيدة: شديد العقوبة، والمحال والمماحلة المماكرة والمغالبة.
وأنشد أبو عبيدة للأعشى: فرع نبع يهتز في غصن المجد ... غزير الندي شديد المحال «1» وقال الآخر: ولبس بين أقوام كلّ ... أعد له الشغازب والمحالا «2» لَهُ لله عزّ وجلّ دَعْوَةُ الْحَقِّ الصدق وأضيفت الدعوة إلى الحق لاختلاف الاسمين وقد مضت هذه المسألة. قال علي (رضي الله عنه) : دَعْوَةُ الْحَقِّ التوحيد. ابن عباس (رضي الله عنه) : شهادة أن لا إله إلّا الله. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ يريدونه منهم من نفع أو دفع إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ إلّا كما ينفع باسط كفيه إلى الماء من العطش يبسطه إياهما إليه يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبدا. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هذا مثل لمشرك عبد مع الله غيره، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي نظر إلى خياله في الماء من بعيد فتصور أن يتناوله فلا يقدر عليه، عطية عنه يقول: مثل الأوثان التي يعبدون من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء وقد وضعهم الا يبلغان تناوله. الضحاك عنه يقول: كما أنّ العطشان إذا يبسط كفيه إلى الماء لا ينفعه ما لم يحفظهما ويروي بهما الماء ولا يبلغ الماء فاه مادام باسط كفيه إلى الماء ليقبض على الماء لأن القابض على الماء لا شيء في يده. قال ضابئ بن الحرث المزني: فإني وإيّاكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله «3» وقال الشاعر: وأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد «4» وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أصنامهم إِلَّا فِي ضَلالٍ يضل عنهم إذا احتاجوا إليه.
[سورة الرعد (13) : الآيات 15 إلى 29]
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: ما دُعاءُ الْكافِرِينَ ربهم إِلَّا فِي ضَلالٍ لأن أصواتهم تحجب عن الله تعالى. [سورة الرعد (13) : الآيات 15 الى 29] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني الملائكة والمؤمنين طَوْعاً وَكَرْهاً يعني المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسبعة. وروى ابن المبارك عن سفيان قال: كان ربيع بن هشيم إذا قرأ هذه الآية قال: بل طوعا يا رباه. وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ يعني ضلال الساجدين طوعا أو كرها يسجد لله حين يقي ضلل أحدهم عن يمينه أو شماله. قال ابن عباس: نظيرها في النحل.
قال الكلبي: إذا سجد بالغدو أو العشي سجد معه ظله. وقال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره، وَالْآصالِ جمع أصل، والأصل جمع الأصيل وهو العشاء من العصر إلى غروب الشمس. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومدبرهما فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ولا بد لهم من ذلك فإذا أجابوك قُلْ أنت أيضا اللَّهُ ثم قيل لهم إلزاما للحجّة قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني الأصنام يعبدونها من دون الله وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ثم نصرف لهم الأفعال قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وكذلك لا يستوي الضال والمؤمن المهتدي. وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي: أَمْ هَلْ يَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ بالياء. الباقون: بالتاء واختاره أبو عبيد قال: لأنه يحصل من اسم المؤنث ومن الفعل مقابل والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ فأصبحوا لا يدرون أمن خلق الله هو أو من خلق آلهتهم قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [.........] «1» للحق والباطل مثلين. فقال عز من قائل أَنْزَلَ هو مِنَ السَّماءِ يعني المطر ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها الكبير بقدره والصغير بقدره فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ الذي حدث على ذلك الماء زَبَداً رابِياً حال تعريفها يود الماء فالماء الباقي الصافي النافع هو الحق. والذاهب الزائل الباطل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية والأنهار وهو الباطل ويقال: إن هذا سيل القرآن ينزل من السماء فيحتمل منه القلوب حظها على قدر اليقين والشك والعقل والجهل فهذا مثل الحق والباطل «2» . والمثل الآخر قوله: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ. قرأ حميد أبو محجن أبو وهب وحمزة والكسائي يُوقِدُونَ بالياء، واختاره أبو عبيد لقوله تعالى: يَنْفَعُ النَّاسَ ولا مخاطبة هاهنا ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أي زينة يتخذونها أَوْ مَتاعٍ وهو ما ينتفع به وكلّ ما تمتعت به فهو متاع. قال المشعث: تمتع يا مشعث أن شيئا ... سبقت به الممات هو المتاع «3» أراد به جواهر الأرض من الذهب والفضة. والحديد والصفر والنحاس والرصاص، ومنه يستخلص الأشياء مما ينتفع به من الحلي
والأواني وغيرهما. زَبَدٌ مِثْلُهُ يقول: له زبد إذا أنث مثل زبد السيل، والباقي الصافي من هذه الجواهر فيذهب خبثه والزبد الذي لا يبقى ولا ينتفع به مثل الباطل. قال الله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ الذي علا السيل. فَيَذْهَبُ جُفاءً سريعا متفرقا. قال أبو عمرو: هو من قول العرب: أجفأت القدر النذر وجنات وذلك إذا غلت فأنصب زبدها أو سكنت لم يبق منه شيء «1» . وقال القبتي: الجفاء ما رمى به الوادي إلى جنانه. فقال: جفأته إذا صرعه. وقال ابن الأنباري: جفاء يعني باليا متفرقا. يقال: جفأت الريح بالغيم إذا فرقته وذهبت به. قال بعضهم: يعني تباعد الأرض. يقال جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف. قال الفراء: إنما أراد بقوله جُفاءً الجفاء لأنه مصدر، قولك جفأ الوادي غثاه جفاء فخرج مخرج الاسم وهو مصدر. وكذلك يفعل العرب في مصدر كل ما كان من فعل شيء اجتمع بعضه إلى بعض كالقماش والرقاق والحطام والغنام يخرجه على مذهب الاسم، كما فعلت ذلك في قولهم أعطيته عطاء بمعنى الإعطاء، ولو أريد من القماش المصدر على الصحة لقيل قمشته قمشا. وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من العوالق فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ تم الكلام على هذا. ثم قال: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ أطاعوه الْحُسْنى بالجنة وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ يوم القيامة، قال الله أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ مجازيا بالعقوبة، قال إبراهيم النخعي والزبد. أتدري ما سوء الحساب؟ قلت: لا. قال هو أن يحاسب الرجل على معصية فعلها ويكفر عنه خطيئته، وَمَأْواهُمْ في الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ الفراش والمصير أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [.........] «2» فهو كافيه كَمَنْ هُوَ أَعْمى عنه لا يعلمه ولا تعمل إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ الخطاب للأصحاب وذوي العقول الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ في أمرهم يعني فرضه عليهم فلا هم يخالفونه إلى ما هم فيه، وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
قيل أراد الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يعترفون بها. وقال أكثر المفسرين: يعني الرحم ويقطعونها. الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: اشتكى أبو الدرداء فعاده عبد الرحمن بن عوف. فقال: خيّرهم أوصلهم ما علمت يا محمد. فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تبارك وتعالى: أنا الله وأنا الرحمن، خلقت الرحم وشقتت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» [141] «1» . عن شيبة قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن موهب وأبوه عثمان بن عبد الله، أنهما سمعا موسى بن طلحة يحدث عن أبي أيوب الأنصاري: أنّ رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال القوم: ماله وماله. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أرب ماله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ذرها» [142] قال: كأنه كان على راحلته «2» . عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب قال: والذي فلق البحر لبني إسرائيل إنّ في التوراة لمكتوبا يا ابن آدم اتق ربك وأبرّ والديك وصل رحمك أمدّ لك في عمرك وايسّر لك يسرك، وأصرف عنك عسرك «3» . وعن أبي إسحاق عن مغراء العبدي عن عبد الله بن عمرو قال: من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره وثرا ماله وأحبه أهله «4» . صالح عن جرير عن برد عن مكحول قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعمل الخير [ليس شيء اطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة] الرحم وليس شيء أعجل عقابا من البغي وقطيعة الرحم، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» [143] «5» . وَالَّذِينَ صَبَرُوا على طاعة الله وتصبروا عن معصية الله. قاله ابن زيد، وقال ابن عباس: وصبروا على أمر الله. قال عطاء: على الرزايا والمصائب والحوادث والنوائب. أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم.
ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ طالب يعتصم بالله ويستغفر ربه أن يعصيه ويخالفه في أمره وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يعني الزكاة وَيَدْرَؤُنَ ويدفعون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ يقال: درأ الله عني بشرّك. قال ابن زيد: يعني لا يكافئون الشر بالشر ولكن يدفعونه بالخير. وقال القتيبي: معناه إذا سفه عليهم حلموا فالسفه السيئة والحلم الحسنة. قتادة: ردوا عليهم معروفا نظيره إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «1» . قال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا أخلصوا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. ابن كيسان: إذا أذنبوا أيسوا وإذا حرفوا أثابوا ليدفعوا بالتوبة عن أنفسهم فغفر الذنب. فهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه قال: يدفعون بالصالح من العمل الشر من العمل، ويؤيد هذا الخبر المأثور: إن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله أوصني. قال: «إذا عملت سيئة فاعمل لجنبها حسنة تمحها، السر بالسر والعلانية بالعلانية» [144] «2» . قال عبد الله بن المبارك: هذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة. أبو بكر الوراق: هذه ثمانية جسور فمن أراد القربة من الله عبرها «3» . أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ثم بين فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها. قرأه العامة: بفتح الياء وضم الخاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: بضم الياء وفتح الخاء. قال عبد الله بن عمير: وإن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج «4» فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلّا نبي أو صديق أو شهيد «5» . وَمَنْ صَلَحَ لهن مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ أهلهم وولدهم أيضا يدخلونها وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فيه آمنا تقديره ويقولون سلام عليكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. قال مقاتل: يدخلون في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا ثلاث كرات معهم الهدايا والتحف يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ. صالح عن يزيد عن أنس بن مالك: أنّه تلا هذه الآية جَنَّاتُ عَدْنٍ إلى قوله: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
ثم قال: إنه جنة من در وفضة طولها في الهواء ستون ميلا ليس فيها صدع ولا وصل منه كل زاوية منها أهل فقال: لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب سبعون ألف من الملائكة مع كل ملك منهم هدية من الرحمن ليس في مثلها، لا يعلون [....] «1» ليس بينهم وبينه حجاب. وروى ابن المبارك عن عقبة بن الوليد قال: حدثنا أرطأة بن المنذر قال: سمعت رجلا من ملجف بالجند يقال له أبو الحجاج يقول: حدثني خالي أبي أمامة فقال: إنّ المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين سور فيقبل الملك، يستأذن فيقول الذي يليه: ملك يستأذن، ويقول الذي يليه: ملك يستأذن كذلك حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا فيقول أقربهم إلى المؤمن: ائذنوا فيقول الذي يليه للذي يليه كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف «2» . وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «الفقراء والمهاجرون الذين تسدّ بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء» [145] «3» . قال: فيأتيهم الملائكة ف يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ. وروى سهيل بن أبي صالح عن محمد بن إبراهيم قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. أبو بكر وعمر وعثمان عليهم السلام كانوا يفعلون كذلك. وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ يعني النار. وقال سعد بن أبي وقاص: هم الحرورية. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يوسع عليه وَيَقْدِرُ ويقتر ويضيق وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا يعني فرطوا وجهلوا ما عند الله ويطمعون وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ قليل ذاهب قاله مجاهد، وقال عبد الرحمن بن سابط: كزاد الراعي يزود، أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو الشيء يشرب عليه اللبن «4» .
الكلبي: كمثل السكرجة «1» والقصعة أو القدح والقدر ونحوها ينتفع بها ثم يذهب وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ويرشد الأمّة إلى طاعته من رجع إليه بقلبه ثم وصفهم فقال الَّذِينَ آمَنُوا في محل النصب والأمن قبله من وَتَطْمَئِنُّ وتسكن فستأنس قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ. مقاتل: بالقرآن أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. قال ابن عباس: هذا في الحلف ويقولها إذا حلف الرجل المسلم بالله على شيء يم سكن قلوب المؤمنين إليه. وقال مجاهد: هم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ابتداء طُوبى لَهُمْ خبره، وقيل: معناه لهم طوبى فطوبى خبر الابتداء الأول. واختلف العلماء في تفسير «طُوبى» . الوالبي عن ابن عباس: طُوبى لَهُمْ: فرح وقرة عين لهم، عكرمة: نعم ما لهم، الضحاك: غبطة لهم. قتادة: حسنى لهم معمر عنه: هذه كلمة عربية، يقول الرجل للرجل طوبى لكم أي أصبت خيرا. إبراهيم: خير وكرامة لهم. شميط بن عجلان: طُوبى يعني دوام الخير. الفراء: أصله من الطيب وإنما جاءت الواو لضم ما قبلها وإتيان بقول العرب: طوباك، طوبى لك. سعيد بن جبير عن ابن عباس: طُوبى اسم الجنة بالحبشية. سعيد بن مسجوح: اسم الجنة بالهندية ربيع البستان بلغة الهند «2» . وروى ابن سعيد الهندي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّ رجلا قال له: يا رسول الله ما طُوبى؟ قال: «شجرة في الجنة مسيرة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة يخرج من أكمامها» [146] «3» . وروى معاوية بن مرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طُوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنة» [147] «4» .
وقال أبو هريرة: طُوبى شجرة من الجنة [غرسها] الله لها [ثمر] تقتفي لعبدي عياشا صنعه له من الحلي بسرجها ولحمها وعن الإبل بأنّ تحتها قماشا من الكسوة. وقال مغيث بن سمي: طُوبى شجرة من الجنة، لو أنّ رجلا ركب قلوصا جذعا ثم دار بها لم يبلغ المكان الذي ارتحل منه حتى يموت هرما وما في أهل منزل إلّا فيه غصن من أغصان تلك الشجرة متدلّ يصلهم الماء بالدلاء وإذا أرادوا أن يأكلوا من الثمرة تدلى إليهم فأكلوا منه ما شاؤوا ويجئ عليها الطير أمثال البخت، يعني الطير ويأكلون منه قديدا وشواء ثم تطير «1» . قال عندر بن عمير: هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لونا ولا زهرة إلّا وفيها منها إلّا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلّا وفيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل مقابل كل ورقة منها تظل امة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح «2» . وقال أبو سلام: حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبيد السلمي يقول: جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله في الجنة فاكهة؟ قال: «فيها شجرة تدعى طُوبى هي تطابق الفردوس» «3» . قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: «ليس تشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام» [148] ، فقال: أتيت الشام يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: فإنها تشبه شجرة تدعى الجوز ينبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها. فقال: ما أعظم أصلها. قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما «4» . قال وهب بن منبه: إنّ في الجنة شجرة. قال: الطوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها زهوها رياط وورقها برود وقضبانها عنبر وبطحاؤها ياقوت وترابها كافور وحملها مسك يخرج من أصلها أنها الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة فبينما هم في مجلسهم إذا أتتهم الملائكة من ربهم يقودون لجامها مزمومة بسلاسل من ذهب وجوهها كالمصابيح حسنا ووبرها كخز المرعزي من لينة، عليها رحال ألواحها من ياقوت ودفوفها من ذهب وثيابها مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ فيفتحونها ويقولون: إنّ ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه. قال: فيركبونها فهي أسرع من الطائر وأوطأ من الفراش نجبا من غير مهنة يسير الرجل إلى
جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه لا تصيب اذن راحلة منها إذن صاحبتها حتى إنّ الشجرة لتنتحي عن طرقهم فهم لا يفرقون بين الرجل وبين أخيه، قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه فإذا رأوه، قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام وأنت الجلال والإكرام، ويقول تبارك وتعالى عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي مرحبا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري، قال: فيقولون ربنا لم نعبدك حق عبادتك ولم نقدّرك حق قدرك فأذن لنا في السجود قدامك، قال: فيقول الله عزّ وجلّ: إنها ليست بدار نصب وعبادة ولكنها دار ملك ونعيم وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم فإنّ لكل رجل منكم أمنيته، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية يقول: رب يتنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها فأتني مثل كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت. فيقول الله عزّ وجلّ: لقد قصرت بك أمنيتك ولقد سألت دون منزلتك هذا لك منّي وسألحقك بمن أتى، لأنه ليس في عطائي تكدير ولا تصدير. قال: ثم يقول: أعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال، فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أما نبيهم التي في أنفسهم فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منهم سرير من ياقوتة واحدة على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة. في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين وعلى كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلّا وهو فيهما ولا ريح طيب إلّا وقد عبق بهما ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظنّ من يراهما أنهما دون القبة يرى مخهما من فوق سقفهما، كالسلك الأبيض من ياقوتة حمراء. يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ويرى هو لهما مثل ذلك ثم يدخل إليهما فيطيبانه ويقبلانه ويعانقانه «1» ويقولان له: والله ما ظننا أنّ الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له «2» . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: ف طُوبى لَهُمْ شجرة أصلها في دار علي في الجنة، وفي دار كل مؤمن منها غصن يقال له طُوبى. وَحُسْنُ مَآبٍ حسن المرجع. وروى داود بن عبد الجبار عن جابر عن أبي جعفر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ.
[سورة الرعد (13) : الآيات 30 إلى 34]
فقال: «شجرة أصلها في داري وفرعها في الجنة» . ثم سئل عنها مرة أخرى. فقال: «شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة» . فقيل له: يا رسول الله نسألك عنها مرة فقلت: «شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة» فقال: ذلك في داري ودار علي أيضا واحدة في مكان واحد» [149] «1» . [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) كَذلِكَ المكان أَرْسَلْناكَ يا محمد فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ليقرأ عليهم القرآن وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ. قال قتادة ومقاتل وابن جريح: نزلت في صلح الحديبية حتى أرادوا كتاب الصلح. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي (رضي الله عنه) : «اكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» [150] «2» . فقال سهيل بن عمرو والمشركون معه: ما نعرف الرحمن إلّا صاحب اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون. ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. فقال المشركون وقريش: لئن كتب رسول الله بم قاتلناك وصددناك قال فأمسك ولكن اكتب هذا ما صالح محمد ابن عبد الله. فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: دعنا نقاتلهم. قال: لا ولكن اكتبوا كما تريدون، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ» [151] «1» فقالوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال: قُلْ لهم يا محمد: إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ ومضى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية نزلت في نفر من مشركي مكة فيهم أبو جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي أمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فقال له عبد الله بن أبي أمية: إن تشرك نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تفتح. فإنها ضيّقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال يسبح لربه، أو سخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليه أمورنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا. فقد كان سليمان سخرت له الريح، فكما حملت لنا فلست بأهون على ربك من سليمان في داود. وأحيي لنا جدك أيضا ومن شئت من موتانا لنسأله أحق ما يقول أم باطل؟ فإنّ عيسى قد كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وأذهبت عن وجه الأرض أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا. أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى واختلفوا في جواب لو، فقال قوم: هذا من النزول المحذوف الجواب اقتضى بمعرفة سامعه مراده وتقدير الآية لكان هذا القرآن. كقول امرئ القيس: فلو أنها نفس تموت بتوبة ... ولكنها نفس بقطع النفسا يعني لهان عليّ، وهي آخر بيت في القصيدة. وقال آخر: فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مرفعا «2» فأراد أرددناه، وهذا معنى قول قتادة. لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وقال آخرون: جواب لو يقدم وتقدير الكلام وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ... وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ الآية كأنه قال وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى لكفروا بالرحمن وبما آمنوا. ثم قال: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا.
قال المفسرون: أفلم يعلم. وقال الكلبي: هي بلغة النخع «1» حي من العرب. وقال القاسم معن: هي لغة هوازن. وقال سحيم بن وثيل الرياحي «2» : أقول لهم بالشعب إذ يسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم «3» أراد ألم يعلموا، وقوله: هاد يسرونني أي يقتسمونني من الميسر كما يقتسم الجزور. ويروى: لمسرونني من الأسر. وقال الآخر: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا «4» ودليل هذا التأويل قراءة ابن عباس: أفلم يتبين، وقيل لابن عباس: المكتوب «أَفَلَمْ يَيْأَسِ» قال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس «5» . وأما الفراء: فكان ينكر ذلك ويزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول: يئست وهو يقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعا يئست بمعنى علمت متوجه إلى ذلك، وذلك أنّ الله تعالى قد أوحى إلى المؤمنين أنه لو شاء الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً. فقال ألم ييئسوا علما يقول ييأسهم العلم فكان العلم فيه مضمرا كما يقول في الأعلام يئست منك أن لا يفلح علما كأنه قول علمته علما. قال الشاعر: حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا ... غضفا دواجن قافلا اعصامها «6» بمعنى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن إلّا الذي ظهر لهم أرسلوا فهو في معنى: حتى إذا علموا أن ليس وجه إلّا الذي رأوا وانتهى علمهم فكان ما سواه يأسا «7» .
أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من كفرهم وأعمالهم الخبيثة قارِعَةٌ داهية ومصيبة وشديدة تقرعهم من أنواع البلاء والعذاب أحيانا بالجدب وأحيانا بالسلب وأحيانا بالقتل وأحيانا بالأسر. وقال ابن عباس: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبعثهم إليها أَوْ تَحُلُّ أي تنزل أنت يا محمد بنفسك قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ. وقال قتادة: هي تاء التأنيث يعني وتحل القارعة قريبا من دارهم حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الفتح والنصر وظهور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودينه، وقيل يعني القيامة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أصلهم واطلب لهم ومنه الملاوة والملوان ويقال طبت حينا، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ عاقبتهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ. أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أي حافظها ورازقها وعالم بها ومجاز بها ما عملت، وجوابه محذوف تقديره: كمن هو هالك بائد لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئا ولا يدفع «1» عن نفسه، نظيره قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ يعني كمن ليس بقانت وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ بيّنوا أسماءهم ثم قال: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ يعني يخبرون الله بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ فإنه لم يعلم لنفسه شريكا ولا في الأرض إلها غيره أَمْ بِظاهِرٍ يعني بظاهر مِنَ الْقَوْلِ مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له ولا باطل صالح ولا حاصل وكان أستاذنا أبو الاقسم الحبيبي يقول: معنى الآية عندي: قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر من القول يعلمه؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه أحالوا، وإن قالوا: بظاهر يعلمه قل لهم سموهم «2» ، وبينوا من هم، فإن الله لا يعلم لنفسه شريكا، ثم قال: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ كيدهم. قال مجاهد: قولهم! يعني شركهم وكذبهم على الله. وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وصرفوا عن الدين والطريق المستقيم. قرأ أهل الكوفة: بضم الصاد واختاره أبو عبيد بأنه قراءة أهل السنة: وفيه إثبات القدر. وقرأ الباقون: بالفتح، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «3» وقوله وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «4» وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «5» ... وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يعني إياه فَما لَهُ مِنْ هادٍ موفق لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
[سورة الرعد (13) : الآيات 35 إلى 40]
بالقتل والأسر وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أشد وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ مانع يمنعهم من العذاب. [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 40] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ في دخولها اختلفوا في الرافع للمثل. فقال الفراء: هو ابتداء وخبر على قوله تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقيل معنى المثل الصفة كقوله وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «1» أي الصفة العليا وقوله ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ «2» ومجاز الآية صفة الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أنّ الأنهار تجري من تحتها وكذا وكذا. وقيل مثل وجه مجازها الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، والعرب تفعل هذا كثيرا بالمثل والمثل كقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «3» أي ليس هو كشيء. وقيل معناه: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى «4» . قيل الجنة [بدل] منها. قال مقاتل: معناه شبه الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ في الخير والنعمة والخلود والبقاء كشبه النار [في العذاب و] الشدّة والكرب «5» . أُكُلُها دائِمٌ لا ينقطع ولا يفنى وَظِلُّها ظليل لا يزال وهذا رد على الجهمية، حيث قالوا: إن نعيم الجنة يفنى تِلْكَ عُقْبَى يعني ما فيه الَّذِينَ اتَّقَوْا الجنة وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني القرآن وهم أصحاب محمد يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني الكفار الذين كذبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم اليهود والنصارى
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وذلك أنهم آمنوا بسورة يوسف وقالوا إنها واطأت كتابنا وهذا قول مجاهد وقتادة. وقال باقي العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدء ما أنزل فلما أسلم عبد الله ابن سلام وأصحابه: ساءهم قلّة ذكر الرحمن في القرآن لأن ذكر الرحمن في التوراة كثير فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك قوله الله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية. فقالت قريش حين نزلت هذه الآية: ما بال محمد كان يدعو إلى إله واحد فهو اليوم يدعو إلى إلهين: الله والرحمن، ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ وهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وفرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن فأنزل الله وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الله من ذكر الرحمن وَمِنَ الْأَحْزابِ يعني مشركي قريش من يذكر بعضه «1» . قال الله قُلْ يا محمد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ مرجعي وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وكما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد وأنكره الأحزاب، كذلك أيضا أنزلنا الحكم والدين حُكْماً عَرَبِيًّا وإنما وصفه بذلك لأنه أنزل على محمد وهو عربي، فنسب الدين إليه إذ كان منزلا عليه فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا، وقال قوم معنى الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغناهم كذلك أنزلنا عليك القرآن حُكْماً عَرَبِيًّا ثم توعده على إتباع هوى الأحزاب فقال وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ قيل بما شاء الله، وقيل في أهل القبلة لأنّه ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ فجعلناهم بشرا مثلك وَجَعَلْنا لَهُمْ ينكحوهن وأولاد ينسلوهم ولم يجعلهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحوهن، فنجعل الرسول إلى قومك ملائكة ولكن أرسلنا إلى قومك بشرا مثلهم كما أرسلنا إلى من قبلهم من الأمم بشرا مثلهم وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وهذا جواب عبد الله بن أبي أمية ثم قال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ لكل أمر أمضاه الله كان قد كتبه لجميع عبيده، الضحاك: معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل ووقت ينزل فيه وهذا من المقلوب يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ. قرأ حميد وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: وَيُثْبِتُ بالتخفيف. وقرأ الآخرون: بالتثقيل واختاره أبو عبيد لكثرة من قرأها ولقوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا «2» . واختلف المفسرون في معنى الآية، فروى نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ إلّا الشقاوة والسعادة والموت» [152] «3» .
وعن ابن عباس قال: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ إلا أشياء: الخلق والخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. عكرمة عنه هما كتابان سوى أم الكتاب يَمْحُوا اللَّهُ فهما ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ الذي لا يغير منه شيء. أبو صالح والضحاك: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب وَيُثْبِتُ ما فيه ثواب وعقاب «1» . وروى عفان عن همام عن الكلبي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ. قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه. قلت من حدثك؟ قال أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فقدم الكلبي بعد فسئل عن هذه الآية فقال: حتى إذا كان يوم الخميس يطرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب. مثل قولك أكلت، شربت، دخلت، خرجت ونحوها من الكلام وهو صادق، وَيُثْبِتُ ما كان فيه الثواب وعليه العقاب «2» . وقال بعضهم: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ كل ما يشاء [من] «3» غير استثناء كما حكى الكلبي عن راذان عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وسلم) . روى أبو عثمان النهدي: أنّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان يطوف بالبيت السبت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فإن كنت كتبت عليّ الذنب والشقوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب «4» . ابن مسعود: إنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وروى حماد بن أبي حمزة عن إبراهيم: أن كعبا قال لعمر (رضي الله عنه) : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وما هو؟ قال: قول الله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ «5» .
وروى عطية عن ابن عباس: في هذه الآية قال: هو الرجل يعمل للزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت الرجل الذي عمل بطاعة الله وقد كان يقول: خير أمتي يموت وهو في طاعة الله، فهو الذي يثبت «1» . قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) : يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من القرون وَيُثْبِتُ ما يشاء منها كقوله كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ «2» وقوله ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ «3» . سعيد بن جبير وقتادة: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله وَيُثْبِتُ ما يشاء وما ينسخه. الحسن: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يعني آجال بني آدم في كتاب يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من جاء أجله فيذهب به وَيُثْبِتُ من لم يجيء أجله إلى أجله. مجاهد وابن قيس: حين ما أنزل ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ «4» ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرع من أمره. فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعدا لهم أي إن يشاء أحدثها من أمر. قاله بأشياء ويحدث في كل رمضان فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فيمحوا ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وينسئهم له «5» . محمد بن كعب القرظي: إذا ولد الإنسان. أثبت أجله ورزقه وإذا مات محى أجله ورزقه. وروى سعيد بن جبير: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من ذنوب عباده فيغفرها وَيُثْبِتُ ما يشاء بتركها فلا يغفرها. عكرمة: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني بالتوبة جميع الذنوب وَيُثْبِتُ بدل الذنوب حسنات فإنه إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «6» . وروى عن الحسن أيضا: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني الآباء وَيُثْبِتُ يعني الأبناء. السدي: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ يعني القمر وَيُثْبِتُ يعني الشمس. بيانه قوله: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً «7» .
[سورة الرعد (13) : الآيات 41 إلى 43]
ربيع: هذا في الأرواح في حال النوم يقبضها عند النوم فمن أراد موته محا وأمسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه. بيانه قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «1» . وقيل: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ الدنيا وَيُثْبِتُ الآخرة. وروى محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه آخر غيره، فيمحو ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ما يشاء» [153] «2» . ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة جنانها رمان من ياقوت ولله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو منها ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. قال قيس بن عباد: العاشر من رجب هو يوم يَمْحُوا اللَّهُ فيه ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ يعني اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل. قال قتادة والضحاك: حلية الكتاب وأصله فيه ما يمحو ويثبت. فسأل ابن عباس كذا عن أم الكتاب. قال: يعلم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه: كن كتابا فكان كتابا «3» وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك ذلك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الذي عليك [أن تبلغهم] وَعَلَيْنَا الْحِسابُ والجزاء. [سورة الرعد (13) : الآيات 41 الى 43] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) أَوَلَمْ يَرَوْا يعني أهل مكة الذين يسألون محمدا الإيمان أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نقصدها
نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يفتحها لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم أرضا بعد أرض حوالي أرضهم فلا يخافون أن نفتح أرضهم كما فتحنا له غيرها، وبنحو ذلك قال أهل التأويل. روى صالح بن عمرو عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال: ظهور المسلمين على المشركين. وروى وكيع عن سلمة بن سبط عن الضحاك قال: ما تغلب عليه محمد صلّى الله عليه وسلّم من أرض العدو. جبير عن الضحاك قال: أو لم ير أهل مكة إنا نفتح لمحمد ما حوله من القرى. وروى إسحاق بن إبراهيم السلمي عن مقاتل بن سليمان قال: الْأَرْضَ مكة ونَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها غلبة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عليها وانتقاصهم وازدياد المسلمين. فكيف لا يعتبرون! وقال قوم: معناه أو لم يروا إلى الأرض نَنْقُصُها أفلا تخافون إن جعل بهم وبأرضهم مثل ذلك فيهلكهم ويخرب أرضهم. ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: خراب الأرض وقبض أهلها. يزيد الخوي عن عكرمة قال: يعني قبض الناس. وقال: لو نقصت الأرض لصارت مثل هذه وعقد بيده سويتين. عثمان بن السنّاج عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قال: موت أهل الأرض. طلحة بن أبي طلحة القناد عن الشعبي: قبض الأنفس والثمرات. علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: نقصان أهلها وتركها. عثمان بن عطاء عن أبيه: قال ذهاب علمائها وفقهائها. قال الثعلبي: أخبرنا أبو علي بن أحمد الفقيه السرخسي قال: حدثنا أبو لبيد بن محمد بن إدريس البسطامي حدثنا سعد بن سعيد حدثنا أبي حدثنا أبو حفص عن محمد بن عبد الله عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا العلم قبل أن يذهب» [154] «1» . قلنا: وكيف يذهب العلم والقرآن بين أظهرنا قد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نقرأه ونقرئه أولادنا فأنصت ثم قال هل ظلت اليهود والنصارى الا والتوراة بين أظهرهم ذهاب العلم ذهاب العلماء.
وحدثنا الأستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظا في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة في آخرين. قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو ضمرة وأنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» [155] «1» . وحدثنا أبو القاسم أخبرنا محمد بن أحمد بن سعيد حدثنا العباس بن حمزة حدثنا [.........] «2» السدي حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجنيد عن أبي الدرداء أنه قال: يا أهل حمص مالي أرى أنّ علماؤكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون، فأراكم قد أقبلتم على ما يكفل لكم، وضيعتم ما وكلتم به اعلموا قبل أن يرفع العلم فإن رفع العلم ذهاب العلماء «3» . وأخبرنا أبو القاسم حدثنا عبد الله بن المأمون بهرات حدثنا أبي حدثنا خطام بن الكاد بن الجراح عن أبيه عن جويبر عن الضحاك قال: قال علي (رضي الله عنه) : إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد. حدثنا أبو القاسم حدثنا أبي حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد الرازي الزعفراني حدثنا عمر بن مدرك البلخي، أبو حفص حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا هشام بن حيان عن الحسين قال: قال عبد الله بن مسعود: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار. ومنه عن الرازي حدثنا عمرو بن تميم الطبري. أخبرنا محمد بن الصلت. حدثنا عباد بن العوام عن هلال عن حيان قال: قلت لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك علمائهم، ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء عليهم السلام. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا راد لحكمه، والمعقب في كلام العرب الذي يكرّ على الشيء ويتبعه «4» .
قال لبيد: حتى تهجر في الرواح وهاجه ... طلب المعقب حقه المظلوم «1» وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ. وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني من قبل مشركي مكة فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يعني له أسباب المكر وبيده الخير والشر وإليه النفع والضر فلا يضر مكر أحد أحدا إلّا من أراد الله ضره، وقيل: معناه له جزاء إليكم. يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ ... سَيَعْلَمُ: قرأ ابن كثير وأبو عمر: الكافر على الواحد، والباقون على الجمع. لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدار الآخرة ممن يدخلون النار ويدخل المؤمنون الجنة وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إني رسوله إليكم، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أيضا يشهدون على ذلك. هم مؤمنو أهل الكتاب. وقرأ الحسين وسعيد بن جبير: وَمِنْ عِنْدِهِ بكسر الميم والدال. عُلِمَ الْكِتابُ مبني على «2» الفعل المجهول. وروى أبو عوانة عن أبي الخير قال: قلت لسعيد بن جبير وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أهو عبد الله بن سلام؟ قال: كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية. وكان سعيد يقرأها وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ، ودليل هذه القراءة قوله وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً «3» وقوله الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ «4» . وأخبرنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بابويه أخبرنا أبو رجاء محمد بن حامد بن محمد المقرئ بمكة حدثنا محمد بن حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأها وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ. وبه عن السمري حدثنا أبو توبة عن الكسائي عن سليمان عن الزهري عن نافع عن ابن عمر قال: قال: وذكر الله أشدّ فذكر إنه حيث جاء إلى الدار ليسلم سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتابُ بكسر الميم وسمعه في الركعة الثانية يقرأ بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ الآية. أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي حدثنا القاضي الحسين بن محمد بن عثمان
النصيبي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السميعي بحلب حدثني الحسين بن إبراهيم بن الحسين الجصاص. أخبرنا الحسين بن الحكم حدثنا سعيد بن عثمان عن أبي مريم وحدثني بن عبد الله ابن عطاء قال: كنت جالسا مع أبي جعفر في المسجد فرأيت ابن عبد الله بن سلام جالسا في ناحية فقلت لأبي جعفر: زعموا أنّ الذي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ عبد الله بن سلام. فقال: إنما ذلك علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) . وفيه عن السبيعي: حدثنا عبد الله بن محمد بن منصور بن الجنيد الرازي عن محمد بن الحسين بن الكتاب. أحمد بن مفضل حدثنا مندل بن علي عن إسماعيل بن سلمان عن أبي عمر زاذان عن ابن الحنيفة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ قال: هو علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) «1» .
سورة إبراهيم (ع)
سورة إبراهيم (ع) كلها مكية غير آيتين وهما قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا «1» . إلى قوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ «2» نزلتا في قتلى بدر وأسرائهم، [مكية] وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا وثمانمائة وإحدى وثلاثون كلمة في إثنتين وخمسون آية. أخبرنا أبو الحسين بن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، أحمد بن يونس اليربوعي عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير عن يزيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة إبراهيم والحجر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها» [156] «3» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 إلى 8]
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) الر ابتدأ كِتابٌ خبره وإن قلت هذا كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا محمد يعني القرآن لِتُخْرِجَ النَّاسَ لتدعوهم [إليه] «1» مِنَ الظُّلُماتِ الضلالة والجهالة إِلَى النُّورِ العلم والإيمان بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتوفيق ربهم إياهم ولطفه بهم «2» إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. قرأ أهل المدينة والشام: اللَّهُ، برفع الهاء على الاستئناف وخبره: «الَّذِي» وقرأ الآخرون: بالخفض نعتا ل الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. وقال أبو عمر: بالخفض على التقديم والتأخير، مجازه: إلى صراط الله العزيز الحميد الله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. كقول القائل مررت بالظريف عبد الله لو كنت ذا نبل وذا شريب ... ما خفت شدات الخبيث الذيب «3» وكان يعقوب بن إسحاق الحضرمي إذا وقف على الْحَمِيدِ رفع قوله اللَّهِ وإذا وصل خفض على النعت «4» وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ. الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ يختارون الحياة الدنيا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويضربون ويميلون الناس عن دين الله وَيَبْغُونَها عِوَجاً ويطلبونها زيغا وقيلا، والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض كلا لم يكن قائما. والعوج بفتح العين في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ بلغتهم ليفهموا لبنية، بيانه قوله لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بالدعوة وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ. قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة: بنعم الله. قال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة وما كان في أيام الله الخالية من النقمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه لأنها كانت معلومة عندهم. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 إلى 17]
قال أهل المعاني: أراد لكل مؤمن لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين وأفعالهم إلى قوله تعالى وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ. قال الفراء: العلّة الجالبة لهذه الواو إن الله تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله وَيُذَبِّحُونَ ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يتركونهن حبالى لأنفسهنّ ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم» [157] «1» أي دعوا شبانهم أحياء وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي أعلم ودليله قراءة عبد الله بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد. لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمتي وآمنتم وأطعتم لَأَزِيدَنَّكُمْ في النعمة قال ابن عيينة: الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن، وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمتي فصددتموها ولم تشكروها. إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ إلى قوله فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن خلقه حَمِيدٌ محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 17] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ يعني من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود. وكان ابن مسعود يقرأها: وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ثم يقول كذب النسابون جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ. قال ابن مسعود: يعني عضوا على أيديهم غيظا. قال ابن زيد وقرأ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «1» . ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم. مجاهد وقتادة: كذبوا الرسل وردّوا ما حلوا به. الأخفش وأبو عبيدة: أي تركوا ما أمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا. تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت: قد ردّ يده في فيه. قال القيسي: إنا لم نسمع واحدا من العرب يقول ردّ يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفا وغيظا. كقول الشاعر: تردون في فيه غش الحسود «2» يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر وقال الهذلي: قد أفنى أنامله أزمة ... فأضحى يعض على الوظيفا «3» الوظيف يعني الذراع والساق، واختار النحاس هذا القول لقوله تعالى وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «4» . وأنشد لو أن سلمى أبصرت تخددي ... ودقة في عظم ساقي ويدي وبعد أهلي وجفاء عودي ... عضت من الوجد بأطراف اليد «5»
قال الكلبي: يعني من الأمم ردّوا بأيديهم إلى أفواههم أي في أفواه أنفسهم إشارة إلى الرسل إن اسكتوا. مقاتل: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك وَقالُوا يعني الأمم للرسل، إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ موجب الريبة موقع للتهمة قالَتْ رُسُلُهُمْ إلى قوله تعالى مِنْ ذُنُوبِكُمْ من تعجله وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب قالُوا الرسل إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بينة على صحة دعواكم، والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «1» وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ «2» فصحة قوله إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ «3» بهذا وقوله: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «4» . قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة والحكمة إلى قوله وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا بيّن لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة، وَلَنَصْبِرَنَّ اللام للقسم مجازه لنصبرن عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله تعالى فِي مِلَّتِنا يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي مقامه وقيامه بين يدي، فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك، وسوف رويتكك أي برويتي إياك. قال الله وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «5» أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له، مثاله قوله أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «6» . وقال الأخفش: ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي عذابي. وَخافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا واستنصروا الله عليها «7» . قال ابن عباس ومقاتل: يعني الأمم، وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل
صادقين فعذبنا، نظيره قوله تعالى ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «1» وقالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «2» الآية. وقال مجاهد وقتادة: يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوّهم ودعوا على قومهم بالعذاب. بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مجاهد: معاند للحق ويجانبه. وقال إبراهيم: الناكب عن الحق. ابن عباس: المعرض. وقتادة: العنيد الذي لا يقول لا إله إلّا الله. مقاتل: المستكبر. ابن كيسان: الشامخ بالحق. ابن زيد: المخالف للحق. والعرب تقول: شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره، المريد العاصي، ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه «3» . وقال أهل المعاني: المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية. قال الشاعر: إذا نزلت فاجعلوني وسطا ... إني كبير لا أطيق العندا «4» مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني أمامه وقدامه كما يقال: إن الموت من ورائك. قال الله وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «5» . قال الشاعر:
أتوعدني وراء بني رياح ... كذبت لتقصرن يداك دوني «1» أي قدامهم. أبو عبيدة: من الأضداد. وقال الأخفش: هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأتيك وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه «2» . وقال الشاعر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب «3» وقال بعضهم إنما يجوز هذا في الأوقات لأن الوقت يمر عليك فيصير إن أخرته خلفك. مقاتل: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ يعني بعده. وكان أستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول: الأصل في هذا أنّ كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو [....] «4» ، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ ثم بين ذلك لنا فقال صَدِيدٍ وهو القيح والدم. قتادة: هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه. محمد بن كعب والربيع بن أنس: هو غسالة أهل النار وذلك ما يسيل من ابن الزنا يسقى الكافر يَتَجَرَّعُهُ يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله لَمْ يَكَدْ يَراها «5» أي لم يرها. قال ابن عباس: لم يحبوه، وقيل لا يحبّونه. وروى أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره. يقول الله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «6» وقال يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ «7» وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 إلى 27]
وقال إبراهيم التيمي: حتى من تحت كل شعرة في جسده. الضحاك: حتى من إبهام رجله. الأخفش: يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتا. وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ولا يخرج نفسه فيستريح. وقال ابن جريج: تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة، نظيره قوله لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى «1» وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ شديد. [سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 27] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ «2» اختلفت النحاة في رفع مثل، قال الفراء: أضاف المثل إلى الكافرين والمثل للأعمال لأن العرب تقدم الأسماء لأنها أعرف ثم تأتي بالخبر الذي يخبر عنه مع صاحبه، ومجاز الآية مثل الذين كفروا بربهم كَرَمادٍ، قوله: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «3» أي أحسن خلق كل شيء وقوله
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «1» معناه يوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة سيئة، في الآية إضمار معناها ولا يمنّ عليك مثل الذين كفروا بربهم، ثم ابتدأ وأخذ يفسره فقال: أعمالهم كَرَمادٍ وإن شئت جعلت المثل صفة فقلت الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح لأن الريح تكون فيه كما يقال يوم بارد وحار لأن البرد والحر يكونان فيه، وليل نائم ونهار صائم. قال الله وَالنَّهارَ مُبْصِراً «2» ويدلّ عليه الليل والنهار. قال الشاعر: يومين غيمين ويوما شمسا «3» وقال الفراء: إن شئت قلت: في يوم في عصوف وإن شئت قلت: في يوم عاصف الريح، تحذف الريح لأنها قد ذكرت قبل ذلك. كقول الشاعر: إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف «4» أراد كاسف الشمس. وقيل هو من نعت الريح غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل (حجر ضب خرب) ونحوه، وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكافر يعني هم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها كما أنّ الرماد الذي فرّقه الريح لا ينتفع به. فذلك قوله لا يَقْدِرُونَ يعني الكفار مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا عَلى شَيْءٍ في الآخرة ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. قرأ أهل الكوفة إلّا عامر: خالق السماوات والأرض على التعظيم «5» . وقرأ الآخرون: خَلَقَ السَّماواتِ على الفصل بِالْحَقِّ قال المفسرون: لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمر عظيم. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يبدلكم أحسن وأفضل وأطوع منكم، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ منيع متعذر وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً خرجوا من قبورهم وظهروا لله جميعا،
الاستقبال فَقالَ الضُّعَفاءُ يعني الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني المتبوعين من القادة إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً جمع تابع مثل حارس وحرس، وقيل: راصد ورصد ونافر ونفر، ويجوز أن يكون تبع مصدرا سمي به أي كنا ذوي تبع «1» . فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي هل أنتم ودافعون عذاب الله عنا، قال المتبوعين قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ إلى قوله مِنْ مَحِيصٍ مهرب ولا منجى، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى الإسم. يقال حاص فلان عن كذا أي فرّ وزاغ عنه يحيص حيصا وحيوصا وحيصانا. قال مقاتل: إنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع. يقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فحينئذ يقولون سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ. وَقالَ الشَّيْطانُ يعني إبليس لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الأمر فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. قال مقاتل: يوضع له منبر من نار فيرقاه ويجتمع الكفار عليه بالأئمة إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ يوفى لكم وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ولاية ومملكة وحجة وبصيرة إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ هذا من الاستثناء المنقطع مجازه لمن يدعونكم فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان وغير برهان ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ بمعينكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بمغنيّ وبمغيثي. قرأه العامة: بِمُصْرِخِيَّ بفتح الياء. وقرأ الأعمش وحمزة: بكسر الياء، والأصل فيه بمصرخيين فذهبت النون لأجل الإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، فمن نصب فلأجل التضعيف ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر لأن الياء أخت الكسرة «2» إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ به مِنْ قَبْلُ أي لا يمكن أن أكون شريكا لله فيما أشركتموني به من طاعتكم إياي واستهزأت من ذلك إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين الواضعين للعباد الطاعة في غير موضعها لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. روى عتبة بن عامر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة قال: يقول عيسى (عليه السلام) : ذلكم النبي الأمي فيأتونني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي فيشفّعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي. ثم يقول الكفار: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ فيقولون: ما هو غير
إبليس هو الذي أضلنا فيأتون فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا قال: فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم فيقول عند ذلك إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ «1» . ... وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله فِيها سَلامٌ يسلم الله ويسلم الملائكة عليهم أَلَمْ تَرَ يا محمد يعني فإن الله يعلم بإعلامي إياك كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً يعني ما بين الله شبهها كلمة طيبة شهادة أن لا إله إلّا الله كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهي النخلة يدل عليه حديث عتيب الحجاب قال: كان أبو العالية أميني فأتاني يوما في منزلي بعد ما صليت الفجر فانطلقت معه إلى أنس بن مالك فدخلت عليه فجيء بطبق عليه رطب. فقال أنس: كل يا أبا العالية فإنّ هذه من الشجرة التي قال الله في كتابه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ. ثم قال أنس أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقناع بسر، فقرأ «2» هذه الآية ، ومعنى الآية: كشجرة طيبة الثمرة، فترك ذكر الثمرة استغناء بدلالة الطعام عليه. وقال أبو ظبيان عن ابن عباس: هذه شجرة في الجنة أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض وَفَرْعُها عال فِي السَّماءِ كذلك أصل هذه الكلمة راجع في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق والإخلاص. وإذا تكلم بالشهادة تذهب في السماء فلا يكتب حتى ينتهي إلى الله تعالى. قال الله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ. وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ لله عمودا من نور أسفله تحت الأرض السابعة ورأسه تحت العرش، فإذا قال العبد أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله اهتز ذلك العمود، فيقول الله عزّ وجلّ: اسكن، فيقول: كيف أسكن؟ ولم تغفر لقائلها فيقول الرب: قد غفرت له فيسكن عند ذلك» [158] . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أكثروا من هز ذلك العمود» [159] «3» . تُؤْتِي أُكُلَها تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ اختلفوا في الحين. فقال مجاهد وعكرمة وابن زيد: كل سنة. قال عكرمة: أرسلت إلى عمر بن عبد العزيز إني نذرت أن أقطع يد رجل من هكذا سنة وحينا، ما عندك فيه. قال ابن عباس: فقلت له: لا تقطع يده واحبسه سنة «4» .
إنّ ابن عباس يقول: الحين حينان حين يعرف ويبدل وحين لا يعرف. فأما الحين الذي لا يعرف وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ «1» وأما الذي يعرف تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ فهو ما بين العام إلى العام المقبل. فقال: أصبت يا مولى ابن عباس وأحسنت «2» . وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن: كل ستة أشهر ما بين عرامها «3» إلى حملها. وروى طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن رجل حلف ألّا يكلم أخاه حينا فقال: الحين سبعة أشهر، وقرأ هذه الآية. فقال سعيد بن المسيب: الحين شهران لأن النخلة لا يكون فيها أكلها إلّا شهرين. وقال الربيع بن أنس: كُلَّ حِينٍ كل غدوة وعشية، كذلك يصعد عمل المؤمن عن أول النهار وآخره، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس. قال الضحاك: كل ساعة ليلا ونهارا، شتاء وصيفا يؤكل في جميع الأوقات. كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها «4» . وقرأ أبو الحكم في تمثيل الله الإيمان بالشجرة فهي أن الشجرة لا تكون شجرة إلّا بثلاثة أشياء عود راسخ وأصل قائم وفرع عال. كذلك الإيمان لا يتم ولا يقوم إلّا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان. يدل عليه ما روى جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإيمان» [160] . لحميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن مثل هذا الدين مثل شجرة ثابتة، الإيمان أصلها، والزكاة فرعها، والصيام عروقها، والداعي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم الله خضرتها، فكما لا- يكمل هذه الشجرة إلّا بثمر طيبة، لا يكمل الإيمان إلّا بالكف عن محارم الله» [161] «5» . والحكمة في تشبهها إياه بالحنطة من بين سائر الأشجار أنها لما كانت أشبه الأشجار بالإنسان شبهت به وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت بالغصون عن جوانبها والنخلة إذا
قطع رأسها يبست وذهب أصلها ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوانات في الإلقاح لأنها لا تحمل حتى يلقح. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير المال سكة مأبورة ومهدة مأمورة» [162] «1» . ومنه حديث ابن عمر: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم لأصحابه: «إن شجرة من الشجر لا يطرح ورقها وهي مثل المؤمن فأخبرني ما هي؟» قال: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت وسكت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي النخلة» [163] فذكرت ذلك لأبي فقال: يا بني لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من فضلة لأنها من شجرة آدم «2» . يروى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكرموا عمتكم» فقيل ومن عمتنا يا رسول الله؟ قال: «النخلة» [164] «3» وذلك أنّ الله تعالى لما خلق آدم فصلت من طينه فصلة فخلق منها النخلة قال الله: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الشرك كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظلة. قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض. اجْتُثَّتْ اقتلعت. قال ابن عباس، والسدي: استرخت. الضحاك: استوصلت. المؤرخ: أخذت حيث ما هي يقينا مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ يحقق الله إيمانهم وأعمالهم بالقول والتثبيت، وهو شهادة أن لا إله إلّا الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ يعني في القبر، وقيل: فِي الْحَياةِ في القبر عند الله تعالى وَفِي الْآخِرَةِ إذا بعث. مقاتل: ذلك أنّ المؤمن إذا مات بعث الله إليه ملكا يقال له: رومان فيدخل قبره فيقول له: إنه يأتيك الآن ملكان أسودان فيسألانك من ربك ومن نبيك وقادتك فأجبهما بما كنت عليه في حياتك، ثم يخرج فيدخل الملكان وهما منكر ونكير أسودان أزرقان فظان غليظان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالريح العاصف معهما مهزبة، فيقعدان ويسألانه لا يشعران بدخول رومان فيقول ربي الله ونبيي محمد وديني الإسلام، فيقولان له عند الله سعيد ثم يقولان: اللهم فأرضه كما أرضاك، ويفتح له في قبره باب من الجنة يأتيه منها التحف، فإذا انصرفا عنه قال له: نم
نومة العروس، فهذا هو التثبيت وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني يلعنهم وذلك أنّ الكافر إذا دخل عليه الملكان قالا له: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ قال: لا أدري. قال له: لا دريت ولا هديت عشت عصيا ومتّ شقيا، ثم يقولان له نم نومة المنهوس ويفتح من قبره باب من جهنم ويضربانه ضربة بتلك المرزبة فيشهق شهقة يسمعها كل حيوان إلّا الثقلان ويعلنه كل من يسمع صوته فذلك قوله وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «1» . روى البراء بن عازب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره، ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد، وينتهرانه ويقولان الثانية من ربك وما دينك ومن نبيك؟ وهو آخر أسئلة الملكان فيثبته الله فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم فينادي مناد في السماء أن ثبت عبدي» [165] «2» فنزل قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الآية. وقال ابن عباس في هذه الآية: إنّ المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته وصلوا عليه مع الناس، فإذا دفن جلس في قبره فيقال له من ربك؟ فيقول ربي الله. فيقال له من رسولك؟ فيقول محمد. فيقال له ما شهادتك؟ فيقول أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله فيوسع له في قبره حد بصره، وذلك قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جنازة فقال: «يا أيها الناس إنّ هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن ويتفرق عنه أحباؤه جاءه ملك بيده مطراق فأقعده فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله. فيقول له: صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له: هذا منزلك كان لو كفرت بربك، فأما إذا آمنت به فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفتح له في قبره، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا كان منزلك لو آمنت بربك، فأما إذا كفرت فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلّا الثقلين» . قال بعض أصحابه: يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلّا هيل جزعا لذلك، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا» الآية [166] «3» .
وقال أبو هريرة: إن الميت يسمع خفق نعالهم حتى يولون عنه مدبرين وإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصيام عن يساره وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف فيصلي الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فيقول للصلاة: أقبلي فتدخل فيؤتى من يمينه فيقول الزكاة اقبلي فتدخل، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام قبلي يدخل صوتي من عند رجليه فيقول فعل الخيرات اقبلي فتدخل، فيقال له: اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دخل الغروب، فيقال له: أخبرنا عما نسألك. فيقول: دعوني حتى أصلي فيقال إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك عنه فيقول وعم تسألونني؟ فيقال أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ما نقول فيه وماذا شهد عليه، فيقول أمحمد؟ فيقال: نعم، فيقول: أشهد إنه لرسول الله قد جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح إليه في قبره سبعون ذراعا وينوّر له فيه، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: أنظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك لو عصيته، فيزداد غبطة وسرورا، ثم يجعل نسمه في النسيم الطيب، وهي طير [خضر] تعلق بشجر الجنة ويعاد جسده إلى ما بدئ منه من التراب، وذلك قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله وَفِي الْآخِرَةِ «1» . وعن أبي نافع قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشي بغدير وأنا أمشي خلفه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا هديت لا هديت ثلاثا» [167] «2» . قال أبو نافع قلت: يا رسول الله مالي؟ قال: ليس إياك أريد، وإنما أريد صاحب هذا القبر، يسأل عني فيزعم أنه لا يعرفني فإذا هو قبر قد رشّ عليه الماء حين دفن صاحبه. وأخبرنا أبو القاسم السلمي عن أبي الطيب محمد بن علي الخياط يقول: سمعت سهيل بن جابر العتكي يقول: رأيت يزيد بن عثمان بعد موته في المنام، فقلت له ما فعل الله بك فقال: إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان فقالا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت لهما ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا وقالا أكتبت عن جرير بن عثمان؟ قلت: نعم. قالا: إنه كان يبغض عليا فأبغضه الله «3» .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 إلى 34]
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً يعني غيّروا نعمة الله عليهم في تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا به وكذبوه فيصيروا نعمة الله عليهم كفرا وَأَحَلُّوا وأنزلوا قَوْمَهُمْ ممن تابعهم على كفرهم دارَ الْبَوارِ الهلاك ثم [ترجم] «1» عن دار البوار ما هي. فقال: جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها وَبِئْسَ الْقَرارُ المستقر. عامر بن واثلة سمعت علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) يقول في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا الآية قال: هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر «2» . قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : هما الأفجران من قريش بني امية، فأما بنو امية فمتعوا إلى حين، وأما بنو مخزوم فاهلكوا يوم بدر «3» . ابن عباس: هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه «4» . وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا قرأ الكوفيون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس عن سبيله، وقرأ الباقون بفتح الياء على اللزوم «5» قُلْ تَمَتَّعُوا عيشوا متاع الدنيا. فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وهذا وعيد. قوله: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ. قال الفراء: «6» جزم: يقيموا بتأويل الجزاء ومعناه الأمر «7» . وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً إلى قوله وَلا خِلالٌ مخالة فيقال خلت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلال وخلّة «8» .
قال امرؤ القيس: صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ... وخلت بمقليّ الخلال ولا قالي «1» اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ إلى قوله الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ. قال ابن عباس: دؤوبهما في طاعة الله. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ متعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئا فحذف الشيء الثاني اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض كقوله وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «2» يعني وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا وقيل هو التكثير نحو قولك: فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس، وأنت تعني بعضهم نظيره قوله فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «3» . وقال بعض المفسرين: معناه وآتاه من كل ما سألتموه وما لم تسألوه «4» ، وهذه قراءة العامة بالإضافة [.........] «5» . وقرأ الحسن والضحاك وسلام: مِنْ كُلٍ، بالتنوين على النفي يعني من كل ما لم تسألوه فيكون ما يجد. قال الضحاك: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها، صدق الله لكم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطرنا ببال «6» . وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لا تطيقوا ذكرها ولا القيام بشركها لا بالجنان ولا باللسان ولا بالبيان إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ لشاكر غير من أنعم عليه واضع الشكر في غير موضعه كَفَّارٌ جحود لنعم الله، وقيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 إلى 41]
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً يعني الحرم مأمونا فيه وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ. أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ويقال جنبته أجنبه جنبا وأجنبته إجنابا بمعنى وأجنبّك وجنّبته تجنيبا. قال الشاعر: وهو أمية بن الأشكر الليثي: وتنفض مهده شفقا عليه ... وتجنّبه فلا يصعي الصّعابا «1» والأصنام جمع صنم وهو التمثال المصور قال الشاعر: وهنانة كالزون يجلي ضمه ... تضحك عن أشنب عذب ملثمه «2» وقال إبراهيم التيمي في قصصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم (عليه السلام) حين يقول: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن وهذا من المغلوب. نظيره قوله الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ «3» أي يخوفكم بأوليائه. فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي على ديني وملتي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قال السدي: معناه وَمَنْ عَصانِي فتاب. مقاتل بن حيان: وَمَنْ عَصانِي فيما دون الشرك. روى عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا قول إبراهيم (عليه السلام) فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وقول عيسى (عليه السلام) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «4» الآية، فرفع يداه ثم قال: اللهم أمتي اللهم أمتي وبكى، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسأله ما بك، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال الله: يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا يسؤك.
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي إنما أدخل: «من» للتبعيض ومجاز الآية أسكنت من ذريتي ولدا بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وهو مكة عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. قتادة: المحرم من المسجد محرم الله فيه، والاستخفاف بحقه، فإن قيل ما وجه قول إبراهيم عِنْدَ بَيْتِكَ وإنما بنى إبراهيم البيت بعد ذلك بمدة، وقيل معناه عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي كان قبل أن يرفعه من الأرض حتى رفعته في أيام الطوفان. وقيل عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي قد مضى في علمك أنه يحدث في هذا البلد. وكانت قصة الآية على ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أم إسماعيل، وإنّ أول ما أحدثت جرّ الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت: إلى من تكلنا، فجعل لا يرد عليها شيئا، فقالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا، فرجعت ومضى [إبراهيم] حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي. فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ الآية «1» . قال: ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي، فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا فلم تسمع شيئا فانحدرت فلما نزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي، فنظرت أيّ الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتا أو ترى أنيسا، فسمعت صوتا، فقالت: كالإنسان الذي يكذب سمعه: صه حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي، فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عينا فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرحم الله أم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عينا معينا ، وقال لها الملك: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتا هذا موضعه. قال: ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال: إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فإذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل «2» ، وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي تفزع وقيل تشتاق إِلَيْهِمْ وهذا دعاء منه (عليه السلام) لهم بأن يرزقهم حجّ بيته الحرام. قال سعيد بن جبير: لو يقال أفئدة الناس تهوى إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ منهم المسلمون. وقال مجاهد: لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند ولكنه أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ... وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ ما رزقت سكّان القرى ذوات المياه لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من جميع أمورنا. وقال ابن عباس ومقاتل من الوجد إسماعيل وأمه حيث أسكنها بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ... وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. قال بعضهم: هذه صلة فولد إبراهيم (عليه السلام) . وقال الآخرون: قال الله عزّ وجلّ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ وهو قول الله عزّ وجلّ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي أعطاني عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. قال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. وقال سعيد بن جبير: بشر إبراهيم بإسحاق بعد اثنتي عشرة ومائة سنة. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أيضا واجعلهم مقيمي الصلاة رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. قال المفسرون: أي عبادتي. نظيره قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الدعاء مخ العبادة» [168] «1» ثم قرأ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي «2» فسمى الدعاء عبادة. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ إن آمنا وتابا، وقد أخبر الله عن عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة. وَلِلْمُؤْمِنِينَ كلهم. قال ابن عباس: من أمة محمّد يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يبدو ويظهر. قال أهل المعاني: أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب عن ذكر الناس إذ كان مفهوما.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 إلى 52]
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. قال ميمون بن مهران: فهذا وعيد للظالم وتعزية المظلوم «1» إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم ويؤخر عذابهم. وقرأه العامة: بالتاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ، وقرأ الحسن والسّلمي: بالنون. لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم قاله الفراء. مُهْطِعِينَ قال قتادة: مسرعين. سعيد بن جبير عنه: منطلقين. عابد بن الأوزاعي وسعيد بن جبير: الإهطاع سيلان كعدو الذئب. مجاهد: مديمي النظر. الضحاك: شدّة النظر من غير أن يطرف، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، الكلبي: ناظرين. مقاتل: مقبلين إلى النار. ابن زيد: المهطع الذي لا يرفع رأسه، وأصل الإهطاع في كلام العرب البدار والإسراع، يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع «2» . قال الشاعر: وبمهطع سرح كأنّ زمامه ... في رأس جذع من أراك مشذب وقال آخر:
بمستهطع رسل كأن جديله ... بقدوم رعن من صوام ممنع «1» وقال آخر: تعبدني نمر بن سعد، وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع «2» مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها. قال القتيبي: المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه، ومنه الإقناع في الصلاة. قال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وأصل الإقناع في كلام العرب رفع الرأس. قال الشماخ يباكرن العضاه بمقنعات ... نواجذهن كالجدا الوقيع «3» يعني برءوس مرفوعات إليها ليتناولها. قال الراجز: أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئا أطمعا «4» لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا يرجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ قال ابن عباس: خالية من كل خير. مجاهد ومرة بن شرحبيل وابن زيد: منخرقة خربة ليس فيها خير ولا عقل، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء: إنما هو هواء. هذه رواية العوفي عن ابن عباس «5» . سعيد بن جبير: تمور في أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه. قتادة: انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أمكنتها. الأخفش: جوفاء لا عقول لها. والعرب تسمي كلّ أجوف نخبا وهواء، ومنه أهواء وهو الخط الذي بين الأرض والسماء. قال زهير يصف ناقه:
كان الرجل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء «1» وقال حبان ألا أبلغ أبا سفيان عنّى ... فأنت مجوف نخب هواء «2» وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ وهو يوم القيامة فَيَقُولُ عطف على يوم يأتيهم وليس بجواب فلذلك وقع الَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا رَبَّنا أَخِّرْنا أمهلنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الدنيا يعني أرجعنا إليها نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ حلفتم مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ فيها أي لا يبعثون، وهو قوله وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «3» ، ... وَسَكَنْتُمْ في الدنيا فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ. قرأه العامة: بالنون. وقرأ عمر وعلي وأبن مسعود: وأبيّ: وإن كان مكرهم ما يزال. لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. قرأه العامة: بكسر اللام الأول وفتح الثانية. وقرأ ابن جريج والكسائي: بفتح الميم الأولى وضم الثانية بمعنى قراءة العامة الزجاج في قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ، أي ما كان مكرهم لتزول. أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسخة لأن الله وعده إظهار دينه على الأديان كلّها، وقيل معناه: كان مكرهم. قال الحسن: إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال، وقال خمس مواضع في القرآن (إن) بمعنى (ما) قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ، وقوله: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ «4» وقوله: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «5» فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «6» وقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ «7» ومن فتح اللام الأولى فعلى استعظام مكرهم «8» .
قال ابن جرير: الاختيار القراءة الأولى لأنها لو كانت قالت لم يكن ثابتة وكان مكرهم ما ذكره علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وغيره قالوا: نمرود الجبار الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقا فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم وربّاها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر «1» ، وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعا في اللحم حتى بعدن في الهواء. قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئا ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال: افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء، والجبال مثل الدخان، وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي: أيها الطاغية أين تريد. قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخا بدم. فقال: كفيت نفسك إله السماء واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ. قال عكرمة: سمكة فدت نفسها لله من بحر في الهواء معلق. وقال بعضهم: من طائر من الطيور أصابه السهم. قالوا: ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بالنصر لأوليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره: ولا يحسبن الله مخلف رسله وعده لأن الخلف يقع بالوعد. يقول الشاعر: ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائر باد إلى الشمس أجمع «2» وقال القتيبي: هو من المقدم الذي يوضحه التأخير والمؤخر الذي يوضحه التقديم، وهو قولك يخلف وعده رسله، ومخلف رسله وعده لأنه الخلف يقع بالوعد كما يقع بالرسل.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وروى عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال: البدل عرض كالفضة نبضا نقية لم يسل فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة «1» . وقال علي (رضي الله عنه) في هذه الآية: الأرض من فضة والسماء من ذهب. وروى سهل بن سعيد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد» [169] «2» . فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه «3» . روى خيثمة عن ابن مسعود قال: تبدل الأرض نارا يصير الأرض كلها يوم القيامة نارا والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد. قال كعب: يصير السماوات جنانا ويصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها. ابن عباس: الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها. ثم أنشد: فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا بالدار الدار التي كنت أعرف «4» وتصديق قول ابن عباس، عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا تَرى فِيها عِوَجاً وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في الثانية في مثل مواضعهم من الأولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها» [170] «5» . وقيل: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ بأرض [بيضاء كالفضة] . الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ أين يكون الناس يومئذ قال: «على الصراط» [171] «6» . وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال: سأل نفر من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟
قال: «هم في الظلمة دون الحشر» [172] «1» . وروى حكيم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم خبر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله عزّ وجلّ في كتابه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف الله فلم يعجزهم ما لديه. وَبَرَزُوا ظهروا وخرجوا من قبورهم لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ المشركين يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ مشدودين بعضهم ببعض، وقيل مقرنين بالشياطين. بيانه قوله احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ «2» وهم الشياطين، فقال ابن زيد: مقرّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال، واحدها صفد والصفاد أيضا القيد وجمعه صفد يقال: صفدته صفدا وأصفادا التكثر، قلت: صفدته تصفيدا. قال عمرو بن كلثوم: فأتوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبناء الملوك مصفدينا «3» سَرابِيلُهُمْ قمصهم واحدها سربال والفعل منه تسربلت وسربلت غيري مِنْ قَطِرانٍ وهو الذي تهنأ به الإبل ويقال له الخضخاض «4» . قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر: قَطْرانٍ بفتح القاف وتسكين الطاء، وفيه لغة ثالثة قطران بكسر القاف وجزم الطاء، ومنه قول أبي النجم: جون كأن العرق المنتوحا ... لبسه القطران والمسوحا «5» وقرأ عكرمة: برواية زيد: قَطْرٍ آنٍ على كلمتين منونتين قَطْرٍ آنٍ والقطر النحاس الصفر المذاب. قال الله آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً «6» والآن الذي انتهى خبره قال الله تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «7» وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ إلى قوله هذا أي هذا القرآن بَلاغٌ تبليغ وعظة لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا حجج الله التي أقامها فيه أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.
سورة الحجر
سورة الحجر مكية، وهي ألفان وسبعمائة وستون حرفا، وستمائة وأربع وخمسون كلمة وتسع وتسعون آية روى حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد» [173] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ يعني وآيات قرآن. رُبَما يَوَدُّ. قرأ عاصم وأهل المدينة: بتخفيف الباء. وقرأ الباقون: بتشديده، وهما لغتان. قال أبو حاتم وأهل الحجاز: يخففون رُبَما. وقيس وبكر وتميم: يثقّلونها وإنما أدخل ما على رب ليتكلم بالفعل بعدها. يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
روى أبو موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة. قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة: ألستم مسلمين؟ قالوا: بلى، قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم شيئا؟ وقد صرتم معنا في النار. قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فغضب الله لهم بفضل رحمته فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار يخرجون منها فحينئذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» [174] «1» وقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: ما يزال الله يدخل الجنة ويرحم ويشفع حتى يقول لمن كان من المسلمين: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فحينئذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يا محمد يعني الذين كفروا يَأْكُلُوا في الدنيا وَيَتَمَتَّعُوا من لذاتها وَيُلْهِهِمُ ويشغلهم الْأَمَلُ عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بما وردوا القيامة ونالوا وبال ما صنعوا فنسختها آية القتال وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي من أهل قرية إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أجل مؤقت قد كتبناها لهم لا يعذبهم ولا يهلكهم حتى يلقوه ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من ملة أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ونظيرها فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «2» وَقالُوا يعني مشركي مكة يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ يعني القرآن وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما هلّا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ شاهدين لك على صدق ما تقول إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. قال الكسائي: لولا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام. ومنه قول ابن مقبل: لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذا عبتما عودي «3» يريد لولا الحياء ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ. قرأ أهل الكوفة: نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بضم النون ورفع اللام، الْمَلائِكَةَ نصبا، واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون: بفتح التاء ورفع اللام في الْمَلائِكَةُ رفعها، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقوله تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ... إِلَّا بِالْحَقِّ بالعذاب ولو نزلت وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من الباطل ومن الشياطين وغيرهم أن يزيدوا فيه وينقصوا منه ويبدلوا حرفا، نظيره قوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «4» الآية.
وقيل بأن الهاء في قوله لَهُ راجعة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء نظيره وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» . وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ في الآية إضمار، مجازها ولقد أرسلنا من قبلك في شيع أمم من الأولين. قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: فرق الأولين وواحدتها شيعة وهي الفرقة والطائفة من الناس وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما فعلوا بك يعزي نبيه صلّى الله عليه وسلّم كَذلِكَ نَسْلُكُهُ يعني كما أسلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء بالرسل في قلوب شيع الأولين كذلك نسلكه أي نجعله وندخله فِي قُلُوبِ مشركي قومك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني حتى لا يؤمنوا بمحمد، وفي هذه الآية ردّ على المعتزلة، فقال سلكه يسلكه سلكا وسلوكا وأسلكه إسلاكا. قال عدي بن زيد: وكنت لزاز خصمك لم أعرّد ... وقد سلكوك في قوم عصيب «2» وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وقائع الله لا من خلا من هكذا في الأمم نخوف أهل مكة. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ يعني ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ... باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عيانا، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، هذا قول ابن عباس وأكثر العلماء «3» . قال الحسن: هذا العروج راجع إلى بني آدم يعني فظل هؤلاء الكافرون فِيهِ يَعْرُجُونَ أي يصعدون ومنه المعراج لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ سدّت أَبْصارُنا قاله ابن عباس، وقال الحسن: سحرت. قتادة: أخذت. الكلبي: أغشيت وعميت. وكان أبو عمرو وأبو عبيدة يقولان: هو من سكر الشراب ومعناه قد عش أبصارنا السكر «4» ، المؤرخ: دير بنا «5» . وقرأ مجاهد وابن كثير: سُكِرَتْ بالتخفيف أي حبست ومنعت بالنظر كما سكر النهر ليحبس الماء بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ سحرنا محمد.
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 إلى 21]
[سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 21] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي قصورا ومنازل وهي كواكب وبروج الشمس والقمر والكواكب السيارة وأسماؤها الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. وَزَيَّنَّاها يعني السماء لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لكن من استرق السمع، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ نار مُبِينٌ بيّن. قال ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا يسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو فيرمي بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله منه فيلتهب فيأتي أصحابه وهو ملتهب فيقول: إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه تسعا فيحدثون بها أهل الأرض الكلمة حق والتسع باطل فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاءوا به من كذبهم «1» . وقال ابن عباس أيضا: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات فكانوا يدخلونها فيأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة بأن ولد عيسى، ومنعوا عن ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السماوات أجمع فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلّا رمي بشهاب، فلما منعوا بتلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال لقد حدث في الأرض حدث. قال: فبعثهم فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن فقالوا: هذا والله حديث وإنهم ليرمون فإذا نوّر النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبدا ولكن لا يقتله بحرق وجهة جنبه ويده، وبعضهم من يخبّله فيصبر حولا، يضل الناس في البوادي. قال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق: إن أول من فزع للرمي بالنجوم حين رما بها هذا الحي من ثقيف، وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأمكرها رأيا فقالوا له: ألم تر ما حدث في السماء في القذف بهذه النجوم؟ قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء؟ لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طيّ الدنيا
وهلاك الخلق الذي فيها، وإن كانت نجوم غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراد الله به هذا في الخلق «1» . وروى عمارة بن زيد عن عبد الله بن العلا عن أبي الشعشاع عن أبيه عن أبي لهب بن مالك قال: حضرت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ذكرت عنده الكهانة فقلت: بأبي أنت وأمي نحن أول من تطوع لحراسة السماء وزجر الشياطين ومنع الجن من استراق السمع عند قذفها بالنجوم، وإنا لما رأينا ذلك اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه ثلاثمائة وستون سنة هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فأنا قد فزعنا وخفنا سوء عاقبتها، فقال لنا: اعدوا عليّ في السحر، ائتوني بسحر أخبركم الخبر إما بخير أو ضرر، قال: فانصرفوا عنه يومنا فلما كان في وقت السحر أتينا فإذا هو قائم على قدميه شاخص بعينيه إلى السماء فناديناه يا خطر فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا فانقض من السماء نجم عظيم وصرخ الكاهن بأعلى صوته: أصابه أصابه خامره عاقبه عاجله عذابه أحرقه شهابه، زايله جوابه، يا ويله ما حاله، تغيرت أحواله «2» . ثم أمسك وطفق يقول يا معشر بني قحطان: أخبركم بالحق والبيان ... أقمت بالكعبة والأركان والبلد المؤتمن السدان ... قد منع السمع عتاة الجان بثاقب بكف ذي سلطان ... من أجل مبعوث عظيم الشان يبعث بالتنزيل والفرقان ... وبالهدى وفاضل القرآن تبطل به عبادة الأوثان قال: فقلت: ويحك يا خطر إنك لتذكر أمرا عظيما فماذا ترى لقومك؟ فقال: أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير بني الإنس برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث في مكة دار الحمس بمحكم التنزيل غير اللبس قال: فقلنا له: من هو وما اسمه وما مدته؟ قال: الحياة والعيش ... إنه لمن قريش ما في حكمه من طيش ... ولا في خلقه هيش ، تكون في جيش وأي جيش ... من آل قحطان وآل أيش ،
والأيش الأخلاط من كل قوم، فقلنا له من أي البطون هو فقال: بطن إسماعيل ولد إبراهيم، فقلنا له بيّن لنا من أي قريش هو؟ قال: والبيت ذي الدعائم ... والسدير والحمائم إنه لمن نسل «1» هاشم ... من معشر أكارم يبعث بالملاحم وقتل كل ظالم ثم قال: الله أكبر الله أكبر جاء الحق وأظهره وانقطع عن الإنس الخبر هذا هو البيان أخبرني به رأس الجان، ثم قال هذا وسكت وأغمي عليه فما أفاق إلّا بعد ثلاثة أيام فلما أفاق قال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله ثم مات. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليحشر يوم القيامة أمة وحده» [175] «2» . وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها على رحبة الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت وَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مقدر معلوم وقيل: بغى به في الجبال وهو جواهر من الفضة والذهب والحديد والنحاس وغيرها حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يوزن وزنا. قال ابن زيد هي الأشياء: التي توزن. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة وَمَنْ لَسْتُمْ يعني ولمن لستم لَهُ بِرازِقِينَ هي الدواب والأنعام. عن شعبة قال: قرأ علينا منصور: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ قال الوحش. قال أبو حسن: «مَنْ» في محل الخفض عطفا على الكاف والميم في قوله لَكُمْ. وقد يفعل العرب هذا كقول الشاعر: هلا سألت بذي الجماجم عنهم ... وأبي نعيم ذي اللوا المخرق فعطف بالظاهر على المكنى و (مَنْ) في هذه الآية بمعنى: ما، كقوله فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ... وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ «3» ... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ وما من شيء من أرزاق الخلق «4» إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ من السماء إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ لكل أرض حد مقدر.
[سورة الحجر (15) : الآيات 22 إلى 27]
قال ابن مسعود: وما من أرض أمطر من أرض، وما عام أمطر من عام ولكن الله يقسمه ويقدره في الأرض كيف يشاء عاما هاهنا وعاما هاهنا ثم قرأ هذه الآية. وروى إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عيينة في هذه الآية: ما من عام بأكثر مطرا من عام ولكن يمطر قوم ويحرم آخرون وربما كان في البحار والقفار قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كل قطرة حيث يقع وما ينبت. جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: «في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر. وهو تأويل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ» [176] «1» . [سورة الحجر (15) : الآيات 22 الى 27] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ قرأ العامّة بالجمع لأنها موصوفة وهو قوله: لَواقِحَ، وقرأ بعض أهل الكوفة: الريح على الواحد وهو في معنى الجمع أيضا وإن كان لفظها لفظ الواحد، لأنه يقال: جاءت الريح من كل جانب، وهو مثل قوله: أرض سباسب وثوب أخلاق، وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتّسع، وقول العلماء في وجه وصف الرياح: باللقح، وإنما هي ملقّحة لأنها تلقح السحاب والشجر. فقال قوم: معناها حوامل لأنها تحمل الماء والخير والنفع لاقحة كما يقال: ناقة لاقحة إذا حملت الولد، ويشهد على هذا قوله: الرِّيحَ الْعَقِيمَ فجعلها عقيما إذا لم تلقح ولم يكن فيها ماء ولا خير، فمن هذا التأويل قول ابن مسعود في هذه الآية قال: يرسل الله الريح فتحمل الماء فيمري السحاب فتدرّ كما تدرّ اللقحة ثمّ يمطر. قال الطرماح: لأفنان الرياح للاقح ... قال منها وحائل «2» وقال الفراء: أراد ذات لقح. كقول العرب: رجل نابل ورامح وتامر. قال أبو عبيدة: أراد ملاقح جمع ملقحة كما في الحديث «أعوذ بالله من كل لامّة» أي ملمّة.
قال النابغة: كليني لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب «1» أي منصب. قال زيد بن عمر: يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قمّا، ثمّ يبعث الله المثيرة فتثير السحاب، ثمّ يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب، ثمّ يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثمّ تلا: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ. وقال أبو بكر بن عياش: لا يقطر قطرة من السحاب إلّا بعد أن تعمل الرياح الأربع فيه: فالصبا تهيّجه، والدبور تلقحه، والجنوب تدرّه، والشمال تفرقه. ويروي أبو المهزم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الريح الجنوب من الجنة وهي الرياح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس» «2» . فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلنا المطر لكم سقيا، ولو أراد أنزلناه ليشربه لقال: فسقيناكموه، وذلك أن العرب تقول: سقيت الرجل ماء ولبنا وغيرهما ليشربه، إذا كان لسقيه، فإذا جعلوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته قالوا: أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته، وكذلك إذا استسقت له، قالوا: أسقيته واستسقيته، كما قال ذو الرمة: وقفت على رسم لميّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وأسقيه حتّى كاد مما أبثّه ... تكلمني أحجاره وملاعبة «3» قال المؤرخ: ما تنال الأيدي والدلاء فهو السقي وما لا تنال الأيدي والدلاء فهو الإسقاء. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ يعني المطر. قال سفيان: بما نعين. وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ بأن نميت جميع الخلق فلا يبقى من سوانا، نظيره قوله: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «4» . وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. ابن عبّاس: أراد ب الْمُسْتَقْدِمِينَ: الأموات، والْمُسْتَأْخِرِينَ: الأحياء.
عكرمة: الْمُسْتَقْدِمِينَ: من خلق، والْمُسْتَأْخِرِينَ: من لم يخلق، قد علم من خلق إلى اليوم وقد علم من هو خالقه بعد اليوم. قتادة: المستقدمون: من مضى، والمستأخرون: من بقي في أصلاب الرجال. الشعبي: من استقدم في أول الخلق، ومن استأخر في آخر الخلق. مجاهد: المستقدمون: القرون الاولى، والمستأخرون: أمة محمّد (صلى الله عليه وسلم) . الحسن: المستقدمون بالطاعة والخير، والمستأخرون المبطئون عن الطاعة والخير. وقيل: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ في الصفوف في الصلاة، والْمُسْتَأْخِرِينَ فيها بسبب النساء. وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال: كانت النساء يخرجن إلى الجماعات فيقوم الرجال صفوفا [خلف] النبي صلّى الله عليه وسلّم والنساء صفوفا خلف صفوف الرجال، وربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى الصف الأخير من صفوف الرجال، وربما كان في النساء من في قلبها ريبة فتتقدّم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال، وكانت امرأة من أحسن الناس لا والله ما رأيت مثلها قط، تصلي خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان بعض الناس ويتقدّم في الصف الأوّل لئلا يراها، ويستأخر بعضهم حتّى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع وسجد نظر إليها من تحت يديه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها» «1» . وقال الربيع بن أنس: حضّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصف الأوّل في الصلاة فازدحم الناس عليه، وكانت بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد. فقالوا: نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد، فأنزل الله تعالى هذه الآية وفيهم نزلت: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ «2» . الأوزاعي: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ يعني المصلين في أوّل الأوقات، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ يعني المؤخرين صلاتهم إلى آخر الأوقات. مقاتل بن حيان: يعني المستقدمين والمستأخرين في صف القتال. ابن عيينة: يعني من يسلم ومن لا يسلم.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ. قال ابن عبّاس: وكلهم ميت ثمّ يحشرهم ربهم جميعا الأوّل والآخر إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم (عليه السلام) ، قال إنسانا لأنه عهد إليه فنسي. وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة وقالوا: وزنه إنسيان على وزن إفعلان فأسقط الياء منه لكثرة جريانه على الألسن، فإذا صغّر ردت الياء إليه فيقول أنيسان على الأصل لأنه لا يكثر صغرا كما لا يكبر مكبرا. وقال آخرون: إنما سمّي إنسانا لظهوره وإدراك البصر إياه وإليه ذهب نحاة البصرة وقالوا: هو على وزن فعلان فزيدت الياء في التصغير كما زيدت في تصغير رجل فقالوا: رويجل وليلة فقالوا: لويلة. مِنْ صَلْصالٍ وهو الطين اليابس إذا نقرته سمعت له صلصلة أي صوتا من يبسه، قيل: أن تمسه النار فإذا أصابته النار فهو فخار، هذا قول أكثر المفسرين. وروى أبو صالح عن ابن عبّاس: هو الطين الحرّ الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق وإذا حرّك تقعقع. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هو الطين المنتن، واختاره الكسائي وقال هو من قول العرب: صل اللحم وأصلّ إذا أنتن. مِنْ حَمَإٍ جمع حمأة مَسْنُونٍ. قال ابن عبّاس: هو التراب المبتل المنتن، يجعل صلصالا كالفخار ومثله، قال مجاهد وقتادة: المنتن المتغير. قال الفرّاء: هو المتغير وأصله من قول العرب: سننت الحجر على الحجر أي أحككته وما يخرج من بين الحجرين يقال له السنن والسنانة ومنه المسن. أبو عبيدة: هو المصبوب، وهو من قول العرب: سننت الماء على الوجه وغيره إذا صببته. [سيبويه] : المسنون: المصور، مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته. قال ذو الرمة: [تريك] سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب «1» . وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ. قال ابن عبّاس: هو أب الجن.
[سورة الحجر (15) : الآيات 28 إلى 50]
قتادة ومقاتل: هو إبليس، خلق قبل آدم. مِنْ نارِ السَّمُومِ. قال ابن عبّاس: السموم: الحارة التي تقتل. الكلبي عن أبي صالح عنه: هي نار لا دخان لها والصواعق تكون منها، وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله له أمرا خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت، فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. أبو روق عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ. روى سعيد عن أبي إسحاق قال: دخلت على عمرو بن الأصم أعوده فقال: ألا أحدثك حديثا سمعته من عبد الله [قال: بلى، قال:] سمعت عبد الله يقول: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان وتلا: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ. [سورة الحجر (15) : الآيات 28 الى 50] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ سأخلق بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت صورته وأتممت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فصار بشرا حيا فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ سجود تحية وتكرمة لا سجود صلاة وعبادة فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ المأمورون بالسجود كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ على التأكيد إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ.
روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، قالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، فأبوا، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقهم. ثمّ خلق ملائكة فقال: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فإذا أنا خلقته فاسجدوا له، قالوا: سمعنا وأطعنا إلّا إبليس كانَ مِنَ الْكافِرِينَ. قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ محل (أن) النصب بفقد الخافض. قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة ومن السماوات فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ملعون طويلا وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك إياي وهو الإضلال والإبعاد لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ معاصيك ولأحببنّها إليهم وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ لأضلنهم أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قرأ أهل الكوفة والمدينة والشام: بفتح اللام. واختاره أبو عبيد، يعني إلّا من أخلصته بتوفيقك فهديته واصطفيته. وقرأ أهل مكة والبصرة: بكسر اللام، واختاره أبو حاتم، يعني من أخلص لك بالتوحيد والطاعة. وأراد بالمخلصين في القرائتين جميعا: المؤمنين. قالَ الله لإبليس هذا صِراطٌ طريق عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. قال الحسن: هذا صراط إليّ مستقيم. وقال مجاهد: الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء. وقال الأخفش: يعني على الدلالة صراط مستقيم. وقال الكسائي: هذا على الوعيد فإنه تهديد كقولك للرجل خاصمته وتهدده: طريقك عليّ، كما قال الله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «1» فكان معنى الكلام: هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلّا بأعمالهم. وقال ابن سيرين وقتادة وقيس بن عبادة وحميد ويعقوب: هذا صراطٌّ عليٌّ برفع الياء على نعت الصراط أي رفيع، كقوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «2» .
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قوة. قال أهل المعاني: يعني على قلوبهم. وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية، فقال: معناه لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عبدي، وهؤلاء يثبت الله الذين رأى فيهم إحسانهم. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أطباق لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ يعني من أتباع إبليس جُزْءٌ مَقْسُومٌ حظ معلوم. وقال عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) : تدرون كيف أبواب النار؟ قلنا: نعم كنحو هذه الباب. فقال: لا ولكنها هكذا- ووضع إحدى يديه على الأخرى- وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض، ووضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية. وأبو سنان عن الضحاك في قول الله: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ قال: للنار سَبْعَةُ أَبْوابٍ هي سبعة أدراك بعضها على بعض. فأولها: أهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثمّ يخرجون. والثاني: فيه اليهود. والثالثة: فيه النصارى. والرابع: فيه الصابئون. والخامسة: فيه المجوس. والسادس: فيه مشركوا العرب. والسابع: فيه المنافقون. فذلك قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «1» الآية. أبو رياح عن أنس بن مالك عن بلال قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي في مسجد المدينة وحده، فمرّت به أعرابية فاشتهت أن تصلي خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتين، فدخلت وصلت ولم يعلم بها رسول الله، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بلغ هذه الآية: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ فخرّت الأعرابية مغشية عليها فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبتها فانصرف وقال: «يا بلال عليّ بماء» فجاء فصب على وجهها حتّى أفاقت وجلست، فقال
لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا هذه ما حالك؟» فقالت: رأيتك تصلي وحدك فاشتهيت أن أصلي خلفك ركعتين، فهذا شيء من كتاب الله أو تقول من تلقاء نفسك؟ قال بلال: فما أحسبه إلّا قال: «يا أعرابية بل هو في كتاب الله المنزل» . فقالت: كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها. فقال: «يا أعرابية لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ يعذب على كل باب على قدر أعمالهم» . فقالت: والله إني لامرأة مسكينة مالي مال ومالي إلّا سبعة أعبد أشهدك يا رسول الله أن كل عبد منهم على كل باب من أبواب جهنم حرّ لوجه الله. فأتاه جبرئيل فقال: يا رسول الله بشّر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها، وفتح لها أبواب الجنة كلها «1» . إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها قرأه العامة بوصل الألف وضم الخاء على الأمر، مجازه: يقال لهم ادخلوها. وقرأ الحسن: أُدْخِلُوها بضم الهمزة وكسر الخاء على الفعل المجهول، وحينئذ لا يحتاج إلى الضمير. بِسَلامٍ بسلامة آمِنِينَ من الموت والعذاب والآفات وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً نصب على الحال، وإن شئت قلت: جعلناهم إخوانا عَلى سُرُرٍ جمع سرير مثل جديد جدد مُتَقابِلِينَ يقابل بعضهم بعضا لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه لا يَمَسُّهُمْ لا يصيبهم فِيها نَصَبٌ تعب وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ أخبر عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قال ابن عبّاس: يعني لمن تاب منهم. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ لمن لم يتب منهم. روى ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: طلع علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك، فقال: «لا أراكم تضحكون» ، ثمّ أدبر حتّى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: «إني لمّا خرجت جاء جبرئيل فقال: يا محمّد لم تقنّط عبادي نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «2» .
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 إلى 86]
وقال قتادة: بلغنا أنّ نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع عن محارم الله، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» «1» . [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 86] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ يعني الملائكة الذين أرسلهم الله ليبشروا إبراهيم بالولد ويهلكوا قوم لوط إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والإثنين والجمع والمؤنث والمذكر فَقالُوا سَلاماً قالَ إبراهيم إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [خائفون] قالُوا لا تَوْجَلْ لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ يعني إسحاق، فعجب إبراهيم من كبره وكبر امرأته قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي على الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ فأي شيء تبشرون. واختلف القراء في هذا القول، فقرأ أهل المدينة والشام بكسر النون والتشديد على معنى تبشرونني، فأدغمت نون الجمع في نون الإضافة. وقرأ بعضهم: بالتخفيف على الخفض. وقرأ الباقون: في النون من غير إضافة.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ. قرأه العامّة: بالألف. وقرأ يحيى بن وثاب: القانطين. قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ. قرأ الأعمش وأبو عمرو والكسائي بكسر النون، وقرأ الباقون: بفتحه [وقال الزجاج] : قنط يقنط، وقنط يقنط إذا يئس من رحمة الله. مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ قالَ لهم إبراهيم فَما خَطْبُكُمْ شأنكم وأمركم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ مشركين إِلَّا آلَ لُوطٍ أتباعه وأهل دينه إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ. قرأ أهل الحجاز وعاصم وأبو عمرو: (لَمُنَجُّوهُمْ) بالتشديد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وخففه الآخرون. إِلَّا امْرَأَتَهُ سوى امرأة لوط قَدَّرْنا قضينا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب، وخفف ابن كثير قَدَرْنا. قال أبو عبيد: استثنى آل لوط من القوم المجرمين، ثمّ استثنى امرأته من آل لوط فرجعت امرأته في التأويل إلى القوم المجرمين، لأنه استثناء مردود على استثناء، وهذا كما تقول في الكلام: لي عليك عشرة دراهم إلّا أربعة إلّا درهما، فلك عليه سبعة دراهم لأنك لما قلّت: إلّا أربعة، كان لك عليه ستة، فلما قلت: إلّا درهما كان هذا استثناء من الأربعة فعاد إلى الستة فصار سابعا. فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ لوط لهم إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ يعني لا أعرفكم قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ يعني يشكّون إنه ينزل بهم وهو العذاب وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وجئناك باليقين، وقيل: بالعذاب وَإِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أي كن ورائهم وسر خلفهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ. قال ابن عبّاس: يعني الشام. وقال خليل: يعني مصدر. وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ يعني وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأخبرناه أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ. يدل عليه قراءة عبد الله: وقلنا له إن دابر هؤلاء، يعني أصلهم، مَقْطُوعٌ مستأصل مُصْبِحِينَ في وقت الصبح إذ دخلوا فيه وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يعني سدوم يَسْتَبْشِرُونَ
بأضياف لوط طمعا منهم في ركوب الفاحشة قالَ لوط لقومه إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي وحق على الرجل بإكرام ضيفه فَلا تَفْضَحُونِ فيهم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فلا تهينون ولا تخجلون، يجوز أن يكون من الخزي، ويحتمل أن يكون الخزاية قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أو لم ننهك أن تضيّف أحدا من العالمين. قالَ هؤُلاءِ بَناتِي أزوجهنّ إياكم إن أسلمتم فأتوا النساء الحلال ودعوا ما حرم الله عليكم من إتيان الرجال إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ما أمركم به. قال قتادة: أراد أن يقي أضيافه ببناته، وقيل: رأى أنهم سادة إليهم يؤول أمرهم فأراد أن يزوجهم بناته ليمنعوا قومهم من التعرّض لأضيافه، وقيل: أراد بنات أمته لأن النبي [أب] لامته، قال الله لَعَمْرُكَ يا محمّد يعني وحياتك. وفيه لغتان: وعمر وعمر. يقول العرب: عمرك وعمرك. إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ ضلالتهم وحيرتهم يَعْمَهُونَ يترددون. قاله مجاهد، وقال قتادة: يلعبون. ابن عبّاس: يتمادون. أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال: فالخلق لله عزّ وجلّ ولا برأ ولا ذرأ نفسا أكرم عليه من محمّد، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلّا حياته قال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ حيث أشرقت الشمس، أي أضاءت، وهو نصب على الحال فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال ابن عبّاس والضحاك: للناظرين. مجاهد: للمتفرسين. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» «1» [177] ثمّ قرأ هذه الآية. وقال الشاعر: توسمته لما رأيت مهابة ... عليه وقلت المرء من آل هاشم «2» وقال آخر:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم «1» وقال قتادة: للمعتبرين. وَإِنَّها يعني قرى قوم لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ بطريق واضح. قاله قتادة، ومجاهد، والفراء، والضحاك: بطريق معلّم ليس بخفي ولا زائغ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ وقد كان أصحاب الغيضة لكافرين، وهم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر متناوش متكاوش ملتف وكانوا يأكلون في الصيف الفاكهة الرطبة وفي الشتاء اليابسة وكان عامة شجرهم الدوم وهو المقل فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالعذاب، وذلك أن الله سلّط عليهم الحرّ سبعة أيام لا يمنعهم منه شيء، فبعث الله عليهم سحابة فالتجأوا إلى ظلّها يلتمسون روحها فبعث الله عليهم منها نارا فأحرقتهم «2» فذلك قوله: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَإِنَّهُما يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ طريق مستبين، وسمّي الطريق إماما لأنه يؤتم به. وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ أي الوادي، وهو مدينة ثمود وقوم صالح وهي فيما بين المدينة والشام الْمُرْسَلِينَ أراد صالحا وحده. عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله قالا: مررنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم على الحجر، فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين حذرا بأن يصيبكم مثل ما أصابهم» ثمّ قال: «هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلّا رجلا في حرم الله منعه حرم الله من عذاب الله» قيل: من هو يا رسول الله؟ قال: «أبو رغال» [178] ثمّ زجر صلّى الله عليه وسلّم فأسرع حتّى خلفها «3» . وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يعني الناقة وولدها و [السير] «4» فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من الخراب ووقوع الجبل عليهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني صيحة العذاب والهلاك مُصْبِحِينَ في وقت الصبح وهو نصب على الحال فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الشرك والأعمال الخبيثة. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وإن القيامة لجائية فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ فأعرض عنهم واعف عفوا حسنا، نسختها آية القتال. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ.
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 إلى 99]
[سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي اختلفوا فيه. روى عبد الوهاب عن ابن مسعود عن أبي نصر عن رجل من عبد القيس يقال له جابر أو جويبر عن ابن مسعود أن عمر قال: السبع المثاني هي فاتحة الكتاب. روى إسماعيل السدي عن عبد خير عن علي (رضي الله عنه) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: فاتحة الكتاب [179] . عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال في السبع المثاني: فاتحة الكتاب، وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ سائر القرآن. وعن عبد الرحمن عن أحمد الطابقي قال: أتيت أبا هريرة وهو في المسجد فقرأت عليه فاتحة القرآن. فقال أبو هريرة: هذه السبع المثاني. شعبة عن قتادة في قوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: هي فاتحة الكتاب. وسمعت الكلبي يقول: هي أمّ الكتاب. ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: هي أم القرآن والآية السابعة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وهذا قول الحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير وإبراهيم وابن أبي مليكة وعبد الله بن عبيد ابن عمرو ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وصالح الحنفي قاضي مرو. ويدل عليه ما روى أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ سبع آيات إحداهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وهي السبع المثاني وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب» [180] «1» .
وروى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم» [181] . وروى حفص بن عاصم عن أبي سعيد المعلّى عن أبيّ بن كعب قال: كنت أصلي فناداني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم أجبه، فلمّا صلّيت أتيته، فقال: «ما منعك أن تجيبني» ؟ قلت: كنت أصلي، قال: «أو لم يقل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ «1» » [182] الآية. ثمّ قال: «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد» فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن. قال: «نعم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت» «2» . وعن أبي هريرة قال: قرأ أبي بن كعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ القرآن. فقال: «والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت» [183] «3» . عن ابن جريج قال: أخبرني أبي أنّ سعيد بن جبير أخبره فقال له: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: هي أم القرآن، قال: هي، وقرأ عليّ سعيد بن جبير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حتّى ختمها، ثمّ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الآية السابعة. قال سعيد بن جبير: لأبي: وقرأ عليّ ابن عبّاس كما قرأتها عليك، ثمّ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآية السابعة: قال ابن عبّاس: قد ادخرها الله لكم فما أخرجها لأحد قبلكم. فقلت: هذه إختيار الصحاح إن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب، وأن الله تعالى امتن على رسوله صلّى الله عليه وسلّم بهذه السورة كما امتن عليه بجميع القرآن، وقيل: نزلت هذه السورة في [خيبر] . وفي هذا دليل على إن الصلاة لا تجوز إلّا بها ويؤيد ما قلنا ما روى الزهري عن محمّد بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاتحة الكتاب عوض من كل القرآن، والقرآن كلّه ليس منه عوض» [184] . واختلف العلماء في حديث آيات هذه السورة مثاني، فقال ابن عبّاس والحسن وقتادة والربيع: لأنها تثنى في كل صلاة وفي كل ركعة.
وقال بعضهم: سمّيت مثاني لأنها مقسومة بين الله وبين العبد قسمين اثنين، بيانه والذي يدل عليه ما روى أبو السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام» [185] «1» . قال أبو السائب لأبي هريرة: إني أحيانا أكون وراء الامام. قال: فغمز أبو هريرة ذراعي، وقال: يا فارسي اقرأها في نفسك إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرؤا، يقول: العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، فيقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فيقول الله: أثنى عليّ عبدي، فيقول العبد: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فيقول الله: مجّدني عبدي، يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قال: هذه الآية بيني وبين عبدي، يقول العبد: اهْدِنَا الصِّراطَ إلى آخره، يقول الله: فهذا لعبدي ولعبدي ما سأل» [186] «2» . ويقال: سمّيت (مثاني) لأنها منقسمة إلى قسمين: نصفها ثناء ونصفها دعاء، ونصفها حق الربوبية ونصفها حق العبودية، وقيل: لأن ملائكة السماوات يصلّون الصلوات بها، كما أن أهل الأرض يصلّون بها. وقيل: لأن حروفها وكلماتها مثنّاة، ومثل الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، إِيَّاكَ وإِيَّاكَ، الصِّراطَ ... صِراطَ، عَلَيْهِمْ ... عَلَيْهِمْ، غَيْرِ ... غير، في قراءة عمر. وقال الحسين بن الفضل وغيره: لأنها تقرأ مرّتين كل مرّة معها سبعون ألف ملك، مره بمكة من أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة، والسبب هو أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود بني قريضة والنضير في يوم واحد وفيها أنواع من البز وأوعية [وأفاوية] الطيب والجواهر وأمتعة البحر، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله تعالى هذه السورة «3» . وقال: لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل، ودليل هذه التأويل قوله في عقبها: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية. وقيل: لأنها متصدرة بالحمد، والحمد كل كلمة تكلم بها آدم حين عطس وهي آخر كلام أهل الجنة من ذريته، قال الله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «4» .
وقيل: لأن الله استثناها وادّخرها لهذه الأمة فما أعطاها غيرهم، كما روينا في خبر سعيد ابن جبير عن ابن عبّاس. وقال أبو زيد اللخمي: لأنها تثني أهل الدعارة والشرارة عن الفسق والبطالة من قول العرب ثنيت عنائي، قال الله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ «1» . وقيل: لأن أولها ثناء على الله عزّ وجلّ. وقال قوم: إن السبع المثاني هو السبع الطوال، وهي: سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة معا. وقال بعضهم: يونس، وعليه أكثر المفسرين. روى سفيان عن منصور عن مجاهد عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قال: السبع الطوال. سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: هو السبع الطوال. وهو قول عمر، ورواية أبي بشر وجعفر بن المغيرة ومسلم البطين عن سعيد بن جبير، ورواية ليث وابن أبي نجيح عن مجاهد، ورواية عبيد بن سليمان عن الضحاك. يدل عليه ما روى أبو أسماء الرحبي عن ثوبان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المبين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصّل» [187] «2» . وروى الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: أوتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السبع المثاني الطوال، وأعطي موسى ستا فلما ألقى الألواح رفعت اثنان وبقي أربع. روى عروة عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أخذ السبع الأول فهو حبر» [188] «3» . قال ابن عبّاس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر تثبت فيه. طاوس وأبو مالك: القرآن كلّه مثاني، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «4» وسمّي القرآن مثاني لأن القصص ثبتت فيه.
وعلى هذا القول المراد بالسبع سبعة أسباع القرآن. ويكون فيه إضمار تقديره: وهي للقرآن العظيم. فاحتج بقول الشاعر: الى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم «1» مجازة: الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة في المزدحم. وروى عتاب بن بشر عن حنيف عن زياد بن أبي مريم في قوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: أعطيتك سبعة أجزاء وهي سبع معان في القرآن: مرّ، وانه، وبشّر، وأنذر، واضرب الأمثال وأعدد النعم، وآتيتك نبأ القرآن «2» . لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ يا محمّد إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا مِنْهُمْ من الكفار متمنيا إياها. نهى رسوله عن الرغبة في الدنيا. وقال أنس: مرّت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إبل أيام الربيع وقد حبست في أبعارها وأبوالها. فغطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عينه بكمّه وقال: «بهذا أمرني ربي» [189] ثمّ تلا هذه الآية. وَاخْفِضْ جَناحَكَ ليّن جانبك لِلْمُؤْمِنِينَ وارفق بهم. والجناحان من ابن آدم جانباه، ومنه قوله: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أي جنبك وناحيتك. وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَما أَنْزَلْنا، قال الفراء: مجازه: أنذركم عذابا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. فأختلفوا فيهم. فروى الأعمش عن أبي ظبيان قال: سمعت ابن عبّاس يقول في قوله: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ، قال: هم اليهود والنصارى. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ جزّءوه فجعلوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وقال عكرمة: سمّوا مقتسمين لأنّهم كانوا يستهزؤن فيقول بعضهم: هذه السورة لي. وقال بعضهم: هذه لي، فيقول أحدهم: لي سورة البقرة، ويقول الآخر: لي سورة آل عمران. وقال مجاهد: هم اليهود والنصارى، قسّموا كتابهم ففرّقوه وبدّدوه. وقال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقاب
مكة وطرقها وقعدوا على أبوابها وأنقابها وإذا جاء الحجاج، قال فريق منهم: لا تغتروا بخارج منّا يدعي النبوة فإنه مجنون. وقالت طائفة أخرى: على طريق آخر أنه كاهن. وقالت طائفة: عرّاف. وقالت طائفة شاعر، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما، فإذا سئل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: صدق لوليك المقتسمين. وقال مقاتل بن حيان: هم قوم اقتسموا القرآن، فقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: سمر، وقال بعضهم: كذب. وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين. وقال بعضهم: هم الذين تقاسموا صالح وأرادوا تبييته. وقرأ قول الله: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ «1» الآية. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ يعني عضوا كتاب الله ونبيه وأمره ونهيه أي كذبوا. وقوله: عِضِينَ، قال بعضهم: هو جمع عضو وهو مأخوذ من قولهم عضيت يعضيه إذا فرّقته. وقال رؤبة: وليس دين الله بالمعضى «2» يعني: بالمفرّق. وقال آخر: وعضى بني عوف، فأما عدوهم ... فأرضي وأمّا العز منهم فغيرا «3» يعني بقوله عضّني بني عوف: سبّاهم وقطعهم بلسانه. وقال آخرون: بل هو جمع عضة، يقال: عضه وعضين. مثل يره ويرين، وكرة وكرين، وقلة وقلين، وعزة وعزين، وأصله عضهه ذهبت هاؤها الأصلية كما نقصوا الهاء من الشفة وأصلها شفهه ومن الشاة وأصلها شاهه يدلك على ذلك التصغير تقول: شفيهة وغويهة، ومعنى العضة: الكذب والبهتان، وفي الحديث: «لا يعضه بعضكم بعضا» «4» .
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يوم القيامة عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا. وروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية قال: «عن لا إله إلّا الله» «1» . قال عبد الله: والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلّا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة، [كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر] فيقول: يا ابن آدم ماذا غرك مني، يا ابن آدم ما عملت فيما علمت، يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين «2» . واعترضت الملحدة بأبصار كليلة وأفهام عليلة على هذه الآية على قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «3» وحكموا عليهما بالتناقض. والجواب عنه: ما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ «4» . قال: لا نسألهم هل عملتم كذا وكذا، لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لم عملتم كذا وكذا؟ واعتمد قطرب هذا القول، وقال: السؤال على ضربين: سؤال استعلام واستخبار، وسؤال توبيخ وتقرير. فقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ يعني استعلاما واستخبارا، لأنه كان عالما بهم قبل أن يخلقهم. وقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يعني تقريعا وتقريرا ليريهم القدرة في تعذيبنا إياهم. وقال عكرمة: سألت مولاي عبد الله بن عبّاس عن الآيتين، فقال: إن يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف، يسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها. ونظيره قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ «5» وقال في آية أخرى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ «6» . وقال بعضهم: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ إذا كان المذنب مكرها مضطرا، ولَنَسْئَلَنَّهُمْ إذا كانوا مختارين، وقيل: لا يسأل إذا كان الذنب في حال الصبى أو الجنون أو النوم، بيانه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاث» «7» [190] وقولهم: لَنَسْئَلَنَّهُمْ، إذا كان عملهم خارجا من هذه الأحوال، وقيل: لا يسأل إذا كان الذنب في حال الكفر.
وقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ يعني المؤمنين، بيانه قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ «1» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الإسلام يجبّ ما قبله» [191] «2» . فَاصْدَعْ. قال ابن عبّاس: أظهر. الوالبي عنه: فاقض. عطية عنه: افعل. الضحاك: اعلم، الأخفش: افرق، المؤرّج: افصل، سيبويه: اقض. بِما تُؤْمَرُ يعني بأمرنا (ما) المصدر. وأصل الصدع: الفصل والفرق. قال ذؤيب يصف الحمار والأتن: وكأنهن ربابة وكأنه ... يسر يفيض على القداح ويصدع «3» [وقيل] : أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإظهار الدعوة. روى موسى عن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: ما زال النبي صلّى الله عليه وسلّم مستخفيا حتّى نزلت فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لا تبال بهم إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. يقول الله جل ثناؤه لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فَاصْدَعْ بأمر الله ولا تخف شيئا سوى الله فإن الله كافيك من عاداك وآذاك كما كفاك المستهزئين وهم من قريش ورؤسائهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، وعبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان رأسهم، والعاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعيد بن سهم، والأسود بن المطلب بن الحرث بن [أسد] بن عبد العزى أبو زمعة- وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد دعا عليه فقال: «اللهم أعم بصره وأثكله بولده» [192] «4» - والأسود بن عبد يغوث بن وهب ابن عبد مناف بن زهرة، والحرث بن قيس بن الطلاطلة فإنه عيطل. فأتى جبرئيل محمدا صلّى الله عليه وسلّم والمستهزئون يطوفون بالبيت، فقام جبرئيل وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جنبه فمرّ به الوليد بن المغيرة، فقال جبرئيل: يا محمّد كيف تجد هذا، قال: بئس عبد الله.
قال: «قد كفيت» «1» [193] وأومأ إلى ساقه ويده، فمرّ برجل من خزاعة [نبّال] يريّش نبلا له وعليه برد يمان وهو يجر إزاره فتعلقت شظيّة من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن يطمئن ونبذ عمامته وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض منه ومات. وقال الكلبي: تعلّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه فمات. ومرّ به العاص بن وائل، فقال جبرئيل: كيف تجد هذا يا محمّد؟ قال: «بئس عبد الله» ، فأشار جبرئيل لأخمص رجله وقال: «قد كفيت» وقد خرج على راحلته ومعه اثنان يمنعانه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ على شرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فقال: الوقت لدغت. فطلبوا ولم يجدوا شيئا فانتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه. ومرّ به الأسود بن عبد المطلب، فقال جبرئيل: كيف تجد هذا يا محمّد؟ قال: «عبد سوء» فأشار إلى عينه، وقال: «قد كفيت» فعمى [194] «2» . قال ابن عبّاس: رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى هلك. وفي رواية الكلبي: أتاه جبرئيل وهو قاعد في ظل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك واستغاث بغلامه، فقال غلامه: لا أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك حتّى مات وهو يقول: قتلني ربّ محمّد. ومرّ به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل: كيف تجد هذا؟ فقال: «بئس عبد الله، على أنه خالي» ، فقال: قد كفيت، وأشار إلى بطنه فشقّ بطنه فمات حينها «3» . وفي رواية الكلبي: أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسودّ حتّى عاد حبشيا فأتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب وهو يقول: قتلني ربّ محمّد. ومرّ به الحرث بن قيس، فقال جبرئيل (عليه السلام) : يا محمّد كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء» فأومأ إلى رأسه وقال: قد كفيت، فأمتخط قيحا فقتله. وقال ابن عبّاس: إنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتّى اتّقد بطنه فمات، فذلك قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ يعنى بك وبالقرآن.
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيدهم وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ. قال ابن عبّاس: فصلّ يا محمّد لربك. وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ المتواضعين. وقال الضحاك: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال سبحان الله وبحمده وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي المصلين. ويروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ يعني الموت، ومجازه: الموفق به. روى يونس بن زيد عن ابن شهاب: أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أم العلاء- امرأة من الأنصار قد بايعت النبي صلّى الله عليه وسلّم- أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة قالت: فصار لنا عثمان ابن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي مات فيه، فلما توفي وغسّل وكفّن في ثوبه دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا عثمان بن مظعون رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك أن الله أكرمه» قالت: فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا هو فقد جاءه اليقين وو الله إني لأرجو له الخير» «1» . قالوا: فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أوحي إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» [195] «2» .
محتوى الجزء الخامس من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء الخامس من كتاب تفسير الثعلبي سورة التوبة 5 سورة يونس (عليه السلام) 116 سورة هود (عليه السلام) 156 سورة يوسف عليه السلام 196 سورة الرعد 267 سورة إبراهيم (عليه السلام) 304 سورة الحجر 330
الجزء السادس
الجزء السادس سورة النحل مكية، إلى قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخره وهي سبعة ألف وسبعمائة وسبعة أحرف، والفان وثمانمائة وأربعون كلمة، ومائة وثمان وعشرون آية أبو أمامة الباهلي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية» [1] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي جاء فدنا، واختلفوا في هذا الأمر ما هو. فقال قوم: هو الساعة. قال ابن عبّاس: لما أنزل الله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال الكفار بعضهم لبعض: إن هذا يزعم [أن] يوم القيامة قد قرب فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء، قالوا: ما نرى شيئا، فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «2» الآية.
فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمّد ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فأنزل الله أَتى أَمْرُ اللَّهِ «1» فوثب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين- وأشار بإصبعيه- إن كادت لتسبقني» [2] «2» . وقال ابن عبّاس: كان بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم من أشراط الساعة. وأن جبرئيل لما مرّ بأهل السماوات مبعوثا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم قالوا: الله أكبر قد قامت الساعة. قال الآخرون: الأمر هاهنا العذاب بالسيف، وهو جواب للنضر بن الحرث حين قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «3» - الآية- يستعجل العذاب، فأنزل الله هذه الآية، وهذا من الجواب المقصور فقتل النضر يوم بدر صبرا. وقال الضحاك: أَمْرُ اللَّهِ: الأحكام والحدود والفرائض. والقول الأوّل أولى بالصواب لأنه لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة مستعجل بفريضة الله قبل أن تفرض عليهم، وأمّا مستعجل العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرا. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ. قرأه العامّة: بضم الياء وكسر الزاي المشدد، الملائكة نصب. وخففه معظم أهل مكة والبصرة بمعنى ينزل الله. وقرأ المفضل وروح وسهيل وزيد: يَنْزَلُ بفتح الياء والزاي، الْمَلائِكَةُ رفع. وقرأ الأعمش: يَنْزِلُ بفتح الياء وجزم النون وكسر الزاي من النزول، والْمَلائِكَةُ رفع على هاتين القرائتين والفعل للملائكة. بِالرُّوحِ بالوحي سمّاه روحا، لأنه تحيا به القلوب والحق، ويموت به الكفر والباطل. وقال عطاء: بالنبوة فطرة يلقى الروح من أمره. قتادة: بالرحمة. أبو عبيدة: بِالرُّوحِ، يعني: مع الروح وهو جبرئيل. مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ محله نصب بنزع الخافض، ومجازه بأن أَنْذِرُوا أعلموا، من قولهم: أَنْذِرْ بِهِ أي أعلم أَنَّهُ في محل النصب بوقوع الإنذار عليه.
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ يجادل بالباطل مُبِينٌ نظيره قوله: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً «1» نزلت هذه الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمّد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ نظيرها قوله: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ «2» إلى آخر السورة نزلت في هذه القصة أيضا. وَالْأَنْعامَ خَلَقَها يعني الإبل والبقر والغنم لَكُمْ فِيها دِفْءٌ يعني من أوبارها وأصوافها وأشعارها ملابس و [لحفا] وقطن يستدفئون وَمَنافِعُ بالنسل والدرّ والركوب والحمل وغيرها وَمِنْها تَأْكُلُونَ يعني لحومها وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ أي حين يردّونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوى إليها. يقال: أراح فلان ماشيته يريحها إراحة، والمكان الذي يراح إليه: مراح. وَحِينَ تَسْرَحُونَ اي يخرجونها بالغداة من مراعيها إلى مسارحها. يقال: سرّح ماشيته يسرّحها سرحا وسروحا إذا أخرجها للرعي، وسرحت الماشية سروحا إذا رعت. قال قتادة: وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها طوالا أسنمتها. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ آخر غير بلدكم. عكرمة: البلد مكة. لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ أي تكلفتموه إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ. قرأه العامّة: بكسر الشين، ولها معنيان: أحدهما: الجهد والمشقة. والثاني: النصف، يعني لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ من القوة وذهاب شق منها حتّى لم تبلغوه إلّا بنصف قوى أنفسكم وذهاب نصفها الآخر. وقرأ أبو جعفر: بِشَقِّ بفتح الشين. وهما لغتان مثل برَق وبرِق، وحَصن وحصِن، ورطل ورطل. وينشد قول النمر بن تولب: بكسر الشين. وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب من شقها ودؤوب «3» ويجوز أن يكون بمعنى المصدر من شققت عليه يشق شقا.
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ بخلقه حيث خلق لهم هذه الأشياء وهيّأ لهم هذه المنافع والمرافق. وَالْخَيْلَ يعني وخلق الخيل وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها. واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على تحريم لحوم الخيل، روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنه سئل عن أكل لحوم الخيل فكرهها وتلا هذه الآية: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً. قال: هو المركوب، وقرأ التي قبلها: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها الآية، وقال: هذه للأكل. وقال: الحكم بلحوم الخيل حرام في كتاب الله، ثمّ قرأ هذه الآيات، وقال: جعل هذه للأكل وهذا للركوب. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء، واحتجوا أيضا في ذلك بما روى صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جدّه عن خالد بن الوليد أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير» [3] «1» . وقال الآخرون: لا بأس بأكل لحوم الخيل، وليس في هذه الآية دليل على تحريم شيء، وإنما عرّف الله عباده بهذه الآية نعمه عليهم ونبههم على حجج وحدانيته وربوبيته وكمال قدرته، وإليه ذهب الشافعي واحتج بما روى محمّد بن علي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعني يوم خيبر- لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر. وروى سفيان عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر قال: كنا نأكل لحوم الخيل، قلت: والبغال؟ قال: لا. هشام عن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنه) قالت: أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. سفيان عن منصور عن إبراهيم قال: نحر أصحابنا فرسا في النخع فأكلوا منه ولم يروا به بأسا. وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 10 إلى 19]
قال بعض المفسرين: يعني ما أعدّ في الجنة لأهلها، وفي النار لأهلها ما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر. قال قتادة: يعني السوس في الثياب، والدود في الفواكه. وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ قال: يريد أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع. يدخل جبرئيل كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمته فينتفض فيخرج الله من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور وفي الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة. وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ يعني طريق الحق لكم، والقصد: الطريق المستقيم، وقيل على الله القصد بكم إلى الدين وَمِنْها جائِرٌ يعني ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج، وإنما أنث للكناية، لأن لفظ السبيل واحد ومعناها جمع، والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز، والقصد من السبيل هو الحنيفية دين الإسلام، والجائر منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الملل والكفرة. وقال جابر بن عبد الله: قَصْدُ السَّبِيلِ يعني بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله: قَصْدُ السَّبِيلِ السنّة، وَمِنْها جائِرٌ يعني الأهواء والبدع، بيانه قوله: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً «1» الآية. وفي مصحف عبد الله: ومنكم جائز. وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ نظيرها قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «2» وقوله: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها «3» . [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 19] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ أي من ذلك الماء شَرابٌ يشربونه وَمِنْهُ شَجَرٌ شراب أشجاركم حياة غروسكم ونباتكم فِيهِ، في الشجرة وهو اسم [عام] «1» ، وإنما ذكر الكناية، لأنه ردّه إلى لفظ الشجر. تُسِيمُونَ ترعون، وننسيكم يقال: أسام فلان إبله يسيمها أسامة، إذا رعاها، فهو مسيم وسامت هي تسوم فهي سائمة. قال الشاعر: ومشى القوم بالعماد إلى ... المرعى وأعيا المسيم اين المساق «2» يعني يدخلون العماد تحت بطون الزرعى [ ... ] «3» . قال الشاعر: أولى لك ابن مسيمة الإجمال «4» أي يا ابن راعية الإبل. يُنْبِتُ لَكُمْ. قرأه العامّة بالياء يعني: يُنْبِتُ لَكُمْ. وقرأ عاصم برواية المفضل وحماد ويحيى بالنون، والأوّل الاختيار. بِهِ بالماء الذي أنزل الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ قرأه العامّة بالنصب نسقا على ما قبله. وروى حفص عن عاصم، وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ: بالرفع على الخبر والابتداء، وقرأ ابن عامر وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ كلها بالرفع على الابتداء والخبر. بِأَمْرِهِ بأذنه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَما ذَرَأَ يعنى وسخّر ما ذرأ لَكُمْ أي
خلق لأجلكم من الدواب والأشجار والثمار وغيرها فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ نصب على الحال. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا يعني السمك وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً يعني اللؤلؤ والمرجان. روى حماد بن يحيى عن إسماعيل بن عبد الملك قال: جاء رجل إلى ابن جعفر قال: في حليّ النساء صدقة؟ قال: لا، هي كما قال الله: حِلْيَةً تَلْبَسُونَها. تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ. قال ابن عبّاس: جواري. سعيد بن جبير: معترضة. قتادة ومقاتل: [تذهب وتجيء] «1» مقبلة ومدبرة بريح واحدة. الحسن: مواقر. عكرمة والفراء والأخفش: شقاق يشق الماء بجناحيها. مجاهد: يمخر السفن الرياح ولا يمخر الريح من السفن إلّا الملك العظيم. أبو عبيدة: سوابح. وأصل المخرّ الدفع والشق، ومنه مخر الأرض، ويقال: امتخرت الريح وتمخّرتها، إذا نظرت من أين مبعوثها، وفي الحديث: «إذا أراد أحدكم البول فليمتخر الريح» «2» أي لينظر من أين مخرها وهبوبها فيستدبرها حتّى لا يرد عليه البول. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني التجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ يعني لئلّا تميد بكم، أي تتحرك وتميل، والميل: هو الاضطراب والتكفّؤ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر: ميد. قال وهب: لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتمور، فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرّة أحدا على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ولم تدر الملائكة ممّ خلقت الجبال. وقال علي (رضي الله عنه) : لما خلق الله الأرض رفضت وقالت: أي رب أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطيئة ويلقون عليّ الخبث، فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون.
[سورة النحل (16) : الآيات 20 إلى 29]
وَأَنْهاراً يعني وجعل فيها أنهارا وَسُبُلًا طرقا مختلفة لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ فلا تضلون ولا تتحيرون، يعني معالم الطرق. وقال بعضهم: هاهنا تم الكلام ثمّ ابتدأ. وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. قال محمّد بن كعب القرظي والكلبي: أراد بالعلامات الجبال، فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل. وقال مجاهد وإبراهيم: أراد بهما جميعا النجوم، فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به. قال السدي: يعني بالثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي فيهتدون إلى الطرق والقبلة. قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاث أشياء: لتكون زينة للسماء، وعلامات للطريق ورجوما للشياطين. فمن قال غير هذا فقد قال برأيه وتكلّف ما لا علم به. أَفَمَنْ يَخْلُقُ يعني الله تعالى كَمَنْ لا يَخْلُقُ يعني الأصنام أَفَلا تَذَكَّرُونَ نظيرها قوله تعالى: هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ «1» وقوله عزّ وجلّ: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «2» وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لما كان منكم من تقصير شكر نعمه رَحِيمٌ بكم حيث وسّع عليكم نعمه ولم يقطعها منكم بتقصيركم ومعاصيكم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ. [سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 29] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قرأه العامّة بالتاء، لأن ما قبله كلّه خطاب. وقرأ يعقوب وعاصم وسهل بالياء. لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ثمّ وصف الأوثان فقال: أَمْواتٌ أي هي أموات غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ يعني الأصنام أَيَّانَ متى يُبْعَثُونَ عبّر عنها كما عبّر عن الآدميين «1» وقد مضت هذه المسألة، وقيل: وما يدري الكفّار عبدة الأوثان متى يبعثون. إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة غير عارفة وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ متعظّمون لا جَرَمَ حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني إذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم مشركوا قريش الذين اقتسموا عقاب مكة وأبوابهم، سألهم الحجاج والوفد أيام الموسم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعما أنزل عليه قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أحاديثهم وأباطيلهم. لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ ذنوب أنفسهم التي هم عليها مقيمون وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيصدونهم عن الإيمان أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ألا ساء الوزر الذي يحملون، نظيرها قوله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ «2» الآية. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما داع دعا إلى ضلاله فاتّبع، فإن عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيّما داع دعا إلى هدى فاتّبع، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» [4] «3» . قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ولزم منها الصعود إلى السماء ينظر ويزعم إلى إله إبراهيم، وقد مضت هذه القصة. قال ابن عبّاس ووهب: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراعا.
[سورة النحل (16) : الآيات 30 إلى 34]
وقال كعب ومقاتل: كان طوله فرسخين فهبّت ريح وألقت رأسها في البحر وخرّ عليهم الباقي وانفكت بيوتهم وأحدث نمرود، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية وذلك قوله تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي قصد تخريب بنيانهم من أصولها فأتاها أمر الله وهو الريح التي خرّبتها فَخَرَّ فسقط عَلَيْهِمُ السَّقْفُ يعني أعلى البيوت، مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من مأمنهم ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ يذلّهم بالعذاب. وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ تحالفون فيهم لا ينقذونكم فيدفعوا عنكم العذاب. وقرأ العامّة على فتح النون من قوله: تُشَاقُّونَ إلّا نافع فإنه كسرها على الإضافة قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم المؤمنون إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ العذاب عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالكفر نصب على الحال، أي في حال كفرهم فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي استسلموا وانقادوا وقالوا: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ شرك، فقالت لهم الملائكة: بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قال عكرمة: عنى بذلك من قتل من قريش وأهل مكة ببدر وقد أخرج إليها كرها. فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان. [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 34] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه، فيقولون: شاعر وساحر وكاهن وكاذب ومجنون [ويفرّق الأخوان] «1» ويقولون: إنه لو لم تلقه خير لك، فيقول السائل: أنا شرّ داخل إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وأستطلع أمر محمّد أو ألقاه، فيدخل مكة فيرى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث، فذلك قوله تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً.
[سورة النحل (16) : الآيات 35 إلى 40]
فإن قيل: لم ارتفع جواب المشركين في قولهم أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وانتصب في قوله خَيْراً. فالجواب: أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل فلما سئلوا قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعني الذي يقوله محمد صلّى الله عليه وسلّم أساطير الأولين، والمؤمنين إنما كانوا مقرّين بالتنزيل، فإذا قيل لهم: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً «1» يعنون أنزل خيرا. ثمّ ابتدأ فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ كرامة من الله، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ثمّ فسّرها فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها بدل عن الدار، فلذلك ارتفع تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ مؤمنين. مجاهد: زاكية أعمالهم وأقوالهم. يَقُولُونَ يعني في الآية سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قال القرظي: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال: السلام عليك وليّ الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة. ْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يقبضون أرواحهم. ْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ يعني يوم القيامة، وقيل: العذاب ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بتعذيبه إياهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا عقوبات كفرهم وأعمالهم الخبيثة. وَحاقَ نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 40] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا قل للذين
اقتدينا بهم وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فلولا أن رضيها لغير ذلك ببعض عقوباته أو هدانا إلى غيرها. قال الله: كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني إلّا عليه، فإنّها لم تحرم هذه الأشياء وأنهم ادعوا على الله. وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني بأن اعبدوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وهو كل معبود من دون الله فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ في دينه وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ أي وجبت عَلَيْهِ الضَّلالَةُ حتّى مات على كفره فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي خراب منازلهم وديارهم بالعذاب والهلاك إِنْ تَحْرِصْ يا محمّد عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ. قرأ أهل الكوفة: يَهْدِي بفتح الياء وقسموا ذلك، ولها وجهان: أحدهما: إن معناه فإنّ الله لا يهدي من أضله الله، والآخر: أن يكون يهدي بمعنى يهتدي، بمعنى من أضله الله لا يهتدي «1» يقول العرب: هدى الرجل وهم يريدون اهتدى. وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الدال، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم على معنى من أضله الله فلا هادي له، دليله: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «2» . وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يمنعونهم من عذاب الله وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ. الربيع عن أبي العالية قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلّم به: والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا، فقال المشرك: وإنك لتزعم أنك تبعث بعد الموت فأقسم بالله (لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) فأنزل الله هذه الآية. قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لابن عبّاس: إن ناسا بالعراق يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة ويتأولون هذه الآية. فقال ابن عبّاس: كذب أولئك، إنما هذه الآية عامة للناس، لو كان عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، قال الله ردا عليهم: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. في الخبر أن الله تعالى يقول: كذّبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني،
[سورة النحل (16) : الآيات 41 إلى 50]
وشتمني ابن آدم ولا ينبغي له أن يشتمني، وأمّا تكذيبه إياي فحلفه بي أن لا أبعث الخلق، وأمّا شتمه إياي فقوله اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وأنا الله الواحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كُفُواً أَحَدٌ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ هو مردود إلى قوله: لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا يبين لهؤلاء المنكرين المقتسمين الذين يختلفون وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ. إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ الآية، يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم ولا في غير ذلك [مما نخلق ونكون ونحدث] ، لأنا إذا أردنا خلق شيء وإنشاؤه أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» . وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق، فذكر أن الله عزّ وجلّ أخبر أنه إذا أراد شيئا قال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فلو كان قوله كُنْ مخلوقا لاحتاج إلى قول ثان ولاحتاج ذلك القول إلى قول ثالث إلى ما لا نهاية فلما بطل ذلك ثبت أن الله خلق الخلق بكلام غير مخلوق. [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا عذّبوا وقتلوا في الله، نزلت في بلال وصهيب وخبّاب وعمار وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فعذّبوهم. وقال قتادة: يعني أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم حتّى لحق جماعة منهم بالحبشة ثمّ بوّأهم الله بالمدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار الهجرة وجعل لهم على من ظلمهم [أنصارا من المؤمنين والآية تعم الجميع] «2» . لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة.
ويروى إن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) كان إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أفضل، ثمّ تلا هذه الآية. وقال بعض أهل المعاني: مجاز قوله تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ليحسنّن إليهم في الدنيا. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. الَّذِينَ صَبَرُوا في الله على ما نابهم وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ الآية نزلت في مشركي مكة حين أنكروا نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلّا بعثت إلينا ملكا. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعني هم أهل الكتاب إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ فإن قيل: ما الجالب لهذه الباء؟ قيل: قد اختلفوا في ذلك: فقال بعضهم: هي من صلة أرسلنا و (إلا) بمعنى غير، مجازه: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة. وهذا كما تقول: ما ضرب إلّا أخوك عمر، وهل كلم إلّا أخوك زيدا، بمعنى ما ضرب عمر غير أخيك، هل كلم زيدا غير أخيك. قال أوس بن حجر: أبني لبينى لستم بيد ... إلا يد ليست لها عضد «1» . يعني غير يده، قال الله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «2» أي غير الله. وقال بعضهم: إنما هذا على كلامين، يريد: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا أرسلنا بالبينات والزبر ويشهد على ذلك بقول الأعمش: وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ... ولا قائلا إلّا هو المتعيّبا «3» يقول: لو كان بذلك على كلمة لكان خطأ من سفه القائل، ولكن جاء ذلك على كلامين كقول الآخر: نبّئتهم عذّبوا بالنار جارهم ... وهل يعذّب إلّا الله بالنار «4» وتأويل الكلام: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ أرسلناهم بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ «5» .
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ يعني نمرود بن كنعان وغيره من الكفار وأهل الأوثان أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. أَوْ يَأْخُذَهُمْ العقاب فِي تَقَلُّبِهِمْ تصرفهم في أسفارهم بالليل والنهار فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ مسابقي الله أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ. قال الضحاك والكلبي: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ يعني يأخذ طائفة ويدع فتخاف الطائفة الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها. وقال سائر المفسرين: التخوّف: التنقّص، يعني ينقص من أطرافهم ونواصيهم الشيء بهذا الشيء حتّى يهلك جميعهم. يقال: تخوّف مال فلان الإنفاق، إذا انتقصه وأخذه من حافاته وأطرافه. وقال الهيثم بن عدي: هي لغة لازد شنوءة، وأنشد: تخوّف عدوهم مالي وأهدى ... سلاسل في الحلوق لها صليل «1» قال سعيد بن المسيب: بينما عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على المنبر فقال: يا أيها الناس ما تقولون في قول الله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فسكت الناس، فقام شيخ فقال: يا أمير المؤمنين هذه لغتنا في هذيل، التخوّف: التنقص، فقال عمر: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارهم قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي: [يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه] «2» . تخوّف السير منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن «3» فقال عمر: يا أيها الناس عليكم بديوانكم الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم «4» فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني لم يعجّل العقوبة أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش: (تروا) بالتاء على الخطاب، وقرأ الآخرون بالياء خبرا عن الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ وهو اختيار الأئمة.
إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يعني من جسم قائم له ظل يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ. بالتاء أهل البصرة. الباقون بالياء، ومعنى قوله يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ: يميل ويرجع من جانب إلى جانب فهي في أوّل النهار ثمّ تعود إلى حال أخرى في آخر النهار، فميلانها ودورانها من موضع إلى موضع سجودها، ومنه قيل للظل بالعشي: فيء، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق، والفيء: الرجوع، قال الله: حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ «1» يقال: سجدت النخلة إذا حالت، وسجد البعير وأسجد إذا جعل للركوب، ومثله قال في هذه الآية على هذا التأويل. قتادة والضحاك: أمّا اليمين فأول النهار وأمّا الشمال فآخر النهار، تسجد الضلال لله غدوة إلى أن تفيء الظلال ثمّ تسجد أيضا إلى الليل. وقال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله. وقال عبد الله بن عمر: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر وليس من شيء إلّا وهو يسبح لله تعالى تلك الساعة» ثمّ قرأ يَتَفَيَّؤُا الآية «2» . الكلبي: الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك، ولذلك إذا غابت وإذا طلعت كان قدامك، فإذا ارتفعت كان عن يمينك وإذا كان بعد ذلك كان خلفك، فإذا كان قبل أن تغيب الشمس كان على يسارك فهذا تفيؤه أي تضلله هاهنا وهاهنا، وهو سجوده. وأمّا الوجه في توحيد اليمين وجمع الشمال، فهو أنّ من شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن يبقى واحدة ويلقى الأخرى، واكتفي بالملقي على الملقى بقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ «3» كقوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «4» . وقال بعضهم: اليمين راجع إلى قوله: ما خَلَقَ اللَّهُ ولفظة من أحد، وَالشَّمائِلِ راجعة إلى المعنى وقيل: هذا في الكلام كثير. قال الشاعر: بفي الشامتين الصخر إن كان هدني ... رزية شبلي مخدر في الضراغم «5»
[سورة النحل (16) : الآيات 51 إلى 60]
لم يقل: بأفواه الشامتين. وقال آخر: الواردون وتيم في ذرا سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس «1» لم يقل: جلود. وَهُمْ داخِرُونَ صاغرون وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [وإنما أخبر ب (ما) عن الذي يعقل ولا يعقل على التغلب، كما يغلب الكثير على القليل والمذكر على المؤنث] مِنْ دابَّةٍ يدب عليها كل حيوان يموت، كقوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «2» وقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها «3» . وَالْمَلائِكَةُ خص الملائكة بالذكر مع كونهم من جملتها في الآية لرفع شأنهم، وقيل: لخروجهم من جملة الموصوفين بالتسبيب إذ جعل الله لهم أجنحة كما قال تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ «4» فالطيران أغلب عليهم من الدبيب، وقيل: أراد لله يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ويسجد ملائكة الأرض. وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يعني: يخافون [قدرة] ربهم أن يأتيهم بالعذاب من فوقهم، ويدل عليه قوله: وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ما يؤمرون يعني الملائكة، وقيل: معناه يخافون ربهم الذي فوقهم بالقول والقدرة فلا يعجزه شيء ولا يغلبه أحد [يدل عليه] قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «5» وقوله إخبارا عن فرعون: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «6» . [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 60] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ الطاعة والإخلاص. واصِباً دائما ثابتا. وقال ابن عبّاس: واجبا، تعني الآية أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع عنه بزوال أو هلاك غير الله عزّ وجلّ، فإن الطاعة تدوم له وتصيب واصبا على القطع. قال أبو الأسود الدؤلي: لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا «1» أي دائما. وقال الفراء: ويقال خالصا. أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ. وَما بِكُمْ. قال الفراء: (ما) في معنى الجزاء ولها فعل مضمر، كأنه قال: وما يكون لكم من نعمة فمن الله. أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ [....] «2» أن لّا تتقوا سواه وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ لذلك دخلت الفاء في قوله: فَمِنَ اللَّهِ. ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ يصيحون بالدعاء ويضجون بالاستغاثة. وأصله من جؤار الثور إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو فزع. قال القتيبي يصف بقرة: فطافت «3» ثلاثا بين يوم وليلة ... وكأن النكير أن تضيف وتجأرا «4» ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بعد ما خلصوا له بالدعاء في حال البلاء لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ كفروا نعمته فيما أعطيناهم من النعماء وكشف الضرّ والبلاء فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وهذا وعيد لهم.
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ له نفعا ولا فيه ضرا ولا نفعا نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال وهو ما حملوا لأوثانهم من هديهم وأنعامهم نظيره قوله هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا «1» . ثمّ رجع من الخبر إلى الخطاب فقال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ في الدنيا وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وهم خزاعة وكنانة قالوا: الملائكة بنات الله سبحانه. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين، وفي قوله: ما وجهان من الأعراب: أحدهما الرفع على الابتداء، ومعنى الكلام: يجعلون لله البنات ولهم البنين، والثاني: النصب عطفا على البنات تقديره: ويجعلون لله البنات ويجعلون لهم البنين الذي يشتهون. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا من الكراهة وَهُوَ كَظِيمٌ ممتلئ غما وغيظا يَتَوارى يخفى ويغيب مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من الخزي والعار والحياء ثمّ يتفكر أَيُمْسِكُهُ ذكر الكناية لأنه مردود إلى (ما) عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ يخفيه فِي التُّرابِ فيئده. وذلك أن مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون الإناث أحياء- زعموا- خوف الفقر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن، وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت يستحييها بذلك، ولذلك قال الفرزدق: ومنا الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يوأد «2» أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس ما [يجعلون لله الإناث] ولأنفسهم البنين، نظيره قوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «3» . لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني لهؤلاء الواضعين لله سبحانه البنات مَثَلُ السَّوْءِ احتياجهم إلى الأولاد وكراهيتهم الإناث منهم أو قتلهم إياها خوف الفقر وإقرارا على أنفسهم بالهتك لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أكبر الكبائر أن تدعو لله ندّا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك» [5] «4» . وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى الصفة العليا وهي التوحيد والإخلاص. وقال ابن عبّاس: مَثَلُ السَّوْءِ: النار، والْمَثَلُ الْأَعْلى: شهادة أن لا إله إلّا الله «5» .
[سورة النحل (16) : الآيات 61 إلى 64]
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ فيعاجلهم بالعقوبة على كفرهم وعصيانهم ما تَرَكَ عَلَيْها أي على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم عليه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى منتهى آجالهم ساعة وانقضاء أعمارهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ولا يقال «1» موت قبله وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم، يعني البنات وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى محل (ان) نصب بدل عن الكذب لأنه بيان وترجمة له. وقرأ ابن عبّاس: والحسن (الْكُذُبُ) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة، والكذب: جمع كذوب، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر. أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى يعني اليقين ومعنى الآية: ويجعلون له البنات ويزعمون أن لهم البنين. وقال حيان: يعني بالحسنى الجنة في المعاد إن كان محمّد صادقا في البعث. لا جَرَمَ حقا، وقال ابن عبّاس: بلى «2» . أَنَّ لَهُمُ النَّارَ في الآخرة وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ منسيون في النار. قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير: مبعدون. مقاتل: متروكون. قتادة: معجلون إلى النار. الفراء: مقدمون على النار. وقرأ نافع: (مُفْرِطُونَ) بكسر الراء مع التخفيف أي مسرفون، وقرأ أبو جعفر: بكسر الراء مع التشديد أي مضيّعون أمر الله تعالى. تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كما أرسلناك إلى هذه الأمة فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
[سورة النحل (16) : الآيات 65 إلى 74]
الخبيثة التي كانوا عليها مقيمين فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ناصرهم ومعينهم وقرينهم ومتولي أمورهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من الدين والأحكام وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ عطف الهدى والرحمة على موضع قوله (لِتُبَيِّنَ) لأن محله نصب ومجاز الكلام: وما أنزلنا عليك الكتاب إلّا بيانا للناس وهدى ورحمة. [سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 74] وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جدوبها ودروسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ بسمع القلوب ولا بسمع الآذان. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً لعظة نُسْقِيكُمْ. قرأ أهل المدينة وابن عامر ونافع وعاصم بفتح النون. وقرأ الباقون بضمه. واختاره أبو عبيد قال: لأنه شراب دائم. وحكى عن الكسائي أن العرب تقول: أسقيته نهرا وأسقيته لبنا إذا جعلت له سقيا دائما، فإذا أراد أنهم أعطوه شربة قالوا: سقيناه «1» . وقال غيره: هما لغتان يدل عليه قول لبيد في صفة السقاية: سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال «2»
فجمع بين اللغتين. مِمَّا فِي بُطُونِهِ ولم يقل بطونها والأنعام جميع، قال المبرد: كناية إلى النعم والنعم والأنعام واحد ولفظ النعم، واستشهد لذلك برجز بعض الأعراب. إذا رأيت أنجما من الأسد ... جبهته أو الخراة والكند بال سهيل في الفضيح ففسد ... وطاب ألبان اللقاح فبرد «1» ولم يقل فبردت لأنه رد إلى [اللبن أو الخراة] «2» . قال أبو عبيدة والأخفش: النعم يذكر ويؤنث فمن أنّث فلمعنى الجمع، ومن ذكر فلحكم اللفظ، ولأنه لا واحد له من لفظه. وقال الشاعر يذكره: أكل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه إن له نخيل فلا يحمونه «3» . وقال الكسائي: ردّ الكناية إلى المراد في بطون ما ذكر. وقال بعضهم: أراد بطون هذا الشيء، كقول الله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي «4» وقوله: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ «5» الآية فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ «6» ولم يقل: جاءت. وقال: الصلتان العبدي. إن السماحة والمروة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح «7» وقال الآخر: وعفراء أدنى الناس مني مودة ... وعفراء عني المعرض المتواني «8» وقال الآخر:
إذا الناس ناس والبلاد بغبطة ... وإذ أم عمّار صديق مساعف «1» كل ذلك على معنى هذا الشخص وهذا الشيء. وقال المؤرج: الكناية مردودة إلى البعض والجزء، كأنه قال: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللبن، إذ ليس لكلّها لبن وإنما يسقى من ذوات اللبن، فاللبن فيه مضمر. مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما في الكرش فإذا أخرج منه لا يسمى فرثا وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً خلص من الفرث والدم ولم يختلط بهما سائِغاً لِلشَّارِبِينَ جاهزا هنيئا يجرى في الحلق ولا يغص شاربه، وقيل: إنه لم يغص أحد باللبن قط. قال ابن عبّاس: إذا أكلت الدابة العلف واستقرّ في كرشها لحينه، وكان أسفله فرث وأوسطه لبن وأعلاه دم الكبد [فما كان] على هذه الأصناف الثلاثة يقسم فيجري الدم في العروق، ويجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو. وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ يعني ذلكم أيضا عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ الكناية في قوله: مِنْهُ عائدة إلى المذكورين. سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً. قال قوم: السكر: الخمر، والرزق الحسن: الخل والعنب والتمر والزبيب، قالوا: وهذا قول تحريم الخمر، وإلى هذا القول ذهب ابن مسعود وابن عمرو وسعيد بن جبير وأيوب وإبراهيم والحسن ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والكلبي، وهي رواية عمرو بن سفيان البصري عن ابن عبّاس قال: السكر: ما حرم من ثمرتها، والرزق الحسن: ما حل من ثمرتهما. أما السكر فخمور هذه الأعاجم، وأما الرزق الحسن فما تنتبذون وما تخلّلون وما تأكلون. قال: ونزلت هذه الآية ولم يحرم الخمر يومئذ، وإنما نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة. وقال الشعبي: السكر: ما شربت، والرزق الحسن: ما أكلت. وروى العوفي عن ابن عبّاس: أن الحبشة يسمّون الخل السكر. وقال بعضهم: السكر: النبيذ المسكر وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والشعبي برواية مجالد وأبي روق وقول النخعي ورواية الوالبي عن ابن عبّاس، وقيل: هو نبيذ التمر. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الخمر ما اتخذ من العنب، والسكر من التمر، والبتع من العسل، والمزر
من الذرة [والبيرا] «1» من الحنطة، وأنا أنهاكم عن كل مسكر» [6] «2» . وقال أبو عبيدة: السكر: الطعم، يقال: هذا سكر لك، أي طعم لك. وأنشد: جعلت عيب الأكرمين سكرا «3» إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أي ألقى [على مسامعها] أو قذف في أنفسها ففهمته، والنحل: زنابير العسل، وأحدها نحلة أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ يبنون، وقال ابن زيد: هو الكرم. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ليس معنى الكل العموم وهو كقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «4» وقوله: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها «5» . فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ فادخلي طرق ربك ذُلُلًا. قال بعضهم: الذلل يعني الطرق، ويقول هي مذللة للنحل. قال مجاهد: [لا يتوعر عليها مكان سلكته] . قال آخرون: الذلل نعت [النحل] «6» . قال قتادة وغيره: يعني مطيعة منقادة. يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أبيض وأحمر وأصفر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ. يروى أن رجلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال: «اسقه عسلا» فذهب ثمّ رجع فقال: سقيته فلم يغن عنه شيئا. فقال عليه الصلاة والسلام: «اذهب واسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك» [7] «7» فسقاه فكأنما نشط من عقال، [رواه] عطية عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري.
وقال مجاهد: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ أي في القرآن. والقول الأوّل أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب. روى وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء ما فِي الصُّدُورِ. الأعمش عن خيثم عن الأسود قال: قال عبد الله: عليكم بالشفائين: العسل والقرآن. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكرنا لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعتبرون وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ صبيانا وشبابا وكهولا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أردؤه، يقال منه: (ذل الرجل وفسل، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا) «1» . قال ابن عبّاس: يعني إلى أسفل العمر. مقاتل: وابن زيد: يعني الهرم. قتادة: أرذل العمر سبعون سنة. وروى الأصبغ بن نباتة عن علي (رضي الله عنه) قال: أرذل العمر خمس وسبعون سنة. لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ نظيرها في سورة الحج «2» . وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا في الرزق بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من العبيد حتّى يستووا هم وعبيدهم في ذلك، يقول الله جل ثناؤه: فهم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني. يلزم بهذا المثل الحجة على المشركين، وهذا مثل ضربه الله عزّ وجل، فما منكم من يشرك مملوكه في زوجته وقرابته وماله أفتعدلون بالله خلقه وعباده، فإن لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه من ذلك ولا تعدل به أحدا من عباده وخلقه «3» . عبد الله بن عبّاس: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: عيسى ابن الله، يقول: لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتّى يكون [المولى والملوك] في المنال شرعا سواء فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم نظيرها في سورة الروم ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ «4» [مثلا تعاينه] .
قال أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بالاشراك به. قرأ عاصم: بالتاء على الخطاب، لقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. وقرأ الباقون: بالياء لقوله: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ «1» واختاره أبو عبيد وأبو حاتم: لقرب المخبر منه. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً. ابن عبّاس والنخعي وابن جبير وأبو الأضحى: هم الأصهار أختان الرجل على بناته. روى شعبة عن عاصم: بن بهدلة قال: سمعت زر بن حبيش وكان رجلا غريبا أدرك الجاهلية قال: كنت أمسك على عبد الله المصحف فأتى على هذه الآية قال: هل تدري ما الحفدة، قلت: هم حشم الرجل. قال عبد الله: لا، ولكنهم الأختان. وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس. وقال عكرمة والحسن والضحاك: هم الخدم. مجاهد وأبو مالك الأنصاري: هم الأعوان، وهي رواية أبي حمزة عن ابن عبّاس قال: من أعانك حفدك. وقال الشاعر: حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهنّ أزمّة الإجمال «2» وقال عطاء: هم ولد الرجل يعينونه ويحفدونه ويرفدونه ويخدمونه. وقال قتادة: [مهنة يمتهنونكم] ويخدمونكم من أولادكم. الكلبي ومقاتل: البنين: الصغار، والحفدة: كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله. مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس: إنهم ولد الولد. ابن زيد: هم بنو المرأة من الزوج الأوّل. وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس: هم بنو امرأة الرجل الأوّل. وقال العتبي: أصل الحفد: مداركة الخطر والإسراع في المشي.
[سورة النحل (16) : الآيات 75 إلى 78]
فقيل: لكل من أسرع في الخدمة والعمل: حفدة، واحدهم حافد، ومنه يقال في دعاء الوتر: إليك نسعى ونحفد، أي نسرع إلى العمل بطاعتك. وأنشد ابن جرير [للراعي] : كلفت مجهولها نوقا يمانية ... إذا الحداة على أكسائها حفدوا «1» وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ. قال ابن عبّاس: بالأصنام. وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ يعني التوحيد الباطل فالشيطان أمرهم بنحر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ بما أحلّ الله لهم هُمْ يَكْفُرُونَ يجحدون تحليله. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات. شَيْئاً، قال الأخفش: هو بدل من الرزق وهو في معنى: ما لا يملكون من الرزق شيئا قليلا ولا كثيرا. قال الفراء: نصب (شَيْئاً) بوقوع الرزق عليه. كما قال سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً «2» أي يكفت الأحياء والأموات. ومثله قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ «3» . وَلا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون على شيء، فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ يعني الأشباه والأشكال فيشبهوه بخلقه ويجعلون له شريكا فإنه واحد لا مثيل له إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خطأ ما يضربون له من الأمثال وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ صواب ذلك من خطأه. [سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 78] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
ثمّ ضرب الله تعالى مثلا المؤمن والكافر فقال عز من قائل: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ هو مثل الكافر رزقه الله مالا فلم يقدّم خيرا ولم [يعمل] فيه بطاعة الله تعالى وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هو مثل المؤمن أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه فيما يرضي الله سرا وجهرا فأثابه الله على ذلك النعيم المقيم في الجنة هَلْ يَسْتَوُونَ ولم يقل يستويان لمكان (من) لأنه اسم مبهم يصلح للواحد، والاثنين، والجميع، والمؤنث، والمذكر، وكذلك قوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً ثمّ قال: وَلا يَسْتَطِيعُونَ بالجمع لأجل (ما) ومعنى الآية: هل يستوي هذا الفقر والبخل والغنى [والسخاء] فكذلك لا يستوي الكافر العاصي المخالف لأمر الله والمؤمن المطيع له. روى ابن جريج عن عطاء: عَبْداً مَمْلُوكاً قال: هو أبو جهل بن هشام وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً أبو بكر الصديق (رضى الله عنه) . ثمّ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يقول الله تعالى: ليس الأمر كما يفعلون ولا القول كما يقولون، ما للأوثان عندهم من يد، ولا معروف فيحمد عليه، إنما الحمد هو الكامل لله خالصا، لأنه هو المنعم والخالق والرازق ولكن أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون أنها كذلك. ثمّ ضرب مثلا آخر بنفسه والأصنام فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ يرسله لا يَأْتِ بِخَيْرٍ لأنه لا يفهم ما يقال، ولا يفهم عنه. وقال ابن مسعود: أينما توجهه لا يأت بخير، هذا مثل للصنم الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل ولا يفعل وهو كلّ على [عائده] يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني الله قادر متكلم بأمر التوحيد فليس كصنمكم، فإنه لا يأمر بالتوحيد وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. قال الكلبي: يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم، وقيل: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. قال الكلبي: يعني وَهُوَ يدلكم عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. آخر: ومن قال: كل المسلمين المؤمن والكافر، وهي رواية عقبة عن ابن عبّاس. وروى إبراهيم بن عكرمة بن يعلي بن منبّه عن ابن عبّاس قال: نزلت هذه الآية في عثمان ابن عفان (رضي الله عنه) ومولاه. وكان عثمان ينفق عليه ويكفيه المؤنة وكان مولاه يكره الإسلام [ويأباه وينهاه عن] الصدقة ويمنعه من النفقة. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في هاشم بن عمرو بن الحرث بن ربيعة القرشي وكان رجلا قليل الخير يعادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة النحل (16) : الآيات 79 إلى 83]
وقال عطاء: [الأبكم أبي بن حلف] وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ في قريب كونها وسرعة قيامها إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [كالنظر في البصر] «1» ورجع الطرف لأن ذلك هو أن يقال له: كُنْ فَيَكُونُ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بل هو أقرب إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نزلت في الكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء منهم. وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ. قرأ الأعمش: إِمَّهاتِكُمْ بكسر الألف والميم. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الألف وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الألف وفتح الميم. وأصل الأمهات: أمات، فزيدت الهاء للتأكيد كما زادوها في أهرقت الماء وأصله أرقت لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً هذا كلام تام. ثمّ ابتدأ فقال: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لأن الله تعالى جعل [لعباده السمع] والأبصار والأفئدة قبل إخراجهم من بطون أمهاتهم وإنما [أعطاهم العلم] بعد ما أخرجهم منها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه. [سورة النحل (16) : الآيات 79 الى 83] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) أَلَمْ يَرَوْا. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ويعقوب بالتاء. وقرأ عاصم بضمر التاء. واختاره أبو عبيد لما قبلها. إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ مذللات فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء بين الأرض والسماء
ما يُمْسِكُهُنَّ في الهواء إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ التي هي من الحجر والمدر سَكَناً مسكنا تسكنونه. قال الفراء: السكن: الدار، والسكن بجزم الكاف: أهل البلد. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعني الخيام والقباب والأخبية [والفساطيط من الأنطاع] والأدم وغيرها تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ رحلكم وسفركم وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ في بلادكم [لا يثقل] عليكم في الحالتين. واختلف القرّاء في قوله: يَوْمَ ظَعْنِكُمْ. فقرأ الكوفيون بجزم العين، وقرأ الباقون: بفتحه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه [أشهر] اللغتين وأفصحهما. وَمِنْ أَصْوافِها يعني أصواف الضان وأوبار الإبل وأشعار المعز. والكنايات كلها راجعة إلى الأنعام. أَثاثاً قال ابن عبّاس: مالا «1» ، مجاهد: [مَتاعاً] . حميد بن عبد الرحمن: [أَثاثاً يعني] «2» الأثاث: المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد، والمتاع غيره هو متاع البيت من الفرش والأكسية وغيرها ولم يسمع له واحد مثل المتاع. وقال أبو زيد: واحد الأثاث أثاثة. قال الخليل: أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتّى يكثر ومنه شعر الشعراء كثر وأثّ شعر فلان أي إذا كثر والتف. قال امرؤ القيس: أثيث كقنو النخلة المتعال «3» قال محمّد بن نمير الثقفي في الأثاث: أهاجتك الظعائن يوم باتوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث «4» وَمَتاعاً [بلاغا] تنتفعون بها إِلى حِينٍ يعني الموت. وقيل: إلى حين يبلى ويفنى. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا تستظلون بها من شدة الحر وهو ظلال الأشجار والسقوف والأبنية ومِنَ الْجِبالِ أَكْناناً يعني الغيران والأسراب والمواضع التي تسكنون فيها واحدها كنّ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ قمصا من الكتان والقطن والخز والصوف تَقِيكُمُ تمنعكم.
الْحَرَّ. [وقال] أهل المعاني: [أراد] الحر والبرد فأكتفى بأحدهما عن الآخر بدلالة الكلام عليه نظيره قوله: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى «1» يعني الهدي والإضلال. وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يعني الدروع ولباس الحرب والمعنى: تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يخضعون له بالطاعة ويخلصون له بالعبادة. وروى نوفل بن أبي [عقرب] عن ابن عبّاس أنه قرأ: (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَسْلِمُونَ) بالفتح، يعني من الجراحات. قال أبو عبيد: الاختيار قراءة العامّة، لأن ما أنعم الله علينا في الإسلام أكثر من إنعامه علينا في السلامة من الجراح. وقال عطاء الخراساني في هذه الآية: إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ألا ترى إلى قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وما جعل لكم من السهول أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب جبال. وقال: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر. الا ترى إلى قوله: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ «2» وما ينزل من [الثلج] أعظم وأكثر ولكنهم كانوا لا يعرفونه، ألا ترى إلى قوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وما يقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم ظلوا أصحاب حر. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ. يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ. قال السدي: يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم. ثُمَّ يُنْكِرُونَها يكذبون ويجحدون نبوّته. قال مجاهد: يعني ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم، وبمثله قال قتادة «3» . وقال الكلبي: وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر هذه النعم لهم فقالوا: نعم هذه كلها من الله تعالى ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقال عون بن عبد الله: هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا، لولا فلان ما أصبت كذا.
[سورة النحل (16) : الآيات 84 إلى 89]
وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ الجاحدون. [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يعني رسولها ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يسترضون، يعني لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون للرجوع إلى دار الدنيا [فيتوبون] وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يؤخّرون وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا يوم القيامة شُرَكاءَهُمْ أوثانهم قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أربابا ونعبدهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ أي قالوا لهم، يقال: ألقيت إليك كذا، يعني: قلت لك إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا علمنا بعبادتكم إيانا وَأَلْقَوْا يعني المشركين إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئا وَضَلَّ زال [......] «1» عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من إنها تشفع لهم. الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ. روى عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، قال: عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال، ابن عبّاس ومقاتل: يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار يسيل من تحت العرش، يعذبون بها ثلث على مقدار الليل وثلثان على مقدار النهار. سعيد بن جبير: حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمّتها أربعين خريفا. وقيل: إنهم يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار. ويقال: هو أنهم يحملون أثقال أتباعهم. كما قال الله تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «2» .
[سورة النحل (16) : الآيات 90 إلى 100]
ويقال: إنه يضاعف لهم العذاب. بِما كانُوا يُفْسِدُونَ في الدنيا من الكفر وصد الناس عن الإيمان وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني عليها، وإنما قال: مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنه كان يبعث إلى الأمم أنبياءها منها وَجِئْنا بِكَ يا محمّد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ الذين بعثت إليهم وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه من الأمر والنهي، والحلال والحرام، والحدود والأحكام وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ، [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 100] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ يعني بالإنصاف وَالْإِحْسانِ إلى الناس، الوالبي عن ابن عبّاس: العدل: التوحيد، والإحسان أداء الفرائض. [وقيل:] العدل: شهادة أن لا إله إلّا الله، والإحسان: الإخلاص فيه. عطاء عنه: العدل: مصطلح الأنداد، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، مقاتل: العدل: التوحيد، والإحسان: العفو عن الناس، وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. كقوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «1» . وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى صلة الرحم وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ القبيح من الأقوال والأفعال. وقال ابن عبّاس: الزنا. وَالْمُنْكَرِ ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة وَالْبَغْيِ الفسق والظلم. وقال ابن عيينة: [والعدل في مستوى] السر والعلانية. والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء أن تكون علانيته أحسن من سريرته. يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتعظون. قتادة: إن الله تعالى أمر عباده بمكارم الأخلاق ومعاليها، ونهاهم عن سفاسف الأخلاق ومذاقها. وقال ابن مسعود: وأجمع آية في القرآن هذه الآية. شهر بن حوشب عن ابن عبّاس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفناء بيته بمكة جالسا إذ مرّ به عثمان بن مظعون فكسر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له رسول الله: «ألا تجلس» [8] قال: بلى، فجلس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستقبله فبينما هو يحدّثه إذ شخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصره إلى السماء فنظر ساعة فأخذ يضع بصره حتّى وقع على يمينه في الأرض فتحرّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنّه يستفهم شيئا يقال له، ثمّ شخص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصره إلى السماء كما شخص أول مرة فأتبعه بصره حتّى توارى في السماء فأقبل إلى
عثمان كحالته الأولى، فقال: يا محمّد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل فعلتك لغداة؟ قال: «وما رأيتني فعلت» ؟ قال: رأيتك تشخص بصرك إلى السماء ثمّ وضعته على يمينك فتحرّفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفهم شيئا يقال لك. فقال: «أوفطنت إلى ذلك» ؟ قال: نعم، قال: «أتاني رسول الله جبرائيل آنفا وأنت جالس» قال: نعم: فماذا قال: لك؟ قال: قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ إلى آخره. قال عثمان: فذلك الحين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلّى الله عليه وسلّم «1» . وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ على الوليد بن المغيرة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ إلى آخر الآية، قال له: يا ابن أخ أعد، فأعاد عليه. فقال: إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة فإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر، ثمّ لم يسلم، فأنزل الله فيه: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى «2» . وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها تشديدها [ويحنثوا فيها] ، والتوكيد لغة أهل الحجاز، أمّا أهل نجد فإنهم يقولون: أكّدت تأكيدا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا بالوفاء إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاما. فقال بعضهم: نزلت في الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمرهم الله بالوفاء بها. وقال مجاهد وقتادة: نزلت في حلف أهل الجاهلية. ثمّ ضرب جلّ ثناؤه مثلا لنقض العهد، فقال عز من قائل: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من بعد إبرامه وإحكامه، وكان بعض أهل اللغة يقول: القوة ما غزل على طاقة واحدة ولم يثن. الكلبي ومقاتل: هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم كانت اتخذت مغزلا بقدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفتل عظمة على قدرها وكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر وتأمر جواريها بذلك فكنّ يغزلنّ من الغداة إلى نصف النهار، فإذا انتصف النهار أمرت جواريها بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها. وقوله أَنْكاثاً يعني أنقاضا واحدتها نكثة، وهو كل ما نقض بعد الفتل غزلا كان أو حبالا تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي دخلا وخيانة وخديعة. قال أبو عبيدة: كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل.
أَنْ تَكُونَ أي لأن تكون أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى أكثر وأجلّ مِنْ أُمَّةٍ. قال مجاهد: ذلك أنهم كانوا يحالفون الحلف فيجدون أكبر منهم وأعز ويستيقنوه فيحلف هؤلاء ويحالفون الأكثر فنهاهم الله تعالى عن ذلك إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ يختبركم بأمره إياكم بالوفاء بالعهد وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً على ملّة واحدة، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بخذلانه إياهم عدلا منه فيهم وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بتوفيقه إياهم فضلا منه وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا خديعة وفسادا بَيْنَكُمْ يغرون بها الناس فتسكنون إلى إيمانكم ويأمنون ثمّ ينقضونها ويختلفون فيها فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين، والعرب تقول لكل مبتل بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة: زلّت قدميه. كقول الشاعر: سيمنع منك السبق إن كنت سابقاً ... وتلطع إن زلت بك القدمان «1» وَتَذُوقُوا السُّوءَ العذاب بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني ولا تنقظوا عهودكم تطلبون بنقضها عوضا قليلا من الدنيا، ولكن أوفوا بها
فإنما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فصل ما بين العوضين ثمّ بين ذلك ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ بالنون عاصم. الباقون بالياء. الَّذِينَ صَبَرُوا على الوفاء في السرّاء والضراء أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ دون أسوأها ويغفر سيئاتهم بفضله مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً اختلفوا فيها: فقال سعيد بن جبير وعطاء والضحاك: هي الرزق الحلال، وهو رواية ابن أبي مالك وأبي الربيع عن ابن عبّاس. وقال الحسن وعلي وزيد ووهب بن منبّه: هي القناعة والرضا بما قسم الله، وهذه رواية عكرمة عن ابن عبّاس. وقال مقاتل بن حيان: يعني أحسن في الطاعة، وهي رواية عبيد بن سليم عن الضحاك، فقال: من يعمل صالحا وَهُوَ مُؤْمِنٌ في فاقة أو ميسرة فحياة طيبة. ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل عملا صالحا فمعيشة ضنك لا خير فيها. أبو بكر الوراق: هي حلاوة الطاعة. الوالبي عن ابن عبّاس: هي السعادة، مجاهد وقتادة وابن زيد: هي الجنة، ومثله روي عن الحسن وقال: لا تطيب الحياة لأحد إلّا في الجنة. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. قال أبو صالح: جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الأوثان، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يعني فإذا كنت قارئا للقرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. قال محمّد بن جرير، وقال الآخرون: مجازه: فإذا أردت قراءة القرآن فَاسْتَعِذْ، كقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا «1» الآية، أي الطهارة مقدمة على الصلاة، وقوله: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «2» معناها وإذا أردتم تطليق النساء لأنه محال أن يأمرهم بالتطليق المعين بعد ما مضى التطليق. وأما حكم الآية: فاعلم أن الاستعاذة عند قراءة القرآن مستحبة في الصلاة وغير الصلاة، هذا قول جماعة الفقهاء إلّا مالكا، فإنه لا يتعوذ إلّا في قيام رمضان، واحتج بما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفتتح الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، وإنما تأويل هذا
الحديث أنه كان يفتتح القراءة في الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، يدل عليه أن الصلاة تفتتح بالتكبير بلا خلاف على أن الخبر متروك الظاهر. ويدل على صحة ما قلنا حديث جبير بن مطعم قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي فقال: «الله أكبر كبيرا والحمد لله وسبحان الله بكرة وأصيلا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثة وهمزة» . وقال ابن مسعود: نفخة الكبر ونفثة الشعر وهمزة المرض يعني الجنون، فإذا تقرر هذا ثبت أن الخبر المتقدم متروك بالظاهر مأخوذ المعنى. واختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة: فقال أكثرهم: قبل القراءة، وهو قول الجمهور، وهو الصحيح المشهور. وقال أبو هريرة: يتعوذ بعد القراءة وإليه ذهب داود بن علي. وقال مالك في الصلاة التي يتعوذ فيها وهي قيام رمضان: يتعوذ بعد القراءة واحتج بظاهر الآية، وقد بينّا وجهها، والدليل على أنها قبل القراءة، ما روى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ثمّ يقرأ ، وأما الكلام في محل الاستعاذة في الصلاة، فقد قال الشافعي: يقولها في أول الركعة، وقيل: إن قال حيث يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن ما يقرأ به في شيء من الصلاة كما أمره به في أول ركعة. هذا قول عامة الفقهاء. وقال ابن سيرين: يتعوذ في كل ركعة قبل القراءة. والصحيح المذهب الأوّل، لأن المروي في الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يتعوّذ إلّا في الأولى ، وأما صفتها وفي الصلاة فهي أن ينظر فإن كانت صلاة يسرّ فيها بالقراءة أسرّ فيها بالاستعاذة، وإن كانت يجهر فيها بالقراءة: فقال الشافعي في (الأم) : روي أن أبا هريرة أمّ الناس رافعا صوته: ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم «1» ، وكان ابن عمر يعوذ في نفسه. قال الشافعي: فإن شاء جهر بها وإن شاء أسرّ بها. قال الثعلبي: والاختيار الإخفاء ليفرّق بين ما هو قرآن وما هو ليس بقرآن. فأما لفظة الاستعاذة فالأولى والمستحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لنص القرآن والخبر المتصل المتسلسل، وهو أني قرأت على الشيخ أبي الفضل محمّد بن أبي جعفر
[سورة النحل (16) : الآيات 101 إلى 106]
الخزاعي، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في المواضع كلّها فأني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمّد بالبصرة فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على عبد الله أبي حامد الزنجاني فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على محمّد بن عبد الله بن بسطام فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على روح بن عبد المؤمن فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على يعقوب الحضرمي فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فأني قرأت على سلام بن المنذر، فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عاصم فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على زر بن حبيش فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود فقلت: أعوذ بالسميع العليم، فقال لي: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلقد قرأت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم، فقال لي: «يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ» . قال ابن عجلان: وهكذا علمني أخي أحمد، وقال: هكذا علمني أخي، وقال: هكذا علمني وكيع بن الجراح، وقال: هكذا علمني سفيان الثوري. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ حجة وولاية عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. قال سفيان: لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أن يحملهم على ذنب لا يغفر. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يطيعونه وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بالله مُشْرِكُونَ. وقال بعضهم: الكناية راجعة إلى الشيطان، ومجاز الكلام: الذين يسمعون قوله مشركون بالله، وهذا كما يقال: صار فلان بك عالما، أي من أجلك وبسببك عالما. [سورة النحل (16) : الآيات 101 الى 106] وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ فيما يغيّر ويبدل أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما عدّل من أحكامه قالُوا إِنَّما أَنْتَ يا محمّد مُفْتَرٍ وذلك أن المشركين قالوا: إن محمدا يسجد بأصحابه يأمرهم اليوم ويؤمّرهم غدا ويأتيهم بما هو أهون عليهم، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه. قال الله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام قُلْ نَزَّلَهُ يعني القرآن رُوحُ الْقُدُسِ جبرئيل مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا تثبيتا للمؤمنين وتقوية لإيمانهم [.....] «1» تصديقا ويقينا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ آدمي وما هو من عند الله، واختلف العلماء في هذا البشر من هو: قال ابن عبّاس: كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيا يسمى اللسان وكان المشركون يرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخل عليه ويخرج منه فقالوا: إنما يعلمه بلعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عكرمة وقتادة: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرّي غلاما لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب، [فقالوا] : إنما يعلمه يعيش فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الفراء: قال المشركون إنما يتعلّم محمّد عن مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجمي فأنزل الله تعالى هذه الآية «2» . وقال ابن إسحاق: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني، يقال له: خير، عبد لبعض بني الحضرمي وكان يقرأ الكتب. وقال المشركون: والله ما يعلم محمدا كثيرا ما يأتي به إلّا خير النصراني، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال طلحة بن عمر: بلغني أن خديجة رضى الله عنها كانت تختلف إلى خير فكانت قريش تقول: إن عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة، تعلّم محمّدا فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال عبيد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل [عين التمر] يقال لأحدهما
يسار وللآخر خير، وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن بالتوراة والإنجيل، فربما مرّ بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وهما يقرآن فيقف فيسمع «1» . وقال الضحاك: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا آذاه الكفار يقصد إليهما فيستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلم محمّد منهما، فنزلت هذه الآية. وقال السدي: كان بمكة رجل نصراني يقال له ابن ميسرة يتكلّم بالرومي، فربما يقعد إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال الكفار: إنما يتعلم محمّد منه، فنزلت هذه الآية. وروى علي بن الحكم وعبيد بن سليمان عن الضحاك: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قال: كانوا يقولون: إنما يعلمه سلمان الفارسي، وهذا قول غير مرضي لأن سلمان إنما أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهذه الآية مكية. قال الله تكذيبا لهم [وإلزاما] للحجة عليهم: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أي يميلون إليه ويشيرون إليه. وخص الكسائي هذا الحرف من بين سائره فقرأ بفتح الياء والحاء لأنه كان يحدّثه عن سفيان عن أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله كذلك. أَعْجَمِيٌّ والفرق بين الأعجمي والعجمي، والعربي والإعرابي: أن الأعجمي لا يفصح وأنه كان نازلا بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا. والإعرابي: البدوي، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحا. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ فصيح، وأراد باللسان القرآن لأن العرب تقول للقصيدة واللغة: لسان، كقول الشاعر: لسان السوء تهديها إلينا ... وحنت ما حسبتك أن تحينا «2» يعني باللسان القصيدة والكلمة. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ثمّ إن الله تعالى بعد ما أخبر عن إغراء المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتبين أنهم المفترون دونه، فقال عز من قائل: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ لا محمدا. روى يعلي بن الأشدق عن عبد الله بن حماد قال: قلت يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: «يكون ذلك» . قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يسرق؟ قال: «قد يكون ذلك» . قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يكذب؟
قال: «لا، قال الله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ» «1» . وروى [سهيل] بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر يقول: إيّاكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ اختلف النحاة في العامل في (من) في قوله (مَنْ كَفَرَ) ومن يؤله وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً. فقال نحاة الكوفة: جوابهما جميعا في قوله: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ إنّما هذان جزءان إن اجتمعا أحدهما منعقد بالآخر فجوابهما واحد، كقول القائل: من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه «2» . وقال أهل البصرة: بل قوله (مَنْ كَفَرَ) مرفوع بالرد على الذي في قوله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ومعنى الكلام: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، ثمّ استثنى فقال إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. قال ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في عمار وذلك، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة، وقيل: لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الإسلام رحمة الله ورضوانه عليهما، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها. قال قتادة: أخذ بنو المغيرة عمارا وغطوه في بئر مصون وقالوا له: أكفر بمحمد [ولم يتعمد] ذلك وقلبه كان مطمئنا فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن عمارا كفر. فقال: «كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه» . فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينيه، وقال: «ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» [9] . فأنزل الله هذه الآية «3» . وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمّد: إن هاجروا إلينا فإنا [لا نرى أنكم] منّا حتّى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا كارهين. وروى ابن عون عن محمّد بن سيرين قال: تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن
حكم الآية
أبي ربيعة، وكان عياش من المهاجرين الأولين [وألجأ يضربه] «1» أن يكون بلغ ما بلغ أصحابه هذه [الفعلة] وكان قدم مهاجرا وكان برا بأمه، فحلفت أن لا تأكل خبزا ولا تستظل بظل حتّى يرجع إليها ابنها قال: فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأمه ورجل آخر فأراد أن يرجع معه فقال له أبو جهل: أمك [لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست] ما استظلت، فقال ابنها: بلى ألقاها ثمّ أرجع. فقال: أما إذا أتيت فلا [تعطين راحلتك] أحدا، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحدا فانطلق هو وأبو جهل والرجل، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل: لو تحوّل كل واحد منا على راحلة صاحبه فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا. وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه وحلّفه باللات والعزى فلم يزل به حتّى أعطاه الذي أراد بلسانه، ثمّ انطلق فرجع، وفيه نزلت هذه الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي، أكرهه سيّده على الكفر فكفر مكرها وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، وأسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر خير مع سيده. وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي فتح صدرا وكفر بالقبول وأتى على اختيار واستحباب فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الايمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان وأن اللسان هو المعبّر والترجمان. حكم الآية اتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر، وعلى شتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له. وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه: فأجاز أهل العراق الطلاق المكره، وكذلك قالوا في الإكراه على النذور والايمان [والرجعة] ونحوها، رأوا ذلك [جائزا] ورووا في ذلك أحاديثا واهية الأسانيد. وأما مالك والأوزاعي والشافعي: فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا: لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء، ليس [وراءه] في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر. وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيمرة وعبيد بن عمير، وللشافعي
[سورة النحل (16) : الآيات 107 إلى 110]
في هذه المقالة مذهب ثالث: وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان، ولم يجوّز ذلك إذا كان الإكراه من غير السلطان. [سورة النحل (16) : الآيات 107 الى 110] ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا إلى قوله ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي [طردوا] ومنعوا من الإسلام [ففتنهم] المشركون ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا على الايمان والهجرة والجهاد إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد تلك الفتنة [والفعلة] لَغَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخو أبي جهل من الرضاعة، وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم، ثمّ إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية. وقال الحسن وعكرمة: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرخ، وكان يكتب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فاستزلّه الشيطان فلحق بالكفار، فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأمه فأجاره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ أسلم وحسن إسلامه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وأما قوله (فُتِنُوا) فقرأ عبد الله بن عامر: (فَتَنُوا) بفتح الفاء والتاء، ردّه إلى من أسلم من المشركين الذين فتنوا المسلمين واعتبر بقوله جاهَدُوا وَصَبَرُوا فأخبر بالفعل عنهم. وقرأ الباقون: بضم الفاء وكسر التاء، اعتبارا بما قبله إلا من أكره. [سورة النحل (16) : الآيات 111 الى 117] يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها تخاصم وتحتج عن نفسها بما أسلفت من خير
وشر [مشتغلا بها لا تتفرّغ] إلى غيرها والنفس تذكر وتؤنث وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. روى أبو صالح المري عن جعفر بن زيد قال: قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لكعب الأحبار: يا كعب خوّفنا وحدّثنا حديثا [تنبهنا به] قال: يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو [وافيت] القيامة بمثل عمل سبعين نقيبا، لأتيت عليك ظلمات وأنت لا تهمل إلّا نفسك وأن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرّب ولا نبي مبعث إلا وقع جاثيا على [ركبتيه] حتّى إن إبراهيم ليدلي [بالخلة] فيقول: يا رب أنا خليلك إبراهيم لا أسالك إلا نفسي وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها. وروى عكرمة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتّى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح: يا رب الروح منك وأنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، ويقول الجسد إنما خلقتني كالخشب ليس لي يد ابطش بها ولا عين أبصر بها ولا رجل أمشي بها، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي فجدد عليه العذاب. قال: فيضرب الله لهما مثال أعمى ومقعدا دخلا حائطا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يناله، فنادى المقعد الأعمى: أتيني هاهنا حتّى تحملني، قال: فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمر فعلى من يكون العذاب، قالا: عليهما قال: عليكما جميعا العذاب، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً يعني مكة كانَتْ آمِنَةً لا يهاج أهلها ولا يغار أهلها مُطْمَئِنَّةً قارة بأهلها [لا يحتاجون] إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليها سائر العرب يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ يحمل إليها من البر والبحر، نظيره قوله يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع النعمة وقيل: جمع نعم، وقيل: جمع نعماء مثل بأساء وأبوس فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرّقة والجيفة والكلاب الميتة [والعلهز] وهو الوبر يعالج بالدم، ثم إن رؤساء مكة تكلموا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان؟ فأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون وَالْخَوْفِ يعني بعوث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسراياه التي كانت تطيف بهم. وروى الخفاف والعباس عن أبي عمرو: (وَالْخَوْفَ) بالنصب بإيقاع أذاقها عليه بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. روى مشرح بن فأعان عن سليمان بن عمر بن عثمان قال: صدرنا من الحج مع حفصة زوجة النبي صلّى الله عليه وسلّم وعثمان محصور بالمدينة، فكانت تسأل عنه حين رأت راكبين، فأرسلت إليهما تسألهما فقالا: قتل. فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها- يعني المدينة- القرية التي قال الله
[سورة النحل (16) : الآيات 118 إلى 128]
تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً الآية. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ إلى قوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ بفتح التاء والكاف بمعنى ولا تقولوا الكذب الذي تصف ألسنتكم وتكون (ما) للمصدر. وقرأ ابن عبّاس: (الْكُذُبُ) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ويقولون: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا وأَمَرَنا بِها ... إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من عذاب الله مَتاعٌ قَلِيلٌ يعني الذي هم فيه من الدنيا متاع قليل أو لهم متاع قليل في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة [سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 128] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعني في سورة الأنعام وهو قوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» الآية. وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فجزيناهم ببغيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ الآية قيل الهاء في قوله بعدها راجع إلى الجهالة، وقيل: إلى المعصية لأن السوء بمعنى المعصية، فردّ الكناية إلى المعنى، وقيل: إلى الفعلة إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي معلما للخير يأتم بأهل الدنيا، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة والأخلاق الجميلة ما يجتمع في أمة. روى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال ابن مسعود إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً فقلت: إنما قال الله: (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) . فقال: أتدري ما الأمة وما
القانت؟ قلت: الله أعلم، قال: الأمة الذي يعلّم الخير والقانت المطيع لله. وكذلك كان معاذ بن جبل فكان يعلّم الخير وكان مطيعا لله ولرسوله. وقال مجاهد: كان مؤمنا وحده والناس كفار كلهم، وقال قتادة: ليس من أهل دين إلا يقولونه ويرضونه. شهر بن حوشب قال: لم يبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض ويخرج بركتها، إلّا زمن إبراهيم فإنه كان وحده قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً مسلما مستقيما على دين الإسلام وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني الرسالة والحكمة والثناء الحسن. وقال مقاتل بن حيان: يعني الصلوات في قول هذه الأمة: اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم، [وقيل] أولادا أبرارا على الكبر. وقيل: القبول العام في جميع الأمم وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً حاجا مسلما وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى إبراهيم (عليه السلام) فراح به إلى منى فصلى به الصلوات جميعا الظهر، والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر ثمّ غدا به إلى عرفات فصلى به الصلاتين جميعا الظهر والعصر، ثمّ راح فوقف به حتّى إذا غربت الشمس أفاض به إلى جمع فصلى به الصلاتين المغرب والعشاء، ثمّ بات به حتّى إذا كان كما عجل ما يصلي أحد من المسلمين صلى به [الفجر] ، ثمّ وقف حتّى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين أفاض به إلى منى فرمى الجمرة وذبح وحلق، ثمّ أفاض به إلى البيت فطاف به» [10] فأوحى الله تعالى إلى محمّد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» . إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يقول: ما فرض الله تعالى بتعظيم السبت وتحريمه إلّا عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فقال بعضهم: هو أعظم الأيام، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثمّ سبت يوم السبت. وقال آخرون: بل أعظم الله يوم الأحد لأنه اليوم الذي ابتدأ الله فيه خلق الأشياء واختاروا تعظيم غير ما فرض الله عليهم تعظيمه، وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فرض عليهم تعظيمه واستحلوه.
قال الكلبي: أمرهم موسى بالجمعة فقال: تفرغوا لله عزّ وجلّ في كل سبعة أيام يوما واحدا فأعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصناعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلّا اليوم الذي فرض الله من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه. ثمّ جاءهم عيسى بن مريم بالجمعة فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، يعنون اليهود واتخذوا [يوم] الأحد فقال الله إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. قال قتادة: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني اليهود واستحله بعضهم وحرمه بعضهم. روى همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد» [11] «1» . روى المسيب عن أبي سنان عن مكحول الشامي قال: كان لعمر بن الخطاب على يهودي حق فلقيه عمر فقال: والذي أصطفى أبا القاسم على البشر لا تعمل لي وأنا أطلبك [بشيء] . فقال اليهودي: ما اصطفى الله أبا القاسم على البشر، فرفع عمر عليه السلام يده فلطم عينه، فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم، فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال اليهودي: إن عمر زعم إن الله اصطفاك على البشر وإني زعمت أن الله لم يصطفك على البشر، فرفع يده فلطمني، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما أنت يا عمر فأرضه من لطمته، بلى يا يهودي، آدم صفي الله، وإبراهيم خليل الله، وموسى نجي الله، وعيسى روح الله، وأنا حبيب الله، بلى يا يهودي اسمان من أسماء الله تعالى سمّى بهما أمتي، سمّى نفسه السلام وسمّى أمتي المسلمين، وسمّى نفسه المؤمن وسمّى أمتي المؤمنين، بلى يا يهودي طلبتم يوما وذخر لنا- يعني يوم الجمعة- فاليوم لنا عيد وغدا لكم وبعد غد للنصارى، بلى يا يهودي أنتم الأولون ونحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بلى يا يهودي إن الجنة محرّمة على الأنبياء حتّى أدخلها أنا وإنها لمحرمة على الأمم حتّى يدخلها أمتي» [12] «2» . ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ دين ربك بِالْحِكْمَةِ بالقرآن وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعني مواعظ القرآن وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن. قال المفسرون: أعرض عن أذاهم ولا تقصّر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق،
ونسختها آية القتال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ. قال أكثر المفسرين: سورة النحل مكية كلها إلّا ثلاث آيات وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها، فإنها نزلت بالمدينة في شهداء أحد، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلهم يوم أحد في تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة، حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا وقد مثّل به غير حنظلة الراهب فإن أباه أبو عامر الراهب كان مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك، فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن أظهرنا الله عليهم لتزيدنّ على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ولنفعلنّ ولنفعلنّ، ووقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عمّه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وإذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمصته ثمّ استرطبتها لتأكلها، فلم تلبث في بطنها حتّى رمت بها، فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبدا، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئا من جسده النار» فلما نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «رحمة الله عليك فإنك ما علمتك ما كنت إلا فعالا للخيرات وصولا للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتّى تحشر من أفواه شتى، أم والله لئن أظفرني الله عليهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك» [13] «1» . فأنزل الله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ الآية فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بل نصبر» [14] فأمسك عمّا أراد وكفّر يمينه. وقال ابن عبّاس والضحاك: وكان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال، فلمّا أعز الله الإسلام وأهله ونزلت براءة وأمروا بالجهاد، نسخت هذه الآية. وقال قوم: بل هذه الآية محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالم أكثر مما نال الظالم منه أمر بالجزاء أو العفو ونهى عن الاعتداء. وهذا قول النخعي والثوري ومجاهد وابن سيرين، ثمّ قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أي بمعونة الله وتوفيقه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ في إعراضهم عنك وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ. قرأها بكسر الضاد هاهنا وفي سورة النحل ابن كثير والباقون: بالفتح واختاره أبو عبيد، وقال: لأن الضيق في قلة المعاش وفي المساكن، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه ضيق. وقال أبو عمرو وأهل البصرة: الضّيق بفتح الضاد، الغم والضيق بالكسر [الشدّة] .
وقال الفراء وأهل الكوفة: هما لغتان معروفتان في كلام العرب مثل رطل ورطل. وقال ابن قتيبة: الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهيّن ولين وليّن، وعلى هذا التأويل صفته كأنه قال: ولا تكن في أمر ضيق. مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بالعون والنصرة. روى شعبة عن أبي يونس عن أبي قزعة عن هرم بن حيان وقالوا له: أوصنا. قال: أوصيكم بالآيات الأواخر من سورة النحل ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ إلى آخر السورة.
سورة بني إسرائيل (الإسراء)
سورة بني إسرائيل (الإسراء) مكية. وهي ستة ألف وأربعمائة وستون حرفا، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، ومائة وإحدى عشر آية روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين أعطى في الجنة قنطارين من الأجر والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والاوقية منها خير من الدنيا [وما فيها] » [15] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا. عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير سُبْحانَ اللَّهِ. قال: «تنزيه الله عن كل سوء» ويكون سبحان بمعنى التعجب. قال الأعشى: أقول لما جاءني فخر ... سبحان من علقمة الفاخر وفي بعض الحديث تفسير سُبْحانَ اللَّهِ: براءة الله من السوء «2» . فالآية متضمنة للمعنيين جميعا. مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. اختلفوا فيه: قال بعضهم: كان أسراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسجد مكة.
يدل عليه ما روى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبرئيل بالبراق ... » وذكر حديث المعراج [16] «1» . وقال الآخرون: عرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من دار أم هاني بنت أبي طالب أخت علي (رضي الله عنه) وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي. وقالوا: معنى قوله مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من الحرم، لأن الحرم كله مسجد. يدل عليه ما روى الكلبي عن أبي صالح عن باذان عن أم هاني بنت أبي طالب أنها كانت تقول: ما أسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى في بيتي العشاء الآخرة فصليت معه، ثمّ قمت فنمت وتركته في مصلاه فلم انتبه حتّى أنبهني لصلاة الغداة، قال: «قومي يا أم هاني أحدثك العجب» [17] . فقلت: كل حديثك العجب بأبي أنت وأمي فقام وصلى الغداة فصليت معه فلما انصرف قال: «يا أم هاني لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بعد نومك ثمّ أتاني جبرئيل وأنا في مصلاي هذا فقال: يا محمّد أخرج فخرجت إلى الباب فإذا بملك راكب على دابة فقال لي: اركب فركبت فسارت بي إلى بيت المقدس، فإذا أتيت على واد طالت يدا الدابة وقصرت رجلاها، فإذا أتيت على عقبة طالت رجلاها وقصرت يداها حتّى إذا انتهيت إلى بيت المقدس فصليت فيه ثمّ صليت صلاة الغداة معكم الآن كما تروني» «2» . قال مقاتل: كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة. إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يعني بيت المقدس، سمّي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالماء والأنهار والأشجار والثمار. وقال مجاهد: سمّاه مباركا لأنه مقرّ الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة والوحي، وهو الصخرة، ومنه يحشر الناس يوم القيامة. لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا عجائب أمرنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. وأما حديث المسرى، فاقتصرت به على الأخبار المأثورة المشهورة دون المناكير والأحاديث الواهية الأسانيد وجمعتها على نسق واحد مختصر، ليكون أعلى في الاستماع وأدنى إلى الانتفاع، وهو ما روى الزهري عن ابن سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وروى السدي عن محمّد بن السائب عن باذان عن ابن عبّاس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: دخل كلام بعضهم في بعض قالوا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان، جاءني جبرئيل (عليه السلام) فقال يا محمّد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل: ائتني بطشت من ماء زمزم لكيما [وعطر قلبه] «1» وأشرح له صدره قال: فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم، فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملاه حلما وعلما وإيمانا وختم بين كتفيّ بخاتم النبوة، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي حتّى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال لملك: ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر، فقال: توضأ فتوضأت ثمّ قال لي: انطلق يا محمّد. قلت: إلى اين؟ قال: إلى ربك ورب كل شيء، فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد فإذا أنا بالبراق- دابة فوق الحمار ودون البغل- خدّه كخد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درة بيضاء عليه رحل من رحائل الجنة، وله جناحان في فخذيه يمر مثل البرق خطوة منتهى طرفه فقال لي: اركب، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام. قال: فلما وضعت يديّ عليه شمس «2» واستعصى عليّ، فقال جبرئيل: مه يا براق، فقال البراق: يا جبرئيل [مس ظهري] «3» فقال جبرئيل: هل مسست [ظهرا] «4» قال: لا والله إلّا إني مررت يوما على [نصاب إبل] فمسحت يدي على رؤسهما وقلت: إن قوما يعبدونكما من دون الله ضلال. فقال جبرئيل: يا براق أما تستحي فوالله ما ركبك مذ كنت قط نبي أكرم على الله من محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: فارتعش البراق وأنصب عرقا حياء مني، ثمّ خفض لي حتى لزق بالأرض، فركبته واستويت عليه قام بي جبرئيل نحو المسجد الأقصى بخطوا البراق مدّ البصر يرسل إلى جنبي لا يفوتني ولا أفوته حينا أنا في مسيري إذا جاءني نداء عن يميني قال: يا محمّد على رسلك أسلك بقولها ثلاثا فلم أرفق عليه ثمّ مضيت حتّى جاوزته، فإذا أنا بامرأة عجوز رفعت لي عليها من كل زينة وبهجة تقول: يا محمّد إليّ، فلم ألتفت إليها وقلت: يا جبرئيل من هذا الذي ناداني عن يميني؟ فقال: داعية اليهود والذي نفسي بيده لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك والذي ناداك من يسارك داعية النصارى، والذي نفسي بيده لو أجبت لتنصّرت أمتك من بعدك، فأما التي رفعت لك بهجتها وزينتها فهي الدنيا لو التويت إليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
ثمّ أتيت بإناءين أحدهما اللبن والآخر خمرة فقيل لي: اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته. فقال لي جبرئيل: أصبت الفطرة أنت وأمتك، أما إنك لو أخذت الخمر لخمرت أمتك من بعدك قال: ثمّ سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسار معه جبرئيل فأتى على قوم يزرعون ويحصدون في يوم واحد، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف، وما أنفقوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. قال: ثمّ أتى على قوم يرضخ رؤسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيئا. قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثمّ أتى على قوم إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع فيسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع، والزقوم قد صف جهنم وحجارتها فقال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ... وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1» ثمّ أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج طيب ولحم آخر خبيث، فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب، قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هذا الرجل من يكون عنده المرأة حلالا طيبا فأتى امرأة خبيثة فيبيت معها حتّى يصبح، فالمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي الرجل الخبيث فتبيت معه حتّى تصبح، ثمّ أتى على [امرأة] في الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء آخر إلا فتّته. فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا مثل أمتك يقعدون على الطريق فيقطعون بمثل وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ «2» الآية ثمّ أتى على رجل جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا الرجل من أمتك عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يزيد عليها، ثمّ أتى على قوم يقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة، ثمّ أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع. قال: ما هذا؟ قال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثمّ يندم عليها ولا يستطيع أن يردها. قال: ثمّ أتى واد فوجد ريحا طيبة باردة وصوتا. قال: ما هذه الريح الطيبة وما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت الجنة، فقال: ربّ أرني بما وعدتني فقد كثر غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ولبني وخمري ومائي، فأتني بما وعدتني. فقال: لك كل مؤمن ومؤمنة من آمن بي وبرسلي
وعمل صالحا ولم يشرك بي ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل عليّ كفيته، إني أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا لا أخلف الميعاد قد أفلح المؤمنين تبارك اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قال: قد رضيت. قال ثمّ أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنه فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: [يا ربّ آتني] «1» ما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حرّي ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ. قالت: قد رضيت يا رب، ثمّ سار ومعه جبرئيل فقال له جبرئيل: انزل فصل. قال: فنزلت وصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة إلى الله. ثمّ قال: انزل فصلّ قال فنزلت فصليت فقال: أتدري أين صليت! صليت بطور سيناء حيث كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى ثمّ قال: انزل فصل، قال: فنزلت فصليت. فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى (عليه السلام) قال: ثمّ مضينا حتّى أتينا بيت المقدس فلما انتهيت إليه إذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونني بالبشارة والكرامة من عند رب العزة يقولون: السلام عليك يا أول ويا آخر ويا حاشر، قال: قلت يا جبرئيل ما تحيتهم إياي؟ قال: إنك أول من تنشر عنه الأرض وعن أمتك، وأول شافع وأول مشفع وإنك آخر الأنبياء وإن الحشر لك وبأمتك يعني حشر يوم القيامة» . قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ جاوزناهم حتّى انتهينا إلى باب المسجد، فأنزلني جبرئيل وربط البراق بالحلقة الي كانت تربط بها الأنبياء (عليه السلام) بحطام عليه من حرير الجنة، فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين» [18] «2» . وفي حديث أبي العالية: «أرواح الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله قبلي من لدن إدريس ونوح إلى عيسى قد جمعهم الله عزّ وجلّ، فسلموا عليّ وحيوني بمثل تحية الملائكة قلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: إخوتك الأنبياء، زعمت قريش أن لله شريكا، واليهود والنصارى أن لله ولدا، سل هؤلاء المرسلين هل لله شريك؟ وذلك قوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ «3» فأقرّوا بالربوبية لله تعالى ثمّ جمعهم والملائكة صفوفا فقدمني وأمرني أن أصلي بهم فصليت بهم ركعتين. ثمّ إن الأنبياء أثنوا على ربهم فقال إبراهيم (عليه السلام) الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني مُلْكاً عَظِيماً وجعلني
أُمَّةً قانِتاً يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليّ بَرْداً وَسَلاماً. ثمّ إن موسى (عليه السلام) أثنى على ربّه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي كلمني تكليما وجعل هلاك فرعون منه ونجاة بني إسرائيل على يديّ، وجعل من أمتي قوما يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. ثمّ إن داود (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير وأعطاني الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ. ثمّ إن سليمان (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي جنود الشياطين يعملون لي ما شئت مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلا وآتاني ملكا عظيما لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب. ثمّ إن عيسى (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي جعلني كلمة منه وجعلني أخلق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وجعلني أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ ورفعني وطهرني وأعاذني وأمّي مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فلم يكن للشيطان علينا سبيل. ثمّ إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قال: كلكم قد أثنى على ربه وأنا مثن على ربي فقال: الحمد لله الذي أرسلني رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وأنزل عليّ القرآن (فيه بيان كل شيء) وجعل أمتي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» وجعل أمتي أُمَّةً وَسَطاً «2» وجعل أمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما. فقال إبراهيم (عليه السلام) : بهذا أفضلكم محمّد، ثمّ أتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها: إناء فيه ماء فقيل له: اشرب فشرب منه يسيرا، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له: اشرب فشرب منه حتّى روى، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له: اشرب، فقال: لا أريده قد رويت. فقال له جبرئيل: قد أصبت أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلّا قليل، ولو رويت من الماء لغرقت وغرقت أمتك ثمّ أخذ جبرئيل (عليه السلام) بيدي فانطلق بي إلى الصخرة فصعد بي إليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثله حسنا وجمالا لم ينظر الناظرون إلى شيء قط أحسن منه. ومنه تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء إحدى عارضيه ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء درجة من فضة ودرجة من ذهب ودرجة من زمرد مكلل بالدر والياقوت وهو المعراج الذي ينطلق منه ملك الموت لقبض الأرواح [لمغاراتهم فيمنكم شخص أسرعت] «3» عنه المعرفة إذا عاينه لحسنه، فاحتملني جبرئيل حتّى
وضعني على جناحه ثمّ ارتفع بي إلى سماء الدنيا من ذلك المعراج، فقرع الباب فقيل: من؟ قال: أنا جبرئيل. قال: ومن معك؟ قال: محمّد. قال: أوقد بعث محمّد؟ قال: نعم. قال: مرحبا به حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب ودخلنا. قال: فبينما أنا أسير في السماء الدنيا إذ رأيت ديكا له زغب أخضر ورأس أبيض بياض ريشه كأشد بياض ما رأيته قط، وزغب أخضر تحت ريشه كأشد خضرة ما رأيتها قط وإذا رجلا في تخوم الأرض السابعة السفلى ورأسه عند العرش مثنيّ عنقه تحت العرش له جناحان من منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فإذا كان في بعض [الميل] نشر جناحيه وخفق بهما، وصرخ بالتسبيح لله عزّ وجلّ يقول سبحان الملك القدوس الكبير المتعال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ فإذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت ديكة الأرض كلها، ثمّ إذا هاج بنحو ما فعلوا في السماء صاحت ديكة الأرض جوابا له بالتسبيح لله عزّ وجلّ بنحو قوله. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقا إليه أن أراه ثانية» . قال: ثمّ مررت بملك نصف جسده مما يلي رأسه نار والنصف الآخر ثلج وما بينهم رتق، فلا النار يذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار، وهو قائم ينادي بصوت له حسن رفيع: اللهم مؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين. فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: ملك من الملائكة يقال له حبيب وكلّه الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين، ما أنصحه لأهل الأرض هذا قوله منذ خلقه الله تعالى. قال: ثمّ مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جمع الدنيا بين ركبتيه، وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا ينظر فيه كهيئة الحزين. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ ما مررت أنا بملك أنا أشد خوفا منه شيء من هذا؟ قال: وما يمنعك كلّنا بمنزلتك، هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح وهو أشد الملائكة عملا وأدأبهم. قلت: يا جبرئيل كل من مات نظر إلى هذا؟ قال: نعم. قلت: كفى بالموت من طامة. فقال: يا محمّد ما بعد الموت أطمّ وأعظم، قلت: يا جبرئيل أدنني من ملك الموت أسلم عليه وأساله فأدناني منه فسلمت عليه فأومى إليّ فقال له جبرئيل: هذا محمّد نبي الرحمة ورسول العرب فرحب بي وحياني وأحسن بشارتي وإكرامي. وقال: أبشر يا محمّد فإني ارى الخير كله في أمتك. فقلت: الحمد لله المنان بالنعم، ما هذا اللوح الذي بين يديك؟ قال: مكتوب فيه آجال الخلائق. قلت: فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية؟ قال: تلك في لوح آخر قد علمت خلقها، ولذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه خلّفت عليها، فقلت: يا ملك
الموت سبحان الله كيف تقدر على قبض أرواح جميع أهل الأرض وأنت في مكانك هذا لا تبرح؟ قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي وجميع الخلائق بين عيني ويداي يبلغان المشرق والمغرب وخلقهما فإذا نفد أجل عبد من عباد الله نظرت إليه وإلى أعواني فإذا نظر أعواني من الملائكة اليّ فنظرت إليه عرفوا أنه مقبوض فعمدوا إليه يعالجون نزع روحه فإذا بلغ الروح الحلقوم علمت ذلك ولا يخفى عليّ شيء من أمري، أمددت يدي إليه فقبضته فلا يلي قبضه غيري، فذلك أمري وأمر ذوي الأرواح من عباد الله. قال: إنما أبكاني حديثه وأنا عنده ثمّ جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقا مثله عابس الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب، فلما نظر رغبت منه شيئا وسألته فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ فإني رعبت منه رعبا شديدا قال: فلا تعجب أن ترعب منه كلنا بمنزلتك في الرعب منه، هذا مالك خازن النار لم يتبسم قط ولم يزل منذ ولّاه الله عزّ وجلّ جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على أعداء الله عزّ وجلّ وأهل معصيته لينتقم منهم، قلت: ادنني منه. فأدناني منه فسلم عليه جبرئيل فلم يرفع رأسه فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمّد رسول العرب فنظر اليّ وحياني وبشرني بالخير. فقلت: مذ كم أنت واقف على جهنم؟ فقال: مذ خلقت حتّى الآن وكذلك إلى أن تقوم الساعة فقلت: يا جبرئيل مرة ليرني طرفا من النار فأمره ففعل فخرج منه لهب ساطع أسود معه دخان مكدر مظلم امتلأ منه الآفاق فرأيت هولا عظيما وأمرا فظيعا أعجز عن صفته لكم فغشي عليّ وكاد يذهب نفسي، فضمّني جبرئيل وأمر أن يرد النار فردّها. قال صلّى الله عليه وسلّم: «فجاوزناها فمررنا بملائكة كثيرة لا يحصى عدتهم إلّا الله عزّ وجلّ منهم وجوه بين كتفيه ووجوه في صدره في كل وجه أفواه والسن، فهو يحمد الله ويسبحه بتلك الألسن ورأيت من أجسامهم وخلقهم وعبادتهم أمرا عظيما، ثمّ جاوزناها فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خليقة الناس عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك فإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى بحزن، فقلت: يا جبرئيل من هذا وما هذان البابان؟ قال: هذا أبوك آدم (عليه السلام) هذا الباب عن يمينه باب الجنة إذا نظر إلى من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن قال: ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبرئيل (عليه السلام) فقيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد، قيل: وقد أرسله الله. قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء، فدخلنا فإذا بشابين فقلت: يا جبرئيل من هذان الشابان؟ فقال: هذا عيسى ويحيى أبناء الخالة.
قال: ثمّ صعدت إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل قد فضّل على الناس بالحسن كأفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا أخوك يوسف (عليه السلام) » . قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل من حاله [كذا] فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: «هذا إدريس رفعه الله مَكاناً عَلِيًّا وهو مسند ظهره إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم. قال: ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل: قالوا: من معك؟ قال: محمّد قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء. قال: ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يقصّ عليهم فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ ومن هؤلاء الذين حوله؟ قال: هذا هارون [المحبب] وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل» . قال «ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة فاستفتح فقالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمّد؟ قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا موسى. قلت: فما له يبكي؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عزّ وجلّ، وهذا رجل من بني آدم وقد خلفني في دنياه وأنا في آخرتي فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته» . قال: «ثمّ صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل [أشمط] جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم جلوس [بيض] الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء [ ... ] «1» فقام الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء،
ثمّ دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى جنب أصحابهم فقلت: يا جبرئيل من هذا الأشمط ومن هؤلاء وما هذه الأنهار؟ قال: هذا أبوك إبراهيم (عليه السلام) أوّل من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، فأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار الثلاثة فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً قال: فإذا إبراهيم مستند إلى بيت فسالت جبرئيل، فقال: هذا البيت المعمور يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم. قال: فاتي بي جبرئيل حتّى انتهينا إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بشجرة لها أوراق الواحدة منها مغطية الدنيا بما فيها وإذا شقها مثل هلال هجر تخرج من أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فسألت عنها جبرئيل فقال: أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهرين فالنيل والفرات ويخرج أيضا من أصلها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وهي على حد السماء السابعة مما الجنة وعروقها وأغصانها تحت الكرسي. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انتهيت إلى سدرة المنتهى وأنا أعرف أنها سدرة المنتهى وأعرف ورقها وثمرها فغشيها من نور الله ما غشيها وغشيتها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله تعالى فلما غشيها ما غشيها تحولت حتّى ما يستطيع أحد منعها، قال: وفيها ملائكة لا يعلم عدّتهم إلّا الله عزّ وجلّ، ومقام جبرئيل في وسطها فلما انتهيت إليها قال لي جبرئيل: تقدم. فقلت: أقدم من؟ تقدم أنت يا محمّد فإنك أكرم على الله مني، فتقدمت وجبرئيل على أثري حتّى انتهى بي إلى حجاب فراس الذهب فحرك الحجاب. فقال: من ذا؟ قال: أنا جبرئيل ومعي محمّد. قال الملك: الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني وخلف جبرئيل فقلت له: إلى أين؟ قال: يا محمّد وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ إن هذا منتهى الخلائق، وإنما أذن لي في الدنو إلى الحجاب لاحترامك ولجلالك» . قال: «فانطلق بي الملك أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب. قال الملك: من وراء الحجاب: من هذا؟ قال: أنا صاحب فراس الذهب وهذا محمّد رسول العرب معي. فقال الملك: الله اكبر وأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني حتّى وضعني بين يديه فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتّى جاوزوا بي سبعين حجابا غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام، ثمّ دلّى لي رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس فالتمع بصري ووضعت على ذلك الرفرف ثمّ احتملني حتّى وصلني إلى العرش فلما رأيت العرش اتضح كل شيء عند العرش فقربني الله إلى سند العرش وتدلى لي
قطرة من العرش فوقف على لساني فما ذاق الذائقون شيئا قط أحلى منها فأنبأني الله عزّ وجلّ بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كلّ من هيبة الرحمن، فقلت: التحيات لله والصلوات الطيبات. فقال الله تعالى: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقلت: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال: يا محمّد هل تعلم فيم اختصم الملأ «1» الأعلى؟ فقلت: أنت أعلم يا رب بذلك وبكل شيء وأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قال: اختلفوا في الدرجات والحسنات، فهل تدري يا محمّد ما الدرجات وما الحسنات؟ قلت: أنت أعلم يا رب. قال: الدرجات إسباغ «2» الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلوات بعد الصلاة والحسنات إفشاء السلم وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام ثمّ قال: يا محمّد آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ؟ قلت: نعم أي رب. قال: ومن؟ قلت: والمؤمنين كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «3» كما فرقت اليهود والنصارى. فقال: ماذا قالوا؟ قلت: قالُوا: سَمِعْنا قولك وَأَطَعْنا أمرك. قال: صدقت فسل تعط. قال: فقلت: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ «4» قال: قد غفرت لك ولأمتك سل تعطه؟ فقلت: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد رفعت الخطأ والنسيان عنك وعن أمتك وما استكرهوا عليه، قلت: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال: قد فعلت ذلك بك وبأمتك. قلت ربنا وَاعْفُ عَنَّا من الخسف وَاغْفِرْ لَنا من القذف وَارْحَمْنا من المسخ أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «5» قال: قد فعلت ذلك لك ولأمتك، ثمّ قيل: لي سل. فقلت: يا رب إنك اتخذت إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، وكلمت مُوسى تَكْلِيماً، ورفعت إدريس مَكاناً عَلِيًّا، وآتيت سليمان مُلْكاً عَظِيماً، وآتيت داوُدَ زَبُوراً، فما لي يا رب؟ قال ربي: يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وكلمتك كما كلمت مُوسى تَكْلِيماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبيا قبلك، وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعا أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبيا قبلك وجعلت الأرض كلها برّها وبحرها طهورا ومسجدا لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء
ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر، وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمنا عليها قُرْآناً فَرَقْناهُ ورفعت لَكَ ذِكْرَكَ فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني، وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الإنجيل المبين ومكان الزبور الحواميم، وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وجعلهم أُمَّةً وَسَطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» . قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ فوّض لي بعهد بعدها أمور لم يؤذن لي أن أخبركم بها ثمّ فرضت عليّ وعلى أمتي في كل يوم وليلة خمسون صلاة فلما شهد اليّ بعهده وتركني عنده ما شاء قال لي: إرجع إلى قومك فبلغهم عني فحملني الرفرف الأخضر الذي كنت عليه يخفضني ويرفعني حتّى أهوى بي إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بجبرئيل (عليه السلام) أبصره خلفي بقلبي كما أبصر بعيني أمامي، فقال لي جبرئيل: ابشر يا محمّد فإنك خير خلق الله وصفوته من النبيين حياك الله بما لم يحيي به أحدا من خلقه لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولقد وضعك مكانا لم يصل إليه أحد من أهل السماوات والأرض فهنّاك الله كرامته وما حباك من المنزلة الأثيرة والكرامة الفائقة، فخذ ذلك واشكر فإن الله منعم يحب الشاكرين. فحمدت الله على ذلك ثمّ قال لي جبرئيل: انطلق يا محمّد إلى الجنة حتّى أريك ما لك فيها فتزداد بذلك في الدنيا زهادة إلى زهادتك وفي الآخرة رغبة إلى رغبتك فسرنا نهوي منفضين أسرع من السهم والريح حتّى وصلنا بإذن الله إلى الجنة فهدأت نفسي [وثاب] إليّ فؤادي وأنشأت أسأل جبرئيل عما كنت رأيت [في الجنة] من البحور والنار والنور وغيرها، فقال: سبحان الله تلك سرادقات عرش رب العزة التي أحاطت بعرشه فهي سترة الخلائق من نور الحجب ونور العرش لولا ذلك لأحرق نور العرش ونور الحجب من تحت العرش من خلق الله وما لم تره أكثر وأعجب، قلت: سبحان الله ما أكثر عجائب خلقه. قلت: يا جبرئيل ومن الملائكة الذين رأيتهم في تلك البحور الصفوف بعد الصفوف كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ؟ قال: يا رسول الله هم الروحانيون الذين يقول الله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ ومنهم الروح الأعظم، ثمّ بعد ذلك قلت: يا جبرئيل فمن الصف الواحد الذين في البحر الأعلى فوق الصفوف كلها قد أحاطوا بالعرش؟ قال: هم الكروبيون أشراف الملائكة وعظمائهم ولا يجتري أحد من الملائكة أن ينظر إلى ملك من الكروبيين وهم أعظم شأنا من أن أصف صفتهم لك وكفى ما رأيت منهم، ثمّ طاف بي جبرئيل في الجنة بإذن الله فما نزل منها مكانا إلّا رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدر والياقوت والإستبرق والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر قضبانهم اللؤلؤ وعروقهن الفضة راسخة في المسك فلأنا أعرف بكل قصر وبيت وغرفة وخيمة ونهر وثمر في الجنة مني بما في مسجدي هذا.
قال: ورأيت نهرا يخرج من أصله ماء أشد بياضا من اللبن واحلى من العسل على رضراض درّ وياقوت ومسك أذفر. فقال جبرئيل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله عزّ وجلّ وهو التسنيم يخرج من دورهم وقصورهم وبيوتهم وغرفهم يمزجون بها أشربتهم من اللبن والعسل والخمر فذلك قوله وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ... عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «1» الآية. ثمّ انطلق بي يطوف في الجنة حتّى انتهينا إلى شجرة لم أر شجرة مثلها، فلما وقفت تحتها رفعت رأسي فإذا أنا لا أرى شيئا من خلق ربي غيرها لعظمها وتفرق أغصانها ووجدت فيها ريحا طيبة لم أشم في الجنة ريحا أطيب منها فقلّبت بصري فيها فإذا ورقها حلل طرائف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأخضر وثمارها أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلقها الله في السماوات والأرضين من ألوان شتى وطعوم شتى وريح شتى، فعجبت من تلك الشجرة وما رأيت من حسنها. قلت: يا جبرئيل ما هذه الشجرة؟ قال: هذه التي ذكرها الله عزّ وجلّ [بشرى] طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ولكثير من أمتك ورهطك في ظلها حسن مقيل ونعيم طويل ورأيت في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كل ذلك مفروغ عنه معدّ إنما ينتظر به صاحبه من أولياء الله عزّ وجلّ وما غمني الذي رأيت قلت: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ. ثمّ عرض عليّ النار حتّى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحيّاتها وعقاربها وغساقها ويحمومها، فنظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثمّ يجعل في أفواههم صخرا من نار تخرج من أسافلهم. قلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. ثمّ انطلقت فإذا أنا بنقر لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرّ بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غُدُوًّا وَعَشِيًّا. قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا ومثلهم كمثل الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «2» ثمّ انطلقت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن منكسات أرجلهن. قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هن اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن. ثمّ أخرجني من الجنة فمررنا بالسموات منحدرا من السماء إلى السماء حتّى أتيت على موسى فقال: فما فرض الله عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. فقال موسى: أنا أعلم بالناس منك وأني [سرت] «3» الناس بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة وأن أمتك أضعف الأمم فارجع إلى ربك واسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لن تطيق ذلك. قال: فرجعت إلى ربي [19] .
وفي بعض الأخبار: «فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجدا، قلت: يا رب فرضت عليّ وعلى امتي خمسين صلاة ولن أستطيع أن أقوم بها ولا أمتي فخفّف عني عشرا. فرجعت إلى موسى فسألني فقلت: خفف عني عشرا. قال: ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فإني قد لقيت من بني إسرائيل شدة. قال: فرجعت فردّها إلى ثلاثين فما زلت بين ربي وبين موسى (عليه السلام) حتى جعلها خمس صلوات فأتيت موسى (عليه السلام) فقال: إرجع إلى ربك فأسأله التخفيف. فقلت: فإني قد رجعت إلى ربي حتّى استحيت وما أنا براجع إليه، قال: فنوديت أني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلوات، ولا يبدل القول لدي فخمسة بخمسين فقم بها أنت وأمتك إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي بالحسنة عشر أمثالها لكل صلاة عشر صلوات. قال: فرضيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم كل الرضا وكان موسى (عليه السلام) من أشدهم عليه حين مرّ به وخيرهم لهم حين رجع إليه. ثمّ انصرفت مع صاحبي وأخي جبرئيل لا يفوتني ولا أفوته حتّى انصرف بي إلى مضجعي وكان كل ذلك ليلة واحدة من لياليكم هذه فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وإليّ مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا مقبوض عن قريب بعد الذي رأيت فإني رأيت من آيات ربي الكبرى ما رأيت وقد أحببت اللحوق بربي عزّ وجلّ ولقاء من رأيت من إخواني، وما رأيت من ثواب الله لأوليائه وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى «1» . قال: فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال: «يا جبرئيل إن قومي لا يصدقونني» . قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق (رضي الله عنه) . قال ابن عبّاس وعائشة رضى الله عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما كانت ليلة أسري بي وأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت إن الناس تكذبني» . قال: فقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتزلا حزينا فمرّ به أبو جهل عدو الله فأتاه فجلس إليه، وقال كالمستهزي: هل استفدت من شيء؟ قال: «نعم إني أسري بي الليلة» قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» قال: ثمّ أصبحت بين ظهرانينا. قال: «نعم» فكان أبو جهل ينكر مخافة أن يجحده، الحديث. قال: أتحدث قومك ما حدثتني؟ قال: «نعم» قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلمّوا. قال: فانتقضت المجالس فجاءوا حتّى جلسوا إليهما. قال: حدّث قومك ما حدثتني. قال: «نعم إنّي أسري بي الليلة» . قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» . قال: ثمّ أصبحت بين
ظهرانينا قال: «نعم» . قال: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب، فارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر (رضي الله عنه) فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟. قال: أوقد قال؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في عدوه وروحه. فلذلك سمي أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) . قال: وفي القوم من قد سافر هناك ومن قد اتى المسجد، فقالوا: هل تستطيع أن تصف لنا المسجد؟ قال: «نعم» . قال: فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتّى التبس عليّ. قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتّى وضع دون دار عقيل أو عقال «1» فنعت المسجد وأنا أنظر إليه. فقال القوم: أما النعت فو الله قد أصاب. ثمّ قالوا: يا محمّد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا من قولك، هل لقيت فيها شيئا؟ قال: «نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروجاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قعب من ماء فعطشت فأخذته فقربته ثمّ وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه» . قالوا: إن هذه آية واحدة. قال: «ومررت بعير فلان وفلان وفلان راكبان قعودا لهما ببني مرة ففر بكرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك. قالوا: وهذه آية أخرى. قالوا: أخبرنا عن عيرنا نحن؟ قال: «مررت بها بالنعيم» . قالوا: فما عدتها وأحمالها وغنمها؟ قال: «كنت في شغل من ذلك ثمّ مثلت لي فكأنه بالجزورة وبعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها» فقال: «نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان تقدمها جعل أورق عليه خزارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس» . قالوا: وهذه آية، ثمّ خرجوا يشدّون نحو [الثلاثة] وهم يقولون: والله لقد قص محمّد شيئا وبيّنه حتّى أتوا كدا فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبون، إذ قال قائل منهم: هذا الشمس قد طلعت. وقال الآخر: وهذه الإبل قد طاعت يتقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا وقالوا: ما سَمِعْنا بِهذا قط إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. آخر المعراج ولله الحمد والمنة.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 4 إلى 8]
فإن قيل: إنما قال الله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فلم قال: إنه أسرى إلى السماء. فالجواب أنه قال: إنما قال: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كان ابتدأ أمر المعراج كان المسري، والعروج كان بعد الإسراء، وقد أخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدق، والحكمة فيه والله أعلم أنه لو أخبر ابتدأ بعروجه إلى السماء لاشتد إنكارهم وعظم ذلك في قلوبهم ولم يصدقوه، فأخبر بيت المقدس بها فلما تمكن ذلك في قلوبهم وبان لهم صدقة وقامت الحجة عليهم له، أخبر بصعوده إلى السماء العليا وسدرة المنتهى وبقرينة حتّى دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كما أسرينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ الآية يعني أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربّا وشريكا وكفيلا. قرأه العامّة: يتخذوا بالياء، يعني قلنا لهم لا يتخذوا. وقرأ ابن عبّاس ومجاهد وأبو عمر: بالياء واختاره أبو عبيد قال: لأنه خبر عنهم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فأنجيناهم من الطوفان إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً. قال المفسرون: كان نوح (عليه السلام) إذا لبس ثوبا يأكل طعاما أو شرب شرابا. قال: الحمد لله، فسمّي عَبْداً شَكُوراً. روى النظر بن شقي عن عمران بن سليم قال: إنما سمي نوح (عليه السلام) عَبْداً شَكُوراً لأنه كان إذا أكل طعاما قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، فإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو أشاء أظماني وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو أشاء أعراني، فإذا اهتدى قال: الحمد لله الذي هداني ولو أشاء لما هداني فإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى في عافية ولو شاء لحبسه. [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 8] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله حَصِيراً. روى سفيان بن سهيل عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعتوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم
ملك فارس بخت نصر، وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار إليهم حتّى دخل بيت المقدس فحاصرها ففتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا (عليه السلام) سبعين ألف، ثمّ سبى أهلها وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفا ومائة عجلة من حلي [حتى أورده بابل] «1» » . قال حذيفة: يا رسول الله لقد كانت بيت المقدس عظيما عند الله قال: «أجل بناه سليمان ابن داود من ذهب وياقوت وزبرجد، وكان بلاطه ذهبا وبلاطه فضة وبلاطه من ذهبا أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بخت نصر بهذه الأشياء حتّى نزل بها بابل وأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فهم الأنبياء وأبناء الأنبياء، ثمّ إن الله تعالى رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس وكان مؤمنا أن سر إلى بقايا ببني إسرائيل حتّى يستنقذهم فسبا كورش بني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتّى رده إليه، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط عليهم ملكا يقال له: إنطياخوش فغزا بني إسرائيل حتّى أتى بهم بيت المقدس فسبا أهلها وأحرق بيت المقدس وقال لهم: يا بني إسرائيل إِنْ عُدْتُمْ في المعاصي عُدْنا عليكم بالسبي، فعادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا رومية يقال له: ماقسير بن إسبيانوس فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبا حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرمى بها على يافا حتّى ينقل إلى بيت المقدس هديها يجمع الله الأولين والآخرين» [20] «2» . وقال محمّد بن إسحاق بن يسار: كان مما أنزل الله على موسى في خبر عن بني إسرائيل في أحداثهم وما هم فاعلون بعده وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله حَصِيراً فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم متعطفا عليهم محسنا إليهم، فكان أول ما أنزل بهم بسبب ذنوبهم من تلك الوقائع كما أخبر على لسان موسى (عليه السلام) أن ملكا منهم كان يدعى صديقة كان الله عزّ وجلّ إذا ملك الملك عليهم بعث الله نبيا يسدده ويرشده ويكون فيما بينه وبين الله تعالى: فيتحدث إليهم في أمرهم لأنزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها وينهونهم عن المعصية ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة، فلما ملك الله ذلك الملك بعث الله شعياء بن أمصيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى، وشعياء هو الذي بشّر بعيسى ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم فقال: ابشروا [ ... ] «3» الآن يأتيك راكب
الحمار ومن بعده راكب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث وشعياء معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل مع ستمائة ألف راية، فأقبل سائرا حتّى أقبل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء إليه شعياء فقال: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل هو وجنوده بستمائة ألف قد هابهم الناس وفرقوا منهم، فكبر ذلك على الملك. فقال: يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده. فقال له النبي (عليه السلام) : لم يأت وحي فبيناهم إلى ذلك أوحى الله تعالى إلى شعياء النبي (عليه السلام) أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي بوصيته ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته، فأتى شعياء صدّيقة وقال له: إن ربك قد أوحى إليك إن أمرك أن توصي بوصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت. فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة وصلى ودعا وبكى فقال وهو يصلي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص متوكل رصين وظن صادق: اللهمّ رب الأرباب وإله الآلهة قدوس المتقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف الذي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ أكرمتني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني بسري وعلانيتي لك وأن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعياء وأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه وقد أخر أجله خمس عشر سنة فأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده فأتاه شعياء النبي (عليه السلام) وأخبره بذلك، فلما قال ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أنت الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت ضري فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقه فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بالتين فيجعله على قرحه فيشفى ويصبح قديرا، ففعل ذلك فشفى، وقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا. فقال الله لشعياء: قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلّا سنحاريب وخمسة نفر من كتّابه. فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فأخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمسة من كتّابه أحدهم بخت نصّر، فجعلوهم في الجوامع ثمّ أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآوهم خرّ ساجدا حين طلعت الشمس إلى العصر، ثمّ قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم نقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم
غافلون؟ فقال سنحاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادك فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلّا قلة عقلي ولو سمعت وأطعت ما غزوتكم ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي. فقال صديقه: الحمد لله ربّ العزة الذي [كفاناكم] بما شاء أن يبقك لي من معك لكرامة لك عليه وإنما أبقاك ومن معك ليزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا، فلذلك وذم من معك [آتون] على الله من دم قراد لو قتلت، ثمّ إن ملك بني إسرائيل أمر أمير جيشه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين ما حول بيت المقدس [وامليا] «1» وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من الشعير لكل رجل منهم. فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا فأفعل ما أمرت، فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء النبي (عليه السلام) : أن قل لملك بني إسرائيل ليرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم، فبلغ شيعا [للملك ذلك] ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتّى قدموا بابل فلمّا قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهانته وسحرته: يا ملك [بابل] «2» قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سنحاريب مما خوفوا، ثمّ كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة ثمّ لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثمّ مات، واستخلف [بعده] ابن ابنه على ما كان عليه، فعمل فيهم بمثل عمل جده وقضى في الملك حتّى قتل بعضهم [بعضا عليه] ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ولا يقبلون منه، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء: قم في قومك أوح على لسانك. فلما قام النبي (عليه السلام) أطلق الله لسانه بالوحي، فقال: يا سماء استمعي ويا أرض انصتي حتّى فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمة واصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده واستقبلهم بالكرامة وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضهم بعضا حتّى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون من أين جاءهم الخير، أن البعيد مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الآري الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يدرون من أين جاءهم الخير وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا بقرا ولا حميرا، وإني ضارب لهم مثلا فليستمعوا، قل لهم: كيف ترون في أرض كانت
خواء زمانا خربة مواتا لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه فأحاط عليها جدارا وشيّد فيها قصرا وأنبط نهرا وصنف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمة ومتعة حفيظا قويا أمينا وأنتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدارها وقصورها ويدفن نهرها ويقبض قيّمها ويحرق غرسها حتّى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها. قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيّم نبيّ وإن الغرّاس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنهم مثل ضربه الله تعالى لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا أكله، ويدعون أن يتقربون إليّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرّمتها فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجدا ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها، فأي حاجة إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، أم أي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبّح ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على [أن] يفقّه قلوبنا لفقهها فأعمد إلى عودين يابسين، ثمّ ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا ففعل، ذلك في مجلسه اختلطا فصارا واحدا، فقال الله لهم: إني قد قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة وعلى أن أؤالف بينهما فكيف لا أقدر على أن أجمع إلفهتم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقّه قلوبهم وأنا الذي صورتها. يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل [حنين الحمام] وبكينا مثل عواء الذئب في مكان ذلك لا نسمع ولا يستجاب لنا قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين؟ الآن ذلّت يدي؟ قلت: كيف ويداي مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء ومفاتح الخزائن عندي لا يفتحها غيري أو لأن رحمتي ضاقت فكيف ورحمتي وسعت كل شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن [البخل يعتريني] أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات؟ أجود من أعطي وأكرم من سئل لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها واشتروا بها الدنيا إذا لأبصروا من حيث أتو وإذا لأيقنوا أن أنفسهم [هي] أعدى العداة فيهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور [ويتقوون] عليه بطعمة الحرام؟ وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني وينتهك محارمي، أم كيف تزكوا عندي صدقاتهم؟ وهم يتصدقون بأموال غيرهم وإنما أؤجر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم
والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداع اللين وأنا أسمع قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين وقربوا الضعفاء وأنصفوا المظلوم ونصروا المغصوب والمغلوب وأعدلوا الغائب [وأدوا] إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكل ذي حق حقه، ثمّ لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذا لكلّمتهم، وإذا لكنت نور أبصارهم وسمع آذانهم ومعقول قلوبهم وإذا لدعمت أركانهم وكنت قوة أيديهم وأرجلهم، وإذا لبثت ألسنتهم وعقولهم. يقولون: لمّا سمعوا كلامي وبلغتهم رسالاتي: إنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف كما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا وأن يطلعوا على علم الغيب، لاطلعوا بما توحي إليهم الشياطين وكلمهم ويستخفى بالذي يقول ويسرّ وهم يعملون أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما يبدون وما كنتم يكتمون وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع، فإن صدّقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليألفوا مثل الحكمة التي أدبّر بها أمر ذلك القضاء إن كنتم صادقين فإنّي قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الإجراء وأن أجعل الملك في الدعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والثروة في الأقلاء [والمدائن في الفلوات] والآجام في المغوز والبردة في الغيطان، والعلم في الجهلة والحكم في الأميين فسلهم متى هذا ومن القيّم بها وعلى يد من أسنّه ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيّا أحيا ليس أعمى من عميان ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا [بصخاب] في الأصوات [ولا متزين بالفحش] ولا قوال للخنى أسدده لكل جميل أهب له كل خلق [كريم] أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل والمعروف سيرته والحق شريعته والهدى امامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة، ثمّ أرفع به بعد [الخمالة] وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد المعيلة وأجمع به بعد الفرقة وأولف به قلوبا مختلفة وأهواء متشتتة وأمما متفرقة وأجعل أمته خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إيمانا بي وتوحيدا لي وإخلاصا بي يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سلبي صفوفا وزحوفا ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمتهم التكبير والتوحيد والتسبيح والحمد والمدحة والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأسواق ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون في الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم
رهابين في الليل ليوث في النهار، ذلك فضلي أديته من أشاء وأنا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيت شجرة وانفلقت له فدخل فيها [وأدركه الشيطان الشجرة] فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتّى قطعوها وقطعوه في وسطها، [فاستخلف الله] على بني إسرائيل بعد قتلهم شعياء رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم الخضر نبيا- واسم الخضر ارميا بن حلفيا- وكان من سبط هارون بن عمران فأما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام [عنها وهي تهتز] خضراء، فقال الله لأرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، وذكر الحديث بطوله في خطبة أرميا لقومه وفتياه التي أفتى به، ودخول بخت نصر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام كما ذكرنا في سورة البقرة. فلما رأى ارميا ذلك طار حتّى خالط الوحش ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثمّ أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم قربته تراب ثمّ يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتّى ملؤه، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل واحتمل معه سبايا بني إسرائيل وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم بسبعين ألف صبي. فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها [وأقسم بيننا] فلولا الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وماشايل وسبعة آلاف من أهل بيت داود وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه ابن يامين، وثمانية ألف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر الفا من سبط زبالون بن يعقوب [ونفتال] بن يعقوب وأربعة ألف من سبط [يهوذا] بن يعقوب [وأربعة] ألف من سبط [روبيل ولاوي] ابني يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثا أقر بالشام وثلثا سبي وثلثا قتل. وذهب بأبيه بيت المقدس حتّى أقدمها بابل وذهبت بالصبيان التسعين الألف حتّى أقدمهم بابل، فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بأحداثهم وظلمهم «1» وذلك قول الله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بخت نصر وأصحابه. ما يروى عن حجاج عن ابن جريج عن يعلي بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: كان رجل
من بني إسرائيل يقرأ حتّى إذا بلغ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى وفاضت عيناه ثمّ أطبق المصحف وقال: أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأري في المنام مسكينا ببابل يقال له: بخت نصر فانطلق بمال [وبأعبد له] وكان رجلا موسرا [وقيل له أين] تريد؟ قال: أريد التجارة حتّى نزل دارا ببابل [فاستكبر] إلها ليس فيها أحد غيره فجعل يدعو المساكين ويتلطف بهم حتى لا يأتيه أحد فقال: هل بقي غيركم مسكين؟ قالوا: نعم مسكين [يفتح الفلان مريض] يقال له: بخت نصر، فقال لغلمانه: انطلقوا حتى أتاه، فقال: ما أسمك؟ قال: بخت نصر، فقال لغلمانه احتملوه فنقل عليه فمرّضه حتّى برأ فكساه وأعطاه نفقة ثمّ أذن الإسرائيلي بالرحيل فبكى بخت نصر، فقال الإسرائيلي: ما يبكيك؟ قال: أبكي إنك فعلت بي ما فعلت ولا أجد شيئا أجزيك، قال: بلى شيئا يسرا إن ملكت أطعتني فجعل لا يتبعه فيما سأل فقال: تستهزئ بي ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلّا أنه يرى أنه يستهزئ به قبلي الإسرائيلي، فقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك إلّا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضى وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه. قال صيحورا ملك فارس ببابل: لو إنا بعثنا طليعة إلى الشام قالوا: وما ضرك لو فعلت؟ قال فمن ترون قال: فلان فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلّا ليأكل في مطبخه. فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجالا [جاء وقد كسر] ذلك في ذرعه فلم يسأل قال: فجعل بخت نصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل فإذا غزوتموها ما دون بيت مالها شيء. قالوا: لا نحسن القتال، قال: ولو أنكم غزوتهم قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتّى أنفذ مجالس أهل الشام، ثمّ رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى وجعل بخت نصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان، فرفع ذلك إليه فدعاه فأخبره الخبر وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجالا جلدا كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء، قال: لم أدع مجلسا شيئا بالشام [الآجال وأصله] فقلت لهم: كذا وكذا، فقالوا لي: كذا وكذا. قال سعيد بن جبير: وقال صاحب الطليعة لبخت نصر: إن صحبتني أعطي لك مائة ألف وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت فضرب الدهر من ضربة، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا وإلا انثنوا ما قدورا عليه، قال: وما ضرّك لو فعلت، قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. قال: هل الرجل الذي [أخبرني بما أخبرني]
فدعا بخت نصر فأرسله وانتخب معه أربعمائة ألف من فرسانهم فانطلقوا فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [فسبوا] ما شاء الله ولم [يخرّبوا] ولم يقتلوا، ومات [صيحون فقالوا] : استخلفوا رجلا، قالوا: على رسلكم حتّى يأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم لن ينقضوا عليكم شيئا، أمهلوا فأمهلوا حتّى جاء بخت نصر [بالسبي] وما معه فقسمه في الناس، فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا فملكوه «1» . وقال السدي بإسناده: إن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس هلاك بني إسرائيل [خلي إليّ] غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بخت نصر وكانوا يصدقون فيصدق، فأقبل يسأل عنه حتّى [نزل على أبيه] وهو يحتطب فلما جاءوا على رأسه حزمة من حطب ألقاها ثمّ قعد في جانب من البيت فكلمه ثمّ أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر بهذا طعاما وشرابا واشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأكلوا وشربوا حتّى كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك، حتّى إذا كان اليوم الثالث فعل به ذلك، ثمّ قال: إني أحب أن [تكتب لي أمانا] إن كانت ملكت يوما من الدهر، فقال: أتسخر مني؟ قال: إني لا أسخر بك [ولكن ما عليك لن تتخذ] بها عندي مريدا فكلمته أية، فقالت: يا ملك إن كان مالا لم ينقصك شيئا فيكتب به أمانا، فقال: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك فاجعل لي آية تعرفني بها، قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها فكساه وأعطاه. ثمّ إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا (عليهما السلام) ويدني مجلسه ويستشيره في أمره ولا يقطع أمرا دونه [فإنه هوى] أن يتزوج ابنة امرأة له، فسأل عن ذلك يحيى فنهاه عن نكاحها، قال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على [يحيى] حين نهاه أن يتزوج ابنتها [فذهبت إلى جارية] حين حس الملك على شرابه، فألبستها ثيابا رقاقا خضراء وطيبتها وألبستها من الحلي وألبستها فوق ذلك كساء أسود فأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرض له فإن راودها عن نفسها أتت عليه حتّى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا (عليهما السلام) في طشت، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له فلما أخذ منه الشراب راودها عن نفسها، فقالت: لا [أقبل] حتّى تعطيني ما أسألك، قال: ما تسألين؟ قالت: أسألك أن تبعث إليّ يحيى بن زكريا فتأتي برأسه في هذا الطشت، فقال الملك: سليني غير هذا. قالت: ما أريد إلّا هذا، فلما أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه [والرأس يتكلم] في الطشت حين وضع بين يديه وهي تقول [لا يحل لك] ، فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقى عليه فرمى الدم فوقه فلم يزل يلقي عليه من التراب حتّى بلغ سور المدينة وهو يغلي وبلغ صيحابين فثار في الناس وأراد أن يبعث إليهم جيشا أو يؤمر عليهم رجلا.
فأتاه بخت نصر فكلمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك المرة ضعيف وأني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها [فأبعثني] فبعثه فسار بخت نصر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان [تحصنوا] منه في مدائنهم فلم يطقهم فلما اشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه أرادوا الرجوع، فخرجت إليه عجوزا من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى بها إليه فقالت له: إنه قد بلغني أنك تريد [.....] «1» ثمّ ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي وجاع أصحابي فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما أسألك [فتقتل] من أمرتك بقتله وتكف إن أمرتك أن تكف؟ قال لها: نعم، قالت: إذا أصبحت فأقسم جندك أربعة أرباع ثمّ أقم على كل زاوية ربعا ثمّ ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تساقط، ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها فقالت له: كف يدك وأقبل على هذا الدم حتّى يسكن وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على [تراب كثيرة] فقتل عليه حتّى سكن فقتل سبعين ألفا فلما سكن الدم، قالت له: كف يدك فإن الله تعالى إذا قتل نبي لم يرض حتّى يقتل من قتله ومن رضى قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته وخرب بيت المقدس وأمر أن يطرح الجيفة فيه، وقال: من طرح جيفة فيه فله جزيته تلك السنة وأعانه الله على خرابة الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى. فلما خربه بخت نصر ذهبت معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت، فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه حسدهم المجوس على ذلك فوشوا بهم إليه وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك وإنما يعبدون غيره ولا يأكلون ذبيحتك فدعاهم فسألهم فقالوا: أجل إن لنا ربا نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر بحد فخدّ لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم سبعا ضاريا ليأكلهم، ففعلوا ذلك فانطلقوا ليأكلوا ويشربوا فذهبوا فأكلوا وشربوا ثمّ راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع معترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدا ولم ينكأه شيئا ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة فقالوا: ما بال هذا السابع وإنما كانوا ستة فخرج إليهم السابع وكان ملكا من الملائكة فلطمه لطمة فصار في الوحش ومسخه الله سبع سنين فيه. ثمّ إن بخت نصر رأى رؤيا عبّرها له دانيال (عليه السلام) ، وهو ما روى إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع راهبا يقول: إن بخت نصر رأى في آخر زمانه صنما رأسه من ذهب وصدره من فضة وبطنه من نحاس وفخذاه من حديد وساقاه من فخار، ثمّ رأى
حمرا من السماء وقع عليه قذفه ثمّ أتاه الحجر حتّى ربا فملىء ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها في الأرض وفروعها في السماء ثمّ رأى رجلا بيده فأس، وسمع مناديا ينادي: اضرب بجذعها لتفرق الطير من فروعها وتفرق الدواب والسباع من تحتها، وأنزل [....] «1» عبرها له دانيال (عليه السلام) . قال: أما الصنم الذي رأيت فأتيت الرأس الذهب فأنت أفضل الملوك، وأما الصدر الذي [رأيت] من فضة فابنك يملك من [بعدك] ، وأما البطن الذي رأيت من نحاس فذلك يكون من بعد [ابنك] وأما رأيت من الفخذ من حديد فهو ملك أهل فارس يكون ملكهم شديدا مثل الحديد، وأما الرجل من فخار فتفرق أهل فارس فرقتين ولا يكون فيهم حينئذ قوام كما لم يلين قوام الصنم على رجلين من فخار، وأما الحجر الذي ربا حتّى ملأ ما بين المشرق والمغرب فنبي يبعثه الله في آخر الزمان فيفرق ملكهم كله «2» فيربوا ملكه حتّى يكون ما بين المشرق والمغرب. وأما الشجر الذي رأيت والطير الذي عليها والسباع والدواب التي تحتها وما أمر [بقطعها فيذهب] ملكك فيردك الله طائرا يكون شرا ملك الطير ثمّ يردك ثورا ملك الدواب ثمّ يردك الله أسدا ملك السباع والوحش سبع سنين كان مسخه كله سبع سنين. في ذلك كله قلبك قلب إنسان حتّى تعلم أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو يقدر على الأرض ومن عليها، وما رأيت أصلها [قائما] «3» فإن ملكك قائم، فمسخ بخت نصر نسرا من الطير وثورا من الدواب وأسدا من السباع ثمّ ردّ الله إليه ملكه فأمن ودعا الناس إلى الله. [وسئل وهب بن منبه] أكان مؤمنا؟ قال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: مات مؤمنا، ومنهم قال: أحرق بيت الله وكتبه وقيد الأنبياء، وغضب الله عليه غضبا، فلم يقبل منه حينئذ توبته. وقال بخت نصر لما رجع إلى صورته ثانية بعد المسخ [فردّ الله] إليه ملكه: كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدتهم المجوس وقالوا لبخت نصر: إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارا فجعل لهم بخت نصر طعاما فأكلوا وشربوا وقال للبواب: أنظر أول من يخرج عليك ليبول فاضربه بالطبرزين «4» وإن قال: أنا بخت نصر، فقل: كذبت بخت نصر أمرني به فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من القوم يريد البول بخت نصر وكان مدلا وكان ليلا، فقام يسحب ثيابه فلما رآه البوّاب شد عليه فقال: أنا بخت
نصر قال: كذبت بخت نصر أمرني أن أقتل أول من يخرج فضربه فقتله «1» . وأما محمّد بن إسحاق بن يسار فإنه قال: في هلاك بخت نصر غير ما قال السدي، وذلك أنه قال بإسناده: لما أراد الله [......] ليبعث فقال لمن كان في [......] «2» وكان يعذبه من بني إسرائيل: أن أتتم هذا البيت الذي خربته وهؤلاء الناس الذين قلت من هم وما هذا البيت، فقالوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله، كانوا من [ذراري الأنبياء] وظلموا [وتعذروا] «3» وعصوا عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السماوات والأرض ورب الخلق كلهم يكرههم ويمنعهم [ويحرمهم] ، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم. قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا لعلي أطلع عليها فأقبل من فيها واتخذها ملكا فإني قد [فرغت] من الأرض ومن فيها، قالوا: ما يقدر عليه أحد من الخلائق، قال: لتفعلن [أو لأقتلنكم عن آخركم] «4» فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله عليه بقدرته بعوضة ليرى ضعفه وهو انه فدخلت في منخره ثمّ سلفت في منخره حتّى عضت بأم الدماغ، فما كان [يقر ولا يسكن] «5» حتّى توجأ له رأسه على أم دماغه فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي وانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شق رأسه فوجد البعوضة عاضة بأم دماغه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه ويحيى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى إيليا والشام فبنوا فيها وأربوا وكثروا حتّى كانوا على أحسن ما كانوا عليه. ويزعمون أن الله تعالى اختار توليت الموتى الذين قتلوا ولحقوا بهم، ثمّ إنهم لما رجعوا إلى الشام وقد أحرق التوراة [وليس معهم عهد] من الله جدد الله توراته وردها عليهم على لسان عزيز (عليه السلام) وقد مضت القصة، فهذا الذي ذكرت جميع أمر بخت نصر على ما جاء في التفسير المعتمد في أخبار الأنبياء، إلّا أن رواية من روى أن بخت نصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند [قتلهم] يحيى بن زكريا غلط [أهل السير] والأخبار والعلم بأمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين، ذلك أنهم مجمعون على أن بخت نصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعياء وفي عهد أورميا بن حلفيا (عليه السلام) وهي الوقعة الأولى التي قال الله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بخت نصر وجنوده، قالوا ومن عهد أروميا
وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى عهد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى حين [عمارته في عهد كوسك] «1» سبعين سنة، ثمّ من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس وحيازة ملكها إلى مملكة الإسكندر ثمانية وثمانين سنة، ثمّ من بعد مملكة الإسكندر إلى موت يحيى بن زكريا (عليه السلام) بثلاثمائة وثلاث وستون، ويروى بثلاثمائة سند وثلاث سنين. وإنما الصحيح من ذلك ما ذكر محمّد بن إسحاق بن يسار قال: كثر عن بني إسرائيل بعد ما عمرت الشام وعادوا إليها بعد اخراب بخت نصر إياها وسبيهم منها، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزيز (عليه السلام) ويتوب الله عليهم وبعث الله فيهم الأنبياء وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتّى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود، فمات زكريا وقتل يحيى بسبب رغبة الملك عن نكاح ابنته، في قول عبد الله ابن الزبير وابنة أخته في قول السدي وابنة أخيه في قول ابن عبّاس. وهو الأصح إن شاء الله، لما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير قال: بعث عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان مما نهوهم نكاح بنت الأخ، قال: وكانت لملكهم ابنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها وكانت لها في كل يوم حاجة يقضيها، وذكر الحديث بطوله في مقتل يحيى «2» . رجعنا إلى حديث ابن إسحاق، فلما رفع الله موسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا، وبعض الناس يقول: قتلوا زكريا انبعث عليهم ملك من ملوك بابل يقال له: خردوس فسار إليهم بأهل بابل حتّى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رؤوس جنوده يدعى [نبور زاذان] صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتّى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلّا أني لا أجد أحدا أقتله، فأمره ان يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان، فدخل بيت المقدس وكان في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم [فوجد فيها دما يغلي] فسألهم عنه، قالوا: هذا دم قربان قربناه فلم يقبل منا فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبل منا إلّا هذا القربان، قال: ما صدقتموني الخبر قالوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يتقبل منا فذبح منهم [نبور زاذان] على ذلك الدم سبعمائة وسبعون رأسا من رؤسائهم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم فذبحهم «3» على الدم فلم يرد ولم يهدأ
فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويلكم يا بني إسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربكم [فقد طال] ما ملكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك نافخ نار لا أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما [رأوا الجهد] وشدة القتل صدقوه القول فقالوا له: إن هذا دم نبي منا كان ينهاها عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بالملك فلم نصدقه فقتلناه فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قال: يحيى بن زكريا، قال: وهل صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى نبور زاذان أنهم قد صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة واجمعوا من كان هاهنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل. قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم من أجلك فاهدأ بأذن الله قبل أن لا يبقي من قومك أحد، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نبور زاذان عنهم القتل [وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح ولو كان له شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فيهن وما بينهن، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فله الحكم والعلم والعزة والجبروت وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه] «1» فأوحى الله تعالى إلى رؤس من رؤوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حبور «2» صدوق. وأن نبور زاذان قال لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتّى تسيل دماءكم وسط عسكره وإني لست أستطيع أن أعصيه قالوا له: افعل ما أمرت به فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتّى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتّى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبور زاذان أن أرفع عنهم القتل فقد بلغني دماؤهم [وقد انتقمت منهم لما فعلوا] «3» ثمّ انصرف عنهم إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاده، وهو الوقعة الاخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الآيات. وكانت الوقعة الأولى: بخت نصر وجنوده ثمّ ردّ الله لهم الكرة عليهم وكانت الوقعة الاخيرة خردوس وجنوده فلم [.....] همام بعد ذلك [.....] . فانتقل الملك بالشام
ونواحيها إلى الروم واليونان، ثم إن بني إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك وكانت لهم ببيت المقدس [بزواجها] على غير وجه الملك وكانوا في أهبة ومنعة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث وانتهكوا المحارم وضربوا الحدود فسلط الله عليهم ططوس بن سيبانو الرومي، فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرئاسة وضرب عليهم الذلة، فليسوا في أمة من الأمم إلّا وعليهم [الصغار] والملك في غيرهم وبقي بيت المقدس خرابا إلى أيام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عمّره المسلمين بأمره. وروى أبو عوانة عن أبي بشير قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ الآيات، فقال: أما الذين فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ فكان مرحا بن الجزري فإذا جاء إلى قوله تَتْبِيراً فكان جالوت الجزري شعبة من [.....] «1» . ثمّ قال: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ إلى قوله تَتْبِيراً قال: هذا بخت نصر الذي خرب بيت المقدس. ثمّ قال لهم بعد ذلك عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [على هذا ثمّ] «2» وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال فعادوا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك الروم ثمّ عادوا أيضا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك [......] «3» ثمّ عادوا أيضا فعيد عليهم سابور ذو الأكتاف. قتادة في هذه الآية (وَقَضَيْنا) قضى على القوم كما تسمعون فبعث عليهم في الأولى جالوت، فسبى وقتل وخرب وجاسوا خِلالَ الدِّيارِ، ... ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ يعني يا بني إسرائيل الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ والملك في زمان داود (عليه السلام) فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ آخر الكرتين بعث الله عليهم بخت نصر أبغض خلق الله، فسبى وقتل وخرب بيت المقدس وسامهم سوم العذاب، ثمّ قال عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ «4» فعاد الله إليهم برحمته ثمّ عاد [الله إليهم بشر] «5» بما عذبهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من آفته وعقوبتة، ثمّ بعث الله عليهم هذا الحي من العرب كما قال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «6» [....] «7» .
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي أخبرناهم وعلمناهم في ما آتيناهم من الكتب. وقال ابن عبّاس وقتادة: يعني وقضينا عليكم، وعلى هذا التأويل يكون (إلى) بمعنى (على) وبمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ، لَتُفْسِدُنَّ قيل: لام القاسم مجازة: والله لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ بالمعاصي لَتَعْلُنَّ ولتستكبرن ولتظلمن الناس عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني أولي المرتين واختلفوا فيها فعلى قول قتادة: إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة [وحكموا] ربهم ولم يحفظوا أمر نبيهم موسى (عليه السلام) وركبوا المحارم وتعدوا على الناس. وقال السدي: في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي جهل عن ابن عبّاس وعن أمية الهمذاني عن ابن مسعود: إن أول الفسادين قتل زكريا. وقال ابن إسحاق: إن إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء بن أمصيا في عهد أرمياء في الشجرة. وقال ابن إسحاق: إن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وأن المقتول هو شعياء (عليه السلام) . بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا يعني [جالوت الجزري] وجنوده وهو الذي قتله داود. قال قتادة: وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وقال أبو المعلى ويعلى «1» عن سعيد بن جبير: هم صحاريب من أهل نينوى، وهي الموصل. أبو بشير عنه: صرخان الخزري، وقال: ابن إسحاق: بخت نصر البابلي وأصحابه. أُولِي بَأْسٍ يعني بطش، وفي الحرب شَدِيدٍ فَجاسُوا أي خافوا وداروا. قال ابن عبّاس: مشوا، الفراء: قتلوكم بين بيوتكم. وأنشد لحسان: ومنا الذي لاقى بسيف محمّد ... فجاس به الأعداء عرض العساكر أبو عبيدة: طلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها «2» . القتيبي: [عاشوا وقتلوا] وأفسدوا «3» .
ابن جرير: طافوا من الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين فجمع التأويلات. وقرأ ابن عبّاس: فحاسوا بالحاء ومعناها واحد. خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا قضاء كائنا لا خلف فيه ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ الرجعة والدولة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً عددا. قال القتيبي: والنفير من نفر «1» مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، يقال: النفير والنافر، وأصله القدير والقادر. إِنْ أَحْسَنْتُمْ يا بني إسرائيل أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لها ثوابا ونفعها وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي فعليها كقوله فَسَلامٌ لَكَ أي عليك. وقال محمّد بن جرير: قالها كما قال بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي إليها، وقيل: فَلَها الجزاء والعقاب. وقال الحسين بن الفضل: يعني فَلَها رب يغفر الإساءة «2» . فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي المرة الآخرة من إفسادكم وذلك على قصدهم قتل عيسى (عليه السلام) يحيى حين رفع، وقتلهم يحيى بن زكريا (عليه السلام) فسلط الله عليهم الفرس والروم [...........] «3» قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن بلادهم وأخذوا بلادهم وأموالهم فذلك قوله لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي ليحزن، واختلف القراء فيه، فقرأ الكسائي: لنسوؤ بالنون وفتح الهمزة على التعظيم اعتبارا، وَقَضَيْنا وبَعَثْنا ورَدَدْنا وأمددنا وجعلنا. وروى ذلك عن علي (رضي الله عنه) : وتصديق هذه القراءة قرأ أبي بن كعب: لنسؤنّ وجوهكم بالنون وحرف التأكيد. وقرأ أهل الكوفة: بالياء على التوحيد، ولها وجهان: أحدهما ليسؤ الله وجوهكم، والثاني ليسؤ [العدو] وجوهكم. وقرأ الباقون: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ بالياء وضم الهمزة على الجمع، بمعنى ليسؤ العباد أولي بأس شديد وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني بيت المقدس ونواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا وليهلكوا أو ليدمروا ما عَلَوْا غلبوا عليه [تدميرا] تَتْبِيراً عَسى لعلّ رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد انتقامهم منكم وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 إلى 16]
قال ابن عبّاس: وَإِنْ عُدْتُمْ إلى المعصية عُدْنا إلى العقوبة، فعادوا فبعث الله عليهم محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعطون الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ... وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً معينا سجنا ومحبسا من الحصر وهو الحبس، والعرب تسمى [النخيل] حصورا والملك حصيرا [لأنه محجوب محبوس] «1» عن الناس. قال لبيد: وقماقم غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام أي باب الملك ومنه: انحصر في الكلام إذا [احتبس عليه] وأعياه، والرجل الحصور عن النساء وحصر الغائط. قال الحسن وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي فراشا ومهادا، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، وهو وجه حسن وتأويل صحيح. [سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 16] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي الطريقة التي [هي أسد وأعدل وأصوب] «2» وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وهو الجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهي النار وَيَدْعُ الْإِنْسانُ حذفت الواو هنا في اللفظ والخط ولم يحذف في المعنى لأنها في موضع رفع وكان حذفها باستقالتها اللام الساكنة كقوله سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «3» يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «4» ، ويُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ويُنادِ الْمُنادِ ... فَما تُغْنِ النُّذُرُ ومعنى الآية وَيَدْعُ الْإِنْسانُ على [ماله وولده ونفسه بالسوء] وقوله عند الضجر
والغضب: اللهم العنه اللهم أهلكه دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه ربه أن يهب له العافية والنعمة ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده [بالشر لهلك] ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك، نظيره قوله تعالى وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا عجلا بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه. قال مجاهد وجماعة من المفسرين، وقال ابن عبّاس: [يريد] ضجرا لا صبرا له على سراء ولا ضرّاء. وقال قوم من المفسرين: أراد الإنسان آدم. قال سلمان الفارسي: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق جسده فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لو يبث فيها الروح، فقال: يا رب عجّل قبل الليل فذلك قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا. وروى الضحاك عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله رأس آدم نظر إلى جسده فأعجبه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [وقيل: المراد آدم فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط، يروى أنه علم وقع أسيرا إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت من كتافه فهرب فدعا النبي عليها بقطع اليد ثم ندم فقال: اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت هذه الآية] «1» وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ دلالتين وعلامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا وعدد السنين والحساب فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ قال أبو الطفيل: سأل ابن الكواء عليا (رضي الله عنه) فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً وهو المحو «2» . وقال ابن عباس: الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر سبعين جزءا فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد «3» . وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وهي الشمس مُبْصِرَةً [منيرة مضيئة] «4» .
وقال أبو عمرو بن العلا: يعني بصرها. قال الكسائي: هو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء وصار بحالة يبصرها. وقال بعضهم: هو كقولهم: [رجل خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء] «1» . لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ إلى قوله فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بينّاه تبيينا. مقاتل بن علي عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسان فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها فيحولها قمرا فخلقها دون الشمس من العظيم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض، فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ولا كان يدرك الأجير إلى متى يعمل ومتى يأخذ أجره ولا يدري الصائم إلى متى يصوم ومتى يفطر، ولا تدري المرأة كيف تعتد ولا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم ومتى وقت حجهم، ولا يدري الديان متى يحل دينهم ولا تدري الناس متى يبذرون ويزرعون لمعاشهم ومتى يسكنون لراحة أبدانهم فكان الرب سبحانه أنظر لعباده وأرحم بهم فأرسل جبرائيل [فأمّر] جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور، فذلك قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [والسواد] «2» الذي ترونه في جوف القمر يشبه الخطوط، فهو أثر المحو «3» . وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال ابن عباس: وما قدر عليه [من خير وشر] فهو ملازمه أينما كان «4» . الكلبي ومقاتل: خيره وشره معه لا يفارقه حتّى يحاسب به [وتلا الحسن: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ] ثمّ قال يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر [عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذين عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً] «5» .
مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلّا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد. وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه [أنه] عامله في ما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وإنّما عبر عنه بالطائر على عادة العرب كما كانت تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها «1» . أبو عبيد والعيني: أراد بالطائر حظه من الخير والشر عن قولهم طار منهم فلان بكذا أيّ جرى له الطائر بكذا. وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: طئره في عنقه بغير ألف وإنّما خص عنقه دون سائر أعضائه، لأن العنق موضع السمات وموضع القلائد والأطراف وغير ذلك مما يشين أو يزين، فجرى كلام العرب [بنسبة الأشياء اللازمة] «2» إلى الأعناق فيقولون هذا في عنقي حتّى أخرج منه وهذا الشيء [لازم صليت] عنقه. وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً قرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن ويعقوب: وَيَخْرُجُ بفتح الياء وضم الراء على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا نصب كِتاباً على الحال، ويحتمل أن يكون معناه ويخرج له الطائر فيصير كتابا. وقرأ أبو جعفر: وَيُخْرَجُ بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ومجازه ويخرج له الطائر كتابا. وقرأ يحيى بن وثاب: وَيُخْرِجُ أي ويخرج الله. وقرأ الباقون: بنون مضمومة وكسر الراء على معنى ونحن نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ونصب كِتاباً بإيقاع الإخراج عليه واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله أَلْزَمْناهُ ... يَلْقاهُ قرأ أبو عامر وأبو جعفر: تُلَقَّاهُ بضم التاء وتشديد القاف يعني تلقى الإنسان ذلك الكتاب أي [يؤتى] . وقرأ الباقون: بفتح الياء أي يراه. مَنْشُوراً نصب على الحال. عن بسطام بن مسلم قال: سمعت أبا النباج يقول سمعت أبا السوار العدوي يقرأ هذه الآية ثمّ قال: نشرتان وعليه ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك منشورة فاعمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت ثمّ إذا بعثت نشرت.
اقْرَأْ كِتابَكَ يعني فيقال له اقرأ كتابك كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبا مجازيا. قتادة: سيقرأ يومئذ كل من لم يكن في الدنيا [مجازيا] «1» . وقال الحسن: [قد عدل والله عليك] من جعلك حسيب نفسك. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لها نوليه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن عليها عقابه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يحمل حامله عمل أخر من الأثام وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا إقامة للحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها. قرأ عثمان النهدي وأبو رجاء العطاردي وأبو العالية [وأبو جعفر] ومجاهد: أَمَّرْنا بتشديد الميم أيّ خلطنا [شرارها] «2» فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم. وقرأ الحسن وقتادة وأبو حياة الشامي ويعقوب: آمرنا ممدودة أي أكثرنا. وقرأ الباقون: بكسر الميم، أي أمرناهم بالطاعة فعصوا، ويحتمل أن يكون بمعنى جعلناهم أمرا لأن العرب تقول أمر غير مأمور أي غير مؤمر، ويجوز أن يكون بمعنى أكثر ما يدل عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» «3» [21] «4» أراد بالمأمورة كثرة النسل ويقال للشيء الكثير: أمر، والفعل منه أمر يأمرون أمرا إذا كثروا. وقال لبيد: كل بني حرة مصيرهم ... قل وإن أكثرت من العدد إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا، ... يوما يصيروا للهلك والنفذ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقرأه العامّة. وقال أبو عبيد: إنما اخترنا هذه القراءة، لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والأمارة والكثرة، مُتْرَفِيها [.........] «5» وهم أغنياؤها ورؤساءها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يوجب عليها العذاب فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً فجزيناهم [وأهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة] .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 17 إلى 25]
روى معمر عن الزهري قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما على [زينب] وهو يقول: «لا إله إلّا الله للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، قال: «نعم إذا كثر الخبث» «1» [22] . [سورة الإسراء (17) : الآيات 17 الى 25] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ تخوف كفار مكة وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وقد اختلفوا في مبلغ مدة القرن: قال عبد الله بن أبي: وفي القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول قرن كان وآخرهم يزيد بن معاوية. وروى محمّد بن القاسم عن عبد الله بن بشير المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرنا» فقلت: كم القرن؟ قال: «مائة سنة» . قال محمّد بن القاسم: ما زلنا نعدّ له حتّى [تمت] مائة سنة ثمّ مات. وقال الكلبي: القرن ثمانون سنة. وروى عمر بن شاكر عن ابن سيرين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القرن أربعون سنة» [23] . مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعني الدنيا فعبرنا بحرف عن الاسم، أراد بالدار العاجلة عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ من البسط والتقدير لِمَنْ نُرِيدُ أن يفعل به ذلك [أوّل] إهلاكه، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ في الآخرة يَصْلاها يدخلها مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودا مبعدا وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وعمل لها عملها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مقبولا غير مكفور كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ أيّ نمد كل الفريقين، من يريد العاجلة ومن يريد الآخرة
فيرزقهما جميعا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ثمّ يختلف بهما الحال في المال وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا [محبوسا] «1» عن عباده انْظُرْ يا محمّد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والعمل، يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره فَتَقْعُدَ فتبقى مَذْمُوماً مَخْذُولًا وَقَضى أمر رَبُّكَ. قال ابن عبّاس وقتادة والحسن قال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن وقال إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنك عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فقال الرجل: قضى الله ذلك عليّ. قال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله، أي ما أمر الله وقرأ هذه الآية وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فقال الناس: تكلم الحسن في [القدر] . وقال مجاهد وابن زيد: وأوصى ربك، ودليل هذا التأويل قراءة علي وعبد الله وأبيّ: ووصى ربك. وروى أبو إسحاق [الكوفي] عن شريك بن مزاحم أنه قرأ: ووصى ربك وقال: إنهم [ادنوا] الواو بالصاد فصارت قافا. وقال الربيع بن أنس: [وأوجب] «2» رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأمر بالأبوين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ الكسائي بالألف، وقرأ الباقون: يَبْلُغَنَّ بغير الألف على الواحدة وعلى هذه القراءة قوله أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما كلام [مستأنف] كقوله عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ «3» وقوله وَأَسَرُّوا النَّجْوى «4» ثمّ ابتدأ فقال: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيه ثلاث لغات بفتح الفاء [حيث قد رفع] «5» وهي قراءة أهل مكة والشام واختيار يعقوب وسهيل. و (أُفٍّ) بالكسر والتنوين وهي قراءة أهل المدينة وأيوب وحفص. و (أُفِّ) مكسور غير منون وهي قراءة الباقين من القراء، وكلها لغات معروفة معناها واحد. قال ابن عبّاس: هي كلمة كراهة. مقاتل: الكلام الرديء الغليظ. أبو عبيد: أصل الأف والتف الوسخ على الأصابع إذا فتلته وفرق الآخرون بينهما فقيل
الأف ما يكون في المغابن من العرق والوسخ، والتف ما يكون في الأصابع، وقيل: الأف وسخ الأذن والتف وسخ [الأظفار] وقيل: الأف وسخ الظفر والتف ما رفعت يدك من الأرض من شيء حقير. وَلا تَنْهَرْهُما لا تزجرهما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً حسنا جميلا. وقال ابن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ «1» . وقال عطاء: لا تسمهما ولا تكنّهما وقل لهما: يا أبتاه ويا أماه. مجاهد في هذه الآية: إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويحدثان فلا تتعذرهما «2» . ولا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ حين ترى الأذى وتميط عنهما الخراء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا [ولا تؤذهما] «3» [وروى سعيد بن المسيب: أن [العاق] يموت ميتة سوء، وقال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن أبوي بلغا من الكبر أني أوليهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما؟ قال (صلى الله عليه وآله) : [ «لا فإنهما كانا يفعلان لك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل وأنت تريد موتهما» ] «4» [24] . وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. قال عروة بن الزبير: إن لهما حتّى لا يمتنع من شيء أحياه. مقاتل: ألن لهما جانبك فاخضع لهما. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعاصم الجحدري: جَناحَ الذِّلِّ بكسر الذال أي [لا تستصعب معهما] . وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً. قال ابن عبّاس: هو منسوخ بقوله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى الآية. روى شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رضى الله تعالى مع رضا الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين» [25] «5» .
عطاء عن عائشة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقال للعاق اعمل ما شئت إني لا أغفر لك ويقال للبار اعمل ما شئت وإني أغفر لك» [26] «1» . روى عطاء عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة، وإن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أصبح وله بابان إلى النار وان واحدا فواحد» [27] «2» . فقال رجل: يا رسول الله وإن ظلماه؟ قال: «وإن ظلماه» ، ثلاث مرات. وروى رشيد بن سعد عن أبي هاني الخولاني عن أبي عمر [القصبي] «3» قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله دلني على عمل أعمله يقربني إلى الله؟ قال: «هل لك والدة ووالد؟» قال: نعم. قال: «فإنما يكفي مع البر بالوالدين العمل [اليسير] » [28] . رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من بر الوالدين وعقوقهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أبرارا مطيعين فيما أمركم الله به بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، وغير ذلك من فرائض الله فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ بعد المعصية والهفوة غَفُوراً. وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل يكون منه المبادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلّا الخير، فإنه لا يؤخذ به. واختلف المفسرون في معنى الأوابين: فقال سعيد بن جبير: الراجعين إلى الخير، سعيد بن المسيب: الذي يذنب ثمّ يتوب ثمّ يذنب ثمّ يتوب. مجاهد عن عبيد بن عمر: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر الله تعالى عنها. عمرو بن دينار: هو الذي يقول: اللهم اغفر لي ما أصبت في [مجلسي] هذا. ابن عبّاس: الراجع إلى الله فيما [لحق به وينويه] «4» والأبواب فعال من أوب إذا رجع. قال عبيد بن الأبرص: وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب. وقال عمرو بن شرحبيل: وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس دليله قوله يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «5» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 إلى 43]
الوالبي: عنه المطيعين المخبتين. قتادة: المصلين. عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى. ابن المنكدر: بين المغرب والعشاء. روى ابن إدريس عن أبيه عن سعيد بن جبير قال: الأوابين الرغابين. [سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 43] وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ يعني صلة الرحم. وقال بعضهم: عني بذلك قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. روى السدي عن ابن الديلمي قال: قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام أقرأت القرآن؟ قال نعم؟ قال: أفما قرأت في بني إسرائيل وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قال: انكم القرابة الذين أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال: نعم. وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يعني مار الطريق، وقيل: الضيف وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ولا تنفق مالك في المعصية. وروى سلمة بن كهيل عن أبي [عبيدة] عن ابن الضرير أنه سأل ابن مسعود ما التبذير؟ فقال: إنفاق المال في غير حقه «1» .
وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في [الحق ما كان] تبذيرا، فلو أنفق يدا في باطل كان تبذيرا به. وقال شعيب: كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة، فأتى على دار تبنى بجص وآجر فقال: هذا التبذير في قول عبد الله: إنفاق المال في غير حقه «1» . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أولياؤهم وأعوانهم، والعرب تقول: لكل [من يلزم] سنّة قوم وتابع أمرهم هو أخوهم وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً جحود النعمة. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الآية نزلت في منجع وبلال وصهيب وسالم وخباب، كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد لهم متسعا، فيعرض عنهم حياء منهم فأنزل الله عزّ وجلّ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ يعني وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم عند مسألتهم إياك ما لا يجد إليه سبيلا حياء منهم. ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ابتغاء رزق من الله تَرْجُوها أن يأتيك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ليّنا وعدهم وعدا جميلا وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الآية. قال جابر بن عبد الله: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعد فيما بين الصحابة أتاه صبي فقال: يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا، ولم يكن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا قميصه، فقال الصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر يعد وقتا آخر، فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا، فأذن بلال للصلاة فانتظروا فلم يخرج فشغل قلوب الصحابة فدخل عليه [بعضهم فرآه] عاريا فأنزل الله تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «2» يعني ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق، كالمشدودة يده على عنقه فلا يقدر على مدها والإعطاء. وَلا تَبْسُطْها بالعطاء كُلَّ الْبَسْطِ فتعطي جميع ما تملك فَتَقْعُدَ مَلُوماً يلومك سائلوك إذا لم تعطيهم مَحْسُوراً منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه، فقال: حسرته بالمسألة إذا [أكلّته] «3» ودابة حسيرة إذا كانت كالة [رازحة] «4» وحسير البصر إذا كل، قال الله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «5» وقال قتادة: نادما على ما سلف منك «6» .
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يقتر ويضيق إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً نظيرها قوله: [ولو وسع] «1» الله الرزق لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ الآية وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ضيق وإقتار نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يأدون بناتهم خشية الفاقة فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأخبرهم أن رزقهم ورزق بناتهم على الله تعالى إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً اختلف القراء فيه: فقرأ أبو جعفر وابن عامر: بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة. وقرأ ابن كثير: بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة. وقرأ الآخرون: بكسر الخاء وجزم الطاء، وكلها لغات بمعنى واحد، ويكون اسما ومصدرا. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ وبحقها بما روى حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله، فإذا قالوها [عصموا] في دمائهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله» [29] قيل: وما حقها؟ قال: زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس فيقتل بها «2» . وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً قوة وولاية على قاتل وليه فإن لما استفاد منه فقتله وأن الله أخل الدية وإن شاء عفا عنه فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قرأ حمزة والكسائي وخلف: تسرف بالتاء أي فلا تسرف أيها القاتل، ويجوز أن يكون الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمراد منه الأيمة والأمة من بعده، ومن قرأ بالياء رجع إلى المولى. واختلفوا في الإسراف ما هو: فقال ابن عبّاس: لا يقتل غير قاتله. قال الحسن وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم حتّى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فيعمد ولي المقتول إلى الشريف من قبيلة القاتل فيقتله بوليه ويترك القاتل، فنهى الله عن ذلك، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن من أعتى الناس على الله جل ثناؤه قتل غير قاتله أو قتل بدخن الجاهلية أو قتل في حرم الله» [30] «3» . وقال الضحاك: كان هذا بمكة ونبي الله صلّى الله عليه وسلّم بها، وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل وكان المشركون من أهل مكة يقتلون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الله: من قتلكم من المشركين
فلا يحملنكم قتله إياكم على أن لا تقتلوا إلا قاتلكم، فلا يقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا فإن كانوا من المشركين فلا يحملنكم ذلك [................] «1» على فلا تقتلوا إلا قاتلكم «2» . وهذا قبل أن تنزل سورة براءة وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين. وقال سعيد بن جبير: لا يقبل [........] على العدة. قتادة وطارق بن حبيب وابن كيسان: [لا يمثل به] . إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً اختلفوا في هذه الكناية [إلى من ترجع فقيل: ترجع] على ولي المقتول، هو المنصور على القاتل [فيدفع الامام] إليه القاتل، فإن شاء قتل وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية، وهذا قول قتادة. وقال الآخرون: (مَنْ) راجعة إلى المقتول في قوله وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً يعنى أن المقتول [منصور] في الدنيا بالقصاص وفي الآخرة [بالتوبة] وهو قول مجاهد. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إلى قوله مَسْؤُلًا عنه، وقيل معناه: كان مظلوما وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ. قرأ أهل الكوفة: القسطاس بكسر القاف. الباقون: بفتحه وهو الميزان مثل القرطاس، والقسطاس معناه الميزان صغيرا كان أو كبيرا «3» . مجاهد: هو العدل بالرومية. وقال الحسن: هو القبان. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة. [قال الحسن] : ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقدر رجل على حرام ثمّ يدعه ليس لديه «4» إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك» [31] «5» . وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه وهذه رواية على عن ابن عبّاس.
قال مجاهد: ولا ترم أحدا بما ليس لك به علم، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس «1» . وقال ابن الحنفية: هو شهادة الزور. قال [القتيبي] : لا تتبع الحدس والظنون، وكلها متقاربة، وأصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» «2» . وقال النابغة: ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا «3» وقال الكميت: فلا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفوا الحواصين أن [قفينا] «4» وقال [القتيبي] : فهو مأخوذ من القفاء كأنه يقفوا الأمور ويكون في أقفائها يعقبها [ويتتبعها] ويتعرفها. يقال: قفوت أثره على وزن دعوت والنهي منه لا يقف، كقولك: لا تدع. وحكى الفراء عن بعضهم: أن أصله من القيافة، وهو اتباع الأثر وإذا كان كذلك وجب أن يكون (وَلا تَقْفُ) بضم القاف وسكون الفاء مثل: ولا تقل، قال: والعرب تقول: قفوت أثرها وقفت مثل قولهم: قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعا، وعاث وعاثا واعتام واعتمى واحتاج ماله واحتجا. قال الشاعر: ولو إني رميتك من قريب ... لعاقك «5» من دعاء الذئب عاق أي عانق. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي كل هذه الجوارح والأعضاء ما يقل تلك. كقول الشاعر، وهو جرير: ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام «6»
ويجوز «1» أن يكون راجع «2» إلى أصحابها وأربابها. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً بطرا وفخرا وخيلاء، وهو تفسير المشي لا نعته فإن ذلك أخرجه على المصدر قل لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تقطعها بكعبيك حتّى تبلغ آخرها، يقال فلان أخرق الأرض من فلان إذا كان أكثر سفرا وعزة. وقال روبة: وقائم [الأعماق] «3» خاوي المخترق أي المقطع وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي [لن تساويها بطولك ولا تطاولك] وأخبر أن صاحبه لا ينال به شيئا [.....] «4» . عنه غيره كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. قرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن عمر وأهل الكوفة: سَيِّئُهُ على الاضافة، بمعنى كل هذا الذي ذكرنا من قوله وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. (كان سيئة) أي سيء بما ذكرنا ووعدنا عليك عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً، قالوا: لأن فيما ذكره الله من قوله وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع أمورا مأمورات بها ومنهيات عنها، واختار أبو عبيد هذه القراءة لما ذكرنا من المعنى، ولأن في قراءة أبي حجة لها، وهي ما روى أبو عبيد عن حجاج عن هارون في قراءة [أبي بن كعب] (كان سيئاته) قال: فهذه تكون بإضافة سيئة منوّنة منصوبة، بمعنى كل ذلك الذي ذكرنا ووعدنا من قوله وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ إلى هذا الموضع كان سيئة لا حسنة في فجعلوا «كلا» محيطا بالمنهي عنه دون غيره «5» . فإن قيل: هلا جعلت مكروها خبر ثان، قلنا: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: كل ذلك كان مكروها سيئة، وقيل هو فعل [.....] كالبدل لا على الصفة، مجازة: كل ذلك كان سيئة وكان مكروها. وقال أهل الكوفة: رجع إلى المعنى، لأن السيئة الذنب وهو [غير حقيقي] ذلِكَ الذي ذكرنا [ووعدنا] «6» مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ إلى قوله مَدْحُوراً مطرودا مبعدا من كل نصير والمراد به غيره.
قال الكلبي: [الثمان عشرة] آية كانت في ألواح موسى وهي عشر آيات في التوراة. أَفَأَصْفاكُمْ اختاركم واختصكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بنات إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً يخاطب مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله. وَلَقَدْ صَرَّفْنا قرأه العامّة: بالتشديد على التكثير. وقرأ الحسن: صَرَفْنا بالتخفيف. فِي هذَا الْقُرْآنِ يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والأعلام. سمعت أبا القاسم الحسين يقول: بحضره الإمام أبي الطيب لقوله تعالى صَرَّفْنا معنيان أحدهما: لم يجعله نوعا واحدا، بل وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا ومحكما ومتشابها وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وتصريف الأفعال من الماضي إلى المستقبل ومن الفاعل إلى المفعول ونحوها. والثاني: لم ينزله مرة واحدة بل [نجوما] مثل قوله وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ومعناه أكثرنا صرف جبرئيل إليك «1» . لِيَذَّكَّرُوا. قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي لِيَذْكُرُوا مخففا. وقرأ الباقون: بالتشديد وإختيار أبو عبيد أي ليتذكروا وَما يَزِيدُهُمْ أي التصريف والتذكير إِلَّا نُفُوراً ذهابا وتباعدا عن الحق قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ. قرأ ابن كثير وحفص: يَقُولُونَ بالياء. الباقون: بالتاء. إِذاً لَابْتَغَوْا لطلبوا يعني الآلهة القربة إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فالتمست الزلفة عنده. قال قتادة: يقول لو كان [الأمر] كما يقولون إذا لعرفوا الله فضله ومقربته عليهم، فامضوا ما يقربهم إليه. وقال الآخرون: إذا لطلبوا مع الله منازعة وقتالا، كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، ثم نزه نفسه، فقال سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ. الأعمش وحمزة والكسائي، واختاره أبو عبيد عنهم بالتاء عُلُوًّا كَبِيراً ولم يقل تعاليا كقوله [وجعل] «2» إليه سبيلا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 44 إلى 52]
[سورة الإسراء (17) : الآيات 44 الى 52] تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قرأ الحسن: وأبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وحفص: بالتاء، غيرهم: يسبح بالياء واختاره أبو عبيد [.....] «1» وهو التأنيث ومعنى التسبيح التنزيه والطاعة والالتزام بالربوبية وكونها دالة على وجوده وتوحيده. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. قال ابن عبّاس: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ حي. وقال الحسن والضحاك: يعني كل شيء فيه الروح. قال قتادة: يعني الحيوانات والنباتات [........] «2» . قال عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح. قال أبو الخطاب: كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في فقدموا الخوان فقال يزيد الرقاشي يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان؟ فقال كان يسبح مرة «3» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: « [ما سبحت عصا إلا ترك] التسبيح» [32] . وقال إبراهيم: الطعام يسبح. وروى موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول: سبحان الله وبحمده فإنها صلاة الخلق وتسبيحهم [وبها يرزق الخلق] » [33] «4» .
قال الله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» . قال وهب: إن [.........] «2» إلا وقد كان يسبح لله ثلاثمائة سنة. وروى عبد الله بن [...........] «3» عن المقداد بن معد يكرب قال: إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الجوزة لتسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت ترك التسبيح، وإن الورق يسبح مادام على الشجرة، فإذا سقط ترك التسبيح وإن الماء ليسبح مادام ماءا فإذا [تغير] ترك التسبيح، وإن الثوب يسبح مادام جديدا فإذا وسخ ترك التسبيح، وإن الوحش إذا صاحت سبحت فإذا سكتت تركت التسبيح، وإن الثوب [الخلق] لينادى في أول النهار: اللهمّ اغفر لمن [.......] «4» . وروى أبو عتبة عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ كفا من حصى فسبحن في يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى سمعنا التسبيح، ثمّ صبّهن في يد أبي بكر حتّى سمعنا التسبيح ثمّ صبهن في عمر حتّى سمعنا التسبيح، ثمّ صبّهن في يد عثمان حتّى سمعنا التسبيح، ثم صبّهن في أيدينا فما سبحت في أيدينا. وعن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: «مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاه جبرئيل بطبق فيها رمان وعنب فتناول النبي صلّى الله عليه وسلّم فسبح، ثمّ دخل الحسن والحسين فتناولا فسبح العنب والرمان، ثمّ دخل عليّ فتناول منه فسبح أيضا، ثمّ دخل رجل من أصحابه فتناول فلم يسبح، فقال جبرئيل: إنما يأكل هذا نبي أو وصي أو ولد نبي» [34] «5» . وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ يعني لا تعلمون تسبيح ما عدا من تسبيح بلغاتكم وألسنتكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يا محمّد [على] المشركين جَعَلْنا بَيْنَكَ بينهم حجابا يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به. قتادة: هو حجاب مستور، والمستور يعني الساتر كقوله إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا الآية مفعول بمعنى فاعل. وقيل: معناه مَسْتُوراً عن أعين الناس فلا يرونه. وفسّره بعض المفسرين: بالكتاب عن الأعين الظاهرة [فلا يرونه ولا يخلصون] إلى أدلته.
عطاء عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيئة. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه سيحال بيني وبينها» فلم تره فقالت لأبي بكر: يا أبا بكر هجاني صاحبك قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه فاندفعت راجعة. قال أبو بكر: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: «لا ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت» [35] «1» . وروى الكلبي عن رجل من [أهل الشام] «2» عن كعب في هذه الآية قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «3» والآية التي في النحل أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ إلى قوله هُمُ الْغافِلُونَ «4» . والآية التي في الجاثية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إلى قوله غِشاوَةً «5» فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأ بهنّ فخرج هاربا وخرجوا في طلبه حتّى كانوا يكونون على طريقه ولا يبصرونه. قال الكلبي: حدثت به رجلا بالري فأسر بالديلم فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأهنّ وخرج هاربا وخرجوا في طلبه حتّى جعل ثيابهم لتلتمس ثيابه فما يبصرونه. وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ يقول: وإذا قلت: لا إله إلّا الله في القرآن وحده وأنت تتلوه وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً كارهين له معرضين عنها. حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عبّاس في قوله وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً قال: هم الشياطين «6» والنفور جمع نافر مثل قاعد وقعود وجالس وجلوس، وجائز أن يكون مصدرا أخرج على غير لفظه إذا كان قوله وَلَّوْا بمعنى نفروا، فيكون معناه [نُفُوراً] «7» .
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ لن يقرأ القرآن وَإِذْ هُمْ نَجْوى متناجون في أمرك، بعضهم يقول: هو مجنون، وبعضهم يقول: هو كاهن، وبعضهم: ساحر، وبعضهم: شاعر إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بمعنى الوليد بن المغيرة وأصحابه حين رجع إليه كفار مكة من أمر محمّد وشاوروه فقال إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مطبوبا، وقيل: مخدوعا، وقال أبو عبيدة: [مَسْحُوراً] يعني رجلا له سحر يأكل ويشرب مثلكم والسحر الرئة يقول العرب للجبان: قد سحره ولكل من أكل وشرب من آدمي وغيره مسحور ومسحر. قال الشاعر امرئ القيس: أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب أي: نغذي ونعلل. انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ شبّهوا ذلك الأشباه. فقالوا: شاعر وساحر وكاهن ومجنون فَضَلُّوا فجالوا وجاروا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا مخرجا ولا يهتدون إلى طريق الحق «1» . وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً بعد الموت وَرُفاتاً. قال ابن عبّاس: غبارا. قال مجاهد: ترابا، والرفات ما تكسر وبلا من كل شيء، كالفتات والحطام والرضاض. أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً في الشدة والقوة أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة وبعثكم وعملكم على [..........] إحياؤه فإنه يجيئه، وقيل: ما يليه من بعد ورائهم الموت، وقيل: السموات والأرض، وقيل: أراد به البعث وقيل الموت. وقال أكثر المفسرين: ليست في نفس بني آدم أكبر من الموت، يقول: لو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم. سفيان عن مجاهد وعكرمة في قوله أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قالا: الموت. وروى المعمر عن مجاهد قال: السماء والأرض والجبال يقول كونوا ما شئتم فإن الله يميتكم ثمّ يبعثكم فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا خلقا جديدا بعد الموت قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركون رؤوسهم متعجبين ومستهزئين يقال: نغضت سنه إذا حركت وأقلعت من أصله.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 إلى 59]
قال الراجز: أبغض نحوي رأسه وأقنعا وقال آخر: لما رأسني الغضت لي الرأسا وقال الحجاج: [أمسك بقضبا لابني] «1» مستهدجا. وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يعني هو قريب لأن عسى من الله واجب نظيره قوله لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «2» ، ولَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «3» . يَوْمَ يَدْعُوكُمْ من قبوركم إلى [موقف يوم القيامة] فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. قال ابن عباس: بأمره. قتادة: بمعرفته وطاعته، ويحمدونه [وهو مستحق] للحمد. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ في الدنيا في قبولكم إِلَّا قَلِيلًا زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس على أهل لا إله إلّا الله وحشة في قبرهم ولا حشرهم، كأني بأهل لا إله إلّا الله وهم ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «4» الآية» [36] «5» . [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 59] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ نزلت في عمر بن الخطاب، وذلك أن رجلا من العرب شتمه فأمره الله تعالى بالعفو. الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقول والفعل، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية على ذلك. وَقُلْ لِعِبادِي المؤمنين يَقُولُوا للكافرين الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني الكلمة التي هي أحسن لا تكافئهم. قال الحسن: يقول هداك الله يرحمك الله، وهذا قبل أن أمروا بالجهاد. وقيل: الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلّا الله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يفتري، وألقى بينهما العداوة ويعزى بينهم إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ يوفقكم فتؤمنوا أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ يميتكم على الشرك فيعذبكم، قاله ابن حريج «1» . وقال الكلبي: إن الله يرحمكم فيحفظكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وكفيلا، نسختها آية القتال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فجعلهم مختلفين في أخلاقهم من أمورهم وأحوالهم ومالهم، كما يختلف بعض المتقين على بعض. قتادة: في هذه الآية اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، فقال لعيسى كُنْ فَيَكُونُ وأتى سليمان ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعده، وأتى داوُدَ زَبُوراً كتابا علمه داود فيه دعاء وتحميد وتمجيد وليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود وغفر [لمحمد] ما تقدم من ذنبه وما تأخر قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنها آلهة مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا [عنكم] «2» إلى غيركم، قيل: هو ما أصابهم من القحط سبع سنين. أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ. قتادة عن عبد الله بن عبد الزنجاني عن ابن مسعود أنه قرأ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ تَبْتَغُونَ بالتاء. وقرأهما الباقون: بالياء يَبْتَغُونَ. إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ القربة إلى ربهم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إليه وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً قال ابن عبّاس ومجاهد وأكثر العلماء: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 60 إلى 72]
وقال عبد الله بن مسعود: كان نفر من الانس يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن ولم يعلم الانس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فغيرهم الله بذلك وأنزل هذه الآية. وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ يعني وما من قرية إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي مخربوها ومهلكوا أهلها بالسيف أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا. وقال بعضهم: هذه الآية عامة. قال مقاتل: أما الصالح فبالموت وأما الطالح فبالعذاب. قال ابن عبّاس: إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبا وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ. قال ابن عبّاس: قال أهل مكة: اجعل لنا الصفا ذهبا، فأوحى الله الى رسوله: إن شئت أن تستأني بهم فعلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا، فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا بل أستأني بهم فأنزل الله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ التي سألها كفار قومك إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك أهلكتهم أيضا لأن من خسفنا في الأمم إذا سألوا الآيات فيأتيهم ثم لم يؤمنوا أن نعذبهم ونهلكهم ولا نمهلهم ، فإن الأوّل في محل النصب وقوع المنبع عليه، وإن الثانية في محل رفع ومجاز الأول: سمعنا إرسال الآيات إلّا تكذيب الأولين بها قالوا وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً مضيئة بينة فَظَلَمُوا بِها أي [قروا] «1» بها إنها من عند الله وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ بالعبر والدلالات إِلَّا تَخْوِيفاً للعباد ليؤمنوا ويتذكروا فإن لم يفعلوا عذبوا. قال قتادة: إن الله يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعيون أو يذكرون أو يرجعون، ذكر أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس إن الله ليس يعتبكم فأعتبوه. وروى محمّد بن يوسف عن الحسن في قوله عزّ وجلّ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً قال الموت الذريع. [سورة الإسراء (17) : الآيات 60 الى 72] وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وهو مانعك منهم وحافظك فلا تهبهم وأمض لما أمرك به في تبليغ رسالته، قاله أكثر المفسرين. قال ابن عبّاس: يعني أحاط علمه بهم فلا يخفى عليه منهم شيء.
مقاتل والبراء: أَحاطَ بِالنَّاسِ يعني أهل مكة أي أنها ستفتح لك. وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. قال قوم: هي رؤيا عين وهو ما أرى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج من العجائب والآيات فكان ذلك فتنة للناس، فقوم أنكروا وكذبوا، وقوم ارتدوا، وقوم صدقوا، والعرب تقول: [رأيت بعيني] رؤية ورؤيا وعلى هذا يحمل حديث معاوية أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: كانت رؤيا من الله صادقة أي [رؤيا عيان] أرى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم وما ذكرنا من تأويل الآية، قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وأبي مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد وابن جريج وعطية وعكرمة وعطية عن ابن عبّاس. وقال آخرون: هي ما أرى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسرى بروحه دون بدنه فلما قصها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه [........] «1» من أصحاب المسلمين وطعن فيها ناس من المنافقين. وهو ما روى جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي، يحدث عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلى الغداة أستقبل الناس [بوجهه] فقال: «هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» ؟ فإن كان أحدا رأي تلك الليلة رؤيا قصها عليه فيقول فيها ما شاء الله أن يقول فسألنا يوما. فقال: «هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا» ، قلنا: لا، قال: «لكني أتاني الليلة آيتان فقالا لي: انطلق فانطلقت معهما فأخرجاني إلى أرض مستوية فإذا رجل مستلقي على قفاه ورجل قائم بيده صخرة فشدخ بها رأسه [فيتبع] الحجر فإذا ذهب يأخذه عاد رأسه كما كان فهو يصنع به مثل ذلك، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقت معهما فأتينا على رجل مستلق لقفاه يرمش عينه، فإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد فإذا هو يأخذ أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه ثمّ يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك فما يفرغ من ذلك حتّى يصبح ذلك الجانب كما كان ثمّ يعود إليه، فقلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق فانطلقت معهما فأتيا على بيت مبني مثل بناء التنور أعلاه ضيق [وأسفله واسع] يوقد فيه النار فأطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب من أسفل [ضجّوا] ، قلت لهما: ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر من دم أحمر وإذا في البحر سابح يسبح فإذا على شاطئ النهر رجل عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فيذهب فيسبح ما يسبح ثمّ يرجع إليه كما رجع إليه فيفغر له فاه «2» فألقمه حجرا قال: فقلت ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقت فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما رأيت
رجلا وإذا هو عنده نار [يحشها ويسعى] حولها قلت لهما: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة [معتمة] فيها من كل نوع الربيع وإذا شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ طويل فإذا حوله صبيان كأكثر ولدان رأيتهم قط. قال: قلت ما هؤلاء؟ قالا: انطلق فانطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها [ولا أحسن] قالا لي: أرق فارتقينا فانتهينا إلى مدينة مبنية من ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحناها ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم [كأحسن] ما رأيت [وشطر كأقبح] ما رأيت، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر وإذا نهر معترض يجري كأنه المخيض من البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا وقد ذهب السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قال: فقلت لهما [والله] إني ما رأيت مثل الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قالا إنا [سنخبرك أما الذي] «1» أتيت عليه يشدخ رأسه بالحجر فإنه رجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقه وعينه ومنخره إلى قفاه فإنه [رجل يغدوا] «2» من بيته فيكذب [الكذبة تبلغ الآفاق] «3» . وأما الرجل والنساء العراة الذين في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرأة الذي عنده النار يحشها فإنه مالك خازن النار، وأما الرجل الطويل الذي في [الروضة] فإبراهيم (عليه السلام) وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة.
أما القوم الذين كانوا شطر خلقهم حسنا وشطر قبيحا فإنهم قوم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً فتجاوز الله عنهم، وأما الروضة فهي جَنَّاتِ عَدْنٍ وأما المدينة التي دخلت فدار الشهداء. قال: بينما بصري صعدا فإذا مثل الذبابة البيضاء، قالا لي: ها هو ذا منزلك، وأنا جبرئيل وهذا ميكائيل. فقلت: بارك الله فيكما دعاني أدخل داري، فقالا: إنه قد بقي لك ولم تستكمله ولو استكملته دخلت دارك [37] «1» . وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال: هي رؤيا التي رأى أنه يدخل مكة عام الحديبية هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فعجّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السير إلى مكة قبل الأجل فردّه المشركون. فقال ناس: قد ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان حدثنا إنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم وقد كان في العام المقبل سار إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخلها فأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ. سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن حذيفة عن سعيد بن المسيب، من قول الله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: أرى بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له إنها الدنيا يعطونها [فتزوى] عنه إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: بلاء للناس. وروى عبد المهيمن عن بن عبّاس عن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتّى مات، فأنزل الله في ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ المذكورة فِي الْقُرْآنِ يعني شجرة الزقوم ، ومجاز الآية: الشجرة الملعونة المذكورة في القرآن، ونصب الشَّجَرَةَ عطفا بها على الرُّؤْيَا تأويلها: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلّا فتنة للناس فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت، وفتنتهم في الشجرة الملعونة أن أبا جهل قال- لما نزلت هذه الآية: أليس من الكذب ابن أبي كبشة أن يوعدكم بحرق الحجارة ثمّ يزعم إنه ينبت فيها شجرة وأنتم تعلمون إن النار تحرق الشجرة فما يقولون في الزقوم. فقال عبد الله بن [الزبوي] «2» : إنها الزبد والتمر بلغة بربرة.
فقال أبو جهل: يا جارية زقمينا فأتته بالزبد والتمر، فقال: يزعموا يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمّد والله ما يعلم الزقوم إلّا الزبد والتمر، فأنزل الله تعالى إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «1» ووصفها في الصافات فقال: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ «2» أي خلقت من النار وحذيت بها وأنزل الله وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً. وروى ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن مولى لبني هاشم حدثه إن عبد الله بن الحرث ابن نوفل [أرسل] «3» إلى ابن عبّاس: نحن الشجرة الملعونة في القرآن؟ قال: فقال: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر يعني الكشوث «4» . فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً يعني من طين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: بعث رب العزة إبليس فأخذ كفا من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من ملحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين. قال: ومن ثمّ قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا أيّ هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثمّ سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض «5» . قالَ إبليس أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي فضلته لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وأمهلتني لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أيّ لأستولين على أولاده ولأحتوينهم ولأستأصلنهم بالإضلال ولأجتاحنهم. يقال: [احتنك] فلان ما عند فلان من علم أو كمال مما استقصاه وأخذه كله، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله. قال الشاعر: أشكوا إليك سنة قد أجحفت ... وأحنكت أموالنا واجتلفت ويقال: هو من قول العرب حنّك الدابة يحنكها إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها به حتى يثبت. إِلَّا قَلِيلًا يعني المعصومين الذين استثناهم الله في قوله إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ
«1» قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاءك وجزاء أتباعك جَزاءً مَوْفُوراً وأمرا مكملا وَاسْتَفْزِزْ [استولي] واستخف واستزل واستمل مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم بِصَوْتِكَ. قال ابن عبّاس وقتادة: بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية فهو من جند إبليس. وقال مجاهد: بالغناء والمزامير. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي اجمع وصح. مقاتل: استفز عنهم. بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي ركبان جندهم ومشاتهم. قال المفسرون: كل راكب وماش في معاصي الله. ابن عبّاس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس، فما كان من راكب يقاتل في معصية فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل يقاتل في معصية الله فهو من رجل إبليس والرجل الرجالة. وقرأ حفص: وَرَجِلِكَ بكسر الراء، وهما لغتان يقال: راجل ورجل مثل تاجر وتجر، وراكب وركب. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ قال قوم: هو كل مال أصيب من حرام وأنفق في حرام، وهذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد، ورواية عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس. عطاء بن أبي رباح: هو الربا. قتادة: ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحائر «2» والسوايب والوصيلة والحوامي وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس. وقال الضحاك: هو ما كان يذبحونه لآلهتهم. وَالْأَوْلادِ. قال بعضهم: هم أولاد الزنا، وهو قول مجاهد والضحاك ورواية عطية عن ابن عبّاس. الوالبي عنه: هو ما قبلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام. الحسن وقتادة: عدو الله شاركهم في أموالهم وأولادهم فمجّسوا وهوّدوا ونصّروا وصبّغوا غير صبغة الإسلام «3» .
أبو صالح عن ابن عبّاس: مشاركته إياهم في الأولاد وتسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان. وَعِدْهُمْ ومنّهم الجميل في طاعتك. قال الله وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً باطلا وخديعة لأنه لا يغني عنهم من عذاب الله إذا نزل بهم شيئا كقوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ «1» . إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي [يسوي ويجري] . لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إلى قوله وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أصابكم [الجهد] فِي الْبَحْرِ وخفتم الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ إلا دعاؤكم إياه فلم تجدوا ما يكفيكم سواه فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من البحر وأخرجكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الايمان والطاعة وكفرتم بما جاءكم وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ بعد ذلك أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ يغيبكم ويذهبكم في جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً حجارة تمطر عليكم من السماء كما أمطر على قوم لوط. وقال أبو عبيد والقتيبي: الحاصب الذي يرمي بالحصباء، وهي الحصا الصغار. قال الفرزدق: مستقبلين شمال الشام يضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ في البحر تارَةً مرة أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي قاصفا وهي الريح الشديدة. قال ابن عبّاس وقال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء أيّ تدقّه وتحطّمه وهي التي تقصف الشجر أي تكسره فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً ناصرا ولا ثائرا. واختلف القراء في هذه الآية. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: نخسف ونرسل ونعيدكم ونغرقكم كلها بالنون لقوله (عَلَيْنا) . وقرأ الباقون: كلها بالياء لقوله (إِيَّاهُ) . إلّا أبا جعفر فإنه قرأ (تغرقكم) بالتاء يعني الريح. وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ميمون بن مهران عن ابن عبّاس في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال: كل شيء يأكل بفيه إلّا ابن آدم يأكل بيديه، وعنه أيضا بالعقل. الضحاك: بالنطق وثمّ التمييز.
عطاء: تعديل العامّة وامتدادها، يمان: بحسن الصورة. محمّد بن كعب: بأن جعل محمّدا منهم، وقيل: الرجال باللحي والنساء بالذواب. محمّد بن جرير: بتسليطهم على غيرهم من الخلق وتسخير سائر الخلق لهم. وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني لذيذ المطاعم والمشارب. مقاتل: السمن والزبد والتمر والحلاوى وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم. وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا. قال قوم: قوله: (كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) استثناء للملائكة. قال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم غير طائفة من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم. وقال الآخرون: المراد به جميع من خلقنا فالعرب قد تضع الأكبر والكثير في موضع الجمع والكل، كقول الله عزّ وجلّ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ «1» والمراد به جميع الشياطين. معمر عن زيد بن أسلم، في قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال: قالت: الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة، فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. حماد بن سلمة عن أبي المهرم قال: سمعت أبا هريرة يقول: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده. يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال مجاهد وقتادة: بنبيهم، يدل عليه ما روى السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: بنبيهم. وقال أبو صالح وأبو نضر والضحاك وابن زيد: بكتابهم الذي أنزل عليهم وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وعن علي بن الحسين بن علي المرتضى (عليهم السلام) عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: «يؤتى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنّة نبيهم» [38] . أبو العالية والحسن: بأعمالهم، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في سياق الآية
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ الآية ونظيرها قوله وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ فسمي الكتاب إماما. روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من باب الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب [الريان] » . فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما علي من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى من تلك الأبواب كلها أحد؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» [39] «1» . وتصديق هذا القول أيضا حديث الألوية والرايات. باذان وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس: بِإِمامِهِمْ الذي دعاهم في الدنيا إلى الضلالة أو الهدي. عليّ بن أبي طلحة: بأئمتهم في الخير والشر. قال الله تعالى وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «2» قال: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ «3» ، وقيل: لمعبودهم. محمّد بن كعب: بأمهاتهم. قالت الحكماء: في ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها: لأجل عيسى (عليه السلام) ، والثاني: أخيار الشرف الحسن والحسين (عليهما السلام) ، والثالث: لئلا يفضح أولاد الزنا. فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ إلى قوله تعالى فِي هذِهِ أَعْمى اختلفوا في هذه الإشارة. فقال قوم: هي راجعة إلى النعم التي عددها الله في هذه الآيات. عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عبّاس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرأ ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ إلى قول الله سَبِيلًا فقال ابن عبّاس: من كان في هذه النعم التي رأى وعاين أعمى فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. وقال آخرون: هي راجعة إلى الدنيا يقول مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى عن قدرة الله وآياته فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 إلى 77]
وقال أبو بكر الوراق: مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى عن حجته فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى عن جنته. وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالا كافرا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، لأنه لم يتب في الدنيا ففي الآخرة لا تقبل توبته. واختلف القراء في هذين الحرفين. فأمالها أهل الكوفة وفخمها الآخرون. وأمّا أبو عمرو فكان يكسر الأول ويفتح الآخر يعني فهو في الآخرة أشد عمي لقوله: وَأَضَلُّ سَبِيلًا هي اختيار أبي عبيدة. قال الفراء: حدثني بالشام شيخ من أهل البصرة إنه سمع من العرب تقول: ما أسود شعره. قال الشاعر: أما الملوك فأنت اليوم الأمم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ «1» [سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الآية اختلفوا في سبب نزولها. فقال سعيد بن جبير: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك حتّى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال: ما عليّ أن ألمّ بها والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعونني أستلم الحجر فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. قتادة: ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة إلى الصباح يكلمونه ويخيرونه ويسودونه ويقارنونه وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا فأين سيدنا فما زالوا يكلمونه حتّى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ثمّ عصمه الله تعالى من ذلك وأنزل هذه الآية. مجاهد: مدح آلهتهم وذكرها ففرحوا. ابن [جموح] : أتوه وقالوا له: أئت آلهتنا فأمسها فذلك قوله شَيْئاً قَلِيلًا. ابن عبّاس: قدم وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال.
قال: ما هن؟ فقالوا: لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصناما بأيدينا [وتمتعنا باللات] سنة. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاعة للات فإني غير ممتعكم بها «1» » [40] . فهنا قالوا لرسول الله: فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعطه غيرنا فإن كرهت ذلك وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهم ليؤمنوا، فعرف عمر (رضي الله عنه) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لما سألوه فقال: ما لكم آذيتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحرق الله أكبادكم إن رسول الله لا يدع الأصنام في أرض العرب إما أن تسلموا وإما أن ترجعوا فلا حاجة لنا فيكم «2» . فأنزل الله تعالى هذه الآية ووعدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك. عطية عنه قالت ثقيف للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أجّلنا سنة حتّى نقبض ما تهدي لآلهتنا فإذا قبضنا التي تهدى لآلهتنا كسرناها وأسلمنا، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يؤجلهم فأنزل الله تعالى وَإِنْ كادُوا وقد هموا لَيَفْتِنُونَكَ ليستزلونك ويصرفونك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ لتختلف عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لو فعلت ما دعوك إليه لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي والوك وصافوك وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحق بعوننا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ تميل إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ولو فعلت ذلك إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ المحتضر أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعّفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ناصرا يمنعك من عذابنا. قال قتادة: فلما نزلت هذه الآيات، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» [41] . وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليستخفونك مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها الآية. قال الكلبي: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة حسدت اليهود مقامه بالمدينة وكرهوا قربه منهم فأتوا فقالوا: يا محمّد أنبي أنت؟ قال: نعم، قالوا: والله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء وإن أرض الأنبياء الشام، وكأنى بها إبراهيم و [الأنبياء] : فان كنت نبيا مثلهم فأت الشام وقد علمنا إنما يمنعك الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك بها من الروم إن كنت رسوله وهي الأرض المقدسة وإن الأنبياء لا يكونوا بهذا البلد. فعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثلاثة أميال من المدينة وأربعة أميال، وفي بعض الروايات إلى
ذي الحليفة، حتّى ترتاد ويجتمع عليه أصحابه [وينظر] «1» إليه الناس. فأنزل الله عزّ وجلّ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ التي كنت بها وهي أرض المدينة «2» . وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن الحكم: إن اليهود أتوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام فإنها أرض المحشر والنشر وأرض الأنبياء فصدّق رسول الله ما قالوا وقد كان في غزوة تبوك لا يريد بذلك إلّا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آية من سورة بني إسرائيل بعدها ختمت السورة وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها خيلك وملكك وفيها مبعثك. قال مجاهد وقتادة: همّ أهل مكة عمدا بإخراج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ولكن الله كفهم عن إخراجه حتّى أمره ولقلما لبثوا مع ذلك بعد خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة حتّى أهلكهم الله يوم بدر «3» . وهذا التأويل أليق بالآية لأن ما قبلها خبر من أهل مكة ولم يجد لليهود ذكر ولأن هذه السورة مكية. وقيل: هم الكفار كلهم كادوا أن يستخفوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينالوا منه ما أملوا من الظفر ولو أخرجوه من أرض العرب لم يميلوا أن يقيموا فيها على كفرهم بل أهلكوا بالعذاب فذلك قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ أي بعدك وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون: خِلافَكَ واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ «4» ومعناه أيضا بعدك. قال الشاعر: عفت الديار خلافها فكأنما ... بسط الشواطب منهن حصيرا أيّ بعدها. إِلَّا قَلِيلًا حتّى تهلكوا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أيّ كسنّتنا فيمن أرسلنا
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 إلى 84]
قبلك من رسلنا إذا يكذبهم الأمم أهلكناهم بالعذاب ولا يعذبهم مادام فيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبناهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا تبديلا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 84] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ قال إبراهيم النخعي ومقاتل بن حيان والسدي ويمان وابن زيد: دلوكها غروبها. قال الشاعر: هذا مقام قدمي رياح ... غدوة حتّى هلكت براح أي غربت الشمس، وبراح اسم للشمس مثل قطام وجذام ورفاش. ويروى، براح بكسر الباء يعني إن الناظر يضع كفه على حاجبه من شعاعها لينظر ما بقي من غبارها، ويقال ذلك للشمس إذا غاب. قال ذو الرمة: مصابيح ليست باللواتي يقودها ... نجوم لا بالأفلات الدوالك ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن مسعود إنه كان إذا غرب الشمس صلى المغرب وأفطر إن كان صائما ويحلف بالله الذي لا إله إلّا هو أن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة وهي التي قال الله أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. وقال ابن عمرة وابن عبّاس وجابر بن عبد الله وأبو العالية وعطاء وقتادة ومجاهد والحسن ومقاتل وجعفر بن محمّد وعبيد بن حجر: دلوكها زوالها ، وبه قال الشافعي (رضي الله عنه) ، يدل عليه حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر» [42] «1» .
وقال أبو برزة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ثمّ تلا هذه الآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. قال جابر بن عبد الله: دعوت النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثمّ خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس» . وعلى هذا التأويل يكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها، فدلوك الشمس صلاة الظهر والعصر، وغسق الليل صلاتا العشاء، وتصديق هذا التفسير إن جبرئيل (عليه السلام) حين علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيفية الصلاة إنما بدأ بصلاة الظهر. وروى محمّد بن عمار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاءني جبرئيل صلّى الله عليه وسلّم فصلى صلاة الظهر حين زاغت الشمس ثمّ جاءني فصلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثمّ صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثمّ صلى بي العشاء حين غاب الشفق ثمّ جاءني فصلى بي الصبح حين طلع الفجر، ثمّ جاءني في الغد فصلى بي الظهر حين كان ظل كلّ شيء مثله ثمّ صلى بي العصر حين كان ظل كلّ شيء مثليه ثمّ صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثمّ صلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل ثمّ صلى بي الصبح حين أسفر ثمّ قال: هذه صلاة النبيين من قبلك فألزمهم» [43] «1» . عطاء بن أبي رياح عن جابر قال: أن جبرئيل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى الظهر حين زالت الشمس وآتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى العصر. ثمّ أتاه حين وجبت فصلى المغرب وقد تقدم جبرئيل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى المغرب ثمّ أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى العشاء ثمّ أتاه جبرئيل حين انشق الفجر فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى الغداة ثمّ أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثل ما صنع بالأمس صلى الظهر. ثمّ أتاه حين كان ظل الرجل منّا مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر ثمّ أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب متمنيا ثمّ تمنا ثمّ قمنا فأتاه فصنع كما صنع بالأمس صلى العشاء. ثمّ ابتدأ الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة ثمّ قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت.
وعن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عبّاس إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني جبرئيل عند باب الكعبة مرتين فصلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك ثمّ صلى العصر حين كان كل شيء بقدر ظله ثمّ صلى المغرب حين أفطر الصائم ثمّ صلى العشاء حين غاب الشفق ثمّ صلى الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم ثمّ صلى الظهر في المرة الأخيرة حين كان كل شيء بقدر ظله لوقت العصر بالأمس، ثمّ صلى العصر حين كان ظل شيء مثليه ثمّ صلى المغرب للوقت الأول لم يؤخرها ثمّ صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل ثمّ صلى الصبح حين أسفره ثمّ التفت فقال: يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك، الوقت فيما بين هذين الوقتين» [44] «1» . إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ إقباله بظلامه. قال ابن عبّاس: بدو الليل. قتادة: صلاة المغرب. مجاهد: غروب الشمس. أبو عبيدة: سواده. ابن قيس الرقيات: إن هذا الليل قد غسقا ... فاشتكيت الهم والأرقا «2» وقيل: غسق يغسق غسوقا «3» . وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أيّ صلاة الفجر فسمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلّا بقرآن، وقيل: يعني قُرْآنَ الْفَجْرِ ما يقرأ به في صلاة الفجر. وانتصاب القرآن من وجهين: أحدهما: أنه عطف على الصلاة أي أقم قرآن الفجر، قاله الفراء، وقال أهل البصرة: على [الإغراء] «4» أي وعليك بقرآن الفجر. وقال بعضهم: اجتماعه وبيانه وحينئذ يكون مجاز أقم الصلاة لدلوك الشمس بقرآن الفجر. إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يشهد ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار، وفي هذه الآية دليل واضح على تعلق وجوب الصلاة بأول الوقت فاستحباب التغليس بصلاة الفجر. الزهوي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» «5» .
قال: يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) . وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي قم بعد نومك وصل. قال المفسرون: لا يكون التهجد إلّا بعد النوم يقال: تهجد إذا سهر، وهجد «1» إذا نام. وقال بعض أهل اللغة: يقال تهجد إذا نام وتهجد إذا سهر وهو من الاضداد. روى حميد بن عبد الرحمن بن عوف: عن رجل من الأنصار إنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر وقال: لأنظرنّ كيف يصلي النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ استيقظ فرفع رأسه إلى السماء فتلا أربع آيات من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... لَآياتٍ ثمّ أهوى بيده إلى القربة وأخذ مسواكا فاستنّ به ثمّ توضأ ثمّ صلى ثمّ نام ثمّ استيقظ، فصنع كصنيعه أول مرة، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله تعالى «2» . نافِلَةً لَكَ قال ابن عبّاس: خاصة لك، مقاتل بن حيان: كرامة وعطاء لك. ابن عبّاس: فريضتك. وقال: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام الليل خاصة وكتبت عليه، ويكون معنى النافلة على هذا القول فريضة فرضها الله عليك فضلا عن الفرائض التي فرضها الله علينا زيادة. وقال قتادة: تطوعا وفضيلة «3» . وقال بعض العلماء: كانت صلاة الليل فرضها عليه في الابتداء ثمّ رخص له في تركها فصارت نافلة «4» . وقال مجاهد: والنافلة للنبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة لك من أجل أنه لا يعمل ذلك كفارة لذنوبهم، فهي نوافل له وزيادة للناس يعملون ويصلون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها فليست للناس نوافل. عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. قال أهل التأويل: عسى ولعلّ من الله جزاء لأنه لا يدع أن يفعل لعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على طاعاتهم لأنه ليس من صفته الغرور، ولو أن رجلا قال لآخر: اهدني والزمني لعلي أن أنفعك فلزمه ولم ينفعه مع إطماعه فيه ووعده لكان عارا له وتعالى الله عن ذلك، وأما المقام المحمود فالمقام الذي يشفع فيه لأمته يحمده فيه الأولون والآخرون.
عاصم بن أبي النجود عن زيد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ثمّ قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» [45] «1» . وعن حذيفة بن اليمان قال: يجمع الناس في صعيد واحد فلا تكلم نفس فتكون أول من يدعو محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وبك وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فذلك قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. قتادة عن مأمون بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم (عليه السلام) فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله عزّ وجلّ بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من هذا المكان فيقول لهم لست هناك، ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحي ربّه من ذلك ولكن ائتوا نوحا فإنه أول الرسل بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا فيقول لست هناك ويذكر خطيئته وسؤاله ربه هلاك قومه فيستحي ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم (عليه السلام) فيقول: لست هناك ولكن ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتون موسى (عليه السلام) فيقول: لست هناك، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحي من ذلك فيقول ائتوا عيسى عبد الله ورسوله هو كلمة الله وروحه فيأتون عيسى (عليه السلام) فيقول لست هناك ولكن ائتوا محمّدا عبدا غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني فأقوم وأمشي بين سماطين من المؤمنين حتّى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثمّ يقول: ارفعك رأسك ثم يقول: قل يسمع وسلّ تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة، ثمّ أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ قال: ارفع يا محمّد رأسك قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة. ثمّ أعود إليه الثالثة فإذا رأيت ربي وقعتا وخررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال ارفع يا محمّد رأسك قل تسمع وسل تعطه واشفع فشفع فأرفع رأسي فأحمده تحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثمّ أعود إليه الرابعة، وأقول يا رب ما بقي إلّا من حبسه القرآن. قال أنس بن مالك: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وكان في
قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثمّ يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» [46] «1» . وروى أبو عاصم محمّد بن أبي أيوب الثقفي عن يزيد بن صهيب قال: كنت قد شغلني رأي من رأى الخوارج وكنت رجلا شابا، قال: فخرجنا في عصابة ذوي عدد يزيد أن يحج ثمّ يخرج على الناس فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس إلى سارية وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدث والله عزّ وجلّ يقول: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وكُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها. فقال لي: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم فقال: فهل سمعت مقام محمّد المحمود الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمّد صلّى الله عليه وسلّم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار «2» . ثمّ نعت وضع الصراط ومرور الناس عليه قال: وأخاف أن لا أكون حفظت ذلك غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس. قال: فرجعنا وقلنا أيرون كهذا الشيخ يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فو الله ما خرج منا غير رجل واحد. الزهري عن علي بن حسين قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة مدّ الأرض مدّ الأديم [بالعكاظي] «3» حتّى لا يكون لبشر من الناس إلّا موضع قدميه» [47] . قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فأكون أنا أول من يدعى وجبرئيل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها، وأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليّ فيقول الله تعالى: صدق، ثمّ أشفع فأقول يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال: وهو المقام المحمود» [48] «4» . وروى سفيان عن سلمة بن سهيل عن أبي الزعراء قال: قال عبد الله: يكون أول شافع يوم القيامة روح القدس جبرئيل ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى ثمّ يقوم نبيكم صلّى الله عليه وسلّم رابعا فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه وهو المقام المحمود «5» . سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن بالبراق قال لجبرائيل: والذي بعثك بالحق لا يركبني حتّى يضمن لي الشفاعة.
عبد الله بن إدريس عن عبد الله عن نافع عن ابن عمرو قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. قال: يدنيني فيقعدني معه على العرش. ابن فنجويه: أجلسني معه على سريره. أبو أسامة عن داود بن يزيد [الأزدي] عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: «الشفاعة» [49] . عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال: إن الله تعالى اتخذ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق على الله ثمّ قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: يقعده على العرش. وروى سعيد الجروي عن سيف السدوي عن عبد الله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة يؤتي نبيكم صلّى الله عليه وسلّم فيقعد بين يدي الرب عزّ وجلّ على الكرسي. وروى ليث عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: يجلسه على العرش. قال الأستاذ الإمام أبو القاسم الثعلبي: هذا تأويل غير مستحيل لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء قائما بذاته ثمّ خلق الأشياء من غير حاجة له إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته ليعرف وجوده وحده وكمال علمه وقدرته بظهور أفعاله المتقنة بالحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما يشاء من غير أن صار له مما شاء أو كان له العرش مكان بل هو الآن على الصفة التي كان عليها قبل أن خلق المكان والزمان، فعلى هذا القول سواء أقعد محمدا صلّى الله عليه وسلّم على العرش أو على الأرض لأن استواء الله على العرش ليس بمعنى الاستقبال والزوال أو تحول الأحوال من القيام والقعود أو الحال الذي يشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف، وليس إقعاده محمّدا صلّى الله عليه وسلّم على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا إياه من صفة العبودية بل هو رفع لمحله وإظهار لشرفه وتفضيل له على غيره من خلقه، وأما قولهم: في الأخبار معه، فهو شابه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «1» ورَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «2» ونحوهما من الآيات، كل ذلك راجع إلى الرتبة والمنزلة لا إلى المكان والجهة والله أعلم. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ قرأه العامّة: بضم الميمين على معنى الإدخال والإخراج.
وقرأ الحسن: بفتحهما على معنى الدخول والخروج. واختلف المفسرون في تأويلها. فقال ابن عبّاس والحسن وقتادة أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ المدينة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة فروى أبو حمزة الثمالي عن جعفر بن محمّد عن محمّد بن المنكدر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حين دخل الغار رَبِّ أَدْخِلْنِي يعني الغار مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي من الغار مُخْرَجَ صِدْقٍ إلى المدينة» [50] «1» . وقال الضحاك: وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ من مكة آمنا من المشركين أَدْخِلْنِي مكة مُدْخَلَ صِدْقٍ ظاهرا عليها بالفتح. عطية عن ابن عبّاس أَدْخِلْنِي القبر مُدْخَلَ صِدْقٍ عند الموت وَأَخْرِجْنِي من القبر مُخْرَجَ صِدْقٍ عند البعث. الكلبي أَدْخِلْنِي المدينة مُدْخَلَ صِدْقٍ حين أدخلها بعد أن قصد الشام وَأَخْرِجْنِي منها إلى مكة افتحها لي. مجاهد أَدْخِلْنِي في أمرك الذي أدخلتني به من النبوة مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي منه مُخْرَجَ صِدْقٍ. قتادة عن الحسن: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ في طاعتك وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ بالصدق أي سالما غير مقصر فيها. وقيل: معناه أَدْخِلْنِي حيث ما أدخلتني بالصدق وَأَخْرِجْنِي بالصدق أي لتجعلني ممن أدخل بوجه وأخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون أمينا عند الله. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً مجاهد: حجة بينة. قال الحسن: يعني ملكا قويا ينصرني به على من والاني وعزّا ظاهرا أقيم به دينك، قال: فوعده الله تعالى لينزعن ملك فارس والروم وعزتهما فجعله له. قتادة: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلّا بسلطان فسأل سُلْطاناً نَصِيراً بكتاب الله وحدوده، وفرائضه وإقامة دينه وإن السلطان رحمة من الله جعلها من أظهر عباده لا يقدر بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم. وقيل: هو فتح مكة.
وروى موسى بن إسماعيل عن حماد عن الكلبي في قوله وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً قال: سلطانه النصير. عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية: استعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل مكة [قال له:] انطلق فقد استعملتك على أهل الله يعني مكة فكان شديدا على [المنافقين] ليّنا للمؤمنين. قال: لا والله لا أعلم متخلفا ينطلق عن الصلاة في جماعة إلّا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عنها إلّا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله تستعمل على آل الله عتاب بن أسيد أعرابيا حافيا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني رأيت فيما يرى النائم، كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقه الباب ففلقها «1» لا شديدا حتّى فتح له فدخلها فأعز الله به الإسلام لنصرته المؤمنين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير» [51] «2» . وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ يعني أتى وَزَهَقَ الْباطِلُ أي ذهب الشيطان وهلكه، قاله قتادة. وقال السدي: الحقّ الإسلام، والباطل الشرك. وقيل: الحق دين الرحمن والباطل الأوثان. وقال ابن جريح: الحق الجهاد والقتال. إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ذاهبا. يقال: زهقت نفسه إذا خرجت وزهق السهم إذا جاوز الفرض فاستمر على جهته. قال ابن مسعود وابن عبّاس: لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلا أسحر من محمّد. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي بيان من الضلالة والجهالة بيّن للمؤمن ما يختلف فيه ويشكل عليه، فيشفي به من الشبهة ويهدي به من الحيرة وإذا فعل ذلك رحمه الله، فهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها كما يشفي المريض إذا زالت العلل عنه. قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه.
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً لأنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه. وقال همام: سمعت قتادة يقول: ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ثمّ قرأ هذه الآية. وروت ساكنة بنت الجرود قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» [52] «1» . وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن ذكرنا وَنَأى بِجانِبِهِ وتباعدنا بنفسه. وقال عطاء: تعظم وتكبر. واختلف القراء في هذا الحديث، فقرأ أبو عمر وعاصم ونافع وحمزة في بعض الروايات عنهم: بفتح النون وكسر الهمزة على الإمالة. وقرأ الكسائي وخلف وحمزة في سائر الروايات: بكسرهما، اتبعوا الكسرة. وقرأ أكثرهم: بفتحهما على التفخيم وهي اللغة العالية. وقرأ أبو جعفر وعامر: بالنون ولها وجهان: أحدهما: مقلوبة من نأي كما يقال رأى وراء، والثاني: إنها من النوء وهو النهوض والقيام ويقال أيضا للوقوع الجلوس نوء وهو من الاضداد. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الشدة والضر كانَ يَؤُساً قنوطا قُلْ يا محمّد كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ. قال ابن عبّاس: على ناحيته. مجاهد: على حدته. الحسن وقتادة: على نيته. ابن زيد: على دينه. مقاتل: على [جدلته] «2» . الفراء: على طريقة التي جبل عليها. أبو عبيدة والقتيبي: على خليقته وطبيعته. وهو من الشكل، يقال: لست على شكلي وشاكلتي، وقيل: على سبيله الذي اختاره لنفسه، وقيل: على اشتباهه من حولهم، أشكل عليّ الأمر أي اشتبه، وكل هذه الأقاويل متقاربة. يقول العرب: طريق ذو شواكل إذا ينشعب الطرق [منه] ، ومجاز الآية: كل يعمل ما يشبهه، كما قيل في المثل السائر: كل امرئ يشبه فعله ما فعل المروء فهو أهله.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 85 إلى 89]
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 85 الى 89] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ. الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهو متكئ على عسيب فمرّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، فقام متكأ على العسيب، قال عبد الله، وأنا خلفه فظنيت أنه يوحي إليه فقال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. فقال بعضهم لبعض: قلنا لكم لا تسألوه ، وفي غير الحديث عن عبد الله، قالوا: فكذلك نجد مثله إن الروح من أمر الله تعالى. وقال ابن عبّاس: قالت اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح في الجسد ولم يكن نزل فيهم شيء؟ فلم يجبهم فأتاه جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية. ويروى أن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمّد وحاله سألوا محمدا عن الروح. وعن فتية فقدوا في الزمان الأوّل، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، فإن أجاب في ذلك كله فهو نبي وإن لم يجب من ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن البعض فهو نبي فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها فأنزل الله عزّ وجلّ فيما سألوه عن الفتية قوله أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ «1» إلى آخر القصة. وأنزل عن الجواب الذي بلغ شرق الأرض وغربها وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ «2» إلى آخر القصة. وأنزل في الروح قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ الآية. واختلفوا في هذا الروح المسئول عنه ما هو: فقال الحسن وقتادة: هو جبرئيل. قال قتادة: وكان ابن عبّاس يكتمه.
وروى أبو الميسرة ممن حدثه عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال: في قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ الآية، قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. ابن عبّاس: الروح خلق من خلق الله صورهم على صور بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلّا ومعه واحد من الروح أبو صالح: الروح كهيئة الإنسان وليسوا بناس. مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة. سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن بلغ السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة، خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، فيقوم يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد لولا أن سندس الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السماوات من نوره. وقال قوم: هو الروح المركب في الخلق الذي يفقده [فأوهم وبوجوده مقاديم] «1» وقال بعضهم: أراد بالروح القرآن وذلك أن المشركين قالوا: يا محمّد من أتاك بهذا القرآن، فأنزل الله تعالى بهذه الآية وبيّن أنه من عنده وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني القرآن ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا ناصرا ينصرك ويرده عليك. وقال الحسن: وَكِيلًا ناصرا يمنعك منا إذا أردناك. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني لكن لا يشاء ربك رحمة من ذلك، إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً. هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو معصوب الرأس من وجع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «أيها الناس ما هذه الكتب التي يكتبون الكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا إلّا قليلا إلّا أخذ منه» . قالوا: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: «من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلّا الله» [53] «2» . وروى شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 إلى 100]
وآخر ما تفقدون الصلاة والمصلين قوم لا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما معكم منه شيء، فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة. قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف ما في القلوب [فتصبح الناس كالبهائم] ثمّ قرأ عبد الله وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية «1» . وروى موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ناجية بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عبد الله قال: أكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع؟ قالوا: هذه المصاحف يرفع فكيف بما في صدور الرجال. قال: يسري عليه ليلا يصبحون منه فقراء [وينسون] قول لا إله إلّا الله فيتبعون في قول أهل الجاهلية وإشعارهم فذلك حين يقع عليهم القول. وعن عبد الله بن عمرو قال: لا يقوم الساعة حتّى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله تعالى: ما بالك، فيقول: منك خرجت وإليك أعود أتلي ولا يعمل فيّ. قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لا يقدرون على ذلك. قال السدي: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله. وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً عونا. نزلت هذه الآية حين قال الكفار: لو شئنا لَقُلْنا مِثْلَ هذا فأكذبهم الله تعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ إلى قوله إِلَّا كُفُوراً جحودا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 100] وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. عكرمة عن ابن عبّاس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري بن هشام، والأسود بن المطلب وزمعة ابن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا- أو من اجتمع منهم- بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة. فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد وكلموه وخاصموه حتّى تعذروا فيه، فبعث إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو [يظن بأنه] بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم. فقالوا: يا محمّد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعنّت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلّا وقد جئته فيما بيننا [وبينك] ، وإن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالا حظنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك به رأي قد غلب عليك- فكانوا يسمون من الجن من يأتي الإنسان بالخير والشر فربما كان ذلك- بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتّى نبرئك منه أو نعذر فيك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم أطلب به أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فأن تقبلوا مني ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» [54] «1» . فقالوا: يا محمّد وإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت إنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق
وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن ممن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» [55] «1» . قالوا: فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك وسله فيجعل لك تيجان وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك فإذن نراك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « [ما أنا بفاعل] ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بَشِيراً وَنَذِيراً» [56] . قالوا: فأسقط السماء [عَلَيْنا كِسَفاً] كما زعمت أن ربك [إن] شاء فعل. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك» [57] . قالوا: قد بلغنا إنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنّا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمّد أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتّى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائل منهم لن نؤمن لك حتّى تأتينا بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. فلما قالوا ذلك قام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن محروم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له: يا محمّد عرض عليك ما عرضوا فلم تقبل منهم ثمّ سألوك لأنفسهم أمرا فليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثمّ سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أومن بك أبدا حتّى تتخذ إلى السماء سلما ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر حتّى تأتيها وتأتي بنسخة مصورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت ألّا أصدقك، ثمّ انصرف وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: أبو جهل، حين قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر قريش إن محمّد قد أتى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسبّ آباءنا فإني أعاهد الله لأجلسنّ له عند الحجر قدر ما أطيق حمله وإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه.
وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا لما فاته من متابعة قومه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ «1» «2» . قال أهل الكوفة: (تَفْجُرَ) خفيفة بفتح التاء وضم الجيم، واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد. [قرأ] الباقون بالتشديد على التفعيل، واختاره أبو عبيد ولم يختلفوا في الثانية أنها مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع، والتشديد يدل على التكثير من الأرض يعني أرض مكة يَنْبُوعاً يعني عيونا هو مفعول من نبع الماء. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها وسطها تَفْجِيراً [رقيقا] أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً قرأ أكثر قراء العراق: بسكون السين أي قطعة أجمع كسفه وهو جمع الكثير، مثل تمرة وتمر وسدرة وسدر. تقول العرب: أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة، ويقال: منه جاءنا ببريد كسف أي قطع خبز، وقيل: أراد جاثيا. وفتح الباقون السين، وهو القطع أيضا جمع القليل للكسفة. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. قال ابن عبّاس: كفيلا. الضحاك: ضامنا. مقاتل: شهيدا. مجاهد: جمع القبيلة أيّ بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة. قتادة: عيانا. الفراء: هو من قول العرب: لقيت فلانا قبلا وقبلا أي معاينة. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب وأصله الزينة. مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتّى رأيته في قراءة ابن مسعود: بيت من ذهب. أَوْ تَرْقى تصعد فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أيّ من أجل رقيك صعودك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أمرنا فيه باتباعك قُلْ يا محمّد سُبْحانَ رَبِّي. وقرأ أهل مكة والشام: قال سبحان ربي يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وليس ما سألتم في طوق البشر ولا قدرة الرسل وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ جهلا منهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا وإن الأولى في محل النصب والثانية في
محل الرفع وفي الآية اختصار فتأويلها هلّا بعث الله ملكا رسولا فأجابهم الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ مستوطنين مقيمين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لأن الملائكة إنما تبعث إلى الملائكة ويراهم الملائكة قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إنه رسوله إليكم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً إلى قوله أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ دونهم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ. شيبان عن قتادة عن أنس: إن رجلا قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الذي أمشاه على رجاله قادر أن يمشيه على وجهه [في النار] » [58] «1» . وروى حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة وصنفا ركبان وصنفا يمشون على وجوههم» . قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» [59] «2» . عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا إن قيل: وكيف وصف الله عزّ وجلّ هؤلاء يأتيهم يوم القيامة عمي وصم وبكم، وقال تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ «3» فقال: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وقال دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً والجواب عنه ما قال ابن عبّاس: عُمْياً لا يرون شيئا يسرهم، بُكْماً لا ينطقون بحجة، صُمًّا لا يسمعون شيئا يسرهم. وقال الحسن: هذا حين [جاءتهم] الملائكة وحين يساقون إلى الموقف عمي العيون وزرقها سود الوجوه إلى أن يدخلوا النار. مقاتل: هذا حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك. وقيل: عُمْياً لا يبصرون الهدى، وَبُكْماً لا ينطقون بخير، وَصُمًّا لا يسمعون الحق. مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ قال ابن عبّاس: [سكنت] مجاهد: [طفيت] قتادة: لانت وضعفت. زِدْناهُمْ سَعِيراً وقودا ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 إلى 111]
فأجابهم الله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ في عظمها وشدتها وكثرة أجزائها وقوتها قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في صغرهم وضعفهم نظيره قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «1» وقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «2» . وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي وقتا لعذابهم وهلاكهم لا رَيْبَ فِيهِ إنه إليهم، وقيل: إن هذا جواب لقولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، وقيل: هو يوم القيامة، وقيل: هو الموت الذي يعاينونه فَأَبَى الظَّالِمُونَ الكافرون إِلَّا كُفُوراً جحودا قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أيّ أملاك ربي وأمواله وأراد بالرحمة هاهنا الرزق إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم وحبستم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي الفاقة، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا ممسكا ضيقا. [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 111] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ قال ابن عبّاس والضحاك: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وقال: عكرمة: مطر، الوراق وقتادة ومجاهد والشعبي وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات. وعن محمّد بن كعب القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن الآيات التسع، فقلت: الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ وعصا موسى ويده والطمس والبحر. فقال عمر: وأنا أعرف إن الطمس إحداهن.
قال محمّد بن كعب: إن رجل منهم كان مع أهله في فراشه وقد صار حجرين، وإن المرأة منهم لقائمة تختبز وقد صارت حجرا، وإن المرأة منهم لفي الحمام وإنها تصير حجرا. فقال عمر: كيف يكون الفقه إلّا هكذا ثمّ دعا بخريطة فيها أشياء مما كانت أصيبت لعبد العزيز بن مروان بمصر حين كان عليها من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة [قطعا] وإنها لحجر وأخرج الجوزة مشقوقة وإنها لحجر وأخرج أشباه ذلك من الفواكه وإنها لحجارة، وأخرج دراهم ودنانير وفلوسا وإنها لحجارة. فعلى هذا القول يكون الآيات بمعنى الدلالات والمعجزات. وقال بعضهم: هي بمعنى آيات الكتاب. روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن غسان المرادي: إن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتّى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل نبي لأنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تشركوا بالله شيئا ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ولا تزنوا ولا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة في اليهود أن لا يتعدوا في السبت» [60] «1» . فقبّلوا يده [ورجله] «2» وقالوا: نشهد أنّك نبي، قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني؟» قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنّا نخاف إن اتبعناك تقتلنا اليهود «3» . فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ موسى (عليه السلام) ، وهو قراءة العامة، وروى حنظلة السّدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنّه قرأ فَسَأَلَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ على الخبر وقال: سأل موسى فرعون أن يخلّي سبيل بني إسرائيل ويرسلهم معه. فقال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي قد سحروك، قاله الكلبي، وقال ابن عباس: مخدوعا، وقال محمّد بن جرير: يعطي علم السحر فهذه العجائب التي يفعلها من سحرك، وقال الفرّاء وأبو عبيد: ساحرا فوضع المفعول موضع الفاعل، كما يقال: هو مشؤوم وميمون أي شائم ويامن، وقيل: معناه: وإنّي لأعلمك يا موسى بشرا ذا سحر، أي له رئة «4» . قال موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ قراءة العامة بفتح التاء خطابا لفرعون، وقرأ الكسائي بضم التاء وهي قراءة علي.
روى شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قرأها: لَقَدْ عَلِمْتُ برفع التاء وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم، قال: فبلّغت ابن عباس فقال: إنها لَقَدْ عَلِمْتَ تصديقا لقوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ. قال أبو عبيد: والمأخوذ عندنا نصب التاء، وهو أصح من المعنى الذي احتجّ به ابن عباس، ولأن موسى (عليه السلام) لا يحتج بأن يقول علمت أنا وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كلّه تصح تلك القراءة [عن علي] لكانت حجة، ولكنها ليست تثبت عنه إنما هي عن رجل مجهول، ولا نعلم أحدا من القرّاء تمسك بها غير الكسائي، والرجل المرادي الذي روى عنه أبو إسحاق هو كلثوم المرادي «1» . ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات التسع إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ جمع بصيرة وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال ابن عباس: يعني ملعونا، مجاهد: هالكا، قتادة: مهلكا «2» . وروى عيسى بن موسى عن عطية العوفي في قوله: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال: مبدّلا «3» ، ابن زيد: مخبولا، لا عقل لك، مقاتل: مغلوبا، ابن كيسان: بعيدا عن الخيرات، وروى سفيان بن حصين عن الحسن في قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال [سلاحا] «4» في القطيفة. قال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له فألقى موسى عصاه فرأى فرعون جانبي البيت بين [فقميها] ، ففزع فرعون وأحدث في قطيفته. وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: كنت قائما على رأس المأمون وهو يناظر رجلا فسمعته يقول: يا مثبور، ثم أقبل عليّ فقال: يا إبراهيم ما معنى: يا مثبور؟ قلت: لا أدري، فقال: حدّثني الرشيد قال: حدّثني أمير المؤمنين المنصور فسمعته يقول لرجل يا مثبور، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما معنى مثبور؟ قال: قال ميمون بن مهران قال ابن عباس في قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال: ناقص العقل، قال الفرّاء: يعني مصروفا ممنوعا من الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا الحق؟ أي ما منعك عنه وصرفك، وثبره الله يثبره ومثبره وهو لغتان، وقال ابن الزهري: الغليظ الأرب إذا بارى الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور. فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ يعني يخرجهم، أي بني إسرائيل مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر والشام.
فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ونجّينا موسى وقومه وَقُلْنا لهم مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد هلاك فرعون وقومه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ يعني مصر والشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وهي الساعة جِئْنا بِكُمْ من قبوركم الى موقف القيامة لَفِيفاً مختلطين وقد التفّ بعضكم ببعض لا تتعارفون ولا ينحاز [أحدكم] إلى قبيلته وحيّه، وهو من قول الجيوش إذا اختلطوا، وكل شيء اختلط بشيء تعطّف به والتفّ. وقال مجاهد والضحاك: (لَفِيفاً) أي جميعا، ووحّد اللفيف وهو خبر عن الجمع لأنه بمعنى المصدر كقول القائل: لففته لفا ولفيفا. وقال الكلبي فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني مجيء عيسى ابن مريم من السماء جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً وقال البزّار: من هاهنا وهاهنا، يقول: جميعا. وهذه القصة تعزية لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وتقوية لقلبه، يقول الله تعالى: كما أنزلت عليك القرآن فكذبك كفار قومك من مكة كذلك آتيت موسى التوراة فكذبه فرعون وقومه، وكما أراد أهل مكة أن يستفزّوك منها، كذلك أراد فرعون أن يستفزّ موسى وبني إسرائيل من مصر، فأنجيناهم منهم وأظفرتهم عليهم، وكذلك أظفرتك على أعدائك، وأتمّ نعمتي عليك وعلى من اتّبعك نصرة للدين وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وله الحمد والمنّة. وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ يعني القرآن وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي وأنزلناه قرآنا ففصّلناه. قرأ ابن عباس: فرّقناه بالتشديد وقال: لأنه لم ينزل مرة واحدة وانما أنزل [نجوما] في عشرين سنة، وتصديقه قراءة أبي بن كعب وقرآنا فرّقناه عليك، وقرأ الباقون بالتخفيف كقوله فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. قال ابن عباس فصّلناه، قال الحسن: فرّق الله به بين الحق والباطل، وقرأ الآخرون: بيّناه. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي تؤدة ومهل في ثلاث وعشرين سنة وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا. قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أمر وعد وتهديد إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن وخروج محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم مؤمنو أهل الكتاب إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن يَخِرُّونَ يسقطون لِلْأَذْقانِ على الأذقان وهي جمع الذقن وهو مجتمع اللحيين، قال ابن عباس أراد الوجوه سُجَّداً. وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم خرّوا سجدا وقالوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ أي وقد كان وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ نزول القرآن خُشُوعاً وخضوعا وتواضعا لربّهم.
قال عبد الأعلى التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، وتلا هذه الآية «1» ، نظيرها قوله: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا «2» . قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية، قال ابن عباس: تهجّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعوا إلهين اثنين الله والرحمن، والله ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. قال ميمون بن مهران: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول ما أوحي إليه يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «3» . الضحاك: قال أهل الكتاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية «4» . أَيًّا ما تَدْعُوا من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [.....] مجازه: أيّا تدعوا، كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ «5» وجُنْدٌ ما هُنالِكَ. وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال ابن عباس: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن تلا به «6» كما حكاه القرآن: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «7» ربما صفّروا ليغلّطوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ويخلطوا عليه قراءته فأنزل الله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي في الصلاة فيسمع المشركون فيؤذوك، ولا تُخافِتْ بِها فلا يسمع أصحابك حتى يأخذوا عنك «8» . وقال سعيد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام، فقالت قريش: لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا فنهجو ربك ، وقال مقاتل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في دار أبي سفيان بن حرب عند الصفا، يجهر بقرائته فمرّ به أبو جهل فقال: لا تفتر على الله، فجعل يخفت
صوته، فقال أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة، رددته عن قراءته فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وروى [علقمة] عن ابن سيرين في هذه الآية قال: كان أبو بكر (رضي الله عنه) يخافت بالقراءة في الصلاة ويقول: أناجي ربي، وقد علم بحاجتي، وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ المنان، فأمر أبو بكر حين نزلت هذه الآية أن يرفع صوته شيئا، وأمر عمر أن يخفض شيئا «2» . وقالت عائشة رضي (رضي الله عنه) : نزلت هذه الآية في التشهد، كان الأعرابي يجهر فيقول: التحيات لله والصلوات ويرفع بها صوته، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن: [لا تراء] بصلاتك في العلانية ولا [تسئها] في السر. الوالبي عن ابن عباس: لا تصلّ مرائيا الناس، ولا تدعها مخافة الناس، ابن زيد: كان أهل الكتاب يخافتون في الصلاة، لم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح ويصيح من وراءه، فنهاه الله أن يصيح كما يصيحون، وخافت كما يخافتون، والسبيل الذي بين ذلك الذي بيّن له جبرئيل في الصلاة. وقال: علي والنخعي ومجاهد وابن مكحول: هي في الدعاء «3» ، [وبه قال أشعث عن] عطية «4» عن ابن عباس، وقال عبد الله بن شدّاد: كان أعراب من بني تميم إذا سلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: «اللهم ارزقنا» ، فقال لهم: أتجهرون؟ فأنزل الله هذه الآية. ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح أن شيخا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّثه أن رسول الله قال في هذه الآية: «إنما أنزلت في الدعاء، يقول: لا ترفع صوتك في الدعاء عند استغفارك واذكر ذنوبك فيسمع منك فتعبّر بها وتخافت في الصوت والسكون» [61] ، ومنه يقال للميّت إذا برد خفت. وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أي بين الجهر والإخفات سَبِيلًا وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً قال الحسين بن الفضل: يعني الذي عرّفني أنّه لم يتخذ ولدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ قال مجاهد: لم يذل فيحتاج الى ولي يتعزز به. وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً وعظّمه أن يكون له شريك أو ولي، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قول العبد: «الله أكبر» خير من الدنيا وما فيها.
وروى سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «آية العزّ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» [62] الى آخره. وروى سفيان بن وكيع عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية سبع مرات «1» . وروى محمد بن سلمة عن عبد الحميد بن واصل قال: من قرأ آخر بني إسرائيل كتب الله له من الأجر ملء السموات والأرض لأن الله يقول فيمن زعم أن له ولدا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «2» قال: فيكتب له من الأجر على قدر ذلك.
سورة الكهف
سورة الكهف مكيّة في فضلها. وهي سبعة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا، وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة، ومائة وعشر آيات. روى مطرّف «1» جندب عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضرّه فتنة الدجال، ومن قرأ السورة كلها دخل الجنّة» [63] «2» . وروى إسماعيل بن رافع عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أدلّكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت ملأ فضلها «3» ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك» ؟. قالوا بلى يا رسول الله. قال: «سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ولياليها مثل ذلك، وأعطي نورا يبلغ به السماء ووقي فتنة الدّجال» «4» [64] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً مستقيما. قال ابن عباس: عدلا. الفرّاء: قَيِّماً على الكتب كلّها ناسخا لشرائعها. وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 إلى 16]
: مختلفا لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً أي لتنذركم بأسا شديدا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وهي الجنّة. ماكِثِينَ: مقيمين فِيهِ أَبَداً. وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً نصب على التمييز والقطع، تقديره: كبرت الكلمة كلمة، تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ: ما يقولون إِلَّا كَذِباً. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ: قاتل نفسك عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ: القرآن أَسَفاً: حزنا وجزعا وغضبا. إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من كل شيء زِينَةً لَها، قال الضحّاك من الزاكية خاصّة زينة لها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أزهد فيها. وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً: مستويا جُرُزاً: يابسا أملس لا تنبت شيئا. [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 16] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) أَمْ حَسِبْتَ، معناه: بل أم حسبت، يعني: أظننت يا محمد أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ يعني: ليسوا أعجب آياتنا فإنّ ما خلقت من السماوات والأرض وما فيهنّ من العجائب أغرب منهم. والكهف هو الغار في الجبل. واختلفوا في الرقيم، فقال «1» فيه ما روى ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ ثلاثة نفر خرجوا يرتادون لأهلهم، بينا هم يمشون إذ «2» أصابتهم السماء، فأووا إلى كهف فسقطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف فانقفل عليهم، فقال قائل منهم: اذكروا أيّكم عمل حسنة لعل الله برحمته «3» يرحمنا.
فقال رجل منهم: قد عملت حسنة مرة، كان لي أجراء يعملون عملا استأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم، فجاءني رجل ذات يوم وسط النهار فاستأجرته بشرط أصحابه، فعمل في بقية نهاره كما عمل الرجل منهم في نهاره كله، فرأيت عليّ في الذّمام ألّا أنقصه ممّا استأجرت به أصحابه، لما جهد في عمله، فقال رجل منهم: أتعطي هذا ما أعطيتني ولا يعمل إلّا نصف النهار؟ قلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت. قال: فغضب وذهب وترك أجره، فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثمّ نزل بي بعد ذلك بقر فاشتريت به فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله، فمرّ بي بعد حين شيخ ضعيف لا أعرفه، فقال لي: إنّ لي عندك حقا. فذكره حتى عرفته، قلت: إيّاك أبغي وهذا حقّك. فعرضتها عليه جميعا فقال: يا عبد الله، لا تسخر بي إن لم تتصدّق علي فأعطني حقي. قلت: والله لا أسخر، إنها لحقك ما لي فيه شيء، فدفعتها إليه. اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا. فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء فأبصروا. وقال الآخر: قد عملت حسنة مرّة، كانت لي فضل، وأصاب النّاس شدّة، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفا، فقلت: والله ما هو دون نفسك. فأبت عليّ، وذهبت ورجعت ثلاث مرات وقلت: لا والله ما هو دون نفسك. فأبت عليّ وذهبت، وذكرت لزوجها، فقال لها: أعطيه نفسك وأغيثي عيالك. فرجعت إليّ ونشدتني بالله، فأبيت عليها وقلت: والله ما هو دون نفسك. فلمّا رأت ذلك أسلمت إلىّ نفسها، فلمّا تكشّفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي، فقلت لها: ما شأنك؟ قالت: أخاف الله رب العالمين. فقلت لها: خفته في الشدّة ولم أخفه في الرخاء! فتركتها وأعطيتها ما يحق عليّ بما تكشفتها. اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. فانصدع حتى تعارفوا وتبيّن لهم. وقال الآخر: قد عملت حسنة مرّة، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكان لي غنم، فكنت أطعم أبوىّ وأسقيهما ثمّ أرجع إلى أهلي. قال: فأصابني يوما غيث حبسني حتى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبي وحلبت غنمي وتركتها قائمة فمضيت إليهما، فوجدتهما ناما، فشقّ عليّ أن أوقضهما، وشقّ عليّ أن أترك غنمي فما برحت جالسا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا «1» » [65] . قال النعمان لكأني أسمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الجبل طاق، ففرج الله عنهم وخرجوا» [66] «2» . وقال ابن عباس: الرقيم واد بين غطفان وأيلة، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.
وقال كعب هي قريتهم. وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي وهو موضع الماء منه، تقول العرب: عليك بالرقمة، ودع الضّفة. والضّفتان: جانبا الوادي. وقال سعيد بن جبير: الرّقيم لوح من حديد، وقيل: من رصاص، كتبوا فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، ثمّ وضعوه على باب الكهف. وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم، أي المكتوب. والرّقم: الخط والعلامة، والرقم: الكتابة. ثمّ ذكر قصتهم فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ، أي رجعوا وصاروا. واختلفوا في مسيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم (عليه السلام) ، متمسكين بعبادة الله عزّ وجلّ وتوحيده. وكان ممّن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك ممّن أقام على دين المسيح. وكان ينزل بقرى الروم فلا يترك في قرية ينزلها أحدا إلّا فتنه حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه. وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبّع أهل الإيمان، فيجمعوا له، واتّخذ شرطا من الكفار من أهلها، فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل. فلما رأى ذلك أهل الشّدة في الإيمان بالله عز وجلّ، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتّلون ويقطّعون ثمّ يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها كلّها وعلى كلّ باب من أبوابها، حتّى عظمت الفتنة على أهل الإيمان فمنهم من أقرّ فترك ومنهم من صلب على دينه فقتل. فلمّا رأى الفتية ذلك حزنوا حزنا شديدا، فقاموا وصلّوا وصاموا واشتغلوا بالدعاء والتسبيح لله عز وجلّ، وكانوا من أشراف الرّوم، وكانوا ثمانية نفر، فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، اكشف عن عبادك هذه الفتنة، وارفع عنهم البلاء، وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك حتى يعلنوا عبادتك. فبينا هم على ذلك إذ أدركهم الشرط، وكانوا قد دخلوا في مصلّى لهم فوجدوهم سجودا على وجوههم يبكون ويتضرّعون إلى الله عز وجلّ ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفئته. فلما رآهم أولئك الكفرة قالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه. ثمّ خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس، فقالوا: نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون منك ويعصون أمرك؟
فلما سمع ذلك أتي بهم تفيض أعينهم من الدّمع، معفّرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة الّتي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟ اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح النّاس وإما أن أقتلكم. فقال مكسلمينا- وكان أكبرهم-: إن لنا إلها ملأ السماوات والأرض عظمته، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أبدا، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبدا، ولكنّا نعبد الله ربّنا، وله الحمد والتكبير والتّسبيح من أنفسنا خالصا، إيّاه نعبد، وإيّاه نسأل النجاة والخير فأمّا الطواغيت وعبادتها، فلن نعبدها أبدا، فاصنع بنا ما بدا لك. ثمّ قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمرهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثمّ قال: أمّا إذا فعلتم فإنّي سأؤخركم، وسأفرغ لكم فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلّا أني أراكم شبابا، حديثة أسنانكم، ولا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكّرون فيه، وتراجعون عقولكم. ثمّ أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم، ثمّ أمر بهم حتى أخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريبا منهم لبعض أموره، فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم، فائتمروا بينهم أن يأخذ كلّ رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزوّدوا مما بقي، ثمّ ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه، ويعبدون الله عزّ وجلّ، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء. فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدّقوا بها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، وأتبعهم كلب كان لهم، حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه. وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون منّي؟ لا تخشون إجابتي. أنا أحب أحبّاء الله، فناموا حتى أحرسكم. وقال ابن عباس: هربوا ليلا من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب، وكان على دينهم، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف، وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلّا الصلاة والتسبيح والتكبير والتّحميد ابتغاء وجه الله تعالى، فجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرّا، وكان من أجملهم وأجلدهم. وكان تمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثمّ يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعاما وشرابا ويسّمّع ويتجسس لهم الخبر: هل ذكروا أصحابه بشيء؟ ثمّ يرجع إلى أصحابه.
فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثمّ قدم دقيانوس الجبّار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت، ففزع من ذلك أهل الإيمان، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أنّ الجبّار دقيانوس قد دخل المدينة، وأنهم ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت. فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله عز وجلّ ويتضرّعون ويتعوّذون به من الفتنة. ثمّ إنّ تمليخا قال لهم: ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق الله وتوكّلوا على بارئكم. فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا وخوفا على أنفسهم، فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس. ثمّ جلسوا يتحدّثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضا، فبينا هم على ذلك إذ ضرب الله عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، وهم مؤمنون موقنون، ونفقتهم عند رؤوسهم. فلما كان من الغد تفقّدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم، فقال لبعضهم: لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوني غضبا عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي! فقال له عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنت أجّلت لهم أجلا، فلو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنّهم لم يتوبوا. فلما قالوا له ذلك غضب غضبا شديدا، ثمّ أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم، فقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني. فقالوا له: أمّا نحن فلم نعصك، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثمّ انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس؟ فلما قالوا له ذلك خلّى سبيلهم، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله عز وجلّ في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم، أراد الله عز وجل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمّة يستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ «1» . فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم، وقال: دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم. وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، قد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ، بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم، يتقلّبون ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ. ثمّ إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس، واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس، ثمّ يجعلان التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله
يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب. ففعلا، ثمّ بنيا عليه، فبقي دقيانوس ما بقي، ثمّ مات وقومه وقرون بعد كثيرة، وخلفت الملوك بعد الملوك. وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانا مطوّقين مسوّرين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان- وكان أحدهم وزير الملك- فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر بعضهم لبعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه، ثمّ خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك، فجلس إليه ثمّ خرج الآخرون فجاؤوا فجلسوا إليهما، فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض: ما جمعكم، وكل واحد يكتم إيمانه على صاحبه مخافة على نفسه؟ ثمّ قالوا: ليخرج كل فتيين منكم فيخلوا ثمّ ليفش كل واحد منكم إلى صاحبه. فخرج فتيان منهم فتواقفا ثمّ تكلّما فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما فقالا: قد اتفقنا على أمر واحد. فإذا هم جميعا على الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. فدخلوا ومعهم كلب صيد، فناموا ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً. قال: وفقدهم قومهم، وطلبوهم فعمّى الله عليهم آثارهم وكهفهم، فلما لم يقدموا كتب أحدهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان بن فلان. ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا: ليكوننّ لهذا شأن. ومات ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن. وقال وهب بن منبّه: جاء أحد حواريّ عيسى بن مريم (عليه السلام) الى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلّا سجد له. فكره أن يدخلها فأتى حمّاما قريبا من تلك المدينة، فكان فيه، وكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه. ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودرّ عليه الرزق، وجعل يقوم عليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة. وكان شرطه على صاحب الحمام: إن الليل لي لا يحول بيني وبين الصلاة أحد، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام، فعيّره الحواري وقال له: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه؟ فاستحيا، فذهب، فرجع مرّة أخرى فقال له مثل ذلك، فسبّه وانتهره ولم يلتفت حتى دخلا معا فماتا جميعا في الحمام، فأتي الملك فقيل
له: قتل صاحب الحمام ابنك. فالتمس فلم يقدر عليه، فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسمّوا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمرّوا بصاحب لهم في زرع وهو على مثل إيمانهم فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا وقالوا: نبيت هاهنا الليلة، ثمّ نصبح إن شاء الله فترون رأيكم. فضرب الله عَلَى آذانِهِمْ. فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، وكلّما أراد الرجل منهم دخوله أرعب، فلم يطق أحد دخوله، وقال قائل: أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتوا عطشا وجوعا. ففعل. قال وهب: تركهم بعد ما سدّ عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان، ثمّ إنّ راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحت هذا الكهف فأدخلته غنمي من المطر! فلم يزل يعالجه حتى فتح، وردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا. وقال محمد بن إسحاق: ثمّ ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيدوسيس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانيا وثلاثين سنة فتحزب الناس في ملكه، وكانوا أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذّب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح، وبكى إلى الله عز وجلّ، وتضرّع إليه، وحزن حزنا شديدا. فلما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلّا الحياة الدنيا، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فأما الجسد فتأكله الأرض. ونسوا ما في الكتاب، فجعل تيدوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيرا وأنه معه في الحق، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يحولون الناس عن الحقّ وملّة الحواريين. فلما رأى ذلك الملك الصالح تيدوسيس دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحا وجعل تحته رمادا ثمّ جلس عليه فدأب ليله ونهاره زمانا يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس، ويقول: أي رب، قد ترى اختلاف هؤلاء الناس، فابعث إليهم من يبين لهم. ثمّ إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية له وحجة عليهم، وليعلموا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأن يستجيب لعبده الصالح تيدوسيس ويتم نعمته عليه، ولا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين. فألقى الله عز وجلّ في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف- وكان اسم ذلك الرجل أولياس- أن يهدم ذلك البنيان الّذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف، وفتحا عليهم باب الكهف، فحجبهم الله تعالى من الناس بالرعب. فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم أن يدخل من باب الكهف لم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف، نائما.
فلما نزعا الحجارة وفتحا باب الكهف أذن الله عز وجلّ بالقدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم، فسلّم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها. ثمّ قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يرى في وجوههم ولا أبشارهم ولا ألوانهم شيء ينكرونه، وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبّار في طلبهم. فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: ائتنا يا أخانا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبّار وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد خيّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض: كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ. وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم تمليخا: افتقدتم والتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل. فقال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه، اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غدا. ثمّ قالوا لتمليخا: انطلق إلى المدينة فتسمّع ما يقال [عنّا] «1» بها اليوم وما الذي نذكر به عند دقيانوس، وتلطف ولا تشعرنّ بنا أحدا، وابتع لنا طعاما فائتنا به، فإنه قد نالنا الجوع، وزدنا على الطّعام الذي جئتنا به فإنه كان قليلا فقد أصبحنا جياعا. ففعل تمليخا كما كان يفعل، ووضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكّر فيها، فأخذ ورقا من نفقتهم الّتي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس، وكانت كخفاف الربع. فانطلق تمليخا خارجا فلمّا مرّ بباب الكهف رأى حجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها، ثمّ مرّ فلم يبال بها، حتى أتى باب المدينة مستخفيا يصدّ عن الطريق تخوّفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب إلى دقيانوس، ولا يشعر العبد الصالح أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة. فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان، فلمّا رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفيا، فنظر يمينا وشمالا ثمّ ترك ذلك الباب فتحوّل إلى باب آخر من أبوابها فنظر فرأى مثل ذلك، فجعل يخيّل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناسا كثيرا محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران، ثمّ رجع إلى الباب التي أتى منها، فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويقول: يا ليت شعري أمّا هذه عشية أمس فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها، فأما اليوم فإنها ظاهرة فلعلّي حالم ثمّ يرى أنه ليس بنائم، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثمّ دخل المدينة، فجعل يمشي بين
ظهراني سوقها فيسمع ناسا كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فرقا فرأى أنه حيران، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا، أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلّا قتل، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف. ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا! فقام كالحيران لا يتوجّه وجها، ثمّ لقي فتى من أهل المدينة، فقال: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال: دفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مسّا أو أمرا أذهب عقلي، والله يحقّ لي أن أسرع بالخروج منها قبل أن أخزى أو يصيبني شر فأهلك. هذا الذي حدّث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثمّ إنّه أفاق فقال: والله لو عجّلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي. فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم، فقال: يا عبد الله، بعني بهذا الورق طعاما. فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها ثمّ طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها. ثمّ جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل، ويعجبون منها، ثمّ جعلوا يتسارّون من أجله، ففرق فرقا شديدا وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه، فقال لهم وهو شديد الفرق: أفصلوا عليّ، قد أخذتم ورقي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لي به. فقالوا: من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأوّلين، وأنت تريد أن تخفيه عنا، انطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت فإنك إن لم تفعل نأت بك السّلطان فنسلمك إليه فيقتلك. فلما سمع قولهم عجب في نفسه، وقال: قد وقعت في كل شيء أحذر منه، ثمّ قالوا: يا فتى، إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما حدث، ولا تظن في نفسك أنك سنخفي عليك. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم، وفرق حتى ما يخبرهم شيئا، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطوقوه في عنقه، ثمّ جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكببا، حتى سمع به من فيها، فقيل: أخذ رجل عنده كنز، فاجتمع عليه أهل المدينة، صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذه الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قط، وما نعرفه. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما يسمع منهم، فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدّق، وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة، وأن حسبه في أهل المدينة من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا. فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله: أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم
إذ اختطفوه، فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبّران أمرها، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس. فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه، فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران، فجعل تمليخا يبكي ثمّ رفع رأسه إلى السماء وإلى الله عزّ وجلّ، ثمّ قال: اللهم إله السماء والأرض أفرغ عليّ اليوم صبرا وأولج معي روحا منك تؤيّدني به عند هذا الجبار. وجعل يبكي ويقول في نفسه: فرّق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يذهب بي، ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار، فإنا كنا تواثقنا [لنكونن معا] «1» لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ولا نعبد الطواغيت من دون الله [ف-] فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبدا، وقد كنا تواثقنا على ألّا نفترق في حياة ولا موت، يا ليت شعري ما هو فاعل بي؟ أقاتلي أم لا؟ هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين: أرموس وأسطيوس، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء، فأخذ أرموس وأسطيوس الورق، فنظرا إليه وعجبا منه ثمّ قال أحدهما: أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزا. فقال لهم تمليخا: ما وجدت كنزا، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، وما أدري ما أقول لكما. فقال أحدهما: فمن أنت؟ فقال له: أمّا ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية. قالوا له: فمن أبوك [ومن «2» ] يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه، ولا أباه، فقال له أحدهما: أنت رجل كذّاب لا تخبرنا بالحقّ. ولم يدر ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا رجل مجنون. وقال بعضهم: ليس بمجنون، ولكن يحمّق نفسه عمدا لينفلت منكم. فقال له أحدهما، ونظر إليه نظرا شديدا: أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال، أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمائة سنة، وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا، ونحن شرط كما ترى، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها، وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟ إنني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذابا شديدا ثمّ أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت. فلمّا قال له ذلك، قال تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدّقتم ما عندي. قالوا له: سل، ما نكتمك شيئا. فقال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالا له: ليس نعرف ملكا يسمى دقيانوس على وجه الأرض، ولم يكن إلّا ملكا قد هلك منذ زمان ودهر طويل،
وهلكت بعده قرون كثيرة. قال لهم تمليخا: فو الله ما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول، لقد كنا فتية، وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسّس الأخبار فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل ينجلوس أركم أصحابي. فلما سمع أرموس ما يقول تمليخا، قال: يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله عزّ وجلّ جعلها لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه كما قال. فانطلق معهم أرموس وأسطيوس وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف ينظرون إليهم. ولمّا رأى الفتية أصحاب الكهف أن تمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به، ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس الذي هربوا منه، فبينا هم يظنون ذلك ويتخوفون إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، وظنوا أنهم رسل دقيانوس الجبّار وأنه بعث إليهم ليؤتى بهم، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة، وسلّم بعضهم على بعض، وقالوا: انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا، فإنه الآن بين يدي الجبّار دقيانوس ينتظر متى نأتيه، فبينا هم يقولون ذلك، وهم جلوس بين ظهراني الكهف، فلم يروا إلّا أرموس وأصحابه وقوفا على باب الكهف، وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو ويبكي، فلما رأوه «1» يبكي، بكوا معه وسألوه عن شأنه، فأخبرهم بخبره وقصّ عليهم النبأ كلّه فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كلّه، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقا للبعث، وليعلموا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها. ثمّ دخل على آثر تمليخا أرموس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة فقام بباب الكهف، ثمّ دعا رجالا من عظماء المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوبا فيها: (إن مكسلمينا ومجسلمينا وتمليخا ومرطولس وكسوطونس وبيوسرس وتكريوس وبطينوس «2» كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا هذا الكهف، فلمّا أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة، وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثروا عليهم. فلمّا رأوه عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم، ثمّ إنهم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثمّ دخلوا على فتية الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهرانيه مشرقة وجوههم، لم تبل
ثيابهم، فخرّ أرموس وأصحابه سجّدا، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته، ثمّ كلّم بعضهم بعضا وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس. ثمّ إن أرموس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تيدوسيس أن عجّل، لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك، وجعلها آية للعالمين لتكون نورا وضياء وتصديقا للبعث، فاعجل على فتية بعثهم الله تعالى، وقد كان توفّاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة. فلما أتى الملك الخبر قام من المسندة التي كان عليها ورجع إليه عقله، وذهب عنه همّه، ورجع إلى الله عز وجلّ، فقال: أحمدك الله ربّ السماوات والأرض، وأعبدك وأسبّح لك تطوّلت علي، ورحمتني برحمتك، فلم تطفئ النّور الذي كنت جعلت لآبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك. فلمّا نبّأ به أهل المدينة ركبوا وساروا حتى أتوا مدينة دقيانوس فتلقّاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه، فلما رأى الفتية تيدوسيس فرحوا به وخرّوا سجّدا على وجوههم، وقام تيدوسيس قدامهم ثمّ اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبّحون الله عزّ وجلّ ويحمدونه، ثمّ قال الفتية لتيدوسيس: نستودعك الله، ونقرأ عليك السلام، وحفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شرّ الجن والإنس. فبينا الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفّى الله أنفسهم، وقام الملك إليهم فجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل لكل رجل منهم تابوت من ذهب، فلما أمسوا ونام أتوه في المنام فقالوا: إنّا لم نخلق من ذهب ولا فضّة، ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير، فاتركنا كما كنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عزّ وجلّ منه. فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلّى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما، وأمر أن يؤتى كل سنة. وقيل: إنهم لما أتوا إلى باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتّى أدخل على أصحابي فأبشّرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم. فدخل فبشّرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، وعمي عليهم مكانهم، فلم يهتدوا إليه. فهذا حديث أصحاب أهل الكهف. ويقال: إنّ نبي الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم سأل ربّه أن يريه إيّاهم، فقال: «إنّك لن تراهم في دار الدنيا، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبرئيل (عليه السلام) : «كيف أبعثهم؟» . قال: «ابسط كساء لهم، وأجلس على طرف من أطرافها أبا بكر، وعلى الثاني عمر وعلى الثالث عليّا، وعلى الرابع أبا
ذر، ثمّ ادع الريح الرخاء المسخّر لسليمان بن داود (عليهما السلام) فإن الله تعالى أمرها أن تطيعك» . ففعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ما أمره، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجرا، فقام الكلب حين أبصر الضوء فهرّ وحمل عليهم، فلما رآهم حرّك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ برأسه أن ادخلوا، فدخلوا الكهف وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فردّ الله إليهم أرواحهم، فقاموا بأجمعهم وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقالوا: إنّ نبي الله محمد ابن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ عليكم السلام. فقالوا: على محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليكم بما بلّغتم. ثمّ جلسوا بأجمعهم يتحدثون، فآمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقبلوا دين الإسلام، وقالوا: أقرئوا محمدا منّا السلام. فأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي. ويقال: إنّ المهدي يسلّم عليهم، فيحييهم الله عزّ وجلّ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة. ثمّ جلس كل واحد منهم على مكانه، وحملتهم الريح، وهبط جبرئيل (عليه السلام) [على النبي صلّى الله عليه وسلّم] وأخبره بما كان [منهم] «1» ، فلما أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كيف وجدتموهم؟ وما الذي أجابوا؟» . فقالوا: يا رسول الله، دخلنا عليهم فسلّمنا عليهم، فقاموا بأجمعهم، فردّوا السّلام، وبلّغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا وشهدوا أنّك رسول الله حقا، وحمدوا الله عزّ وجلّ على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسولك إليهم، وهم يقرئونك السلام. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تفرّق بيني وبين أصهاري وأحبائي وأختاني، واغفر لمن أحبّني وأحب أهل بيتي وحامّتي، وأحبّ أصحابي» «2» [67] . فذلك قوله عزّ وجلّ إِذْ أَوَى أي صار وانضم الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ، وهو غار في جبل ينجلوس، واسم الكهف خيرم، فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي يسّر لنا ما نلتمس من رضاك. وقال ابن عباس: رَشَداً أي مخرجا من الغار في سلامة. وقيل: صوابا. قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ هذا من فصيحات القرآن التي أقرّت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله، ومعناه: أنمناهم وألقينا وسلّطنا عليهم النوم، كما يقال: ضرب الله فلان بالفالج، أي ابتلاه به وأرسله عليه. وقيل: معناه حجبناهم عن السّمع، وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم، وهذا وصف الأموات والنيام. وقال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير علي يد
الرعية، إذا منعهم عن العبث والفساد، وضرب السّيد على يدي عبده المأذون في التجارة، إذا منعه عن التصرّف فيها. قال الأسود بن يعفر، وكان ضريرا: ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضربت عليّ الأرض بالأسداد «1» سِنِينَ عَدَداً أي معدودة، وهو نعت للسنين، فالعدّ المصدر، والعدد الاسم المعدود، كالنقص والنقض والخبط والحبط. وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ، يعني من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً، وذلك حين تنازع المسلمون الأوّلون أصحاب الملك، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين أوى أصحاب الكهف في قدر مدّة لبثهم في الكهف، فقال المسلمون الأولون: مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل مكثوا كذا وكذا. فقال الأوّلون: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، فذلك قوله: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ، لتعلموا أَيُّ الْحِزْبَيْنِ: الفريقين أَحْصى: أصوب وأحفظ لِما لَبِثُوا في كهفهم نياما، أَمَداً: غاية. وقال مجاهد: عددا. وفي نصبه وجهان: أحدهما على التفسير والثاني لوقوع لِما لَبِثُوا عليه. نَحْنُ نَقُصُّ، أي نقرأ وننزل عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ، أي خبر أصحاب الكهف بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ: شبان وأحداث آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، حكم الله لهم بالفتوّة حين آمنوا بلا واسطة لذلك. وقال أهل اللّسان: رأس الفتوّة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوّة كفّ الأذى وبذل الندى، وترك الشكوى. وقيل: الفتوّة شيئان: اجتناب المحارم، واستعمال المكارم. وقيل: الفتى من لا يدّعي قبل الفعل، ولا يزكّي نفسه بعد الفعل. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السياط، إنما الفتى من جاز على الصراط. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السكين، إنما الفتى من يطعم المسكين. وَزِدْناهُمْ هُدىً إيمانا وبصيرة وإيقانا. وَرَبَطْنا: وشددنا عَلى قُلُوبِهِمْ بالصبر، وألهمناهم ذلك، وقوّيناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش، وفرّوا بدينهم إلى الكهف، إِذْ قامُوا بين يدي دقيانوس فَقالُوا حين عاتبهم على تركهم عبادة الصنم: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا: لن نعبد مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، يعني إن دعونا غير الله، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. قال ابن عباس ومقاتل: جورا. قال قتادة: كذبا. وأصل الشطط والإشطاط: مجاوزة القدر، والإفراط. هؤُلاءِ قَوْمُنَا، يعني أهل بلدهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ، أي من دون الله آلِهَةً، يعني
[سورة الكهف (18) : الآيات 17 إلى 22]
الأصنام يعبدونها من دون الله لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي هلّا يأتون على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ: بحجة واضحة فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فزعم أنّ له شريكا وولدا؟ ثمّ قال بعضهم لبعض: إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، يعني قومكم وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله. وكذلك هو في مصحف عبد الله: (وما يعبدون من دون الله) . فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ، أي صيروا إليه يَنْشُرْ، أي يبسط لكم ويظهر لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً، أي رزقا رغدا. والمرفق: ما يرتفق به الإنسان، وفيه لغتان: مرفق، ومرفق. [سورة الكهف (18) : الآيات 17 الى 22] وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ، أي تتزاور، وقرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف أحد الزاءين، وقرأ أهل الشام: تزورّ على وزن تحمرّ، وكلّها بمعنى واحد، أي تميل وتعدل عن كهفهم ذاتَ الْيَمِينِ، أي جانب اليمين، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ، قال ابن عباس: تدعهم. قال مقاتل بن حيان: تجاوزهم. وأصل القرض: القطع. ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ، أي متّسع من الكهف، وجمعها فجوات وفجىّ. أخبرنا الله تعالى بحفظه إيّاهم في مهجعهم، وعرفنا لطفه بهم في مضجعهم واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد فأعلمنا أنّه بوّأهم في مغناة من الكهف مستقبلا بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتغيّر ألوانهم وتبلى ثيابهم، وإنهم في متّسع منه ينالهم فيه برد الريح ونسيمها وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه، ذلِكَ الذي ذكرت من أمر الفتية مِنْ آياتِ اللَّهِ:
من عجائب صنع الله ودلالات قدرته وحكمته. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ أي يهده الله فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا معينا مُرْشِداً لأنّ التوفيق والخذلان بيد الله عزّ وجلّ. وَتَحْسَبُهُمْ يا محمد أَيْقاظاً أي منتبهين، جمع يقظ ويقظ مثل قولك: رجل نجد ونجد للشجاع، وجمعه أنجاد، وَهُمْ رُقُودٌ: نيام، جمع راقد مثل قاعد وقعود، وَنُقَلِّبُهُمْ، وقرأ الحسن (وَنُقْلِبُهُمْ) بالتخفيف، ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ مرّة للجنب الأيمن ومرّة للجنب الأيسر. قال ابن عباس: كانوا ينقلبون في السنة مرة إلى جانب من جانب، لئلا تأكل الأرض لحومهم. ويقال: إنّ يوم عاشوراء كان يوم تقليبهم. وقال أبو هريرة: كان لهم في كل سنة تقليبان. وَكَلْبُهُمْ، قال ابن عباس: كان أنمر. وقال مقاتل: كان أصفر. وقال القرظي: شدة صفرته تضرب إلى الحمرة. الكلبي: لونه كالخلنج «1» . وقيل: لون الحجر. وقيل: لون السماء. وقال علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) : «كان اسمه ريان» . وقال ابن عباس: قطمير. وقال الأوزاعي: نتوى. وقال شعيب الجبائي: حمران. عبد الله ابن كثير: اسم الكلب قطمور. [قال] «2» السّدي: نون. عبد الله بن سلام: بسيط. كعب: أصهب. وهب: نقيا، وقيل: قطفير. عن عمر قال: إن مما أخذ على العقرب ألّا يضر بأحد في ليله ونهاره: سَلامٌ عَلى نُوحٍ، وإن مما أخذ على الكلب ألّا يضر من حمل عليه أن يقول: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. وقرأ جعفر الصّادق (وكالبهم) يعني: صاحب الكلب. باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ، قال مجاهد والضّحاك: الوصيد: فناء الكهف، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: الوصيد الصعيد، وهو التراب. وهذه رواية عطية العوفي عن ابن عباس. وقال السّدي: الوصيد الباب، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، وأنشد: بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها ... عليّ ومعروفي بها غير منكر «3» أي بابها. وقال عطاء: الوصيد: عتبة الباب. وقال القتيبي الوصيد: البناء، وأصله من قول العرب، أصدت الباب وأوصدته، أي أغلقته وأطبقته. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً لما ألبسهم الله تعالى من الهيئة حتى لا يصل إليهم واصل، ولا تلمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم الله من رقدتهم لإرادة الله عزّ وجلّ أن يجعلهم آية وعبرة لمن شاء من خلقه لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتية لا رَيْبَ فِيها «4» .
وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً: خوفا، وقرأ أهل المدينة: (لملّئت) بالتشديد. وقيل: إنما ذلك من وحشة المكان الذي هم فيه. وقال الكلبي: لأن أعينهم مفتّحة- كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم- وهم نيام. وقيل: إن الله تعالى منعهم بالرعب لئلّا يراهم أحد. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم! قال ابن عباس: ليس ذلك لك، قد منع الله من هو خير منك، قال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً. فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم. فبعث ناسا فقال: اذهبوا فانظروا. ففعلوا، فلمّا دخلوا الكهف بعث الله عز وجلّ عليهم ريحا فأخرجتهم فلم يستطيعوا الاطلاع عليهم من الرعب. وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي كما أنمناهم في الكهف، ومنعنا من الوصول إليهم، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مرّ الأيّام بقدرتنا، كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ من النّومة التي تشبه الموت لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ: ليتحدّثوا، ويسأل بعضهم بعضا. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ يعني: رئيسهم مكسلمينا: كَمْ لَبِثْتُمْ في نومكم؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول نومهم. ويقال: إنه راعهم ما فاتهم من الصلاة، فقالوا ذلك. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً لأنهم دخلوا الكهف غدوة، فلما رأوا الشمس قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ توقّيا من الكذب، وكانت قد بقيت من الشمس بقية. ويقال: كان بعد زوال الشمس. فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم تيقّنوا أن لبثهم أكثر من يوم أو بعض يوم، ف قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ. ويقال: إن رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم قال ذلك. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ يعني: تمليخا بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، والورق: الفضّة مضروبة كانت أو غير مضروبة. والدليل عليه أنّ عرفجة بن أسعد أصيب أنفه يوم الكلاب فاتّخذ أنفا من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتخذ أنفا من ذهب. وفيه لغات: (بِوَرْقِكُمْ) «1» وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وخلف، و (ورقكم) - بسكون الراء وإدغام القاف- وهي قراءة أهل مكة، وبِوَرِقِكُمْ بفتح الواو وكسر الراء وهي قراءة أكثر القراء. و (ورق) مثل كبد وكبد وكلمة وكلمة. (والمدينة) : أفسوس، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً قال ابن عباس وسعيد بن جبير: أحلّ ذبيحة، لأن عامّتهم كانوا مجوسا، وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. قال الضحّاك: أطيب. وقال مقاتل بن حيّان: أجود. وقال يمان بن رئاب: أرفض. قتادة: خير. قال عكرمة: أكثر. وأصل الزكاة الزيادة والنّماء، قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب «2»
فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي قوت وطعام، وَلْيَتَلَطَّفْ: وليترفق في الشراء، وفي طريقه، وفي دخول المدينة، وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً من الناس، أي ولا يعلمن، أي إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما يقع فيه. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ فيعلموا بمكانكم يَرْجُمُوكُمْ، قال ابن جريج: يشتموكم ويؤذوكم بالقول. ويقال: يقتلوكم. ويقال: كان من عادتهم القتل بالرجم وهو من أخبث القتل. وقيل: هو التوبيخ «1» . ويضربوكم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ: دينهم الكفر وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن عدتم إليهم. وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا، أي أطلعنا عَلَيْهِمْ، يقال: عثرت على الشيء إذا اطّلعت عليهم، فأعثرت غيري إذا أطلعته، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني قوم تيدوسيس، وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ، قال ابن عباس: تنازعوا في البنيان والمسجد، قال المسلمون: نبني عليهم مسجدا، لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنيانا لأنهم من أهل سنّتنا. وقال عكرمة: تنازعوا في الأرواح والأجساد، فقال المسلمون: البعث للأرواح والأجساد، وقال بعضهم: البعث للأرواح دون الأجساد، فبعثهم الله من رقادهم وأراهم أن البعث للأرواح والأجساد. وقيل: تنازعوا في قدر لبثهم ومكثهم. وقيل: تنازعوا في عددهم، فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ يعني تيدوسيس الملك وأصحابه: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً، وقيل: الذين تغلبوا على أمرهم، وهم المؤمنون. وهذا يرجع إلى الأوّل. سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وكان السيد يعقوبيا، وقال العاقب: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وكان نسطوريّا، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين وصدّقهم بعد ما حكى قول النصارى، فقال سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قذفا بالظنّ من غير يقين، كقول الشاعر: وأجعل منّي الحقّ غيبا مرجّما «2» وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وقال بعضهم: هذه الواو واو الثمانية، إن العرب يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، لأن العقد كان عندهم سبعة
[سورة الكهف (18) : الآيات 23 إلى 31]
كما هو اليوم عندنا عشرة. ونظيره قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ «1» . وقوله في صفة أهل الجنّة حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها «2» . وقوله لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «3» . وقال بعضهم: هذه واو الحكم والتحقيق، فكأنه حكى اختلافهم فتمّ الكلام عند قوله: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ، ثمّ حكم أن ثامنهم كلبهم، والثامن لا يكون إلّا بعد السّبع، فهذا تحقيق قول المسلمين. رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، قال قتادة: قليل من الناس. وقال عطاء: يعني بالقليل: أهل الكتاب. يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى. ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قال: أنا من أولئك القليل. وهم: مكسلمينا، وتمليخا، ومرطونس «4» ، وسارينوس، وآنوانس، وروانوانس، ومشططيونس، وهو الرّاعي، والكلب واسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي «5» ودون الكردي «6» . وقال محمد بن المسيب: القلطي: كلب صيني، وقال: ما بقي بنيسابور محّدث إلّا كتب عنّي هذا الحديث إلّا من لم يقدر له. قال: وكتبه أبو عمرو، والحيري عني. فَلا تُمارِ فِيهِمْ، أي في عدّتهم وشأنهم إِلَّا مِراءً ظاهِراً وهو ما قصّ عليه في كتابه من خبرهم يقول: حسبك ما قصّصت عليك فلا تمار فيهم، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً من أهل الكتاب. [سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 31] وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، قال ابن عباس: يعني إذا عزمت على أن تفعل شيئا غدا، أو تحلف على شيء أن تقول: إني فاعل ذلك غدا إن شاء الله. وإن نسيت الاستثناء ثمّ ذكرته فقله ولو بعد سنة، وهذا تأديب من الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم حين سئل عن المسائل الثلاثة: أصحاب الكهف، والروح، وذي القرنين، فوعدهم أن يخبرهم ولم يستثن. عبد الله بن سعيد المقري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتم إيمان العبد حتى يستثني «1» في كلّ كلامه» [68] . وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والحسن: معناه: إذا نسيت الاستثناء ثمّ ذكرت، فاستثن. وقال عكرمة: معناه: واذكر ربّك إذا غضبت. حدّثنا عبد الصّمد بن حسان عن وهيب قال: مكتوب في الإنجيل: ابن آدم، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فلا تنتصر فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. وقال الضحّاك والسدي: هذا في الصلاة لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها» «2» [69] . وقال أهل الإشارة: معناه وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ غيره لأن ذكر الله تعالى إنما يتحقق بعد نسيان غيره. يؤيده قول ذي النون المصري: من ذكر الله ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء، فإذا نسي في جنب ذكره كل شيء حفظ الله له كلّ شيء، وكان له عوضا من كل شيء. وقيل: معناه: واذكر ربّك إذا تركت ذكره، والنسيان هو الترك. وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً، أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه، فأرشد. وقيل: معنا لعلّ الله أن يهديني ويسدّدني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون إن هو شاء. وقيل: إن الله تعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئا ويسأله أن يذكره فيتذكّر، أو يهديه لما هو خير له من تذكّر ما نسيه. ويقال: إن القوم لمّا سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله تعالى أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج والبيان على صحة نبوّته وما دعاهم إليه من الحق ودلّهم على ما سألوه. ثمّ إن الله عز وجلّ فعل ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقال بعضهم: هذا شيء أمر أن
يقوله مع قوله: أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إذا ذكر الاستثناء بعد ما نسيه، فإذا نسي الإنسان فيؤتيه «1» من ذلك. وكفارته أن يقول: عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً. وَلَبِثُوا يعني: أصحاب الكهف فِي كَهْفِهِمْ، قال بعضهم: هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك، وقالوا: لو كان خبرا من الله عز وجلّ عن قدر لبثهم في الكهف لم يكن لقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وجه مفهوم، وقد أعلم خلقه قدر لبثهم فيه، هذا قول قتادة. يدل عليه قراءة ابن مسعود: (وقالوا لبثوا في كهفهم) . وقال مطر الورّاق في هذه الآية: هذا شيء قالته اليهود، فردّه الله عليهم، وقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا. وقال الآخرون: هذا إخبار الله عن قدر لبثهم في الكهف، وقالوا: معنى قوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ أن أهل الكتاب قالوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين فردّ الله عز وجلّ ذلك عليهم، وقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا بعد أن قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله وغير من أعلمه الله ذلك. وقال الكلبي: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها فنزلت اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا. ... ثلاثمائة سنين مضاف غير منوّن، قرأها حمزة، والكسائي والباقون بالتنوين يعني: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة. وقال الضحّاك ومقاتل: نزلت: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ فقالوا: أيّاما أو سنين؟ فنزلت سِنِينَ فلذلك قال: سِنِينَ ولم يقل: سنة. وَازْدَادُوا تِسْعاً. قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ يعني: ما أبصر الله بكل موجود! وأسمعه بكل مسموع! ما لَهُمْ، أي لأهل السماوات والأرض مِنْ دُونِهِ من دون الله مِنْ وَلِيٍّ: ناصر، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً من الأصنام وغيرها. وَاتْلُ أي واقرأ يا محمد ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ، يعني: القرآن، واتّبع ما فيه لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، قال الكلبي: لا مغير للقرآن «2» . وقال محمد بن جرير: يعني: لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه «3» . وَلَنْ تَجِدَ أنت مِنْ دُونِهِ إن لم تتبع القرآن وخالفته مُلْتَحَداً، قال ابن عباس: حرزا. وقال الحسن: مدخلا. وقيل: معدلا. وقيل: موئلا وقال مجاهد ملجأ، وأصله من الميل، ومنه لحد القبر. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ- الآية- قال المفسرون: نزلت في عيينة بن حصين الفزاري، وذلك أنه أتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول هذه الآية، وعنده بلال وصهيب وخباب وعمار وعامر بن فهيرة ومهجع وسلمان، وعلى سلمان شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشتقها ثمّ ينسجها، فقال عيينة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
أما يؤذيك ريح هؤلاء؟ فو الله لقد آذانا ريحهم. وقال: نحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وإن أبينا أبى الناس، وما يمنعنا من اتّباعك إلّا هؤلاء، فنحّ هؤلاء حتّى نتبعك، واجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا. فأنزل الله عز وجلّ: وَاصْبِرْ: واحبس نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ: يعبدون ربهم ويوقّرون رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، أي طرفي النهار يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، يعني: يريدون الله عزّ وجلّ لا يريدون عرضا من الدنيا. والمراد منه: الحسنة وترك الرّياء. قال قتادة: يعني: صلاة الصبح والعصر. وقال كعب الأحبار: والذي نفسي بيده إنّهم لأهل الصّلوات المكتوبة. قال قتادة: نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة، وكانوا سبعمائة رجل فقراء لزموا مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع، يصلّون صلاة وينتظرون أخرى. قال قتادة: فلما نزلت هذه الآية قال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله الذي جعل في أمّتي من أمرت أن أصبر معهم» «1» [70] . وَلا تَعْدُ عَيْناكَ: لا تصرف ولا تجاوز عيناك عَنْهُمْ إلى غيرهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، يعني مجالسة الرؤساء والأغنياء والأشراف. ومعنى الآية: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ- مريدا زينة الدنيا- حال خوضهم في الاستغفار لأنه حكم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بإرادته الدنيا. وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي تركنا قلبه وأنسيناه ذكرنا. قال أبو العالية: يعني: أميّة بن خلف الجمحي. وقال غيره: يعني عيينة بن حصين، وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً، قال قتادة والضحّاك ومجاهد: ضياعا. وقال داود: ندما. وقال حباب: هلاكا. وقال ابن زيد: مخالفا للحق. وقال مقاتل بن حيّان: سرفا. وقال الأخفش: مجاوزا للحد. وقال الفرّاء: متروكا. وقيل: باطلا. وقال أبو زيد البلخي: قدما في الشر. قال أبو عبيد: هو من قول العرب: فرس فرط إذا سبقت الخيل، وفرط القول منّي أي سبق. وقيل: معناه ضيّع أمره وعطّل أيامه، قالوا: ان المؤمن من يستعمل الأوقات، ولا تستعمله الأوقات. وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، الحق: رفع على الحكاية، وقيل: هو رفع على خبر ابتداء مضمر معناه: وَقُلِ هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، يعني: ما ذكر من القرآن والإيمان وشأن محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: هو رفع على الابتداء وخبره في قوله مِنْ رَبِّكُمْ، ومعنى الآية: وقل يا محمّد لهؤلاء الّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: أيّها الناس، من ربكم الحقّ، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الضلالة والهدى، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر «2» ليس إليّ من ذلك شيء، ولست بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ لكم، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا فإنكم إن كفرتم فقد أعدّ لكم ربكم على كفركم نارا أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم وأطعتم فإن لكم ما وصف الله عزّ وجلّ لأهل طاعته.
وقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ليس بترخيص وتخيير، إنما هو وعيد وتهديد، كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ. قال ابن عباس: من شاء الله له الايمان آمن، ومن شاء له الكفر كفر، وهو قوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ. إِنَّا أَعْتَدْنا: أعددنا وهيّأنا، من العتاد، وهو العدّة لِلظَّالِمِينَ: للكافرين ناراً، وفيه دليل على أن النار مخلوقة لأنها لو لم تكن مخلوقة موجودة معدّة لكان المخبر كذّابا، وتعالى الله عن ذلك. وقوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها، روى [أبو] سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «سرادق النار أربعة جدر كثف، كل واحد مسيرة أربعين سنة» «1» [71] . وقال ابن عباس: هو حائط من نار. الكلبي: هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفّار كالحظيرة. وقال القتيبي: السّرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط. قال رؤبة: يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود «2» وقال سلامة بن جندل: هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... صدور الفيول بعد بيت مسردق «3» وهو هاهنا دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله في سورة المرسلات: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ «4» . وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من شدة العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ، روى أبو مسلم عن أبي سعيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: بِماءٍ كَالْمُهْلِ قال: «كعكر الزّيت، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه» «5» [72] . وقال ابن عباس: ماء غليظ مثل دردي الزيت. وقال الأعمش: هو عصارة الزيت. ومجاهد: القيح والدم. قال الضحّاك: المهل ماء أسود، وإن جهنم سوداء، ماؤها أسود، وشجرها أسود، وأهلها سود. وقال أبو عبيدة: كل ما أذيب من جواهر الأرض. وروى روح بن عبادة، عن سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن مسعود أهديت له سقاية من ذهب وفضّة، فأمر بأخدود فخدّ في الأرض، ثمّ قذف فيه من جزل الحطب، ثمّ قذف فيه تلك السقاية، فلما أزبدت وانماعت، قال لغلامه: ادع من بحضرتك من أهل الكوفة. فدعا رهطا، فلما دخلوا عليه قال: أترون هذا؟ قالوا: نعم. قال: ما رأينا في الدنيا شبها بالمهل أدنى
من هذا الذهب والفضّة حين أزبد وانماع. وقال سعيد بن جبير: المهل الذي قد انتهى حرّه. وقال أبو عبيدة: سمعت المنتجع بن نبهان وذكر رجلا، فقال: هو أبغض إلىّ من الطليا والمهل، فقلت له: ما المهل؟ قال: الملّة التي تحدّد من جوانب الرغيف من النار، أحمر شديد الحمرة كأنّها الرمانة، وهي جمرة والطليا: الناقة المطليّة بالقطران. يَشْوِي الْوُجُوهَ، قال سعيد بن جبير: إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزّقوم فيأكلون منها فاختلست «1» جلودهم ووجوههم، فلو ان مارّا مرّ يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها، ثمّ يصبّ عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بِماءٍ كَالْمُهْلِ، وهو الذي قد انتهى حرّه، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود. بِئْسَ الشَّرابُ هذا، وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً، قال ابن عباس: منزلا. مجاهد: مجتمعا. عطاء: مقرّا. وقيل: مهادا. وقال القتيبي: مجلسا. وأصل: المرتفق المتّكأ، يقال منه: ارتفقت، إذا اتّكأت على المرتفق. قال الشاعر: قالت له وارتفقت ألا فتى ... يسوق بالقوم غزالات الضحى «2» ويقال: ارتفق الرجل، إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم. قال أبو ذويب الهذلي: نام الخلي وبتّ الليل مرتفقا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح «3» أي مقطوع من معتضده، والصاب: شجر إذا استؤصل خرج منه كهيئة اللبن، وربما ترتفع منه تربة أي فطرة، فيقع في العين فكأنها شهاب نار، وربما أضعف البصر. ويجوز أن يكون قوله: مُرْتَفَقاً من الرفق والمنفعة. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا. ليس قوله: إِنَّا لا نُضِيعُ خبرا لقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بل هو كلام معترض، وخبر (إن) الأولى «4» قوله: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ. ومثله في الكلام كثير، قال الشاعر: إنّ الخليفة إنّ الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم «5» ومنهم من قال: فيه إضمار فإن معناه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنا لا نضيع أجره بل نجازيه. ثمّ ذكر الجزاء فقال: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، ووهي الإقامة
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 إلى 44]
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ: يلبسون فِيها مِنْ أَساوِرَ، وهو جمع الأسوار، قال سعيد بن جبير: يحلّى كل واحد منهم ثلاثة من الأساور، واحدا من فضّة، وواحدا من ذهب، ووحدا من لؤلؤ ويواقيت. مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ، وهو ما رقّ من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ، وهو ما غلظ منه. وقيل: هو فارسيّ معرّب مُتَّكِئِينَ فِيها: في الجنان عَلَى الْأَرائِكِ، وهي السّرر في الحجال، واحدتها: أريكة نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ يعني: الجنان مُرْتَفَقاً. [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ- الآية- رَجُلَيْنِ منصوب مفعول، على معنى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا كمثل رجلين. نزلت في أخوين من أهل مكّة من بني مخزوم، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل كان زوج أمّ سلمة قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والآخر كافر، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل. وقيل نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي مشركي مكّة. وهذا مثل لعيينة ابن حصين وأصحابه، وفي سلمان وأصحابه شبّههما برجلين من بني إسرائيل أخوين: أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقال مقاتل: تمليخا، والآخر كافر، واسمه فطروس، قال وهب قطفر. وهما اللّذان وصفهما الله في سورة (الصافات) ، وكانت قصتهما [ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي: حدثنا محمد بن عمران: حدثنا الحسن بن سفيان: حدثنا حيّان بن موسى: حدثنا عبد الله بن البارك عن] «1» . معمر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكين، وكان لهما ثمانية آلاف دينار، وقيل: إنهما ورثاه عن أبيهما، وكانا أخوين فاقتسماها، فعمد أحدهما فاشترى أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن كان فلان قد اشترى أرضا بألف دينار، فإني أشتري منك أرضا في الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار.
ثمّ إن صاحبه بنى دارا بألف دينار، فقال هذا: إن فلان بنى دارا بألف دينار، وإني اشتريت منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار. ثمّ تزوج بامرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال: إنّ فلان تزوّج امرأة بألف دينار، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدّق بألف دينار. ثمّ اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، فقال: إن فلان اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني اشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدّق بألف دينار. ثمّ أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي هذا لعلّه ينالني منه معروف. فجلس له على طريقه حتى مرّ به في حشمه، فقام إليه، فنظر إليه الآخر فعرفه فقال: فلان؟ قال: نعم. قال ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتصيبني بخير. فقال: فما فعل مالك فقد اقتسمنا مالا واحدا فأخذت شطره وأنا شطره؟ فقصّ عليه قصته، فقال: وإنك لمن المصدّقين بهذا، أي بأنك تبعث وتجازى؟ اذهب فو الله لا أعطيك شيئا. فطرده، فقضي لهما أن توفيا، فنزل فيهما: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ إلى قوله: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «1» ، ونزلت وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ: بستانين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما: أحطناهما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً، يعني: جعلنا حول الأعناب النخل ووسط الأعناب الزرع. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ: أعطت، يعني: آتت كل واحدة من الجنتين، فلذلك لم يقل: آتتا أُكُلَها: ثمرها تامّا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً، أي لم ينقص، وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً، يعني: شققنا وأخرجنا وسطهما نهرا. وَكانَ لَهُ، يعني: لفطروس ثَمَرٌ، يعني: المال الكثير المثمر من كل صنف، جمع ثمار. ومن قرأ: (ثمر) فهو جمع ثمرة. مجاهد: ذهب وفضة. ابن عباس: أنواع المال. قتادة: من كلّ المال. وقال ابن زيد: الثمر الأصل. فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ: يجاوبه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً، يعني عشيرة ورهطا. قال قتادة: خدما وحشما. وقال مقاتل: ولدا، تصديقه قوله تعالى إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً ... وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، يعني: فطروس، أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به ويريه إيّاها ويعجبه منها، وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بكفره، فلمّا رأى ما فيها من الأنهار والأشجار والأزهار والثمار قالَ: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ: القيامة قائِمَةً: آتية كائنة. ثمّ تمنّى على الله أمنية أخرى مع شكّه وشركه فقال: وَلَئِنْ رُدِدْتُ: صرفت إِلى رَبِّي، فرجعت إليه في المعاد لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها، أي من الجنة التي دخلها. وقرأ أهل الحجاز والشام (منهما)
على لفظ التثنية، يعني الجنتين، وكذلك هو في مصاحفهم. مُنْقَلَباً، أي منزلا ومرجعا. يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلّا ولي عنده أفضل في الآخرة. قالَ لَهُ صاحِبُهُ المسلم وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ يعني خلق أباك وأصلك مِنْ تُرابٍ ثُمَّ خلقك مِنْ نُطْفَةٍ يعني ماء الرجل والمرأة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، أي عدلك بشرا سويّا ذكرا. لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، يقول: أما أنا فلا أكفر بربي، ولكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير مجازه: لكن الله هو ربّي. وقال الآخرون: أصله (لكن أنا) فحذفت الهمزة طلبا للخفة لكثرة استعماله، وأدغمت إحدى النونين في الأخرى، وحذفت ألف (أنا) في الوصل. وقرأ ابن عامر ويعقوب: (لكنا) ، بإتيان الألف بالوصل، كقول الشاعر: أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما «1» ولا خلاف في إثباتها في الوقف. وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ، (ما) في موضع رفع، يعني: هي ما شاء الله، ويجوز أن تكون في موضع النصب بوقوع شاءَ عليه. وقيل: جوابه مضمر مجازه: ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون. [أخبرنا أبو عمرو الفراتي: القاسم بن كليب: العباس بن محمد الدوزي: حجاج: أبو بكر الهذلي عن يمامة بن عبد الله بن أنس] «2» عن أنس بن مالك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ لم يضرّه» [73] «3» . ثمّ قال: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، أنا عماد ولذلك نصب. فَعَسى: فلعلّ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ في الآخرة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها: يبعث على جنتك حُسْباناً مِنَ السَّماءِ، قال قتادة والضّحاك: عذابا. وقال ابن عباس: نارا. وقال ابن زيد: قضاء من الله عزّ وجلّ يقضيه. قال الأخفش والقتيبي: مرام من السماء واحدتها حسبانة، فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً، قال قتادة: يعني صعيدا أملس لا نبات عليه. وقال مجاهد: رملا هايلا وترابا. قال ابن عباس: هو مثل الحزن. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا منقطعا ذاهبا في الأرض لا تناله الأيدي ولا الرشا والدلاء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: صوم وزور وعدل، ونساء نوح يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث. قال عمرو بن كلثوم: تظل جياده نوحا عليه ... مقلّدة أعنتها صفونا «4» وقال آخر:
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 إلى 50]
هريقي من دموعهما سجاما ... ضباع وجاوبي نوحا قياما «1» فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً بعد ما ذهب ونصب. وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي أحاط الهلاك بثمر جنّتيه، وهي جميع صنوف الثمار. وقال مجاهد: هي ذهب وفضة وذلك أن الله أرسل عليها نارا فأهلكها وغار ماؤها، فَأَصْبَحَ صاحبها الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ: يصفق يده على الأخرى، وتقليب كفيه ظهرا لبطن تأسفا وتلهّفا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها يعني: عليها كقوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «2» أي عليها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة على سقوفها، خالية من غرسها وبنائها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً «3» . قال الله عزّ وجلّ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أي جماعة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ: يمنعونه من عذاب الله، وَما كانَ مُنْتَصِراً: ممتنعا منتقما. هُنالِكَ يعني: في القيامة الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي (الْوِلايَةُ) - بكسر الواو- يعني: السلطان والأمر. وقرأ الباقون بفتح الواو، من الموالاة كقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا «4» ، وقوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا «5» . قال القتيبي: يريد: يتولون الله يومئذ، ويؤمنون به ويتبرّؤون مما كانوا يعبدون. وقوله: الْحَقِّ رفعه أبو عمرو والكسائي على نعت الولاية، وتصديقه قراءة أبيّ: (هنالك الولاية الحق لله) . وقرأ الآخرون بالكسر على صفة الله كقوله: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ «6» ، وتصديقه قراءة عبد الله: (هنالك الولاية لله وهو الحق) فجعله من نعت الله. هُوَ خَيْرٌ ثَواباً لأوليائه وأهل طاعته وَخَيْرٌ عُقْباً لهم في الآخرة إذا صاروا إليه. والعقب: العاقبة، يقال: هذا عاقبة أمره كذا، وعقباه وعقبه أي آخرة قوله. [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 50] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50)
وَاضْرِبْ يا محمد لَهُمْ: لهؤلاء المتكبرين المترفين الذين سألوا طرد الفقراء المؤمنين مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، يعني: المطر. قالت الحكماء: شبّه الله تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع وحال، كذلك الدنيا لا تبقى لأحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة وكذلك الدنيا، ولأن الماء يفنى كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ، فكذلك الدنيا لا يسلم من آفاتها وفتنتها أحد، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا مبقيا وإذا جاوز الحد المقدّر كان ضارّا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع، وفضولها يضرّ. فَاخْتَلَطَ بِهِ: بالماء نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ عن قريب هَشِيماً، قال ابن عباس: يابسا. قال الضحّاك: كسيرا. قال الأخفش: متفتّتا، وأصله الكسر. تَذْرُوهُ الرِّياحُ، قال ابن عباس: تديره. قال ابن كيسان: تجيء به وتذهب. قال الأخفش: ترفعه. وقال أبو عبيدة: تفرّقه. القتيبي: تنسفه. وقرأ طلحة بن مصرف: الآية فقال: ذرته الريح تذروه ذروا، وتذريه ذريا وأذرته إذراء إذا أطارت به، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً، قادرا. الْمالُ وَالْبَنُونَ التي يفخر بها عيينة وأصحابه من الأشراف والأغنياء زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وليست من زاد القبر ولا من عدد الآخرة، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ التي يعملها سلمان وأصحابه من الموالي والفقراء خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي خير ما يأمله الإنسان. واختلفوا في الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ ما هي قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحّاك: هي قول العبد: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر) . يدل عليه ما روى مسلم بن إبراهيم عن أبي هلال عن قتادة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ غصنا فحركه حتى سقط ورقه، وقال: «إن المسلم إذا قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، تحاتّت عنه الذنوب «1» . خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فهنّ من كنوز الجنّة وصفايا الكلام، وهنّ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» [74] «2» . وقال عثمان (رضي الله عنه) وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح: هي (سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، ولا حول، ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم) . يدل عليه [ما] روى القاسم بن عبد الله العمري، ومحمد بن عجلان عن عبد الجليل بن حميد عن خالد ابن عمران أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم خرج على قومه، فقال: «خذوا جنّتكم» . قالوا: يا رسول الله، من عدوّ حضر؟ قال: «بل من النار» . قالوا: وما جنتنا من النار؟ قال: «الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات مجنّبات ومعقّبات، وهنّ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» [75] «1» . وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات» . فقيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: «الملّة» . قال: وما هي؟ قال: «التكبير، والتهليل، والتسبيح، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله» [76] «2» . وقال عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله: أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي فقال: قل له: القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة. قال: فالتقيا، فسلّم أحدهما على الآخر، ثمّ قال سالم: ما تعدّ الباقيات؟ فقال: لا إله إلّا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله. فقال له سالم: متى جعلت: ولا حول ولا قوّة إلّا بالله؟ قال: ما زلت أجعله فيها. قال فراجعه مرتين وثلاثا فلم ينزع، فقال سالم: أجّل. فأتيت أبا أيّوب الأنصاري فحدّث أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم (عليه السلام) فقال: يا جبرئيل، من هذا معك؟ فقال: محمد. فرحّب بي وسهّل، ثمّ قال: مر أمّتك فليكثروا من غراس الجنّة، فإن تربتها طيبة، وإن أرضها واسعة. فقلت وما غراس الجنّة؟ قال: لا حول ولا قوة إلّا بالله» [77] «3» . وقال سعيد بن جبير وعمرو بن شرحبيل ومسروق وإبراهيم: هي الصلوات الخمسة، وهي الحسنات يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «4» . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي الأعمال الصالحة: لا إله إلّا الله، وأستغفر الله وصلى الله على محمد، والصلاة والصوم والحج والصدقة والعتق والجهاد والصّلة وجميع الحسنات التي تبقى لأهلها في الجنّة ما دامت السماوات والأرض. وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الكلام الطيب. وقال عوف: سألت الحسن عن الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ، قال: النيّات والهمّات لأن بها تقبل الأعمال وترفع. قال قتادة: هي كل ما أريد به وجه الله. والله أعلم.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ: نزيلها عن أماكنها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (تسيّر) - بالتاء وفتح الياء- (الجبالُ) رفعا على المجهول، وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً ظاهرة كرأي العين ليس عليها شجر ولا جبل ولا ثمر ولا شيء يسترها. وقال عطاء: ترى باطن الأرض ظاهرا قد برز الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها، وَحَشَرْناهُمْ: جمعناهم إلى الموقف للحساب، فَلَمْ نُغادِرْ: نترك ونخلف مِنْهُمْ أَحَداً. وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا يعني: صفّا صفّا لأنهم صفّ واحد. وقيل قياما، يقال لهم- يعني للكفار، لفظه عام ومعناه خاص-: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني: أحياء. وقيل: عراة. وقيل: عزّلا. وقيل: فرادى. لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً يعني: القيامة. قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ يعني كتب أعمال الخلق، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ: خائفين مِمَّا فِيهِ من الأعمال السيئة، وَيَقُولُونَ إذا رأوها: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من ذنوبنا؟ قال ابن عباس: الصغيرة: التبسّم، والكبيرة: القهقهة. وقال سعيد بن جبير: الصغيرة اللمم والتخميش والقبل والمسيس، والكبيرة: الزنا، والمواقعة، إِلَّا أَحْصاها، قال ابن عباس: عملها. وقال السّدي: كتبها وأثبتها. وقال مقاتل بن حيان: حفظها. وقيل: عدّها. وقال إبراهيم ابن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية قال: ضجّوا والله من الصغار قبل الكبار. وضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصغائر الذنوب مثلا فقال: «كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض فانطلق كل رجل منهم يحتطب، فجعل الرجل منهم يأتي بالعود ويجيء الآخر بعودين «1» حتى جمعوا سوادا وأجّجوا. وإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه» «2» [78] . وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً مكتوبا مثبتا في كتابهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً يعني: لا ينقص ثواب أحد عمل خيرا. قال الضحّاك: لا يأخذ أحدا بجرم لم يعمله ولا يورّث ذنب أحد على غيره. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ يقول جلّ ذكره مذكّرا لهؤلاء المتكبرين ما أورث الكبر إبليس، ويعلّمهم أنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان لأبيهم: واذكر يا محمد إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ اختلفوا فيه فقال ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا مِنْ نارِ السَّمُومِ، وخلق الملائكة من نور غير هذا الحي. وكان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحرث، وكان من خزان الجنّة، وكان رئيس ملائكة الدنيا، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة
حلما وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفا وعظمة فذلك الذي دعاه إلى الكبر، فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما ملعونا. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم معصية، وخطيئة إبليس كبرا. وقال ابن عباس في رواية أخرى: كان من الجن [و] إنما سمي بالجنان، لأنه كان خازنا عليها فنسب إليها، كما يقال للرجل: مكي وكوفي ومدني وبصري. [أخبرنا عبد الله بن حامد: أخبرنا محمد ابن يعقوب السّري عن يحيى بن عثمان بن زفر قال] «1» : روى يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير. في قوله عزّ وجلّ: كانَ مِنَ الْجِنِّ- قال: كان من الجنانيين الذين يعملون في الجنّة. وقال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجنّ كما أن آدم أصل الأنس. وقال شهر ابن حوشب: كان إبليس من الجنّ الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة، فذهب به إلى السماء. وقال قتادة: جنّ عن طاعة «2» الله تعالى، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ يعني: خرج عن طاعة ربه. تقول العرب: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها، ولذلك قيل لها: الفويسقة. وقيل: هي من الفسوق، وهي الاتّساع، تقول العرب: فسق فلان في النفقة إذا اتسع فيها، وما أصاب مالا إلّا فسقه، أي أهلكه وبذّره. والفاسق سمّي فاسقا لأنه اتّسع في محارم الله عزّ وجلّ، وهوّنها على نفسه. أَفَتَتَّخِذُونَهُ، يعني يا بني آدم وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ: أعداء. وقال الحسن: الإنس من آخرهم من ذريّة آدم، والجن من آخرهم من ذريّة إبليس. قال مجاهد: فمن ذريّة إبليس لافيس وولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة، والهفّان ومرّة وبه يكنّى إبليس وزيلنون وهو صاحب الأسواق يضع رايته بكل سوق من السّماء والأرض، والدثر وهو صاحب المصائب يأمر بضرب الوجه وشقّ الجيوب والدعاء بالويل والحرب، والأعور وهو صاحب أبواب الزّنا، ومبسوط وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه النّاس فلا يجدون [لها] «3» أصلا، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله عزّ وجلّ، بصّره من المقابح ما لم يرفع أو لم يحسن موضعه، فإذا أكل ولم يذكر اسم الله عليه أكل معه. وقال الأعمش: ربما دخلت البيت، ولم أذكر اسم الله ولم أسلّم فرأيت مطهره فقلت: ارفعوا، وخاصمتهم، ثمّ أذكر فأقول: داسم، داسم. وروى مخلد عن الشعبي قال: إني لقاعد يوما إذ أقبل حمال ومعه دن حتى وضعه، ثمّ جاءني فقال: أنت الشعبي؟ قلت: نعم. فقال: أخبرني هل لإبليس زوجة؟ قلت: إن ذلك لعرس
[سورة الكهف (18) : الآيات 51 إلى 59]
ما شهدته. قال: ثمّ ذكرت قول الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، فعلمت أنه لا يكون ذرية إلّا من زوجة، قلت: نعم. فأخذ دنّه وانطلق، قال: فرأيت أنه مختاري. قال ابن زيد: إبليس أبو الجن كما إنّ آدم (عليه السلام) أبو الإنس. قال الله تعالى لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلّا ذرأت لك مثلها، [كلما] «1» ولد لآدم. قال قتادة: إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وما ولد لآدم ذريّة إلّا ولد له مثله، فليس من ولد آدم أحد إلّا له شيطان قد قرن به. بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، أي بئس البدل لإبليس وذريّته من الله. قال قتادة: بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم: طاعة إبليس وذريّته. [سورة الكهف (18) : الآيات 51 الى 59] ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) ما أَشْهَدْتُهُمْ: ما أحضرتهم، يعني إبليس وذريته. وقيل: يعني الكافرين أجمع. قال الكلبي: يعني ملائكة السماوات. وقرأ أبو جعفر: (ما أشهدناهم) بالنون والألف على التعظيم، خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فأستعين بهم على خلقها، وأشاورهم وأوامرهم فيها، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً: أنصارا وأعوانا. وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا قرأ حمزة بالنون. الباقون بالياء لقوله: شُرَكائِيَ ولم يقل: شركاءنا. شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شركائي، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ يعني بين الأوثان وعبدتها. وقيل: بين أهل الهدى والضلالة مَوْبِقاً، قال عبد الله بن عمر: هو واد عميق في جهنم يفرق به يوم القيامة بين أهل لا إله إلّا الله، وبين من سواهم. وقال ابن عباس: هو واد في النار. وقال مجاهد: واد من حميم. وقال عكرمة: هو نهر في النار يسيل
نارا، على حافتيه حيّات مثل البغال الدهم، فإذا بادرت إليهم لتأخذوهم استغاثوا بالاقتحام في النّار منها. وقال الحسن: عداوة. وقال الضحّاك وعطاء: مهلكا. وقال أبو عبيد: موعدا، وأصله الهلاك، يقال: أوبقه يوبقه إيباقا، أي أهلكه، ووبق يبق وبقا، أي هلكة، ويقال: وبق يوبق ويبق ويأبق، وهو وابق ووبق، والمصدر: وبق، ووبوق. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ: المشركون النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها: داخلوها. وقال مجاهد: مقتحموها وقيل: نازلوها وواقعون فيها. وقرأ الأعمش: (ملاقوها) ، يعني مجتمعين فيها، والهاء الجمع «1» وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً. وروى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنه مواقعها «2» من مسيرة أربعين سنة» «3» [79] . وَلَقَدْ صَرَّفْنا: بيّنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ليتذكروا ويتّعظوا وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا: خصومة في الباطل، يعني أبيّ بن خلف الجمحي، وقيل: إنه عام ليس بخاص، واحتجّوا بما روى الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال: «إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرقه هو وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألا تصلّون؟ فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله تعالى، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا. فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قلت ذلك له ولم يرجع شيئا، فسمعته وهو يضرب فخذه ويقول: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» ! «4» . وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا يعني من أن يؤمنوا، إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى: القرآن والإسلام ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وَيَسْتَغْفِرُوا: ومن أن يستغفروا ربهم إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ يعني سنتنا في إهلاكهم أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا، قال ابن عباس: عيانا. قال الكلبي: هو السّيف يوم بدر. قال مجاهد: فجأة. ومن قرأ قُبُلًا، بضمتين، أراد به: أصناف العذاب. وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا: يبطلوا ويزيلوا بِهِ الْحَقَّ، قال السّدي: ليفسدوا، وأصل الدّحض: الزلق، يقال: دحضت رجله أي زلقته. وقال طرفة: أبا منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض «5»
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 إلى 82]
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا، فيه إضمار يعني: وَما أُنْذِرُوا وهو القرآن هُزُواً: استهزاء. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها: لم يؤمن بها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ، أي عملت يداه من الذنوب إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، يعني القرآن وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً: ثقلا وصمما وَإِنْ تَدْعُهُمْ يا محمد إِلَى الْهُدى يعني إلى الدين فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً: لن يرشدوا ولن يقبلوه. وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا من الذنوب لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ في الدنيا بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم الحساب لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا: معدلا ومنجى، قال الأعشى: وقد أخالس ربّ البيت غفلته ... وقد يحاذر منّي ثمّ ما يئل «1» أي لا ينجو. وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا: كفروا، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً: أجلا. [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 82] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ- الآية- قال ابن عباس: لما ظهر موسى (عليه السلام) وقومه على مصر أنزل قومه مصر، فلمّا استقرت بهم الدار أنزل الله عزّ وجلّ: أن ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فخطب قومه وذكر بما آتاهم الله عزّ وجلّ من الخير والنّعمة إذ نجّاهم من آل فرعون وأهلك عدوّهم واستخلفهم في الأرض، فقال: «وكلّم الله نبيكم تكليما، واصطفاني لنفسه، وألقى عليّ محبّة منه، وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ، ونبيّكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التوراة» . فلم يترك نعمة أنعمها الله عزّ وجلّ عليهم إلّا ذكرها وعرّفها إيّاهم، فقال له رجل من بني إسرائيل: قد عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال: «لا» . فعتب الله عزّ وجلّ عليه حين لم يرد العلم إليه، فبعث إليه جبرئيل، فقال: «يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بل إن لي عبدا بمجمع البحرين أعلم منك» . فسأل موسى ربّه أن يريه إيّاه، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن: «ايت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثمّ الزم شط البحر إذا نسيت الحوت وهلك منك فثمّ تجد العبد الصالح» «1» [80] . وقال ابن عباس في رواية أخرى: سأل موسى ربّه فقال: «ربّ أي عبادك أحبّ إليك؟» . قال: «الذي يذكرني فلا ينساني» . قال: «فأي عبادك أقضى؟» . قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى» . قال: «ربّي فأي عبادك أعلم؟» . قال: «الذي يبغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى أو ترده عن ردّى» . قال: «إن كان في عبادك أحد هو أعلم منّي فادللني عليه» . فقال له: «نعم» في عبادي من هو أعلم منك» . قال: «من هو؟» . قال: «الخضر» . قال: «وأين أطلبه؟» . قال: «على الساحل عند الصخرة» . وجعل الحوت له آية، وقال: «إذا حيّ هذا الحوت، وعاش، فإن صاحبك هناك» «2» [81] . وكانا قد تزودا سمكا مالحا فذلك قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ قالَ مُوسى بن عمران لِفَتاهُ: صاحبه يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف. وقيل: فتاه أخو يوشع، كان معه في سفره. وقيل: فتاه عبده ومملوكه: لا أَبْرَحُ: لا أزال أسير حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، قال قتادة: بحر فارس والروم مما يلي المشرق. وقال محمد بن كعب: طنجة «3» . وقال أبيّ بن كعب: أفريقية،
أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً وجمعه أحقاب: دهرا أو زمانا. وقال عبد الله بن عمر: والحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون سنة. وقيل: البحران هما موسى والخضر، كانا بحرين في العلم. فحملا خبزا وسمكة مالحة وسارا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلا، وعندها عين تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئا إلّا حيّ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر، فذلك قوله عزّ وجلّ: فَلَمَّا بَلَغا، يعني: موسى وفتاه مَجْمَعَ بَيْنِهِما يعني: بين البحرين نَسِيا حُوتَهُما: تركا حوتهما، وإنما كان الحوت مع يوشع، وهو الذي نسيه فصرف النسيان إليهما، والمراد به: أحدهما كما قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» وإنما يخرج من المالح دون العذب. وإنما جاز ذلك لأنهما كانا جميعا تزوّدا لسفرهما، فجاز إضافته إليهما، كما يقال: خرج القوم إلى موضع كذا، وحملوا معهم من الزاد كذا، وإنما حمله أحدهم، لكنه لمّا كان ذلك من أمرهم ورأيهم أضيف إليهم. فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً، أي مسلكا ومذهبا يسرب ويذهب فيه. واختلفوا في كيفية ذلك فروى أبيّ بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «انجاب الماء عن مسلك الحوت فصارت كوّة لم تلتئم، فدخل موسى الكوّة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر (عليه السلام) » [82] . وقال ابن عباس: رأى أثر جناحه في الطين حين وقع في الماء، وجعل الحوت لا يمس شيئا إلّا يبس حتى صار صخرة. وروى ابن عباس عن أبي بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا انتهيا إلى الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً، أمسك الله عزّ وجلّ عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى (عليه السلام) نسي فتاه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما. حتى إذا كان من الغد فَلَمَّا جاوَزا قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا» «2» [83] . وقال قتادة: رد الله عزّ وجلّ إلى الحوت روحه فسرب من البحر حتى أفضى إلى البحر، ثمّ سلك فجعل لا يسلك منه طريقا إلّا صار ماء جامدا طريقا يبسا. وقال الكلبي: توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش، ثمّ وثب في ذلك الماء، فجعل يضرب بذنبه الماء، ولا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلّا يبس. فَلَمَّا جاوَزا، يعني ذلك الموضع قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا: أعطنا غَداءَنا: طعامنا وزادنا، وذلك أن يوشع بن نون حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى ليخبره بأمر الحوت، فنسي أن يخبره فمكثا يومهما ذلك حتى صلّيا الظهر من الغد، ولم ينصب موسى في سفره ذلك إلّا يومئذ حين
جاوز الموضع الّذي أمر به، فقال لفتاه حين ملّ وتعب: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً، أي شدة وتعبا، وذلك أنه ألقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة، ليتذكر الحوت، ويرجع إلى موضع مطلبه، فقال له فتاه وتذكر: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا: رجعنا إِلَى الصَّخْرَةِ، قال مقاتل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ؟ أي تركته وفقدته. وقيل: فيه إضمار معناه: نسيت أن أذكر أمر الحوت، ثمّ قال: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، يعني: أنسانيه ألّا أذكره. وقيل: فيه تقديم وتأخير مجازه: وما أنسانيه أن أذكره إلّا الشيطان، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً، يجوز أن يكون هذا من قول يوشع، يقول: اتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. وقيل: إن يوشع يقول: إن الحوت طفر إلى البحر فاتّخذ فيه مسلكا، فعجبت من ذلك عجبا. ويجوز أن يكون هذا من قول موسى، قال له يوشع: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ، فأجابه موسى: عَجَباً كأنه قال: أعجب عجبا. وقال ابن زيد: أي شيء أعجب من حوت، كان دهرا من الدهور يؤكل منه ثمّ صار حيّا حتى حشر في البحر. قال: وكان شق حوت. وقال ابن عباس: اتَّخَذَ موسى سبيل الحوت فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قال وهب: ظهر في الماء من أثر جري الحوت شق وأخدود شبه نهر من حيث دخلت إلى حيث انتهت. فرجع موسى حتى انتهى إلى مجمع البحرين، فإذا هو بالخضر (عليه السلام) ، فذلك قوله: قالَ موسى لفتاه: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي نطلب، يعني الخضر فَارْتَدَّا: فرجعا عَلى آثارِهِما قَصَصاً: يقصان الأثر: يتبعانه. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا يعني الخضر «1» واسمه بليا بن ملكان بن يقطن، والخضر لقب له، سمّي بذلك، لما [أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان: أخبرنا أبو الأزهر عن عبد الرزاق عن] «2» معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما سمي الخضر خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت «3» تحته خضراء» «4» [84] . [قال عبد الرزاق: فروة بيضاء يعني: حشيشة يابسة، [و] فروة: قطعة من الأرض فيها نبات] «5» . وقال مجاهد: إنما سمي الخضر لأنه إذا صلّى اخضرّ ما حوله. وروى عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سلمان قال: رأى موسى الخضر (عليه السلام) على طنفسة خضراء على وجه الماء، فسلّم عليه. وقال ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
قال: «انتهى موسى إلى الخضر (عليه السلام) وهو نائم عليه ثوب مسجىّ، فسلّم عليه فاستوى جالسا قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. قال موسى: وما أدراك بي؟ ومن أخبرك أني نبيّ بني إسرائيل؟ قال الذي أدراك بي ودلّك عليّ» «1» [85] . وقال سعيد بن جبير: وصل إليه وهو يصلي، فلما سلّم عليه قال: وأنّى بأرضنا السلام؟! ثمّ جلسا يتحدّثان فجاءت خطّافة وحملت بمنقارها من الماء، قال الخضر: يا موسى خطر ببالك أنّك أعلم أهل الأرض، ما علمك وما علم الأولين والآخرين في جنب الله إلّا أقلّ من الماء الذي حملته الخطافة، فذلك قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً. قالَ لَهُ: للعالم مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً: صوابا؟ قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً لأني أعمل بباطن علم علّمنيه ربّي عزّ وجلّ، وَكَيْفَ تَصْبِرُ يا موسى عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً، يعني على ما لم تعلم؟ وقال ابن عباس: وذلك أنه كان رجلا يعمل على الغيب. قالَ موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قال: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ مما تنكر حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً: حتى ابتدئ لك بذكره، وأبيّن لك شأنه. فَانْطَلَقا يسيران يطلبان سفينة يركبانها حَتَّى إِذا أصابها رَكِبا فِي السَّفِينَةِ، فقال أهل السفينة: هؤلاء لصوص، فأمروهما بالخروج منها، فقال صاحب السفينة: ما هم بلصوص ولكنّي أرى وجوه الأنبياء. وقال أبي بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما دخلوا إلى البحر أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من السفينة حتّى دخلها الماء فحشاها موسى ثوبه وقال له: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها» «2» [86] . وقرأ أهل الكوفة (لِيَغْرِقَ) بالياء المفتوحة (أَهْلُها) برفع اللام على أن الفعل لهم، وهي قراءة ابن مسعود، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي منكرا. قال القتيبي: عجبا. والإمر في كلام العرب الداهية، قال الراجز: قد لقي الأقران منّي نكرا ... داهية دهياء إدّا إمرا «3» وأصله: كل شيء شديد كثير، يقال: أمر القوم، إذا كثروا واشتدّ أمرهم. قالَ العالم أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ موسى: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ [أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الورّاق عن حامد بن محمد قال: قال أبو سعد بن موسى المروروذي ببغداد، وأخبرنا محمد بن أبي ناجية الاسكندراني عن سفيان بن عيينة عن عمر بن
دينار عن] «1» عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كانت الأولى من أمر النسيان، والثانية القدر، ولو صبر موسى لقص الله علينا أكثر مما قص» [87] «2» . وقال أبي بن كعب: أما إنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام. وقال ابن عباس: معناه بما تركت من عهدك، وَلا تُرْهِقْنِي: تعجلني «3» : وقيل: لا تغشني «4» مِنْ أَمْرِي عُسْراً، يقول: لا تضيّق عليّ أمري وصحبتي معك. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً، قال سعيد بن جبير: وجد الخضر غلمانا يلعبون، وأخذ غلاما ظريفا وضيء الوجه، فأضجعه ثمّ ذبحه بالسكين. وقال ابن عباس: كان لم يبلغ الحلم. وقال الضحّاك: كان غلاما يعمل بالفساد، وتأذّى منه أبواه: وكان اسمه خش بوذ. وقال شعيب الحيّاني: اسمه حيشور «5» ، وقال وهب بن منبّه كان اسم أبيه ملاس، واسم أمه رحمي. وقال الكلبي كان فتى يقطع الطريق، ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه ويحلفان دونه، فأخذه الخضر فصرعه ثمّ نزع من جسده رأسه. وقال قوم: رفسه برجله فقتله. وقال آخرون: ضرب رأسه بالجدار فقتله. [أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن] «6» سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا «7» فلمّا قتله قال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً؟» [88] . أي طاهرة. وقيل: مسلمة. قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان مثل القاسية والقسيّة. قال أبو عمرو: الزاكية: التي لم تذنب قط، والزكية: التي أذنبت ثمّ تابت. بِغَيْرِ نَفْسٍ أي من غير أن قتلت نفسا أوجب عليها القود، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً: منكرا؟ وقال قتادة وابن كيسان: النكر: أشد وأعظم من الإمر. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي هذه المرّة فَلا تُصاحِبْنِي: فارقني قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً في فراقي. [أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشير عن حجاج بن محمد: أخبرنا حمزة الزّيات عن أبي إسحاق عن] «8» سعيد بن جبير عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى أخي موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب [العجاب] «1» ، ولكنه قال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» «2» [89] . فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قال ابن عباس: يعني أنطاكية. وقال ابن سيرين: أيلة «3» ، وهي أبعد أرض الله من السّماء اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما، أي ينزّلوهما منزلة الأضياف وذلك أنهما استطعماهم فلم يطعموهما، واستضافاهم فلم يضيفوهما. [أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سلمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن] «4» سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما قال: «كانوا أهل قرية لئاما» [90] «5» . وقال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقّه. فَوَجَدا فِيها، أي في القرية جِداراً، قال وهب: كان جدارا طوله في السماء مائة ذراع، يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ هذا من مجاز الكلام، لأن الجدار لا إرادة له، وإنما معناه: قرب ودنا من ذلك، كقول الله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «6» . قال ذو الرمّة: قد كاد أو [قد] هم بالبيود «7» وقال بعضهم: إنما رجع إلى صاحبه، لأن هذه الحالة إذا كانت من ربّه فهو إرادته، كقول الله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ «8» وإنما يسكت صاحبه. وقال: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «9» وإنما يعزم أهله. قال الحارثي: يريد الرمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل «10» وقال عقيل:
إنّ دهرا يلف شمل سليمى ... لزمان يهمّ بالإحسان «1» أَنْ يَنْقَضَّ، أي يسقط وينهدم، ومنه انقضاض الكواكب، وهو سقوطها وزوالها عن أماكنها. وقرأ يحيى بن عمر: (يريد أن ينقاض) أي ينقلع وينصدع، يقال: انقاضّت السنّ: انصدعت من أصلها. وقال بعض الكوفيين: الانقياض: الشق طولا، يقال: انقاض الحائط والسن وطيّ البئر، إذا انشقت طولا. فَأَقامَهُ: سوّاه. قال ابن عباس: هدمه ثمّ قعد يبنيه. وقال سعيد بن جبير: مسح الجدار ودفعه بيده، فاستقام. قال موسى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ، وقرأ أبو عمرو: (لتخذت) وهما لغتان مثل قولك: (اتّبع) و (تبع) ، و (اتّقى) و (تقى) ، قال الشاعر: وقد تخدت رحلي إلى جنب غرزها ... نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق «2» وأنشد الزجاج في قوله: (لتخذت) قوله أبي شمام الصبابي: تخذوا الحديد من الحديد معاولا ... سكانها الأرواح والأجساد عَلَيْهِ، أي على إصلاحه وإقامته أَجْراً، أي جعلا وأجرة. وقيل: قرىّ وضيافة. ف قالَ الخضر (عليه السلام) : هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ قرأ لاحق بن حميد: (فِراقٌ) بالتنوين، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ قال كعب: كانت لعشرة إخوة: خمسة منهم زمنى، وخمسة منهم يعملون في البحر. وفي قوله: لِمَساكِينَ دليل على أن المسكين وإن كان ملك شيئا فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا كانت به حاجة إلى ما هو زيادة على ملكه، ويجوز له أخذ الزكاة. [وأخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن علي الحمشادي، عن أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: أبو الحسن أحمد بن زكريا المقدسي عن إبراهيم بن عبد الله الصنعاني عن إبراهيم] «3» بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، كانوا مساكين والسفينة تساوي ألف دينار؟ قال: إن المسافر مسكين ولو كان معه ألف دينار. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ أي أمامهم وقدّامهم كقوله تعالى: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ «4» ومِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ «5» أي أمامهم. قال الشاعر: أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا «6»
وقيل: وَراءَهُمْ: خلفهم، وكان رجوعهم في طريقهم عليه، ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلم الله الخضر (عليه السلام) بخبره. مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، أي كل سفينة صالحة، فاكتفى بدلالة الكلام عليه، يدل عليه ما روى سفيان عن عمر بن دينار عن ابن عباس أنه يقرأ (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا) . فخرقها وعيّبها، لئلّا يتعرض لها ذلك الملك، واسمه جلندى وكان كافرا. قال محمد بن إسحاق: وكان اسمه منواه بن جلندى الأردني. وقال شعيب الجبائي اسمه هدد بن بدد. وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا، أي فعلمنا. وفي مصحف أبيّ: (فخاف ربك) أي علم، ونظائره كثيرة. وقال قطرب: معناه فكرهنا، كما تقول: فرّقت بين الرّجلين خشية أن يقتتلا، وليست فيك خشية ولكن كراهة أن يقتتلا. أَنْ يُرْهِقَهُما، أي يهلكهما. وقيل: يغشاهما. وقال الكلبي: يكلّفهما طُغْياناً وَكُفْراً، قال سعيد بن جبير: خشينا أن يحملهما حبّه على أن يدخلهما معه في دينه. فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً: صلاحا وإسلاما وَأَقْرَبَ رُحْماً هو من الرحم والقرابة. وقيل: هو من الرحمة، يقال: رحم ورحم للرحمة، مثل هلك وهلك، وعمر وعمر، قال العجّاج: ولم تعوّج رحم من تعوّجا «1» قال ابن عباس: وَأَقْرَبَ رُحْماً يعني: وأوصل للرحم وأبرّ بوالديه. قال قتادة: أقرب خيرا، وقال ابن جريج: يعني أرحم به منهما بالمقتول. وقال الفراء: وأقرب أن يرحما له. قال الكلبي: أبدلهما الله جارية، فتزوّجها نبيّ من الأنبياء، فولدت له نبيا فهدى الله عزّ وجلّ على يديه أمّة من الأمم. [وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن أحمد قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن الحرث القاضي عن عبد الوهّاب بن فليح عن ميمون بن عبد الله القدّاح عن] «2» جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية قال: «أبدلهما جارية فولدت سبعين نبيا» «3» [91] . وقال ابن جريج: أبدلهما بغلام مسلم وكان المقتول كافرا وكذلك هو في حرف ابي: (فأما الغلام فكان كافرا، وكان أبواه مؤمنين) . وقال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب.
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ واسمهما أصرم وصريم وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما اختلفوا في ذلك الكنز ما هو، فقال بعضهم: صحف فيها علم مدفونة تحته، وهو قول سعيد ابن جبير. وقال ابن عباس: ما كان الكنز إلّا علما، وقال الحسن وجعفر بن محمد: «كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها. لا إله إلّا الله، محمد رسول الله» «1» . وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا القول مرفوعا في بعض الروايات أنه كان مكتوبا في ذلك اللوح تحت ما ذكر هذه الآيات: «يا أيّها المهتم هما لا تهمّه، إنك إن تدركك الحمّى تحمّ [....] «2» علوت شاهقا من العلم كيف توقيك وقد جفّ القلم؟!» [92] . وقال عكرمة كان ذلك الكنز مالا. [أخبرنا أبو بكر الحمشادي: حدثنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن قيدوس الطرائقي عن عثمان بن سعيد عن صفوان بن صالح الثقفي «3» عن الوليد بن مسلم عن يزيد بن يوسف الصنعاني عن يزيد بن أبي يزيد عن] «4» مكحول عن [أبي] «5» الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، قال: «كان ذهبا وفضّة» «6» [93] . وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً، واسمه كاشح، وكان من الأتقياء. ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان سيّاحا. [وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن الحميدي عن] «7» سفيان عن محمد ابن سوقة عن محمد بن المنكدر قال: إنّ الله عزّ وجلّ ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، وعشيرته التي هو فيها، والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله وستره. وعن سعيد بن المسيّب أنه كان إذا رأى ابنه قال: أي بني لأَزيدن صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك. ويتلو هذه الآية. [وأخبرنا عبد الله بن حامد عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي عن أحمد بن الليث بن الخليل عن عمر بن محمد قال: حدّثني محمد بن الهيثم
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 إلى 98]
ابن عبد الله الضبيعي عن] «1» العباس بن محمد بن عبد الرحمن: حدّثني أبي عن يحيى بن إسماعيل بن مسلمة ابن كهيل قال: كانت لي أخت أسن منّي فاختلطت وذهب عقلها، وتوحّشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحها، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الصلاة والطهور. فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ باب بيتي يدق في نصف الليل، فقلت: من هذا؟ قالت: بحّة. قلت: أختي قالت: أختك. فقلت: لبيك. وقمت ففتحت الباب، فدخلت ولا عهد لها بالبيت منذ أكثر من عشر سنين، فقلت لها: يا أخته خيرا؟ قالت: خير، أتيت الليلة في منامي، فقيل: السلام عليك يا بحّة، فقلت: وعليك السلام، فقيل: إنّ الله قد حفظ أباك إسماعيل بن سلمة بن كهيل بسلمة جدك، وحفظك بأبيك إسماعيل، فإن شئت دعوت الله لك فأذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنّة، فإن أبا بكر وعمر قد تشفعا لك إلى الله عزّ وجلّ بحب أبيك وجدك إيّاهما. فقلت: إن كان لا بدّ من اختيار أحدهما، فالصبر على ما أنا فيه والجنّة، فإن الله عزّ وجلّ لواسع لخلقه لا يتعاظمه شيء، إن يشأ يجمعهما لي فعل. قالت: فقيل لي: قد جمعهما الله عزّ وجلّ لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر، قومي فانزلي. قال: فأذهب الله ما بها. فَأَرادَ رَبُّكَ يا موسى أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، أي يدركا شدّتهما وقوّتهما. وقيل: ثماني عشرة سنة، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما المكنوز تحت الجدار، وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي برأيي ومن تلقاء نفسي، بل فعلت عن أمر الله عزّ وجلّ. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً و (اسطاع) و (استطاع) بمعنى واحد. [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 98] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً، اختلفوا في نبوّته فقال بعضهم: كان نبيا. وقال الآخرون: كان ملكا عادلا صالحا. [أخبرنا أبو منصور الحمشادي: أبو عبد الله محمد بن يوسف عن] «1» وكيع عن العلاء بن عبد الكريم قال: سمعت مجاهدا يقول: ملك الأرض أربعة: مؤمنان، وكافران. فأما المؤمنان فسليمان وذو القرنين، وأما الكافران فنمرود وبخت نصّر. واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين، فقال بعضهم: سمي بذلك، لأنه ملك الروم وفارس. وقيل: لأنه كان في رأسه شبه القرنين. وقيل: لأنه رأى في منامه كأنه أخذ بقرني الشمس فكان تأويل رؤياه أنه طاف الشرق والغرب. وقيل: لأنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن ثمّ دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر. وقيل: لأنه كان له ذؤابتان حسناوان، والذؤابة تسمى قرنا. وقيل: لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه. وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس، وهو حي. وقيل: لأنه إذا كان حارب قاتل بيده وركابه جميعا. وقيل: لأنه أعطي علم الظاهر الباطن. وقيل: لأنه دخل النور والظلمة. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أوطأنا له في الأرض فملكها وهديناه طرقها، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الخلق. وقيل: من كل شيء يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء سَبَباً علما يتسبّب به إليه. وقال الحسن: بلاغا إلى حيث أراد. وقيل: قربنا إليه أقطار الأرض، كما سخرنا الريح لسليمان (عليه السلام) . فَأَتْبَعَ: سلك وسار. وقرأ أهل الكوفة: (فَأَتْبَعَ) ... ، (ثُمَّ أَتْبَعَ) بقطع الألف وجزم الثاني: لحق سَبَباً، قال ابن عباس: منزلا، وقال مجاهد: طريقا بين المشرق والمغرب، نظير قوله تعالى: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ يعني الطرق. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قرأ العبادلة: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير، والحسن، وأبو جعفر، وابن عامر وأيوب، وأهل الكوفة: (حامية) بالألف، أي حارة. ويدل عليه ما [أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم ابن عيينة عن] «2» إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذرّ قال: كنت ردف النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أبا ذر أين تغرب هذه؟» . قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تغرب في عين حامية» «3» [94] .
وقال عبد الله بن عمرو: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الشمس حين غابت فقال: «في نار الله الحامية، في نار الله الحامية فلولا ما يزعمها من أمر الله عزّ وجلّ لأحرقت ما على الأرض» «1» [95] . وقرأ الباقون: حَمِئَةٍ مهموزة بغير ألف، يعني: ذات حمأة، وهي الطينة السوداء. يدل عليه ما روى سعد بن أوس عن مصرع بن يحيى عن ابن عباس قال: أقرأنيها أبيّ بن كعب كما أقرأه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ «2» وقال كعب: أجدها في التوراة: (في عين سوداء) ، فوافق ابن عباس. أبو أسامة عن عمرو بن ميمون قال: سمعت أبا حاضر أو ابن حاضر- رجل من الأزد- يقول: سمعت ابن عباس يقول: إنّي لجالس عند معاوية إذ قرأ هذه الآية: (وجدها تغرب في عين حامية) فقلت: ما نقرؤها إلّا حَمِئَةٍ. فقال معاوية لعبد الله بن عمر: وكيف تقرؤها؟ قال: كما قرأتها يا أمير المؤمنين. قال ابن عباس: فقلت: في بيتي نزل القرآن. فأرسل معاوية إلى كعب، فجاءه فقال: أين تجد الشمس تغرب في التوراة يا كعب؟ قال: أما العربية فأنتم أعلم بها، وأما الشمس فإنّي أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين. قال: فقلت لابن عباس: لو كنت عندكما لانشدت كلاما تزداد به نصرة في قولك: حَمِئَةٍ. قال ابن عباس: فإذن ما هو؟ فقلت: قول تبع: قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى معاد الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد «3» قال: فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قلت: الطين بكلامهم. قال: فما الثأط؟ قلت: الحمأة. قال: وما الحرمد؟ قلت: الأسود. قال: فدعا رجلا أو غلاما، فقال: اكتب ما يقول هذا. وقال أبو العالية: بلغني أن الشمس في عين، تقذفها العين إلى المشرق. وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، يعني ناسا قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ: إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً، أي تعفو وتصفح. وقيل: تأسرهم فتعلّمهم وتبصّرهم الرّشاد. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ، أي كفر فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ: نقتله ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً: منكرا. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، قرأ أهل
الكوفة جَزاءً نصبا منوّنا على معنى: فله الحسنى جزاء نصب على المصدر، وقرأ الباقون بالرفع على الإضافة. ولها وجهان: أحدهما أن يكون المراد بالحسنى: الأعمال الصالحة، والوجه الثاني أن يكون معنى الحسنى: الجنّة، فأضيف الجزاء إليهما كما قال: وَلَدارُ الْآخِرَةِ «1» والدار هي الآخرة: وذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ «2» . وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي نلين له القول، ونهوّن له الأمر. وقال مجاهد: يُسْراً أي معروفا. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً، أي سلك طريقا ومنازل حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً، قال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر وذلك أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليهم بناء، وأنهم كانوا في شرب لهم، حتّى إذا زالت الشمس عنهم، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم. وقال الحسن: كانت أرضهم أرضا لا تحتمل البناء، وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس تهوّروا في الماء، فإذا ارتفعت عليهم خرجوا فتراعوا كما تراعى البهائم. وقال ابن جريج: جاءهم جيش مرّة فقال لهم أهلها: لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها، فقالوا: ما نبرح حتّى تطلع الشمس. وقالوا: ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال: فذهبوا هاربين في الأرض. قال قتادة: ويقال: إنهم الزنج. وقال الكلبي: هم تاريس وتاويل ومنسك عراة حفاة عماة عن الحق، قال: وحدثنا عمرو بن مالك بن أميّة قال: وجدت رجلا بسمرقند يحدّث الناس وهم مجتمعون حوله، فسألت بعض من سمع حديثه فأخبرني أنّه حدّثهم عن القوم الذين تطلع عليهم الشمس قال: خرجت حتّى جاوزت الصين ثمّ سألت عنهم فقيل لي: إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فاستأجرت رجلا فسرت بقية عشيتي وليلتي حتّى صبحتهم، فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى قال: وكان صاحبي يحسن لسانهم فسألهم وقال: جئنا ننظر كيف تطلع الشمس. قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي عليّ فوقعت فأفقت، وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي على الماء كهيئة الزيت وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلمّا ارتفعت أدخلوني سربالهم أنا وصاحبي، فلمّا ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السّمك فيطرحونه في الشمس فينضج. قوله تعالى: كَذلِكَ اختلفوا فيه، فقال بعضهم: يعني كما بلغ مغرب الشمس فكذلك بلغ مطلعها. وقيل: أَتْبَعَ سَبَباً كما أتبع سببا. وقيل: كما وجد [القبيلتين] «3» عند مغرب الشمس
وحكم فيهم، كذلك وجد عند مطلع الشمس فحكم فيهم بحكم أولئك. وقيل: إنّ الله عزّ وجلّ لمّا قصّ عليه خبره قال: كَذلِكَ أي كذلك أمرهم والخبر عنهم كما قصصنا عليك، ثمّ استأنف وقال: وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ، يعني عنده ومعه من الملك والجيوش والآلات خُبْراً: علما. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ بفتح السّين، ابن كثير وأبو عمرو وعاصم. الباقون بالضم. قال الكسائي: هما لغتان، وهما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم. قال عكرمة: ما كان صنعة بني آدم فهو سدّ- بفتح السين- وما كان من صنع الله عزّ وجلّ فهو السّد، بالضم. قال ابن عباس: السدان أرمينية وآذربيجان. وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قرأ الأعمش ويحيى بن وثّاب وحمزة والكسائي يُفْقِهُونَ بضم الياء، وكسر القاف على معنى (يفهمون) غيرهم، وقرأ الباقون: يَفْقَهُونَ بفتح الياء والقاف، أي ويعلمون ويفقهون قولا. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ قيل: كلّمه عنهم قوم آخرون مترجمة، وبيان ذلك في قراءة ابن مسعود: (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا، قال الذين من دونهم يا ذا القرنين) . وقيل: معناه: لا يكادون يفقهون خيرا من شر، ولا ضلالا من هدى، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قرأهما عاصم والأعرج مهموزين، الباقون بغير همزة. وهما لغتان. قالوا: وأصله من (أجيج النّار) ، وهو ضوؤها وشررها، شبّهوا به في كثرتهم وشدّتهم. قال وهب بن منبه ومقاتل بن سليمان: هو من ولد يافث ابن نوح، وقال الضحّاك: هم جيل من الترك. وقال كعب: هم نادرة من ولد آدم من غير حوّاء، وذلك أنّ آدم (عليه السلام) قال «1» ذات يوم فاحتلم، وامتزجت نطفته في التراب، فلما انتبه أسف على ذلك الماء الذي خرج منه، فخلق الله تعالى من ذلك الماء يأجوج ومأجوج، وهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم. وقوله تعالى: مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، قال سعيد بن عبد العزيز: فسادهم في الأرض أنهم كانوا يأكلون الناس. قال الكلبي: كانوا يخرجون إلى أرضهم أيّام الربيع فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلّا أكلوه، ولا شيئا يابسا إلّا احتملوه فأدخلوه أرضهم، وقد لقوا منهم أذى شديدا وقتلا. وقيل: معناه: أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم. [أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان عن عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن عبد الله النسوي: محمد بن المصفي: يحيى بن سعيد عن محمد بن إسحاق عن] «2» الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: سألت النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن يأجوج ومأجوج، فقال: «يأجوج أمّة ومأجوج أمّة، كل أمّة أربعمائة ألف أمّة، لا يموت الرجل
منهم حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّهم قد حمل السلاح» . قيل: يا رسول الله صفهم لنا. قال: «هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز» قيل: يا رسول الله، وما الأرز؟ قال: «شجرة بالشام طول الشجر عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع، وصنف منهم يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرّون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلّا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. مقدّمهم بالشام وساقتهم بخراسان، ويشربون أنهار المشرق وبحيرة الطبرية» [96] «1» . قال وهب بن منبه: كان ذو القرنين رجلا من الروم، ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر، فلمّا بلغ وكان عبدا صالحا، قال الله تعالى: «يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض، وهي «2» أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض «3» ، ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كلّه وأمم وسط الأرض منهم الجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج. وأما اللتان بينهما طول الأرض، فأمّة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأمّا الأخرى فعند مطلعها يقال لها منسك، وأمّا اللتان بينهما عرض الأرض فأمّة في قطر الأرض الأيمن يقال لها: هاويل، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها: تاويل» . فلمّا قال الله تعالى له ذلك، قال ذو القرنين. «يا إلهي إنّك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلّا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها بأي قوّة أكابرهم؟ وبأي جمع وبأي حيلة أكاثرهم؟ وبأي صبر أواسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ وكيف لي بأن أفقه لغاتهم؟ وبأي سمع أسمع أقوالهم؟ وبأي بصر أنقدهم؟ وبأي حجة أخاصمهم؟ وبأي عقل أعقل عنهم؟ وبأي حكمة أدبر أمرهم؟ وبأي قسط أعدل بينهم؟ وبأي حلم أصابرهم؟ وبأي معرفة أفصل بينهم؟ وبأي علم أتقن أمورهم؟ وبأي يد أسطو عليهم؟ وبأي رجل أطؤهم؟ وبأي طاقة أحصيهم؟ وبأي جند أقاتلهم؟ وبأي رفق أتألّفهم؟ وليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم بهم ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم، وأنت الرؤوف الرحيم لا تكلّف نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، ولا تحملها إلّا طاقتها، ولا تشقيها بل أنت ترحمها» . قال الله تعالى: «إنّي سأطوقك ما حمّلتك: أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأشرح لك فهمك فتفهم كلّ شيء، وأبسط لك لسانك فتنطق بكلّ شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كلّ شيء، وأمدّ لك بصرك فتنقد كلّ شيء، وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأشدّ لك عضدك فلا يهولك شيء، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأشد لك قلبك فلا يفزعك شيء، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء، وأبسط لك من بين يديك فتسطو فوق كلّ شيء، وأشدّ لك وطأتك فتهدّ كلّ شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك
شيء، وأسخّر لك النور والظّلمة فأجعلهما جندا من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك» [97] «1» . فلمّا قيل له ذلك انطلق يؤمّ الأمم التي عند مغرب الشمس فلما بلغهم وجد جمعا وعددا لا يحصيهم إلّا الله عزّ وجلّ، وقوّة وبأسا لا يطيقهم إلّا الله، وألسنة مختلفة، وأهواء متشتتة، فلمّا رأى ذلك كابرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها فأحاط بهم في كلّ مكان حتّى جمعتهم في مكان واحد ثمّ أخذ عليهم بالنّور فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعبادته فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ ... وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ، فعمد إلى الذين تولّوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أفواههم وآذانهم وأنوفهم وأجوافهم، ودخلت في بيوتهم ودورهم، وغشيهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كلّ جانب فماجوا فيه وتحيّروا، فلمّا أشفقوا أن يهلكوا فيها عجّوا إليه بصوت واحد، فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، فدخلوا في دعوته، فجنّد من أهل المغرب أمما عظيمة، فجعلهم جندا واحدا. ثمّ انطلق بهم يقودهم والظلمة تسوقهم وتحرسهم من خلفهم، والنور أمامهم يقودهم ويدلّه، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل، وسخّر الله عزّ وجلّ له يده وقلبه وعقله ورأيه ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا. فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاصة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال البغال، فنظمها في ساعة ثمّ حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثمّ دفع إلى كل رجل منهم لوحا فلا يثقله حمله، فلم يزل ذلك دأبه حتّى انتهى إلى هاويل فعمل فيه كفعله في ناسك. فلمّا خرج منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتّى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجنّد منها جنودا كفعله في الأمتين اللتين قبلها. ثمّ كرّ مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى وهو يريد تاويل- وهي الأمة التي بحيال هاويل، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كلّه- فلمّا بلغها عمل فيها وجنّد منها كعمله فيما قبلها. فلمّا فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجنّ والإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق ممّا يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمّة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إنّ بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى ليس فيهم مشابه الإنس، وفيهم أشباه البهائم يأكلون العشب ويفترسون الدّواب والوحش كما يفترسها السّباع، ويأكلون [حشرات] «2» الأرض كلها من الحيات والبهائم والعقارب وكلّ ذي روح ممّا خلق الله، فليس
لله تعالى خلق ينمي نماهم في العالم الواحد ولا يزدادون كزيادتهم. فإن أتت مدّة على ما ترى من زيادتهم ونمائهم فلا شك أنهم سيملؤون الأرض ويجلون أهلها منها ويظهرون عليها فيفسدون فيها. وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلّا ونحن نتوقعهم أن يطلع علينا أوّلهم من بين هذين الجبلين، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً: أعدّوا لي الصخور والحديد والنحاس حتّى أرتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم. ثمّ انطلق يؤمّهم حتّى دفع إليهم وتوسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرّجل المربوع منّا. قال علي بن أبي طالب: «منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول، لهم مخالب في [موضع] «1» الأظفار من بين أيدينا وأنياب وأضراس كأضراس السّباع وأنيابها يسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرّة من الإبل وكقضم البغل المسن أو الفرس القوي، ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يتّقون به من الحر والبرد إذا أصابهم. ولكلّ واحد منهم أذنان عظيمتان أحدهما وبرة والأخرى زغبة يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، ويصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى وليس منهم ذكر ولا أنثى إلّا وقد عرف أجله الذي يموت فيه، ومنقطع عمره وذلك أنه لا يموت ميّت من ذكورهم حتّى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت أنثى حتّى يخرج من رحمها ألف ولد. فإذا كان ذلك أيقن الموت. وهم يرزقون السينان «2» أيام الربيع كما يستمطر الغيث لحينه فيقذفون منه كلّ سنّة واحدا فيأكلونه عامهم كله إلى مثلها من القابل فيعمهم على كثرتهم، وهم يتداعون تداعي الحمام، ويعوون عواء الذئاب، ويتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا» «3» . فلمّا عاين منهم ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما، وهو في منقطع أرض الترك ممّا يلي مشرق الشمس فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ، فلمّا أنشأ في عمله حفر له الأساس حتّى بلغ الماء، ثمّ جعل عرضه خمسين فرسخا. وجعل حشوه الصخر، وطينه النحاس يذاب ثمّ يصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ثمّ علّاه وشرّفه بزبر الحديد والنحاس المذاب وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر، فصار كأنه برد محبّر من صفرة النحاس وحمرته في سواد الحديد. فلما فرغ منه وأحكمه انطلق عامدا إلى جماعة الإنس، فبينا هو يسير إذ دفع إلى أمّة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة مقتصدة يقيمون بالسّوية، ويحكمون بالعدل
ويتراحمون، حالتهم واحدة وكلمتهم واحدة، وأخلاقهم مشتبهة وطريقتهم مستقيمة، وقلوبهم متآلفة، وسيرتهم مستوية، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليس على بيوتهم أبواب، وليس عليهم أمراء، وليس بينهم قضاة، ولا بينهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف، ولا يختلفون ولا يتفاضلون، ولا يتنازعون، ولا يستبّون «1» ، ولا يقتلون، ولا يضحكون، ولا يحردون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب النّاس، وهم أطول الناس أعمارا، وليس فيهم مسكين ولا فقير، ولا فظ ولا غليظ. فلما رأى ذلك من أمرهم عجب وقال: «أخبروني أيّها القوم خبركم، فإنّي قد أحصيت الأرض كلّها برّها وبحرها، وشرقها وغربها، فلم أر أحدا مثلكم، فخبروني خبركم» . قالوا نعم: فسلنا عمّا تريد. قال: «خبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟» . قالوا: عمدا فعلنا ذلك، لئلا ننسى الموت، ولا يخرج ذكره من قلوبنا. قال: «فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟» . قالوا: ليس فينا متّهم، وليس فينا إلّا أمين مؤتمن. قال: «فما بالكم ليس عليكم أمير؟» . قالوا: لا حاجة لنا إلى ذلك. قال: «فما بالكم ليس فيكم حكّام؟» . قالوا: لا نختصم. قال: «فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟» . قالوا: لا نتكاثر. قال: «فما بالكم ليس فيكم ملوك؟» . قالوا: لا نفتخر. قال: «فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟» . قالوا: من ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا. قال: «فما بالكم لا تقتتلون؟» . قالوا: من أجل أنّا شبنا أنفسنا بالأحلام «2» . قال: «فما بال كلمتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة؟» . قالوا: من قبل أنا لا نتكاثر، ولا نتخادع، ولا يغتال بعضنا بعضا. قال: «فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم، واعتدلت سيرتكم؟» . قالوا: صحت صدورنا فنزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا. قال: «فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟» . قالوا: من أجل أنا نقسم بالسوية. قال: «فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟» . قالوا: من قبل الذل والتواضع. قال: «فما جعلكم أطول النّاس أعمارا؟» . قالوا: من قبل أنا نتعاطى الحقّ، ونحكم بالعدل.
قال: «فما بالكم لا تضحكون؟» . قالوا: لا نغفل عن الاستغفار. قال: «فما بالكم لا تحزنون ولا تحردون؟» . قالوا: من قبل أنّا وطّنّا أنفسنا للبلاء مذ كنّا، وأحببناه وحرصنا عليه. قال: «فما بالكم لا يصيبكم الآفات كما يصيب النّاس؟» . قالوا: لأنّا لا نتوكل على غير الله، ولا نعمل الأنواء والنجوم. قال: «وهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟» . قالوا: نعم: وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويواسون فقراءهم، ويعفون عمّن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمّن جهل عليهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويوفون بعهدهم، ويصدقون في مواعيدهم، فأصلح الله عزّ وجلّ بذلك أمرهم، وحفظهم ما كانوا أحياء. وكان حقا على الله أن يخلفهم في ذريتهم. وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كلّ يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فتحفرونه غدا. فيعيده الله عزّ وجلّ كأشدّ ما كان. حتّى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه إن شاء الله غدا، فيعود إليه وهو كهيئته حين تركوه، فيحفرونه فيخرجون على النّاس فيتبعون المياه، ويتحصن النّاس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم، فيقولون: قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء. فيبعث الله عزّ وجلّ نغفا «1» عليهم في أقفائهم فيقتلونهم» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتسكر سكرا من لحومهم» [98] «2» . وروى محمود بن قتادة عن أبي سعيد الخدري أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله عزّ وجلّ: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ «3» فيغشون الأرض وينحاز المسلمون عنهم إلى حصونهم ومدائنهم حتى إن أولهم يمرون بالنهر من أنهار الأرض» قال أبو الهيثم: الدجلة «فيشربون حتى يصير يابسة، فيمر به الذين من بعدهم فيقولون: لقد كان بهذا المكان ماء مرّة، حتى إذا ظهروا على أهل الأرض قالوا: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، وبقي أهل السماء» . قال صلّى الله عليه وسلّم: «فيهزّ أحدهم حربته ثمّ يقذفها إلى السماء فترجع إليه مختضبة دما للفتنة. فبينا
هم كذلك إذ يبعث الله عزّ وجلّ عليهم دودا كنغف الجراد فيموتون موت الجراد، فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حسا، فيقولون: هل من رجل يشتري لنا نفسه فينظر ما فعل هؤلاء القوم؟ فينزل رجل منهم قد أيقن أنه مقتول، فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي أصحابه: أبشروا، فقد كفاكم الله عزّ وجلّ عدوّكم. فيخرج المسلمون فيرسلون مواشيهم فيهم فما يكون لها رعى غير لحومهم وتكثر عليه كأحسن ما تكثر على شيء من النبات أصابته قط» «1» [99] . قال وهب: إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءها، ويأكلون دوابّها، ثمّ يأكلون الخشب والشجر ومن ظفروا به من النّاس، ولا يقدرون أن يأتوا مكّة ولا المدينة ولا بيت المقدس. في قوله تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً قرأ أهل الكوفة: (خراجا) بالألف. الباقون بغير ألف، وهما لغتان، بمعنى واحد. وقال أبو عمرو بن العلاء: الخرج: ما تبرّعت به، والخراج: ما لزمك أداؤه. عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا: حاجزا فلا يصلون إلينا؟ قالَ لهم ذو القرنين: ما مَكَّنِّي على الإدغام. وقرأ أهل مكة: (ما مكنني) بنونين بالإظهار فِيهِ رَبِّي وقوّاني عليه خَيْرٌ، ولكن أعينوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً: حاجزا كالحائط والسدّ. قالوا: وما تلك القوّة؟ قال: «فعلة وصنّاع يحسنون البناء والعمل والآلة» [100] . قالوا: وما تلك الآلة؟ قال: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ يعني: أعطوني قطع الحديد، واحدتها زبرة، فأتوه بها، فبناه حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، وروى مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح قال: بلغنا أنه وضع الحطب بين الجبلين، ثمّ نسج عليه الحديد، ثمّ نسج الحطب على الحديد، فلم يزل يجعل الحطب على الحديد والحديد على الحطب حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، وهما الجبلان- بضمّ الصاد والدال، وفتحهما- وأمر بالنّار فأرسلت فيه، ثمّ قالَ انْفُخُوا، ثمّ جعل يفرغ القطر عليه، فذلك قوله تعالى: آتُونِي أُفْرِغْ: أصب عَلَيْهِ قِطْراً، وهو النحاس المذاب. قال: فجعلت النّار تأكل الحطب ويصب النحاس مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ويعلوه من فوقه، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً من أسفله. قال قتادة ذكر لنا أن رجلا قال: يا نبيّ الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج. قال: «انعته لي» . قال: كالبرد المحبّر طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال: «قد رأيته» [101] . قالَ ذو القرنين لمّا فرغ من بنائه يعني هذا السّد: هذا السّد رَحْمَةٌ: نعمة مِنْ رَبِّي فلذلك لم يقل: هذه. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ملتزقة مستوية بالأرض من قولهم: ناقة دكّاء أي مستوية الظهر لا سنام لها. ومن قرأ: (دكّا) بلا مدّ فمعناه: مدكوك يومئذ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 99 إلى 110]
[سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 110] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ، يعني الخلق يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ: يدخل فِي بَعْضٍ ويختلط إنسهم بجنّهم حيارى، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً في صعيد واحد، وَعَرَضْنا: وأبرزنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ، يعني يوم القيامة لِلْكافِرِينَ عَرْضاً. ثمّ وصفهم فقال: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ: غشاوة وغفلة عَنْ ذِكْرِي، يعني: الإيمان والقرآن وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً، أي لا يطيقون أن يسمعوا كتاب الله عزّ وجلّ ويتدبّروه ويؤمنوا به لغلبة الشقاء عليهم. وقيل: لعداوتهم النبي صلّى الله عليه وسلّم. أَفَحَسِبَ: أفظنّ. وقرأ عكرمة ومجاهد وعلي: (أَفَحَسْبُ) ، أي كفاهم ذلك الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي، يعني عيسى والملائكة مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ؟ كلّا بل هم لهم أعداء ويتبرؤون منهم. قال ابن عباس: يعني: الشياطين، تولوهم وأطاعوهم من دون الله. وقال مقاتل: يعني: الأصنام، وسمّاهم عبادا كما قال في موضع آخر: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ «1» . إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا. قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا يعني الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا، فنالوا به هلاكا وعطبا، ولم يدركوا ما طلبوا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا، فخاب رجاؤه وخسر بيعه. واختلفوا في الذين عنوا بذلك فقال علي بن أبي طالب: «هم الرهبان والقسوس «2» الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع» «3» [102] . وقال سعد بن أبي وقّاص وابن عباس: هم اليهود والنصارى، نظيره: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ
تَصْلى ناراً حامِيَةً «1» . وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل قال: سأل عبد الله بن الكوّا عليا عن قوله: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، قال: «أنتم يا أهل حروراء» «2» [103] . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أي يظنون أنهم بفعلهم مطيعون محسنون أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ: بطلت وذهبت أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، قال أبو سعيد الخدري: يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي في العظم عندهم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا، فذلك قوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. [حدثنا القاضي أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن حبيب إملاء: أبو بكر أحمد بن إسحاق ابن أيّوب عن محمد بن إبراهيم: يحيى بن بكير بن المغيرة عن أبي الزياد عن] «3» الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة، اقرءوا: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» «4» . [أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشر عن مروان ابن معاوية عن] «5» المغيرة بن مسلم عن سعيد بن عمرو بن عثمان قال: سمعت عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) يقول: الربا سبعون بابا أهونهن مثل نكاح الرجل أمه. قال: وأربى الربى عرض أخيك المسلم تشتمه. قال: ويؤتى يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب الذي يشرب الظرف في المجلس فيوزن فلا يعدل جناح بعوضة، خاب ذلك وخسر، ثمّ تلا هذه الآية: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً. ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً، يعني سخرية. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا اختلفوا في الفردوس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض. أعلاها الفردوس، ومنها تفجر أنهار الجنة، وفوقها عرش الرحمن فسلوه الفردوس» «6» [104] . [وأخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن مسلم بن الحجاج عن نصر بن علي
وإسحاق بن إبراهيم وأبي غسان- واللفظ له- قالوا: قال أبو عبد الصمد: قال] «1» عمران الجويني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «جنّات الفردوس أربع: جنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضّة أبنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه» [105] «2» . وقال شهر: خلق الله جنّة الفردوس بيده فهو يفتحها في كل يوم خميس فيقول: ازدادي حسنا وطيبا لأوليائي. وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها. وقال أبو أمامة: الفردوس سرة الجنّة. وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وقال مجاهد: هو البستان بالرومية. وقال كعب: هو البستان فيه الأعناب. وقال الضحاك: هي الجنّة الملتفة الأشجار. وقيل: هي الروضة المستحسنة. وقيل: هي الأودية التي تنبت ضروبا من النبات، وجمعها فراديس: وقال أمية: كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس والفومان والبصل «3» خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أي يطلبون عنها تحولا إلى غيرها، وهو مصدر مثل الصعر والعوج. قال مخلد بن الحسين: سمعت بعض أصحاب أنس قال: يقول أولهم دخولا: إنما أدخلني الله أولهم لأنه ليس أحد أفضل منّي. ويقول آخرهم دخولا: إنما أخّرني الله، لأنه ليس أحد أعطاه مثل الذي أعطاني. قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية، قال ابن عباس: قالت اليهود: يا محمد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «4» ثمّ يقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «5» فكيف يكون هذا؟ فأنزل الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ أي ماؤه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي حكمه وعجائبه. وقرأ أهل الكوفة (قبل أن ينفد) بالياء لتقدم الفعل، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً: عونا وزيادة. وفي مصحف أبي: (ولو جئنا بمثله مدادا) ونظيرها قوله عزّ وجلّ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ «6» الآية. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري، وذلك أنه
قال للنّبي صلّى الله عليه وسلّم إنّي أعمل لله، فإذا اطّلع عليه سرّني. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى طيّب لا يقبل إلّا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه» «1» [106] ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال أنس: قال رجل: يا نبي الله، إنّي أحب الجهاد في سبيل الله، وأحبّ أن يرى مكاني، فأنزل الله: قُلْ يا محمد: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ: خلق آدمي مثلكم. قال ابن عباس: علّم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه، يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ: المصير إليه. وقيل: معناه يأمل رؤية ربّه، فالرجاء يتضمّن معنيين: الخوف والأمل، قال الشاعر: فلا كل ما ترجو من الخير كائن ... ولا كل ما ترجو من الشر واقع «2» فجمع المعنيين في بيت واحد. فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً: خالصا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، أي ولا يراء. قال شهر ابن حوشب: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال: أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله عزّ وجلّ ويحب أن يحمد عليه، ويصوم يبتغي وجه الله عزّ وجلّ ويحب أن يحمد، ويتصدّق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه، ويحجّ يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه؟ فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله عزّ وجلّ يقول: «أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي منه» [107] . [أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عبد الله الجوهري عن حامد بن شعيب البجلي عن شريح بن يونس عن إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتقوا الشرك الأصغر» . قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء يوم يجازي الله النّاس بأعمالهم» [108] «3» . أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد الله بن هاشم عن عبد الرحمن عن] «4» سفيان عن سلمة قال: سمعت جندبا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سمّع سمّع الله به، ومن يراء يراء الله به» «5» [109] . وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتقوا الشرك الأصغر» . قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: «الرياء يوم يجازي الله الناس بأعمالهم» [110] «6» .
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا نزلت هذه الآية: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفيّ، وإيّاكم وشرك السرائر فإن الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء. ومن صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك» . قال: فشقّ ذلك على القوم، فقال رسول الله: «أولا أدلّكم على ما يذهب عنكم صغير الشرك وكبيرة؟» . قالوا: بلى يا رسول الله. قال: قولوا: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم» [111] «1» . وقال عمرو بن قيس الكندي: سمعت معاوية بن أبي سفيان على المنبر تلا هذه الآية، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الآية، فقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن. وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوحي إليّ أن من قرأ: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ- الآية- رفع له نور ما بين عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة» «2» [112] . [وأخبرني محمد بن القاسم عن محمد بن زيد قال: أبو يحيى البزاز عن أحمد بن يوسف عن محمد بن العلا عن زياد بن قايد «3» عن] «4» سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه، ومن قرأها كلّها كانت له نورا من الأرض إلى السماء» [113] «5» .
سورة مريم
سورة مريم مريم مكيّة كلّها، وهي ثمان وتسعون آية، تسع تسعون حجازي، وسبعمائة واثنتان وستّون كلمة، وثلاثة ألاف وثمانمائة حرف وحرفان أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة، قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا: قال أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، عن أحمد بن يونس اليربوعي، عن سلام بن سليم المدائني، عن عمرو بن كثير، عن يزيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر حسنات بعدد من صدّق بزكريّا وكذب به، ويحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا لله ولدا، وبعدد من لم يدع له ولدا» [114] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) قوله عزّ وجلّ كهيعص قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، ضدّه شامي وحمزة وخلف، بكسرهما، والكسائي، بفتحهما، ابن كثير وعاصم ويعقوب، واختلفوا في معناها. فقال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ، وقيل: إنّه اسم الله الأعظم، وقال قتادة: هو اسم من اسماء القرآن، وقيل: هو اسم السورة، وقال عليّ بن أبي طالب وابن عباس: هو قسم أقسم الله تعالى به ، وقال الكلبي: هو ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به [على] نفسه.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد، قال أبو عبد الله محمد بن زياد القوقسي، قال أبو عمّار عن جرير، عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ كهيعص قال: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من رحيم والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقال الكلبي أيضا: معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، عالم ببريته، صادق في وعده ذِكْرُ رفع ب كهيعص وإن شئت قلت: هذا ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، وفيه تقديم وتأخير، معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته وزكريا في موضع نصب. وقرأ بعضهم عَبْدُهُ زَكَرِيّا بالرفع على أنّ الفعل له إِذْ نادى دعا ربّه في محرابه حيث يقرب القربان نداء خفيّا دعاء سرّا من قومه في جوف الليل، مخلصا فيه لم يطلع عليه أحد إلّا الله عزّ وجلّ قال رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ضعف الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً شمطا، يقول: شخت وضعفت، ومن الموت قربت وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا يقول: يا رب عوّدتني الإجابة فيما كنت تجيبني إذا دعوتك ولا تخيّبني. قوله وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي قرأ عثمان ويحيى بن يعمر، (خَفَتِّ) بفتح الخاء والفاء وكسر التاء مشدّدا الْمَوالِي بسكون الياء بمعنى ذهب الموالي وقلّت، الباقون: (خِفْتُ) بكسر الخاء وضم التاء من الخوف، الموالي نصبا، خاف أن يرثه غير الولد، وقيل: خاف عليهم تبديل دين الله عزّ وجلّ وتغيير أحكامه وأن لا يحسنوا الخلافة له على أمّته، فسأل ربّه ولدا صالحا يأمنه على أمّته، والموالي بنو العمّ وقيل: الاولي والولي والمولى في كلام العرب واحد، وقال مجاهد: العصبة، وقال أبو صالح: الكلالة، وقال الكلبي: الورثة من ورائي من بعد موتي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أعطني من عندك وَلِيًّا ابنا يَرِثُنِي وَيَرِثُ وقرأ يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وأبو عمرو والكسائي بالجزم فيهما على جواب الدّعاء، وقرأ الباقون بالرفع على الحال والصفة، أي وليّا وارثا، وقرأ ابن عبّاس ويحيى بن يعمر: يرثني، وأرث من آل يعقوب النبوّة، يعني يرث النبوّة والعلم، وقال الحسن: معناه يَرِثُنِي مالي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النبوّة والحبورة، وقال الكلبي: هو يعقوب بن ماثان أخو زكريا وليس يعقوب أب يوسف وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي صالحا برا تقيا مرضيّا، وقال أبو صالح: معناه: اجعله نبيا كما جعلت أباه نبيّا. أخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا: أخبرنا: مكّي بن عبدان عن أحمد بن الأزهر عن روح بن عبادة عن سعيد عن قتادة عن بشر بن نهيك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يقول عند ذلك: «رحم الله زكريا، ما كان عليه من ورثة» «1» .
قوله يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ فيه إضمار واختصار، يعني فاستجاب دعاءه فقال: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ ولد ذكر اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قال قتادة والكلبي: لم يسمّ أحد قبله يحيى، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبيها، ومثله دليله قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «1» أي مثلا وعدلا، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس، وتأويل هذا القول أنّه لم يكن له مثل لأنّه لم يهمّ بمعصيته قط وقيل: لم يكن له مثل في أمر النساء لأنه كان سَيِّداً وَحَصُوراً وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولدا، وقيل: إن الله تعالى اشترط القبل لأنه جل ذكره أراد أن يخلق بعده من هو أفضل منه وهو محمّد عليه السلام ، وقيل: إنّ الله تعالى لم يرد بهذا القول جميع الفضائل كلّها ليحيى، وقيل: إنما أراد في بعضها لأن الخليل والكم عليهما السلام كانا قبله وكانا أفضل منه. قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي وامرأتي عاقر كقوله كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا «2» أي من هو في المهد صبيّ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا أي يبسا، قال قتادة: نحول العظم يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب غير ليّن، وقال أبو عبيد: هو كل مبالغ في شر أو كفر فقد عتا وعسا، وقرأ أبيّ وابن عباس عسيّا، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي عِتِيًّا بكسر العين ومثله جِثِيًّا وصِلِيًّا وبكيّا والباقون بالضم فيهما وهما لغتان. قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ، من قبل يحيى، وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً على حمل امرأتي قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا أي صحيحا سليما من غير ما بأس ولا خرس، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلّون إذ خرج عليهم زكريّا متغيرا لونه فأنكروه فقالوا له: ما لك يا زكريّا؟ فَأَوْحى أي أومى إِلَيْهِمْ، ويقال: كتب في الأرض أَنْ سَبِّحُوا وصلّوا لله عزّ وجلّ بُكْرَةً وَعَشِيًّا والسبحة الصلاة. قوله يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ بجدّ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ يعني الفهم صَبِيًّا يعني في حال صباه، وقال معمّر: جاء صبيان إلى يحيى بن زكريّا فقالوا: اخرج بنا نلعب، فقال: ما للّعب خلقت، فأنزل الله عزّ وجلّ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا رحمة من عندنا، قال الحطيئة لعمر بن الخطّاب: تحنّن علىّ هداك المليك ... فإن لكلّ مقام مقالا «3»
[سورة مريم (19) : الآيات 16 إلى 40]
أي ترحم، ومنه قوله: حنانيك مثل سعديك، قال طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض «1» وأصله من حنين الناقة. أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان عن حريز بن عبد الحميد عن أبي خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ما أدري ما حَناناً إلا أن يكون بعطف رحمة الله عز وجلّ على عباده وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن هوذة عن عوف بلغني في قوله الله عزّ وجلّ وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا قال: الحنان: المحبّة وَزَكاةً قال ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله عزّ وجلّ والإخلاص. وقال الضحاك: هي الفعل الزاكي الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدق والده بها على أبويه، وقيل: بركة ونماء وزيادة. وقيل: جعلناه طاهرا من الذنوب. وَكانَ تَقِيًّا مسلما مخلصا مطيعا. أخبرنا سعيد بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا علي بن عبدان، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا ابن القطيعي قال: سمعت الحسن قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس عبد إلّا قد همّ بخطيئة أو عملها غير يحيى بن زكريا» «2» . وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ بارا بهما لا يعصيهما وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً قالا: متكبرا. قال الحلبي: الجبّار الذي يضرب ويقتل على الغضب. عَصِيًّا شديد العصيان لربّه. وَسَلامٌ عَلَيْهِ قال الحلبي: سلام له منّا حين ولد وحين يموت وحين يبعث حيّا. أخبرنا أبو محمد الأصفهاني وأبو صالح النيسابوري قالا: أنبأنا أبو حاتم التميمي، حدثنا أبو الأزهر السّليطيّ، حدثنا رؤبة، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير مني، وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير منّي، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلّمت على نفسي وسلّم الله عليك. [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 40] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ القرآن مَرْيَمَ وهي ابنة عمران بن ماثان إِذِ انْتَبَذَتْ. قال قتادة: انفردت. الكلبي: تنحّت وأصله من النبذة بفتح النون وضمّها وهي الناحبة، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية مَكاناً شَرْقِيًّا يعني مشرقة، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء. قال الحسن: اتّخذت النصارى المشرق قبلة لأنّ مريم انتبذت مَكاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ فضربت مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً قال ابن عباس: سترا، قال مقاتل: جعلت الجبل بينها وبين قومها، قال عكرمة: إن مريم كانت تكون في المسجد ما دامت طاهرا، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينا هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبرئيل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سويّ الخلق. فذلك قوله فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعني جبرئيل (عليه السلام) وقيل: روح عيسى ابن مريم اضافة إليه على التخصيص والتفضيل فَتَمَثَّلَ فتصور لَها بَشَراً آدميا سَوِيًّا لم ينقص منه شيء وإنما أرسله في صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه، ولو نزّله على صورته التي هو عليها لفزعت ونفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه، فلمّا رأته مريم قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا مؤمنا مطيعا.
قال علي بن أبي طالب: علمت أن التقيّ ذو نهية ، وقيل: كان تقي رجل من أعدل الناس في ذلك الزمان فقالت: إن كنت في الصلاح مثل التقي ف إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ ، كيف يكون رجل اجنبي وامرأة اجنبية في حجاب واحد؟ قال لها جبرئيل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ أي يقول لأهب لك، وقرأ أبو عمرو ليهب بالياء ولدا غُلاماً زَكِيًّا صالحا تقيا قالَتْ مريم أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ولم يقربني روح وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا فاجرة وإنما حذفت الهاء منه لأنه مصروف عن وجهه. قالَ جبرئيل كَذلِكِ كما قلت يا مريم ولكن قالَ رَبُّكِ وقيل هكذا قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ خلق ولد من غير أب وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً علامة هذه لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا لمن تبعه على دينه. وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا معدودا مسطورا في اللوح المحفوظ. فَحَمَلَتْهُ وذلك أن جبرئيل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبسته، وقيل: نفخ جبرئيل من بعيد نفخا فوصل الريح إليها فحملت، فلمّا حملت فَانْتَبَذَتْ خرجت وانفردت مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها من وراء الجبل، ويقال أقصى الدار. قال الكلبي: قيل لابن عمّ لها يقال له يوسف: إن مريم حملت من الزنا لأن يقتلها الملك وكانت قد سميت له فأتاها فاحتملها، فهرب بها، فلما كان ببعض الطريق أراد يوسف ابن عمّها قتلها فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: إنّه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها، ولم يقتلها فكان معها. واختلفوا في مدّة حملها ووقت وضعها، فقال بعضهم: كان مقدار حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء، ومنهم من قال: ثمانية أشهر وكان ذلك آية أخرى لأنّه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى، وقيل: ستّة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة. قال ابن عباس: ما هو إلّا أن حملت فوضعت ولم يكن بين الحمل والانتباذ إلّا ساعة: لأنّ الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا. وقال مقاتل بن سليمان: حملته مريم في ساعة وصوّر في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وهي بنت عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى. فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ ألجأها وجاء بها المخاض، وفي قراءة عبد الله آواها المخاض يعني الحمل، وقيل: الطلق. إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدة الشتاء ولم يكن لها سعف. وروى هلال بن خبّاب عن أبي عبيد الله قال: كان جذعا يابسا قد جيء به ليبنى به بيت يقال له بيت لحم. قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة:
نَسْياً بفتح النون، والباقون بالكسر، وهما لغتان مثل: الوتر والوتر والحجر والحجر والجسر والجسر، وهو الشيء المنسي. قال ابن عباس: يعني شيئا متروكا، وقال قتادة: شيئا لا يذكر ولا يعرف، وقال عكرمة والضحاك ومجاهد: حيضة ملقاة. قال الربيع: هو السقط وقال مقاتل: يعني كالشيء الهالك. قال عطاء بن أبي مسلم: يعني لم أخلق، وقال الفرّاء: هو ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، وقال أبو عبيد: هو ما نسي وأغفل من شيء حقير. قال الكميت: أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ... ولست بنسي في معد ولا دخل «1» أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حاجب بن محمد قال: حدّثنا محمد بن حمّاد قال: حدّثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت: لوددت أني إذا مت كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا. فَناداها مِنْ تَحْتِها قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: مِنْ تَحْتِها بكسر الميم وهو جبرئيل (عليه السلام) ناداها من سفح الجبل، وقرأ الباقون مَنْ تَحْتُها بفتح الميم وهو عيسى لما خرج من بطنها ناداها: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قال الحسن: يعني عيسى كان والله عبدا سريا أي رفيعا، وقال سائر المفسّرين: هو النهر الصغير، وقيل معنى قوله سبحانه تَحْتَكِ إنّ الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته بالإمساك أمسك، كقوله عزّ وجلّ فيما أخبر عن فرعون وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «2» أي من تحت أمري، قال ابن عباس: فضرب جبرئيل: ويقال عيسى: برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى وحييت النخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت، وقيل لمريم وَهُزِّي إِلَيْكِ أي حرّكي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ يقول العرب: هزّه وهزّ به كما يقال: خذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلّق بزيد وتعلق زيدا، وخذ رأسه وخذ برأسه، وامدد الحبل، وامدد بالحبل، والجذع: الغصن، والجذع: النخلة نفسها. تُساقِطْ قرأ البراء بن عازب ويعقوب وأبو حاتم وحمّاد ونصير: يساقط بالياء، وقرأ حفص تُساقِطْ بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف، وقرأ الأعمش وحمزة وأبو عبيد: تَسّاقَط بفتح التاء والقاف وتشديد السين، فمن أنّث ردّه إلى النخلة ومن ذكّر ردّه ألى الجذع والتشديد على الإدغام
والتخفيف على الحذف. رُطَباً جَنِيًّا غصنا رطبا ساعة جني. وقال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض من العسل. وقال عمرو بن ميمون: ما أدري للمرأة إذا عسر عليها ولدها خير من الرطب لقول الله سبحانه وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا. وقالت عائشة رضي الله عنها: إنّ من السنّة أن يمضغ التمر ويدلك به فم المولود، وكذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمضغ التمر ويحنّك به أولاد الصحابة. فَكُلِي يا مريم من الرطب وَاشْرَبِي من النهر وَقَرِّي عَيْناً وطيبي نفسا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً أي صمتا ولذلك كان بقراءة ابن مسعود وأنس والصوم في اللغة هو الإمساك عن الطعام والكلام، وفي الآية اختصار فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فسألك عن ولدك أو لامك عليه فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً يقال: إنّ الله أمرها أن تقول هذا اشارة ويقال: أمرها أن تقوله نطقا ثم تمسك عن الكلام بعد هذا. فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا يقال: كانت تكلّم الملائكة ولا تكلّم الإنس. فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قال الكلبي: احتمل يوسف النّجار مريم وابنها عيسى (عليه السلام) إلى غار فأدخلهما فيه أربعين يوما حتى تعالت من نفاسها ثم جاء بها فَأَتَتْ مريم بِهِ بعيسى تَحْمِلُهُ بعد أربعين يوما، فكلّمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلمّا دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين. قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا فظيعا منكرا عظيما، قال أبو عبيدة: كل من عجب أو عمل فهو فري، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في عمر رضي الله عنه: «فلم أر عبقريا يفري فريه» «1» أي يعمل عمله، قال الراجز: قد أطعمتني دقلا حوليا ... مسوسا مدودا حجريا «2» قد كنت تفرين به الفريا. أي كنت تكثرين فيه القول وتعظمينه. يا أُخْتَ هارُونَ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «انّما عنوا هارون النبي أخا موسى لأنها كانت من نسله» .
وقال قتادة وغيره: كان هارون رجلا صالحا من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى، ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون الفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل، وقال المغيرة بن شعبة: قال لي أهل نجران قوله: يا أُخْتَ هارُونَ وقد كان بين موسى وعيسى من السنين ما قد كان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بالأنبياء والصالحين من قبلهم. وقال الكلبي: كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أمها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل، وقيل: إن هارون كان من أفسق بني إسرائيل وأظهرهم فسادا فشبّهوها به، وعلى هذا القول الأخت هاهنا بمعنى الشبه لا بمعنى النسبة، والعرب تسمي شبه الشيء أخته وأخاه، قال الله سبحانه وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها «1» أي شبهها. ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ حنّة بَغِيًّا زانية فمن أين لك هذا الولد؟ فَأَشارَتْ مريم إلى عيسى أن كلّموه ف قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي من هو في المهد وهو حجرها، وقيل: هو المهد بعينه وقد كان حشوا للكلام ولا معنى له كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «2» أي أنتم خير أمة وكقوله هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «3» أي هل أنا، وكقول الناس إن كنت صديقي فصلني، قال زهير: أجرت عليه حرّة أرحبيّة ... وقد كان لون الليل مثل الأرندج «4» وقال الفرزدق: فكيف إذا رأيت ديار قومي ... وجيران لنا كانوا كرام «5» أي وجيران لنا كرام، قال وهب: فأتاها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى: انطق بحجّتك إن كنت أمرت بها، فقال عند ذلك وهو ابن أربعين يوما. وقال مقاتل: هو يوم ولد. إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فأقرّ على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم تكذيبا للنصارى وإلزاما للحجة عليهم. قال عمرو بن ميمون: إن مريم لما أتت قومها بعيسى أخذوا لها الحجارة ليرموها فلمّا تكلّم عيسى تركوها، قالوا: ثم لم يتكلّم عيسى بعد هذا حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: خمسة تكلّموا قبل إبان الكلام: شاهد يوسف، وولد ماشطة بنت فرعون، وعيسى، وصاحب جريح، وولد المرأة التي أحرقت في الأخدود. فأمّا شاهد يوسف فقد مرّ ذكره، وأمّا ولد الماشطة، فأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا الحسن بن موسى قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا أسري به مرّت به رائحة طيبة فقال: يا جبرئيل ما هذه الرائحة؟ قال: ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنته: أبي؟ فقالت: لا بل ربّي وربّك وربّ أبيك. فقالت: أخبر بذلك أبي قالت: نعم، فأخبرته فدعا بها فقال: من ربّك؟ قالت: ربّي وربّك في السماء، فأمر فرعون ببقرة من نحاس فأحميت فدعا بها وبولدها فقالت: إن لي إليك حاجة قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعا فقال: ذلك لك علينا من الحق، فأمر بأولادها فألقى واحدا واحدا حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيّا مرضعا فقال: اصبري يا أماه فإنّا على الحق، قال: ثم ألقيت مع ولدها. وأمّا صاحب جريح فأخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني قال: أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني قال: حدّثنا أحمد بن الخليل قال: حدّثنا يونس بن محمد المؤدّب، قال: حدّثنا الليث ابن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبرنا عبد الله [بن حامد] «1» قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدّثنا راشد بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا هاشم بن القاسم قال: حدّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنّ رجلا يقال له جريح كان راهبا يتعبّد في صومعته فأتته أمّه لتسلّم عليه فنادته: يا جريح اطلع إليّ انظر إليك، فوافقته يصلّي فقال: أمّي وصلاتي لربّي، أوثر صلاتي لربّي على أمّي، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته: يا جريح كلّمني فوافقته يصلّي فاختار صلاته، ثمّ جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت: إنّه أبى أن يكلّمني، اللهمّ لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة، قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن» . قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاما فقيل لها: ممّن هذا؟ فقالت: من صاحب الصومعة، فأتوه وهدّموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم، فلمّا مرّ على حوانيت الزواني خرجن، فتبسم وعرف أنّه دعاء أمّه، فقالوا: لم يضحك حين مرّ على الزواني!؟ فلمّا أدخل على ملكهم قال جريح: أين الصبي
الذي ولدت؟ فأتي به فقال له جريح: من أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي، فابرأ الله سبحانه جريحا وأعظمه الناس «1» ، وقالوا: نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال: لا ولكن أعيدوه كما كان، ثمّ علاه. وأمّا ولد صاحبة الأخدود فسنذكرها في موضعها إن شاء الله. آتانِيَ الْكِتابَ يعني يؤتيني الكتاب لفظه ماض ومعناه مستقبل، وقيل: إنه أخبر عمّا كتب له في اللوح المحفوظ كما سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم: متى كتبت نبيا؟ قال: «كتبت نبيا وآدم بين الروح والجسد «2» » . وقيل: معناه علمني وألهمني التوراة في بطن أمّي. وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً معلما للخير أَيْنَ ما كُنْتُ وقيل: مباركا على من اتّبع ديني وأمري وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا أي وجعلني برا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا. أخبرنا شعيب بن محمد البيهقي وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا مكّي بن عبدان، قال: حدّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدّثنا روح بن عبادة قال: حدّثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا ان امرأة رأت عيسى ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات أذن الله له فيهنّ فقالت: طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أرضعت به، فقال ابن مريم يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتّبع ما فيه ولم يكن جَبَّاراً شَقِيًّا، وكان يقول: سلوني فإنّ قلبي ليّن وإنّي صغير في نفسي، ممّا أعطاه الله سبحانه من التواضع. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ يعني هو قول الحق، وقيل: رفع على التكرير يعني ذلك عيسى ابن مريم وذلك قول الحق، وقيل: هو نعت لعيسى يعني ذلك عيسى بن مريم كلمة الله، والحق هو الله سبحانه. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب يعني قال قول الحق الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ يشكّون ويقولون غير الحق، فقالت اليهود: ساحر كذّاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة، ثمّ كذّبهم فقال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أي ما كان من صفته اتّخاذ الولد، وقيل: اللام منقولة يعني ما كان الله ليتخذ من ولد سُبْحانَهُ نزّه نفسه إِذا قَضى أَمْراً كان في علمه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ يعني وقضى أن الله، وقرأ أهل الكوفة إِنَّ اللَّهَ
[سورة مريم (19) : الآيات 41 إلى 55]
بالكسر على الاستيناف رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا الذي ذكرت صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ يعني النصارى، وانّما سمّوا أحزابا لأنّهم تجزأوا ثلاث فرق في أمر عيسى: النسطورية والملكانيّة والمار يعقوبية. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني يوم القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يعني ما أسمعهم وأبصرهم، على التعجّب، وذلك أنهم سمعوا يوم القيامة حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر. قال الكلبي: لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الآية. يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار وذبح الموت وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ من الدنيا. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال: أخبرنا مكّي بن عبدان قال: حدّثنا «1» عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار فيقال: يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثمّ ينادي المنادي «2» : يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم» ، ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وأشار بيده في الدنيا «3» . قال مقاتل: لولا ما قضى الله سبحانه وتعالى من تخليد أهل النار وتعميرهم فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك. إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها أي نميتهم ويبقى الرب عزّ وجلّ فيرثهم. وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ فنجزيهم بأعمالهم. [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 55] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً مؤمنا موقنا صدوقا نَبِيًّا رسولا رفيعا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ آزر وهو يعبد الأوثان لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ صوتا وَلا يُبْصِرُ شيئا وَلا يُغْنِي عَنْكَ لا ينفعك ولا يكفيك شَيْئاً يعني الأصنام يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ والبيان بعد الموت وأنّ من غيره عذّبه ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي على ديني أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا مستويا. يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لا تطعه، لم تصل، له ولم تصم وإنّ من أطاع شيئا فقد عبده إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا عاصيا عاتيا، وكان بمعنى الحال أي هو، وقيل بمعنى: صار. يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أعلم أَنْ يَمَسَّكَ يصيبك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ لقوله: إِلَّا أَنْ يَخافا «1» وقوله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما «2» وقيل: معناه إنّي أخاف أن ينزل عليك عذابا في الدنيا فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قرينا في النار، فقال له أبوه مجيبا له أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ تارك عبادتهم وزاهد فيهم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لئن لم تسكت وترجع عن مقالتك لَأَرْجُمَنَّكَ قال الضحاك ومقاتل والكلبي: لأشتمنّك، وقال ابن عباس: لأضربنّك، وقيل لأظهرنّ أمرك وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قال الحسن وقتادة وعطاء: سالما، وقال ابن عباس: واعتزلني سالم العرض لا يصيبنّك منّي معرّة، وقال الكلبي: اتركني واجتنبني طويلا فلا تكلّمني، وقال سعيد بن جبير: دهرا، وقال مجاهد وعكرمة: حينا، وأصل الحرف المكث، ومنه يقال: تملّيت حينا، والملوان الليل والنهار. قالَ إبراهيم سَلامٌ عَلَيْكَ أي سلمت منيّ لا أصيبك بمكروه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا قال ابن عباس ومقاتل: لطيفا رحيما، وقيل: بارّا، وقال مجاهد: عوّده الإجابة، وقال الكلبي: عالما يستجيب لي إذا دعوته.
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني وأعتزل ما تعبدون من دون الله، قال مقاتل: كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من كوثى فهاجر منها إلى الأرض المقدسة. وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا يعني عسى أن يجيبني ولا يخيّبني، وقيل: معناه عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام. فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ما تدعون: تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام فذهب مهاجرا وَهَبْنا لَهُ بعد الهجرة إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا نعمتنا، قال الكلبي: المال والولد، وقيل: النبوّة والكتاب، بيانه قوله أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «1» . وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا يعني ثناء حسنا رفيعا في كلّ أهل الأديان، وكلّ أهل دين يتولّونهم ويثنون عليهم. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلِصاً يعني غير مرائي، قال مقاتل «2» : مسلما موحدا، وقرأ أهل الكوفة: مُخْلَصاً بفتح اللام يعني أخلصناه واخترناه وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنادَيْناهُ دعوناه وكلّمناه ليلة الجمعة مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ يعني يمين موسى، والطور: جبل بين مصر ومدين وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا يعني رفعناه من سماء إلى سماء ومن حجاب إلى حجاب حتى لم يكن بينه وبينه إلّا حجاب واحد. وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكّي بن عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا أسباط عن عطاء بن السائب عن ميسرة وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قال: قرّبه حتى سمع صريف القلم، والنجيّ: المناجي كالجليس والنديم. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا وذلك حين سأل موسى ربّه عزّ وجلّ فقال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي «3» وحين قال فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ «4» فأجاب الله دعاءه. وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ يعني ابن إبراهيم إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ كان إذا وعد أنجز، وذلك أنّه وعد رجلا أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى يرجع إليه الرجل، قاله مقاتل، وقال الكلبي: انتظره حتى حال الحول عليه. وَكانَ رَسُولًا إلى قومه نَبِيًّا مخبرا عن الله سبحانه.
[سورة مريم (19) : الآيات 56 إلى 70]
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ يعني قومه وكذلك هو في حرف ابن مسعود بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا صالحا زاكيا. [سورة مريم (19) : الآيات 56 الى 70] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ وهو جدّ أبي نوح، فسمّي إدريس لكثرة درسه الكتب، واسمه أخنوخ وكان خيّاطا، وهو أوّل من كتب بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأول من تكلّم في علم النجوم والحساب إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا يعني الجنة. وقال الضّحاك: رفع إلى السماء السادسة، وقيل: الرابعة. أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا: أخبرنا مكي بن عبدان التميمي قال: حدّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدّثنا روح قال: حدّثنا سعيد عن قتادة في قوله وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قال: حدّثنا أنس بن مالك بن صعصعة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما عرج به إلى السماء قال: «أتيت على إدريس في السماء: الرابعة» «1» ... وكان سبب رفعه على ما قاله ابن عباس وكعب وغيرهما أنّه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا ربّ أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد؟ اللهمّ خفّف عنه من ثقلها واحمل عنه حرّها، فلمّا أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وحرّها ما لا يعرف، فقال: يا ربّ خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه؟ قال: أما إنّ عبدي إدريس سألني أن اخفّف عنك حملها وحرّها فأجبته، فقال: يا ربّ اجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه
خلّة، فأذن له حتى أتى إدريس وكان يسأله إدريس فكان ممّا سأله أن قال له: أخبرت أنّك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي فازداد شكرا وعبادة، فقال الملك: لا يؤخّر الله نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها قال: قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي، فقال: نعم أنا مكلّمه لك فما كان يستطيع أن يفعل لأحد من بني آدم فهو فاعله لك، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس، ثمّ أتى ملك الموت فقال: حاجة لي إليك، فقال: أفعل كلّ شيء أستطيعه قال: صديق لي من بني آدم تشفّع بي إليك لتؤخّر أجله قال: ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله متى يموت فيقدّم في نفسه، قال: نعم، فنظر في ديوانه وأخبر باسمه فقال: إنك كلّمتني في إنسان ما أراه يموت أبدا، قال: وكيف؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: إنّي أتيتك وتركته هناك، قال: انطلق فما أراك تجده إلّا وقد مات، فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء، فرجع الملك فوجده ميّتا وقال وهب: كان يرفع لإدريس كلّ يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فعجبت منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربّه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم، وكان إدريس صائما يصوم الدهر، فلمّا كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس فقال له الليلة الثالثة: إنّي أريد أن أعلم من أنت، قال: أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي، قال: فلي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قال: تقبض روحي، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردّها الله عليه بعد ساعة. قال له ملك الموت: ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال: لأذوق كرب الموت وغمّته فأكون له أشدّ استعدادا، ثم قال إدريس له: لي إليك حاجة أخرى، قال: وما هي؟ قال: ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنّة وإلى النار، فأذن الله له في رفعه إلى السماوات، فلمّا قرب من النار قال: حاجة قال: وما تريد؟ قال: تسأل مالكا حتى يفتح لي بابها فأردها، ففعل ثمّ قال: فكما أريتني النار فأرني الجنّة، فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنّة، ثم قال له ملك الموت: اخرج لتعود إلى مقرّك فتعلّق بشجرة وقال: لا أخرج منها، فبعث الله ملكا حكما بينهما ينظر في قولهما فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى قال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «1» وقد ذقته، وقال وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «2» وقد وردتها، وقال وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «3» فلست أخرج، فأوحى الله سبحانه إلى ملك الموت: دخل الجنة وبأمري يخرج، فهو حيّ هناك فذلك قوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا.
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا إلى الإسلام وَاجْتَبَيْنا على الأنام إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ يعني القرآن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا جمع باك تقديره من الفعل فعول مثل ساجد وسجود وراكع وركوع وقاعد وقعود، جمع على لفظ المصدر، نزلت في مؤمني أهل الكتاب، عبد الله سلام وأصحابه. فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعيني من بعد النبيّين المذكورين خَلْفٌ وهم قوم سوء، والخلف بالفتح الصالح، والخلف بالحزم الطالح، والخلف بسكون اللام الرديء من كلّ شيء، وهم في هذه الآية اليهود ومن لحق بهم. وقال مجاهد وقتادة: في هذه الأمّة. أَضاعُوا الصَّلاةَ أي تركوا الصلوات المفروضة، قال ابن مسعود وإبراهيم والقاسم بن مخيمرة: أخّروها عن مواقيتها وصلّوها بغير وقتها. وقال قرّة بن خالد: استبطأ الضحاك مرّة امتراء في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب فقرأ هذه الآية أَضاعُوا الصَّلاةَ ثمّ قال: والله لئن أدعها أحبّ إلىّ من أن اضيّعها، وقرأ الحسن: أضاعوا الصلوات وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ قال مقاتل: استحلّوا نكاح الأخت من الأب، وقال الكلبي: يعني اللذات وشرب الخمر وغيره، قال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة وذهاب صالحي أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقّة زناة. وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية قال: يكون خلف من بعد ستّين سنة أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ الآية «1» . وقال علىّ بن أبي طالب: «هذا إذا بني المشيد وركب المنظور ولبس المشهور» ، وقال وهب: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ شرّابون للقهوات، لعّابون بالكعبات، ركّابون للشهوات، متبعون للذّات، تاركون للجمعات «2» ، مضيّعون للصلوات، وقال كعب: يظهر في آخر الزمان أقوام بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس، ثمّ قرأ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قال عبد الله بن مسعود: الغيّ نار «3» في جهنّم، وقال ابن عباس: الغىّ واد في جهنم وإنّ أودية جهنم لتستعيذ من حرّها، أعدّ ذلك الوادي للزاني المصرّ عليه، ولشارب الخمر المدمن عليها، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور،
ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا. وقال عطاء: الغىّ واد في جهنم يسيل قيحا ودما. وقال وهب: الغىّ نهر في النار بعيد قعره، خبيث طعمه، وقال كعب: هو واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدّها حرّا، فيه بئر تسمى البهيم كلّما خبت جهنّم فتح الله تلك البئر فسعّر بها جهنم، وقال الضحاك: خسرانا وقيل: عذابا، وقيل: ألما، وقيل: كفرا. إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً. جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ ولم يروها إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يعني آتيا، قال الأعشى: وساعيت معصيّا إليها وشاتها . أي عاصيا. لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنة لَغْواً باطلا وفحشا وفضولا من الكلام، قال مقاتل: يمينا كاذبة إِلَّا سَلاماً استثناء من غير جنسه يعني بل يسمعون فيها سلاما أي قولا يسلمون منه، وقال المفسّرون: يعني تسليم بعضهم على بعض تسليم الملائكة عليهم وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا يعني على مقدار طرفي النهار. أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جعفر بقراءتي عليه قال: حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سختويه قال: حدّثنا موسى بن هارون قال: حدّثنا بشر بن معاذ الضرير قال: حدّثنا عامذ بن سياق عن يحيى بن أبي كثير قال: كانت العرب في زمانها من وجد غداء مع عشاء فذلك هو الناعم، فأنزل الله سبحانه وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قدر ما بين غدائهم وعشائهم. أخبرنا محمد بن أحمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن محمد بن سختويه قال: حدّثنا موسى ابن هارون قال: حدّثنا داود بن رشيد قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول الله سبحانه وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبدا وإنّما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب، ومقدار النهار برفع الحجب. تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا وقرأ يعقوب: نورّث بالتشديد، والاختيار التخفيف لقوله ثُمَّ أَوْرَثْنَا ... مَنْ كانَ تَقِيًّا وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية. أخبرنا عبد الله بن حامد وشعيب بن محمد قالا: أخبرنا مكي بن «1» عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا روح بن عبادة، قال: حدّثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبرئيل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا؟ فأنزل الله سبحانه وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ. وقال مجاهد: أبطأت الرّسل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أتاه جبرئيل فقال:
ما حبسك؟ فقال: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون «1» ؟ فأنزل الله سبحانه وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ الآية. وقال عكرمة والضّحاك ومقاتل وقتادة والكلبي: احتبس جبرئيل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والرّوح فلم يدر ما يجيبهم، ورجا أن يأتيه جبرئيل بجواب ما سألوه فأبطأ عليه قال عكرمة: أربعين يوما. وقال مجاهد: اثنتي عشرة ليلة وقيل: خمس عشرة- فشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة، وقال المشركون: ودّعه ربّه وقلاه، فلمّا أنزل جبرئيل قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبطأت عليّ حتى ساء ظنّي واشتقت إليك» ، فقال له جبرئيل: إنّي كنت أشوق إليك ولكنّي عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست، فأنزل الله تعالى وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وأنزل وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «2» «3» . وقيل: هذا إخبار عن أهل الجنة، أنّهم يقولون عند دخولها: ما تتنزل هذه الجنان إلّا بأمر الله لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا قال مقاتل: له ما بين أيدينا من أمر الآخرة وَما خَلْفَنا من أمر الدنيا وَما بَيْنَ ذلِكَ يعني بين النفختين، وبينهما أربعون سنة، وقيل: كان له ابتداء خلقنا وله كان منتهى آجالنا، وله كان مدّة حياتنا. ويقال: ما بَيْنَ أَيْدِينا من الثواب والعقاب وأمور الآخرة وَما خَلْفَنا ما مضى من أعمالنا في الدنيا وَما بَيْنَ ذلِكَ أي ما يكون منّا إلى يوم القيامة. ويقال: لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا قيل أن يخلقنا وَما خَلْفَنا بعد أن يميتنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ما هو فيه من الحياة، ويقال لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا إلى الأرض إذا أردنا النزول إليها وَما خَلْفَنا أي السماء إذا نزلنا منها وَما بَيْنَ ذلِكَ يعني السماء والأرض، يريد أن كل ذلك لله سبحانه فلا تقدر على فعل إلّا بأمره. وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي واصبر على عبادته هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا قال ابن عباس: مثلا، وقال سعيد بن جبير: عدلا، وقال الكلبي: هل تعلم أحدا يسمى الله غيره. وَيَقُولُ الْإِنْسانُ يعني أبي بن خلف الجمحي أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ من القبر حَيًّا استهزاء وتكذيبا منه بالبعث. قال الله سبحانه أَوَلا يَذْكُرُ أي يتذكّر ويتفكّر، والأصل يتذكر، وقرأ ابن عامر ونافع
[سورة مريم (19) : الآيات 71 إلى 87]
وعاصم ويعقوب يَذْكُرُ بالتخفيف، والاختيار التشديد لقوله سبحانه إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ «1» وأخواتها، يدل عليه قراءة أبي يتذكر الإنسان يعني أبي بن خلف الجمحي أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ثمّ أقسم بنفسه فقال فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ لنجمعنّهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث وَالشَّياطِينَ مع الشياطين يعني قرناءهم الذين أضلّوهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ يعني في جهنم جِثِيًّا قال ابن عباس: جماعات جماعات، وقال مقاتل: جميعا وهو على هذا القول جمع جثوة، وقال الحسن والضحاك: جاثية على الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث. قال الكميت: هم تركوا سراتهم جثيّا ... وهم دون السراة مقرنينا «2» ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ لنخرجنّ من كلّ أمّة وأهل دين أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا عتوّا قال ابن عباس: يعني جرأة، وقال مجاهد: فجورا وكذبا، قال مقاتل: علوّا، وقيل: غلوّا في الكفر، وقيل: كفرا، وقال الكلبي: قائدهم رأسهم في الشرّ. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا الحسن بن علي قال: حدّثنا أبو أسامة عن سفيان عن علي بن الأرقم عن أبي الأحوص قال: نبدأ بالأكابر فالأكابر ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي أحقّ بدخول النار، يقال: صلي يصلى صليا مثل لقي يلقى لقيّا وصلى يصلى صليا مثل مضى يمضي مضيا. [سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 87] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قيل: في الآية إضمار مجازه: والله إِنْ مِنْكُمْ يعني ما منكم من
أحد إِلَّا وارِدُها يعني النار، واختلف الناس في معنى الورود حسب اختلافهم في الوعيد، فأمّا الوعيد فإنّهم قالوا «1» : إنّ من دخلها لم يخرج منها، وقالت المرجئة: لا يدخلها مؤمن، واتّفقوا على أنّ الورود هو الحضور والمرور، فأمّا أهل السنّة فإنّهم قالوا: يجوز أن يعاقب الله سبحانه العصاة من المؤمنين بالنار ثم يخرجهم منها، وقالوا: معنى الورود الدخول، واحتجّوا، بقول الله سبحانه حكاية «2» عن فرعون يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ «3» وقال في الأصنام وعبدتها إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «4» لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها «5» فلو لم يكن الورود في هذه الآيات بمعنى الدخول لوجب أن يدخل الأصنام وعبدتها وفرعون وقومه الجنّة لأن من مرّ على النار فلا بدّ له من الجنّة لأنه ليس بعد الدنيا دار إلّا الجنّة أو النار، والذي يدلّ على أنّ الورود هو الدخول قوله في سياق الآية ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا والنجاة لا تكون إلّا ممّا دخلت فيه وأنت ملقىّ فيه، قال الله سبحانه وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ «6» واللغة تشهد لهذا، تقول العرب: ورد كتاب فلان، ووردت بلد كذا، لا يريدون جزت عليها وإنّما يريدون دخلتها، ودليلنا أيضا من السنّة. وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا محمد بن نصر بن منصور الصائغ الشيخ الصالح قال: حدّثنا سليمان بن حرب قال: حدّثنا أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سميّة قال: اختلفنا في الورود هاهنا بالبصرة فقال قوم: لا يدخلها مؤمن، وقال آخرون: يدخلونها جميعا، فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمّتا إن لم أكن سمعت النبي «7» صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الورود: الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى أنّ للنار- أو لجهنم- ضجيجا لمن تردهم ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» . وأخبرنا شعيب بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدّثنا روح بن عبدان قال: حدّثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق ما رأى ابن عباس يقول ابن عباس: الورود الدخول ويقول نافع ليس الورود الدخول فتلا
ابن عباس حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «1» أدخل هؤلاء أم لا؟ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ «2» أدخل هؤلاء أم لا؟ والله أنا وأنت فسنردها، وأنا أرجو أن يخرجني الله وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك. وبإسناده عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد إلّا لم يلج النار إلّا تحلّة القسم ثم قرأ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. وبإسناده عن روح قال: حدّثنا شعبة قال: أخبرني إسماعيل السدىّ عن مرّة الهمداني عن ابن مسعود في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال: يردونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم. وبه عن روح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف، تمرّ الطائفة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثمّ يمرّون والملائكة يقولون: اللهمّ سلّم سلّم. أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الأصبهاني قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الهروي قال: حدّثنا الحسين بن إدريس قال: حدّثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن سفيان بن عيينة عن رجل عن الحسن قال: قال رجل لأخيه: أي أخ هل أتاك أنّك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنّك خارج منها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك إذا؟ قال: فما رؤي ضاحكا حتى مات. وبإسناده عن عبد الله بن المبارك عن مالك بن معول عن أبي إسحاق عن ابن ميسرة أنّه أوى إلى فراشه فقال: يا ليت أمي لم تلدني، فقالت امرأته: يا أبا ميسرة، إنّ الله سبحانه قد أحسن إليك، هداك إلى الإسلام فقال: أجل، ولكنّ الله قد بيّن لنا أنّا واردو النار ولم يبيّن لنا أنّا صادرون منها، وأنشد في معناه: لقد أتانا ورود النار ضاحية ... حقّا يقينا ولمّا يأتنا الصّدر «3» فإن قيل: فخبّرونا عن الأنبياء هل يدخلون النار؟ يقال لهم: لا تطلق هذه اللفظة بالتخصيص فيهم بل نقول: إنّ الخلق جميعا يردونها. فإن احتجّوا بقوله وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «4» يقال لهم: إنّ موسى لم يمرّ على تلك البئر،
وإنّما استقى لابنتي شعيب وروى الأغنام وأقام، وهو معنى الدخول، والعرب تعبر عن الحي وأماكنهم بذكر الماء، فتقول: ماء بني فلان. فإن قيل: فكيف يجوز أن يدخلها من قد أخبر الله سبحانه أنّه لا يسمع حسيسها ولا يدخلها؟ قيل: إن الله سبحانه أخبر عن وقت كونهم في الجنة أنّهم لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها فيجوز أن يكونوا قد سمعوا ذلك قبل دخولهم الجنة لأن الله سبحانه لم يقل: لم يسمعوا حسيسها ويجوز أن لا يسمعوا حسيسها عند دخولهم إياها إذ الله عزّ وجلّ قادر على ان يجعلها عليهم بردا وسلاما. وكذلك تأويل قوله لا يدخلون النّار أي لا يخلدون فيها، أو لا يتألّمون ويتأذّون بها، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا مؤمّل بن إسماعيل عن أبي هلال عن قتادة عن أنس في قول الله سبحانه إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «1» فقال: إنّك من تخلّد في النّار فقد أخزيته. والدليل على أنّ الخلق جميعا يدخلون النار ثمّ ينجي الله المؤمنين بعضهم سالمين غير آلمين وبعضهم معذّبين معاقبين ثم يدخلهم جميعا الجنة برحمته، ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا حاجب بن محمد قال: حدّثنا محمد بن حامد الأبيوردي قال: حدّثنا أبو سعيد عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي أرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرا والحديبية قالت: قلت: يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا؟ قال: أفلم تسمعيه يقول ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا!؟ «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان قال: أخبرنا جبغوية بن محمد قال: أخبرنا صالح بن محمد بن عبد العزيز بن المسيّب عن الربيع بن بدر عن أبي مسعود عن العباس عن كعب أنّه قال في هذه الآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال: ترفع جهنّم يوم القيامة كأنّها متن اهالة وتستوي أقدام الخلائق عليها، فينادي مناد أن خذي أصحابك ودعي أصحابي، فتخسف بهم وهي أعرف بهم من الوالدة بولدها، ويمرّ أولياء الله عزّ وجلّ بندي ثيابهم، وقال خالد بن معدان: يقول أهل الجنة: ألم يعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال: بلى ولكنّكم مررتم بها وهي خامدة. وروى خالد بن أبي الدريك عن يعلى بن منبّه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» «3» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا أحمد بن عبد الحميد الحارثي قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّاد عن يحيى بن يمان عن عثمان الأسود عن مجاهد في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قال: من حمّ من المسلمين فقد وردها. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا يحيى بن سعيد القطان قال: حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار من قال: لا إله إلّا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلّا الله وكان في قليه من الخير ما يزن برّة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلّا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة» «1» . ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا يعني اتقوا الشرك وهم المؤمنون، وفي مصحف عبد الله: ثَمَّ نُنَجِّي بفتح الثاء يعني هناك وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ أي الكافرين فِيها في النار جِثِيًّا جميعا، وقيل: على الرّكب. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا سعيد بن عامر عن حشيش أبي محرز قال: سمعت أبا عمران الجوني يقول: هبك ننجو بعد كم ننجو؟ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر بن الحرث ودونه من قريش لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة، وكان المشركون يرجّلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً منزلا ومسكنا، وقرأ أهل مكة مُقاماً بالضّم أي إقامة وَأَحْسَنُ نَدِيًّا يعني مجلسا، ومثله النادي، ومنه دار الندوة لأنّ المشركين كانوا يجلسون فيها ويتشاورون في أمورهم، قال الله تعالى مجيبا لهم وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً أي متاعا، وقال ابن عباس: هيئة وقال مقاتل: ثيابا. وَرِءْياً أي منظرا، وقرأ أبي: وزيّا بالزاي وهو الهيئة. قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي فليدعه في طغيانه ويمهله في كفره حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من العذاب إِمَّا الْعَذابَ في الدنيا وَإِمَّا السَّاعَةَ يعني القيامة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً أهم أم المؤمنون. وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً أي إيمانا ويقينا يعني المؤمنين، يقال: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ
اهْتَدَوْا بالمنسوخ هُدىً بالناسخ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا عاقبة ومرجعا أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا أبو معاوية قال: حدّثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خبّاب بن الأرتّ قال: كان لي دين على العاص «1» فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد قلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإنّي إذا متّ ثم بعثت جئتني، وسيكون لي ثمّ مال وولد فأعطيك، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال الكلبي ومقاتل: كان خبّاب بن الأرتّ قينا وكان يعمل للعاص بن وائل السهمي وكان العاص يؤخّر حقّه الشيء بعد الشيء إلى الموسم، فكان حسن الطلب فصاغ له بعض الحلي فأتاه يتقاضاه الأجرة فقال العاص: ما عندي اليوم ما أقضيك، فقال له الخباب: لست مفارقك حتى تقضي، فقال له العاص: يا خبّاب ما لك؟ ما كنت هكذا وإن كنت حسن الطلب والمخالطة، فقال خبّاب: ذلك أنّي كنت على دينك فأمّا اليوم فأنا على الإسلام مفارق لدينك فلا، قال: أفلستم تزعمون أنّ في الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال الخبّاب: بلى، قال: فأخّرني حتى أقضيك في الجنة- استهزاء- فو الله لئن كان ما تقول حقا فإنىّ لأفضل فيها نصيبا منك، فأنزل الله سبحانه أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا يعني العاص وَقالَ لَأُوتَيَنَّ لأعطين «2» مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ قال ابن عباس: أنظر في اللوح المحفوظ؟ وقال مجاهد: أعلم علم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني أم قال: لا إله إلا الله، وقال قتادة: يعني عملا صالحا قدّمه، وقال الكلبي: عهد إليه أنّه يدخله الجنة. كَلَّا ردّ عليه يعني لم يفعل ذلك سَنَكْتُبُ سنحفظ عليه ما يَقُولُ «3» يعني المال والولد. وَيَأْتِينا فَرْداً في الآخرة ليس معه شيء. وَاتَّخَذُوا يعني مشركي قريش مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يعني الأصنام لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ في الآخرة ويتبرءون منهم وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أعداء وقيل: أعوانا. أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ يعني سلّطناهم عليهم وذلك حين قال لإبليس وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ الآية. تَؤُزُّهُمْ أَزًّا قال ابن عباس: تزعجهم ازعاجا من الطاعة إلى المعصية. وقال الضحاك:
يأمرهم بالمعاصي أمرا، وقال سعيد بن جبير: تغريهم إغراء وقال مجاهد: تشليهم أشلاء وقال الأخفش: توهجهم، وقال المؤرّخ: تحرّكهم، وقال أبو عبيد: تغويهم وتهيجهم، وقال القتيبي: تخرجهم إلى المعاصي، وأصله الحركة والغليان ومنه الخبر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولجوفه أزيز كأزيز المرجل» «1» . فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بالعذاب إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا قال الكلبي: يعني الليالي والأيام والشهور والسنين، وقيل: الأنفاس، يقال: إنّ المأمون كان يقرأ سورة مريم وعنده الفقهاء فلمّا انتهى إلى هذه الآية التفت إلى محمد بن السماك مشيرا عليه بأن يعظه فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد. يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ يعني الموحّدين إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي جماعات وهو جمع وافد مثل راكب وركب وصاحب وصحب. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمد قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا..... «2» ... وهب بن جرير عن شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن رجل عن أبي هريرة يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: على الإبل، وقال ابن عباس: ركبانا يؤتون بنوق عليها رحال الذهب، وأزمّتها الزبرجد فيحملون عليها، وقال علىّ بن أبي طالب: «ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها ذهب، ونجائب سرجها يواقيت، إن همّوا بها سارت، وإن همّوا بها طارت» «3» . أخبرنا عبد الله بن حامد «4» ، أخبرنا أحمد بن شاذان عن صعوبة بن محمد، حدّثنا صالح ابن محمد عن إبراهيم بن عن صالح بن صدقة أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: قلت: يا رسول الله إني رأيت وفود الملوك فلم أر وفدا إلّا ركبانا فما وفد الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي إذا كان المنصرف من بين يدي الله تلقّت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزمّتها الذهب، على كلّ مركب حلّة لا تساويها الدنيا، فيلبس كلّ مؤمن حلّته ثم يستوون على مراكبهم فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة تتلقّاهم الملائكة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ «5» .
[سورة مريم (19) : الآيات 88 إلى 98]
وقال الربيع: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً قال: يفدون إلى ربهم فيكرمون ويعطون ويحيون ويشفعون وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ يعني الكافرين إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً قال المفسّرون: عطاشى، مشاة على أرجلهم قد تقطّعت أعناقهم من العطش، والورد جماعة يردون الماء، اسم على لفظ المصدر لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني لا إله إلّا الله، ومن في موضع النصب على الاستثناء. قال ابن عباس: يعني لا يشفع إلّا من شهد أن لا إله إلّا الله تبرّأ من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله عزّ وجلّ. وقال بعضهم: معناه إلّا لمن اتخذ، نظيره وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى قال مقاتل إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعني اعتقد بالتوحيد. وقال قتادة: عمل بطاعة الله، وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله علائم يقول لأصحابه ذات يوم: «أيعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عند الله عهدا؟ قالوا: كيف ذاك؟ قال: يقول كلّ صباح ومساء: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ إنّي أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك، وأنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير، وإنّي لا أثق إلّا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفّينيه يوم القيامة إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الذين لهم عند الرّحمن عهد فيدخلون الجنة «1» ؟» . [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 98] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً يعني اليهود والنصارى، ومن زعموا أنّ الملائكة بنات الله، وقرأ حمزة والكسائي وُلْداً بضم الواو وجزم «2» اللام وهي أربعة مواضع هاهنا، وحرف في
سورة الزخرف، وحرف في سورة نوح، والباقون بالفتح، وهما لغتان مثل العرب والعرب والعجم والعجم. قال الشاعر: فليت فلانا كان في بطن أمّه ... وليت فلانا كان ولد حمار «1» مخففا وقيس بجعل الولد بالضم جمعا والولد بالفتح واحدا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا قال ابن عباس: منكرا، وقال قتادة ومجاهد: عظيما، وقال الضحاك: فظيعا وقال مقاتل: معناه لقد قلتم قولا عظيما، نظيره قوله أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً «2» والإدّ في كلام العرب أعظم الدواهي، قال رؤبة: نطح شىّ أد رؤوس الأداد وفيه ثلاث لغات: إدّ بالكسر وهي قراءة العامة، وأدب الفتح وهي قراءة السلمي، وآد مثل ماد وهي لغة بعض العرب تَكادُ السَّماواتُ قرأ نافع والكسائي بالياء لتقديم الفعل، وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السموات يَتَفَطَّرْنَ يتشقّقن منه وقرأ «3» أبو عمرو ينفطرن بالنون من الانفطار وهو اختيار أبي عبد الله «4» لقوله عز وجل إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وقوله السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ الباقون بالتاء من التفطّر وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا قال ابن عباس: وقرأ مقاتل: وقطعا وقال عطاء: هدما، أبو عبيد: سقوطا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً يعني لأن دعوا، ومن قرأ جعلوا وقالوا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «5» ، قال ابن عباس وأبي بن كعب: فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلّا الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم وقالوا لله عزّ وجلّ ولد، ثم نفى سبحانه عن نفسه الولد فقال وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً يعني انه لا يفعل ذلك ولا يحتاج إليه ولا يوصف به إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لا ولدا لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أنفاسهم وأيامهم «6» فلا يخفى عليه شيء وَكُلُّهُمْ آتِيهِ جائيه يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً وحيدا فريدا بعمله ليس معه شيء من الدنيا. وأخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا محمد بن جعفر بن يزيد، حدّثنا أحمد بن عبيد
المؤدب، حدّثنا عبد الرزاق، وحدّثنا عبد الله، نبّأ محمد بن الحسن، نبّأ أحمد بن يوسف السلمي «1» ، نبّأ عبد الرزاق، حدّثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عزّ وجلّ: «كذبني عبدي وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إيّاي فأن يقول: لن يعيدنا كما بدأنا، وأمّا شتمه إياي فأن يقول: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كُفُواً أَحَدٌ» «2» . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي حبّا يحبّهم ويحبّبهم إلى عباده المؤمنين من أهل السموات والأرضين. أخبرنا عبد الخالق بن علىّ بن عبد الخالق أبو القاسم العاصي أنبأ أبو علي محمد بن أحمد بن حمزه عن الحسن الصوّاف «3» ببغداد، قال أبو جعفر الحسن بن علي الفارسي، عن إسحاق بن بشر الكوفي، عن خالد بن يزيد عن يزيد الزيات، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء عن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب: يا علي قل: «اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة، فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» الآية «4» . وأخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ عبدوس بن الحسين، نبّأ أبو حاتم بن أبي أويس، حدّثني مالك بن أنس عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: إذا أحبّ الله العبد قال لجبرئيل: يا جبرئيل قد أحببت فلانا فأحبّه، فيحبّه جبرائيل ثمّ ينادي في أهل السماء: إنّ الله عزّ وجلّ قد أحب فلانا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء ثم يضع له المحبّة في الأرض وإذا أبغض العبد، قال مالك: لا أحسبه إلّا قال في البغض مثل ذلك «5» . وأخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن يعقوب عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة في قوله سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا قال: إي والله ودّ في قلوب أهل الإيمان، وان هرم بن حيّان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله عزّ وجلّ بقلوب أهل الإيمان إليه حتّى يورثه مودّتهم ورحمتهم.
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ سهّلناه يعني القرآن بِلِسانِكَ يا محمد لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ يعني المؤمنين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا قال ابن عباس: شدادا في الخصومة وقال الضحاك: جدلا بالباطل، وقال مقاتل: خصما، وقال الحسن: صمّا، وقال الربيع: صمّ آذان القلوب، وهو جمع ألدّ يقال: رجل ألدّ إذا كان من عادته مخاصمة الناس. وقال مجاهد: الألدّ الظالم الذي لا يستقيم، وقال أبو عبيد: الألدّ الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل، قال الله تعالى وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ «1» . أخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأ أحمد بن محمد بن الحسين بن السوقي، نبّأ أبو الأزهر نبّأ أبو أسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» يقول: أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدّ الخصم. ثمّ خوّف أهل مكة فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ هل ترى، وقيل: تجد منهم مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً وهو الصوت الخفيّ، قال ذو الرمّة: وقد توجّس ركزا من سنابكها ... إذ كان صاحب أرض أو به الموم قال أبو عبيدة: الركز: الصوت والحركة الذي لا يفهمه «3» كركز الكتيبة، وأنشد بيت لبيد: وتوجّست ركز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها «4»
سورة طه
سورة طه وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا، وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة، ومائة وخمس وثلاثون آية «1» أخبرنا أبو الحسن عبد الرحيم «2» بن إبراهيم بن محمد العدل، نبّأ عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن الرازي، قال أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي وخشنام بن بشر بن العنبر قالا: قال إبراهيم بن المنذر الحرامي عن إبراهيم بن المهاجر قال: حدّثني عمر بن حفص ابن ذكوان عن مولى الحرقة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ الله عزّ وجلّ قرأ طه وياسين قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمّة تقول «3» عليها هذا، طوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا «4» . وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال أبو نصر منصور بن عبد الله السرخسي عن محمد بن الفضل عن إبراهيم بن يوسف عن المسيّب عن زياد «5» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلّا يس وطه» «6» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) قوله عزّ وجلّ طه قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء، وقرأ أهل المدينة والشام بين
الكسر والفتح فيهما، وقرأ الأعمش وحمزه والكسائي بكسر الهاء والطاء، وقرأ عاصم وابن كثير بالتفخيم فيهما وكلها لغات صحيحة «1» . أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عمر بن حميد «2» الأزدي عن محمد بن الجهم السمري، عن يحيى بن زياد الفرّاء عن عيسى بن الربيع عن زرّ بن حبيش قال: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود طه فقال له عبد الله: طه فقال له الرجل: يا أبا عبد الرّحمن أليس أمر أن يطأ قدميه؟ فقال عبد الله: طه، هكذا أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. واختلفوا في تفسيره، فروى عبد الله «3» بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هو كقولك: افعل، وقال مجاهد والحسن وعطاء والضحاك: معناه يا رجل، وقال عكرمة: هو كقولك: يا رجل بلسان الحبشة يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقال قتادة: هو يا رجل بالسريانيّة، وقال سعيد بن جبير: يا رجل بالنبطية. وروى السدّي عن أبي مالك وعكرمة: طه، قالا «4» : يا فلان، وقال الكلبي: هو بلغة عكّ: يا رجل، قال شاعرهم: ان السفاهة طه في خلائقكم ... لا قدّس الله أرواح الملاعين «5» وقال آخر: هتفت بطه في القتال فلم يجب ... فخفت لعمرك أن يكون موائلا «6» مقاتل «7» بن حيان معناه: طئ الأرض بقدميك، يريد في التهجّد، وقال محمد بن كعب القرظي: أقسم الله تعالى بطوله وهدايته، وموضع القاسم قوله ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. وقال جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه) : طه: طهارة أهل بيت محمد «8» صلّى الله عليه وسلّم ثم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وقيل: الطاء شجرة طوبى، والهاء هاويه. والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه فكأنّه أقسم بالجنة والنار.
وقال سعيد بن جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب، والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل: الطاء يا طامع الشفاعة للأمة، والهاء يا هادي الخلق إلى الملّة. وقيل: الطاء من الطهارة، والهاء: من الهداية، وكأنه تعالى يقول لنبيّه صلى الله عليه وسلم: يا طاهرا من الذنوب، ويا هاديا إلى علّام الغيوب، وقيل: الطاء: طبول الغزاة، والهاء: هيبتهم في قلوب الكفار، قال الله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ «1» . وقال: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وقيل: الطاء: طرب أهل الجنة «2» ، والهاء: هوان أهل النار في النار، وقيل: الطاء تسعة في حساب [الجمل] والهاء خمسة، أربعة عشر، ومعناها يا أيّها البدر ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى قال مجاهد: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل «3» ذلك بالفرض، وأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الكلبي: لمّا نزل على رسول الله الوحي بمكّة اجتهد في العبادة واشتدّت عبادته فجعل يصلّي الليل كله «4» ، فكان بعد نزول هذه الآية ينام ويصلّي. أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الهروي عن بشر بن موسى الحميدي عن سفيان بن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تورمت قدماه، وقيل له: يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: أفلا أكون عَبْداً شَكُوراً «5» . وقال مقاتل: قال أبو جهل بن هشام والنصر بن الحرث «6» للنبىّ صلّى الله عليه وسلّم: إنّك لتسعى بترك ديننا- وذلك لما رأوا من طول عبادته وشدّة اجتهاده- فإننا نراه أنّه ليس لله وأنّك مبعوث إلينا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل بعثت رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، قالوا: بل أنت شقيّ، فأنزل الله تعالى طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وأصل «7» لكن أنزلناه عظة «8» لِمَنْ يَخْشى «9» . قال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إلّا تذكرة لمن يخشى ولئلّا تشقى، تنزيلا بدل من قوله تَذْكِرَةً.
وقرأ أبو الشامي: تنزيل بالرفع يعني هذا تنزيل مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى يعني العالية الرفيعة وهو جمع العليا كصغرى وصغر وكبرى وكبر الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى يعني التراب الذي تحت الأرضين وهو التراب الندي، تقول العرب: شبر ندىّ وسهر نديّ وسهر مرعىّ. قال ابن عباس: الأرض على ظهر النون والنون على بحر وإنّ طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش على صخرة خضراء، وخضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن في قصة لقمان فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ الصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى وَما تَحْتَ الثَّرى لا يعلمه إلّا الله عزّ وجلّ، وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله عزّ وجلّ البحار بحرا واحدا سالت في جوف ذلك الثور، فإذا وقعت في جوفه يبست. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ تعلن فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا حامد «1» أخبرنا بشر بن موسى عن عبد الله بن صالح العجلي، حدّثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة «2» عن ابن عباس في قوله يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى قال: وأخفى حديث نفسك نفسك. وأخبرني عبد الله بن حامد عن أبي الطاهر محمد بن الحسن، حدّثنا إبراهيم بن أبي طالب عن محمد بن النعمان بن مسيل، حدّثنا يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحاك عن ابن عباس قال: السرّ ما أسررت في نفسك، وأخفى أخفى من السّر، ما ستحدّث به نفسك، ما لا تعلم أنّك تحدّث به نفسك. وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال: السر ما تسرّ في نفسك، وأخفى من السرّ ما لم يكن وهو كائن، قال: وأنت تعلم ما تسرّ اليوم ولا تعلم ما تسرّ غدا، والله عزّ وجلّ يعلم ما أسررت اليوم وما تسرّ غدا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: السرّ ما أسرّ ابن آدم في نفسه، وأخفى ما خفي على ابن آدم ممّا هو فاعله قبل أن يعلمه، فالله يعلم ذلك كله، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة. وقال مجاهد: السرّ العمل الذي يسرّون من الناس، وأخفى الوسوسة، وقال زيد بن أسلم: معناه يعلم أسرار العباد، وأخفى سرّه فلا يعلم. وقال الحسن: السرّ ما أسرّ الرجل إلى غيره، وأخفى من ذلك ما أسرّه في نفسه.
[سورة طه (20) : الآيات 9 إلى 23]
ثم وحّد نفسه فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى. [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 23] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) وَهَلْ أَتاكَ يا محمد حَدِيثُ مُوسى قال أهل المعاني: هو استفهام اثبات «1» مجازه: أليس قد أتاك؟. وقال بعضهم: معناه: وقد أتاك، وقال: لم يكن قد أتاه «2» ثم أخبره. إِذْ رَأى ناراً ليلة الجمعة، وقال وهب بن منبّه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وقد جاد «3» عن الطريق، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر نارا من بعيد عن يسار الطريق فَقالَ لِأَهْلِهِ لامرأته امْكُثُوا أقيموا مكانكم إِنِّي آنَسْتُ أبصرت ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ يعني شعلة من النار، والقبس: ما اقتبس من خشب أو قصب «4» أو غير ذلك أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً يعني من يدلّني على الطريق فَلَمَّا أَتاها رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنّها نار بيضاء تتقدّم «5» ، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما فخاف وتعّجب، فألقيت عليه السكينة ثمّ نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ وإنّما كرّر الكناية لتوكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة، ونظيره قوله للرسول عليه السلام وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ «6» . فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وكان «7» السبب في أمره بخلع نعليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد «8» ،
قال: أخبرنا أحمد بن يحيى العبيدي قال: حدّثنا أحمد بن نجدة قال: حدّثنا الحمّاني قال: حدّثنا عيسى بن يونس «1» عن حميد بن عبد الله عن عبد الله بن الحرث العنبسي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ قال: كانتا من جلد حمار ميّت «2» ، وفي بعض الأخبار: غير مدبوغ «3» ، وقال الحسن: ما بال خلع النعلين في الصلاة وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نعليه؟ وإنّما أمر موسى عليه السلام أن يخلع نعليه إنّهما كانتا من جلد حمار، وقال أبو الأحوص: أتى عبد الله أبا موسى في داره فأقيمت الصلاة فقال لعبد الله تقدّم، فقال له عبد الله: تقدّم أنت في دارك فتقدّم فنزع نعليه، فقال له عبد الله: أبِالْوادِ الْمُقَدَّسِ أنت؟. وقال عكرمة ومجاهد: إنّما قال له: اخلع نعليك كي تمسّ راحة قدميك الأرض الطيّبة وينالك بركتها لأنّها قدّست مرّتين. وقال بعضهم: أمر بذلك لأنّ الحفوة من أمارات التواضع، وكذلك فعل السّلف حين طافوا بالبيت. قال سعيد بن جبير: قيل له: طأ الأرض حافيا، كيما يدخل كعبه من بركة الوادي. وقال أهل الإشارة: معناه: فرّغ قلبك من شغل الأهل والولد. قالوا: وكذلك هو في التعبير من رأى عليه نعلين تزوّج. فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ المطهّر طُوىً اسم الوادي، وقال الضحاك: مستدير عميق مثل الطوى في استدارته، وقيل: أراد به إنك تطوي الوادي، وقيل: هو الليل، يقال: أتيتك طوى من الليل، وقيل: طويت عليه البركة طيّا، وقرأ عكرمة: طِوىً بكسر الطاء وهما لغتان، وقرأ أهل الكوفة والشام: طُوىً بالتنوين وإلّا جرّا لتذكيره وتحقيقه، الباقون من غير تنوين، قال: لأنّه معدول عن طاو أو مطوىّ، فلمّا كان معدولا عن وجهه كان مصروفا عن إعرابه مثل عمر وزفر وقثم. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك، وقرأ حمزة: وإنّا اخترناك بلفظ الجمع على التعظيم فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ولا تعبد غيري وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي قال مجاهد: أَقِمِ الصَّلاةَ لتذكرني فيها، وقال مقاتل: إذا تركت الصلاة ثمّ ذكرتها فأقمها، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد «4» قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا إبراهيم بن
مرزوق قال: حدّثنا سعيد بن عامر عن سعيد عن قتادة عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها، إنّ الله سبحانه يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «1» . وقيل: هو مردود على الوحي يعني فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى واستمع لذكري. إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها فأكاد «2» صلة، كقول الشاعر: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ... فما أن يكاد قرنه يتنفس «3» يعني: فما يتنفس من خوفه، والفائدة في الإخفاء التخويف والتهويل، قال ابن عباس وأكثر المفسّرين: معناه أَكادُ أُخْفِيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف أبي، وفي مصحف عبد الله: أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق؟. وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب: فإن قيل: كيف يخفي الله من نفسه وهو خلق الإخفاء؟ قلنا: إنّ الله سبحانه كلّم العرب بكلامهم الذي يعرفونه، ألا ترى أنّ الرجل يعذل أخاه فيقول له: أذعت سرّي، فيقول مجيبا له معتذرا إليه: والله لقد كتمت سرّك نفسي فكيف أذعته؟! معناه عندهم: أخفيته الإخفاء كله، وقال الشاعر: أيام تعجبني هند وأخبرها ... ما أكتم النّفس من حاجي وإسراري «4» فكيف يخبرها ما يكتم عن نفسه؟ فمجاز الآية على هذا. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير: أَخْفِيها بفتح الألف أي أظهرها وأبرزها يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته، قال امرؤ القيس: خفاهنّ من إنفاقهنّ كأنّما ... خفاهنّ ودق من سحاب مركّب «5» أي أخرجهن. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي تعمل من خير وشرّ فَلا يَصُدَّنَّكَ يصرفنّك عَنْها يعني عن الإيمان بالساعة مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ مراده فَتَرْدى فتهلك. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى قالَ هِيَ عَصايَ وكانت لها شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة في قول مقاتل «6» أَتَوَكَّؤُا اعتمد عَلَيْها إذا مشيت وإذا أعييت وعند الوثبة
والطفرة. وَأَهُشُّ وأخبط بِها الشجر ليتناثر ورقها فتأكل غنمي، وقرأ عكرمة «وأهسّ» بالسين يعني وازجر بها الغنم، وذلك أن العرب تقول: هس هس، وقال النضر بن شمّيل: سألت الخليل عن قراءة عكرمة فقال: العرب تعاقب بين الشين والسين في كثير من الكلام، كقولهم: شمّت العاطس وسمّته، وشن عليه الدرع وسن، والروشم والروسم للختم. وَلِيَ فِيها مَآرِبُ حوائج ومنافع، واحدتها مأربة ومأربة بفتح الراء وضمّها أُخْرى ولم يقل أخر لرؤوس الآي. قال ابن عباس: كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه، فجعلت تماشيه وتحدّثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء، وكان يردّ بها غنمه، وتقيه الهوام بإذن الله، وإذا ظهر له عدّو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد الإسقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل تضيء له ويهتدي بها، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت ورقها وأثمرت ثمرها، فهذه المآرب. قال الله سبحانه أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها من يده فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى تمشي مسرعة على بطنها. قال ابن عباس: صارت حيّة صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورّم حتى صارت ثعبانا، وهو أكبر ما يكون من الحيّات، فلذلك قال في موضع كَأَنَّها جَانٌّ وهو أصغر الحيّات، وفي موضع ثعبان وهو أعظمها، فالجانّ عبارة عن ابتداء حالها، والثعبان إخبار عن انتهاء حالها، وقيل: أراد أنّها في عظم الثعبان وسرعة الجانّ، فأمّا الحيّة فإنها تجمع الصغر والكبر والذكر والأنثى. قال فرقد السخي: كان ما بين جنبيها أربعين ذراعا فلما ظهر في موسى من الخوف ونفار الطبع لمّا رأى من الأعجوبة قالَ الله تعالى له خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا أي إلى سيرتها وهيئتها الْأُولى نردّها عصا كما كانت وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ يعني إبطك. وقال الكلبي: أسفل من الإبط، وقال مجاهد: تحت عضدك، وقال مقاتل: يعني مع جناحك وهو عضده تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ برص ولا داء آيَةً أُخْرى سوى العصا، فأخرج يده من مدرعة له مضرّبة بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى وكان من حقّه الكبر وإنّما قال: الْكُبْرى وفاقا لرءوس الآي، وقيل: فيه إضمار معناه لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الآية الكبرى «1» دليله قول ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته.
[سورة طه (20) : الآيات 24 إلى 52]
[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 52] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى عصى وعلا وتكبّر وكفر، فادعه إلى عبادتي، واعلم بأنّي قد ربطت «1» على قلبه، قال: فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطت على قلبه؟ فأتاه ملك من خزّان الريح فقال: انطلق، فإنّا اثنا عشر من خزّان الريح منذ خلقنا الله سبحانه نحن في هذا فما علمناه، فامض لأمر الله، فقال موسى عند ذلك رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وسّع وليّن قلبي بالإيمان والنبوّة وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وسهّل عليّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون وَاحْلُلْ وابسط وافتح عُقْدَةً مِنْ لِسانِي قال ابن عباس: كانت في لسانه رتّة، وذلك أنّه كان في حجر فرعون ذات يوم فلطمه لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته: انّ هذا عدوّي، فقالت آسية: على رسلك إنّه صبي لا يفرّق بين الأشياء ولا يميّز، ثم جاءت بطستين فجعلت في أحدهما الجمر وفي الأخرى الجوهر ووضعتهما بين يدي موسى، فأخذ جبرئيل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه فتلك الرتّة يَفْقَهُوا قَوْلِي كي يفهموا كلامي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً معينا وظهيرا مِنْ أَهْلِي ثمّ بين من هو فقال هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي قوّ به ظهري وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي يعني النبوّة وتبليغ الرسالة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً نصلّي لك وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن عامر: اشْدِدْ بِهِ أَزْرِي بفتح الألف وَأُشْرُكْهُ بضم الألف
على الجزاء والجواب حكاية عن موسى أنّي أفعل ذلك، قال الله سبحانه قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى قد أعطيت مرادك وسؤالك يا موسى. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى قبل هذا وهي إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ وحي إلهام مثل وحي النحل ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ أن اجعليه فِي التَّابُوتِ. قال مقاتل: والمؤمن الذي صنع التابوت من آل فرعون اسمه خربيل، وقيل: إنّه كان من بردي فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ يعني نهر النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يعني شاطئ النهر، لفظه أمر ومعناه خبر مجازه: حتى يلقيه اليمّ بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ يعني فرعون، فاتّخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا محلوجا، ووضعت فيه موسى، وقيّرت رأسه وخصاصه- يعني شقوقه- ثمّ ألقته في النّيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا بتابوت يجيء به الماء، فلمّا رأى ذلك أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ من أصبح الناس وجها، فلمّا رآه فرعون أحبّه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله سبحانه وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي قال ابن عباس: أحبّه وحبّبه إلى خلقه، قال عطيّة العوفي: جعل عليه مسحة من جمال لا تكاد يصبر عنه من رآه، قال قتادة: ملاحة كانت في عيني موسى، ما رآه أحد إلّا عشقه. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي ولتربّى وتغذّى بمرأى ومنظر منّي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ واسمها مريم متعرّفة خبره فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ يرضعه ويضمّه إليه، وذلك أنّه كان لا يقبل ثدي امرأة، فلمّا قالت لهم أخته ذلك قالوا: نعم، فجاءت بالأمّ فقبل ثديها فذلك قوله فَرَجَعْناكَ فرددناك إِلى أُمِّكَ. وفي مصحف أبي فرددناك إلى أمّك كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك وبقائك وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً قال ابن عباس: قتل قبطيا كافرا. قال كعب الأحبار: كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي من غمّ القتل وكربته وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. قال ابن عباس: اختبرناك اختبارا. وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل، ابتليناك ابتلاء. وقال مجاهد: أخلصناك إخلاصا فَلَبِثْتَ سِنِينَ «1» يعني عشر سنين فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهي بلدة شعيب على ثلاث «2» مراحل من مصر، قال وهب: لبث عند شعيب ثمان وعشرين سنة، عشر سنين منها مهر امرأته صفيرا بنت شعيب وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له. ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى. قال مقاتل: على موعد، قال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدّرت أنك تجيء.
قال عبد الرّحمن بن كيسان: على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء «1» ، قال الكلبي: وافق الكلام عند الشجرة. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اخترتك واصطفيتك واختصصتك «2» بالرسالة أو النبوّة اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي اليد والعصا وَلا تَنِيا قال ابن عباس: لا تضعفا، وقال السدّي: لا تفترا، وقال محمد بن كعب: لا تقصّرا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا، وفي قراءة ابن مسعود: ولا تهنا. اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً قال ابن عباس: لا تعنّفا في قولكما ولا تغلّظا، وقال السدّي وعكرمة: كنّياه قولا له: يا أبا العباس، وقيل: يا أبا الوليد. وقال مقاتل: يعني بالقول اللين هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى. وقال أهل المعاني: معناه الطفا له في قولكما فإنّه ربّاك وأحسن تربيتك وله عليك حقّ الأبوّة فلا تجبهه بمكروه في أوّل قدومك عليه، يقال: وعده على قبول الإيمان شبابا لا يهرم وملكا لا ينزع عنه إلّا بالموت، ويبقى عليه لذّة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته. قال المفسّرون: وكان هارون يومئذ بمصر فأمر الله عزّ وجلّ أن يأتي هو وهارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى فتلقّاه إلى مرحلة وأخبره بما أوحي إليه فقال له موسى: إن الله سبحانه أمرني أن آتي فرعون فسألت ربّي عزّ وجلّ أن يجعلك معي. وقوله لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أي يسلم. فإن قيل: كيف قال: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى وعلمه سابق في فرعون أنّه لا يتذكّر ولا يخشى؟. قال الحسين «3» بن الفضل: هو مصروف إلى غير فرعون، ومجازه: لكي يتذكّر متذكّر أو يخشى خاش إذا رأى برّي وإلطافي بمن خلقته ورزقته، وصححت جسمه وأنعمت عليه ثم ادّعى الربوبية دوني. وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: لعلّ هاهنا من الله واجب، ولقد تذكّر فرعون حيث لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك قوله حين ألجمه الغرق في البحر آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ «4» .
سمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول سمعت علىّ «1» بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول- وقرأ هذه الآية-: هذا رفقك بمن يقول: أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت الإله؟ قال أبو القاسم الحسين «2» فبنيت عليه ألفاظا اقتديت به فيها فقلت: هذا رفقك بمن ينافيك فكيف رفقك بمن يصافيك؟ هذا رفقك بمن يعاديك فكيف رفقك بمن يواليك؟ هذا رفقك بمن يسبّك فكيف رفقك بمن يحبّك؟ هذا رفقك بمن يقول لك ندّا فكيف رفقك بمن يقول فردا؟ هذا رفقك بمن ضلّ فكيف رفقك بمن ذل «3» هذا رفقك بمن اقترف فكيف رفقك بمن اعترف؟ هذا رفقك بمن أصرّ فكيف رفقك بمن أقرّ؟ هذا رفقك بمن استكبر فكيف رفقك بمن استغفر؟ قالا يعني موسى وهارون رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا. قال ابن عباس: يعجّل بالقتل والعقوبة، وقال الضحّاك: تجاوز الحدّ، وقيل: يغلبنا أَوْ أَنْ يَطْغى يتكبّر ويستعصي علينا. قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما بالدفع عنكما أَسْمَعُ قولكما وقوله وَأَرى فعله وفعلكما فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي ولا تتعبهم في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند آل فرعون في عذاب شديد يقتل أبناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل واللبن والطين وبناء المدائن ما لا يقدرون عليه. قال موسى قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ قال فرعون: وما هي؟ قال: فأدخل يده في جيب قميصه ثمّ أخرجها فإذا هي بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس، غلبت نور الشمس، فعجب منها ولم يره العصا إلّا بعد ذلك يوم الزينة. وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يعني من أسلم إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ أنبياء الله وَتَوَلَّى أعرض عن الإيمان، ورأيت في بعض التفاسير أنّ هذه أرجى آية للموحّدين في القرآن. قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى يعني يا موسى وهارون فذكر موسى دون هارون لرؤوس الآي. قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ قال الحسين وقتادة: أعطى كلّ شيء صلاحه وهداه لما يصلحه.
[سورة طه (20) : الآيات 53 إلى 54]
وقال مجاهد: لم يجعل الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كلّ شي فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. وقال عطيّة: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ يعني صورته. وقال الضحّاك: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، يعني اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للبصر والأذن للسمع. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الرّحمن بن محمد الزهري قال: حدّثنا أحمد ابن سعيد قال: حدّثنا سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن أبي صالح، أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى قال: هداه لمعيشته. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ يعني شكله، للإنسان الزوجة وللبعير الناقة وللفرس الرمكة وللحمار الأتان ثُمَّ هَدى أي عرّف وعلّم وألهم كيف يأتي الذكر الأنثى في النكاح «1» . وقرأ نصير خَلَقَهُ بفتح اللام على الفعل. قالَ فرعون فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى وإنّما قال هذا فرعون لموسى حين قال موسى: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، فقال فرعون حينئذ له: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى التي ذكرت؟ ف قالَ موسى عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ، وإنّما ردّ موسى علم ذلك إلى الله سبحانه لأنّه لم يعلم ذلك، وإنّما نزلت التوراة عليه بعد هلاك فرعون وقومه لا يَضِلُّ رَبِّي أي لا يخطئ وَلا يَنْسى فيتذكّر، وقال مجاهد: هما شيء واحد. [سورة طه (20) : الآيات 53 الى 54] الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً قرأه أهل الكوفة بغير ألف أي فرشا، وقرأ الباقون مهادا أي فراشا واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ولم يختلفوا فيه أنّه بالألف. وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي أدخل وبيّن وطرّق لكم فيها طرقا. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى مختلف الألوان والطعوم والمنافع من بين أبيض وأحمر وأخضر وأصفر، ووهب كلّ صنف زوجا، ومنها للدوابّ ومنها للناس ثمّ قال كُلُوا وَارْعَوْا أي ارتعوا أَنْعامَكُمْ يقول العرب: رعيت الغنم فرعت لازم ومتعدّ. إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول، واحدها نهية، سمّيت بذلك لأنّها تنهى صاحبها عن القبائح والفضائح وارتكاب المحظورات والمحرّمات.
[سورة طه (20) : الآيات 55 إلى 76]
وقال الضحّاك: لِأُولِي النُّهى يعني الذين ينتهون عمّا حرّم عليهم. وقال قتادة: لذوي الورع، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لذوي التقى. [سورة طه (20) : الآيات 55 الى 76] مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) مِنْها أي من الأرض خَلَقْناكُمْ يعني أباكم آدم. وقال عطاء الخراساني: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة، فيخلق من التراب، ومن النطفة فذلك قوله سبحانه مِنْها خَلَقْناكُمْ. وَفِيها نُعِيدُكُمْ أي عند الموت والدفن، قال عليّ: «إن المؤمن إذا قبض الملك روحه انتهى به إلى السماء، وقال: يا ربّ عبدك فلان قبضنا نفسه فيقول: ارجعوا فإنّي وعدته: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ فإنّه يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين» «1» . وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى مرّة أخرى بعد الموت عند البعث.
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ يعني فرعون آياتِنا كُلَّها يعني اليد والعصا والآيات التسع فَكَذَّبَ بها وزعم أنّها سحر وَأَبى أن يسلم قالَ فرعون أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا يعني مصر بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً فاضرب بيننا وبينك أجلا وميقاتا لا نُخْلِفُهُ لا نجاوزه نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً مستويا. قرأ الحسن وعاصم والأعمش وحمزة سوى بضم السين، الباقون: بكسر وهما لغتان مثل عدي وعدي، وطوى وطوى. قال قتادة ومقاتل: مكانا عدلا بيننا وبينك، وقال ابن عباس: صفا، وقال الكلبي: يعني سوى هذا المكان، وقال أبو عبيد والقيسي: وسطا بين الفريقين، وقال موسى بن جابر الحنفي: وإن أبانا كان حلّ ببلدة ... سوىّ بين قيس قيس عيلان والفزر الفزر: سعد بن زيد مناة. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ قال ابن عباس وسعيد بن جبير: يعني يوم عاشوراء. وقال مقاتل والكلبي: يوم عيد لهم في كل سنة يتزيّنون ويجتمعون فيه. وروى جعفر عن سعيد قال: يوم سوق لهم، وقيل: هو يوم النيروز. وقرأ الحسن وهبيرة عن حفص يَوْمَ الزِّينَةِ بنصب الميم أي في يوم، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء والخبر. وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وقت الضحوة، يجتمعون نهارا جهارا ليكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ حيله وسحرته ثُمَّ أَتى الميعاد. قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعون ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا، وقيل: كانوا أربعمائة. قالَ موسى للسحرة لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ قرأ أهل: الكوفة فَيُسْحِتَكُمْ بضم الياء «1» وكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتح الياء والحاء، وهما لغتان: سحت وأسحت. قال مقاتل والكلبي: فيهلككم، وقال قتادة: فيستأصلكم، وقال أبو صالح: يذبحكم، قال الفرزدق: وعضّ زمان يا ابن «2» مروان لم يدع ... من المال إلّا مسحت أو مجلف «3» «4»
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي المناجاة تكون اسما ومصدرا. قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ قرأ عبد الله: واسرّوا النجوى إن هذان ساحران «1» بفتح الألف وجزم نونه ساحران بغير لام، وقرأ ابن كثير وحفص إِنْ بكسر الالف وجزم النون هذانِ بالألف على معنى ما هذان إلّا ساحران، نظيره: قوله وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ «2» «3» قال الشاعر: ثكلتك أمّك إن قتلت لمسلما ... حلّت عليك عقوبة الرّحمن «4» يعني ما قتلت إلّا مسلما، يدل على صحة هذه القراءة قراءة أبي بن كعب: إن ذان إلّا ساحران «5» ، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمر بن علاء «6» : إن هذين لساحران بالياء على الأصل، قال أبو عمرو: واني لأستحي من الله أن أقرأ إنّ هذان، وقرأ الباقون: إنّ بالتشديد هذان بالألف واختلفوا فيه، فقال قوم بما أخبرنا أبو بكر بن عبدوس وعبد الله بن حامد قالا: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا محمد بن الجهم السمري قال: حدّثنا الفرّاء قال: حدّثني أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله سبحانه في النساء لكِنِ الرَّاسِخُونَ «7» وَالْمُقِيمِينَ «8» وعن قوله في المائدة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ «9» وعن قوله إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «10» فقالت: يا بن أخي هذا خطأ من الكاتب. وقال عثمان بن عفان: إنّ في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتهم. وقال أبان: قرئت هذه الآية عند عثمان فقال: لحن وخطأ، فقيل له: ألم تغيّره فقال: دعوه فإنّه لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا، وقال آخرون: هذه لغة الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة يجعلون الأسين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف. قال الفرّاء: أنشدني رجل من بني الأسد وما رأيت افصح منه. وأطرق إطراق الشجاع ولو ترى ... مساغا لناباه الشجاع لصمما «11»
ويقولون: كسرت يداه، وركبت علاه، بمعنى يديه وعليه. وقال الشاعر: تزوّد منّا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التراب عقيم «1» أراد بين أذنيه. وقال آخر: أي قلوص راكب نراها ... طاروا علاهنّ فطر علاها «2» أي عليهن وعليها. وقال آخر: إنّ أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها «3» وروي أنّ أعرابيا سأل ابن الزبير شيئا فحرّمه فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير: إن وصاحبها، يعني نعم. وقال الشاعر: بكرت عليّ عواذلي يلحينني وألومهنّه ... ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنّه «4» أي نعم، وقال الفرّاء: وفيه وجه آخر: وهو أن يقول: وجدت الألف دعامة من هذا على حالها لا تزول في كل حال، كما قالت العرب: الذي ثمّ زادوا نونا يدلّ على الجمع فقالوا: الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم وكناية تقول: اللّذون. يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ مصر بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى حدّث الشعبي عن عليّ قال: يصرفا وجوه الناس إليهما وهي بالسريانية. وقال ابن عباس: يعني بسراة قومكم وأشرافكم وقال مقاتل والكلبي: يعني الأمثل فالأمثل من ذوي الرأي والعقول. وقال عكرمة: يعني يذهب أخياركم. وقال قتادة: طريقتكم المثلى يومئذ، بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عددا يومئذ وأموالا، فقال عدو الله: إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما. وقال الكسائي: بِطَرِيقَتِكُمُ يعني بسنّتكم وهديكم وسمتكم، والْمُثْلى نعت للطريقة، كقولك امرأة كبرى، تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى يعني على الهدى المستقيم. قال الشاعر: فكم متفرقين منوا بجهل ... حدى بهم إلى زيغ فراغوا وزيغ بهم عن المثلى فتاهوا ... وأورطهم مع الوصل الرداغ
فزلّت فيه أقدام فصارت ... إلى نار غلا منها الدماغ والمثلى تأنيث الأمثل. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قرأ أبو عمرو فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم، من الجمع يعني لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به، وتصديقه قوله: فَجَمَعَ كَيْدَهُ، وقرأ الباقون: فَأَجْمِعُوا بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان: أحدهما: بمعنى الجمع، يقول العرب: أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد. قال أبو ذؤيب: فكأنّه بالجزع جزع يتابع ... وأولاه ذي العرجاء تهب مجمّع «1» والثاني: بمعنى العزم والأحكام، يقول: أجمعت الأمر وأزمعته، وأجمعت على الأمر وأزمعت عليه إذا عزمت عليه. قال الشاعر: يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوما وأمري مجمع «2» أي محكم، وقد عزم عليه كيدكم ومكركم وسحركم وعلمكم. ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا قال مقاتل: والكلبي: جميعا، وقيل: صفوفا، وقال أبو عبيد: يعني المصلّى والمجتمع، وحكي عن بعض العرب الفصحاء: ما استطعت أن آتي الصفّ أمس، يعني المصلّى. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى يعني فاز من غلب. قالُوا يعني السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك من يدك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى عصاه قالَ موسى بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ وهو جمع العصا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ قرأ ابن عامر بالتاء، ردّه إلى الحبال والعصيّ، وقرأ الباقون: بالياء ردّوه إلى الكيد أو السحر، ومعناه شبّه إليه من سحرهم حتى ظنّ أَنَّها تَسْعى أي تمشي، وذلك أنّهم كانوا لطّخوا حبالهم وعصيّهم بالزئبق فلمّا أصابه حرّ الشمس ارتهشت واهتزت فظنّ موسى أنها تقصده فَأَوْجَسَ أي أحسّ ووجد، وقيل: أضمر فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قال مقاتل: إنّما خاف موسى إذ صنع القوم مثل صنيعه ان يشكّو فيه فلا يتبعوه ويشك فيه من تابعه. قُلْنا لموسى لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى الغالب وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ يعني العصا تَلْقَفْ تلتقم وتلتهم ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا يعني إنّ الذي صنعوا كَيْدُ ساحِرٍ قرأ أهل الكوفة بكسر السين من غير ألف، وقرأ الباقون: ساحِرٍ بالألف على فاعل، واختاره أبو عبيد،
قال: لأنّ إضافة الكيد إلى الرجل أولى من إضافته إلى السّحر وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى من الأرض، وقيل: معناه حيث احتال. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى قالَ آمَنْتُمْ لَهُ يعني به كقوله فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ... قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ لرئيسكم ومعلّمكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ يعني الرجل اليسرى واليد اليمنى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ يعني جذوع النخل «1» ، قال سويد بن أبي كاهل: وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلّا بأجدعا «2» وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً أنا أو ربّ موسى وَأَبْقى قالُوا «3» يعني السحرة لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ قال مقاتل: يعني اليد والعصا. وأخبرنا البيهقي والاصفهاني قالا: أخبرنا مكي بن عبدان «4» قال: حدّثنا أبو الأزهر، قال: حدّثنا روح قال: حدّثنا هشام بن أبي عبد الله عن القاسم بن أبي برزة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل موسى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى، فأوحى الله سبحانه أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ... ، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ فاغرفاه، فابتلع حبالهم وعصيّهم وألقي السحرة عند ذلك سجدا فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها، عند ذلك قالوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ يعنى الجنة والنار وما رأوا من ثوابهم ودرجاتهم «5» . قال: وكانت امرأة فرعون تسأل: من غلب؟ فيقال: غلب موسى، فتقول: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها فأتوها فإن هي رجعت عن قولها فهي امرأته، وإن هي مضت على قولها فألقوا عليها الصخرة، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة فمضت على قولها وانتزعت روحها، وألقيت على جسد لا روح فيه. وَالَّذِي فَطَرَنا يعني وعلى الذي خلقنا، وقيل: هو قسم فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ فاحكم
[سورة طه (20) : الآيات 77 إلى 97]
ما أنت حاكم، واصنع ما أنت صانع من القطع والصلب إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا يقول: إنّما تملكنا في الدنيا ليس لك علينا سلطان إلّا في الدنيا «1» إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ قال مقاتل: كانت السحرة اثنين وسبعين ساحرا، اثنان منهم من القبط وهما رأسا القوم، وسبعون منهم من بني إسرائيل، وكان فرعون أكره أولئك السبعين الذين هم من بني إسرائيل على تعلّم السحر. وقال عبد العزيز بن أبان: إنّ السحرة قالوا لفرعون: أرنا موسى إذا نام، فأراهم موسى نائما وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون: انّ هذا ليس بسحر، إنّ الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى عليهم إلّا أن تعملوا فذلك قوله وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى منك لأنّك فان هالك إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ في الآخرة مُجْرِماً مشركا يعني بات على الشرك فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى حياة تنفعه. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً مات على الإيمان قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى الرفيعة في الجنة جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي صلح، وقيل: تطهّر من الكفر والمعاصي. وقال الكلبي: يعني أعطى زكاة نفسه وقال: لا إله إلّا الله. [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 97] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي سر بهم أول الليل من أرض مصر. فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً يابسا ليس فيه ماء ولا طين لا تَخافُ دَرَكاً من فرعون خلفك وَلا تَخْشى غرقا من البحر أمامك، وقرأ حمزة: لا تخف بالجزم على النهي، الباقون: بالألف على النفي، واختاره أبو عبيد لقوله: وَلا تَخْشى رفعا ودليل قراءة حمزة قوله: «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» فاستأنف، قال الفرّاء: ولو نوى حمزه بقوله: وَلا تَخْشى الجزم، لكان صوابا. وقال الشاعر: هجوت زمانا ثم ملت معتذرا ... من سب زمان لم يهجو ولم يذع «1» وقال آخر: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد «2» فَأَتْبَعَهُمْ فلحقهم فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ أصابهم مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى أي وما هداهم إلى مراشدهم، وهذا جواب قول فرعون: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ، فكذّبه الله تعالى فقال: بل أضلهم وما هداهم. قال وهب: استعار بنو إسرائيل حليا كثيرا من القبط ثم خرج بهم موسى من أول الليل، وكانوا سبعين ألفا فأخبر فرعون بذلك فركب في ستمائة ألف من القبط يقص أثر موسى «3» ، فلمّا رأى قوم موسى رهج الخيل قالوا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ فقال موسى: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فلمّا قربوا قالوا: يا موسى أين نمضي؟ البحر أمامنا وفرعون خلفنا، فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق فصار فيه اثنتا عشرة طريقا يابسة، لكل سبط طريق، وصار بين كل طريقين كالطود العظيم من الماء، وكانوا يمرّون فيه وكلّهم بنو أعمام فلا يرى هذا السبط ذاك ولا ذاك هذا، فاستوحشوا وخافوا فأوحى الله سبحانه إلى أطواد الماء أن تشبّكي، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض.
فلمّا اتى فرعون الساحل وجد موسى وبني إسرائيل قد عبروا فقال للقبط: قد سحر البحر فمرّ، فقالوا له: إن كنت ربّا فادخل البحر كما دخل، فجاء جبرئيل على رمكة وديق «1» ، وكان فرعون على حصان، وهو الذكر من الأفراس، فأقحم جبرئيل الرمكة في الماء، فلم يتمالك حصان فرعون واقتحم البحر على أثرها ودخل القبط عن آخرهم، فلمّا تلجّجوا أوحى الله سبحانه إلى البحر أن غرّقهم، فعلاهم الماء وغرّقهم. قال كعب: فعرف السامري فرس جبرئيل، فحمل من أثره ترابا وألقاه في العجل حين اتّخذه «2» . يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وقد مرّ ذكره وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ هذه قراءة العامة بالنون والألف على التعظيم، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: أنجيتكم ووعدتكم ورزقتكم من غير ألف على التوحيد والتفريد كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ حلال ما رَزَقْناكُمْ. وَلا تَطْغَوْا فِيهِ قال ابن عباس: ولا تظلموا، وقال مقاتل: ولا تعصوا، وقال الكلبي: ولا تكفروا النعمة، وقيل: ولا تحرّموا الحلال، وقيل: ولا تنفقوا في معصيتي، وقيل: ولا تدّخروا، وقيل: ولا تتقووا بنعمي على معاصيّ. فَيَحِلَّ يجب عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ يجب عَلَيْهِ غَضَبِي وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: فَيَحُلَّ ومَنْ يَحْلُلْ بضم الحاء واللام أي ينزل. فَقَدْ هَوى هلك وتردّى في النار وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ من دينه وَآمَنَ بربّه وَعَمِلَ صالِحاً فيما بينه وبين الله ثُمَّ اهْتَدى. قال قتادة وسفيان الثوري: يعني لزم الإسلام حتى مات عليه. وقال زيد بن أسلم: تعلّم العلم ليهتدي كيف يعمل. وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أنّ لذلك ثوابا. وقال فضيل الناجي وسهل التستري: أقام على السنّة والجماعة. وقال الضحاك: يعني استقام. وَما أَعْجَلَكَ يعني وما حملك على العجلة عَنْ قَوْمِكَ يعني عن السبعين الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور ليأخذ التوراة من ربّه فلمّا سار عجل موسى شوقا إلى
ربه وخلّف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال الله سبحانه له: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى فقال مجيبا لربّه هُمْ أُولاءِ يعني عَلى أَثَرِي هؤلاء يجيئون وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى لتزداد رضا قالَ الله سبحانه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا ابتلينا قَوْمَكَ الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا مِنْ بَعْدِكَ من بعد انطلاقك إلى الجبل وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ يعني دعاهم وصرفهم إلى عبادة العجل وحملهم عليها. فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً حزينا جزعا قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً صدقا أنه يعطيكم التوراة أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ مدّة مفارقتي إياكم أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ يجب عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي وذلك أنّ الله سبحانه كان قد وقّت لموسى ثلاثين ليلة ثمّ أتمها بعشر، فلمّا مضت الثلاثون قال عدو الله السامري ... قال سعيد بن جبير: كان السامري من أهل كرمان فقال لهم: إنما أصابكم هذا عقوبة لكم بالحلي التي معكم، وكانت حليا استعاروها من القبط، فهلمّوا بها واجمعوها حتى يجيء موسى فيقضي فيه، فجمعت ودفعت إليه فصاغ منها عجلا في ثلاثة أيام ثمّ قذف فيه القبضة التي أخذها من أثر فرس جبرئيل، فقال قوم موسى له: قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا قرأ أهل المدينة وعاصم: بِمَلْكِنا بفتح الميم، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الميم، الباقون: بكسرها، ومعناها بسلطاننا وطاقتنا وقدرتنا. قال مقاتل: يعني ونحن نملك أمرنا، وقيل: باختيارنا. وَلكِنَّا حُمِّلْنا قرأ أهل الحجاز والشام وحفص: حُمِّلْنا بضم الحاء وتشديد الميم، الباقون: حَمَلْنا بفتح الحاء والميم مخفّفة أَوْزاراً أثقالا وأحمالا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ من حلي قوم فرعون فَقَذَفْناها فجمعناها ودفعناها إلى السامري، فألقاها في النار لترجع أنت فترى فيه رأيك فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ما معه من الحليّ معنا كما ألقينا فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لا روح فيه، صاغ لهم عجلا من ذهب مرصّع بالجواهر لَهُ خُوارٌ صوت، وذلك أنه خار خورة واحدة ثمّ لم يعد. قال ابن عباس: أتى هارون على السامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ قال: أصنع ما ينفع ولا يضر، فقال: اللهمّ أعطه ما سألك على ما في يقينه فلمّا قال: اللهم إنّي أسألك أن يخور فخار فسجد، وإنّما خار لدعوة هارون فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي ضلّ وأخطأ الطريق، وقيل: معناه فتركه هاهنا وخرج يطلبه. قال الله سبحانه أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ يعني أنّه لا يرجع إِلَيْهِمْ قَوْلًا أي لا يكلّمهم العجل ولا يجيبهم، وقيل: يعني لا يعود إلى الخوار والصوت وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً. وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل رجوع موسى يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ابتليتم بالعجل
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي على ديني وَأَطِيعُوا أَمْرِي فلا تعبدوه قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ لن نزال على عبادته مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل، فلمّا رجع موسى وسمع الصياح والجلبة، وكانوا يرقصون حول العجل، قال السبعون الذين معه: هذا صوت الفتنة، فلمّا رأى هارون أخذ شعره بيمينه ولحيته بشماله وقالَ له يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أخطئوا وأشركوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ يعني أن تتبّع أمري ووصيتي ولا صلة، وقيل: معناه: ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إيّاهم تقريعا وزجرا لهم عمّا أتوه؟ وقيل: معناه: هلّا قاتلتهم إذ علمت أنّي لو كنت فيما بينهم لقاتلتهم على كفرهم. أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي فقال هارون ابْنَ أُمَ قال الكلبي وغيره: كان أخاه لأبيه وأمّه ولكنّه أراد بقوله: ابْنَ أُمَ أن يرقّقه ويستعطفه عليه فيتركه، وقيل: كان أخاه لأمّه دون أبيه، وقيل: لأن كون الولد من الأمّ على التحقيق والأب من جهة الحكم تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي يعني ذؤابتي وشعر رأسي إذ هما عضوان مصونان يقصدان بالإكرام والإعظام من بين سائر الأعضاءنِّي خَشِيتُ لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضا فتقول رَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وأوقعت الفرقة فيما بينهم لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ولم تحفظ وصيّتي حين قلت لك اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ. قال قتادة في هذه الآية: فذكر الصالحون الفرقة قبلكم، ثمّ أقبل موسى على السامرىّ فقال له فَما خَطْبُكَ أمرك وشأنك، وما الذي حملك على ما صنعت يا سامِرِيُّ قال قتادة: كان السامري عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة، ولكنّ عدوّ الله نافق بعد ما قطع البحر مع بني إسرائيل، فلمّا مرّت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ ف قالُوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ فاغتنمها السامرىّ، فاتّخذ العجل فقال السامري مجيبا لموسى: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا وفطنت ما لم يفطنوا، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تبصروا بالتاء على الخطاب، الباقون بالياء على الخبر فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ يعني فأخذت ترابا من أثر فرس جبرئيل، وقرأ الحسن فقبصت قبصة بالصاد فيهما، والفرق بينهما أن القبض بجمع الكف والقبص بأطراف الأصابع فَنَبَذْتُها فطرحتها في العجل وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ زيّنت لِي نَفْسِي قالَ له موسى فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ ما دمت حيا أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ لا تخالط أحدا ولا يخالطك أحد، وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه. قال قتادة: إن بقاياهم اليوم يقولون ذلك: لا مساس، ويقال بأنّ موسى همّ بقتل السامري فقال الله: لا تقتله فإنه سخىّ، وفي بعض الكتب: إنّه إن يمسّ واحد من غيرهم أحدا منهم حمّ كلاهما في الوقت.
[سورة طه (20) : الآيات 98 إلى 114]
وَإِنَّ لَكَ يا سامري مَوْعِداً لعذابك لَنْ تُخْلَفَهُ قرأ الحسن وقتادة وأبو نهيك وأبو عمرو بكسر اللام بمعنى لن تغيب عنه بل توافيه، وقرأ الباقون بفتح اللام بمعنى لن يخلفكه الله. وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ بزعمك وإلى معبودك الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ دمت عليه عاكِفاً مقيما تعبده. يقول العرب: ظلت أفعل كذا بمعنى ظللت، ومست بمعنى مسست، وأحست بمعنى أحسست. قال الشاعر: خلا أنّ العتاق من المطايا ... أحسن به فهنّ إليه شوس «1» أي أحسسن. لَنُحَرِّقَنَّهُ قرأه العامة بضم النون وتشديد الراء بمعنى لنحرقنه بالنار. وقرأ الحسن بضم النون وتخفيف الراء من الإحراق بالنّار، وتصديقه قول ابن عباس: فحرّقه بالنار ثمّ ذرّاه في اليمّ. وقرأ أبو جعفر وابن محيص وأشهب العقيلي لَنَحْرُقَنه بفتح النون وضم الراء خفيفة بمعنى لنبردنّه بالمبارد، يقال: حرقه يحرقه ويحرقه إذا برّده، ومنه قيل للمبرد المحرق، ودليل هذه القراءة قول السدّي: أخذ موسى العجل فذبحه ثمّ حرقه بالمبرد ثمّ ذرّاه في اليمّ، وفي حرف ابن مسعود: لنذبحنه ثمّ لنحرّقنه ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ لنذرّينه فِي الْيَمِّ نَسْفاً يقال نسف الطعام بالمنسف إذا ذرّاه فطيّر عنه قشوره وترابه. [سورة طه (20) : الآيات 98 الى 114] إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا العجل وَسِعَ ملأ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فعلمه ولم يضق عليه، يقال: فلان يسع لهذا الأمر إذا أطاقه وقوي عليه كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ من الأمور وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً يعني القرآن مَنْ أَعْرَضَ أدبر عَنْهُ فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً إثما عظيما وحملا ثقيلا خالِدِينَ فِيهِ لا يكفره شيء. وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ قرأه العامة بياء مضمومة على غير تسمية الفاعل، وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة لقوله وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ المشركين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً والعرب تتشاءم بزرقة العيون. قال الشاعر يهجو رجلا: لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر ... كما كل ضبي من اللؤم أزرق «1» وقيل: أراد عميا يَتَخافَتُونَ يتسارّون فيما بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ ما مكثتم في الدنيا، وقيل: في القبور إِلَّا عَشْراً أي عشر ليال. قال الله سبحانه نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أوفاهم عقلا وأصوبهم رأيا إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً قصر ذلك في أعينهم في جنب ما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها يقلعها من أماكنها ويطرحها في البحار حتى تستوي. فإن قيل: ما العلّة الجالبة للفاء التي في قوله فقل خلافا لأخواتها في القرآن؟ فالجواب أنّ تلك أسئلة تقدّمت سألوا عنها رسول الله فجاء الجواب عقيب السؤال، وهذا سؤال لم يسألوه بعد وقد علم الله سبحانه أنّهم سائلوه عنه فأجاب قبل السؤال، ومجازها: وإن سألوك عن الجبال فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً أرضا ملساء لا نبات فيها. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً. قال ابن عباس: العوج: الأودة، والأمت الروابي والنشوز. مجاهد: العوج: الانخفاض، والأمت: الارتفاع. ابن زيد: الأمت: التفاوت والتعادي. ويقول العرب: ملأت القربة ماء لا أمت فيه أي لا استرخاء. يمان: الأمت: الشقوق في الأرض
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ الذي يدعوهم إلى موقف القيامة وهو إسرافيل لا عِوَجَ لَهُ أي لدعاته، وقال أكثر العلماء: هو من المقلوب أي لا حرج لهم عن دعاته، لا يزيغون عنه، بل يتّبعونه سراعا. وَخَشَعَتِ وسكنت الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فوصف الأصوات بالخشوع والمعنى لأهلها فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً يعني وطء الأقدام ونقلها إلى المحشر، وأصله الصوت الخفي، يقال: همس فلان بحديثه إذا أسرّه وأخفاه، قال الراجز: وهنّ يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا «1» يعني بالهمس صوت أخفاف الإبل. وقال مجاهد: هو تخافت الكلام وخفض الصوت. يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الشفاعة وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي ورضي قوله. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الكناية مردودة إلى الذين يتّبعون الداعي. وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً لا يدركونه ولا يعلمون ما هو صانع بهم. وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي ذلّت وخضعت واستسلمت، ومنه قيل للأسير عان، وقال أميّة بن أبي الصلت: مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزّته تعنو الوجوه وتسجد «2» وقال طلق بن حبيب: هو السجود. وَقَدْ خابَ خسر مَنْ حَمَلَ ظُلْماً شركا. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ قرأ ابن كثير على النهي جوابا لقوله وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ والباقون: فلا يخاف على الخبر. ظُلْماً وَلا هَضْماً. قال ابن عباس: لا يخاف أن يزاد عليه في سيئاته ولا ينقص من حسناته. الحسن وأبو العالية: لا ينقص من ثواب حسناته شيئا ولا يحمل عليه ذنب مسيء. الضحاك: لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا يبطل حسنة عملها. وأصل الهضم: النقص والكسر يقال: هضمت لك من حقك أي حططت، وهضم الطعام، وامرأة هضيم الكشح أي ضامرة البطن.
[سورة طه (20) : الآيات 115 إلى 135]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا بيّنّا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ القرآن ذِكْراً عظة وعبرة. وقال قتادة: جدّا وورعا. فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ قرأ يعقوب بفتح النون والياءين، وقرأ الآخرون: بضم الياء الأولى والأخرى وسكون الوسطى. قال مجاهد وقتادة: لا تقرئه أصحابك ولا تمله عليهم حتى يتبيّن لك معانيه، نهى عن تلاوة الآية التي تنزل عليه وإملائه على أصحابه قبل بيان معناها، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس. وقال في سائر الروايات «1» : كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل جبرائيل بالوحي يقرأه مع جبرائيل، ولا يفرغ جبرائيل مما يريد من التلاوة حتى يتكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأوّله حرصا منه على ما كان ينزل عليه وشفقة على القرآن مخافة الانفلات والنسيان، فنهاه الله سبحانه عن ذلك وقال: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ أي بقراءة القرآن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ من قبل أن يفرغ جبرئيل من تلاوته عليك. وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً بالقرآن أي فهما ، وقيل: حفظا ونظيرها قوله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ الآية «2» . [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 135] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ الآية يقول الله سبحانه: وإن يضيّع هؤلاء الذين نصرّف لهم في القرآن الوعيد عهدي ويخالفوا أمري ويتركوا طاعتي فقد فعل ذلك أبوهم آدم (عليه السلام) حيث عهدنا إليه أي أمرناه وأوصينا إليه فَنَسِيَ فترك الأمر والعهد، نظيره قوله نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1» أي تركوا أمر الله فتركهم الله في النار. هذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: نسي ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له، وعصى الله الذي كرّمه وشرّفه، وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم في ذلك القول بالنسيان مأخوذ، وإن كان هو اليوم عنّا مرفوعا. وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قال ابن عباس: حفظا لما أمر به، قتادة ومقاتل: صبرا، ابن زيد: محافظة على أمر الله وتمسّكا به، الضحّاك: صريمة أمر، عطية: رأيا، وقيل: جزما، ابن كيسان: إصرارا وإضمارا على العود إلى الذنب ثانيا، وأصل العزم النيّة واعتقاد القلب على الشيء. قال أبو أمامة: لو أنّ أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق الله سبحانه آدم إلى يوم تقوم الساعة، ووضعت في كفّة ميزان، ووضع حلم آدم في الكفّة الأخرى لرجح حلمه بأحلامهم، وقد قال الله تعالى وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أن يسجد له فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ حوّاء فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فتتعب ويكون عيشك من كدّ يمينك، بعرق جبينك. قال سعيد بن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فهو شقاؤه الذي قال الله سبحانه، وكان حقّه أن يقول: فيشقيا ولكن غلب المذكّر رجوعا به إلى آدم لأنّ تعبه أكثر، وقيل: لأجل رؤوس الآي. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها أي في الجنّة وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ قرأ نافع بكسر الألف على
الاستئناف، ومثله روى أبو بكر عن عاصم، وقرأ الباقون بالفتح نسقا على قوله أَلَّا تَجُوعَ لا تَظْمَؤُا بعطش فيها وَلا تَضْحى تبرز للشمس فيؤذيك حرّها. قال عمر بن أبي ربيعة: رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشيّ فيحصر أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكّى قال: أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهدي عن سفيان عن خصيف عن عكرمة: وَلا تَضْحى ولا تصيبك الشمس. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ يعني على شجرة إن أكلت منها بقيت خالدا مخلدا وَمُلْكٍ لا يَبْلى لا يبيد ولا يفنى. فَأَكَلا يعني آدم وحوّاء مِنْها أي من شجرة المحنة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي تعدّى إلى ما لم يكن له فعله. وقال أكثر المفسرين: فَغَوى: أي أخطأ وضلّ ولم ينل مراده ممّا أكل. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ اختاره واصطفاه فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى هداه إلى التوبة ووفّقه بها. قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «1» فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ يعني الكتاب والرسول فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. أخبرنا أبو عمرو أحمد بن حمدون بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: حدّثنا سعيد بن عيسى «2» ، قال: حدّثنا فارس بن عمر وحدّثنا صالح بن محمد: قال: حدّثنا يحيى بن الضريس عن سفيان عن رجل عن الشعبي عن ابن عباس في قوله سبحانه فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى قال: أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا ويشقى في الآخرة. وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة. وأخبرني ابن المقرئ قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن سنان قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس
قال: ضمن الله لمن قرأ القرآن لا يضلّ في الدّنيا ولا يشقى في الآخرة ثمّ قرأ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وبإسناده عن أبي بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، وذلك بأنّ الله يقول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي يعني عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتّبعه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ضيقا يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، يستوي فيه الذكر والأنثى والواحد والاثنان والجمع، قال عنترة: وإذا هم نزلوا بضنك فانزل «1» واختلف المفسّرون في المعيشة الضنك، فاخبرني أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد الحيري «2» قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال: حدّثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال: حدّثنا أبو الوليد الطيالسي قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: في قوله سبحانه وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قال: «عذاب القبر» . وقال ابن عباس: الشقاء، مجاهد: الضيق، الحسن وابن زيد: الزقوم والغسلين والضريع، قتادة: يعني في النار، عكرمة: الحرام، قيس بن أبي حازم: الرزق في المعصية، الضحاك: الكسب الخبيث، عطيّة عن ابن عباس يقول: كلّ مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر لا يتّقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وإنّ قوما ضلّالا أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنّهم كانوا يرون أنّ الله ليس بمخلف لهم معائشهم من سوء ظنّهم بالله والتكذيب به، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظنّ به اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك أبو سعيد الخدري: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويسلّط عليه في قبره تسعة وتسعون تنّينا، لكلّ تنّين سبعة رؤوس تنهشه وتخدش لحمه حتى يبعث، ولو أنّ تنّينا منها ينفخ في الأرض لم تنبت زرعا. مقاتل: معيشة سوء لأنّها في معاصي الله. سعيد بن جبير: سلبه القناعة حتى لا يشبع. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قال ابن عباس: أعمى البصر، مجاهد: أعمى عن الحجّة.
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً بعيني، وقال مجاهد: عالما بحجّتي. قالَ كَذلِكَ يقول كما أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها فتركتها وأعرضت عنها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى تترك في النار وكذلك أي وكما جزينا من أعرض «1» وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ أشرك وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ ممّا يعذّبهم به في الدنيا والقبر. وَأَبْقى وأدوم وأثبت. أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ يتبيّن لهم كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ومنازلهم إذا سافروا واتّجروا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ نظم الآية، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب عنهم وَأَجَلٌ مُسَمًّى وهو القيامة لَكانَ لِزاماً لكان العذاب لازما لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة. فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ نسختها آية القتال وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وصلّ بأمر ربّك، وقيل: بثناء ربك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني صلاة الصبح وَقَبْلَ غُرُوبِها يعني صلاة العصر وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ صلاة العشاء الآخر فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ صلاة الظهر والمغرب، وإنّما قال: أطراف لهاتين الصلاتين لأنّ صلاة الظهر في آخر الطرف الأول من النهار، وفي أول الطرف الآخر من النهار فهي في طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس، وعند ذلك يصلّي المغرب، فلذلك قال: أَطْرافَ «2» ، ونصب «3» عطفا على قوله: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. لَعَلَّكَ تَرْضى بالشفاعة والثواب، قرأه العامة: بفتح التاء، ودليله قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقرأ الكسائي وعاصم برواية أبي بكر بضم التاء. وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية. قال أبو رافع: أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى يهودي يستسلفه فأبى أن يعطيه إلّا برهن، فحزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله سبحانه وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ولا تنظر إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أعطيناهم أصنافا من نعيم الدنيا زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها وبهجتها ، قرأه العامة بجزم الهاء، وقرأ يعقوب بفتحها وهما لغتان مثل: جهرة وجهرة، وإنّما نصبها على القطع والخروج من الهاء في قوله: مَتَّعْنا بِهِ.
وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً وإنّما نكلّفك عملا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ الجملية المحمودة لِلتَّقْوى أي لأهل التقوى. قال هشام بن عروة: كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره وقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ، إلى قوله وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ثمّ ينادي: الصلاة الصلاة يرحمكم الله. وقال مالك بن دينار: كان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة يقول: قوموا فصلّوا، ثم يقول: بهذا أمر الله رسوله، ويتلو هذه الآية. وَقالُوا يعني هؤلاء المشركين لَوْلا يَأْتِينا محمد بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ كما أتى بها الأنبياء من قبله. قال الله سبحانه أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بالتاء، قرأه أهل المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة لتأنيث البينة، وقرأ الآخرون بالياء لتقديم الفعل ولأنّ البيّنة هي البيان فردّه إلى المعنى بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الكتب الْأُولى أي بيان ما فيها يعني القرآن أقوى دلالة وأوضح آية. وقال بعض أهل المعاني: يعني ألم يأتهم بيان ما في الكتب الأولى التوراة والإنجيل وغيرهما من أنباء الأمم التي أهلكناهم لمّا سألوا الآيات، فأتتهم فكفروا بها، كيف عجّلنا لهم العذاب والهلاك بكفرهم بها فما تؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك. وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن ومجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم. لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا هلّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى بالعذاب قُلْ يا محمد لهم كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ منتظر دوائر الزمان وما يكون من الحدثان ولمن يكون الفلح والنصر. فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ إذا جاء أمر الله تعالى وقامت القيامة مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ المستقيم وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة أنحن أم أنتم؟.
سورة الأنبياء
سورة الأنبياء وهي أربعة آلاف وثمان مائة وتسعون «1» حرفا، وألف ومائة وثمان وستّون كلمة، ومائة واثنتا عشرة آية أخبرنا أبو الحسن «2» علي بن محمد بن الحسن الجرجاني المقري قال: حدّثنا أبو علي بن حبش الدينوري المقري قال: حدّثنا أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال: حدّثنا عبد الله بن روح المدائني قال: حدّثنا ظفران قال: حدّثنا ابن أبي داود قال: حدّثنا محمد بن عاصم قال: حدّثنا شبابة بن سوار الفزاري قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبىّ بن كعب قال: قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ حاسبه الله حِساباً يَسِيراً وصافحه وسلّم عليه كلّ نبي ذكر اسمه في القرآن» «3» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ قيل: اللام بمعنى من أي اقترب من الناس حِسابُهُمْ محاسبة الله
إيّاهم على أعمالهم وَهُمْ واو الحال فِي غَفْلَةٍ عنه مُعْرِضُونَ عن التفكير فيه والتأهّب له، نزلت في منكري البعث. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ يعني ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكّرهم ويعظهم به إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لا يعتبرون ولا يتّعظون. قال مقاتل: يحدث الله الأمر بعد الأمر، وقال الحسن «1» بن الفضل: الذكر هاهنا محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يدلّ عليه قوله في سياق الآية هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ولو أراد الذكر بالقرآن لقال: هل هذا إلّا أساطير الأوّلين، ودليل هذا التأويل أيضا قوله: وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ يعني محمدا (عليه السلام) . لاهِيَةً ساهية قُلُوبُهُمْ معرضة عن ذكر الله، من قول العرب: لهيت عن الشيء إذا تركته، ولاهية نعت تقدّم الاسم ومن حقّ النعت أن يتبع الاسم في جميع الاعراب، فإذا تقدّم النعت الاسم فله حالتان: فصل ووصل، فحاله في الفصل النصب كقوله سبحانه خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ. قال الشاعر: لعزّة موحشا طلال ... يلوح كأنّه خلل «2» أراد: طلل موحش، وحاله في الوصل حال ما قبله من الإعراب كقوله تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها قال ذو الرمّة: قد أعسف النازح المجهول معسفة ... في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم «3» أراد معسفه مجهول وإنّما نصب لانتصاب النازح. وقال النابغة: من وحش وجرة موشّي أكارعه ... طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد «4» أراد أنّ أكارعه موشيّة. وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا كان حقّه وأسرّ لأنه فعل تقدّم الاسم فاختلف النحاة في وجهه، فقال الفرّاء: الَّذِينَ ظَلَمُوا في محلّ الخفض على أنّه تابع للناس في قوله اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ. وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير أراد والذين ظلموا أسرّوا النجوى.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 إلى 29]
وقال قطرب: وهذا سائغ في كلام العرب وحكي عن بعضهم أنه قال: سمعت بعض العرب يقول: أكلوني البراغيث قال الله سبحانه ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ. وقال الشاعر: بك نال النصال دون المساعي ... فاهتدين النبال للأغراض «1» ويحتمل أن يكون محل الذين رفعا على الابتداء، ويكون معناه وأسرّوا النّجوى، ثمّ قال هم الذين ظلموا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أنّه سحر قالَ رَبِّي قرأ أكثر أهل الكوفة (قالَ) على الخبر عن محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ الباقون «قل» على الأمر له يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأفعالهم بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي أباطليها وأهاويلها بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ يعني أنّ المشركين اقتسموا القول فيه: فقال بعضهم: أَضْغاثُ أَحْلامٍ، وقال بعضهم: بَلِ افْتَراهُ، وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وهذا الذي جاءكم به شعر، لأنّ بل تأتي لتدارك شيء ونفي آخر. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ إن كان صادقا كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ من الرسل بالآيات. قال الله سبحانه مجيبا لهم ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهل قرية أتتها الآيات فأهلكناهم أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ إن جاءتهم آية ... وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ وهذا جواب لقولهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي التوراة والإنجيل يعني علماء أهل الكتاب إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وقال ابن زيد: أراد بالذكر القرآن يعني فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن، قال جابر الجعفي: لما نزلت هذه الآية قال عليّ: نحن أهل الذكر. وَما جَعَلْناهُمْ يعني الرسل الأولين جَسَداً قال الفرّاء: لم يقل أجسادا لأنّه اسم الجنس لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ يقول: لم نجعلهم ملائكة، بل جعلناهم بشرا محتاجين إلى الطعام، وهذا جواب لقولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ في الدنيا ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ الذي وعدناهم هلاك أعدائهم ومخالفيهم وإنجائهم ومتابعيهم فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ المشركين. لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ قال مجاهد: حديثكم، وقيل: شرفكم. أَفَلا تَعْقِلُونَ. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 29] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً أي أهلكنا، والقصم: الكسر يقال: قصمت ظهر فلان، وانقصمت سنة إذا انكسرت. وَأَنْشَأْنا وأحدثنا بَعْدَها بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا رأوا بَأْسَنا عذابنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يسرعون هاربين، يقال منه: ركض فلان فرسه إذا كدّه بالرجل، وأصله التحريك. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ نعّمتم فيه وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عن نبيّكم، مجاهد: لعلكم تفقهون بالمسألة، قتادة: لعلّكم تسألون من دنياكم شيئا استهزاء بهم، نزلت هذه الآيات في أهل حصورا وهي قرية باليمن، وكان أهلها العرب فبعث الله إليهم نبيا يدعوهم إلى الله سبحانه فكذّبوه وقتلوه، فسلّط الله عليهم بخت نصّر حتى قتلهم وسباهم ونكّل بهم، فلمّا استحرّ فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا، فقالت الملائكة لهم على طريق الاستهزاء لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ إلى مساكنكم وأموالكم، فأتبعهم بخت نصّر وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جوّ السّماء: يا لثارات الأنبياء، فلمّا رأوا ذلك أقرّوا بالذنوب حين لم ينفعهم فقالوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ قولهم وهجّيراهم حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً بالسيوف كما يحصد الزرع خامِدِينَ ميّتين. وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ عبثا وباطلا لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً قال قتادة: اللهو بلغة أهل اليمن المرأة.
وقال عقبة بن أبي جسرة: شهدت الحسن بمكة وجاءه طاوس وعطاء ومجاهد فسألوه عن هذه الآية، فقال الحسن: اللهو: المرأة. وقال ابن عباس: الولد. لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا من عندنا وما اتّخذنا نساء وولدا من أهل الأرض، نزلت في الذين قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ «1» بَلْ نَقْذِفُ نأتي ونرمي وننزل بِالْحَقِّ بالإيمان عَلَى الْباطِلِ الكفر فَيَدْمَغُهُ فيهلكه، وأصل الدمغ شجّ الرأس حتى يبلغ الدماغ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ذاهب وهالك. وَلَكُمُ الْوَيْلُ يا معشر الكفّار مِمَّا تَصِفُونَ لله بما لا تليق به من الصاحبة والولد. وقال مجاهد: ممّا تكذبون، ونظيره قوله سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي تكذيبهم. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عبدا وملكا وَمَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. قال ابن عباس: لا يستنكفون، مجاهد: لا يجسرون، قتادة ومقاتل والسدّي: لا يعيون، الوالبي عن ابن عباس: لا يرجعون، ابن زيد: لا يملّون. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ لا يضعفون ولا يسأمون، قد ألهموا التسبيح كما تلهمون النّفس. أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يعني الأصنام هُمْ يُنْشِرُونَ يحيون الأموات ويخلقون الخلق. لَوْ كانَ فِيهِما أي في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ غير الله لَفَسَدَتا وهلك من فيهما. فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأنه الرب وَهُمْ يُسْئَلُونَ عما لا يعلمون «2» لأنهم عبيده. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ذلك، ثمّ قال مستأنفا هذا يعني القرآن ذِكْرُ خبر مَنْ مَعِيَ بيان الحدود والأحكام والثواب والعقاب وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من الأمم السالفة وما فعل الله بهم في الدنيا وما هو فاعل بهم في الآخرة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن القرآن. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ قرأ أكثر أهل الكوفة بالنون وكسر الحاء
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 إلى 50]
على التعظيم لقوله: أَرْسَلْنا، وقرأ الباقون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول. أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ يعني الملائكة لا يَسْبِقُونَهُ لا يتقدّمونه بِالْقَوْلِ ولا يتكلّمون إلّا بما يأمرهم به. وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى. قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلّا الله، وقال مجاهد: لمن رضي الله عنه، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ خائفون وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ قال قتادة: عنى بهذه الآية إبليس لعنه الله حيث ادّعى الشركة، ودعا إلى عباده نفسه وأمر بطاعته، قال: لأنه لم يقل أحد من الملائكة إنّي إله من دون الله. فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 50] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
أَوَلَمْ يَرَ قرأه العامّة بالواو، وقرأ ابن كثير ألم «1» وكذلك هو في مصاحفهم. «يَرَ» يعلم الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما. قال ابن عباس والضحاك وعطاء وقتادة: يعني كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله سبحانه بينهما بالهواء. قال كعب: خلق الله سبحانه السموات والأرضين بعضها على بعض ثمّ خلق ريحا توسّطتها ففتحها بها. وقال مجاهد وأبو صالح والسدّي: كانت السموات مرتقة طبقة واحدة، ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرضون كانت مرتقة طبقا واحدا ففتقها فجعلها سبع أرضين. عكرمة وعطية وابن زيد: كانت السماء رتقا لا تمطر، والأرض رتقا لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، نظيره قوله سبحانه وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ «2» وأصل الرتق السدّ ومنه قيل للمرأة التي فرجعها ملتحم رتقا، وأصل الفتق الفتح، وإنّما وحّد الرتق وهو من نعت السموات والأرض لأنّه مصدر، وضع موضع الاسم مثل الزور والصوم والفطر والعدل ونحوها. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ يعني أنّ كلّ شيء حىّ فإنّه خلق من الماء، نظيره قوله سبحانه وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ. أَفَلا يُؤْمِنُونَ. وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها أي في الرواسي فِجاجاً طرقا ومسالك واحدها فج ثمّ، فسّر فقال سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً من أن تسقط، دليله قوله سبحانه وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «3» وقيل: محفوظا من الشياطين، دليله قوله سبحانه وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ «4» . وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فلا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها يعني الكفار. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يجرون ويسيرون، والفلك مدار النجوم الذي يضمّها، ومنه فلكة المغزل. قال مجاهد: كهيئة حديدة الرّحا، الضحّاك: فلكها: مجراها وسرعة سيرها.
وقال آخرون: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه. وقال بعضهم: الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب، وكلّ كوكب يجري في السّماء الذي قدّر فيه وهو بمعنى قول قتادة. وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ دوام البقاء في الدنيا أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ أي أفهم الخالدون؟ كقول الشاعر: رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم «1» أي أهم؟ نزلت هذه الآية حين قالوا: نتربّص بمحمد ريب المنون. كُلُّ نَفْسٍ منفوسة ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ نختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبّون، وكيف صبركم فيما تكرهون. وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ما يتّخذونك إِلَّا هُزُواً سخريّا ويقول بعضهم لبعض أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بسوء ويعيبها، قال عنترة: لا تذكري فرسي وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب «2» أي لا تعيبي مهري. خُلِقَ الْإِنْسانُ يعني آدم، قرأ العامّة: بضم الخاء وكسر اللام على غير تسمية الفاعل، وقرأ حميد والأعرج بفتح الخاء واللام يعني خلق الله الإنسان مِنْ عَجَلٍ اختلفوا فيه فقال بعضهم: يعني أنّ بنيته وخلقته من العجلة وعليها طبع، نظيره قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «3» . قال سعيد بن جبير والسدي: لمّا دخل الروح في عيني آدم نظر إلى ثمار الجنّة، فلمّا دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ. وقال آخرون: معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إيّاه، وقالوا: خلقه في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل مغيبها. قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق، فلمّا أحيا الروح رأسه ولم يبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وقال بعضهم: هذا من المقلوب مجازه: خلق العجل من الإنسان كقول العرب: «عرضت
الناقة على الحوض» يريدون: عرضت الحوض على الناقة وكقولهم: إذا طلعت الشمس الشعرى، واستوى العود على الحربا أي استوى الحربا على العود. وقال ابن مقبل: حسرت كفّي عن السربال آخذه ... فردا يجرّ على أيدي المفدينا «1» يريد حسرت السربال عن كفّي، ونحوها كثير. وقال أبو عبيد: وكثير من أهل المعاني يقولون: العجل الطين بلغة حمير، وانشدوا: النبع تنبت بين الصخر ضاحية ... والنخل ينبت بين الماء والعجل «2» أي الطين. سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالعذاب وسؤال الآيات وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا من العذاب، وقيل: القيامة، وتقديره الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قال الله سبحانه لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ يمنعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ السياط وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وفي الآية اختصار يعني لمّا أقاموا على كفرهم ولم يتوبوا. بَلْ تَأْتِيهِمْ يعني الساعة بَغْتَةً فجأة فَتَبْهَتُهُمْ قال ابن عباس: تفجأهم، وقال الفرّاء: تحيّرهم. فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ يحفظكم ويحرسكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ إذا انزل بكم عذابه، ومعنى الآية: من أمر الرّحمن وعذابه. ثم قال سبحانه بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ كتاب ربّهم مُعْرِضُونَ. أَمْ لَهُمْ الميم صلة فيه وفي أمثاله آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ فكيف ينصرون عابديهم. وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال ابن عباس: يمنعون، عطية عنه: يجارون، يقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان أي مجير عنه. مجاهد: ينصرون ويحفظون، قتادة: لا يصحبون من الله بخير. بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ الكفّار وَآباءَهُمْ في الدنيا حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين. أَفَهُمُ الْغالِبُونَ أم نحن قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ بالقرآن وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ
قرأ أبو عبد الرّحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم، الضم رفع بمعنى أنّه لا يفعل بهم ذلك على مذهب ما لم يبين فاعله. وقرأ ابن عامر «تسمع» بتاء مضمومة وكسر الميم والصمَّ نصبا، جعل الخطاب للنبي (عليه السلام) ، وقرأ الآخرون: «يَسْمَعُ» بياء مفتوحة وفتح الميم الصُّمُّ رفع على أنّ الفعل لهم إِذا ما يُنْذَرُونَ يخوّفون ويحذّرون. وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ أصابتهم نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ قال ابن عباس: طرف، مقاتل وقتادة: عقوبة، ابن كيسان: قليل، ابن جريج: نصيب، من قولهم: نفح فلان لفلان إذا أعطاه قسما «1» وحظّا منه، بعضهم: ضربة، من قول العرب: نفحت الدابة برجلها إذا ضربت بها. قال الشاعر: وعمرة من سروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها «2» لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ. وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ العذاب وإنّما وحّد القسط وهو جمع الموازين لأنّه في مذهب عدل ورضى. قال مجاهد: هذا مثل، وإنّما أراد بالميزان العدل. فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً لا ينقص من حسناته ولا يزاد على سيّئاته. يروى أنّ داود (عليه السلام) سأل ربّه أن يريه الميزان فأراه، فلمّا رآه غشي عليه ثم أفاق، فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة. فان قيل: كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «3» ؟ فالجواب: إن المعنى فيه: لا نقوّمها ولا تستقيم على الحقّ، [من ناقصه سائله] «4» لأنها باطلة. وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ رفع أهل المدينة المثقال بمعنى: وان وقع، وحينئذ لا خبر له ونصبها الباقون على معنى: وإن كان ذلك الشيء مثقال، ومثله في سورة لقمان أَتَيْنا بِها أحضرناها، وقرأ مجاهد: آتينا بالمدّ أي جازينا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ يعني الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 إلى 72]
وقال ابن زيد: النصر على الأعداء، دليله قوله وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ «1» يعني يوم بدر، وهذا القول أشبه بظاهر الآية لدخول الواو في الضياء «2» والذكر للمتّقين، وعلى هذا التأويل تكون الواو مقحمة زائدة كقوله سبحانه وتعالى بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً «3» . ويروى أنّ عكرمة كان يقول في هذه الآية: معناها: ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء، ويقول: انقلوا هذه الواو إلى قوله سبحانه وتعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ «4» . الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه ولم يروه وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ. وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ يعني القرآن أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ جاحدون. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 72] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ توفيقه. القرظي: صلاحه، مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون. قال المفسّرون: يعني هديناه صغيرا كما قال ليحيى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا «5» .
وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ بأنّه أهل الهداية والنبوة. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ والصور يعني الأصنام الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ على عبادتها مقيمون. قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فاقتدينا بهم. قالَ إبراهيم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بعبادتكم إيّاها. قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ يعنون أجادّ أنت فيما تقول أم لاعب؟ قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ خلقهنّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأمكرنّ بها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. قال مجاهد وقتادة: إنّما قال إبراهيم هذا في سرّ من قومه ولا يسمع ذلك إلّا رجل واحد منهم، وهو الذي أفشاه عليه وقال: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ. قال السدّي: كان لهم في كلّ سنة مجمع وعيد، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثمّ عادوا إلى منازلهم، فلمّا كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم إبراهيم فلمّا كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إِنِّي سَقِيمٌ يقول: أشتكي رجلي، فتواطؤوا رجله وهو صريع، فلمّا مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعف الناس تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى الآلهة فإذا هنّ في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض، كلّ صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدي الأصنام، قالوا: إذا كان حين نرجع رجعنا وقد بركت الآلهة في طعامنا فأكلنا، فلمّا نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: أَلا تَأْكُلُونَ؟ فلمّا لم يجبه أحد قال: ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ، وجعل يكسرهنّ بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلّا الصنم الأكبر «1» علّق الفأس في عنقه ثم خرج، فذلك قوله سبحانه فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي بكسر الجيم أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف وكريم وكرام، وقرأ الباقون: بضمّه أي الحطام والدقاق إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي عظيما للآلهة فإنّه لم يكسره ووضع الفأس على عنقه لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيتذكّرون ويعلمون ضعفها وعجزها، وقيل: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيسألونه، فلمّا جاء القوم من عيدهم إلى
بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قالُوا يعني الذين سمعوا إبراهيم يقول: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ ... سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يعيبهم ويسبّهم ويستهزئ بهم يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ هو الذي صنع هذا، فبلغ ذلك نمرود الجبّار وأشراف قومه فقالوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ يراد بأعين الناس «1» لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه أنّه هو الذي فعل ذلك، وكرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة، قاله قتادة والسدّي. وقال الضحّاك والسدّي: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ما يصنع به ويعاقبه، أي، يحضرون، فلمّا أتوا به قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ. قالَ إبراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهنّ، قاله ابن إسحاق، وإنّما أراد إبراهيم بذلك إقامة الحجّة عليهم، فذلك قوله سبحانه فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ حتى يخبروكم بمن فعل هذا بهم. وروي عن الكسائي أنّه كان يقف عند قوله: بَلْ فَعَلَهُ ويقول: معناه فعله من فعله، ثم يبتدي كَبِيرُهُمْ هذا. وقال القتيبي: جعل إبراهيم النطق شرطا للفعل فقال فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ والمعنى إن قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق والفعل، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك، والذي تظاهرت به الأخبار في هذه الآية، قول ابن إسحاق يدلّ عليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: لم يكذب إلّا ثلاث كذبات كلّها في الله عزّ وجلّ قوله إِنِّي سَقِيمٌ «2» وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارة: هي أختي ، وغير مستحيل أن يكون الله سبحانه أذن لرسوله وخليله في ذلك ليقرع قومه ويوبّخهم ويحتجّ عليهم ويعرّفهم موضع خطئهم كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال لأخوته: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ «3» ولم يكونوا سرقوا شيئا. فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ يقول: فتفكّروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم فَقالُوا ما نراه إلّا كما قال إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ هذا الرجل في سؤالكم إيّاه، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة فسلوها، وقيل: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير. ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ متحيّرين مثبورين وعلموا أنّها لا تنطق ولا تبطش، فقالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فلمّا اتّجهت الحجّة لإبراهيم عليهم قالَ لهم
أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ فلمّا لزمتهم الحجّة وعجزوا عن الجواب قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ. قال ابن عمر «1» : إنّ الذي أشار عليهم بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد، قال شعيب الجبّائي: اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، قالوا: فلمّا جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنيانا كالحظيرة فذلك قوله قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ «2» ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني لأجمعنّ حطبا لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر في بعض ممّا تطلب ممّا تحبّ أن تدرك لئن أصابته لتحتطبنّ في نار إبراهيم التي يحرق بها احتسابا في دينها. قال ابن إسحاق: كانوا يجمعون الحطب شهرا، قالوا: حتى إذا أكثروا وجمعوا منه ما أرادوا أشعلوا في كلّ ناحية من الحطب، فاشتعلت النّار واشتدّت حتّى أن كان الطّير لتمرّ بها فتحرق من شدّة وهجها، ثمّ عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيّدوه، ثم اتخذوا منجنيقا ووضعوه فيه مقيّدا مغلولا، فصاحت السموات والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلّا الثّقلين صيحة واحدة: أي ربّنا، إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره يحرق فيك فائذن لنا في نصرته، فقال الله سبحانه وتعالى لهم: إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره، فقد أذنت له في ذلك، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به، وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن المياه فقال: إن أردت أخمدت النّار فإنّ خزائن الأمطار بيدي، وأتاه خازن الرياح فقال: إن شئت طيّرت النار في الهواء، فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السّماء فقال: اللهمّ أنت الواحد في السّماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وروى المعتمر عن أبي بن كعب عن أرقم أنّ إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: لا إله إلّا أنت سبحانك ربّ العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك، قال: ثمّ رموه في المنجنيق إلى النّار من مضرب شاسع فاستقبله جبرئيل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أمّا إليك فلا، قال جبرئيل: فاسأل ربّك؟ فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فقال الله سبحانه يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قال السدّي: كان جبرئيل هو الذي ناداها. قال ابن عباس: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها، فلم تبق يومئذ نار في الأرض إلّا طفئت ظنت أنّها هي تعنى.
قال السدّي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس. قال كعب: ما أحرقت النار من إبراهيم إلّا وثاقه، قالوا: وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام. قال المنهال بن عمر: قال إبراهيم خليل الله: ما كنت أيّاما قطّ أنعم منّي من الأيّام التي كنت فيها في النار. قال ابن يسار: وبعث الله جلّ اسمه ملك الظلّ في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم وهو يؤنسه، قالوا: وبعث الله بقميص من حرير الجنّة وأتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا إبراهيم إنّ ربّك يقول: أما علمت أنّ النار لا تضرّ أحبّائي، ثمّ نظر نمرود من صرح له وأشرف على إبراهيم وما شكّ في موته، فرأى إبراهيم جالسا في روضة ورأى الملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق ما جمعوا له من الحطب فناداه نمرود: يا إبراهيم، كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى لم يضرّك، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرّك؟ قال: لا، قال: فقم فاخرج منها، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها، فلمّا خرج إليه قال له: يا إبراهيم، من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظلّ أرسله إليّ ربّي ليؤنسني فيها، فقال نمرود: يا إبراهيم إنّي مقرّب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزّته فيما صنع بك حين أبيت إلّا عبادته وتوحيده، إنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال له إبراهيم: إذا لا يقبل الله منك ما كنت على دينك هذا حتى تفارقه إلى ديني، فقال: يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له، فذبحها له نمرود، ثمّ كف عن إبراهيم ومنعه الله سبحانه منه. قال أبو هريرة: إنّ أحسن شيء قاله إبراهيم لمّا رفع عنه الطبق وهو في النار يرشح جبينه فقال نمرود عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم قال كعب وقتادة والزهري: ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ولا أحرقت النار شيئا يومئذ إلّا وثاق إبراهيم ولم تأت يومئذ دابّة إلّا أطفأت عنه النار إلّا الوزغ، فلذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقتله وسمّاه فويسقا. قال شعيب الجبائي: ألقي إبراهيم (عليه السلام) في النار وهو ابن ست عشرة سنة، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة، وكان مذبحه من بيت إيليا على ميلين، ولمّا علمت سارة بما أراد بإسحاق بطنت يومئذ وماتت اليوم الثالث. قال الله سبحانه وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ. وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً من نمرود وقومه من أرض العراق إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ يعني الشام.
قال أبىّ بن كعب سمّاها مباركة لأنّه ما من ماء عذب إلّا وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس. وقال قتادة: كان يقال: الشام أعقاب دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في الشام، وما نقص عن الشام زيد في فلسطين، وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر، وبها مجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريم، وبها يهلك الله الدجّال. وحدّث أبو قلابة أنّ رسول الله (عليه السلام) قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ الملائكة حملت عمود الكتاب فوضعته بالشام، فأوّلته أنّ الفتن إذا وقعت فإنّ الإيمان بالشام. وذكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) قال لكعب: ألا تتحوّل إلى المدينة فإنّها مهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وموضع قبره؟ فقال له كعب: يا أمير المؤمنين إنّي أجد في كتاب الله المنزل أنّ الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده. قال محمد بن إسحاق بن يسار: استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله سبحانه به من جعل النار عليه بَرْداً وَسَلاماً على خوف من نمرود وملئهم، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وكان ابن أخيه، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخ إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له باحور بن تارخ، فهاران أبو لوط وناحورا أبو تبويل وتبويل أبو لأن، ورتقا بنت تبويل امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب وليا وزاجيل روحيا يعقوب ابنتا لايان، وآمنت به أيضا سارة وهي بنت عمّه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عمّ إبراهيم عليه السلام. وقال السدّي: كانت سارة بنت ملك حرّان وذلك أنّ إبراهيم ولوطا انطلقا قبل الشام فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حرّان وقد طعنت على قومها في دينهم، فتزّوجها إبراهيم على أن يغيّرها. قال ابن إسحاق: خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجرا إلى ربّه، وخرج معه لوط وسارة كما قال الله سبحانه فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة الله حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله أن يمكث، ثمّ خرج منها مهاجرا حتّى قدم مصر، ثمّ خرج من مصر إلى الشام ونزل السبع من أرض فلسطين وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك، فبعثه الله سبحانه نبيّا فذلك قوله وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ يعني الشام، وبركتها أنّ منها بعث أكثر الأنبياء وهي أرض خصبة كثيرة الأشجار والأنهار والثمار يطيب فيها عيش الفقير والغنىّ. وروى العوفي عن ابن عباس في قوله إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ قال: يعني
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 73 إلى 82]
مكّة ونزول إسماعيل، ألا ترى أنّه يقول إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ «1» والقول الأول أصوب. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي عطاء عن مجاهد، الحسن والضحّاك: فضلا، قال ابن عباس وأبي بن كعب وابن زيد وقتادة: سأل واحدا فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فأعطاه الله إسحاق ولدا، وزاده يعقوب ولد الولد فهو النافلة. قال مجاهد وعطاء: معنى النافلة العطية وهما جميعا من عطاء الله سبحانه أعطاهما إيّاه. وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 73 الى 82] وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم في الخير يَهْدُونَ يدعون الناس إلى ديننا. بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ وإقامة الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ وَلُوطاً أي وآتينا لوطا، وقيل واذكر لوطا آتَيْناهُ حُكْماً أي الفصل بين الخصوم بالحقّ وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ يعني سدّ وما كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أخر كانوا يعملونها من المنكرات. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نادى دعا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إبراهيم ولوط فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أتباعه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الطوفان، والكرب أشد الغم. وَنَصَرْناهُ منعناه مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أن يصلوا إليه بسوء، وقال أبو عبيد: أي على القوم.
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ قال مرّة وقتادة: كان الحرث زرعا، وقال ابن مسعود وشريح: كان كرما قد نبتت عنا قيد إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ أي رعته ليلا فأفسدته، والنفش بالليل، والهمل بالنهار، وهما الرعي بلا راع وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ لا يخفى علينا منه شيء، ولا يغيب عنّا علمه. فَفَهَّمْناها أي علّمناها وألهمناها يعني القضيّة سُلَيْمانَ دون داود. وَكُلًّا يعني داود وسليمان آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً. قال ابن عباس وقتادة والزهري ومرّة: وذلك أنّ رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي، فلم تبق منه شيئا، فقال له داود: اذهب فإنّ الغنم لك، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث، فخرجا فمرّا على سليمان فقال: كيف قضى بينكما، فأخبراه فقال سليمان: لو ولّيت أمرهم لقضيت بغيره، فأخبر بذلك داود فدعاه فقال: كيف تقضي بينهما؟ قال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له نسلها ورسلها وحرثها وعوارضها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه. وقال ابن مسعود وشريح ومقاتل: إنّ راعيا نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم، فصار صاحب الكرم من الغد إلى داود، فقضى بالأغنام لصاحب الكرم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت، فمرّوا بسليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: ما قضى الملك في أمركم؟ فقصّوا عليه القصّة فقال سليمان: غير هذا أرفق بالفريقين، فعادوا إلى داود فأخبروه بذلك فدعا سليمان وقال له: بحقّ النبوّة والأبوّة إلّا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، فقال سليمان: تسلّم الأغنام إلى صاحب الكرم حتى يرتفق برسلها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويعمل الراعي في إصلاح الكرم إلى أن يعود كهيئته، ثم يرد الأغنام إلى صاحبها فقال «1» : القضاء ما قضيت. وحكم بذلك. قال الحسن: كان الحكم بما قضى به سليمان، ولم يعنف الله داود في حكمه وهذا يدلّ على أنّ كلّ مجتهد مصيب. وروى الزهري عن حرام بن محيصة قال: دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته، فرفع ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ هذه الآية، ثم قضى على البراء بما أفسدت الناقة وقال: «على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل، وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار» «2» .
وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ أي وسخّرنا الجبال والطّير يسبّحن مع داود إذا سبّح. قال وهب: كان داود يمرّ بالجبال مسبّحا وهي تجاوبه وكذلك الطير. قتادة: «يُسَبِّحْنَ» أي يصلّين معه إذا صلّى. وَكُنَّا فاعِلِينَ ذلك وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اللبوس عند العرب: السلاح كلّه درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا، يدلّ عليه قول الهذلي يصف رمحا: ومعي لبوس للبئيس كأنّه ... روق بجبهة ذي نعاج مجفل «1» يريد باللبوس الرمح، وإنّما عنى الله سبحانه في هذا الموضع الدرع وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب. قال قتادة: أول من صنع الدروع داود (عليه السلام) وإنّما كانت صفائح، فهو أوّل من سردها وحلقها. لِتُحْصِنَكُمْ لتحرزكم وتمنعكم مِنْ بَأْسِكُمْ حربكم، واختلف القرّاء فيه، فقرأ شيبة وعاصم برواية أبي بكر، ويعقوب برواية رويس، لنحصنكم بالنون، لقوله «وَعَلَّمْناهُ» وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص وروح، بالتاء يعني الصنعة. وَلِسُلَيْمانَ أي وسخّرنا لسليمان الرِّيحَ وهو هواء محرّك وهو جسم لطيف يمتنع «2» بلطفه من القبض عليه ويظهر الحسن بحركته، والريح تذكّر وتؤنّث. عاصِفَةً شديدة الهبوب تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني الشام وذلك أنّها كانت تجري لسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ثم تعود به إلى منزله بالشام. قال وهب بن منبه: كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس على سريره وكان إمرأ غزا قلّ ما يقعد عن الغزو، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلّا أتاه حتى يذلّه، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب له بخشب، ثم نصب له على الخشب، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلّها حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت أمر الرخاء فمدّته شهرا في روحته وشهرا في غدوته إلى حيث أراد. قال: فذكر لي منزل بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان إمّا من الجنّ
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 إلى 94]
وإمّا من الإنس: نحن نزلناه وما بنينا ومبنيّا وجدناه، غزونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله فآتون الشام. قال الله سبحانه وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ. وَمِنَ الشَّياطِينِ يعني وسخّرنا لسليمان أيضا من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له الجواهر من البحر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ يعني دون الغوص وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ حتى لا يخرجوا من أمره. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 94] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ الآية. قال وهب بن منبّه: كان أيّوب رجلا من الروم، وهو أيّوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمّه من ولد لوط بن هاران، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبّأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البثينة من أرض الشام كلّها سهلها وجبلها بما فيها، وكان له من أصناف المال كلّه من الإبل والبقر والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدّة والكثرة، وكان له بها خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد، لكلّ عبد امرأة وولد ومال، ويحمل له كلّ فدان أتان، لكلّ أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك، وكان الله سبحانه أعطاه أهلا وولدا من رجال ونساء، وكان برّا تقيّا رحيما بالمساكين، يكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل، وكان شاكرا لأنعم الله سبحانه، مؤديا لحقّ الله تعالى، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من العزّة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه وعرفوا فضله: رجل من أهل اليمن يقال له اليفن، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما بلدد وللآخر صافر، وكانوا كهولا.
قال وهب: إنّ لجبرئيل (عليه السلام) بين يدي الله سبحانه مقاما ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة، وإنّ جبرئيل هو الذي يتلقّى الكلام، فإذا ذكر الله عبدا بخير تلقّاه جبرئيل ثم لقّاه ميكائيل وحوله الملائكة المقرّبون حافّين من حول العرش، فإذا شاع ذلك في الملائكة المقرّبين صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السموات، فإذا صلّت عليه ملائكة السموات هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض «1» ، وكان إبليس لعنه الله لا يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهنّ حيث ما أراد، ومن هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنّة، فلم يزل على ذلك يصعد في السموات حتى رفع الله سبحانه عيسى ابن مريم فحجب من أربع، وكان يصعد في ثلاث، فلمّا بعث الله تعالى محمدا (عليه السلام) حجب من الثلاث الباقية، فهو وجنوده محجوبون من جميع السموات إلى يوم القيامة إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ «2» . قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب وذلك حين ذكره الله سبحانه وأثنى عليه، فأدركه البغي والحسد وصعد سريعا حتى وقف من السماء موقفا كان يقفه فقال: يا إلهي نظرت في أمر عبدك أيّوب فوجدته أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ثمّ لم تجرّبه بشدّة ولا بلاء وأنا لك زعيم، لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينّك، فقال الله سبحانه وتعالى له: انطلق فقد سلّطتك على ماله، فانقض عدوّ الله حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم وقال لهم: ماذا عندكم من القوّة والمعرفة؟ فإنّي قد سلّطت على مال أيوب، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال. قال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصارا من النار وأحرقت كلّ شيء آتي عليه، قال له إبليس: فات الإبل ورعاها فانطلق يؤم الإبل وذلك حين وضعت رؤوسها ويثبت «3» في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار ينفخ منها أرواح السّموم، لا يدنو منها أحد إلّا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاها حتى أتى على آخرها، فلمّا فرغ منها تمثّل إبليس على قعود منها يراعها ثم انطلق يؤم أيّوب حتّى وجده قائما يصلّي فقال: يا أيّوب، قال: لبّيك، قال: هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعائها؟ قال أيوب: انّها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه، وقديما وطّنت مالي ونفسي على الفناء. قال إبليس: فإنّ ربّك أرسل عليها نارا من السّماء فاحترقت ورعاؤها كلّها، فتركت الناس
مبهوتين وقفا عليها يتعجّبون منها، منهم من يقول: ما كان أيّوب يعبد شيئا وما كان إلّا في غرور، ومنهم من قال: لو كان إله أيّوب يقدر على أن يصنع شيئا لمنع وليّه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوّه ويفجع به صديقه. قال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع منّي، عريانا خرجت من بطن أمّي، وعريانا أعود في التراب، وعريانا أحشر إلى الله سبحانه، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته، الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله فيك أيّها العبد خيرا لتقبّل روحك مع تلك الأرواح فآجر لي فيك وصرت شهيدا، ولكنه علم منك شرا فاخّرك «1» ، وخلصك من البلاء كما يخلص الزوّان من القمح الخالص. فرجع إبليس لعنه الله إلى أصحابه خاسئا ذليلا فقال: ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلّم قلبه، قال عفريت من عظمائهم: عندي من القوة اما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلّا خرجت مهجة نفسه «2» ، قال له إبليس: فأت الغنم ورعاها فانطلق يأتي الغنم ورعاها حتى إذا توسطها صاح صوتا جثمت أمواتا من عند آخرها، ومات رعاؤها، ثم خرج إبليس متمثّلا بقهرمان الرعاء حتى إذا جاء أيوب وهو قائم يصلّي، فقال له القول الأول وردّ عليه أيّوب الردّ الأول. ثمّ إن إبليس رجع إلى أصحابه فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإنّي لم أكلّم قلب أيّوب، فقال عفريت من عظمائهم: عندي من القوّة ما إذا شئت تحوّلت ريحا عاصفا تنسف كلّ شيء تأتي عليه حتى لا أبقي شيئا، قال له إبليس: فأت الفدادين والحرث، فانطلق يؤمهم وذلك حين قرنوا الفدادين وأنسؤوا في الحرث، وأولادها رتوع، فلم يشعروا حتى هبّت ريح عاصف فنسفت كلّ شيء من ذلك حتّى كأنّه لم يكن، ثم خرج إبليس متمثّلا بقهرمان الحرث حتى جاء أيّوب وهو قائم يصلّي فقال له مثل قوله الأوّل وردّ عليه أيّوب مثل ردّه الأوّل، فجعل إبليس يصيب ماله مالا مالا حتى مرّ على آخره، كلّما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ووطّن نفسه للصبر على البلاء حتى لم يبق له مال. فلمّا رأى إبليس أنّه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعا حتى وقف الموقف الذي كان يقفه فقال: إلهي إنّ أيّوب يرى أنّك ما متّعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده فإنّها الفتنة المضلّة والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ولا يقوى عليها صبرهم.
قال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتك على ولده، فانقضّ عدوّ الله حتى جاء بني أيّوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثّل بهم كلّ مثلة رفع بهم القصر وقلبه فصاروا منكّسين، وانطلق إلى أيّوب متمثّلا بالمعلّم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه، فأخبره بذلك وقال: يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عذّبوا وكيف قلبوا فكانوا منكّسين على رؤوسهم، تسيل دماؤهم ودماغهم من أنوفهم وأشفارهم وأجوافهم، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ونحوه ويرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعا بالذي كان من جزع أيّوب مسرورا به، ثمّ لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر، فاستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فبدروا إبليس إلى الله سبحانه وهو أعلم، فوقف إبليس خازيا ذليلا فقال: يا إلهي إنّما هوّن على أيّوب خطر المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده، فأنى لك زعم لئن ابتليته في جسده لينسينّك وليكفرنّ بك وليجحدنّك نعمتك. فقال الله سبحانه: انطلق فقد سلّطتك على جسده، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله، وكان الله تعالى هو أعلم به، لم سلطه عليه إلّا رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كلّ بلاء نزل بهم ليتأسّوا به في الصبر ورّجاء الثواب. وانقض عدو الله إبليس سريعا فوجد أيوب ساجدا فعجّل قبل أن يرفع رأسه «1» فأتاه من قبل الأرض في موضع وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فذهل وخرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم وقعت فيه حكّة لا يملكها، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخّار والحجارة الخشنة فلم يزل حكها حتى نفل لحمه وتقطع وتغير وأنتن. فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، وكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم: اليفر ويلدد وصافر ما ابتلاه الله سبحانه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه ولاموه وقالوا له: تب إلى الله سبحانه من الذنب الذي عوقبت به، قال: وحضر معهم فتى حديث السن وكان قد آمن به وصدّقه فقال لهم: إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم «2» ، ولكن قد تركتم من القول
أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم، وقد كان لا يؤت عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم، ومن الرجل الذي عبتم واتهمتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا، ثم لم تعلموا أو لم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئا من أمره منذ أتاه ما أتاه إلى يومكم هذا، ولا على أنه نزع منه شيئا من الكرامة التي أكرمه بها، ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا، وإن كان البلاء هو الذي أزري به عندكم ووضعه في أنفسكم، فقد علمتم أن الله سبحانه يبتلي النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم، ولا هو انه لهم، ولكنها كرامة وخيرة لهم، ولو كان أيوب ليس من الله تعالى بهذه المنزلة إلّا أنه أخ اجتبيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيّره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم، وهو مكروب جرين، ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن بحزنه ويدله على مراشد أمره، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا، فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم. ألم تعلموا أن لله عبادا أسكتتهم خشية من غير عيّ ولا بكم، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الأولياء العالمون بالله وبأيامه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرّت جلودهم، وانكسرت قلوبهم، وطاشت عقولهم إعظاما لله وإعزازا وإجلالا، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ويعدون أنفسهم مع المقصرين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ولا يرضون لله بالقليل، ولا يدلون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزّعون خاشعون مستكينون. فقال أيوب: إن الله سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله على اللسان، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجربة، ولئن جعل الله تعالى العبد حكيما في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة. ثم أقبل أيوب على الثلاثة فقال: أتيتموني غضابا رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم من قبل أن تضربوا، كيف بي لو قلت لكم تصدّقوا عنّي بأموالكم! لعلّ الله أن يخلّصني، أو قرّبوا عنّي قربانا لعلّ الله يتقبّله ويرضى عني، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوقبتم بإحسانكم فهنالك بغيتم وتعزّزتم ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربّكم ثمّ صدقتم لوجدتم لكم عيوبا سترها الله بالعافية التي ألبسكم، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف حقّي، منصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فإنّكم كنتم علىّ أشدّ من مصيبتي. ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستعينا به متضرعا إليه فقال: ربّ لأيّ شيء خلقتني؟
ليتني إذ كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمّي، أو يا ليتني عرفت الذّنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك الكريم عنّي، لو كنت أمتّني فألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل لي، ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليّا وللأرملة قيّما؟ الهي أنا عبد ذليل، إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضا وللفتنة نصبا، وقد وقع عليّ بلاء لو سلّطته على جبل ضعف عن حمله، فكيف يحمله ضعفي، إلهي تقطّعت أصابعي فإنّي لأرفع الأكلة من الطعام بيديّ جميعا فما تبلغان فمي إلّا على الجهد منّي، تساقطت لهواتي ولحم رأسي، فما بين أذنيّ من سداد حتى أنّ إحداهما ترى من الأخرى، وإنّ دماغي يسيل من فمي. تساقط شعر عيني فكأنما حرّق بالنار وجهي، وحدقتاي هما متدلّيتان على خدّي، ورم لساني حتى ملأ فمي، فما أدخل منه طعاما إلّا غصّني، ورمت شفتاي حتّى غطّت العليا أنفي والسفلى ذقني، تقطّعت أمعائي في بطني فإنّي لأدخله الطعام فيخرج كما دخل ما أحسّه ولا ينفعني، ذهبت قوّة رجليّ فكأنهما قربتا ماء أطيق حملهما، ذهب المال فصرت أسأل بكفّي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة، فيمنّها عليّ ويعيّرني، هلك أولادي ولو بقي أحد منهم أعانني على بلائي ونفعني، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي وتنكّرت معارفي ورغب عنّي صديقي وقطعني أصحابي وجحدت حقوقي ونسيت صنايعي، أصرخ فلا يصرخونني وأعتذر فلا يعذرونني، ودعوت غلامي فلم يجبني وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني «1» وأنحل جسمي ولو أنّ ربّي نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتّى أتكلّم بملء فمي، ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ عن نفسه، لرجوت أن «2» يعافيني عند ذلك ممّا بي ولكنّه ألقاني وتعالى عنّي فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إلىّ فرحمني ولا دنا منّي ولا أدناني، فأتكلم ببراءتي وأخاصم عن نفسي. فلمّا قال ذلك أيّوب وأصحابه أظلّه غمام حتّى ظنّ أصحابه أنّه عذاب، ثمّ نودي منه: يا أيّوب إنّ الله يقول: ها أنا دنوت منك ولم أزل منك قريبا، فقم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وقم مقام جبّار فإنّي لا ينبغي لي أن يخاصمني إلّا جبّار مثلي ولا ينبغي أن يخاصمني إلّا من يجعل الزمّار، في فم الأسد والسّخال في فم العنقاء واللجام في فم التنين، ويكتال مكيالا من النّور ويزن مثقالا من الرّيح ويصرّ صرّة من الشّمس ويردّ أمس، لقد منّتك نفسك أمرا ما يبلغ بمثل قوّتك ولو كنت إذ منّتك ذلك ودعتك إليه، تذكّرت أىّ مرام رامت بك.
أردت أن تخاصمني بفيك أم أن تحاجّني بخطابك أم أردت ان تكابرني بضعفك؟ أين أنت منّي يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها؟ هل علمت بأي مقدار قدّرتها أم كنت معي تمد بأطرافها، أم تعلم ما بعد زواياها أم على أىّ شيء وضعت أكنافها؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاء؟ أين كنت منّي يوم رفعت السّماء سقفا في الهواء لا بعلائق سيّبت ولا يحملها دعم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسيّر نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ أين أنت منّي يوم سخّرت البحار ونبعت الأنهار؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدّتها؟ أين أنت منّي يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال؟ هل لك من ذراع يطيق حملها أم هل تدري كم من مثقال فيها، أم أين الماء الذي أنزلت من السماء؟ هل تدري أمّ تلده أو أب يولده؟ أحكمتك أحصت القطر وقسمت الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب وتغشيه الماء؟ هل تدري ما أصوات الرعود أم من أىّ شيء لهب البرق؟ وهل رأيت عمق البحر، أم هل تدري ما بعد الهواء، أم هل خزنت أرواح الأموات، أم هل تدري أين خزانة الثلج، أو أين خزائن البرد، أم أين جبال البرد، أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار، وأين خزانة النهار بالليل، وأين طريق النور، وبأىّ لغة تتكلّم الأشجار، وأين خزانة الريح؟ وكيف تحبسه الأغلاق؟ ومن جعل العقول في الرّجال؟ ومن شق الأسماع؟ ومن ذلّت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته؟ من قسّم للأسد رزقها وعرّف الطير معاشها وعطفها على أفراخها؟ من أعتق الوحش من الخدمة وجعل مساكنها البريّة، لا تستأنس بالأصوات ولا تهاب المسلّطين، أم حكمتك عطفت أمهاتها عليها حتى أخرجت لها الطعام من بطونها وآثرتها بالعيش على نفوسها، أم من حكمتك تبصّر العقاب الصيد البصر البعيد وأصبح في أماكن القتلى؟ أين أنت منّي يوم خلقت يهموت مكانه في مقطع التراب والوثبان «1» يحملان الجبال والقرى والعمران، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال، ورؤسهما كأنها كوم الجبال، وعروق أفخاذها كأنها عمد النحاس، أنت ملأت جلودهما لحما أم أنت ملأت رؤسهما دماغا؟ هل لك في خلقهما من شرك أم لك بالقوة التي غلبتها يدان؟ هل تبلغ من قوّتك أن تضع يدك على رؤوسهما أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما أو تصدّهما من قوتهما؟ أين أنت يوم خلقت للتنّين رزقه في البحر ومسكنه في السحاب؟ عيناه توقدان نارا ومنخراه يثوران دخانا، أذناه مثل قوس السحاب، يثور منهما لهب كأنّه إعصار العجاج، جوفه يحترق ونفسه تلتهب وزبده جمر كأمثال
الصخور، وكأنّ صريف أسنانه أصوات الصواعق، وكأنّ نظر عينيه لهب البرق، وتمرّ به الجيوش وهو متكئ لا يفزعه شيء، ليس فيه مفصل الحديد، عنده مثل الطين، والنحاس، عنده مثل الخيوط لا يفزع من النشّاب ولا يحسّ وقع الصخور على جسده، ويسير في الهواء كأنّه عصفور، ويهلك كلّ شيء يمرّ به، هل أنت آخذه بأحبولتك أو واضع اللجام في شدقه؟ هل تحصي عمره أم هل تعرف تقوّت رزقه أم هل تدري ماذا خرّب من الأرض؟ وماذا يخرّب فيما بقي من عمره؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك؟ تبارك الله وتعالى. فقال أيّوب: قصرت عن هذا الأمر الذي يعرض علىّ ليت الأرض انشقّت فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخط ربّي، اجتمع علىّ البلاء إلهي فجعلتني مثل العدوّ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي، وقد علمت أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من هذا، ما شئت عملت، لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة، من هذا الذي يظن أن يسرّ عنك سرّا وأنت تعلم ما يخطر على القلوب؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم، وخفت حين بلوت أمرك أكثر ممّا كنت أخاف، إنّما كنت أسمع بسطوتك سمعا فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلمت حين تكلمت لتعذرني، وسكتّ حين سكتّ لترحمني، كلمة زلّت فلن أعود، قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدّي ودسست فيه وجهي لصغاري، وسكتّ كما أسكتتني خطيئتي، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني. فقال الله سبحانه: يا أيوب فقد نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي إذ خطئت فقد غفرت لك، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ليكون لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، ويكون عبرة لأهل البلاء وغزاء للصابرين ف ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ، فيه شفاؤك، وقرّب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها، فاغتسل فأذهب الله عنه كلّما كان به من البلاء، ثمّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فقامت تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالواله مترددة متحيّرة ثم قالت: يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا؟ فقال لها: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم ومالي لا أعرفه؟ فتبسم وقال: أنا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته. قال ابن عباس: فو الذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد، فذلك قوله وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ «1» . واختلف العلماء في وقت ندائه، والسبب الذي قال: لأجله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وفي مدّة بلائه.
فحدّثنا الإمام أبو الحسن علىّ بن سهل الماسرخسي إملاء يوم الجمعة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو طالب عمر بن الربيع بن سليمان الخشّاب بمصر قال: حدّثنا يحيى بن أيوب العلّاف قال: حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدّثنا نافع بن يزيد عن عقيل عن شهاب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أيوب نبيّ الله لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلّا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلمّا راحا إلى أيّوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك، فقال أيّوب: ما أدري ما يقولان غير أنّ الله سبحانه يعلم أني كنت أمرّ بالرجلين يتنازعان فيذكران الله سبحانه وتعالى، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلّا في حقّ» «1» . قال: فكان يخرج بحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلمّا كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيّوب في مكانه ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ «2» فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان، فلمّا رأته قالت: هل رأيت نبىّ الله هذا المبتلى؟ قال: إنّي أنا هو، وكان له أندران: أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سبحانه سحابتين، فلمّا كانت أحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض. وقال الحسن: مكث أيّوب مطروحا على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف فيه الدوابّ. وقال وهب: لم يكن بأيّوب أكلة إنّما كان يخرج منه مثل ثدي النّساء ثم يتفقّأ. قال الحسن: ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقرّبه غير رحمة صبرت معه، تصدّق وتأتيه وتحمد الله إذا حمد، وأيّوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله سبحانه والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه، فصرخ عدوّ الله إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعا من صبر أيّوب فلمّا اجتمعوا إليه قالوا: ما جزعك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت ربّي أن يسلّطني على ماله وولده فلم أدع له مالا، وولدا فلم يزدد بذلك إلّا صبرا وثناء على الله سبحانه، ثمّ سلّطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل، لا تقربه إلّا امرأته، فقد افتضحت بربي فاستعنت بكم لتعينوني عليه، قالوا له: أين مكرك؟ أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟
قال: بطل ذلك كله في أيّوب فأشيروا عليّ، قالوا: نشير عليك، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنّه لا يستطيع أن يعصيها وليس أحد يقرّبه غيرها، قال: أصبتم، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدّق، فتمثّل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو ذاك يحكّ قروحه، وتتردّد الدوابّ في جسده، فلمّا سمعها طمع أن يكون كلمة جزع، فوسوس إليها فذكّرها ما كانت فيه من النعيم والمال، وذكرها جمال أيّوب وشبابه، وما هو فيه من الضرّ، وأنّ ذلك لا ينقطع عنهم أبدا. قال الحسن: فصرخت، فلمّا صرخت علم أن قد جزعت، فأتاها بسخلة فقال: ليذبح هذا لي أيّوب ويبرأ. قال: فجاءت تصرخ: يا أيوب حتى متى يعذّبك ربّك؟ ألا يرحمك؟ أين المال؟ أين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ إنّ لونك الحسن قد تغيّر وصار مثل الرّماد، أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردّد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح. قال أيّوب: أتاك عدوّ الله فنفخ فيك وأجبته؟! ويلك أرأيت ما تبكين عليه ممّا تذكرين ممّا كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانيه؟ قالت: الله، قال: فكم متّعنا به؟ قالت: ثمانين سنة، قال: فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت ربك، ألا صبرت يكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربّنا به ثمانين سنة، كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنّك مائة جلدة، أمرتني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي أتيت به؟ علي حرام أن أذوق شيئا ممّا تأتينني به بعد إذ قلت لي هذا، فاغربي عنّي فلا أراك، فطردها فذهبت فلمّا نظر أيّوب إلى امرأته قد طردها، وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرّ ساجدا وقال: رب مَسَّنِيَ الضُّرُّ ثم ردّ ذلك إلى ربّه فقال وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقيل له: ارفع رأسك فقد استجبت لك، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دابّة شيء ظاهر إلّا سقط، فأذهب الله كلّ ألم وكلّ سقم، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان، ثم ضرب رجله فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلّا خرج، فقام صحيحا وكسي حلّة. قال: فجعل يلتفت فلا يرى شيئا ممّا كان له من أهل ومال إلّا وقد أضعفه الله له حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب، قال: فجعل يضمّه بيده فأوحى إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنّها بركتك فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثمّ إنّ امرأته قالت: أرأيت إن كان طردني، إلى من أكله؟ أدعه يموت جوعا وتأكله السباع لأرجعنّ إليه، فرجعت إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت، وإذا الأمور قد تغيّرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وذلك بعين أيّوب.
قال: وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه، فأرسل إليها أيّوب فدعاها فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذا على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل؟. فقال لها أيوب: ما كان منك؟ فبكت وقالت: أردت بعلي فهل رأيته؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد رآه؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: أما إنّه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحا، قال: فإنّي أنا أيّوب الذي أمرتني أنّ أذبح لإبليس، وإنّي أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه وتعالى فردّ عليّ ما ترين. وقال كعب: كان أيّوب في بلائه سبع سنين. وقال وهب: لبث أيّوب في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوما واحدا، فلمّا غلب أيّوب إبليس ولم يستطع منه شيئا اعترض امرأته في هيئة ليس كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال، على مركب ليس من مراكب الناس، له عظم وبهاء وجمال، فقال لها: أنت صاحبة أيّوب هذا الرجل المبتلى؟ قالت: نعم قال: هل تعرفينني؟ قالت: لا، قال: فأنا إله الأرض، وأنا الذي صنعت، بصاحبك ما صنعت وذلك أنّه عبد إله السّماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنّه عندي، ثم أراها إيّاهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه. قال وهب: وقد سمعت أنّه إنّما قال: لو أنّ صاحبك أكل طعاما ولم يسمّ عليه لعوفي ممّا به من البلاء، والله أعلم، وأراد إبليس لعنه الله أن يأتيه من قبلها. ورأيت في بعض الكتب أنّ إبليس قال لرحمة: وإن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أردّ عليك المال والأولاد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيّوب فأخبرته بما قال لها وما أراها، قال: قد أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثمّ أقسم إن عافاه الله ليضربنّها مائة جلدة. وقال عند ذلك: مسّني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له، ودعائه إيّاها وإيّاي إلى الكفر، قالوا: ثمّ الله سبحانه رحم رحمة امرأة أيّوب بصبرها معه على البلاء، وخفّف عنها، وأراد أن يبرئ يمين أيوب فأمره أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها بها ضربة واحدة كما قال الله سبحانه وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ «1» الآية. وقال وهب وغيره: كانت امرأة أيوب تكسب له وتعمل للناس وتجيئه بقوته، فلمّا طال عليهما البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها التمست له يوما من الأيّام ما تطعمه، فما وجدت شيئا
فجزّت قرنا من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته بذلك فحينئذ قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ. وقال قوم: إنّما قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يعيى «1» عن الذكر والفكر. وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم في أيّوب خيرا ما ابتلاه بما نرى: قال: فلم يسمع أيوب شيئا كان عليه أشدّ من هذه الكلمة، وما جزع من شيء أصابه جزعه من تلك الكلمة، فعند ذلك قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ، ثم قال: اللهمّ إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدّقني فصدّق، وهما يسمعان، ثمّ قال: اللهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أتّخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكانا عار فصدقني فصدّق وهما يسمعان فخرّ ساجدا. وقيل معناه: مسّني الضر من شماتة الأعداء، يدلّ عليه ما روي أنّه قيل له بعد ما عوفي: ما كان أشدّ عليك في بلائك؟ قال: شماتة الأعداء. وقيل: إنّما قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فرفعها وردّها إلى موضعها وقال: كلي فقد جعلني الله طعامك، فعضّته عضّة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عضّ الديدان. وسمعت أبا عبد الله بن محمد بن جعفر الأبيوردي يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبّاد البغدادي يقول: سئل أبو القاسم جنيد عن هذه الآية فقال: عرّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال. وسمعت استأذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسا غاصّا بالفقهاء والأدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية- بعد إجماعهم على أنّ قول أيوب مَسَّنِيَ الضُّرُّ شكاية وقد قال الله سبحانه إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً «2» فقلت: ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء، بيانه قوله سبحانه فَاسْتَجَبْنا لَهُ والإجابة تعقب الدعاء لا الاشتكاء، فاستحسنوه وارتضوه. فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ واختلفوا في كيفية ذلك فقال قوم: إنما آتى الله سبحانه أيّوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا، فأما الذين هلكوا فإنّهم لم يردّوا عليه، وإنّما وعد الله أيّوب أن يؤتيه إيّاهم في الآخرة. وروى عبد الله بن إدريس عن ليث قال: أرسل مجاهد رجلا يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن هذه الآية فقال: قيل له: إنّ أهلك لك في الآخرة، فإن شئت عجّلناهم لك في الدنيا،
وإن شئت كانوا لك في الآخرة، وآتيناك مثلهم في الدنيا؟ فقال: يكونون لي في الآخرة، وأوتي مثلهم في الدنيا. قال: فرجع إلى مجاهد فقال: أصاب، ويكون معنى الآية على هذا التأويل وآتيناه أهله في الآخرة، ومثلهم معهم في الدنيا، وأراد بالأهل الأولاد. قال وهب: كان له سبع بنات وثلاثة بنين. وقال ابن يسار: كان له سبع بنين وسبع بنات، وقال آخرون: بل ردّهم الله سبحانه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة وكعب قال: أحياهم الله وأوتي مثلهم، وهذا القول أشبه بظاهر الآية. وقال الحسن: آتاه الله المثل من نسل ماله الذي ردّ عليه وأهله، فأمّا الأهل والمال فإنه ردّهما عليه بأعيانهما. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ عظة لهم وَإِسْماعِيلَ يعني ابن إبراهيم وَإِدْرِيسَ وهو أخنوخ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ على أمر الله، واختلفوا في ذي الكفل، فأخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه في داري قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا عبد الله «1» الرازي عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت حديثا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو لم أسمعه إلّا مرة أو مرّتين لم أحدّث به، سمعته منه أكثر من سبع مرات، قال صلّى الله عليه وسلّم: «كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا ينزع عن ذنب عمله، فاتبع امرأة فأعطاها ستّين دينارا على أن تعطيه نفسها، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت: من هذا العمل، ما عملته قطّ، قال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن حملتني عليه الحاجة، قال: اذهبي فهو لك، ثم قال: والله لا أعصي الله أبدا، فمات من ليلته فقيل مات ذو الكفل، فوجدوا على باب داره مكتوبا: إنّ الله قد غفر لذي الكفل» «2» . وروى الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحرث أنّ نبيّا من الأنبياء قال: من يكفل لي أن يصوم النّهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس، ثم عاد فقال: من يكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب؟ فقام ذلك الشاب فقال: انا، فقال: اجلس، ثم عاد فقام الشاب فقال: أنا فقال: تقوم الليل وتصوم النهار ولا تغضب؟ قال: نعم.
فمات ذلك النبي فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس فكان لا يغضب، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل، فضرب الباب ضربا شديدا فقال: من هذا؟ فقال: رجل له حاجة، فأرسل معه رجلا فرجع فقال: لا أرضى بهذا الرجل، فأرسل معه آخر، فقال: لا أرضى بهذا، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلّاه وذهب، فسمّي ذا الكفل. وقال مجاهد: لما كبر اليسع (عليه السلام) قال: لو أنّي استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى انظر كيف يعمل، قال: فجمع الناس فقال: من يتقبّل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب، فقام رجل تزدريه العين فقال: أنا فردّه ذلك اليوم. وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا فاستخلفه- قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم فقال: دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة- وكان لا ينام بالليل والنهار إلّا تلك النومة- فدقّ الباب فقال: من هذا؟ قال: شيخ فقير كبير مظلوم، فقام ففتح الباب فجعل يقصّ عليه فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومة وإنّهم ظلموني وفعلوا، وفعلوا فجعل يطوّل عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، قال: إذا رحت فإنّني آخذ لك بحقّك، فانطلق وراح، فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره فقام يتبعه، فلمّا كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلمّا رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدقّ الباب فقال: من هذا؟ قال: الشيخ المظلوم، ففتح له فقال: ألم أقل إذا قعدت فأتني قال: إنّهم أخبّ قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نعطيك حقّك، وإذا قمت جحدوني، قال: فانطلق فإذا رحت فأتني، ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه وشقّ عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنّ أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام فإنّي قد شقّ عليّ النوم. فلمّا كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلمّا أعياه نظر فرأى كوّة في البيت فتسوّر منها فإذا هو في البيت، وإذا هو يدقّ الباب من داخل فاستيقظ الرجل فقال: يا فلان ألم آمرك؟ فقال: أمّا من قبلي فلم تؤت والله، فانظر من أين أتيت؟ فقام إلى الباب فهو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال له: أتنام والخصوم ببابك؟ فعرفه فقال: أعدوّ الله؟ قال: نعم أعييتني في كلّ شيء ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك الله منّي، فسمّي ذا الكفل لأنه تكفّل بأمر فوفى به. وقال أبو موسى الأشعري: إنّ ذا الكفل لم يكن نبيّا ولكن كان عبدا صالحا تكفّل بعمل رجل صالح عند موته وكان يصلّي لله سبحانه وتعالى كل يوم مائة صلاة، فأحسن الله عزّ وجلّ عليه الثناء. وقيل: كان رجلا تكفّل بشأن رجل وقع في بلاء فأنجاه الله على يديه.
وقيل: ذو الكفل إلياس، وقيل: هو زكريّا، والله أعلم. وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَذَا النُّونِ واذكر صاحب النون وهو يونس بن متّى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً اختلفوا في معنى الآية ووجهها فقال الضحّاك: ذَهَبَ مُغاضِباً لقومه، وهي رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبي منهم تسعة أسباط ونصف سبط وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيا النبي أن سر إلى حزقيا الملك وقل له حتى يوجّه نبيا قويّا أمينا فإنّي ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل، فقال له الملك: فمن ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال: يونس، فإنّه قوي أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج، فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا، قال: فهل سمّاني لك؟ قال: لا، قال: فهاهنا غيري أنبياء أقوياء أمناء، فالحّوا عليه فخرج مغاضبا للنبىّ وللملك ولقومه، فأتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة فركبها فلمّا تلججت السفينة تكفأت حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملّاحون، ها هنا رجل عاص أو عبد آبق، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر. ولئن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة بما فيها، فاقترعوا ثلاث مرّات فوقعت القرعة في كلّها على يونس. فقام يونس فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في الماء فجاء حوت فابتلعه، ثمّ جاء حوت آخر أكبر منه فابتلع هذا الحوت، وأوحى الله إلى الحوت: لا تؤذ منه شعرة فإنّي جعلت بطنك سجنه، ولم أجعله طعاما لك. وقال الآخرون: بل ذهب عن قومه مغاضبا لربّه إذ كشف عنهم العذاب بعد ما وعدهموه، وذلك أنّه كره أن يكون بين قوم قد جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم، واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي به دفع عنهم العذاب والهلاك، فخرج مغاضبا وقال: والله لا أرجع إليهم كذّابا أبدا، وإنّي وعدتهم العذاب في يوم فلم يأت. وفي بعض الأخبار: إنّ قومه كان من عادتهم أن يقتلوا من جرّبوا عليه الكذب، فلمّا لم يأتهم العذاب للميعاد الذي وعدهم خشي أن يقتلوه، فغضب وقال: كيف أرجع إلى قومي وقد أخلفتهم الوعد؟ ولم يعلم سبب صرف العذاب عنهم، وكيفية القصّة، وذلك أنّه كان خرج من بين أظهرهم، وقد ذكرت القصة بالشرح في سورة يونس. قال القتيبي: المغاضبة مفاعلة، وأكثر المفاعلة من اثنين كالمناظرة والمخاصمة والمجادلة وربّما تكون من واحد كقولك: سافرت وعاقبت الرجل وطارقت النعل وشاركت الأمر ونحوها، وهي هاهنا من هذا الباب، فمعنى قوله: مُغاضِباً أي غضبان أنفا، والعرب تسمّي الغضب أنفا، والأنف غضبا لقرب أحدهما من الآخر، وكان يونس وعد قومه أن يأتيهم العذاب لأجل، فلمّا فات الأجل ولم يعذّبوا غضب وأنف أن يعود إليهم فيكذّبوه، فمضى كالنادّ الآبق إلى السفينة،
وكان من طول ما عاين وقاسى من بلاء قومه يشتهي أن ينزل الله بهم بأسه. وقال الحسن «1» : إنّما غاضب ربّه من أجل أنّه أمر بالمصير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربّه أن ينظره ليتأهّب للشخوص إليهم، فقيل له: إنّ الأمر أسرع من ذلك ولم ينظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلا يلبسها، فقيل له نحو القول الأول، وكان رجلا في خلقه ضيق، فقال: أعجلني ربي أن آخذ نعلا؟ ف ذَهَبَ مُغاضِباً. وقال وهب بن منبّه اليماني: إنّ يونس بن متّى كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلمّا حملت عليه أثقال النبوّة تفسّخ تحتها تفسّخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده وخرج هاربا منها، فلذلك أخرجه الله سبحانه من أولي العزم، فقال لنبيّه محمد (عليه السلام) : فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «2» وقال: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «3» أي لا تلق أمري كما ألقاه. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أن لن نقضي عليه العقوبة، قاله مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، تقول العرب: قدّر الله الشيء بقدره تقديرا وقدره يقدره قدرا، ومنه قوله نَحْنُ قَدَرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ «4» وقوله وَالَّذِي قَدَرَ فَهَدى «5» في قراءة من خفّفهما، ودليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزّهري فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُقَدِّرَ عَلَيْهِ بضم النون وتشديد الدال من التقدير، وقرأ عبيد بن عمير وقتادة: فظنّ أن لن يقدّر عليه بالتشديد على المجهول، وقرأ يعقوب يُقْدَرُ بالتخفيف على المجهول. وقال الشاعر في القدر بمعنى التقدير: فليست عشيّات الحمى برواجع ... لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر نفع ولك الشكر «6» وقال عطاء وكثير من العلماء: معناه فظنّ أن لن نضيّق عليه الحبس من قوله سبحانه اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ «7» أي يضيّق.
وقال سبحانه وتعالى مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «1» ، وقال ابن زيد: هو استفهام معناه: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟. وروى عوف عن الحسن أنّه قال: معناه: فظنّ أنّه يعجز ربّه فلا يقدر عليه. قال: وبلغني أن يونس لمّا أذنب انطلق مغاضبا لربّه واستزلّه الشيطان حتّى ظنّ أن لن يقدر عليه. قال: وكان له سلف وعبادة فأبي الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين يوم وليلة، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاثة، وأمسك الله نفسه فلم يقتله هناك، فتاب إلى ربّه في بطن الحوت وراجع نفسه فقال: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته. قال عوف: وبلغني أنّه قال: وبنيت لك مسجدا في مكان لم يبنه أحد قبلي. والتأويلات المتقدمة أولى بالأنبياء وأبعد من الخطأ. فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، قاله أكثر المفسّرين، وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة جوف الحوت، ثم ظلمة جوف الحوت الآخر الذي ابتلعه في ظلمة البحر. أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ قال محمد بن قيس: قال يونس: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ حين عصيتك، وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا أراد الله سبحانه حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما، فأخذه ثمّ هوى به إلى مسكنه في البحر، فلمّا انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسّا فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله سبحانه إليه وهو في بطن الحوت: إنّ هذا تسبيح دوابّ البحر، قال: فسبّح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنّا لنسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة! قال: ذاك عبدي يونس عصاني، فحبسته في بطن الحوت، قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كلّ يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله سبحانه وَهُوَ سَقِيمٌ «2» » «3» . وروى أبو هلال محمد بن سليمان عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: أتى جبرئيل
يونس (عليهما السلام) فقال له: انطلق إلى «1» السفينة، فركبها فاحتبست السفينة فساهموا فسهم، فجاء الحوت يبصبص بذنبه فنودي الحوت: إنّا لم نجعل يونس لك رزقا، إنّا جعلناك له حرزا ومسجدا، فالتقمه الحوت فانطلق به من ذلك المكان حتى مرّ به على الأبلّة، ثمّ مرّ به على دجلة ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى، فكان ابن عباس يقول: إنّما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ودليل هذا القول أنّ الله تعالى ذكر قصة يونس في سورة والصافّات ثم عقّبها بقوله وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ «2» . وقال الآخرون: بل كانت قصّة الحوت بعد دعائه قومه وتبليغهم رسالة ربّه كما قد بيّنا ذكره. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا. وروى علي بن زيد عن سعيد بن المسيّب قال: سمعت سعد بن مالك يقول: سمعت «3» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متّى» قال: فقلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامّة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله تعالى فَنادى فِي الظُّلُماتِ إلى قوله وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وهو شرط الله لمن دعاه بها. واختلفت القراءة في قوله «نُنْجِي» فقرأه العامة بنونين الثانية منهما ساكنة من الإنجاء على معنى نحن ننجي، فإن قيل: لم كتبت في المصاحف بنون واحدة؟ قيل: لأنّ النون الثانية لمّا سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت، كما فعلوا ذلك بإلّا فحذفوا النون من لجعلها أو كاشفة إذا كانت مدغمة في اللام، وقرأ ابن عامر وعاصم برواية ابن بكر نجي المؤمنين بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء، واختلف النحاة في هذه القراءة فمنهم من صوّبها وقال: فيه إضمار معناه: نجي المؤمنين كما يقال: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا. قال الشاعر: ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسبّ بذلك الجرو «4» الكلابا» أراد لسبّه بذلك الجرو ولسبّ الكلابا.
قالوا: وإنّما سكّن الياء في نجّي كما سكّنوها في بقر فقالوا بقره ونحوها وإنّما اتبع أهل هذه القراءة المصحف لأنّها مكتوبة بنون واحدة. وقال القتيبي: من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنّه أراد ننجي من التنجية إلّا أنّه أدغم وحذف نونا على طلب الخفّة. وقال النحويون: وهو رديء لبعد مخرج النون من الجيم، وممن جوّز «1» هذه القراءة أبو عبيد، وأما أبو حاتم السجستاني فإنه لحّنها ونسب قارئها إلى الجهل وقال: هذا لحن لا يجوز في اللغة، ولا يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله سبحانه وتعالى إلّا أن يقول: وكذلك نجي المؤمنين، ولو قرئ كذلك لكان صوابا، والله أعلم. وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى دعا رَبَّهُ فقال رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وحيدا لا ولد لي ولا عقب وارزقني وارثا، ثمّ ردّ الأمر إلى الله سبحانه فقال وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى ولدا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ بأن جعلناها ولودا بعد ما كانت عقيما، قاله أكثر المفسّرين، وقال بعضهم: كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق. إِنَّهُمْ يعني الأنبياء الذين سمّاهم في هذه السورة. كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً خوفا وطمعا رغبا في رحمة الله ورهبا من عذاب الله، وقرأ الأعمش، رُغْبا ورُهْبا بضم الراء وجزم الغين والهاء وهما لغتان مثل السقم والسقم والثكل والثكل والنحل والنحل والعدم والعدم. وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ خاضعين متواضعين. وَالَّتِي أَحْصَنَتْ حفظت ومنعت فَرْجَها ممّا حرم الله سبحانه وهي مريم بنت عمران فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا أي أمرنا جبرئيل حتى نفخ في جيب درعها وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها، وأضاف الروح إليه على معنى الملك والتشريف لمريم وعيسى بتخصيصها بالإضافة إليه. وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ أي دلالة على كمال قدرتنا وحكمتنا، حمل امرأة بلا مماسّة ذكر، وكون ولد من غير أب، وإنّما قال «آيَةً» ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين. إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ ملّتكم أُمَّةً واحِدَةً ملّة واحدة وهي الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان، وأصل الأمّة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت بالشريعة أمة واحدة
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 95 إلى 112]
لاجتماع أهلها بها على مقصد واحد، ونصب أمّة على القطع، وقرأ ابن أبي إسحاق أمّةٌ بالرفع على التكرير. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أي اختلفوا في الدين صاروا فيه فرقا وأحزابا، ثم قال كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فنجزيهم بأعمالهم. فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ لا نبطل عمله ولا نجحده بل يشكر ويثاب عليه وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ لعمله حافظون. [سورة الأنبياء (21) : الآيات 95 الى 112] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ قرأ أهل الكوفة: وَحِرْمٌ بكسر الحاء وجزم الراء من غير ألف، وقرأ الآخرون: وَحَرامٌ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، هما لغتان مثل حل وحلال. قال ابن عباس: معنى الآية «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ» أي أهل قرية أَهْلَكْناها أي يرجعون بعد الهلاك وعلى هذا التأويل يكون لا صلة مثل قول العجاج: في سر لا حورى سرى وما شعر أي في سر حور «1» .
وقال الآخرون: الحرام بمعنى الواجب كقول الخنساء: وإنّ حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلّا بكيت على عمرو «1» وعلى هذا التأويل يكون لا ثابتا. وقال جابر الجعفي: سألت أبا جعفر عن الرجعة فقرأ هذه الآية. حَتَّى إِذا فُتِحَتْ قرأه العامة بالتخفيف، وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتشديد على الكسرة. يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ومعنى الآية فرّج السد عن يأجوج ومأجوج، وقد ذكرنا قصتهما بالشرح. وروى منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» : أوّل الآيات الدجّال، ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا، والدخان والدابّة، ثم يأجوج ومأجوج. قال حذيفة: قلت: يا رسول الله ما يأجوج ومأجوج؟ قال: أمم، كلّ أمّة أربعمائة ألف أمّة، لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صلبه، وهم ولد آدم (عليه السلام) فيسيرون إلى خراب الدنيا، ويكون مقدمتهم بالشام وساقهم بالعراق، فيمرّون بأنهار الدنيا فيشربون الفرات ودجلة وبحر الطبرية حتى يأتوا بيت المقدس فيقولوا: قد قتلنا أهل الدنيا، فقاتلوا من في السماء فيرمون بالنشّاب إلى السّماء، فيرجع نشابهم مخضّبة بالدم فيقولون: قد قتلنا من في السّماء. وعيسى والمسلمون بجبل طور سينين فيوحي الله سبحانه إلى عيسى أن احرز عبادي بالطور وما يلي، ثمّ إنّ عيسى يرفع يديه إلى السّماء، ويؤمّن المسلمون، فيبعث الله سبحانه عليهم دابّة يقال لها النغف «3» تدخل في مناخرهم فيصبحون موتى من حاقّ الشام إلى حاق المشرق «4» «5» حتى تنتن الأرض من جيَفهم ويأمر الله سبحانه السماء فتمطر كأفواه القرب فتغسل الأرض من جيفهم ونتنهم، فعند ذلك طلوع الشمس من مغربها «6» .
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي نشز وتلّ يَنْسِلُونَ يخرجون مشاة مسرعين كنسلان الذئب. واختلف العلماء في هذه الكناية فقال قوم: عنى بهم يأجوج ومأجوج، واستدلّوا بحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله سبحانه مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيغشون الأرض «1» . وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما يذكر عن عيسى قال: «قال عيسى: عهد إليّ ربي أنّ الدجّال خارج وأنّه مهبطي إليه، فذكر أنّ معه قصبتين فإذا رآني أهلكه الله، قال: فيذوب كما يذوب الرصاص حتى أنّ الشجر والحجر ليقول: يا مسلم هذا كافر فاقتله، فيهلكهم الله عزّ وجلّ ويرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم، فيستقبلهم يأجوج ومأجوج مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، لا يأتون على شيء إلّا أهلكوه ولا يمرّون على ماء إلّا شربوه» «2» . وقال آخرون: أراد جميع الخلق، يعني أنّهم يخرجون من قبورهم ومواضعهم فيحشرون إلى موقف القيامة، تدلّ عليه قراءة مجاهد: وهم من كلّ جدث بالجيم والثاء يعني القبر اعتبارا بقوله سبحانه فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ «3» . وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ يعني القيامة، قال الفرّاء وجماعة من العلماء: الواو في قوله «وَاقْتَرَبَ» مقحم ومجاز الآية: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ، نظيرها قوله فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ «4» أي ناديناه. قال امرؤ القيس: فلمّا أجزنا ساحة الحىّ وانتحى ... بباطن خبت ذي قفاف عقنقل «5» يريد انتحى، ودليل هذا التأويل حديث حذيفة قال: لو أنّ رجلا اقتنى فلوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتّى تقوم الساعة. وقال الزجّاج: البصريون لا يجيزون طرح الواو ويجعلون جواب حتى إذا فتحت في قوله «يا وَيْلَنا» وتكون مجازا الآية حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ... وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ قالوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا. فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا في قوله هِيَ ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون هي كناية عن الأبصار ويكون الأبصار الظاهرة بيانا عنها كقول الشاعر:
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ... ألا فرّ عنّي مالك بن أبي كعب «1» فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها فيكون تأويل الكلام: فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا. والثاني: أن تكون هي عمادا كقوله «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ» ، وكقول الشاعر: فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس «2» والثالث: أن يكون تمام الكلام عند قوله هِيَ على معنى هي بارزة واقفة يعني: من قربها كأنّها آتية حاضرة، ثم ابتدأ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا على تقديم الخبر على الابتداء مجازها: أبصار الذين كفروا شاخصة من هول قيام الساعة، وهم يقولون يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي من هذا اليوم بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ بمعصيتنا ربّنا ووضعنا العبادة في غير موضعها. إِنَّكُمْ أيها المشركون وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام حَصَبُ جَهَنَّمَ قراءة العامة بالصاد أي وقودها عن ابن عباس. وقال مجاهد وقتادة وعكرمة: حطبها، وذكر أنّ الحصب في لغة أهل اليمن الحطب. الضحّاك: يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء، وأصل الحصب الرمي يقال: حصبت الرجل إذا رميته، قال الله سبحانه وتعالى إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً «3» يعني ريحا ترميهم بالحجارة وقرأ ابن عباس: حضب بالضاد، وهو كل ما هيّجت وأوقدت به النار، ومنه قيل لدقاق النار: حضب، وقرأ علي وعائشة: ولا هو من حميد: حطب بالطاء نظيرها قوله سبحانه «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» . أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ أي فيها داخلون لَوْ كانَ هؤُلاءِ الأصنام آلِهَةً على الحقيقة ما وَرَدُوها يعني ما دخل عابدوها النار، بل منعتها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ يعني العابد والمعبود. لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ قال ابن مسعود في هذه الآية: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، ثم جعل التوابيت في توابيت أخرى، ثم جعلت التوابيت في أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا ولا يرى أحد منهم أن في النار أحدا يعذّب غيره. ثم استثنى فقال سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ قال قوم من العلماء: إنّ ها هنا بمعنى
إلّا وليس في القرآن سواه، والسبق تقدّم الشيء على غيره. لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى السعادة والعدة الجميلة بالجنّة أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ والإبعاد: تطويل المسافة. واختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقال أكثر المفسرين: عندي بذلك كلّ من عبد من دون الله وهو طائع ولعبادة من يعبده كاره، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم «1» وحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآيات الثلاث، ثمّ قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي السهمي فرآهم يتهامسون قال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عبد الله: أما والله لو وجدته لخصمته، فدعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له ابن الزبعرى: أنت قلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ قال: نعم، قال: قد خصمتك وربّ الكعبة، أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، بل هم يعبدون الشياطين، هي التي أمرتهم بذلك، فأنزل الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية يعني عزيرا وعيسى والملائكة» «2» . قال الحسن بن الفضل: إنما أراد بقوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الأوثان دون غيرها لأنّه لو أراد الملائكة والنّاس لقال: «ومن تعبدون» ، قلت: ولأنّ المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة وهم كانوا يعبدون الأصنام. وقال بعضهم: هذه الآية عامّة في كلّ من سبقت له من الله السعادة. قال محمّد بن حاطب: سمعت عليّا كرّم الله وجهه يخطب، فقرأ هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ فقال: عثمان (رضي الله عنه) منهم!. وقال الجنيد في هذه الآية: سبقت لهم من الله العناية في البداية، فظهرت الولاية في النهاية. أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن عثمان النصيبي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السبيعي بحلب قال: أخبرنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبار الصوفي قال: حدّثنا عبيد الله القواريري قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني قال: حدّثنا ليث عن ابن عمّ النعمان بن بشير- وكان من سمّار علىّ- قال: تلا عليّ
ليلة هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ قال: أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرّحمن بن عوف منهم!!، ثم أقيمت الصلاة فقام علىّ يجرّ رداءه وهو يقول لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها يعني صوتها إذا نزلوا منازلهم من الجنة وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ والشهوة طلب النفس اللذّة، نظيرها قوله فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ «1» . لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وقرأ أبو جعفر بضمّ الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضمّ الزاي، واختلفوا في الفزع الأكبر، فقال ابن عباس: النفخة الآخرة، دليله قوله سبحانه وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «2» . وقال الحسن: حين يؤمر بالعبد إلى النار. سعيد بن جبير والضحّاك: إذا أطبقت على أهل النار. ابن جريج: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح على الأعراف والفريقان ينظران فينادى: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النّار خلود فلا موت. ذو النون المصري: هو القطيعة والهجران والفراق. وَتَتَلَقَّاهُمُ تستقبلهم الْمَلائِكَةُ على أبواب الجنة يهنّونهم ويقولون لهم هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ. نَطْوِي السَّماءَ قرأ أبو جعفر تُطْوَى السَّماءُ بضم التاء والهمزة على المجهول، وقرأ الباقون بالنون السماء نصب كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ قرأ أهل الكوفة على الجمع، غيرهم: للكتاب على الواحد واختلفوا في السجلّ، فقال ابن عمر والسدىّ: السجل: ملك يكتب أعمال العباد فإذا صعد بالاستغفار قال الله سبحانه: أكتبها نورا. وقال ابن عباس ومجاهد: هو الصحيفة، واللام في قوله لِلْكُتُبِ بمعنى على تأويلها كطىّ الصحيفة على مكتوبها. وروى أبو الجوزاء وعكرمة عن ابن عباس أنّ السجلّ اسم كاتب لرسول الله، وهذا قول غير قوي لأنّ كتّاب رسول الله كانوا معروفين وقد ذكرتهم في كتاب «الربيع» ، والسجلّ اسم مشتقّ من المساجلة وهي المكاتبة، وأصلها من السجل وهو الدلو، يقال: سجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة، قال الشاعر:
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب «1» ثم بنى هذا الاسم على فعل مثل طمر وقلز. والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضدّ النشر قال الله سبحانه وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «2» . والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو والطمس لأنّ الله سبحانه يمحو رسومها ويكدر نجومها، قال الله سبحانه وتعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ «3» تقول العرب: اطو عن فلان هذا الحديث أي استره وأخفه. ثمّ ابتدأ واستأنف الكلام فقال عزّ من قائل كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ قال أكثر العلماء: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عزّلا كذلك نعيدهم يوم القيامة، نظيرها قوله سبحانه وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «4» وقوله عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا. لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ «5» . ودليل هذا التأويل ما روى ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي عجوز من بني عامر فقال: من هذه العجوز يا عائشة؟ فقلت: إحدى خالاتي، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنّة فقال: إنّ الجنّة لا يدخلها العجّز، فأخذ العجوز ما أخذها «6» . فقال (عليه السلام) : إنّ الله ينشئهنّ خلقا غير خلقهن، قال الله تعالى إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً «7» الآية ثمّ قال: يحشرون يوم القيامة عراة حفاة غلفا، فأوّل من يكسى إبراهيم صلوات الله عليه» . فقالت عائشة رضي الله عنها وعن أبيها: وا سوأتاه فلا تحتشم الناس بعضهم بعضا؟ قال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ «8» ، ثم قرأ رسول الله كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ كيوم ولدته أمه.
وقال ابن عباس: يقول: نهلك كلّ شيء كما كان أول مرّة، وقيل: كما بدأناه من الماء نُعِيدُهُ من التراب. وَعْداً عَلَيْنا نصب على المصدر يعني وعدناه وعدا علينا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني الإعادة والبعث. وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ قرأ الأعمش وحمزة: الزُّبُورِ بضم الزاي، وغيرهما يقرءون بالنصب وهو بمعنى المزبور كالحلوب والركوب، يقال: زبرت الكتاب وذبرته إذا كتبته، واختلفوا في معنى الزبور في هذه الآية، فقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد: عنى بالزبور الكتب المنزلة وبالذكر أمّ الكتاب الذي عنده. وقال ابن عباس والضحّاك: الذكر التوراة والزبور الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقال الشعبي: الزبور كتاب داود والذكر التوراة. وقال بعضهم: الزبور زبور داود والذكر القرآن، وبعد بمعنى قبل كقوله وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «1» أي أمامهم، وقوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «2» أي قبل ذلك أَنَّ الْأَرْضَ يعني أرض الجنّة يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ يعني أمة محمد (عليه السلام) قاله مجاهد وأبو العالية، ودليل هذا التأويل قوله وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ. وقال ابن عباس: أراد أنّ الأرض في الدنيا تصير للمؤمنين، وهذا حكم من الله سبحانه بإظهار الدّين وإعزاز المسلمين وقهر الكافرين. قال وهب: قرأت في عدّة من كتب الله أنّ الله عزّ وجلّ قال: إنّي لأورث الأرض عبادي الصالحين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً وصولا إلى البغية، من اتّبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب، فالقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر. لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي مؤمنين يعبدون الله سبحانه وتعالى. وقال ابن عباس: عالمين، وقال كعب الأحبار: هم أمّة محمد أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان، سمّاهم الله سبحانه وتعالى عابدين.
وَما أَرْسَلْناكَ يا محمّد إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قال ابن زيد: يعني المؤمنين خاصة، وقال ابن عباس: هو عامّ فمن آمن بالله واليوم الآخر كتب له رحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن عوفي ممّا أصاب الأمم من المسخ والخسف والقذف. قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ يعني أعلمتكم على بيان أنا وإيّاكم حرب لا صلح بيننا، وإنّي مخالف لدينكم، وقيل: معناه عَلى سَواءٍ من الإنذار لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره، وقيل: لتستووا في الإيمان به، وهذا من فصيحات القرآن. وَإِنْ أَدْرِي وما أعلم أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ يعني القيامة، نسخها قوله وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ أي لعلّ تأخير العذاب عنكم، كناية عن غير مذكور فِتْنَةٌ اختبار لَكُمْ ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ إلى أجل يقضي الله فيه ما شاء. أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال: حدّثنا محمد بن أبي غالب قال: أخبرنا هشام قال: أخبرنا مجالد قال: حدّثني السبعي قال: لما سلم الحسن بن عليّ لمعاوية الأمر، قال له معاوية: قم فاخطب واعتذر إلى الناس، فقام الحسن فخطب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنّ أكيس الكيس التقى، وإنّ أحمق الحمق الفجور، وإنّ هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إمّا حقّ امرئ كان أحقّ به، وإمّا حقّ كان لي فتركته التماس الصلاح لهذه الأمّة، ثم قال: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ افعل بيني وبين من كذبني بالحق، والله لا يحكم إلّا بالحق، وفيه وجهان من التأويل: قال أهل التفسير: الحق ها هنا بمعنى العذاب كأنّه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر وليله، نظيره قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «1» . وقال قتادة: كان رسول الله (عليه السلام) إذا شهد قتالا قال: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ. وقال أهل المعاني: معناه: رب احكم بحكمك الحق، فحذف الحكم وأقيم الحق مقامه، واختلف القراء في هذه الآية فقرأ حفص قالَ رَبِّ بالألف على الخبر، الباقون: قل على
الأمر، وقرأ أبو جعفر: ربُّ احكم برفع الباء على النداء والمفرد، وقرأ الضحاك ويعقوب: ربي احكم بإثبات الياء على وجه الخبر بأنّ الله سبحانه أحكم بالحق من كل حاكم وهذه قراءة غير مرضية لمخالفة المصحف، والقرّاء الباقون: رَبِّ احْكُمْ على الدعاء وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ.
محتوى الجزء السادس من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء السادس من كتاب تفسير الثعلبي سورة النحل 5 سورة بني إسرائيل (الإسراء) 54 سورة الكهف 144 سورة مريم 205 سورة طه 235 سورة الأنبياء 268
الجزء السابع
[الجزء السابع] سورة الحج مكيّة غير ست آيات نزلت بالمدينة وهي قوله «هذانِ خَصْمانِ إلى قوله الْحَمِيدِ، وهي خمسة آلاف وخمسة وتسعون حرفا» وألف ومائتان وإحدى وسبعون «2» كلمة وثمان وسبعون آية أخبرنا أبو الحسن «3» الجرجاني غير مرّة قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني قالا: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد ابن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجّة حجّها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» [1] «4» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الزلزلة والزلزال: شدّة الحركة على الحال الهائلة، من قوله: زلّت قدمه إذا زالت عن الجهة بسرعة، ثم ضوعف. يَوْمَ تَرَوْنَها يعني الساعة تَذْهَلُ أي تشغل، عن ابن عباس، وقال الضحّاك تسلو، ابن حيان: تنسى، يقال: ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره أذهل ذهولا، وأذهلني الشيء إذهالا. قال الشاعر: صحا قلبه يا عزّ أو كاد يذهل كُلُّ مُرْضِعَةٍ يعني ذات ولد رضيع، والمرضع المرأة التي لها «1» صبي ترضعه لغيرها، هذا قول أهل الكوفة، وقال أهل البصرة: يقال: امرأة مرضع إذا أريد به الصفة مثل مقرب ومشرق «2» وحامل وحائض، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء فقيل: مرضعة، التي ترضع ولدها. وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى. قال الحسن «3» : معناه: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى من الخوف، ما هُمْ بِسُكارى من الشراب. وقال أهل المعاني: مجازه: وترى الناس كأنّهم سكارى، تدل عليه قراءة أبي زرعة بن عمرو بن جرير: وَتُرَى النَّاسُ بضم التاء أي تظن. وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما: سكرى ما هم سكرى بغير ألف فيهما، وهما لغتان لجمع السكران مثل كسلى وكسالى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. روى عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وغيرهما: إنّ هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق وهم حيّ من خزاعة والناس يسيرون، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا والناس من بين باك أو حاسر «4» حزين متفكّر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم «5» : «أبشروا وسدّدوا وقاربوا، فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلّا كثّرتاه يأجوج ومأجوج» .
ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبّروا وحمدوا الله، ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبّروا وحمدوا الله، ثمّ قال: اني لأرجوا أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبّروا وحمدوا الله، ثمّ قال: إنّى لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة وإنّ أهل الجنة، مائة وعشرون صفا، ثمانون منها أمّتي وما المسلمون في الكفّار إلّا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثمّ قال: ويدخل من أمتي سبعون ألفا الجنة بغير حساب، فقال عمر: سبعون ألفا؟ فقال: نعم ومع كلّ واحد سبعون ألفا، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله ان يجعلني منهم، قال: أنت منهم، فقال رجل من الأنصار فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: سبقك بها عكاشة» [2] . وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحرث، كان كثير الجدال فكان يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ويزعم أنّ الله غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد «1» ترابا. قال الله سبحانه وَيَتَّبِعُ في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ قضي عليه، على الشيطان أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ اتّبعه فَأَنَّهُ يعني الشيطان يُضِلُّهُ يعني
يضلّ من تولاه وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ وتأويل الآية: قضي على الشيطان أنّه يضلّ أتباعه ويدعوهم إلى النار. ثمّ ألزم الحجّة منكري البعث فقال عزّ من قائل يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ووالد البشر مِنْ تُرابٍ ثُمَّ ذرّيته مِنْ نُطْفَةٍ وهو المنيّ وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ وهي الدم العبيط الجامد وجمعها علق ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وهي لحمة قليلة قدر ما تمضع مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ. قال ابن عباس وقتادة: تامّة الخلق وغير تامة. وقال مجاهد: مصوّرة وغير مصوّرة يعني السقط. قال عبد الله بن مسعود: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله عزّ وجلّ ملكا فقال: يا رب مخلّقة أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلّقة مجّتها الأرحام دما وإن قال: مخلّقة قال: يا ربّ فما صفة هذه النطفة؟ أذكر أم أنثى؟ ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟ فيقال له: انطلق إلى أمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها. لِنُبَيِّنَ لَكُمْ كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريفنا أطوار خلقكم. وَنُقِرُّ روي عن عاصم بفتح الراء على النسق، غيره: بالرفع على معنى ونحن نقر (فِي الْأَرْحامِ) ما نَشاءُ فلا تمجّه ولا تسقطه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت خروجها من الرحم تامّ الخلق والمدّة ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا صغارا ولم يقل أطفالا لأنّ العرب تسمّي الجمع باسم الواحد. قال الشاعر: إنّ العواذل ليس لي بأمير ولم يقل أمراء. وقال ابن جريج «1» : تشبيها باسم المصدر مثل: عدل وزور، وقيل: تشبيها بالخصم والضيف. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ كمال عقولكم ونهاية قواكم. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى قبل بلوغ الأشدّ وَمِنْكُمْ مَنْ يعمّر حتى يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو الهرم والخرف لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً. ثمّ بيّن دلالة أخرى للبعث فقال تعالى وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً يابسة دارسة الأثر من الزرع والنبات كهمود النار.
[سورة الحج (22) : الآيات 8 إلى 18]
فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ المطر اهْتَزَّتْ تحرّكت بالنبات وَرَبَتْ أي زادت وأضعفت النبات بمجيء الغيث، وقرأ أبو جعفر: ربأت بالهمز، ومثله في حم السجدة أي ارتفعت وعلت وانتفخت، من قول العرب: ربا الرجل إذا صعد مكانا مشرفا، ومنه قيل للطليعة رئبة. وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ صنف حسن ذلِكَ الذي ذكرت لتعلموا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ والحق هو الكائن الثابت وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 18] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً بيان وبرهان وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ نزلت في النضر بن الحرث ثانِيَ عِطْفِهِ نصب على الحال. قال ابن عباس: مستكبرا في نفسه، تقول العرب: جاء فلان ثاني عطفه أي متجبّرا لتكبّره وتجبّره، والعطف: الجانب. الضحّاك: شامخا بأنفه، مجاهد وقتادة: لاويا «1» عنقه، عطيّة وابن زيد: معرضا عمّا يدعى إليه من الكبر. ابن جريج: أي يعرض عن الحقّ نظيرها قوله سبحانه وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً «2» الآية، وقوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ الآية. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ عذاب وهوان وهو القتل ببدر. وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ فيقال له يومئذ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وهذا وأضرابه مبالغة في إضافة الجرم إليه. وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيعذّبهم بغير ذنب وهو سبحانه على أي وجه تصرّف في عبده فإنّه غير ظالم، بل الظالم: المتعدّي المتحكّم في غير ملكه. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية. نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة، فإن صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأنّ إليه وقال: ما أصبت مذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا، وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وذهب ماله وتأخّرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلّا شرّا، فينقلب عن دينه، وذلك الفتنة،
فأنزل الله سبحانه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي طرف واحد وجانب في الدين لا يدخل فيها على الثبات والتمكين، والحرف: منتهى الجسم، وقال مجاهد: على شكّ. وقال بعض أهل المعاني: يريد على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف مضطربا فيه. وقال بعضهم: أراد على لون واحد في الأحوال كلّها يتّبع مراده، ولو عبدوا الله في الشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف «1» . وقال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ صحة في جسمه وسعة في معيشته اطْمَأَنَّ بِهِ أي رضي واطمأن إليه وأقام عليه. وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ بلاء في جسمه وضيق في معاشه وتعذّر المشتهى من حاله انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ارتدّ فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ وقرأ حميد الأعرج ويعقوب: خاسر الدنيا بالألف على مثال فاعل، وَالْآخِرَةِ خفضا، على الحال. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الضرر الظاهر يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ إن عصاه وَما لا يَنْفَعُهُ إن أطاعه بعد إسلامه راجعا إلى كفره ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ذهب عن الحق ذهابا بعيدا. يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ اختلف النحاة في وجه هذه اللام فقال بعضهم: هي صلة مجازها: يدعو من ضرّه أقرب من نفعه، وهكذا قرأها ابن مسعود، وزعم الفرّاء والزجّاج أنّ اللام معناها التأخير تقديرها: يدعو والله لمن ضرّه أقرب من نفعه. وقال بعضهم: هذا على التأكيد معناه: يدعوا لمن ضرّه أقرب من نفعه يدعو ثم حذفت يدعو الأخيرة اجتزاء بالأولى، ولو قلت: تضرب لمن خيره أكثر من شرّه تضرب، ثمّ يحذف الأخير جاز. وحكي عن العرب سماعا: أعطيتك لما غيره خير منه، وعنده لما غيره خير منه. وقيل: (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) من قوله ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، وموضع ذلِكَ نصب ب (يَدْعُوا) كأنّه قال: الذي هو الضلال البعيد يدعو، ثم استأنف فقال: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وتكون من في محل الرفع بالابتداء وخبره لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ. وقيل: يَدْعُوا بمعنى يقول، والخبر محذوف تقديره: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إلهه لَبِئْسَ الْمَوْلى الناصر، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ المعاشر، والصاحب والخليط يعني الوثن.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ اختلفوا في المعنى بالهاء التي في قوله يَنْصُرَهُ، فقال أكثر المفسّرين: عنى بها نبيّه صلى الله عليه وسلّم، قال قتادة: يقول: من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبيّه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ بحبل إِلَى السَّماءِ إلى سقف البيت فليختنق به حتى يموت ثُمَّ لْيَقْطَعْ الحبل بعد الاختناق فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ صنيعه وحيلته ما يَغِيظُ هذا قول أكثر أهل التأويل، وإنّما معنى الآية: فليصوّر هذا الأمر في نفسه وليس يختم لأنّه إذا اختنق ومات لا يمكنه القطع والنظر. قال الحسين بن الفضل: هذا كما تقول في الكلام للحاسد أو المعاند: إن لم ترض هذا فاختنق. وقال ابن زيد: السماء في هذه الآية هي السماء المعروفة بعينها، وقال: معنى الكلام: من كان يظن أن لن ينصر الله نبيّه ويكايده في دينه وأمره ليقطعه عنه، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه فإنّ أصله في السماء، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ عن النبي صلى الله عليه وسلّم الوحي الذي يأتيه من الله، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه، فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا العمل. وذكر أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يؤووننا، فقال الله لهم: من استعجل من الله نصر محمد فليختنق، فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مذهب غيظه، فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدم نصره قبل حينه. وقال مجاهد: الهاء في ينصره راجعة إلى من، ومعنى الكلام: من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى سماء البيت فليختنق، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ وهو خنقه أن لا يرزق، والنصر على هذا القول: الرزق، كقول العرب: من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله. قال أبو عبيد: تقول العرب: «أرض منصورة» أي ممطورة كأن الله سبحانه أعطاها المطر. وقال الفقعسي «1» : وإنّك لا تعطي امرأ فوق حقّه ... ولا تملك الشقّ الذي الغيث ناصر «2» وفي قوله «ما يَغِيظُ» لأهل العربيّة قولان:
أحدهما: أنّها بمعنى الذي مجازة هل يذهبن كيده الذي يغيظه فحذف الهاء ليكون أخفّ. والثاني: أنّها مصدر، مجازه: هل يذهبن كيده غيظه. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني عبدة الأوثان، وقال قتادة: الأديان خمسة: أربعة للشيطان وواحد للرحمن. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ يحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ قال النحاة: «إِنَّ اللَّهَ» خبر لقوله «إِنَّ الَّذِينَ» كما تقول: إنّ زيدا ان الخير عنده لكثير، كقول الشاعر: إنّ الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم «1» أَلَمْ تَرَ بقلبك وعقلك أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ. قال مجاهد: سجودها: تحوّل ظلالها، وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلّا يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه. وقال أهل الحقائق: سجود الجماد وما لا يعقل ما فيها من ذلّة الخضوع والتسخير وآثار الصنعة والتصوير الذي يدعو العاقلين إلى السجود لله سبحانه، كما قال الشاعر: وفي كلّ شيء له آية ... تدلّ على أنّه واحد «2» وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ بكفره وهو مع ذلك يسجد لله ظلّه، قال مجاهد: وقيل: يسجد لله أي يخضع له ويقرّ له بما يقتضيه عقله ويضطره إليه، وإن كفر بغير ذلك من الأمور. قالوا: وفي قوله وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ واو العطف. وقال بعضهم: هو واو الاستئناف، معناه: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ بكفره وإبائه السجود. حكى لي أبو القاسم بن حبيب عن أبي بكر بن عياش أنّه قال: في الآية إضمار مجازها: وسجد كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَأبى كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ أي يهنه الله فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ قرأه العامة بكسر الراء، وقرأ إبراهيم بن
[سورة الحج (22) : الآيات 19 إلى 26]
أبي عيلة «1» : فَما لَهُ مِنْ مُكْرَمٍ بفتح الراء أي إكرام كقوله سبحانه أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ «2» وأَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً «3» أي إدخالا وإنزالا. إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ. [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 26] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أي في دينه وأمره، والخصم اسم شبيه بوصف المصدر فلذلك قال: اخْتَصَمُوا، نظيرها وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «4» . واختلف المفسّرون في هذين الخصمين من هما؟ فروى قيس بن عبّاد أنّ أبا ذرّ الغفاري كان يقسم بالله سبحانه أنزلت هذه الآية في ستّة نفر من قريش تبادروا يوم بدر: حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وعبيدة بن الحارث، قال: وقال علي: إنّي لأوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى ، وإلى هذا القول ذهب هلال بن نساف وعطاء بن يسار. وقال ابن عباس: هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين: نحن أولى بالله وأقدم منكم كتابا ونبيّنا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحقّ بالله، آمنّا بمحمد صلى الله عليه وسلّم وآمنّا بنبيّكم وبما أنزل الله سبحانه من كتاب، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا، وكان ذلك خصومتهم في ربّهم. وقال مجاهد وعطاء أبن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي: هم المؤمنون والكافرون كلّهم من أىّ ملّة كانوا.
وقال عكرمة: هما الجنة والنار اختصمتا فقالت النار: خلقني الله سبحانه وتعالى لعقوبته، وقالت الجنّة: خلقني الله عزّ وجلّ لرحمته، فقد قصّ الله عليك سبحانه من خبرهما ما تسمع، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو سعيد بن حمدون رحمه الله بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو حامد ابن الشرقي قال: حدّثنا محمد بن يحيى الذهلي وعبد الرّحمن بن بشر العبدي وأحمد بن يوسف السلمي قالوا: حدّثنا عبد الرزاق بن همام الحميري قال: أخبرنا معمر بن راشد عن همام بن منبه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «تحاجّت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبّرين المتجبّرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقاطهم، فقال الله سبحانه للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحد منكما ملؤها، فأما النار فإنّهم يلقون فيها وتقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ فلا تمتلئ حتى يضع الله سبحانه رجله فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا» [3] «1» . ثم بيّن مآل الخصمين وحال أهل الدارين فقال سبحانه وتعالى فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ «2» . قال سعيد بن جبير: ثِيابٌ من نحاس مِنْ نارٍ، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشدّ حرّا منه. يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ الماء الحار. روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم «3» أنّه قال: «إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جنبه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان يُصْهَرُ يذاب، يقال: صهرت الألية والشحم بالنار أذبتها، أصهرها صهرا، قال الشاعر: تروي لقى ألقى في صفصف ... تصهره الشمس ولا ينصهر ومعنى الآية: يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رؤوسهم ما فِي بُطُونِهِمْ من الشحوم والأحشاء وتنشوي جلودهم منه فتتساقط. وَلَهُمْ مَقامِعُ سياط مِنْ حَدِيدٍ واحدتها مقمعة، سمّيت بذلك لأنّها يقمع بها المضروب أي يذلّل.
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها ردّوا إليها. روى الأعمش عن أبي ظبيان قال: ذكر أنّهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج منها فيعذبهم الخزّان فيها ويعيدونهم إليها بالمقامع ويقولون لهم وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي المحرق مثل الأليم والوجيع، والذوق: حاسة يحصل منها إدراك الطعم، وهو ها هنا توسّع، والمراد به إدراكهم الآلام. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وهي جمع سوار وَلُؤْلُؤاً. قرأ عاصم وأهل المدينة هاهنا وفي سورة الملائكة: وَلُؤْلُؤاً بالنصب على معنى ويحلّون لؤلؤا، واستدلّوا بأنّها مكتوبة في جميع المصاحف بالألف هاهنا. وقرأ الباقون بالخفض عطفا على الذهب، ثمّ اختلفوا في وجه إثبات الألف فيه، فقال أبو عمرو: أثبتت الألف فيه كما أثبتت في قالوا وكانوا، وقال الكسائي: أثبتوها فيه للهمزة لأنّ الهمزة حرف من الحروف، وأمّا يعقوب فإنّه قرأها هنا بالنصب وفي سورة فاطر بالخفض رجوعا إلى المصحف لأنّه كتب في جميع المصاحف ها هنا بالألف وهناك بغير ألف. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو شهادة أن لا إله إلّا الله، وقال ابن زيد: لا إله إلّا الله والله أكبر والحمد لله، نظيرها قوله سبحانه إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ إلى دين الله. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ فعطف بالمستقبل على الماضي لأنّ الصدّ بمعنى دوام الصفة لهم، ومعنى الآية: وهم يصدّون ومن شأنهم الصدّ، نظيرها قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ «1» وقيل: لفظه مستقبل، ومعناه الماضي، أي: وصدّوا عن سبيل الله وَالْمَسْجِدِ يعني عن المسجد الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ خلقناه وبنيناه لِلنَّاسِ كلّهم لم نخصّ منهم بعضا دون بعض سَواءً الْعاكِفُ المقيم فِيهِ وَالْبادِ الطاري المنتاب إليه من غيره. وقرأ عاصم برواية حفص ويعقوب برواية روح: سَواءً بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأنّ الجعل يتعدّى إلى مفعولين. وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبره. وتمام الكلام عند قوله لِلنَّاسِ. واختلف العلماء في معنى الآية: فقال قوم: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وحقّ الله الواجب عليهما فيه، وإليه ذهب مجاهد.
وقال آخرون: هما سواء في النزول به فليس أحدهما بأحقّ يكون فيه من الآخر. وحرّموا بهذه الآية كراء دور مكّة وكرهوا إجارتها في أيام الموسم. قال عبد الله بن عمر: سواء أكلت محرما أو كراء دار مكة. وقال عبد الرّحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحقّ بمنزله منهم فكان الرجل إذا وجد سعة نزل، ففشا فيهم السرق، وكلّ إنسان يسرق من ناحيته فاصطنع رجل بابا فأرسل إليه عمر: اتخذت بابا من حجاج بيت الله؟ فقال: لا، إنّما جعلته ليحترز متاعهم وهو قوله سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ. قال: البادي فيه كالمقيم ليس أحد أحقّ بمنزله من أحد إلّا أن يكون سبق إلى منزل، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وابن جبير وابن زيد وباذان قالوا: هما سواء في البيوت والمنازل، والقول الأول أقرب إلى الصواب. أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه قال: حدّثنا صفوان بن الحسين قال: حدّثنا أبو محمد بن أبي حاتم قال: سمعت أبا إسماعيل الترمذي بمكة سنة ستين ومائتين قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: جالست الشافعي بمكة فتذاكرنا في كراء بيوت مكة، وكان يرخّص فيه، وكنت لا أرخّص فيه، فذكر الشافعي حديثا وسكت، وأخذت أنا في الباب، أسرد فلمّا فرغت منه قلت لصاحب لي من أهل مرو بالفارسية: مرد كما لأني هست قرية بمرو، فعلم أني راطنت صاحبي بشيء هجّنته فيه، فقال لي: أتناظر؟ قلت: وللمناظرة جئت، فقال: قال الله سبحانه وتعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ «1» نسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها.؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلّم «2» يوم فتح مكة: «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وهل ترك عقيل لنا من رباع» [4] ؟ نسب الدار إلى أربابها أو غير أربابها وقال لي: اشترى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه دار السجن من مالك أو غير مالك؟ فلمّا علمت أنّ الحجة لزمتني قمت. وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أي في المسجد الحرام بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ يعني إلحادا بظلم وهو الميل إلى الظلم، والباء فيه زائدة كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تنبت الدهن. قال الفرّاء: وسمعت أعرابيا من ربيعة وسألته عن شيء فقال: أرجو بذلك يريد أرجو ذلك. وقال الشاعر: بواد يمان ينبت الشت صدره ... وأسفله بالمرخ والشبهان «3»
أي المرخ. وقال الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ... بين المراجل والصريح الأجرد بمعنى ضمنت رزق عيالنا أرماحنا وقال آخر: ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد «1» واختلفوا في معنى الآية، فقال مجاهد وقتادة وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ هو الشرك أن يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى. وقال آخرون: هو استحلال الحرام وركوب الآثام فيه. قال ابن مسعود: ما من رجل يهمّ بسيّئة فيكتب عليه، ولو أنّ رجلا بعدن أو ببلد آخر يهمّ أن يقتل رجلا بمكّة، أو يهمّ فيها بسيّئة ولم يعملها إلّا أذاقه الله العذاب الأليم. وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه ما لا يقتلك، أو تظلم من لا يظلمك، وهذا القول معنى قول الضحاك وابن زيد. أخبرنا أحمد بن أبي قال: أخبرنا المغيرة بن عمرو قال: حدّثنا المفضل بن محمد قال: حدّثنا محمد بن يوسف قال: حدّثنا أبو قرّة قال: ذكر سفيان عن ليث عن مجاهد أنّه قال: تضاعف السيئات بمكّة كما تضاعف الحسنات. ابن جريج: هو استحلال الحرام متعمّدا، عن حبيب بن أبي ثابت: احتكار الطعام بمكة، بعضهم: هو كل شيء كان منهيّا عنه من القول والفعل حتى قول القائل: لا والله، وبلى والله. وروى شعبة: عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحلّ والآخر في الحرم، فإن أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر، فسئل عن ذلك فقال: كنّا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: كلّا والله وبلى والله. وَإِذْ بَوَّأْنا وطّأنا. قال ابن عباس: جعلنا، الحسن: أنزلنا، مقاتل بن سليمان: دللناه عليه، ابن حبان: هيأنا، نظيره تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ «2» وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ «3» وقوله لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً» . لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ والمكان جوهر يمكن أن يثبت عليه غيره، كما أن الزمان عرض يمكن أن يحدث فيه غيره، وأراد بالبيت الكعبة.
[سورة الحج (22) : الآيات 27 إلى 37]
أَنْ لا تُشْرِكْ يعني أمرناه وعهدنا إليه أن لا تشرك بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ يعني المصلّين وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. [سورة الحج (22) : الآيات 27 الى 37] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) وَأَذِّنْ يعني وعهدنا إلى إبراهيم ايضا أن أذّن أي أعلم وناد فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ. فقال إبراهيم: يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعليّ البلاغ، فقام إبراهيم على المقام وقيل: على جبل أبي قبيس ونادى: يا أيها الناس ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتا فحجّوه، فأسمع الله ذلك من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وما بين المشرق والمغرب والبر والبحر ممن سبق في علم الله سبحانه أن يحجّ إلى يوم القيامة، فأجابه: لبيك اللهم لبيك. وقال ابن عباس: عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أنّ قوله تعالى وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ كلام مستأنف، وأن المأمور بهذا التأذين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أمر أن يفعل ذلك في حجّة الوداع. يَأْتُوكَ رِجالًا مشاة على أرجلهم جمع راجل مثل قائم وقيام وصائم وصيام. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ أي وركبانا، والضامر البعير المهزول، وإنما جمع يَأْتِينَ لمكان كلّ، أراد النوق مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ طريق بعيد. سمعت أبا الحسن محمد بن القاسم الفقيه يقول: سمعت أبا القاسم بشر بن محمد بن
ياسين القاضي يقول: رأيت في الطواف كهلا قد أجهدته العبادة واصفرّ لونه وبيده عصا وهو يطوف معتمدا عليها، فتقدّمت إليه وجعلت أسائله فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من خراسان قال: في أي ناحية تكون خراسان؟ - كأنّه جهلها.؟ قلت: ناحية من نواحي المشرق، فقال: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين وثلاثة أشهر، قال: أفلا تحجّون كل عام فأنتم من جيران هذا البيت؟ فقلت له: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال: مسيرة خمس سنين، خرجت من بلدي ولم يكن في رأسي ولحيتي شيب، فقلت: هذا والله الجهد البيّن والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة، فضحك في وجهي وأنشأ يقول: زر من هويت وإن شطّت بك الدار ... وحال من دونه حجب وأستار لا يمنعك بعد من زيارته ... إنّ المحبّ لمن يهواه زوار «1» لِيَشْهَدُوا ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ يعني التجارة عن سعيد بن جبير، وهي رواية ابن رزين عن ابن عباس قال: هي الأسواق. مجاهد: التجارة وما يرضي الله سبحانه من أمر الدنيا والآخرة. سعيد بن المسيب وعطية العوفي ومحمد بن علىّ الباقر: العفو والمغفرة. وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ يعني ذي الحجّة في قول أكثر المفسّرين، والمعدودات أيام التشريق، وإنّما قيل لها مَعْدُوداتٍ لأنّها قليلة، وقيل للعشر: مَعْلُوماتٍ للحرص على علمها بحسابها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها. وقال مقاتل: المعلومات أيام التشريق. محمد بن كعب: المعدودات والمعلومات واحدة. عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعني الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم. فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة وليس بواجب. قال المفسرون: وإنّما قال ذلك لأنّ أهل الجاهلية كانوا ينحرون ويذبحون ولا يأكلون من لحوم هداياهم شيئا. وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ يعني الزمن الْفَقِيرَ الذي لا شيء له ثُمَّ لْيَقْضُوا واختلف القرّاء في هذه اللامات فكسرها بعضهم فرقا بين ثم والواو والفراء لأن ثمّ مفضول من الكلام، والواو والفاء كأنهما من نفس الكلمة، وجزمها الآخرون لأنّها كلّها لامات الأمر تَفَثَهُمْ والتفث: مناسك الحج كلّها عن ابن عمر وابن عباس.
وقال القرظي ومجاهد: هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقصّ الأظفار. عكرمة: التفث: الشعر والظفر. الوالبي عن ابن عباس: هو وضع الإحرام من حلق الرأس وقصّ الأظفار ولبس الثياب ونحوها. وأصل التفث في اللغة الوسخ، تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك أي ما أوسخك! وأقذرك! قال أمية بن الصلت: ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا ... وينزعوا عنهم قملا وصئبانا «1» وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ قال مجاهد: نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج. وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة الذي يطاف بعد التعريف أمّا يوم النحر وأمّا بعده. واختلف العلماء في معنى العتيق، فقال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة: سمّي عتيقا لأنّ الله سبحانه أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه، فلم يظهر عليه جبار قطّ، ولم يسلّط عليه إلّا من يعظّمه ويحترمه. قال سعيد بن جبير: أقبل تبّع يريد هدم البيت حتى إذا كان بقديد أصابه الفالج فدعا الأحبار فقالوا: إنّ لهذا البيت ربّا ما قصده قاصد بسوء إلّا حجبه عنه بمكروه فإن كنت تريد النجاة ممّا عرض لك فلا تتعرّض له بسوء. قال: فأهدى إلى البيت كسوة وأنطاعا فألبست، وكان أوّل ما ألبست، ونحر عنده ألف ناقة وعفا عن أهله وبرّهم ووصلهم، فسمّيت المطابخ لمطبخة القوم، وكانت خيله جيادا فسمّيت جياد لخيل تبّع، وسمّيت قعيقعان لقعقعة السلاح حين أقبل من المدينة. وقال سفيان بن عيينة: سمّي بذلك لأنه لم يملك قط، وهي رواية عبيد عن مجاهد قال: إنما سمّي البيت العتيق لأنّه ليس لأحد فيه شيء. ابن زيد: لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس، يقال: سيف عتيق ودينار عتيق أي قديم، وقيل: لأنه كريم على الله سبحانه، يقول العرب: فرس عتيق. ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فيجتنب معاصيه فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ. قال ابن زيد: الحرمات: المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، وقيل: هي المناسك.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أن تأكلوها إذا ذكّيتموها إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في القرآن وهو قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ «1» الآية، وقوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «2» وقيل: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ في حال إحرامكم إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ من الصيد فإنه حرام في حال الإحرام. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ يعني عبادتها لأن الأوثان كلّها رجس. وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ يعني الكذب والبهتان. قال أيمن بن حريم: قال النبي صلى الله عليه وسلّم خطيبا فقال: «يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الشرك بالله، ثمّ قرأ هذه الآية» [5] «3» . وقال بعضهم: هو قول المشركين في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. حُنَفاءَ مستقيمين مخلصين لِلَّهِ وقيل: حجاجا غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ أي سقط إلى الأرض فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ والخطف والاختطاف تناول الشيء بسرعة، وقرأ أهل المدينة فتخطّفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أي تتخطّفه فأدغم، وتصديق قراءة العامة قوله تعالى إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ. أَوْ تَهْوِي تميل وتذهب بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد. قال أهل المعاني: إنما شبّه حال المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا دفع ضر يوم القيامة. وقال الحسن: شبّه أعمال الكفّار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل، فلا يقدرون على شيء منها. ذلِكَ الذي ذكرت من اجتناب الرجس والزور وتعظيم شعائر الله مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ هذا معنى الآية ونظمها: وشعائر الله: الهدي والبدن، وأصلها من «4» الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي فسمّيت به، وتعظيمها استعظامها واستحسانها واستسمانها. لَكُمْ فِيها أي في الهدايا مَنافِعُ قيل: أن يسمّيها صاحبها بدنة أو هديا ويشعرها ويقلّدها في رسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها.
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أن يسمّيها هديا ويوجبها، فإذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء، هذا قول مجاهد وعطاء والضحاك وقتادة، ورواية مقسم عن ابن عباس، وقيل: معناه: لَكُمْ في هذه الهدايا مَنافِعُ بعد إنجابها وتسميتها هديا بأن تركبوها إذا احتجتم إليها وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى أن تنحر، وهذا قول عطاء بن أبي رباح. وقال بعضهم: أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة، ومعنى الآية: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ بالتجارة والأسواق إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو الخروج من مكة، وهذه رواية أبي ذر عن ابن عباس. وقال بعضهم: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ بالأجر والثواب في قضاء المناسك وإقامة شعائر الحج إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو انقضاء أيام الحج. ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي منحرها عند البيت العتيق يعني أرض الحرم كلّها، نظيرها قوله سبحانه فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا أي الحرم كلّه، وقال الذين قالوا: عنى بالشعائر المناسك، معنى الآية: ثم محلّ الناس من إحرامهم إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء المناسك. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جماعة مؤمنة سلفت قبلكم جَعَلْنا مَنْسَكاً اختلف القرّاء فيه فقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما بكسر السين في الحرفين على معنى الاسم مثل المجلس والمطلع أي مذبحا موضع قربان، وقرأ الآخرون بفتح السين فيهما على المصدر مثل المدخل والمخرج أي إهراق الدماء وذبح القرابين. لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند ذبحها ونحرها، وإنّما خصّ بهيمة الأنعام لأنّ من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير، وإنما قيل بهائم لأنها لا تتكلم. فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ قال ابن عباس وقتادة: المتواضعين، مجاهد: المطمئنّين إلى الله سبحانه، الأخفش: الخاشعين، ابن جرير: الخاضعين، عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ أي الإبل العظام الضخام الأجسام، وتخفّف وتثقّل واحدتها بدنة مثل تمرة وتمر وخشبة وخشب وبادن مثل فاره وفره، والبدن هو الضخم من كلّ شيء ومنه قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنق والسدير: البدن لضخمه، وقد بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم، فأما إذا أشفى واسترخى قيل: بدّن تبدينا. وقال عطاء والسدّي: البدن: الإبل والبقر.
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي أعلام دينه إذا أشعر لَكُمْ فِيها خَيْرٌ النفع في الدنيا، والأجر في العقبى فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها عند نحرها، قال ابن عباس: هو أن تقول: الله أكبر لا إله إلّا الله والله أكبر، اللهمّ منك ولك. صَوافَّ أي قياما على ثلاث قوائم قد صفّت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك. روى يعلى بن عطاء عن يحيى بن سالم قال: رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته فقال: صوافّ كما قال الله سبحانه، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها. وقال مجاهد: الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث وتنحر كذلك. وقرأ ابن مسعود: صوافن وهي المعقلة تعقل يد واحدة، وكانت على ثلاث وتنحر، وهو مثل صواف. وقرأ أبيّ: صوافي وهكذا أيضا مجاهد وزيد بن أسلم بالياء أي صافية خالصة لله سبحانه لا شريك له فيها كما كان المشركون يفعلون. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض. وقال ابن زيد: فإذا ماتت، وأصل الوجوب الوقوع، يقال: وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به فعله. فَكُلُوا مِنْها أمر إباحة ورخصة مثل قوله سبحانه وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «1» وقوله سبحانه وتعالى فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ. وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ اختلفوا في معناهما، فروى العوفي عن ابن عباس وليث عن مجاهد أنّ الْقانِعَ الذي يقنع بما أعطي، ويرضى بما عنده ولا يسأل، وَالْمُعْتَرَّ: الذي يمرّ بك ويتعرّض لك ولا يسأل. عكرمة وابن ميثم وقتادة: القانع: المتعفف الجالس في بيته، والمعترّ: السائل الذي يعتريك ويسألك، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس. حصيف عن مجاهد، القانع: أهل مكة وجارك وإن كان غنيّا، والمعترّ الذي يعتريك ويأتيك فيسألك، وعلى هذه التأويلات يكون القانع من القناعة وهي الرضا والتعفّف وترك السؤال. سعيد بن جبير والكلبي: القانع: الذي يسألك، والمعترّ: الذي يتعرّض لك ويريك نفسه
ولا يسألك، وعلى هذا القول يكون القانع من القنوع وهو السؤال. قال الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعفّ من القنوع «1» وقال لبيد: واعطاني المولى على حين فقره ... إذا قال أبصر خلّتي وقنوعي «2» وقال زيد بن أسلم: القانع: المسكين الذي يطوف ويسأل، والمعترّ: الصديق الزائر الذي يعترّ بالبدن. ابن أبي نجيح عن مجاهد: القانع: الطامع، والمعتر: من يعتر بالبدن من غنّي أو فقير. ابن زيد: القانع: المسكين، والمعترّ الذي يعترّ القوم للحمهم وليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة، يجيء إلى القوم لأجل لحمهم. وقرأ الحسن: والمعتري وهو مثل المعتر، يقال: عراه واعتراه إذا أتاه طالبا معروفه. كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطّخوا حيطان الكعبة بدمائها فأنزل الله سبحانه لَنْ يَنالَ اللَّهَ أي لن يصل إلى الله لُحُومُها وَلا دِماؤُها. وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ أي النيّة وإخلاص وما أريد به وجه الله عزّ وجلّ، وقرأ يعقوب تنال وتناله بالتاء، غيره: بالياء. كَذلِكَ هكذا سَخَّرَها يعني البدن لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ لإعلام دينه ومناسك حجّه وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا.
[سورة الحج (22) : الآيات 38 إلى 47]
[سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 47] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ مكي وبصري: يدفع، غيرهم: يُدافِعُ، ومعناه: إنّ الله يدفع غائلة المشركين. عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ في أمانة الله كَفُورٍ لنعمته. أُذِنَ قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم أُذِنَ بضم الألف، وقرأ الباقون بفتحه أي أذن الله لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء يعنون المؤمنين الذين يقابلهم المشركون، وقرأ الباقون بكسر التاء يعني إنّ الذين أذن لهم بالجهاد يقاتلون المشركين بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. قال المفسّرون: كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج، فيشكونهم إلى رسول الله فيقول لهم: اصبروا فإنّي لم أؤمر بالقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مكة، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال. وقال ابن عباس: لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيّهم، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، لنهلكنّ، فأنزل الله سبحانه أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ الآية، قال أبو بكر: فعرفت أنّه سيكون قتال. وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فكانوا يمنعون من الهجرة، فأذن الله تعالى لهم في قتال الكفّار الذين يمنعونهم من الهجرة. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ بدل من الذين الأولى، ثمّ قال إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ يعني لم يخرجوا من ديارهم إلّا لقولهم ربّنا الله وحده، فيكون أن في موضع الخفض ردّا على الباء في قوله بِغَيْرِ حَقٍّ ويجوز أن يكون في موضع نصب على وجه الاستثناء. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بالجهاد وإقامة الحدود وكفّ الظلم لَهُدِّمَتْ قرأ «1» الحجازيّون بتخفيف الدال، والباقون بالتشديد على الكسر أي تخرّبت صَوامِعُ قال مجاهد والضحاك: يعني صوامع الرهبان، قتادة: صوامع الصابئين. وَبِيَعٌ النصارى، ابن أبي نجيح عن مجاهد: البيع: كنائس اليهود، وبه قال ابن زيد.
وَصَلَواتٌ قال ابن عباس وقتادة والضحاك: يعني كنائس اليهود ويسمّونها صلوتا. أبو العالية: هي مساجد الصابئين. ابن أبي نجيح عن مجاهد: هي مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطريق، وعلى هذه الأقاويل تكون الصلوات «1» صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدوّ، انقطعت العبادة وهدمت المساجد كما صنع بخت نصّر. وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً يعني مساجد المسلمين، وقيل: تأويلها: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ في أيام شريعة عيسى، وَصَلَواتٌ في أيام شريعة موسى، وَمَساجِدُ في أيام شريعة محمد صلّى الله عليهم أجمعين. وقال الحسن: يدفع عن هدم مصليات أهل الذّمة بالمؤمنين، فإن قيل: لم قدّم مصليات الكافرين على مساجد المسلمين؟ قلنا: لأنها أقدم، وقيل: لقربها من الهدم، وقرب المساجد من الذكر كما أخّر السابق في قوله فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ لقربه من الخيرات «2» . وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ أي ينصر دينه ونبيّه. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قال قتادة: هم أصحاب محمد، عكرمة: أهل الصلوات الخمس، الحسن وأبو العالية: هذه الأمة. وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أمهلتهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ عاقبتهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري بالعذاب والهلاك، يعزّي نبيّه صلى الله عليه وسلّم ويخوّف مخالفيه. فَكَأَيِّنْ وكم مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ يعني وأهلها ظالمون، فنسب الظلم إليها لقرب الجوار. فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة على سقوفها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ متروكة مخلّاة عن أهلها وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قال قتادة والضحّاك ومقاتل: رفيع طويل، ومنه قول عدي «3» :
شاده مرمرا وجلّله كلسا ... فللطّير في ذراه وكور «1» أي رفعه. وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة: مجصّص، من الشيد وهو الجصّ، قال الراجز: كحبّة الماء بين الطىّ والشيد وقال امرؤ القيس: وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ... ولا أجما إلّا مشيدا بجندل «2» أي مبنيّا بالشيد والجندل. وروى أبو روق عن الضحاك أنّ هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك أنّ أربعة آلاف نفر ممّن آمن بصالح ونجوا من العذاب أتوا حضرموت ومعهم صالح، فلمّا حضروه مات صالح، فسمّي حضرموت لأن صالحا لمّا حضره مات، فبنوا حاصورا وقعدوا على هذه البئر وأمّروا عليهم رجلا يقال له بلهنس بن جلاس بن سويد، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سواده، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتى نموا وكثروا، ثم أنّهم عبدوا الأصنام فكفروا فأرسل الله إليهم نبيّا يقال له حنظلة بن صفوان كان حمالا فيهم فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطّلت بئرهم وخرّبت قصورهم. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني كفّار مكة فينظروا إلى مصارع المكذّبين من الأمم الخالية. فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها يعلمون بها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فيتفكروا ويعتبروا. فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ تأكيد، كقوله سبحانه وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وقوله تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ. قال ابن عباس ومقاتل: لمّا نزل وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى «3» جاء ابن أم مكتوم النبي صلى الله عليه وسلّم باكيا فقال: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ نزلت في النضر بن الحرث.
[سورة الحج (22) : الآيات 48 إلى 60]
وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فأنجز ذلك يوم بدر. وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ بالياء مكي كوفي غير عاصم، غيرهم: بالتاء. وقال ابن عباس: هي من الأيام التي خلق الله سبحانه فيها السموات والأرض. مجاهد وعكرمة: من أيام الآخرة. ابن زيد: في قوله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال: هذه أيام الآخرة. وفي قوله تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» قال: هو يوم القيامة. وقال أهل المعاني: معنى الآية: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدّة كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ فكيف تستعجلوه؟ وهذا كما يقال: أيام الهموم طوال وأيام السرور قصار. [سورة الحج (22) : الآيات 48 الى 60] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي
عملوا في إبطال آياتنا مُعاجِزِينَ أي مغالبين مشاقّين قال ابن عباس، الأخفش: متأنّفين، قتادة: ظنّوا أنّهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم ولن يعجزوه. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: معجّزين بالتشديد أي مثبّطين الناس عن الإيمان، ومثله في سورة سبأ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى. قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسّرين: لمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تولّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به من الله سبحانه تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه على إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فأحبّ يومئذ ألّا يأتيه من الله تعالى شيء فينفروا عنه، وتمنى ذلك فأنزل الله سبحانه سورة وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «1» فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «2» ألقى الشيطان على لسانه لمّا كان يحدث به نفسه ويتمناه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قراءته فقرأ السورة كلّها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده، وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلّا سجد إلّا الوليد بن المغيرة وأبو أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود، وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعل لها محمد نصيبا فنحن معه، فلمّا أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد ماذا صنعت؟! لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يقل لك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند ذلك حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كبيرا فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبلغهم سجود قريش، وقيل: قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان، فلمّا نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله، فغيّر ذلك وجاء بغيره، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى
الشيطان على لسان رسول الله (عليه السلام) قد وقعا في فم كلّ مشرك فازدادوا شرّا إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم «1» . وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عيانا وشفاها وَلا نَبِيٍّ وهو الذي تكون نبوّته إلهاما أو مناما إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي أحبّ شيئا واشتهاه وحدّث به نفسه ما لم يؤمر به. أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي مراده ووجد إليه سبيلا، وقال أكثر المفسرين: يعني بقوله: تَمَنَّى أي تلا وقرأ كتاب الله سبحانه أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي قراءته، وتلاوته، نظيره قوله سبحانه لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ «2» يعني قراءة يقرأ عليهم. وقال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل: تمنّى كتاب الله أوّل ليلة ... وآخره لاقى حمام المقادر «3» وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي «4» الطبري يقول: ليس هذا التمنّي من القرآن والوحي في شيء وإنّما هو أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنّى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان. وقال الحسن: أراد بالغرانيق العلى الملائكة يعني أنّ الشفاعة ترتجى منهم لا من الأصنام، وهذا قول ليس بالقوي ولا بالمرضىّ لقوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله ويذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ فيثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. فإن قيل: فما وجه جواز الغلط في التلاوة على النبي صلى الله عليه وسلّم؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنّه على سبيل السهو والنسيان وسبق اللسان فلا يلبث أن ينبّهه الله سبحانه ويعصمه. والثاني: أنّ ذلك إنّما قاله الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أثناء قراءته وأوهم أنّه من القرآن وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يتلوه، قال الله سبحانه لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فيشكّون في ذلك. وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فلا تلين لأمر الله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
من المؤمنين أَنَّهُ يعني أنّ الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي ممّا ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ابن جريج: من القرآن، غيره: من الدين وهو الصراط المستقيم. حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ قال عكرمة والضحّاك: عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة. وقال الآخرون: هو يوم بدر وهو الصواب لأنّ الساعة هي القيامة، ولا وجه لأن يقال: حتى تأتيهم القيامة وإنّما سمّي يوم بدر عقيما لأنّهم لم ينظروا فيه إلى الليل، بل قتلوا قبل المساء قاله ابن جريج، غيره: لأنّه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة، وقيل: لأنّه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة لِلَّهِ وحده من غير منازع، ولا مدّع، والملك هو اتّساع المقدور لمن له تدبير الأمور، والله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الأمور كلّها، وكلّ ملك سواه فهو مملّك بحكمه وإذنه. يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ثم بيّن حكمه فقال عزّ من قائل فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله سبحانه وطلب رضاه ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا وهم كذلك لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً في الجنة وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وقيل: هو قوله سبحانه بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» . روى ابن وهب عن عبد الرّحمن بن الحجاج بن سلامان بن عامر قال: كان فضالة بن دوس أميرا على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين: أحدهما قتيل والآخر متوفّى، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال: أراكم أيّها الناس تميلون مع القتيل وتفضّلونه على أخيه المتوفّى! فو الذي نفسي بيده ما أبالي من أىّ حفرتها بعثت، اقرءوا قول الله سبحانه وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم، فكره المسلمون قتال المشركين وسألوهم أن يكفّوا عن القتال من أجل الأشهر
[سورة الحج (22) : الآيات 61 إلى 72]
الحرم فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليه، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات، والعقاب الأول بمعنى الجزاء. [سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 72] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) ذلِكَ يعني هذا الذي أنصر المظلوم بأنّي القادر على ما أشاء، فمن قدرته أنّه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ بالياء بصري كوفي غير أبي بكر، الباقون: بالتاء مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ فلا شيء أعلى منه ولأنّه تعالى عن الأشباه والأشكال الْكَبِيرُ العظيم الذي كلّ شيء دونه فلا شيء أعظم منه. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً بالنبات، رفع فَتُصْبِحُ لأن ظاهر الآية استفهام ومعناه الخبر، مجازها: اعلم يا محمّد أن الله ينزل مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً، وإن شئت قلت: قد رأيت أنّ الله أنزل من السماء ماء، كقول الشاعر: ألم تسأل الربع القديم فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق «1» معناه: قد سألته فنطق. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ
يعني لكيلا تسقط على الأرض إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ولم تكونوا شيئا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم وفناء أعماركم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للثواب والعقاب إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لجحود لما ظهر من الآيات والدلالات. لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً مألفا يألفونه وموضعا يعتادونه لعبادة الله، وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خير أو شرّ يقال: إن لفلان منسكا أي مكانا يغشاه ويألفه للعبادة، ومنه مناسك الحج لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة. وقال ابن عباس: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً أي عيدا. وقال مجاهد وقتادة: موضع قربان يذبحون فيه، غيرهم: أراد جميع العبادات. فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي في أمر الذبح، نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن الخنيس قالوا لأصحاب رسول الله (عليه السلام) : ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما قتله الله؟» . وَادْعُ إِلى رَبِّكَ دين ربّك إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فتعرفون حينئذ المحقّ من المبطل والاختلاف ذهاب كلّ واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهذا أدب حسن علّم الله سبحانه فيمن جادل على سبيل التعنّت والمراء كفعل السفهاء أن لا يجادل ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علّمه الله سبحانه لنبيّه (عليه السلام) ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ كلّه فِي كِتابٍ يعني اللوح المحفوظ إِنَّ ذلِكَ يعني علمه تعالى بجميع ذلك عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ الكافرين مِنْ نَصِيرٍ يمنعهم من عذاب الله. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ بيّن ذلك في وجوههم بالكراهة والعبوس. يَكادُونَ يَسْطُونَ يقعون ويبطشون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا وأصل السطو: القهر. قُلْ يا محمد لهم أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ أي بشرّ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون النَّارُ أي هي النار وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
[سورة الحج (22) : الآيات 73 إلى 78]
[سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 78] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ معنى ضرب: جعل، كقولهم: ضرب السلطان البعث على الناس، وضرب الجزية على أهل الذمّة أي جعل ذلك عليهم، ومنه قوله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ «1» والمثل حالة ثابتة تشبه بالأولى في الذكر الذي صار كالعلم، وأصله الشبه، ومعنى الآية: جعل لي المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي. فَاسْتَمِعُوا لَهُ حالها وصفتها التي بيّنت وشبّهتها بها، ثم بيّن ذلك فقال عزّ من قائل إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قراءة العامة بالتاء، وروى زيد عن يعقوب يدعون بالياء لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً في صغره وقلّته لأنّها لا تقدر على ذلك وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ لخلقه، والذباب واحد وجمعها القليل أذبنة والكثير ذبّان، مثل غراب وأغربة وغربان وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ يعني الأصنام، أخبر عنها بفعل ما يعقل، وقد مضت هذه المسألة، يقول: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً مما عليهم لا يقدرون أن يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. قال ابن عباس: الطالب الذباب والمطلوب الصنم، وذلك أن الكفّار كانوا يلطّخون أصنامهم بالعسل في كلّ سنة ثم يغلقون عليها أبواب البيوت فيدخل الذبّان في الكوى فيأكل ذلك العسل وينقيها منه فإذا رأوا ذلك قالوا: أكلت آلهتنا العسل. الضحّاك: يعني العابد والمعبود. ابن زيد وابن كيسان: كانوا يحلّون الأصنام باليواقيت واللآلي وأنواع الجواهر ويطيّبونها بألوان الطيب، فربما يسقط واحد منها أو يأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها، فالطالب على هذا التأويل الصنم والمطلوب الذباب والطائر. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظّموا الله حقّ تعظيمه، ولا عرفوه حقّ معرفته ولا وصفوه حقّ صفته إذ أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف به. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اللَّهُ يَصْطَفِي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا كجبرئيل وميكائيل وغيرهما وَمِنَ النَّاسِ أيضا رسلا مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء
صلوات الله عليهم، يقال: نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا «1» فأخبر أن الاختيار إليه، يختار من يشاء من خلقه. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقولهم بَصِيرٌ بمن يختاره لرسالته. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني ما كان بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم. وَما خَلْفَهُمْ ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم. وقال الحسن: ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما عملوه، وَما خَلْفَهُمْ ما هم عاملون ممّا لم يعملوه بعد. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «2» . أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع، وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك عن نافع أنّ رجلا من أهل مصر أخبر عبد الله بن عمر أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثمّ قال: انّ هذه السورة فضّلت بسجدتين. وبإسناده عن مالك عن عبد الله بن دينار أنّه قال: رأيت عبد الله بن عمر سجد في الحج سجدتين. وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: حدّثنا ابن أبي خيثمة قال: حدّثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن مهران أن أبا موسى قرأ على منبر البصرة سورة الحج، فنزل فسجد فيها سجدتين. وحدّثنا أبو محمد المخلّدي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدّثنا محمد ابن مسلم بن دارة قال: حدّثنا محمد بن موسى بن أعين قال: قرأت على أبي عن عمرو بن الحرث عن ابن لهيعة ان شريح بن عاها حدّثه عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما. وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ يعني وجاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده، وهو استفراغ الطاقة فيه، قاله ابن عباس، وعنه أيضا: لا تخافوا في الله لومة لائم وذلك حق الجهاد. وقال الضحاك ومقاتل: يعني اعملوا لله بالحقّ حقّ عمله، واعبدوه حقّ عبادته. عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حقّ الجهاد، وهو الجهاد الأكبر
على ما روي في الخبر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال حين رجع من بعض غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» [6] «1» . هُوَ اجْتَباكُمْ اختاركم لدينه وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ضيق فلا يبتلي المؤمن بشيء من الذنوب إلّا جعل له منه مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها بالقصاص وبعضها برد المظالم وبعضها بأنواع الكفّارات، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا إلى الخلاص من العقاب فيه، ولا ذنب يذنبه المؤمن إلّا وله منه في دين الإسلام مخرج، وهذا معنى رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حين سأله عبد الملك بن مروان عن هذه الآية فقال: جعل الله الكفارات مخرجا من ذلك، سمعت ابن عباس يقول ذلك. وقال بعضهم: معناه وما جعل عليكم في الدين من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر والأضحى ووقت الحج إذا التبست عليكم وشكّ الناس فيها، ولكنّه وسّع ذلك عليكم حتى تتيقّنوا محلها مِلَّةَ أَبِيكُمْ أي كملّة أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ نصب بنزع حرف الصفة، عن الفرّاء، غيره: نصب على الإغراء أي الزموا واتّبعوا ملّة أبيكم إبراهيم، وإنّما أمركم باتباع ملّة إبراهيم لأنّها داخلة في ملّة محمد صلى الله عليه وسلّم. وأمّا وجه قوله سبحانه «مِلَّةَ أَبِيكُمْ» وليس جميعهم يرجع إلى ولادة إبراهيم فإنّ معناه: إنّ حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد، كما قال سبحانه وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ «2» وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّما أنا لكم مثل الوالد» [7] «3» ، وهذا معنى قول الحسن البصري (رحمه الله) . هُوَ يعني الله سبحانه وتعالى سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة وَفِي هذا الكتاب هذا قول أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: هُوَ راجع إلى إبراهيم (عليه السلام) يعني أنّ إبراهيم سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الوقت في أيام إبراهيم وَفِي هذا الوقت، قال: وهو قول إبراهيم رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «4» والقول الأول أولى بالصواب. لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ أن قد بلّغكم وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أن رسلهم قد بلّغتهم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ وثقوا بالله وتوكّلوا عليه. وقال الحسن: تمسّكوا بدين الله الذي لطف به لعباده. هُوَ مَوْلاكُمْ وليّكم وناصركم ومتولي أمركم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
سورة المؤمنون
سورة المؤمنون مكيّة، وهي أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة، ومائة وثماني عشرة آية أخبرنا أبو الحسن الخباري قال: حدّثنا ابن حبش قال: حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال: حدّثنا عبد الله بن روح المدائني قال: وحدّثنا طفران قال: حدّثنا ابن أبي داود قال: حدّثنا محمد بن عاصم قال: حدّثنا نسابة بن سوار الفزاري قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة بالرّوح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت» [8] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ قد حرف تأكيد، وقال المحققون: معنى قد تقريب بالماضي من الحال، فدلّ على أنّ فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال، وهذا أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفلاح، والفلاح: النجاح والبقاء. أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر بقراءته عليّ في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمرو المعتزّ بن محمد بن الفضل القاضي قال: حدّثنا أحمد بن الحسين الفريابي قال: حدّثنا عبد الرحيم بن حبيب البغدادي عن إسحاق بن نجيح الملطي عن
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمّ قال لها: تكلّمي، قالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ- ثلاثا- ثمّ قالت: أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي» [9] «1» . وقرأ طلحة بن مصرف: قَدْ أُفْلِحَ الْمُؤْمِنُونَ على المجهول، أي أبقوا في الثواب. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ اختلف المفسّرون في معنى الخشوع، فقال ابن عباس: مخبتون أذلّاء، الحسن وقتادة: خائفون. مقاتل: متواضعون على الخشوع في القلب، وأن تلين للمرء المسلم كنفك ولا تلتفت. مجاهد: هو غضّ البصر وخفض الجناح وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرّحمن أن يمدّ بصره إلى شيء أو أن يحدّث نفسه بشيء من شأن الدنيا. عمرو بن دينار: ليس الخشوع الركوع والسجود ولكنّه السكون وحسن الهيئة في الصلاة. ابن سيرين وغيره: هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك. قالوا: وكان النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء وينظرون يمينا ويسارا حتى نزلت هذه الآية، فجعلوا بعد ذلك وجوههم حيث يسجدون، وما رؤي بعد ذلك أحد منهم ينظر ألّا إلى الأرض. ربيع: هو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا. أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: حدّثنا السراج قال: حدّثنا محمد بن الصباح قال: أخبرنا إسحاق بن سليمان قال: حدّثنا إبراهيم الخوزي عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: انّ العبد إذا قام إلى الصلاة فإنّه بين عينيّ الرّحمان عزّ وجلّ فإذا التفت قال له الربّ: إلى من تلتفت؟ إلى من هو خير لك منّي؟ ابن آدم أقبل إليّ فأنا خير ممّن تلتفت إليه «2» . عطاء: هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة، وأبصر النبي صلى الله عليه وسلّم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه «3» . وأخبرنا محمد بن أحمد بن عقيل القطان قال: أخبرنا صاحب بن أحمد بن ترحم بن سفيان قال: حدّثنا أبو عبد الرّحمن بن نبيت المروزي عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن
معمّر أنه سمع الزهري يحدّث عن أبي الأحوص عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الرحمة تواجهه فلا يحرّكن الحصى» [10] «1» . ويقال: نظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى ويقول: اللهم زوّجني من الحور العين، فقال: بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث. خليد «2» بن دعلج عن قتادة: هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة. بعضهم: هو جمع الهمّة لها والإعراض عمّا سواها. أبو بكر الواسطي: هو الصلاة لله سبحانه على الخلوص من غير عوض. سمعت ابن الإمام يقول: سمعت ابن مقسم يقول: سمعت أبا الفضل جعفر بن أحمد الصيدلي يقول: سمعت ابن أبي الورد يقول: يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعا: إعظام المقام، وإخلاص المقال، واليقين التمام، وجمع الهمّة. وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال الحسن: عن المعاصي، ابن عباس: الحلف الكاذب، مقاتل: الشتم والأذى، غيرهم: ما لا يحمل من القول والفعل، وقيل: اللغو الفعل الذي لا فائدة فيه. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ الواجبة فاعِلُونَ مؤدّون، وهي فصيحة وقد جاءت في كلام العرب قال أميّة بن أبي الصلت: المطعمون الطعام في السنة ... الأزمة والفاعلون للزكوات وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أي من أزواجهم، على بمعنى من أَوْ ما في محل الخفض يعني أو من ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ على إتيان نسائهم وإمائهم. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي التمس وطلب سوى زوجته وملك يمينه فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ من الحلال إلى الحرام، فمن زنى فهو عاد. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ التي ائتمنوا عليها وَعَهْدِهِمْ وعقودهم التي عاقدوا الناس عليها راعُونَ حافظون وافون. وقرأ ابن كثير: لأمانتهم على الواحد لقوله: «وَعَهْدِهِمْ» . الباقون: بالجمع لقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «3» .
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ يداومون على فعلها ويراعون أوقاتها، فأمر بالمحافظة عليها كما أمر بالخشوع فيها لذلك كرّر ذكر الصلاة. أُولئِكَ أهل هذه الصفة هُمُ الْوارِثُونَ يوم القيامة منازل أهل الجنة من الجنة. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: ما منكم من أحد إلّا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ «1» . وقال مجاهد: لكل واحد منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فأمّا المؤمن فيبنى منزله الذي له في الجنة، ويهدم منزله الذي هو في النار، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة، ويبنى منزله الذي في النار. وقال بعضهم: معنى الوراثة هو أنّه يؤول أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ أي البستان ذا الكرم، قال مجاهد: هي بالرومية، عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، السدّي: هي البساتين عليها الحيطان بلسان الروم. وفي الحديث «2» : إن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر فقالت أمّه: يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء، فقال: «يا أمّ حارثة إنّها جنان وإنّ ابنك قد أصحاب الفردوس الأعلى من الجنة» [11] . أخبرني أبو الحسن «3» عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس بن إبراهيم بن النضر المقري قال: حدّثنا العباس بن الفضل المقري قال: حدّثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة الحضرمي قال: حدّثنا عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ يعني قد سعد المصدّقون بتوحيد الله سبحانه، ثم نعتهم ووصف أعمالهم فقال عزّ من قائل الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ يعني متواضعين لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره، ولا يلتفت من الخشوع لله وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ يعني الباطل والكذب وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ يعني الأموال كقوله سبحانه في الأعلى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى «4» يعني من ماله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ يعني عن الفواحش، ثم قال
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 إلى 26]
إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني ولائدهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ لا يلامون على جماع أزواجهم وولائدهم فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فمن طلب الفواحش بعد الأزواج والولائد ما لم يحلّ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ يعني المعتدين في دينهم وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ يعني ما ائتمنوا عليه فيما بينهم وبين الناس وَعَهْدِهِمْ راعُونَ يعني حافظين يؤدّون الأمانة ويوفون بالعهود وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يعني يحافظون عليها في مواقيتها، ثمّ أخبر بثوابهم فقال أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ثمّ بين ما يرثون فقال الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ يعني الجنة بلسان الرومية هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يموتون فيها. أخبرنا محمد «1» بن عقيل القطان «2» قال: أخبرنا حاجب بن أحمد بن سفيان قال: حدّثنا محمد بن حماد البيوردي قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرني يونس بن سليم قال أملى «3» علىّ صاحب ايلة عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرّحمن بن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم الوحي يسمع عند وجهه كدوىّ النحل، فمكثنا ساعة فاستقبل ورفع يديه فقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنّا، ثمّ قال: لقد أنزل علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنّة، ثمّ قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ عشر آيات «4» » [12] . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 26] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ابن آدم مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «1» أي من صفوة ماء آدم الذي هو من الطين ومنيّه والعرب تسمّي نطفة الشيء وولده سليله وسلالته لأنّهما مسلولان منه. قال الشاعر: حملت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين «2» وقال آخر: وهل كنت إلّا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجلّلها بغل «3» ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ حريز مكين لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها وهو الرحم. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً قرأ ابن عامر عظما على الواحد في الحرفين، ومثله روى أبو بكر عن عاصم لقوله لَحْماً، وقرأ الآخرون بالجمع لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة. فَكَسَوْنَا فألبسنا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ اختلف المفسرون فيه. قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة وأبو العالية والضحاك وابن زيد: نفخ الروح فيه. قتادة: نبات الأسنان والشعر. ابن عمر: استواء الشباب، وهي رواية ابن أبي نجيح وابن جريج عن مجاهد. وروى العوفي عن ابن عباس: إنّ ذلك تصريف أحواله بعد الولادة، يقول: خرج من بطن أمّه بعد ما خلق فكان من بدو خلقه الآخر أن استهلّ، ثمّ كان من خلقه أن دلّ على ثدي أمّه، ثمّ كان من خلقه أن علّم كيف يبسط رجليه، إلى أن قعد، إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه، إلى أن مشى، إلى أن فطم، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام، إلى أن بلغ الحلم، إلى أن بلغ ان يتقلّب في البلاد. وقيل: الذكورة والأنوثية، وقيل: إعطاء العقل والفهم. فَتَبارَكَ اللَّهُ أي استحق التعظيم والثناء بأنّه لم يزل ولا يزال وأصله من البروك وهو الثبوت. أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي المصوّرين والمقدّرين، مجاهد: يصنعون ويصنع الله والله خير الصانعين.
ابن جريج: إنما جمع الخالقين لأنّ عيسى كان يخلق، فأخبر جلّ ثناؤه أنّه يخلق أحسن ممّا كان يخلق. وروى أبو الخليل عن أبي قتادة قال: لمّا نزلت هذه الآية إلى آخرها قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «فتبارك الله أحسن الخالقين» فنزلت فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ. قال ابن عباس: كان ابن أبي سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأملى عليه هذه الآية، فلمّا بلغ قوله خَلْقاً آخَرَ خطر بباله فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فلمّا أملاها كذلك لرسول الله قال عبد الله: إن كان محمد نبيّا يوحى إليه فانا نبىّ يوحى إليّ، فلحق بمكة كافرا. ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ قرأ أشهب العقيلي لمائتون بالألف، والميّت والمائت، الذي لم يفارقه الروح بعد وهو سيموت، والميت بالتخفيف: الذي فارقه الروح، فلذلك لم تخفف هاهنا كقوله سبحانه وتعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وإنما قيل: طَرائِقَ لأن بعضهنّ فوق بعض، فكلّ سماء منهنّ طريقة، والعرب تسمّي كلّ شيء فوق شيء طريقة، وقيل: لأنّها طرائق الملائكة. وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ يعني عن خلق السماء، قاله بعض العلماء، وقال أكثر المفسرين: يعني عمّن خلقنا من الخلق كلّهم ما كنّا غافلين عنهم، بل كنّا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم. وقال أهل المعاني: معنى الآية: إنّ من جاز عليه الغفلة عن العباد جاز عليه الغفلة عن الطرائق التي فوقهم فتسقط فالله عزّ وجلّ يمسك السماوات أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ولولا إمساكه لها لم تقف طرفة عين. قال الحسن: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ أن ينزل عليهم ما يجيئهم من المطر. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ثمّ أخرجنا منها ينابيع فماء الأرض هو من السماء. وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ حتى تهلكوا عطشا وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم. فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ بالماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها يعني في الجنّات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ شتاء وصيفا، وإنّما خصّ النخيل والأعناب بالذكر لأنّهما كانا أعظم ثمار الحجاز وما والاها، فكانت النخيل لأهل المدينة، والأعناب لأهل الطائف، فذكر القوم ما يعرفون من نعمه.
وَشَجَرَةً يعني وأنشأنا لكم أيضا شجرة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهي الزيتون، واختلف القرّاء في سَيْناءَ، فكسر سينه أبو عمرو وأهل الحجاز، وفتحه الباقون، واختلف العلماء في معناه، فقال مجاهد: معناه البركة، يعني: إنه جبل مبارك، وهي رواية عطية عن ابن عباس، قتادة والحسن والضحّاك: طُورِ سَيْناءَ بالنبطية: الجبل الحسن. ابن زيد: هو الجبل الذي نودي منه موسى عليه السلام، وهو بين مصر وأيلة، معمر وغيره: جبل ذو شجر، بعضهم: هو بالسريانية الملتفّة الأشجار، وقيل: هو كلّ جبل ذي أشجار مثمرة، وقيل: هو متعال من السّنا وهو الارتفاع. قال مقاتل: خصّ الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت بها، ويقال: إنّ الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان. تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وأكثر القراء على فتح التاء الأوّل من قوله تَنْبُتُ وضم بائه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء ولها وجهان: أحدهما: أن الباء فيه زائدة كما يقال: أخذت ثوبه وأخذت بثوبه، وكقول الراجز: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج «1» أي ونرجو الفرج. والوجه الآخر: أنّهما لغتان بمعنى واحد نبت وأنبت، قال زهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل «2» أي نبت وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ أي إدام نصطبغ به وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً وهي الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدّى به الى العلم وهي من العبور كأنه طريق يعبر إليه ويتوصل به إلى المراد. نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ قال ابن عباس: سمّي بذلك لكثرة ما ناح على نفسه، واختلف في سبب نوحه، فقال بعضهم: لدعوته على قومه بالهلاك حيث قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «3» وقيل: لمراجعته ربّه في شأن أمته، وقيل: لأنّه مرّ بكلب مجذوم، فقال: اخسأ يا قبيح فأوحى الله سبحانه إليه: أعبتني أم عبت الكلب؟.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 27 إلى 35]
فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ يتشرف عَلَيْكُمْ فيكون أفضل منكم فيصير متبوعا وأنتم له تبعا. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا الذي يدعونا إليه نوح فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ ما هو إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ جنون، نظيرها قوله سبحانه ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ «1» ويقال للجن أيضا: جنّة، قال الله سبحانه وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «2» وقال مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ «3» يتفق الاسم والمصدر. فَتَرَبَّصُوا فانتظروا بِهِ حَتَّى حِينٍ يعني إلى وقت ما، وقيل: الى حين الموت، فقال لمّا تمادوا في غيّهم وأصرّوا على كفرهم رَبِّ انْصُرْنِي أعني بإهلاكهم بِما كَذَّبُونِ يعني بتكذيبهم إياي. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 27 الى 35] فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها فأدخل فيها، يقال: سلكته في كذا وأسلكته فيه، قال الشاعر: وكنت لزاز خصمك لم أعرّد ... وقد سلكوك في يوم عصيب «4» وقال الهذلي: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلّا كما تطرد الجمّالة الشردا «5»
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 36 إلى 44]
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. قال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلّا من يلد ويبيض، فأما ما يتولد من الطين وحشرات الأرض والبق والبعوض فلم يحمل منها شيئا. فَإِذَا اسْتَوَيْتَ اعتدلت في السفينة راكبا فيها، عاليا فوقها أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً قرأه العامة بضم الميم على المصدر أي إنزالا مباركا، وقرأ عاصم برواية أبي بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي موضعا. وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا وقد كنّا، وقيل: وما كنا إلّا مبتلين مختبرين إيّاهم بتذكيرنا ووعظنا لننظر ما هم عاملون قبل نزول العذاب بهم. ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي أهلكناهم وأحدّثنا من بعدهم قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ قال المفسّرون يعني هودا وقومه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ ... قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ نعّمناهم ووسّعنا عليهم، والترفه: النعمة، في الحياة الدنيا ما هذا الرسول إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً قد ذهبت اللحوم أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من قبوركم أحياء، وأعاد إنّكم لمّا طال الكلام، ومعنى وكنتم ترابا وعظاما إنكم مخرجون «1» . [سورة المؤمنون (23) : الآيات 36 الى 44] هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ قال ابن عباس: هي كلمة بعد يقول: ما توعدون، واختلف القرّاء فيه، فقرأ أبو جعفر بكسر التاء فيهما، وقرأ نصر بن عاصم بالضم، وقرأ ابن حبوة الشامي بالضم والتنوين، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين، وكلّها لغات صحيحة، فمن نصب جعل
مثل أين وكيف، وقيل: لأنهما أداتان فصارتا مثل خمسة عشر وبعلبك ونحوهما. وقال الفرّاء: نصبهما كنصب قولهم ثمت وربّت، ومن رفعه جعله مثل منذ وقط وحيث، ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء. قال الشاعر: تذكرت أياما مضين من الصبا ... وهيهات هيهات إليك رجوعها «1» وقال آخر: لقد باعدت أم الحمارس دارها ... وهيهات من أم الحمارس هيهاتا واختلفوا في الوقف عليها، فكان الكسائي يقف عليها بالهاء، والفرّاء بالتاء، وإنّما أدخلت اللام مع هيهات في الاسم لأنها أداة غير مشتقّة من فعل فأدخلوا معها في الاسم اللام كما أدخلوها مع هلمّ لك. إِنْ هِيَ يعنون الدنيا إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا يموت الآباء ويحيى الأبناء ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ يعنون الرسول إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ عَمَّا قَلِيلٍ عن قليل، وما صلة لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ على كفرهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني صيحة العذاب بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً وهو ما يحمله السيل فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ والقرن أهل العصر، سمّوا بذلك لمقارنة بعضهم ببعض. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ومن صلة. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا مترادفين يتبع بعضهم بعضا، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو تترىً بالتنوين على توهّم أنّ الياء أصليّة، كما قيل: معزي بالياء ومعزى وبهمي وبهما فأجريت أحيانا وترك اجراؤها أحيانا، فمن نوّن وقف عليها بالألف، ومن لم ينوّن وقف عليها بالياء، ويقال: إنها ليست بياء ولكن ألف ممالة، وقرأه العامّة بغير تنوين مثل غضبى وسكرى، وهو اسم جمع مثل شتّى، وأصله: وترى من المواترة والتواتر، فجعلت الواو تاء مثل التقوى والتكلان ونحوهما. كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً بالهلاك أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض. وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي مثلا يتحدّث بهم الناس، وهي جمع أحدوثة، ويجوز أن يكون جمع حديث، قال الأخفش: إنّما يقال هذا في الشّر، فأمّا في الخير فلا يقال: جعلتهم أحاديث وأحدوثة وإنما يقال: صار فلان حديثا.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 إلى 59]
فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ نظيرها فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ «1» ؟ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 45 الى 59] ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا تعظّموا عن الإيمان وَكانُوا قَوْماً عالِينَ متكبّرين، قاهرين غيرهم بالظلم، نظيرها إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «2» . فَقالُوا يعني فرعون وقومه أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا فنتّبعهما وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ مطيعون متذلّلون، والعرب تسمّي كلّ من دان لملك عابدا له، ومن ذلك قيل لأهل الحيرة: العباد لأنّهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم. فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ لكي يهتدي بها قومه فيعملوا بما فيها وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً دلالة على قدرتنا، وكان حقّه أن يقول آيتين كما قال الله سبحانه وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ «3» واختلف النحاة في وجهها، فقال بعضهم: معناه: وجعلنا كل واحد منهما آية كما قال سبحانه كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها «4» أي آتت كلّ واحدة أكلها وقال إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ «5» ولم يقل أرجاس، وقال بعضهم: معناه: جعلنا شأنهما واحدا لأنّ عيسى ولد من غير أب، وأمّه ولدت من غير مسيس ذكر. وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ. أخبرنا أبو صالح منصور بن أحمد المشطي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن
عبد الله الرازي قال: أخبرنا سلمان بن علي قال: أخبرنا هشام بن عمار قال: حدّثنا عبد المجيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام في قول الله سبحانه وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ قال: دمشق، وقال أبو هريرة: هي الرملة، قتادة وكعب: بيت المقدس، قال كعب: وهي أقرب الأرض الى السماء بثمانية عشر ميلا. ابن زيد: مصر، الضحّاك: غوطة دمشق، أبو العالية: إيليا وهي الأرض المقدسة، ويعني بالقرار الأرض المستوية والساحة الواسعة، والمعين: الماء الظاهر لعين الناظر، وهو مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر ورآه، ويجوز أن يكون فعيلا معن يمعن فهو معين من الماعون. يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ يعني من الحلالات، يعني: وقلنا لعيسى: كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ، وهذا كما يقال في الكلام للرجل الواحد: أيّها القوم كفّوا عنّا أذاكم، ونظائرها في القرآن كثيرة. قال عمرو بن شريل: كان يأكل من غزل أمّه، وقال الحسن ومجاهد: المراد به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ قرأه أهل الكوفة بكسر الألف على الابتداء، وقرأ ابن عامر بفتح الألف وتخفيف النون جعل إنّ صلة مجازه: وهذه أمتّكم، وقرأ الباقون بفتح الألف وتشديد النون على معنى هذه، ويجوز أن يكون نصبا بإضمار فعل، أي واعلموا أنّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي ملّتكم ملّة واحدة وهي دين الإسلام. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً قرأه العامة بضم الباء يعنى كتبا، جمع زبور بمعنى: دان كلّ فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر، قاله مجاهد وقتادة، وقيل: معناه فتفرقوا دينهم بينهم كتبا أحدثوها يحتجون فيها لمذاهبهم، قاله قتادة وابن زيد، وقرأ أهل الشام بفتح الباء أي قطعا وفرقا كقطع الحديد، قال الله سبحانه آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ «1» . كُلُّ حِزْبٍ جماعة بِما لَدَيْهِمْ عندهم من الدين فَرِحُونَ معجبون مسرورون فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ قال ابن عباس: كفرهم وضلالتهم «2» ، ابن زيد: عماهم، ربيع: غفلتهم حَتَّى حِينٍ إلى وقت مجيء آجالهم. أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ نعطيهم ونزيدهم مِنْ مالٍ وَبَنِينَ في الدنيا نُسارِعُ نسابق لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ومجاز الآية: أيحسبون ذلك مسارعة لهم في الخيرات، وقرأ عبد الرّحمن ابن أبي بكر: يُسارَعُ على ما لم يسم فاعله، والصواب قراءة العامة لقوله سبحانه نُمِدُّهُمْ. بَلْ لا يَشْعُرُونَ أنّ ذلك استدراج لهم، ثمّ بيّن المسارعين الى الخيرات فقال عزّ من
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 60 إلى 74]
قائل إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 60 الى 74] وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات، هذه قراءة أهل الأمصار وبه رسوم مصاحفهم. أخبرنا عبد الخالق بن علي قال: أخبرنا إسماعيل بن نجية قال: حدّثنا محمد بن عمار بن عطية قال: حدّثنا أحمد بن يزيد الحلواني قال: حدّثنا خلاد عن إبراهيم بن الزبرقان عن محمد ابن حمّاد عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ والذين يأتون ما آتوا من المجيء. وأخبرنا الحاكم أبو منصور حمد بن أحمد البورجاني قال: حدّثنا علي بن أحمد بن موسى الفارسي قال: حدّثنا محمد بن الفضيل قال: حدّثنا أبو أسامة قال: حدّثني ملك بن مغول قال: سمعت عبد الرّحمن بن سعيد الهمداني ذكر أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أهو الذي يزني ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: «لا يا ابنة الصدّيق ولكن هو الذي يصوم ويصلي ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله سبحانه» «1» [13] . وأخبرنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا محمد بن حامد قال: حدّثنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا عبد الله بن عمرو قال: أخبرنا وكيع عن ملك بن مغول عن عبد الرّحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال: «لا يا ابنة أبي بكر أو يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلّي ويتصدق ويخاف أن لا تقبل منه» «2» [14] .
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها يعني إليها سابِقُونَ كقوله (لِما نُهُوا عَنْهُ) و (لِما قالُوا) ونحوهما، وكان ابن عباس يقول في معنى هذه الآية: سبقت لهم من الله السعادة ولذلك سارعوا في الخيرات. وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يعني إلّا ما يسعها ويصلح لها من العبادة والشريعة: وَلَدَيْنا كِتابٌ يعني اللوح المحفوظ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ يبيّن بالصدق ما عملوا وما هم عاملون من الخير والشر، وقيل: هو كتاب أعمال العباد الذي تكتبه الحفظة وهو أليق بظاهر الآية. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ يعني يوفّون جزاء أعمالهم ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم. ثمّ ذكر الكفار فقال عزّ من قائل بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ عمى وغفلة مِنْ هذا القرآن وَلَهُمْ أَعْمالٌ خبيثة لا يرضاها الله من المعاصي والخطايا مِنْ دُونِ ذلِكَ يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله سبحانه، قيل: وهي قوله إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. هُمْ لَها عامِلُونَ لا بد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة. حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ يعني اغنياءهم ورؤساءهم بِالْعَذابِ قال ابن عباس: بالسيوف يوم بدر، وقال الضحّاك: يعني الجوع وذلك ين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف، فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقدّ والأولاد» «1» [15] . إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ يضجّون ويجزعون ويستغيثون، وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرّع كما يفعل الثور، قال الشاعر: فطافت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجأرا «2» يصف بقره. وقال أيضا: يراوح من صلوات المليك ... فطورا سجودا وطورا جؤارا «3» لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم وتضرّعكم. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ يعني القرآن فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أدباركم تَنْكِصُونَ
تدبرون وتستأخرون وترجعون القهقرى، مكذّبين بها كارهين لها مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي بالحرم تقولون: لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم، وهو كناية عن غير مذكور سامِراً نصب على الحال يعني أنّهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول البيت، ووحّد سامِراً وهو بمعنى السّمار لأنّه وضع موضع الوقت، أراد: تَهْجُرُونَ ليلا، كقول الشاعر: من دونهم إن جئتهم سمرا ... عزف القيان ومجلس غمر «1» فقال: سمرا لأن معناه: إن جئتهم ليلا وهم يسمرون، وقيل: واحد ومعناه الجمع كما قال ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «2» ونحوه. تَهْجُرُونَ قرأ نافع بضم التاء وكسر الجيم أي تفحشون وتقولون الخنا، يقال اهجر الرجل في كلامه أي أفحش، وذكر أنّهم كانوا يسبّون رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الجيم ولها وجهان: أحدهما: تعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم والقرآن والإيمان وترفضونها. والآخر: يقولون سوءا وما لا يعلمون، من قولهم: هجر الرجل في منامه إذا هذى. أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا يتدبّروا الْقَوْلَ القرآن أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فأنكروه وأعرضوا عنه، ويحتمل أن يكون أم بمعنى بل، يعني: بل جاءهم ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فكذلك أنكروه ولم يؤمنوا به، وروي هذا القول عن ابن عباس. أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ محمدا وأنّه من أهل الصدق والأمانة. فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ جنون، كذبوا في ذلك فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يعقل ولا معنى له، بَلْ محمد جاءَهُمْ بِالْحَقِّ بالقول الذي لا يخفى صحته وحسنه على عاقل وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ يعني الله سبحانه أَهْواءَهُمْ مرادهم فيما يفعل لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ ببيانهم وشرفهم يعني القرآن. فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ على ما جئتهم به خَرْجاً أجرا وجعلا وأصل الخرج والخراج الغلّة والضريبة والأتاوة كخراج العبد والأرض. وقال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه، والخرج ما تبرّعت به من غير وجوب. قال الله سبحانه: فَخَراجُ رَبِّكَ رزقه وثوابه خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 إلى 98]
وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ عادلون، مائلون، ومنه الريح النكباء. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 98] وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ قحط وجدب لَلَجُّوا لتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعني القتل والجوع فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ خضعوا، وأصله طلب السكون وَما يَتَضَرَّعُونَ. قال ابن عباس: لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي النبي صلى الله عليه وسلّم فأسلم وهو أسير فخلّى سبيله فلحق باليمامة، فحال بين أهل مكة وبين المسيرة من اليمامة وأخذ الله قريشا «1» بسني الجدب حتى أكلوا العلهز، فجاء أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: أنشدك بالله والرحم أليس تزعم أنك بعثت رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ؟ فقال: بلى، فقال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فأنزل الله سبحانه هذه الآية: حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ. قال ابن عباس: يوم بدر، وقال مجاهد: القحط، وقيل: عذاب النار في الآخرة. إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ متحيّرون، آيسون من كلّ خير. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ هذا الوعد وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ ووعد آباءنا من قبلنا قوم ذكروا أنّهم أنبياء لله «1» فلم ير له حقيقة. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ يا محمد مجيبا لهم لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ولا بدّ لهم من ذلك، فقل لهم إذا أقرّوا بذلك أَفَلا تَذَكَّرُونَ فتعلمون أنّ من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو قادر على إحياء ثم بعد موتهم؟. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ. قرأه العامة: لِلَّهِ، ومثله ما بعده فجعلوا الجواب على المعنى دون اللفظ كقول القائل للرجل: من مولاك؟ فيقول: لفلان، أي أنا لفلان وهو مولاي وأنشد: وأعلم أنّني سأكون رمسا ... إذا سار النواعج لا يسير «2» فقال السائلون لمن حفرتم ... فقال المخبرون لهم وزير «3» فأجاب المخفوض بمرفوع لأن معنى الكلام: فقال السائلون: من الميّت؟ فقال المخبرون: الميّت وزير، فأجاب عن المعنى. وقال آخر: إذا قيل من ربّ المزالف والقرى ... وربّ الجياد الجرد قيل لخالد «4» وقال الأخفش: اللام زائدة يعني الله، وقرأ أهل البصرة كلاهما الله بالألف، وهو ظاهر لا يحتاج إلى التأويل، وهو في مصاحف أهل الأمصار كلّها لِلَّهِ إلّا في مصحف أهل البصرة فإنه الله الله، فجرى كلّ على مصحفه، ولم يختلفوا في الأول أنّه لِلَّهِ لأنّه مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف وهو جواب مطابق للسؤال في لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها فجوابه لِلَّهِ ... أَفَلا تَتَّقُونَ الله فتطيعونه قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ملكه وخزائنه وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ يعني يؤمن من يشاء ولا يؤمن من أخافه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال أهل المعاني: معناه أجيبوا إن كنتم تعلمون. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أي تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته. بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ الصدق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ فانفرد به لتغالبوا، فعلا بعضهم على بعض وغلب القوىّ منهم الضعيف.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 إلى 111]
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الكذب عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بالجر، ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو على نعت الله، غيرهم: بالرفع على الابتداء أو على معنى هو عالم. وروى رؤيس عن يعقوب أنّه كان إذا ابتدأ رفع وإذا وصل خفض. فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ من العذاب رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فلا تهلكني بهلاكهم، والفاء في قوله فَلا جواب لأمّا لأنّه شرط وجزاء. وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب فجعلناه لهم (لَقادِرُونَ) . ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني بالخلّة التي هي أحسن السَّيِّئَةَ أذاهم وجفاهم يقول: أعرض عن أذاهم واصفح عنهم، نسختها آية القتال. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ فنجزيهم به وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ استجير بك مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ أي نزغاتهم عن ابن عباس، الحسن: وساوسهم، مجاهد: نفخهم ونفثهم، ابن زيد: خنقهم الناس. وقال أهل المعاني: يعني دفعهم بالإغواء إلى المعاصي، والهمز: شدّة الدفع، ومنه قيل للحرف الذي يخرج من هواء الفم للدفع همزة. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ في شيء من أموري. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 111] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ يعني هؤلاء المشركين، وذلك حين ينقطع عن الدنيا ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت. قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ولم يقل ارجعني وهو خطاب الواحد على التعظيم كقوله (إِنَّا نَحْنُ) فخوطب على نحو هذا كما ابتدأ بلفظ التعظيم.
وقال بعضهم: هذه المسألة إنما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحه، وإنما ابتدأ الكلام بخطاب الله سبحانه لأنهم استغاثوا أولا بالله سبحانه ثم رجعوا الى مسألة الملائكة الرجوع الى الدنيا. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ صنعت كَلَّا أي لا يرجع إليها، وهي كلمة ردع وزجر إِنَّها يعني سؤاله الرجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها ولا ينالها. روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك الى الدنيا؟ فيقول: الى دار الهموم والأحزان؟! بل قدما إلى الله عزّ وجلّ، وأمّا الكافر فيقول رَبِّ ارْجِعُونِ الآية» «1» . وَمِنْ وَرائِهِمْ أمامهم بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي حاجز بين الموت والرجوع الى الدنيا عن مجاهد، ابن عباس: حجاب، السدّي: أجل، قتادة: بقيّة الدنيا، الضحّاك وابن زيد: ما بين الموت إلى البعث، أبو أمامة: القبر، وقيل: الإمهال «2» لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما كانوا يفتخرون «3» . فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ. قال أبو العالية: هو كقوله وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. وقال ابن جريج: معنى الآية لا يَسْئَلُ أحد يومئذ شيئا بنسب وَلا يَتَساءَلُونَ، لا يمتّ إليه برحم، واختلف المفسّرون في المراد بقوله فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ أىّ النفختين عنى؟ فقال ابن عباس: هي النفخة الأولى. أخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرّحمن بن أبي عوف قال: حدّثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحرّاني قال: حدّثنا محمد بن سلمة بن أبي عبد الرحيم قال: حدّثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، قوله سبحانه فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ فهذه في النفخة الاولى نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ «4» فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ «5»
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1» وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «2» . وقال ابن مسعود: هي النفخة الثانية. أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدّثنا يزيد بن موهب الرملي قال: حدّثنا عيسى بن يونس عن هارون بن أبي وكيع قال: سمعت زاذان أبا عمر يقول: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز واليمنة قد سبقوني إلى المجالس، فناديته، يا عبد الله بن مسعود من أجل أنّي رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني؟ فقال: ادن، فدنوت حتى ما كان بيني وبينه جليس، فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأوّلين والآخرين ثمّ ينادي مناد: هذا فلان ابن فلان فمن كان له قبله حقّ فليأت إلى حقّه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحقّ على أبيها أو على زوجها أو على ابنها أو على أختها، ثم قرأ ابن مسعود فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ قال: فيقول الله سبحانه: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول: ربّ فنيت الدنيا، فيقول للملائكة: خذوا من أعماله فأعطوا كلّ إنسان بقدر طلبته، فإن كان وليا لله عزّ وجل وفضلت له من حسناته مثقال حبّة من خردل ضاعفها حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها «3» «4» . وإن كان شقيّا قالت الملائكة: ربّ فنيت حسناته وبقي طالبون، فيقول: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته وصكّوا له صكا الى النار. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ تسفع وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ عابسون عن ابن عباس، وقال غيره: الكلوح أن تتقلص الشفتان عن الإنسان حتى تبدو الأسنان. قال ابن مسعود: ألم تر إلى الرأس المشيّظ بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه. قال الأعشى: وله المقدم لا مثل له ... ساعة الشدق عن الناب كلح «5» أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله
قال: حدّثنا محمد بن إسحاق المسوحي قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا ابن مبارك عن سعيد بن يزيد أبي شجاع عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال: «تشويه النار فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» [16] «1» . أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا التي كتبت علينا، قرأ أهل الكوفة غير عاصم: شقاوتنا بالألف وفتح الشين، غيرهم: شِقْوَتُنا بغير ألف وكسر الشين وهما لغتان، وهي المضرّة اللاحقة في العاقبة، والسعادة هي المنفعة اللاحقة في العاقبة. وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ عن الهدى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها أي من النار فَإِنْ عُدْنا لما تكره فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجابون بعد ألف سنة اخْسَؤُا فِيها أي ابعدوا، كما يقال للكلب: اخسأ إذا طرد وأبعد وَلا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب فإنّي لا أرفعه عنكم ولا أخفّفه عليكم، وقيل: هو دلالة على الغضب اللازم لهم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج. قال الحسن: هو آخر كلام يتكلّم به أهل النار ثم لا يتكلّمون بعدها إلّا الشهيق والزفير ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون. إِنَّهُ هذه الهاء عماد وتسمّى أيضا المجهولة كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي وهم المؤمنون يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا قرأ أهل المدينة والكوفة إلّا عاصما بضم السين هاهنا وفي سورة ص، الباقون: بكسرها. قال الخليل وسيبويه: هما لغتان مثل قول العرب: بحر لجيّ ولجّي، وكوكب درّيّ ودري، وكرسي وكرسي. وقال الكسائي والفرّاء: الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل، ولم يختلفوا في سورة الزخرف أنّه بالضم لأنّه بمعنى التسخير والاستعباد إلّا ما روي عن ابن محيصن أنّه كسره قياسا على سائره وهو غير قوىّ. حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي أي أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم ذكري وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ نظيره قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ «2» . إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا على استهزائكم بهم في الدنيا، والجزاء: مقابلة العمل بما يستحقّ عليه من ثواب أو عقاب.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 إلى 119]
أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ قرأ حمزة والكسائي: إنهم بكسر الألف على الاستيناف، والباقون: بفتحه على معنى لأنهم هم الفائزون، ويحتمل أن يكون نصبا بوقوع الجزاء عليه إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ الفوز بالجنة. [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 119] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ نسوا لعظيم ما هم فيه من العذاب مدّة مكثهم في الدنيا، وهذا توبيخ من الله تعالى لمنكري البعث وإلزام للحجّة عليهم. قرأ حمزة والكسائي: قل كم، على الأمر، لأنّ في مصاحف أهل الكوفة قل بغير ألف، ومعنى الآية: قولوا كم لبثتم، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد به الجماعة إذ كان مفهوما معناه، ويجوز أن يكون الخطاب لكلّ واحد منهم أي قل أيّها الكافر. وقرأ الباقون: قالَ في الحرفين، وكذلك هما في مصاحفهم بالألف على معنى قال الله تعالى، وقرأ ابن كثير: قل كم، على الأمر، وقال: إن على الخبر وهي قراءة ظاهرة لأنّ الثانية جواب. وقوله فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي الحسّاب عن قتادة، وقال مجاهد: هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم. قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قدر لبثكم فيها أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي لعبا وباطلا لا لحكمة، والعبث: العمل لا لغرض، وهو نصب على الحال عن سيبويه وقطرب، مجازه: عابثين، أبو عبيد: على المصدر، بعض نحاة الكوفة: على الظرف أي بالعبث، بعض نحاة البصرة: للعبث. وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. قال أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم فما خلق امرؤ عبثا فيلهو ولا أهمل سدى فيلغو» «1» [17] . وأخبرني محمد بن القاسم بقراءتي عليه قال: حدّثنا أبو بكر «2» محمد بن محمد بن نصر
فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق
قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا ابن «1» شعيب الحرّاني قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله ابن الضحاك قال: سمعت الأوزاعي يقول: بلغني أنّ في السماء ملكا ينادي كل يوم: ألا ليت الخلق لم يخلقوا، ويا ليتهم إذ خلقوا عرفوا ما خلقوا له وجلسوا فذكروا ما عملوا. فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق قال المحقّقون: خلق الله سبحانه الخلق ليدلّ بذلك على وجوده وكمال علمه وقدرته، إذ لو لم يخلق لم يكن لوجوده معنى. وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا ابن عليّة عن منصور بن عبد الرّحمن قال: قلت للحسن البصري في قوله سبحانه وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ «2» . قال: الناس مختلفون على أديان شتّى إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، ومَنْ رَحِمَ رَبُّكَ غير مختلف. فقيل له: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ؟. قال: نعم، خلق هؤلاء لجنّته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته وخلق هؤلاء لعذابه. وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى الفقيه قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا محمد بن خالد «3» البرقي عن أبيه عن أحمد بن نصر قال: سئل جعفر بن محمد: لم خلق الله الخلق؟ قال: لأنّ الله سبحانه كان محسنا بما لم يزل فيما لم يزل، إلى ما لم يزل فأراد سبحانه وتعالى أن يفوّض إحسانه إلى خلقه وكان غنيّا عنهم، لم يخلقهم لجرّ منفعة، ولا لدفع مضرّة، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتّى يفصلوا بين الحق والباطل، فمن أحسن كافأه بالجنة، ومن عصى كافأه بالنار. وقال محمد بن علي الترمذي: إنّ الله سبحانه خلق الخلق عبيدا ليعبدوه فيثيبهم على العبودية ويعاقبهم على تركها، فإن عبدوه فهم اليوم عبيد أحرار كرام، وغدا أحرار وملوك في دار السلام، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أبّاق سفلة لئام، وغدا أعداء في السجون بين أطباق النيران.
ومنهم من قال: خلق الله سبحانه الخلق كلّهم لأجل محمد صلى الله عليه وسلّم، يدلّ عليه ما حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرومي قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا هارون بن العباس الهاشمي قال: حدّثنا محمد بن ياسين بن شريك قال: حدّثنا جندل قال: حدّثنا عمرو بن أوس الأنصاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيّب عن ابن عباس قال: «أوحى الله سبحانه إلى عيسى (عليه السلام) : يا عيسى آمن بمحمد ومر أمّتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسكن» . وسمعت محمد بن القاسم الفارسي قال: سمعت محمد بن الحسن بن بهرام الفارسي يقول: سمعت القنّاد «1» يقول: خلق الله سبحانه الملائكة للقدرة، وخلق الأشياء للعبرة «2» ، وخلقك للمحبة له، ومن العلماء من لم يصرّح القول بذلك ولكنه قال: نبّه الله سبحانه في غير موضع من كتبه المنزلة أنّه خلقهم لخطر عظيم مغيّب عنهم لا يجلّيه حتى يحلّ بهم ما خلقهم له، وهذا معنى قوله سبحانه أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً الآية. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال: حدّثنا داود بن رشيد، وأخبرني محمد بن القاسم قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن مريس «3» قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال: حدّثنا هشام ابن عمار قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش «4» ابن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنّه مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً حتى ختم السورة فبرئ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ماذا قرأت في أذنه؟» فأخبره فقال: «والذي نفسي بيده لو أنّ رجلا موقنا قرأها على جبل لزال» «5» [18] . ثمّ نزّه نفسه سبحانه عمّا وصفه به المشركون من اتخاذ الأنداد والأولاد، ونسبه إليه الملحدون من السفه والعبث فقال عزّ من قائل فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ يعني الحسن العظيم وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ قال أهل المعاني: فيه إضمار، مجازه: فلا برهان له به فَإِنَّما حِسابُهُ جزاؤه عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
سورة النور
سورة النور مدنيّة، وهي خمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفا، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة، وأربع وستّون آية أخبرنا [أبو الحسين] الخبازي قال: حدّثنا ابن حبان قال: أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال: حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدّثنا يوسف بن عطيّة قال: حدّثنا هارون بن كثير قال: حدّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن فيما مضى وفيما بقي» «1» [19] . وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي قال: حدّثنا سلمان بن توبة أبو داود الأنصاري قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الشامي قال: حدّثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلّموهن الكتابة، وعلّموهن المغزل، وسورة النور» «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
سُورَةٌ أَنْزَلْناها قراءة العامة بالرفع: هذه سورة لأنّ العرب لا تبتدئ بالنكرة، هذا قول الخليل، وقال الأخفش: سُورَةٌ ابتداء وخبره في أَنْزَلْناها، وقرأ طلحة بن مصرف «1» : سُورَةً بالنصب على معنى أنزلنا سورة، والكناية صلة زائدة، وقيل: اتّبعوا سورة أنزلناها وَفَرَضْناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام، وقرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو: وفرّضناها بالتشديد أي فصّلناها وبيّنّاها، وقيل: هو من الفرض والتشديد على التكثير أي جعلناها فرائض مختلفة، وأوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة، وتصديق التخفيف قوله سبحانه إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «2» . وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إذا كانا حرّين بالغين بكرين غير محصنين فَاجْلِدُوا فاضربوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ رحمة ورقّة. قال الأخفش: رحمة في توجّع وفيها ثلاث لغات: رَأْفَةٌ ساكنة الهمز وقد تخفف الهمزة، وهي قراءة العامة، ورَأَفَةٌ بفتح الهمزة، ورَآفَةٌ مهموزة ممدودة مثل الكتابة، وهما قراءة أهل مكة مثل الشناة والشنآة «3» ، وقيل: القصر على الاسم والمدّ بمعنى المصدر مثل صؤل صآلة، وقبح قباحة، ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لأنّ العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات. واختلف العلماء في معنى الآية فقال قوم: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فتعطّلوا الحدود ولا تقيموها. روى المعمّر عن عمران قال: قلت لأبي مخلد في هذه الآية: والله إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل أو تقطع يده فقال: إنّما ذاك أنّه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحدّ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وابن زيد وسليمان بن يسار، يدلّ عليه من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى أمر بالجلد، وهو ضرب الجلد كالرأس لضرب الرأس فذكر الضرب بلفظ الجلد لئلّا ينكأ «4» ولا يبرح ولا تبلغ به اللحم. وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عبد الله أنّ عبد الله بن عمر جلد جارية له فقال للجالد: اجلد ظهرها ورجليها وأسفلها وخفّفها، قلت: فأين قول الله سبحانه وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ؟
قال: أفأقتلها؟ إنّ الله أمرني أن أضربها وأؤدّبها ولم يأمرني أن أقتلها. وقال الآخرون: بل معناها وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضربا، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن. قال الزهري: يجتهد في حدّ الزنا والفرية ويخفّف في حدّ الشراب. وقال قتادة: يخفّف في حدّ الشراب والفرية ويجتهد في الزنا. وقال حمّاد: يحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما، وأمّا الزاني فيخلع ثيابه، وتلا هذه الآية. فِي دِينِ اللَّهِ أي في حكم الله نظيره قوله سبحانه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ «1» . إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما وليحضر حدّيهما إذا أقيم عليهما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اختلفوا في مبلغ عدد الطائفة فقال النخعي ومجاهد: أقلّه رجل واحد فما فوقه، واحتجّا بقوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «2» الآية. عطاء وعكرمة: رجلان فصاعدا، الزهري: ثلاثة فصاعدا، ابن زيد: أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزنى، قتادة: نفر من المسلمين. روى حفص بن غياث عن أشعث عن أبيه قال: أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة وقد أخرج جارية له إلى باب الدار وقد زنت وولدت من الزنا، فألقى عليها ثوبا وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضربا غير مبرح، ودعا جماعة ثم قرأ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حنش «3» المقري قال: حدّثنا محمد بن أحمد ابن عثمان قال: حدّثنا إبراهيم بن نصره قال: حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا يونس بن عبيد عن حريز بن يزيد البجلي عن أبي زرعة عن عمرو بن حريز عن أبي هريرة قال: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة. وأخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: حدّثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد ابن عدي قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال: أخبرني محمد بن شعيب قال: أخبرني معاوية بن يحيى عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «يا معشر الناس اتقوا الزنى فإنّ فيه ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة،
فأمّا اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأمّا اللاتي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب «1» والخلود في النار» «2» . وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قرأه عليه في شهور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال: حدّثنا عطية بن بقية قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني عبّاد بن كثير عن عمران القصير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ أعمال أمتي تعرض علىّ في كلّ جمعة مرّتين فاشتدّ غضب الله على الزناة «3» . وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا إبراهيم بن يزيد «4» الحرّاني قال: حدّثنا المغيرة ابن سقلاب قال: حدّثنا النضر بن عدي عن وهب بن منبه قال: مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقوّاد لا يموت حتى يعمى. الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية. اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها فقال قوم: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء كثير ليست لهم أموال ولا عشائر ولا أهلون، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين فقالوا: إنّا لو تزوّجنا منهن فعشنا معهن إلى يوم يغنينا الله سبحانه عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فنزلت هذه الآية وحرّم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك ، وأخبر سبحانه وتعالى أنّ الزانية إنّما ينكحها الزاني والمشرك لأنهنّ كنّ زانيات مشركات، والآية وإن كان ظاهرها خبر فمجازها ينبغي أن يكون كذا كقوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «5» وقوله سبحانه وتعالى إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ «6» يعني ينبغي أن تكون كذلك، وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والقاسم بن أبي برزه والشعبي وأبي حمزة الثمالي ورواية العوفي عن ابن عباس. وقال عكرمة: نزلت في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة وكنّ كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات، لهن رايات كرايات البيطار يعرفن بها: أمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي، وأم عليط جارية صفوان بن أميّة، وحنّة القبطية جارية العاص بن وائل،
ومرية جارية مالك بن عميلة بن السباق، وحلالة جارية سهيل بن عمرو، وأم سويد جارية عمرو ابن عثمان المخزومي، وسريفة جارية زمعة بن الأسود، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب ابن حذيفة، وقرينة جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر، وكانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلّا زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها مأكله، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة، واستأذن رجل من المسلمين نبي الله صلى الله عليه وسلّم في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ونهى المؤمنين عن ذلك وحرّمه عليهم. وقال عمرو بن شعيب: نزلت في مرثد الغنوي وعناق، وكان مرثد رجلا شديدا وكان يقال له دلدل وكان يأتي مكة فيحتمل ضعفه المسلمين الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت عناق صديقته في الجاهلية، فلمّا أتى مكة دعته عناق الى نفسها فقال مرثد: إنّ الله حرّم الزنا قالت: فأنكحني فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذلك فسأله عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقد مضت القصة في سورة البقرة. وقال آخرون: أراد بالنكاح هاهنا الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلّا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلّا زان أو مشرك، وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعبد الرّحمن بن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرني محمد بن عمران قال: حدّثنا سعيد بن عبد الرّحمن ومحمد بن عبد الله المقري قالا: حدّثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً قال: ليس هذا بالنكاح ولكنه الجماع، لا يزني بها إلّا زان أو مشرك، فكنّى. وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حبش قال: حدّثني الحسن بن علي بن زكريا قال: حدّثنا الحسن بن علي بن راشد قال: قال لنا يزيد بن هارون: هذا عندي إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك، وإن جامعها وهو محرم فهو زان. وقال بعضهم: كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية حتى نسختها الآية التي بعدها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «1» فأحلّ نكاح كل مسلمة وكل مسلم، وهو قول سعيد بن المسيّب أخبرنيه ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنّه قال: يزعمون أن تلك الآية الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً نسخت بالآية التي بعدها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فدخلت الزانية في أيامى المسلمين.
وقال الحسن: معناها المجلود لا ينكح إلّا مجلودة. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي يشتمون المسلمات «1» الحرائر العفائف فيقذفونهن بالزنى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا على ما رموهن به بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون عليهنّ أنهم رأوهنّ يفعلن ذلك فَاجْلِدُوهُمْ يعني القاذفين اضربوا كلّ واحد منهم ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. ثمّ استثنى فقال عزّ من قائل إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء فقال قوم: هو استثناء من قوله وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وقالوا: إذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق وعادت ولايته حد فيه أو لم يحدّ، وهذا قول الشعبي ومسروق وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعبد الله بن عتبة والضحّاك، وهو قول أهل الحجاز وإليه ذهب الشافعي. واختلفوا في كيفيّة توبته، فقال بعضهم: هو ان يرجع عن قوله ويكذّب نفسه، وقال آخرون: هي الندم على ما سلف والاستغفار منه وترك العود فيما بقي، فإذا أقيم عليه الحدّ أو عفا المقذوف عنه سقط الحد، وذلك أن القذف حق للمقذوف كالقصاص والجنايات وبالعفو تسقط فإذا عفا عنه فلم يطالبه بالحد، أو مات المقذوف قبل مطالبته بالحد، أو لم يرفع إلى السلطان فلم يحدّ لأجل هذه، أو حدّ ثم تاب وأصلح العمل قبلت شهادته وعادت ولايته، يدلّ عليه ما روى ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة وشبل بن معبد ونافع بن الحرث بن كلّدة فحدّهم ثمّ قال لهم: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما استقبل، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب شبل نفسه ونافع وتابا، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا تقبل شهادته. وروى ابن جريج عن عمران بن موسى قال: شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل. وقال آخرون: هذا الاستثناء راجع الى قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فأمّا قوله وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبدا، وهذا قول النخعي وشريح ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. روى الأشعث عن الشعبي قال: جاء خصمان إلى شريح فجاء أحدهما بشاهد قد قطع زناد يده ورجله في قطع الطريق ثم تاب وأصلح، فأجاز شريح شهادته فقال المشهود عليه: أتجيز شهادته عليّ وهو أقطع؟ فقال شريح: كلّ صاحب حدّ إذا أقيم عليه ثم تاب وأصلح فشهادته جائزة إلّا القاذف، فإنّه قضاء من الله أن لا تقبل شهادته أبدا وإنّما توبته فيما بينه وبين الله.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي يقذفونهنّ بالزنا. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون على صحة ما قالوا. إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ قرأ أهل الكوفة أربع بالرفع على الابتداء والخبر، وقرأ الباقون بالنصب على معنى أن يشهد أربع شهادات. وَالْخامِسَةُ يعني والشهادة الخامسة، قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره في أن. وقرأ حفص بالنصب على معنى ويشهد الشهادة الخامسة. وقرأ نافع ويعقوب وأيوب: إن وأن خفيفتين، لعنةُ وغضبُ مرفوعين، وهي رواية المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون: بتشديد النونين وما بعدهما نصب. إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ويدفع عن الزوجة الحد. أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ يعني الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ. وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ قرأ نافع: غَضَبَ اللَّهُ مثل سمع الله على الفعل، الباقون على الإسم. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ جواب لولا محذوف يعني لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان حكمة منه ورحمة. فأما سبب نزول الآية، فروى عكرمة عن ابن عباس قال: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً الآية، قال سعد بن عبادة: والله لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركّه حتى آتي بأربعة شهداء! فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، فإن قلت ما رأيت، إنّ في ظهري لثمانين جلدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «1» : «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم» ؟ قالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور، ما تزوج امرأة قط إلّا بكرا ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوّجها. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي والله إنّي لأعرف أنّها من الله وأنّها حقّ ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فإنّ الله يأبى إلّا ذاك» ، فقال: صدق الله ورسوله. قال: فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أميّة من حديقة له، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح، فلمّا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو جالس مع
أصحابه فقال: يا رسول الله إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع أهلي، رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أتاه به وثقل عليه جدّا حتى عرف ذلك في وجهه. فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به، والله يعلم أني صادق وما قلت إلّا حقّا وإنّي لأرجو أن يجعل الله فرجا، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بضربه. قال: واجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فإنّهم لكذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أنّ الوحي قد نزل حتى فرغ، فأنزل الله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ إلى آخر الآيات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أبشر يا هلال فإنّ الله قد جعل لك فرجا» ، فقال: قد كنت أرجو بذلك من الله تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أرسلوا إليها» ، فجاءت فلمّا اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم قيل لها، فكذّبت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» . فقال هلال: يا رسول الله بأبي وأمّي لقد صدقت وما قلت إلّا حقّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لاعنوا بينهما» ، فقيل لهلال: اشهد، فشهد أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فقيل له عند الخامسة: يا هلال اتّق الله فإنّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة «1» ، فقال هلال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فشهد الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ. ثم قال للمرأة: اشهدي فشهدت «2» الخامسة أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن جاءت به كذا وكذا] فهو لزوجها، وإن جاءت به كذا وكذا] فهو للذي قيل فيه» [20] «3» .
قال: فجاءت به غلاما كأنه حمل أورق على الشبه المكروه، وكان بعد أميرا بمصر لا يدرى من أبوه. وأخبرنا محمد بن عبدوس قال: أخبرنا محمد بن الحسن قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا هيثم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الآية، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله يقتلونه، وإن أخبر بما رأى جلد ثمانين أفلا يضربه بالسيف؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: كفى بالسيف شا ... ، قال: أراد أن يقول شاهدا ثمّ أمسك وقال: لولا ان يتتابع فيه الغيران والسكران، وذكر الحديث «1» . وقال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل: لمّا نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية، قرأها النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال: جعلني الله فداك إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى جلد ثمانين وسمّاه المسلمون فاسقا ولا تقبل شهادته أبدا، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومرّ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم له يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وما ذاك؟ قال: أخبرني عويمر ابن عمّي أنه رأى شريك ابن السحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة شريك كلّهم بني عم عاصم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بهم جميعا فقال لعويمر: «اتق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان، فقال: يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وانها حبلى من غيري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم للمرأة: «اتقي الله ولا تخبري إلّا بما صنعت» ، فقالت: يا رسول الله إنّ عويمرا رجل غيور، وإنه رآني وشريكا نطيل السمر ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لشريك: «ما تقول» ؟ قال: ما تقوله المرأة، فأنزل الله سبحانه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نودي: الصلاة جامعة، فصلّى العصر ثمّ قال لعويمر: قم فقام فقال: أشهد بالله إنّ خولة لزانية وإنّي لمن الصادقين، ثمّ قال في الرابعة: أشهد بالله إنّي ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنّي لمن الصادقين ثمّ قال في الخامسة: لعنة الله على عويمر- يعني نفسه- إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما قال.
ذكر حكم الآية
ثمّ أمره بالقعود وقال لخولة: قومي فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإنّ عويمرا لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الثانية: أشهد بالله إنه ما رأى شريكا على بطني وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الثالثة: أشهد بالله إني حبلى منه وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الرابعة: أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ، ثمّ قالت في الخامسة: غَضَبَ اللَّهِ على خولة- تعني نفسها- إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهما وقال: «لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي، ثمّ قال: تحيّنوا بها الولادة فإن جاءت بأصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن السحماء، وإن جاءت بأورق جعد حمش حدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» [21] . قال ابن عباس: فجاءت بأشبه خلق الله بشريك «1» . ذكر حكم الآية إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحدّ وله التخلّص منه بإقامة البيّنة على زناها أو باللعان، فإن أقام البيّنة حقّق الزنا ولزمها الحدّ، وان التعن حقّق عليها الزنا ولها التخلص منه باللعان، فإن التعنت وإلّا لزمها الحدّ، وللزوج ان يلتعن سواء كان متمكّنا من البيّنة أو غير متمكّن منها، ويصح اللعان من كلّ زوج مكلّف حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو كافرا، فكلّ من صحّت يمينه صحّ قذفه ولعانه. وقال أهل العراق: اللعان بين كلّ حرّين بالغين ولا يصحّ اللعان إلّا عند الحاكم أو خليفته، فإذا لاعن بينهما غلّظ عليهما بأربعة أشياء عدد الألفاظ، والمكان، والوقت، وجمع الناس. فأمّا اللفظ فأربع شهادات والخامسة ذكر اللعنة للرجل وذكر الغضب للمرأة، وقد مضت كيفية ذلك، وأمّا المكان فإنه يقصد أشرف البقاع بالبلدان إن كان بمكة فعند الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان ببيت المقدس ففي مسجدها، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، إن كانا يهوديين بالكنيسة وإن كانا نصرانيين فبالبيعة، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه. وأما الوقت، فإنّه بعد صلاة العصر. وأمّا العدد، فيحتاج أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا، فاللفظ وجمع الناس مشروطان، والمكان والزمان مستحبّان، فإذا تلاعنا تعلّق باللعان
[سورة النور (24) : الآيات 11 إلى 20]
أربعة أحكام: سقوط الحدّ، ونفي الولد، وزوال الفراش، ووقوع التحريم المؤبّد، وكلّ هذا يتعلّق بلعان الزوج، فأمّا لعان المرأة فإنه يسقط به الحدّ فقط، فإن أكذب الرجل نفسه فإنه يعود ما عليه ولا يعود ماله في الحدّ والنسب عليه فيعودان. وأما التحريم والفراش فإنهما له فلا يعودان، وفرقة اللعان هي فسخ لأنه جاء بفعل من قبل المرأة. وقال أبو حنيفة وسفيان: اللعان تطليقة بائنة لأنه من قبل الرجل بدءا، والله أعلم. [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الآية. ذكر سبب نزول هذه الآيات وقصة الإفك. أخبرنا «1» أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق المهرجان بقراءتي عليه فأقرّ به قال: أخبرنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو نعيم قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني قال: قرأنا على عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرّأها الله وكلّهم، حدّثني بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى له من بعض، وقد وعيت عن كلّ واحد الحديث الذي حدّثني، وبعض حديثهم يصدّق بعضا، ذكروا أنّ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلّم ورضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم
وذلك بعد ما أنزل الله سبحانه الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل منه مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت، وهم يحسبون أنّي فيه. قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطّل السلمي ثمّ الذكواني قد عرّس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل أن يضرب عليّ الحجاب فما استيقظت إلّا باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، فو الله ما كلّمني كلمة عند استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطيت على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عبد الله بن أبي سلول فقدمت المدينة فاشتكيت من شدّة الحر «1» حين قدمتها شهرا والناس يخوضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أن لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيسلّم ثمّ يقول: كيف تيكم؟ ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو مبترزنا فلا نخرج إلّا ليلا الى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول التنزّه، وكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي عاتكة بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف وأمّها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدّيق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت، تسبّين رجلا شهد بدرا قالت: أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟. قالت: قلت: وما ذي؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي فلمّا، رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلّم ثمّ قال: «كيف تيكم؟» قلت: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأنا أريد حينئذ أن أتيقّن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجئت أبويّ فقلت لأمّي: يا أمّه ماذا يتحدّث الناس؟.
فقالت: أي بنيّة هوّني عليك، فو الله لقلّ ما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلّا أكثرن عليها، قلت: سبحان الله أوقد تحدّث الناس بهذا؟ قالت: نعم، قالت: فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثمّ أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم علىّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي واستشارهما في فراق أهله. فأمّا أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الودّ، فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلّا خيرا، وأمّا علىّ فقال: لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن «1» فيأكله. قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قال وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت على أهلي إلّا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلّا معي» [22] . فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقال سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج، وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحميّة فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، فقال سعد: والله لنقتله فإنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: فثار الأوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت: ومكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي. قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلّم ثمّ جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني، قالت: فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جلس ثمّ قال: أما بعد يا عائشة فإنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك
الله سبحانه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثمّ تاب تاب الله عليه. قالت: فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلت لأمّي: أجيبي عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا الأمر حتّى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة والله سبحانه وتعالى يعلم أني بريئة «1» لتصدقونني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلّا كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ. قالت: ثمّ تحوّلت واضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أنّي بريئة وأن الله سبحانه مبرّئي ببراءتي ولكن، والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحي يتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في النوم رؤيا يبرّئني الله بها. قالت: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله سبحانه على نبيّه صلى الله عليه وسلّم، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنّه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي الذي أنزل عليه. قالت: فلمّا سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يضحك، فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال: «أبشري يا عائشة أما والله فقد برّاك» [23] فقالت لي أمّي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلّا الله سبحانه هو الذي أنزل براءتي. قالت: فأنزل الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عشر آيات وأنزل الله سبحانه هذه الآية لبراءتي. قالت: فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله سبحانه وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إلى قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ «2» . فقال أبو بكر رضى الله عنه: والله إني لأحبّ أن يغفر الله لي، فرجع الى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلّم: ما علمت أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلّا خيرا. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم فعصمها الله سبحانه وتعالى بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك. قال الزهري: فهذا ما انتهى إلينا من هؤلاء الرهط. وأخبرنا أبو نعيم قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة ومحمد بن حرب المديني بالفسطاط قالا: حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدّثني أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قال أبو أويس: وحدّثني أيضا عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يسافر سفرا أقرع بين أزواجه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فخرج سهم عائشة في غزوة النبي صلى الله عليه وسلّم بني المصطلق من خزاعة، وذكر الحديث بطوله بمثل معناه. وقال عروة في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلّم بريرة عن عائشة قال: فانتهرها بعض أصحابه وقال: اصدقي رسول الله، قال عروة: فعيب ذلك على من قاله، فقالت: لا والله ما أعلم عليها إلّا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنّك الله، فعجب الناس من فقهها. قال: وبلغ ذلك الذي قيل له فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كتف أنثى قط، فقتل شهيدا في سبيل الله، وزاد في آخره قالت: وقعد صفوان بن المعطل لحسّان بن ثابت فضربه ضربة بالسيف وقال حين ضربه: تلقّ ذباب السيف عنّي فإنّني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر «1» ولكنني أحمي حماي وانتقم ... من الباهت الرامي البراء الظواهر «2» وصاح حسان بن ثابت واستغاث بالناس على صفوان، ففرّ صفوان وجاء حسّان النبي صلى الله عليه وسلّم فاستعدى على صفوان في ضربته إياه فسأله النبي صلى الله عليه وسلّم أن يهب له ضرب صفوان إياه فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلّم فعوّضه منها حائطا من نخل عظيم وجارية روميّة، ثمّ باع حسان ذلك الحائط من معاوية بن أبي سفيان في ولايته بمال عظيم. قالت عائشة: فقيل في أصحاب الإفك أشعار. قال أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه لمسطح في رميه عائشة رضى الله عنها وكان يدعى عوفا:
يا عوف ويحك هلّا قلت عارفة ... من الكلام ولم تبغ به طمعا فأدركتك حميا معشر أنف ... ولم يكن قاطعا في عوف قطعا لما رميت حصانا غير مقرفة ... أمينة الجيب لم نعرف لها خضعا فيمن رماها وكنتم معشرا إفكا ... في سيّئ القول من لفظ الخنا شرعا فأنزل الله عذرا في براءتها ... وبين عوف وبين الله ما صنعا «1» فان أعش أجز عوفا في مقالته ... شرّ الجزاء بما ألفيته تبعا وقال حسّان بن ثابت الأنصاري ثم النجاري وهو يبرّئ عائشة ممّا قيل فيها ويعتذر إليها: حصان رزان ما يزن برتبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس دينا ومنصبا ... نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زايل مهذبة قد طيّب الله خيمها ... وطهّرها من كل شين وباطل فان كان ما قد جاء عنّي قلته ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي وإنّ الذي قد قيل ليس بلائط ... بك الدهر بل قول إمرئ غير ماحل وكيف وودّي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول «2» قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلّم بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعا ثمانين، فقال حسّان بن ثابت: لقد دان عبد الله ما كان أهله ... وحمته إذ قالوا هجيرا ومسطح تعاطوا برجم القول زوج نبيّهم ... وسخطة ذا الرب الكريم فأبرحوا وآذوا رسول الله فيها فعمموا ... مخازي ذلّ جلّلوها وفضحوا «3» فهذا سبب نزول الآية وقصّتها. فأمّا التفسير فقوله عزّ وجل إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ بالكذب عُصْبَةٌ جماعة مِنْكُمْ. قال الفرّاء: العصبة، الجماعة من الواحد إلى الأربعين. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ يا عائشة وصفوان بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأنّ الله يأجركم على ذلك
ويظهر براءتكم لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يعني من الذين جاءوا بالإفك مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ جزاء ما اجترح من الذنب والمعصية. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ والذي تحمّل معظمه فبدا بالخوض فيه، وقراءة العامة كِبْرَهُ: بكسر الكاف، وقرأ خليل والأعرج ويعقوب الحضرمي بضم الكاف. قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأ لأن الكبر بضم الكاف في الولاء والسن، ومنه الحديث: الولاء للكبر، وهو أكبر ولد الرجل من الذكورة وأقربهم إليه نسبا. وقال الكسائي: هما لغتان مثل صفر وصفر، واختلف المفسّرون في المعنيّ بقوله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. فقال قوم: هو حسّان بن ثابت. روى داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أنّ عائشة رضي الله عنها قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسّان، وما تمثلت به إلّا رجوت له الجنة، قوله لأبي سفيان: هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فانّ أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء أتشتمه ولست له بكفؤ ... فشرّكما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدّره الدلاء «1» فقيل: يا أم المؤمنين أليس الله يقول وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم؟ أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف. وروى أبو الضحى عن مسروق قال: كنت عند عائشة فدخل حسّان بن ثابت فأمرت فألقي له وسادة، فلمّا خرج قلت لعائشة: تدعين هذا الرجل يدخل عليك وقد قال ما قال، وأنزل الله سبحانه فيه وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ؟. فقالت: وأىّ عذاب أشد من العمى، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره، وقالت: انه كان يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقال آخرون: بل هو عبد الله بن أبي سلول وأصحابه. روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة قالت في حديث الإفك: ثمّ ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملإ من المنافقين وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس. فقال عبد الله بن
أبي رئيسهم: من هذه؟ قالوا: عائشة: قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتى أصبحت، ثمّ جاء يقودها، وشرع في ذلك أيضا حسّان ومسطح وحمنة فهم الذين تولّوا كبره، ثمّ فشا ذلك في الناس. لَوْلا هلّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ بإخوانهم خَيْراً. قال الحسن: بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة، نظيره قوله وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» وقوله فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «2» . قال بعض أهل المعاني: تقدير الآية هلّا ظننتم كما ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا. وقيل: أراد بأنفسهم أهاليهم وأزواجهم، وقالوا: أراد بهذه الآية أبا أيوب الأنصاري وامرأته أم أيوب. روى محمد بن إسحاق بن يسار عن رجاله أنّ أبا أيوب خالد بن يزيد قالت له امرأته أم أيّوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب أكنت، فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك، سبحان الله هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ، فأنزل الله سبحانه لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ الآيات، أي كما فعل أبو أيوب وصاحبته وكما قالا. وقوله وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي كذب بيّن لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ خضتم فِيهِ من الإفك عَذابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ تأخذونه تروونه بعضكم عن بعض، وقرأ [أبيّ وابن مسعود: إذ تتلقّونه بتاءين] «3» ، وقرأت عائشة «4» : تَلِقُونَهُ بكسر اللام وتخفيف القاف من الكذب، والولق والألق والالق والليق الكذب. قال الخليل: أصل الولق السرعة وأنشد: جاءوا بأسراب من الشام ولق «5»
[سورة النور (24) : الآيات 21 إلى 26]
أي تسرع، يقال: ولق فلان في السير فهو يلق فيه إذا استمر وأسرع فيه، فكان معنى قراءة عائشة: إذ تستمرّون في إفككم. وقرأ محمد بن السميقع: إِذْ تُلْقُونَهُ من الإلقاء «1» ، نظيره ودليله قوله سبحانه فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ «2» الآية. وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وتظنّونه سهلا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ يحتمل التنزيه والتعجب. هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا أي ينهاكم ويخوّفكم أن تعودوا وقيل: يَعِظُكُمُ اللَّهُ كيلا تعودوا لِمِثْلِهِ إلى مثله أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأمر عائشة وصفوان حَكِيمٌ حكم ببراءتها. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ تظهر وتفشو وتذيع الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعني عبد الله بن أبيّ بن سلول وأصحابه المنافقين. وَاللَّهُ يَعْلَمُ كذبهم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فيه إضمار لعاجلكم بالعقوبة. [سورة النور (24) : الآيات 21 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى صلح وطهر من هذا الذنب، وقرأ ابن محيص ويعقوب: زكّى بالتشديد أي طهّر، دليلها قوله سبحانه وتعالى وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يطهّر مَنْ يَشاءُ من الإثم والذنب بالرحمة والمغفرة وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا على بن زنجويه قال: حدّثنا سعيد بن سيف التميمي قال: حدّثنا غالب بن تميم السعدي قال: حدّثنا خالد بن جميل عن موسى بن عقبة المديني عن أبي روح الكلبي عن حر بن نصير الحضرمي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أيّما رجل شدّ عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في ظلّ سخط الله سبحانه حتى ينزع، وأيّما رجل حال في شفاعة دون حدّ من حدود الله تعالى أن يقام فقد كايد الله حقّا وحرص على سخطه وأن عليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يريد أن يشينه بها في الدنيا كان حقّا على الله أن يذيبه في النار، وأصله في كتاب الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ الآية «1» . وَلا يَأْتَلِ ولا يحلف، هذه قراءة العامة وهو يفتعل من الأليّة وهي القسم، وقال الأخفش: وإن شئت جعلته من قول العرب: ما ألوت جهدي في شأن فلان أي ما تركته، وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو مخلد السدوسي وأبو جعفر وزيد بن أسلم (ولا يتأل) بتقديم التاء وتأخير الهمزة وهو يفتعل من الألية والألو. أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ يعني أبا بكر الصدّيق أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني مسطحا، وكان مسكينا مهاجرا بدريا، وكان ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه. وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا عنهم خوضهم في أمر عائشة. وروت أسماء بنت يزيد أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ ولتعفوا ولتصفحوا بالتاء «2» . أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. فلمّا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أبي بكر قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبدا. وقال ابن عباس والضحّاك: أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر ألّا يتصدقوا على رجل تكلّم بشيء من الإفك ولا ينفعونهم فأنزل الله سبحانه هذه الآية. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ عن الفواحش وعما قذفن به كغفلة عائشة عمّا فيها الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا عذّبوا فِي الدُّنْيا بالجلد وفي الآخرة بالنار وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ
واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هي لعائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلّم خاصة دون سائر المؤمنات. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني قال: حدّثنا هشام عن العوّام بن حوشب قال: حدّثنا شيخ من بني كاهل قال: فسّر ابن عباس سورة النور، فلمّا أتى على هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ إلى آخر الآية، قال: هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلّم خاصة، وهي مبهمة ليس فيها توبة، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله سبحانه له توبة، ثمّ قرأ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأولئك توبة، قال: فهّم رجل أن يقوم فيقبّل رأسه من حسن ما فسّره. وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول السورة وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأنزل الله له الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل والشهادة ترد. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حيّان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي بن علي عن أبي حمزة الثمالي قال: بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد، فكانت المرأة إذا خرجت الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت تفجر. يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ قرأه العامة بالتاء، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصما بالياء لتقدّم الفعل. أَلْسِنَتُهُمْ وهذا قبل أن يختم على أفواههم، وقيل: معناه: يشهد ألسنة بعضهم على بعض وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ جزاءهم وحسابهم الْحَقَّ قرأه العامة بنصب القاف، وقرأ مجاهد الْحَقُّ بالرفع على نعت الله وتصديقه، قراءة أبي يوفهم الله الحق دينهم. وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ يبيّن لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا. الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية. قال أكثر المفسّرين: الْخَبِيثاتُ من القول لِلْخَبِيثِينَ من الناس وَالْخَبِيثُونَ من الناس لِلْخَبِيثاتِ من القول وَالطَّيِّباتُ من القول لِلطَّيِّبِينَ من الناس وَالطَّيِّبُونَ من الناس لِلطَّيِّباتِ من القول. وقال ابن زيد: الْخَبِيثاتُ من النساء لِلْخَبِيثِينَ من الرجال، وَالْخَبِيثُونَ من الرجال لِلْخَبِيثاتِ من النساء، وَالطَّيِّباتُ من النساء لِلطَّيِّبِينَ من الرجال، وَالطَّيِّبُونَ من الرجال لِلطَّيِّباتِ من النساء.
[سورة النور (24) : الآيات 27 إلى 31]
أُولئِكَ يعني عائشة وصفوان فذكرهما بلفظ الجمع كقوله فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «1» والمراد أخوان. مُبَرَّؤُنَ منزّهون مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد بن النعمان الجرجاني بها قال: أخبرنا محمد بن عبد الكريم الباهلي قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي قال: حدّثنا بشر بن الوليد الكندي قال: حدّثنا أبو حفص عن سليمان الشيباني عن علي بن زيد بن جدعان عن جدّته عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيت امرأة، لقد نزل جبرئيل (عليه السلام) بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يتزوّجني، ولقد تزوّجني بكرا وما تزوّج بكرا غيري، ولقد توفّي وإنّ رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفّت الملائكة في بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإنّي لابنة خليفته وصدّيقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيّبة وعند طيّب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما. [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 31] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الآية. أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسين ابن يحيويه قال: حدّثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالا: حدّثنا محمد بن يوسف الفريابي قال: حدّثنا قيس عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار
فقالت: يا رسول الله إنّي أكون في بيتي على حال لا أحبّ أن يراني عليها أحد والد ولا ولد، فيأتي الأب فيدخل عليّ، وإنّه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها الآية. وقال بعض المفسّرين: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستأذنوا. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه قال: إنّما هو حتى تستأذنوا ولكن اخطأ الكاتب، وكان أبيّ بن كعب وابن عباس والأعمش يقرءونها كذلك حتّى تستأذنوا، وفي الآية تقديم وتأخير تقديرها: حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وهو أن يقول: السلام عليكم أأدخل؟ روى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أنّ رجلا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: أألج فقال النبي صلى الله عليه وسلّم لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلّميه فإنّه لا يحسن يستأذن فقولي له: تقول: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل «1» . وقال مجاهد والسدّي: هو التنحنح والتنخّم. روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الخزاز عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عن زينب قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى الى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منها على أمر يكرهه. عكرمة: هو التسبيح والتكبير ونحو ذلك. أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبان قال: حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي أيوب الأنصاري قال: قلنا يا رسول الله ما الاستيناس الذي يريد الله سبحانه حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قال: يتكلّم الرجل بالتكبيرة والتسبيحة والتحميدة، يتنحنح يؤذن أهل البيت «2» . وقال الخليل: الاستيناس: الاستبصار من قوله آنَسْتُ ناراً «3» . وقال أهل المعاني: الاستيناس: طلب الأنس وهو أن ينظر هل في البيت أحد يؤذنه أنه
داخل عليهم، يقول العرب: اذهب فاستأنس هل ترى أحدا في الدار؟ أي انظر هل ترى فيها أحدا؟ ويروى أنّ أبا موسى الأشعري أتى منزل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر: واحدة، فقال أبو موسى: السلام عليكم أأدخل؟ فقال عمر: ثنتان، قال أبو موسى: السلام عليكم أأدخل؟ ومرّ، فوجّه عمر بن الخطاب رضى الله عنه خلفه من ردّه فسأله عن صنيعه فقال: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «الاستيذان ثلاثة فإن أذنوا وإلّا فارجع» [24] . فقال عمر: لتأتيني بالبيّنة أو لأعاقبنّك، فانطلق أبو موسى فأتاه بمن سمع ذلك معه «1» . وعن عطاء بن يسار أنّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلّم: أستأذن على امّي؟ قال: «نعم» ، قال: «إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن كلّما دخلت؟ قال: «أتحبّ أن تراها عريانة» ؟ قال الرجل: لا، قال: «فاستأذن عليها» «2» . وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا جرير بن عبد الحميد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من اطّلع في بيت بغير إذنهم فقد حلّ لهم ان يفقئوا عينه» [25] «3» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شبّه قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا أبو بكر قال: حدّثنا ابن عيينة عن الزهري أنه سمع سهل بن سعد يقول: اطّلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلّم ومعه مدرى يحكّ به رأسه، فقال: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك، إنّما الاستيذان من النظر» [26] «4» . فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أي في البيوت أَحَداً يأذن لكم في دخولها فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ولا تقفوا على أبوابهم ولا تلازموها هُوَ أي الرجوع أَزْكى أطهر وأصلح لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. فلمّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام
ليس فيها ساكن؟ فأنزل الله سبحانه لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ بغير استيذان فِيها مَتاعٌ منفعة لَكُمْ واختلفوا في هذه البيوت ما هي؟ فقال قتادة: هي الخانات والبيوت المبنيّة للسائلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم إليها. قال مجاهد: كانوا يضعون بطرق المدينة أقتابا وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد، وكانت الطرق إذ ذاك آمنة فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن. محمد بن الحنفيّة: هي بيوت مكة، ضحّاك: الخربة التي يأوي المسافر إليها في الصيف والشتاء، عطاء: هي البيوت الخربة، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من الخلاء والبول، ابن زيد: بيوت التجّار وحوانيتهم التي بالأسواق، ابن جرير: جميع ما يكون من البيوت التي لا ساكن لها على العموم لأنّ الاستيذان إنما جاء لئلّا يهجم على ما لا يحب من العورة، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستئذان. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا يكفّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ عن النظر الى ما لا يجوز، واختلفوا في قوله مِنْ فقال بعضهم: هو صلة أي يغضّوا أبصارهم، وقال آخرون: هو ثابت في الحكم لأنّ المؤمنين غير مأمورين بغضّ البصر أصلا، وإنّما أمروا بالغضّ عمّا لا يجوز. وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عمّن لا يحلّ، هذا قول أكثر المفسّرين. وقال ابن زيد: كلّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلّا في هذا الموضع فإنّه أراد الاستتار يعني: ويحفظوا فروجهم حتى لا ينظر إليها. ودليل هذا التأويل إسقاط من ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ عليم بِما يَصْنَعُونَ. أخبرني ابن فنجويه في داري قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا قال: حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدّثنا عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «اضمنوا لي ستّا من أنفسكم اضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدّوا ما ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضّوا أبصاركم، وكفّوا أيديكم» «1» [27] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا عبد الوارث قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عنبسة بن عبد الرّحمن قال: حدّثنا أبو الحسن أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «النظر إلى محاسن المرأة سهم من نبال إبليس مسموم،
فمن ردّ بصره ابتغاء ثواب الله عز وجل أبدله الله بذلك عبادة تسرّه» «1» [28] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا سهل بن صالح الأنطاكي قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «بينما رجل يصلّي إذ مرّت به امرأة فنظر إليها وأتبعها بصره فذهب عيناه» [29] . وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ عما لا يجوز وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ عمّا لا يحلّ، وقيل: وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي يسترنها حتى لا يراها أحد. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ولا يظهرن لغير محرم زينتهن، وهما زينتان: أحداهما ما خفي كالخلخالين «2» والقرطين والقلائد والمعاصم ونحوها، والأخرى ما ظَهَرَ مِنْها، واختلف العلماء في الزينة الظاهرة التي استثنى الله سبحانه ورخّص فيها فقال ابن مسعود: هي الثياب، وعنه أيضا: الرداء، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ «3» أي ثيابكم. وقال ابن عباس وأصحابه: الكحل والخاتم والسوار والخضاب، الضحّاك والأوزاعي: الوجه والكفّان، الحسن: الوجه والثياب. روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم «4» أنه قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت «5» أن تظهر إلّا وجهها ويدها إلى هاهنا» [30] ، وقبض على نصف الذارع ، وإنّما رخّص الله سبحانه ورخّص رسوله في هذا القدر من بدن المرأة أن تبديها لأنّه ليس بعورة، فيجوز لها كشفه في الصلاة، وسائر بدنها عورة فيلزمها ستره. وَلْيَضْرِبْنَ وليلقين بِخُمُرِهِنَّ أي بمقانعهن وهي جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة عَلى جُيُوبِهِنَّ وصدورهن ليسترن بذلك شعورهنّ وأقراطهنّ وأعناقهن. قالت عائشة: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لمّا أنزل الله سبحانه هذه الآية شققن أكتف مروطهنّ فاختمرن به. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الخفيّة التي أمرن بتغطيتها، ولم يبح لهنّ كشفها في الصلاة وللأجنبيين، وهي ما عدا الوجه والكفّين وظهور القدمين إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أي نساء
المؤمنين فلا يحلّ لامرأة مسلمة أن تتجرّد بين يدي امرأة مشركة إلّا أن تكون أمة لها فذلك قوله سبحانه أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ. عن ابن جريج: روى هشام بن الغار عن عبادة بن نسيّ أنه كره أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها ويتأوّل أَوْ نِسائِهِنَّ. وقال عبادة: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح: أما بعد فقد بلغني أنّ نساء يدخلن الحمّامات معهنّ نساء أهل الكتاب فامنع ذلك وحل دونه. قال: ثم إنّ أبا عبيدة قام في ذلك المقام مبتهلا: اللهم أيّما امرأة تدخل الحمّام من غير علّة ولا سقم تريد البياض لوجهها فسوّد وجهها يوم تبيضّ الوجوه. وقال بعضهم: أراد بقوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ مماليكهنّ وعبيدهنّ فإنّه لا بأس عليهن أن يظهرن لهم من زينتهنّ ما يظهرن لذوي محارمهنّ. أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ وهم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم في النساء ولا يستهوونهنّ. قال ابن عباس: هو الذي لا تستحيي منه النساء، وعنه: الأحمق العنّين. مجاهد: الأبله الذي لا يعرف شيئا من النساء، الحسن: هو الذي لا ينتشر [زبه] سعيد بن جبير: المعتوه، عكرمة: المجبوب، الحكم بن أبان عنه «1» : هو المخنث الذي لا يقوم زبّه. روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم مخنث، وكانوا يعدّونه من غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال: «إنّها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان» . فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلنّ هذا عليكم» فحجبوه [31] . ابن زيد: هو الذي يتبع القوم حتى كأنه منهم ونشأ فيهم وليس له في نسائهم إربة، وإنما يتبعهم لإرفاقهم إيّاه، والإربة والإرب: الحاجة يقال: أربت الى كذا آرب إربا إذا احتجت إليه، واختلف القرّاء في قوله غَيْرِ فنصبه أبو جعفر وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل، وله وجهان: أحدهما: الحال والقطع لأنّ التابعين معرفة وغير نكرة. والآخر: الاستثناء ويكون غَيْرَ بمعنى إلّا. وقرأ الباقون بالخفض على نعت التابعين.
[سورة النور (24) : الآيات 32 إلى 34]
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي لم يكشفوا عن عورات النساء لجماعهن فيطّلعوا عليها، والطفل يكون واحدا وجمعا. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ يعني ولا يحرّكنها إذا مشين لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ يعني الخلخال والحلي وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً من التقصير الواقع في أمره ونهيه وقيل: معناه راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة. [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ أي زوّجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ وقرأ الحسن: من عبيدكم، والأيامى جمع الأيّم وهو من لا زوج له من رجل وامرأة يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم وأيّمة، والفعل منه أمت المرأة تأيم أيمة أيوما، وتأيّمت تأيّما، قال الشاعر: ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وسعد بباب القادسيّة معصم فأبنا وقد آمت نساء كثيرة ... ونسوة سعد ليس منهن أيّم «1» وقال آخر: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيّم «2» وفسّر بعض الفقهاء الآية على الحتم والإيجاب فأوجب النكاح على من استطاعه، وتأوّلها الباقون على الندب والاستحباب وهو الصحيح المشهور والذي عليه الجمهور. قال الشافعي «3» رضي الله عنه: واجب للرجل والمرأة أن يتزوّجا إذا تاقت أنفسهما إليه لأنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أمر به ورضيه وندب إليه، وبلغنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تناكحوا تكثروا فإنّي أباهي بكم الأمم حتى بالسقط» «4» [32] .
باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح
وقال صلى الله عليه وسلّم: «من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنتي وهي النكاح «1» ، وقال: إنّ الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده [33] «2» . قال [الشافعي] : ومن لم تتق نفسه إلى ذلك فأحبّ إلىّ أن يتخلّى لعبادة الله عزّ وجل» «3» [34] . وذكر الله سبحانه القواعد من النساء وذكر عبدا أكرمه فقال عزّ من قائل وَسَيِّداً وَحَصُوراً والحصور: الذي لا يأتي النساء. ولم يندبهم إلى النكاح، فدلّ أنّ المندوب إليه من يحتاج إليه «4» . باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح أخبرنا أحمد بن أبي قال: أخبرنا عبد الله بن إسحاق الجرجاني قال: حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا محمد بن يحيى الأزدي قال: حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: أخبرنا أشعث عن الحسن عن سمرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن التبتّل «5» . وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الحديثي قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا محمد بن صالح بن ذريح قال: حدّثنا جبارة بن المغلّس قال: حدّثنا جندل عن ابن جريح عن أبي المغلّس عن أبي نجيح السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من كان له ما يتزوّج فلم يتزوج فليس منّا» «6» [35] . وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال: حدّثنا أحمد بن يعقوب المقري ابن أخي عوف قال: حدّثنا جبارة بن المغلس قال: حدّثنا مندل عن يحيى بن عبد الرّحمن عن أبيه عن جده قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أدرك له ولد وعنده ما يزوّجه فلم يزوّجه فأحدث فالإثم بينهما» «7» [36] . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرّحمن الدقّاق قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو يوسف الصيدلاني قال: حدّثنا خالد بن إسماعيل عن عبيد الله عن صالح
مولى التومة قال: قال أبو هريرة: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد للقيت الله بزوجة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «شراركم عزّابكم» «1» [37] . وبإسناده عن صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا تزوّج أحدكم عجّ شيطانه يا ويله: عصم ابن آدم منّي بثلثي دينه» «2» [38] . وأخبرني الحسن بن محمد قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا أبو زكريا يحيى بن علي بن خلف القطان قال: حدّثنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي قال: حدّثنا محمد بن ثابت العقيلي عن هارون بن رئاب عن أبي نجيح السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مسكين مسكين رجل ليست له امرأة، مسكينة امرأة ليس لها زوج» . قالوا: يا رسول الله وان كانت غنيّة من المال؟ قال: «وإن كانت غنيّة من المال» «3» [39] . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن موسى قال: حدّثنا هشام بن عمار قال: حدّثنا حماد بن عبد الرّحمن قال: حدّثنا خالد بن الزبرقان عن سليمان بن حبيب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أربع لعنهم الله من فوق عرشه وأمّنت عليه ملائكته: الذي يحصر نفسه عن النساء فلا يتزوج ولا يتسرّى لئلّا يولد له، والرجل يتشبّه بالنساء وقد خلقه الله ذكرا، والمرأة تتشبّه بالرجال وقد خلقها الله أنثى، ومضلّل المساكين» «4» [40] . قال خالد: يعني الذي يهزأ بهم يقول للمسكين: هلمّ أعطك، فإذا جاء يقول: ليس معي شيء، ويقول للمكفوف: اتّق الدابّة وليس بين يديه شيء، والرجل يسئل عن دار القوم فيجهله. وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي قال: حدّثني أحمد بن سعيد بن يعقوب قال: أخبرنا بقية ابن الوليد قال: حدّثني معاوية بن يحيى عن سليمان بن موسى عن مكحول عن عفيف ابن الحارث عن عطيّة بن بشر المازني قال: أتى عكاف بن وادعة الهلالي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «يا عكاف ألك زوجة؟ قال: لا يا رسول الله، قال: ولا جارية؟ قال: لا. قال: وأنت صحيح موسر؟ قال: نعم والحمد لله.
فصل فيمن يستحب ويختار من النساء
قال: فإنّك إذا بين إخوان الشياطين إمّا أن تكون من رهبان النصارى، وإمّا أن تكون مؤمنا فاصنع كما نصنع فإنّ من سنّتنا النكاح، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم، ما للشيطان في نفسه سلاح أبلغ من النساء ألا إنّ المتزوّجين هم المطهّرون المبرّؤون من الخنا، ويحك يا عكاف إنّهن صواحب داود وصواحب أيّوب وصواحب يوسف عليهم السلام وصواحب كرسف. قالوا: يا رسول الله ومن كرسف؟ قال: رجل كان يعبد الله سبحانه على ساحل من سواحل البحر ثلاثين عاما، يصوم النهار ويقوم الليل، لا يفتر من صيام ولا قيام، فكفر بالله العظيم من سبب امرأة عشقها وترك ما كان عليه من عبادة ربّه عزّ وجل فتداركه الله سبحانه بما سلف منه، ويحك يا عكاف تزوّج فإنّك من المذنبين. قال: زوّجني من شئت قبل أن أبرح. قال: فإنّي قد زوّجتك على اسم الله كريمة بنت كلثوم الحميري» «1» [41] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن المظفر البزاز قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد ابن موسى بن النعمان بمصر قال: حدّثنا علي بن عبد الرّحمن بن المغيرة قال: حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال: حدّثنا أبو يحيى «2» بن قيس عن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا أتى على أمّتي مائة وثمانون سنة فقد حلّت العزبة والعزلة والترهّب على رؤوس الجبال» «3» [42] . فصل فيمن يستحبّ ويختار من النساء أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي بقراءتي عليه في داري قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الجعد قال: حدّثنا عبد الله بن عمر القواريري قال: حدّثنا عمر بن الوليد قال: سمعت معاوية بن يحيى يحدّث عن يزيد بن جابر عن جبير بن نفير عن عياض بن غنم الأشعري قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا عياض لا تزوّجنّ عجوزا ولا عاقرا فإنّي مكاثر» «4» [43] . وأخبرني الحسن بن محمد قال: حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال: حدّثنا أبو بكر مردك
فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف
ابن أحمد البردعي قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال: حدّثني عبد الله بن إدريس المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تزوّجوا الأبكار فإنّهنّ أعذب أفواها، وأفتح أرحاما، وأثبت مودّة» «1» [44] . وبإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا أراد أحدكم أن يتزوّج المرأة فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها «2» فإنّ الشعر أحد الجمالين» «3» [45] . وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تزوّجوا الزرق فإن فيهنّ يمنا» «4» [46] . وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثنا عبدان بن عبد الله بن عبد الحكم قال: حدّثنا عبد الله ابن صالح قال: حدّثنا محمد بن سليمان بن أبي كريمة قال: حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعظم نساء أمّتي بركة أصبحهنّ وجها وأقلّهنّ مهرا» [47] «5» . فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: أخبرنا أبو علي الشيباني قال: حدّثنا محمد بن رافع قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عيسى بن ميمون عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليها بالدفاف وليولم أحدكم ولو بشاة» «6» [48] . وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن يوسف قالا: حدّثنا يوسف بن أحمد بن كركان القرماسيني قال: حدّثنا أبو الزنباع روح بن الفرج قال: حدّثنا أبو سلمة البصري العتكي القاسم بن عمر قال: حدّثنا بشر بن إبراهيم الأنصاري عن الأوزاعي عن مكحول عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: حدّثني معاذ بن جبل قال: شهدت ملاك رجل من الأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلّم فخطب النبي صلى الله عليه وسلّم وأملك الأنصاري ثمّ قال: «على الألفة والخير والطير الميمون دفّفوا على رأس صاحبكم، وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكّر فنهب عليهم
فأمسك القوم فلم ينتهبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما أزين الحلم ألا تنتهبون، فقالوا: يا رسول الله أنّك نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّما نهيتكم عن نهبة العساكر ولم أنهكم عن نهبة الولائم ثم قال: ألا فانتهبوا» [49] . قال معاذ بن جبل: فو الله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجرّرنا ونجرّره في ذلك النهاب «1» . وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا أبو العباس عبد الله بن أحمد بن حشيش البغدادي قال: حدّثنا عثمان بن معبد قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم «2» عن سفيان بن عامر العامري عن صافية مولاتهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مسّوا بالأملاك فإنّه أفضل في اليمن وأعظم في البركة» «3» [50] . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا طفران بن الحسين قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني قال: حدّثنا أحمد بن يوسف بن سالم الازدي السلمي قال: حدّثنا حفص بن عبد الله عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن إسحاق بن سهل بن أبي حنتمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت عندي جارية من الأنصار في حجري فزوّجتها فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم فلم يسمع غناء فقال: «يا عائشة ألا تغنّون عليها، فانّ هذا الحىّ من الأنصار يحبّون الغناء» «4» [51] . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن ظهير بن ثمامة البزّار قال: حدّثنا أبو موسى بن المثنّى الزمر قال: حدّثنا حفص بن غياث عن ليث عن عطاء أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم مرّ عليه بعروس فقال: «لو كان مع هذا لهو» «5» [52] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن أبي قال: حدّثنا محمد بن علي بن سالم الهمذاني قال: حدّثنا الحسن بن الحسين الرازي الهسنخاني قال: حدّثنا سعيد بن منصور قال: حدّثنا مسكين بن ميمون قال: حدّثني عروة بن رويم قال: بينا عبد الرّحمن بن قرط ينعسّ بحمص إذ مرّت عروس وقد أوقدوا النيران، فضربهم بدريّة حتى تفرقوا عنها، فلمّا أصبح قعد على منبره وقال: إنّ أبا جندلة نكح فصنع جفنات من طعام فرحم الله أبا جندلة وصلّى على آبائه، ولعن الله أصحاب عروسكم أوقدوا النيران وتشبّهوا بأهل الشرك والله مطفئ نورهم يوم القيامة. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال: حدّثني أبو زرعة قال: حدّثنا إبراهيم بن موسى الفرّاء قال: أخبرنا مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «التمسوا الرزق بالنكاح» «1» [53] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدّثنا أبو يوسف محمد ابن سفيان بن موسى الصفّار «2» بالمصّيصة قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن ناصح قال: حدّثنا عبد العزيز الدراوردي عن ابن عجلان أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فشكا إليه الحاجة فقال: «عليك بالباءة» «3» ، وشكا رجل الى أبي بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلّم فشكا إليه الحاجة فقال: عليك بالباءة [54] ، وجاء رجل الى عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر «4» فشكا إليه الحاجة فقال: عليك بالباءة، كلّ يريد قوله سبحانه إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. قال ابن عجلان: وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: ابتغوا الغنى في النكاح. وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً عن الحرام حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ويوسّع عليهم من رزقه. وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي المكاتبة وهي أن يقول الرجل لعبده أو أمته: قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة على أنّك إذا أدّيت ذلك فأنت حرّ، فيرضى العبد بذلك فإن أدّى مال الكتابة بالنجوم التي سمّاها كان حرّا، وإن عجز عن أداء ذلك كان لمولاه أن يردّه الى الرّقّ كما قال صلى الله عليه وسلّم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» «5» [55] . وأصل الكلمة من الكتب وهو الضمّ والجمع، ومنه الكتيبة وكتب البغل وكتب الكتاب، فسمّي المكاتب مكاتبا لأنه يضم نجوم مال الكتابة بعضها إلى بعض. مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ اختلف الفقهاء في حكم هذه الآية فقال قوم: هو أمر حتم وإيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيرا إذا سأله ذلك بقيمته وأكثر ولو كان بدون قيمته لم يلزمه، وهو قول عمرو بن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد ابن جرير من الفقهاء وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واحتجّ من نصر هذا المذهب بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عليه، فشكاه الى عمر فعلاه بالدّرة وأمره بالكتابة، واحتجّوا أيضا بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزّى يقال له صبح سأل
مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأدّاها وقتل يوم حنين في الحرب. وروى عن عمر أنّه قال: هي عزمة من عزمات الله، من سأل الكتابة كوتب. وقال الآخرون: هو أمر ندب واستحباب، ولا يلزم السيّد مكاتبة عبده سواء بذل له قيمته أو أكثر منها أو أقل، وهو قول الشعبي والحسن البصري، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وسائر الفقهاء. وأمّا قوله سبحانه إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فاختلفوا فيه، فقال ابن عمر وابن زيد ومالك بن أنس: يعني قوّة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتب عليه، وإليه ذهب الثوري. وروى الوالبي عن ابن عباس قال: إن علمت أنّ لهم حيلة ولا يلقون مؤونتهم على المسلمين. وقال الحسن ومجاهد والضحاك: مالا، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، واستدلّوا بقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً «1» . قال الخليل: لو أراد المال لقال: إن علمتم لهم خيرا. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا هارون بن محمد قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا أبو خالد الأحمر عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان قال: قال له عبد: كاتبني، قال: لك مال؟ قال: لا، قال: تطعمني أوساخ الناس فأبى عليه، وقال إبراهيم وعبيدة وأبو صالح وابن زيد: يعني صدقا ووفاء وأمانة، وقال طاوس وعمرو بن دينار: مالا وأمانة. وقال الشافعي: أظهر معاني الخير في هذه الآية الاكتساب مع الأمانة، فأحبّ أن لا يمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة «2» قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد العزيز العثماني وأبو النضر إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثنا يحيى بن حمزة قال: أخبرني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ثلاثة حق على الله عونهم: رجل خرج في سبيل الله سبحانه، ورجل تزوّج التماس الغنى عما حرّم الله عزّ وجلّ، ورجل كاتب التماس الأداء» «3» [56] .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا يحيى الحماني قال: حدّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة في قوله سبحانه إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال: إن أقاموا الصلاة. وقيل: هو أن يكون المكاتب بالغا عاقلا فأمّا المجنون والصبي فلا يصحّ كتابتهما لأنّهما ليسا من أهل الابتغاء، ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «رفع القلم عن ثلاث» الحديث [57] «1» . وقال أبو حنيفة: يصحّ كتابة الصبي إذا كان مراهقا مميّزا بناء على أصله إذا كان مراهقا كيّسا حرا فأذن له وليّه في التّصرف نفذ تصرّفه، كذلك السيّد مع عبده إذا كاتبه فقد أذن له في التصرّف فصحّت كتابته. واختلف الفقهاء في مال الكتابة، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: تصح الكتابة حالّة ومؤجلة لأنّ الله سبحانه قال فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ولم يشترط فيه أجلا ولأنّه عقد على عين فصحّ حالّا ومؤجّلا كالبيع. وقال الشافعي: لا تصحّ الكتابة حالّة وإنّما تصحّ إذا كانت مؤجّلة، وأقلّه نجمان. وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ اختلفوا فيه فقال بعضهم: الخطاب للموالي وهو أن يحطّ له من مال كتابته شيئا، ثم اختلفوا في ذلك الشيء فقال قوم: هو ربع المال وهو قول علىّ، وإليه ذهب الثوري. روى شعبة عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرّحمن السلمي أنّه كاتب غلاما له على ألف ومائتين وترك الربع وأشهدني ثم قال لي: كان صديقك يفعل هذا، يعني عليّا كرم الله وجهه ، وقد روى ذلك مرفوعا. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش المقري قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن موسى قال: حدّثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال: حدّثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب يعني أبا عبد الرّحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلّم وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قال: «ربع المكاتبة» «2» [58] . وقال آخرون: ليس فيه حدّ إنّما هو إليه، يحطّ عنه من مال كتابته شيئا. روى أسباط عن السدّي عن أبيه قال: كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة وكانت قد صلّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم القبلتين جميعا على عشرة آلاف فتركت لي ألفا، وروى الجريري عن أبي
نضرة عن أبي سعيد مولى ابن أسيد قال: كاتبني أبو أسيد على ثنتي عشرة مائة فجئته بها فأخذ منها ألفا وردّ علىّ مائتين. وقال نافع: كاتب عبد الله بن عمر غلاما له يقال له شرقي على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسه آلاف درهم. قال سعيد بن جبير: وكان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أوّل نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته، ولكنّه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ، وعلى هذا القول قوله وَآتُوهُمْ أمر استحباب. وقال بعضهم: معناه وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله وَفِي الرِّقابِ «1» وهو قول الحسن وزيد بن أسلم وابنه وعلى هذا التأويل هو أمر إيجاب. وقال بريدة وإبراهيم: هو حثّ لجميع الناس على معونتهم. أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة «2» قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد قال: حدّثني زهير عن عبد الله بن محمد ابن عقيل عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من أعان مكاتبا في رقبته أو غازيا في عسرته أو مجاهدا في سبيله أظله الله سبحانه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» «3» [59] . وأخبرني ابن فنجوية قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا علي بن أحمد الواسطي قال: حدّثنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرّحمن الدالاني عن خارجة بن هلال عن أبي سعيد ورافع بن خديج وابن عمر قالوا: جاءنا غلام لعثمان رضي الله عنه يقال له كيّس فقال: قوموا إلى أمير المؤمنين فكلّموه أن يكاتبني «4» فقلنا له: إنّ غلامك هذا سألنا أن تكاتبه فقال: أخذته بخمسين ومائة يجيء بها وهو حر، قال: فخرجنا فأعانه كل رجل منّا بشيء «5» قال: كونوا بالباب ثم قال: يا كيّس تذكر يوم عركت أذنك، قلت: بلى يا سيّدي، قال: ألم أنهك أن تقول يا سيدي؟ قال: فلم يزل بي حتى ذكرت، قال: قم فخذ بأذني قال: فأبيت فلم يزل بي حتى قمت فأخذت بأذنه فعركتها وهو يقول: شدّ شدّ حتى إذا رآني قد بلغت ما بلغ منّي قال: حسبك ثم قال: واها للقضاء في الدنيا، أخرج فأنت حرّ وما معك لك.
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الآية. نزلت في معاذة ومسيكة جاريتي عبد الله بن أبي المنافق، كان يكرههما على الزنا بضريبة يأخذ منهما وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إماءهم، فلمّا جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيرا فقد استكثرنا منه، وإن يك شرّا فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في ستّ جوار لعبد الله بن أبىّ كان يكرههنّ على الزنا ويأخذ أجورهن وهنّ معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، فجاءته إحداهنّ ذات يوم بدينار وجاءت أخرى ببرد فقال لهما: ارجعا فازنيا فقالتا: والله لا نفعل قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا، فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وشكتا إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وروى معمر عن الزهري أنّ عبد الله بن أبي أسر رجلا من قريش يوم بدر، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة فكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة، فكانت تمتنع منه وكان ابن أبىّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده، فأنزل الله سبحانه وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ إماءكم عَلَى الْبِغاءِ أي الزنا. إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً يعني إذ وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههنّ على الزنا إن لم يردن تحصّنا، ونظيره قوله سبحانه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «1» وقوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «2» أي إذ، وقوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «3» يعني إذ شاء الله والتحصّن: التعفّف. وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير تقديرها (وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصّنا) ثم قال (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههنّ) بعد ورود النهي فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ لهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ والوزر على المكره، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: لهنّ والله لهن. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا خبرا وعبرة مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.
[سورة النور (24) : الآيات 35 إلى 38]
[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 38] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. قال ابن عباس: الله هادي أهل السموات والأرض لا هادي فيهما غيره، فهم بنوره الى الحقّ يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون وليس يهتدي ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل إلّا بهدى منه. الضحّاك والقرظي: منوّر السموات والأرض. مجاهد: مدبر الأمور في السموات والأرض. أبي بن كعب وأبو العالية والحسن: مزيّن السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزيّن الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين. وقال بعضهم: يعني الأنوار كلّها منه كما يقال: فلان رحمة وسخطة وهو لا يكون في نفسه رحمة ولا سخطة وإنما يكون منه الرحمة والسخطة. وقال بعض أهل المعاني: أصل النور هو التبرئة والتصفية، يقال: امرأة نوار ونساء نوار إذا كنّ متعرّيات من الريبة والفحشاء، قال الشاعر: نوار في صواحبها نوار ... كما فاجاك سرب أو صوار فمعنى النور هو المنزّه من كل عيب. وقال بعض العلماء: النور على أربعة أوجه: نور متلألئ، ونور متولّد، ونور من جهة صفاء اللون، ونور من جهة المدح، فالنور المتلألئ مثل قرص الشمس والقمر والكواكب وشعلة السراج، والمتولد هو الذي يتولد من شعاع الشمس والقمر والسراج فيقع على الأرض فيستنير به، والذي هو من صفاء اللون مثل نور اللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وكلّ شيء له نور صاف، والذي هو من جهة المدح قول الناس: فلان نور البلد وشمس العصر، قال الشاعر: فإنّك شمس والملوك كواكب ... إذا ما بدت «1» لم بدت منهنّ كوكب «2»
وقال آخر: قمر القبائل خالد بن يزيد «1» وقال آخر: إذا سار عبد الله من مرو ليلة ... فقد سار منها نورها وجمالها «2» ويجوز أن يقال: الله سبحانه نور من جهة المدح لأنه واجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه دون سائر الأوجه لأنّ النور المحسوس الذي هو ضدّ الظلمة لا يخلو من شعاع وارتفاع وسطوع ولموع وهذه كلّها منفيّة عن الله سبحانه لأنها من أمارات الحدث. قالوا: ولا يجوز أن يقال: لله يا نور إلّا أن يضمّ إليه شيء كما لا يجوز أن يقال: يا بديع إلّا أن يضمّ إليه شيء كما قال الله سبحانه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «4» . وقرأ علي بن أبي طالب: اللَّهُ نَوَّرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على الفعل. مَثَلُ نُورِهِ اختلفوا في هذه الكناية فقال بعضهم: هي عائدة الى المؤمن أي مَثَلُ نُورِهِ في قلب المؤمن حيث جعل الإيمان والقرآن في صدره. روى الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب في هذه الآية قال: بدا بنور نفسه فذكره ثمّ ذكر نور المؤمن فقال مَثَلُ نُورِهِ وهكذا كان يقرأ أبي: مثل نور من آمن به، وقال ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم وابنه: أراد بالنور القرآن، وقال كعب وسعيد بن جبير: هو محمد صلى الله عليه وسلّم ومثله روى مقاتل عن الضحاك، أضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلا، وروى عطيّة عن ابن عباس قال: يعني بالنور الطاعة، يسمّي طاعته نورا ثمّ ضرب لها مثلا. كَمِشْكاةٍ قال أهل المعاني: هذا من المقلوب أي كمصباح في مشكوة وهي الكوّة التي لا منفذ لها، وأصلها الوعاء يجعل فيها الشيء، والمشكاة: وعاء من أدم يبرّد فيه الماء، وهي على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة. قال الشاعر:
كأنّ عينيه مشكاتان في حجر ... قيضا اقتياضا بأطراف المناقير «1» وقيل: المشكوة: عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد: هي القنديل فِيها مِصْباحٌ أي سراج وأصله من الضوء، ومنه الصبح، ورجل صبيح الوجه ومصبّح إذا كان وضيئا، وفرّق قوم بين المصباح والسراج فقال الخليل: المصباح «2» : نفس السراج وقيل: السراج أعظم من المصباح لأنّ الله سبحانه سمّى الشمس سراجا فقال سِراجاً وَهَّاجاً «3» ووَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وقال في غيرها من الكواكب وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ «4» . الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ قرأ نصر بن عاصم: زَجاجَةٍ بفتح الزاي، الباقون بضمّه. قال الأخفش: فيها ثلاث لغات: ضمّ الزاي وفتحه وكسره. كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي ضخم مضيء، ودراريّ النجوم عظامها، واختلف القرّاء فيه فقرأ أبو عمرو والكسائي مكسورة الدال مهموزة الياء ممدودة وهو من قول العرب: درأ «5» النجم «6» إذا طلع وارتفع، ومن مكان الى آخر رجع، وإذا انقضّ في اثر الشيطان فأسرع، وأصله من الرفع، ووزنه من الفعل فعيل، وقرأ حمزة وأبو بكر مضمومة الدال مهموزة ممدودة. قال أكثر النحاة: هي لحن لأنه ليس في الكلام فعّيل بضم الفاء وكسر العين. قال أبو عبيد: وأنا ارى لها وجها وذلك أنه درّ و «7» على وزن فعّول من درأت مثل سبّوح وقدّوس ثمّ استثقلوا كثرة الضمّات فيه فردوا بعضها الى الكسرة كما قالوا عتيّا وهو فعول من عتوت. وقال بعضهم: هو مشتق على هذه القراءة من الدراة وهي البياض ويقال: منه ملح دراني، وقرأ سعيد بن المسيّب وأبو رجاء العطاردي بفتح الدال وبالهمز. قال أبو حاتم: هو خطأ لأنّه ليس في الكلام فعيل وإن صحّ منهما فهما حجّة، وقرأ
الباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز، نسبوه الى الدرّ في صفائه وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ثمّ قال أبو عبيد: وإنما اخترنا هذه القراءة لعلل ثلاث: إحداها: ما جاء في التفسير أنه منسوب الى الدرّ لبياضه. والثانية: للخبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّ أهل الجنة ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الدرّي في أفق السماء وإنّ أبا بكر وعمر منهم وأنعما!. والثالثة: إجماع أهل الحرمين عليها. يُوقَدُ اختلف القرّاء فيه أيضا فقرأ شيبة ونافع وأيوب وابن عامر وعاصم برواية حفص بياء مضمومة يعنون المصباح، وقرأ حمزة والكسائي وخلف «1» برواية أبي بكر بتاء مضمومة أرادوا الزجاجة، وقرأ بن محيص» بتاء مفتوحة وتشديد القاف ورفع الدال على معنى تتوقد الزجاجة، وقرأ الآخرون: بفتح التاء والقاف والدال على المضيء يعنون المصباح. مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ. قال عكرمة وجماعة: يعني لا يسترها من الشمس جبل ولا واد، فإذا طلعت الشمس أصابتها وإذا غربت أصابتها، فهي صاحبة للشمس طول النهار وليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت، ولا هي غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت، بل تأخذ حظّها من الأمرين، وإذا كان كذلك كان أجود وأضوأ لزينتها. وقال السدىّ وجماعة: يعني ليست في مقنوة «3» لا تصيبها الشمس ولا هي بارزة للشمس لا يصيبها الظل، فهي لم يضرّها الشمس ولا الظلّ. وقال بعضهم: هي معتدلة ليست من شرق «4» فيلحقها الحرّ، ولا في غرب فيضرّ بها البرد وهي رواية ابن ظبيان عن ابن عباس. وقال ابن زيد: هي شاميّة لأنّ الشام لا شرقي ولا غربي، تقول: هي شرقيّة وغربيّة وهذا كقولك: فلان لا مسافر ولا مقيم، وليس هذا بأبيض ولا أسود إذا كان له من كلا الأمرين قسط ونصيب، قال الشاعر: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلّت «5»
يعني فعلوا هذا. وقال الحسن: ليس هذه الشجرة من شجر الدنيا، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية، وإنّما هو مثل ضربه الله سبحانه لنوره، وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا لأنها بدل من الشجرة فقال زَيْتُونَةٍ وإنما خصّ الزيتونة من بين سائر الأشجار لأنّ دهنها أضوأ وأصفر. وقيل: لأنّه يورق غصنها من أوله الى آخره ولا يحتاج دهنه إلى عصّار يستخرجه. وقيل: لأنّها أول شجرة نبتت من الدنيا، وقيل: بعد الطوفان، وقيل: لأنّ منبتها منزل الأنبياء والأولياء والأرض المقدّسة، وقيل: لأنّه بارك فيها سبعون نبيّا منهم إبراهيم (عليه السلام) قال: لذلك قال مُبارَكَةٍ. أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال: حدّثنا عبد الله ابن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي قال: حدّثني هاشم ابن القاسم الحراني قال: حدّثنا يعلى بن الأشدق عن عمّه عبد الله بن حراد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم بارك في الزيت والزيتون، اللهم بارك في الزيت والزيتون» [60] «1» . وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا أبو شعيب الحراني قال: حدّثني أحمد بن عبد الملك قال: حدّثنا زهير قال: حدّثنا عبد الله بن عيسى عن عطاء عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنّه من شجرة مباركة» [61] «2» . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيق قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا أبو حمزة عن جابر عن أبي الطفيل عن عبد الله بن ثابت الأنصاري قال: دعا بنيه ودعا بزيت فقال: ادهنوا رؤوسكم، فقالوا: لا ندهن رؤوسنا بالزيت قال: فأخذ العصا وجعل يضربهم ويقول: أترغبون عن دهن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ وحدّثنا عبد الله بن يوسف بن ماموله قال: أخبرنا محمد بن عمر بن الخطاب الدينوري قال: حدّثنا أحمد بن عبد «3» الله بن سنان قال: حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بهذه الشجرة المباركة زيت الزيتون فتداووا به فإنّه مصحّة من الباسور» [62] .
ثمّ قال سبحانه يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ من صفائه وضيائه. وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قيل: أن تصيبه نار، واختلف العلماء في معنى هذا المثل والممّثل وفي المعنيّ بالمشكاة والزجاجة والمصباح، فقال قوم: هذا مثل ضربه الله سبحانه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلّم، وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال له: حدّثني عن قوله سبحانه وتعالى مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ الآية فقال كعب: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلّم، فالمشكاة صدره، والزُّجاجَةُ قلبه، والْمِصْباحُ فيه النبوّة، توقد مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهي شجرة النبوّة، يكاد نور محمد وأمره يتبيّن للناس ولو لم يتكلّم أنّه نبىّ كما يكاد ذلك الزيت يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ. أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: حدّثنا أبو عثمان البصري قال: حدّثنا أحمد بن سلمة قال: حدّثنا الحسين بن منصور قال: حدّثنا أبان بن راشد الحرزي «1» قال: حدّثنا الوراع بن نافع عن سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال: المشكاة جوف محمد، والزُّجاجَةُ قلبه، والْمِصْباحُ النور الذي جعل الله فيه، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ لا يهودي ولا نصراني، توقد مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ إبراهيم، نُورٌ عَلى نُورٍ النور الذي جعل الله في قلب إبراهيم كما جعل في قلب محمد صلى الله عليه وسلّم. وقال محمد بن كعب القرظي: المشكاة إبراهيم، والزُّجاجَةُ إسماعيل، الْمِصْباحُ محمد صلى الله عليه وسلّم، سمّاه الله مصباحا كما سمّاه سراجا فقال عزّ من قائل وَسِراجاً مُنِيراً يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهي إبراهيم، سمّاه مباركا لأنّ أكثر الأنبياء كانوا من صلبه، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يعني إبراهيم لم يكن يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً، وإنّما قال ذلك لأنّ اليهود تصلّي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يعني تكاد محاسن محمد تظهر للناس قبل أن أوحي إليه نُورٌ عَلى نُورٍ أي نبيّ من نسل نبيّ. وروى مقاتل عن الضحّاك قال: شبّه عبد المطّلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي صلى الله عليه وسلّم بالمصباح، كان في صلبهما فورث النبوّة من إبراهيم (عليه السلام) يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ بل هي مكيّة لأنّ مكة وسط الدنيا. ووصف بعض البلغاء هذه الشجرة فقال: هي شجرة التقى والرضوان وشجرة الهدى والإيمان شجرة أصلها نبوّة، وفرعها مروّة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبرئيل وميكائيل. وقال آخرون: هذا مثل ضربه الله سبحانه للمؤمن. روى الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزُّجاجَةُ صدره، والْمِصْباحُ ما جعل الله سبحانه من الإيمان والقرآن في قلبه، توقد
مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وهي الإخلاص لله وحده لا شريك له، فمثله مثل شجرة التفّ بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها، فيثبته الله تعالى فيها، فهو بين أربع خلال: إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات. ثمّ قال: نُورٌ عَلى نُورٍ فهو ينقلب في خمسة من النور: فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره الى النور يوم القيامة الى الجنة. وقال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار، فإن مسته النار ازداد ضوءا على ضوئه كما يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على هدى ونورا على نور كقول إبراهيم (عليه السلام) قبل أن تجيئه المعرفة هذا رَبِّي «1» حين رأى الكوكب من غير أن أخبره أحد أنّ له ربّا، فلمّا أخبره الله أنّه ربّه ازداد هدى على هدى ثم قال نُورٌ عَلى نُورٍ يعني إيمان المؤمن وعمله. وقال الحسن وابن زيد: هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن، فكما أنّ هذا المصباح يستضاء به وهو كما هو لا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به ويؤخذ به ويعمل به، ف الْمِصْباحُ هو القرآن، والزُّجاجَةُ قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفمه، والشجرة المباركة شجرة الوحي. يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ يقول: تكاد حجّة القرآن تتّضح وإن لم تقرأ، وقيل: تكاد حجج الله على خلقه تضيء لمن فكّر فيها وتدبّرها ولو لم ينزل القرآن. نُورٌ عَلى نُورٍ يعني أنّ القرآن نور من الله يخلقه مع ما قد أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نورا على نور. ثمّ أخبر أنّ هذا النور المذكور عزيز فقال عزّ من قائل يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريبا للشيء الذي أراده إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك على الأنام وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ثمّ قال عزّ من قائل فِي بُيُوتٍ نظم الآية: ذلك المصباح في بيوت ويجوز أن يكون معناه: توقد في بيوت وهي المساجد، عن أكثر المفسّرين. أخبرني ابن فنجويه الدينوري قال: حدّثنا ابن حنش «2» المقري قال: حدّثنا محمد بن أحمد
ابن إبراهيم الجوهري قال: حدّثنا علىّ بن أشكاب قال: حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي عن بكير ابن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: المساجد بيوت الله عزّ وجلّ في الأرض، وهي تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض. وقال عمرو بن ميمون: أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم يقولون: المساجد بيوت الله وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها. وأخبرنا الحسين «1» بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري «2» قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ قال: حدّثنا أبو أسامة عن صالح بن حيّان عن ابن أبي «3» بريدة في قوله سبحانه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ الآية. قال: إنّما هي أربع مساجد لم يبنها إلّا نبيّ: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة، وبيت المقدس بناه داود وسليمان، ومسجد المدينة بناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومسجد قباء أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى، بناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري «4» قال: حدّثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال: حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني بالكوفة قال: حدّثنا المنذر بن محمد القابوسي قال: حدّثني الحسين بن سعيد قال: حدّثني أبي عن أبان بن تغلب عن نفيع بن الحرث عن أنس بن مالك وعن بريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ إلى قوله وَالْأَبْصارُ فقام رجل فقال: أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: «بيوت الأنبياء» . قال: فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها- لبيت عليّ وفاطمة-؟ قال: «نعم من أفاضلها» [63] «5» . الصادق: بيوت النبي صلى الله عليه وسلّم. السدّي: المدينة. وأولى الأقوال بالصواب أنّها المساجد لدلالة سياق الآية على أنها بيوت بنيت للصلاة والعبادة. فإن قيل: ما الوجه في توحيده المشكاة والمصباح وجمع البيوت، لا يكون مشكاة واحدة إلّا في بيت واحد؟.
قلنا: هذا من الخطاب المتلوّن الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع كقوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «1» ونحوها، وقيل: رجع الى كلّ واحد من البيوت، وقيل: هو مثل قوله سبحانه وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «2» وإنّما هو في واحدة منها. أَنْ تُرْفَعَ أي تبنى عن مجاهد نظيره قوله سبحانه وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ «3» وقال الحسن: تعظيم، وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قال ابن عباس: يتلى فيها كتابه، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها قرأ قتادة وأشهب العقيلي ونصر بن عاصم الليثي وابن عامر وعاصم بفتح الباء على غير تسمية الفاعل. ثم قال رِجالٌ أي هم رجال كما يقال: ضرب زيد وأكل طعامك فيقال: من فعل؟ فيبيّن فيقول: فلان، وفلان والوقف على هذه القراءة عند قوله وَالْآصالِ. وقرأ الآخرون بكسر الباء جعلوا التسبيح فعلا للرجال. قال ابن عباس: كلّ تسبيح في القرآن صلاة يدلّ عليه قوله سبحانه بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي بالغداة والعشىّ. قال المفسّرون: أراد الصلوات المفروضة، فالصلاة التي تؤدّى بالغدوّ صلاة الفجر، والتي تؤدّى في الآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأنّ اسم الأصيل لجميعها. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا عمير بن مرداس قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدّثنا عبد الرّحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد ويؤثره على ما سواه إلّا وله عند الله نزل معدّله في الجنّة كلّما غدا وراح، كما لو أنّ أحدكم زاره من يحبّ زيارته في كرامته» «4» [64] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحسني عن إبراهيم المدني عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من غدا الى المسجد وراح ليتعلّم خيرا أو يعلّمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله رجع غانما، ومن غدا إليه لغير ذلك كان كالناظر إلى الشيء ليس له، يرى المصلين وليس منهم، ويرى الذاكرين وليس منهم» «5» [65] .
ثمّ وصفهم فقال رِجالٌ قيل: وجه تخصيص الرجال بالذكر في هذه البيوت أنّه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المساجد لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ قال أهل المعاني: إنّما خصّ التجارات لأنّها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلوات وسائر الطاعات وَلا بَيْعٌ إن قيل: إنّ التجارة اسم يقع على البيع والشراء، فما معنى ضم ذكر البيع الى التجارة؟ فالجواب عنه ما قال الواقدي أنّه أراد بالتجارة الشراء نظيره قوله سبحانه وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً «1» يعني الشراء. عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ أي إقامة الصلاة فحذف الهاء الزائدة لأجل الإضافة، لأنّ الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد فاستغنوا بالمضاف إليه من الهاء إذ كانت الهاء عوضا من الواو، ولأنّ أصل الكلمة أقومت إقواما فاستثقلوا الضمّة على الواو فسكّنوها فاجتمع حرفان ساكنان فأسقطوا الواو ونقلوا حركته الى القاف، وأبدلوا من الواو المحذوفة هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف كما فعلوا في قولهم: عدة وزنة وأصلها وعدة ووزنة، فلمّا أضيفت حذفت الهاء وجعلت الإضافة عوضا منها، كقول الشاعر: إنّ الخليط أجدّوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا «2» أراد: عدة الأمر فأسقط الهاء منها لما أضافها. وَإِيتاءِ الزَّكاةِ المفروضة عن الحسن. وقال ابن عباس: الزكاة إخلاص الطاعة لله سبحانه وتعالى. قال ابن حيّان: هم أهل الصفّة. وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال: أخبرني عمرو بن دينار مولى لآل الزبير عن سالم عن ابن عمر أنّه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن حبيش الرازي قال: حدّثنا علي بن طيفور النسائي قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي حجير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ للمساجد أوتادا الملائكة جلساؤهم يتفقّدونهم، وإن مرضوا عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم» «3» [66] .
[سورة النور (24) : الآيات 39 إلى 44]
وقال: جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة محكمة، أو رحمة منتظرة. يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ من هوله بين طمع في النجاة وحذر من الهلاك. وَالْأَبْصارُ أيّ ناحية يؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال؟ وذلك يوم القيامة. لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني أنّهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ أي بأحسن ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لم يستحقّوه بأعمالهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ. [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 44] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) ثمّ ضرب لأعمال الكافرين مثلا فقال عزّ من قائل وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ وهو الشعاع الذي تراه نصف النهار في البراري عند شدّة الحرّ كأنّه ماء فإذا قرب منه الإنسان انفشّ فلم ير شيئا، وسمّي سرابا لأنّه ينسرب أي يجري كالماء. بِقِيعَةٍ وهو جمع القاع مثل جار وجيرة، والقاع: المنبسط الواسع من الأرض وفيه يكون السراب. يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ يظنّه العطشان ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ يعني ما قدّر أنّه ماء فلم يجده على ما قدّر، وقيل: معناه جاء موضع السراب فاكتفى بذكر السراب عن موضعه، كذلك الكافر يحسب أنّ عمله مغنى عنه أو نافعه شيئا فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئا ولا نفعه وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي وجد الله بالمرصاد عند ذلك فَوَفَّاهُ حِسابَهُ جزاء عمله، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَوْ كَظُلُماتٍ. وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفّار أيضا يقول: مثل أعمالهم في خطائها
وفسادها، وضلالتهم وجهالتهم وحيرتهم فيها كظلمات فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وهو العميق الكثير الماء وذلك أشدّ ظلمة، ولجّة البحر: معظمه يَغْشاهُ يعلوه مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ متراكم مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ قرأ ابن كثير برواية النبّال والفلنجي سَحابٌ بالرفع والتنوين، ظُلُماتٍ بالجرّ على البدل من قوله أَوْ كَظُلُماتٍ. روى البّزي عنه، سحابُ ظلماتٍ بالإضافة وقرأ الآخرون: سَحابٌ ظُلُماتٌ كلاهما بالرفع والتنوين، وتمام الكلام عند قوله سَحابٌ. ثمّ ابتدأ فقال ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر. قال المفسّرون: أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجّي قلبه، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، وبالسحاب الرّين والختم والطبع على قلبه. قال أبي بن كعب في هذه الآية: الكافر ينقلب في خمس من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة ومدخله، ظلمة ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار. إِذا أَخْرَجَ يعني الناظر يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمات. وقال الفرّاء: كاد صلة أي لم يرها كما تقول: ما كدت أعرفه، وقال المبرّد: يعني لم يرها إلّا بعد الجهد كما يقول القائل: ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ولكن بعد يأس وشدّة، وقيل: معناه قرب من الرؤية ولم ير، كما يقال: كاد العروس يكون أميرا، وكاد النعام يطير. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ يعني من لم يهده الله فلا إيمان له. قال مقاتل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أميّة، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح ثم كفر في الإسلام. أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن إبراهيم العدل قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن منصور الواعظ قال: حدّثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد قال: حدّثنا محمد ابن يونس الكديمي قال: حدّثنا عبيد الله بن عائشة قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنّ الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر!، وخلق المؤمنين من أمّتي من الرجال من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمّتي من النساء من نور عائشة، فمن لم يحبّني ويحبّ أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور!، فنزلت عليه وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» «1» [67] . أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ أجنحتهنّ في الهواء
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال المفسّرون: الصلاة لبني آدم، والتسبيح عام لغيرهم من الخلق وفيه وجوه من التأويل: أحدها: كلّ مصلّ ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه. والثاني: كلّ مسبّح ومصلّ منهم قد علم صلاة نفسه وتسبيحه الذي كلّفه الله، وقد علم كلّ منهم صلاة الله من تسبيحه. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي تقديرها وتدبير أمورها وتصريف أحوالها كما يشاء وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي يسوق سَحاباً الى حيث يريد ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمع بين قطع السحاب المتفرّقة بعضها إلى بعض، والسّحاب جمع، وإنما ذكر الكناية على اللفظ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وسطه وهو جمع خلل، وقرأ ابن عباس والضحاك من خلله. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ أي البرد، ومن صلة، وقيل: معناه وينزل من السماء قدر جبال أو مثال جبال من برد إلى الأرض، فمن الأولى للغاية لأنّ ابتداء الإنزال من السماء، والثانية: للتبعيض لأنّ البرد بعض الجبال التي في السماء، والثالثة: لتبيين الجنس لأنّ جنس تلك الجبال جنس البرد فَيُصِيبُ بِهِ أي بالبرد مَنْ يَشاءُ فيهلكه ويهلك زروعه وأمواله، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي ضوء برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ من شدّة ضوئه وبريقه، وقرأ أبو جعفر: يُذْهِبُ بضم الياء وكسر الهاء، غيره: من الذهاب. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يصرفهما في اختلافهما ويعاقبهما إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت من هذه الأشياء لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي العقول. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قال الله عزّ وجل: يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار» «1» [68] .
[سورة النور (24) : الآيات 45 إلى 55]
[سورة النور (24) : الآيات 45 الى 55] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ خالق على الاسم كوفي غير عاصم، الباقون: خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ على الفعل مِنْ ماءٍ أي من نطفة، وقيل: إنما قال مِنْ ماءٍ لأنّ أصل الخلق من الماء، ثم قلب بعض الماء الى الريح فخلق منها الملائكة، وبعضه إلى النار فخلق منه الجن، وبعضه إلى الطين فخلق منه آدم. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيّات والحيتان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ قوائم كالأنعام والوحوش والسباع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنّه كالذي يمشي على أربع في رأي العين. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ كما يشاء إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا يعني المنافقين ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ويدعو الى غير حكم الله. قال الله سبحانه وتعالى وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجرّه الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجرّه الى كعب بن الأشرف ويقول: إنّ محمّدا يحيف علينا ، فذلك قوله وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الرسول بحكم الله إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ مطيعين منقادين لحكمه أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا يعني أنّهم كذلك فجاء بلفظ التوبيخ ليكون أبلغ في الذمّ، كقول جرير في المدح: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح يعني أنتم كذلك. أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ أي يظلم بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم بإعراضهم عن الحق والواضعون المحاكمة في غير موضعها.
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي الى كتاب الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ نصب القول على خبر كان واسمه في قوله أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ وذلك أنّ المنافقين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أينما كنت نكن معك، إن أقمت أقمنا وإن خرجت خرجنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فقال الله سبحانه قُلْ لهم لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أي هذه طاعة بالقول واللسان دون الاعتقاد فهي معروفة منكم بالكذب أنكم تكذبون فيها، وهذا معنى قول مجاهد، وقيل: معناه طاعة معروفة أمثل وأفضل من هذا القسم الذي تحنثون فيه. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من طاعتكم ومخالفتكم. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا عن طاعة الله ورسوله والإذعان بحكمهما فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على الرسول ما حُمِّلَ كلّف وأمر به من تبليغ الرسالة وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من طاعته ومتابعته وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا. سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عقيل الورّاق في آخرين قالوا: سمعنا أبا عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري يقول: من أمّر السنّة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمرّ الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقول الله سبحانه وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا. وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ إنما أدخل اللام بجواب اليمين المضمر لأنّ الوعد قول، مجازها وقال الله سبحانه الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ والله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي ليورثنّهم أرض الكفّار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وسائسيها وسكّانها. كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني بني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ، وقرأه العامة: كَمَا اسْتَخْلَفَ بفتح التاء واللام لقوله سبحانه وَعَدَ اللَّهُ وقوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ. وروى أبو بكر عن عاصم بضم التاء وكسر اللام على مذهب ما لم يسمّ فاعله. وَلَيُمَكِّنَنَّ وليوطّننّ لَهُمْ دِينَهُمُ ملّتهم التي ارتضاها لهم وأمرهم بها وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ قرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بالتخفيف وهو اختيار أبي حاتم، غيرهم: بالتشديد وهما لغتان. وقال بعض الأئمة: التبديل: تغيير حال الى حال، والإبدال: رفع شيء وجعل غيره مكانه مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بهذه النعمة بَعْدَ ذلِكَ وآثر يعني الكفر بالله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
روى الربيع عن أبي العالية في هذه الآية قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلّم عشر سنين خائفا يدعو الى الله سرا وعلانية ثم أمر بالهجرة الى المدينة، فمكث بها هو وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنّا السلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا تغبرّون إلّا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديده» «1» [69] . وأنزل الله سبحانه هذه الآية فأنجز الله وعده وأظهره على جزيرة العرب، فآمنوا ثم تجبّروا وكفروا بهذه النعمة وقتلوا عثمان بن عفان، فغيّر الله سبحانه ما بهم وأدخل الخوف الذي كان رفعه عنهم. وقال مقاتل: لمّا رجع النبي صلى الله عليه وسلّم من الحديبيّة حزن أصحابه فأطعمهم الله نخل خيبر، ووعدهم أن يدخلوا العام المقبل مكة آمنين، وأنزل هذه الآية. قلت: وفيها دلالة واضحة على صحّة خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وإمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم. روى سعيد بن جهمان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الخلافة من بعدي ثلاثون ثم يكون ملكا» «2» [70] . قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وعمر عشرا، وعثمان ثنتي عشرة، وعليّ ستة. وأخبرنا أبو عبد الله عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال: أخبرنا شافع بن محمد قال: حدّثنا ابن الوشّاء قال: حدّثنا ابن إسماعيل البغدادي قال: حدّثنا محمد بن الصباح قال: حدّثنا هشيم بن بشير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الخلافة بعدي في أمّتي في أربع: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ» «3» [71] .
[سورة النور (24) : الآيات 56 إلى 64]
[سورة النور (24) : الآيات 56 الى 64] وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لا تَحْسَبَنَّ يا محمد الَّذِينَ كَفَرُوا هذه قراءة العامة وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على معنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم مُعْجِزِينَ لأنّ الحسبان يتعدّى إلى مفعولين وقال الفرّاء: يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلّم أي لا يحسبنّ محمد الكافرين مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ. قال ابن عباس وجّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو الى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته، فقال: يا رسول الله وددت لو أن اله أمرنا ونهانا في حال الاستيذان فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اللام لام الأمر الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني العبيد والإماء وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ من الأحرار ثَلاثَ مَرَّاتٍ في ثلاثة أوقات مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ للقائلة وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ. روى عبد الرّحمن بن عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلواتكم فإن الله سبحانه قال وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وإنّما العتمة عتمة الإبل، وإنّما خصّ هذه الأوقات لأنّها ساعات الغفلة والخلوة ووضع الثياب والكسوة، فذلك قوله سبحانه ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» [72] .
قرأ أهل الكوفة ثَلاثَ بالنصب ردّا على قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ ورفعه الآخرون على معنى هذه ثلاث عورات لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ يعني العبيد والخدم والأطفال جُناحٌ على الدخول بغير إذن بَعْدَهُنَّ أي بعد هذه الأوقات الثلاثة طَوَّافُونَ أي هم طوّافون عَلَيْكُمْ يدخلون ويخرجون ويذهبون ويجيؤون ويتردّدون في أحوالهم وأشغالهم بغير إذن بَعْضُكُمْ يطوف عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هو منسوخ لا يعمل به اليوم. أخبرنا أبو محمد الرومي قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدّثنا قتيبة قال: حدّثنا عبد العزيز عن عمرو عن عكرمة أنّ نفرا من أهل العراق قالوا لابن عباس: كيف ترى في هذه الآية؟ أمرنا فيها بما أمرنا فلا يعمل بها أحد، قول الله عزّ وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية، فقال ابن عباس: إنّ الله رفيق حليم رؤوف رحيم، يحب الستر، وكان الناس ليست لبيوتهم ستور ولا حجال، فربّما دخل الخادم والولد والرجل على أهله، فأمرهم الله سبحانه وتعالى بالاستيذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحدا يعمل بذلك. وقال آخرون: هي محكمة والعمل بها واجب. روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت الشعبي عن هذه الآية لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قلت: أمنسوخة هي؟ قال: لا والله ما نسخت «1» ، قلت: إنّ الناس لا يعملون بها؟ قال: الله المستعان. وروى أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: إن ناسا تقول: نسخت، والله ما نسخت ولكنها ممّا يتهاون به الناس. وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أي من أحراركم الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات في الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني الأحرار الكبار. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ يعني اللاتي قعدن عن الولد من الكبر فلا يحضن ولا يلدن، واحدتها قاعدة. اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في التزوّج وأيسن من البعولة. فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ عند الرجال يعني جلابيبهن والقناع الذي فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، يدلّ على هذا التأويل قراءة أبيّ بن كعب: أن يضعن من ثيابهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ يعني من غير أن يردن بوضع الجلباب والثياب أن ترى زينتهن،
والتبرّج هو أن تظهر المرأة محاسنها ممّا ينبغي لها أن تستره. وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ فيلبسن جلابيبهنّ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فقال ابن عباس: لمّا أنزل الله سبحانه وتعالى قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهانا الله سبحانه عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيّب، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في، يعني ليس عليكم في مواكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج. وقال سعيد بن جبير والضحاك ومقسم: كان العرجان والعميان يتنزّهون عن مؤاكلة الأصحّاء لأنّ الناس يتقزّزون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقزّزا فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال مجاهد: نزلت هذه الآية ترخيصا للمرضى والزمنى في الأكل من بيوت من سمّى الله سبحانه في هذه الآية وذلك أن قوما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أي بعض من سمّى الله في هذه الآية، فكان أهل الزمانة: يتحرجون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنّه أطعمهم غير مالكيه ويقولون: إنما يذهبون بنا الى بيوت غيرهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وروى عبد الرزاق عن معمّر قال: سألت الزهري عن هذه الآية فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللناكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيّب فأنزلت هذه رخصة لهم. وقال الحسن وابن زيد: يعني لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ في التخلّف عن الجهاد في سبيل الله، قالا: وهاهنا تمام الكلام. وقوله وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ الآية. كلام منقطع عمّا قبله. قال ابن عباس: تحرّج قوم عن الأكل من هذه البيوت لمّا نزل قوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وقالوا: لا يحلّ لأحد منّا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ.
قال ابن عباس: عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته. وقال الضحّاك: يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم. مجاهد وقتادة: من بيوت أنفسكم ممّا اخترتم وملكتم، وقرأ سعيد بن جبير: ملّكتم بالتشديد. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم غازيا وخلّف ملك بن زيد على أهله فلمّا رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرّج من طعامه من غير استيذان بهذه الآية. أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. قال قوم: نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم بنو ليث بن عمرو، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح الى المساء الرواح والشول جفل والأحوال منتظمة تحرجا من أن يأكل وحده، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهذا قول قتادة والضحاك وابن جريج، ورواية الوالبي عن ابن عباس. وروى عطاء الخراساني عنه قال: كان الغنىّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول: والله إنّى لأحتج أن آكل معك أي أتحرّج وأنا غنىّ وأنت فقير، فنزلت هذه الآية. وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلّا مع ضيفهم فرخّص لهم في أن يأكلوا حيث شاؤوا جميعا مجتمعين، أو أشتاتا متفرقين. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ليسلّم بعضكم على بعض كقوله سبحانه وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» . عن الحسن وابن زيد حدّثنا «2» ابن حبيب لفظا في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة قال: حدّثنا أبو حاتم محمد بن حيان البستي قال: حدّثنا محمد بن صالح الطبري قال: حدّثنا الفضل بن سهل الأعرج قال: حدّثنا محمد بن جعفر المدائني قال: حدّثنا ورقاء عن الأعمش
عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم، فإنّ الرجل المسلم إذا مرّ بالقوم فسلّم عليهم فردّوا عليه كان له عليهم فضل درجة بذكره إيّاهم بالسلام، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأطيب» «1» [73] . وحدّثنا أبو القاسم قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي قال: حدّثنا أبو محمد عبد الملك بن محمد بن عبد الوهاب البغوي قال: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني ابن سمعان أن سعيد المقبري أخبره عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إذا وقف أحدكم على المجلس فليسلّم، فإن بدا له أن يقعد فليقعد، وإذا قام فليسلّم، فإنّ الأولى ليست بأحقّ من الآخرة» » [74] . وقال بعضهم: معناه: فإذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلّموا على أهلكم وعيالكم، وهو قول جابر بن عبد الله وطاوس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار، ورواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال: فإن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربّنا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله. حدّثنا «3» ابن حبيب لفظا قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل إملاء قال: حدّثنا أبو نصر اليسع بن زيد بن سهل الرسّي بمكة سنة اثنتين وثمانين ومائتين قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته: لم كسرته؟ وكنت واقفا على رأسه أصبّ على يديه الماء فرفع رأسه فقال «ألا أعلّمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله بلى، قال: من لقيت من أمّتي فسلّم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت فسلّم عليهم يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنّها صلاة الأبرار» «4» [75] . وقال بعضهم: يعني فإذا دخلتم المساجد فسلّموا على من فيها. أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن مهل الصنعاني قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ الآية. قال: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نصب على المصدر أي تحيّون أنفسكم بها تحيّة، وقيل: على الحال
بمعنى تفعلونه تحيّة من عند الله مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ أي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ يجمعهم من حرب أو صلاة في جمعة أو جماعة أو تشاور في أمر نزل لَمْ يَذْهَبُوا لم يتفرّقوا عنه ولم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يا محمد أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي عن أبي حمزة الثمالي في هذه الآية قال: هو يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة، والرجل به العلّة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث يراه، فيعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه إنّما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم. فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أمرهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ في الانصراف وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً. قال ابن عباس: يقول: احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه، فإنّ دعاءه موجب ليس كدعاء غيره. وقال مجاهد وقتادة: لا تدعوه كما يدعو بعضكم بعضا: يا محمد، ولكن فخّموه وشرّفوه وقولوا: يا نبيّ الله، يا رسول الله، في لين وتواضع. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ أي يخرجون، ومنه: تسلّل القطا مِنْكُمْ أيّها المنصرفون عن نبيّكم بغير إذنه لِواذاً أي يستتر بعضكم ببعض ويروغ في خفّة فيذهب، واللواذ مصدر لاوذ بفلان يلاوذ ملاوذة ولواذا، ولو كان مصدرا للذت لقال: لياذا مثل القيام والصيام. وقيل: إنّ هذا في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم لواذا مختفين. فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي أمره وعن صلة، وقيل: معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي قتل عن ابن عباس، عطاء: الزلازل والأهوال، جعفر بن محمد: سلطان جائر يسلّط عليهم ، الحسن: بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وجيع عاجل في الدنيا. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عبيدا وملكا وملكا وخلقا ودلالة على وجوده وتوحيده وكمال قدرته وحكمته. قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
سورة الفرقان
سورة الفرقان مكيّة، وهي ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا، وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة، وسبع وسبعون آية أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة قال: حدّثنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي والحافظ أبو الشيخ عبد الله بن محمد الاصفهاني قالا: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة وهو يؤمن أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، ودخل الجنة بغير حساب» «1» [76] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) تَبارَكَ تفاعل، من البركة، عن ابن عباس، كأنّ معناه: جاء بكل بركة، دليله قول
الحسن: تجيء البركة من قبله، الضحّاك: تعظّم، الخليل: تمجّد، وأصل البركة النّماء والزيادة. وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت يقال: برك الطير على الماء وبرك البعير، ويقال: تبارك الله ولا يقال لله متبارك أو مبارك لأنّه ينتهى في صفاته وأسمائه الى حيث ورد التوقيف. الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ القرآن عَلى عَبْدِهِ محمد صلى الله عليه وسلّم لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ الجنّ والإنس نَذِيراً. قال بعضهم: النذير هو القرآن، وقيل: هو محمد. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ممّا يطلق له صفة المخلوق فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فسوّاه وهيّأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت. وَاتَّخَذُوا يعني عبدة الأوثان مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر بن الحرث وأصحابه إِنْ هَذا ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ اختلقه محمد وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يعني اليهود عن مجاهد، وقال الحسن بن عبيد بن الحضر: الحبشي الكاهن، وقيل: جبر ويسار وعدّاس مولى حويطب بن عبد العزى، قال الله سبحانه وتعالى فَقَدْ جاؤُ يعني ما يلي هذه المقالة ظُلْماً وَزُوراً بنسبتهم كلام الله سبحانه الى الإفك والافتراء وَقالُوا أيضا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ تقرأ عليه بُكْرَةً وَأَصِيلًا. ثمّ قال سبحانه وتعالى ردّا عليهم وتكذيبا لهم قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يعنون محمّدا صلى الله عليه وسلّم يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ يلتمس المعاش «1» لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ يصدّقه فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً داعيا أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ ينفقه فلا يحتاج الى التصرّف في طلب المعاش. أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان يَأْكُلُ مِنْها هو، هذه قراءة العامة، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون أي نأكل نحن. وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً نزلت هذه الآية في قصة ابن أبي أميّة وقد مرّ ذكرها في بني إسرائيل. انْظُرْ يا محمد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى الهدى
ومخرجا من الضلالة فأخبر الله أنّهم متمسّكون بالجهل والضلال عادلون عن الرشد والصواب وهم مع ذلك كانوا مكلّفين بقبول الحق فثبت أنّ الاستطاعة التي بها الضلال غير الاستطاعة التي يحصل بها الهدى والإيمان. تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ أي ممّا قالوا، عن مجاهد، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: يعني خيرا من المشي في الأسواق والتماس المعاش، ثمّ بيّن ذلك الخير ما هو فقال سبحانه وتعالى جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي بيوتا مشيّدة، وسمّي قصرا لأنّه قصر أي حبس ومنع من الوصول إليه. واختلف القرّاء في قوله وَيَجْعَلْ فرفع لامه ابن كثير وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل، وجزمه الآخرون على محلّ الجزاء في: قوله إِنْ شاءَ جَعَلَ. [أخبرنا] «1» أبو عمرو أحمد بن أبي أحمد بن حمدون النيسابوري قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن يعقوب البخاري قال: حدّثنا محمد بن حميد بن فروة البخاري قال: حدّثنا أبو حذيفة إسحاق بن بشر البخاري قال: حدّثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما عيّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالفاقة فقالوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، حزن النبي صلى الله عليه وسلّم لذلك ونزل عليه جبرئيل من عند ربه معزّيا له فقال: السلام عليك يا رسول الله، ربّ العزة يقرئك السلام ويقول لك: (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) ويتّبعون المعاش في الدنيا. قال: فبينا جبرئيل (عليه السلام) والنبي صلى الله عليه وسلّم يتحدّثان إذ ذاب جبرئيل حتى صار مثل الهردة، قيل: يا رسول الله وما الهردة؟ قال: «العدسة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا جبرئيل مالك ذبت حتى صرت مثل الهردة؟ قال: يا محمد فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك، فتحوّل الملك وأنّه إذا فتح باب من السماء لم يكن فتح قبل ذلك فتحوّل الملك، إمّا ان يكون رحمة أو عذابا وإنّي أخاف أن يعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلّم وجبرئيل (عليه السلام) يبكيان إذ عاد جبرئيل فقال: يا محمد أبشر، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربّك، فأقبل رضوان حتى سلّم، ثم قال: يا محمد، ربّ العزة يقرئك السلام- ومعه سفط من نور يتلألأ. ويقول لك ربّك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي صلى الله عليه وسلّم إلى جبرئيل (عليه السلام) كالمستشير له فضرب جبرئيل بيده الأرض وقال: تواضع لله. فقال: «يا رضوان لا حاجة لي فيها، الفقر أحبّ اليّ، وأن أكون عبدا صابرا شكورا» فقال رضوان: أصبت أصاب الله بك. وجاء نداء من السماء فرفع جبرئيل رأسه فإذا السموات قد فتحت أبوابها الى العرش،
[سورة الفرقان (25) : الآيات 11 إلى 20]
وأوحى الله سبحانه وتعالى الى جنة عدن أن تدلي غصنا من أغصانها عليه عذق عليه غرقة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف من ياقوتة حمراء، فقال جبرئيل: يا محمد ارفع بصرك فرفع فرأى منازل الأنبياء وغرفهم وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلا له خاصة ومناد ينادي: أرضيت يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «رضيت، فاجعل ما أردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة» «1» [77] . ويروون أنّ هذه الآية أنزلها رضوان (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) . [سورة الفرقان (25) : الآيات 11 الى 20] بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً أي غليانا وفورانا كالغضبان إذا غلا صدره من الغضب وَزَفِيراً ومعنى قوله: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً أي صوت التغيّظ من التلهّب والتوقّد، وقال قطرب: التغيظ لا يسمع وإنّما المعنى: رأوا لها تغيّظا وسمعوا لها زفيرا. قال الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلّدا سيفا ورمحا «2» أي حاملا رمحا. أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدّثنا أبو جعفر بن أبي شيبة قال: حدّثني عمي أبو بكر قال: حدّثنا محمد بن يزيد عن الأصبغ بن زيد الورّاق عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك عن رجل من أصحاب رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«من كذب عليّ متعمّدا فليتبّوأ بين عيني جهنم مقعدا فقال: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم ألم تسمع إلى قول الله سبحانه إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً» «1» [78] . وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً قال ابن عباس: يضيق عليهم كما يضيق الزجّ في الرمح. وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي حاتم قال: قرئ على يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني نافع عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه سئل عن قول الله سبحانه وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ قال: «والذي نفسي بيده إنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، مقرّنين مصفّدين، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال» «2» [79] . ومنه قيل للحبل قرن، وقيل: مع الشياطين في السلاسل والأغلال. دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ويلا عن ابن عباس، هلاكا عن الضحّاك. روى حمّاد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: أوّل من يكسى حلّة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه وهو يقول: يا ثبوره وهم ينادون يا ثبورهم حتى يصفّوا «3» على النار فيقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذلِكَ الذي ذكرت من صفة النار وأهلها خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا وذلك أنّ المؤمنين سألوا ربّهم ذلك في الدنيا حين قالوا رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «4» فقال الله سبحانه كان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد وعدا وعدهم على طاعته إيّاه في الدنيا ومسألتهم إيّاه ذلك «5» . وقال بعض أهل العربية: يعني وعدا واجبا وذلك أنّ المسؤول واجب وإن لم يسئل كالّذين قال: ونظير ذلك قول: العرب لأعطينّك ألفا وعدا مسؤولا بمعنى أنه واجب لك فتسأله. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حنش «6» المقري قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل المقري قال: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا جعفر بن مسافر قال: حدّثنا يحيى بن حسان قال: حدّثنا رشد بن عمرو بن الحرث، عن محمد بن كعب القرظي في قوله سبحانه وتعالى كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا
قال: الملائكة تسأل لهم ذلك قولهم وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «1» . وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ بالياء أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وأيوب وأبو عبيد وأبو حاتم وحفص، والباقون بالنون وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الملائكة والإنس والجنّ عن مجاهد، وقال عكرمة والضحّاك: يعني الأصنام. فَيَقُولُ بالنون ابن عامر، غيره: بالياء، لهؤلاء المعبودين من دون الله أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أي ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك بل أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ، وقرأ الحسن وأبو جعفر: أَنْ نَتَّخَذَ بضم النون وفتح الخاء. قال أبو عبيد: هذا لا يجوز لأنّ الله سبحانه ذكر (من) مرّتين، ولو كان كما قالوا لقال: أن نتّخذ من دونك أولياء. وقال غيره: (من) الثاني صلة. وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ في الدنيا بالصحة والنعمة حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي تركوا القرآن فلم يعملوا بما فيه، وقيل: الرسول، وقيل: الإسلام، وقيل: التوحيد، وقيل: ذكر الله سبحانه وتعالى. وَكانُوا قَوْماً بُوراً أي هلكى قد غلب عليهم الشقاية والخذلان، وقال الحسن وابن زيد: البور: الذي ليس فيه من الخير شيء، قال أبو عبيد: وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ومنه بوار الأيم وبوار السلعة، وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر. قال ابن الزبعرى: يا رسول المليك إنّ لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور «2» وقيل: هو جمع البائر، ويقال: أصبحت منازلهم بورا أي خالية لا شيء فيها، فيقول الله سبحانه لهم عند تبرّي المعبودين منهم فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ أنّهم كانوا آلهة فَما تَسْتَطِيعُونَ قرأه العامة بالياء يعني الآلهة، وقرأ حفص بالتاء يعني العابدين صَرْفاً وَلا نَصْراً أي صرف العذاب عنهم ولا نصر أنفسهم. وقال يونس: الصرف: الحيلة ومنه قول العرب: إنه ليتصرف أي يحتال. وقال الأصمعي: الصرف: التوبة والعدل: الفدية. وَمَنْ يَظْلِمْ أي يشرك مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا محمد مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ قال أهل المعاني: إلّا قيل أنّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 إلى 34]
دليله قوله سبحانه ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ وقيل: معناه إلّا من أنّهم، وهذا جواب لقول المشركين مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ. وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً فالمريض فتنة للصحيح، والمبتلى فتنة للمعافى، والفقير فتنة للغني، فيقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان، ويقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيّا مثل فلان، وقال ابن عباس: إنّي جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكن قدّرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم. أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف ببخارى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جمعان قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا القاسم بن يحيى عن الحسن بن دينار عن الحسن عن أبي الدرداء أنّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للعالم من الجاهل، ويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، بعضهم لبعض فتنة فهو قوله سبحانه وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» [80] . أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً «1» قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحرث وذلك أنّهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة ومهجع مولى عمر وجبر غلام ابن الحضرمي ودونهم قالوا: أنسلم فنكون مثل هؤلاء فانزل الله سبحانه يخاطب هؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ يعني على هذه الحال من الشدّة والفقر، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر ويجزع، وبمن يؤمن وبمن لا يؤمن. [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 34] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فتخبرنا أنّ محمدا صادق محقّ أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بذلك نظيرها قوله سبحانه وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ الى قوله وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا. قال الله تعالى لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بهذه المقالة وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً قال مقاتل: غلوّا في القول، والعتو: أشدّ الكفر وأفحش الظلم. يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ عند الموت وفي القيامة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ للكافرين وَيَقُولُونَ يعني الملائكة للمجرمين حِجْراً مَحْجُوراً أي حراما محرما عليكم البشرى بخير، وقيل: حرام عليكم الجنة، وقال بعضهم: هذا قول الكفار للملائكة، قال ابن جريج: كانت العرب إذا نزلت بهم شديدة أو رأوا ما يكرهون قالوا: حجرا محجورا، فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا، وقال مجاهد: يعني عوذا معاذا، يستعيذون من الملائكة. وَقَدِمْنا وعمدنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً باطلا لا ثواب له لأنّهم لم يعملوه لله سبحانه وإنّما عملوه للشيطان، واختلف المفسّرون في الهباء فقال بعضهم: هو الذي يرى في الكوى من شعاع الشمس كالغبار ولا يمسّ بالأيدي ولا يرى في الظلّ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد. وقال قتادة وسعيد بن جبير: هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، وقال ابن زيد: هو الغبار، والوالبي عن ابن عباس: هو الماء المهراق، مقاتل: ما يسطع من حوافر الدواب، والمنثور: المتفرق. أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا من هؤلاء المشركين المتكبرين المفتخرين بأموالهم وَأَحْسَنُ مَقِيلًا موضع قائلة وهذا على التقدير، قال المفسرون: يعني أنّ أهل الجنة لا يمر بهم في الآخرة إلّا قدر ميقات النهار من أوله إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة. قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وقرأ: ثم ان مقيلهم لإلى الجحيم، هكذا كان يقرأها، وقال ابن عباس في هذه الآية: الحساب من ذلك اليوم في أوّله، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة. وروى ابن وهب عن عمرو بن الحرث أنّ سعيدا الصوّاف أو الصراف حدّثه أنّه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنّهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس، وقرأ هذه الآية. وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ قرأ أبو عمر وأهل الكوفة بتخفيف الشين على الحذف
والتخفيف هاهنا وفي سورة ق، وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما على معنى تنشق السماء بالغمام أي عن الغمام، والباء وعن يتعاقبان كما يقال: رميت عن القوس وبالقوس بمعنى واحد. وقال المفسّرون: وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ «1» . وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا هكذا قراءة العامة، وقرأ ابن كثير وننزل بنونين الملائكة نصب الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ خالصا وبطلت ممالك غيره وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً صعبا شديدا نظيرها قوله سبحانه فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ «2» والخطاب يدلّ على أنّه على المؤمنين يسير. وفي الحديث: إنّه ليهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة صلّاها في دار الدنيا. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ الآية. نزلت في عقبة بن أبي معيط وأبي بن خلف وكانا متحابّين وذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلّا صنع طعاما فدعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلّم، فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاما فدعا الناس ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الى طعامه، فلمّا قرّب الطعام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله» فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من طعامه وكان أبىّ بن خلف غائبا، فلمّا أخبر بالقصة قال: صبأت يا عقبة: قال: لا والله ما أصبأت ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي ألّا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم. فقال أبىّ: ما أنا بالذي أرضى منك أبدا إلّا أن تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ عنقه، ففعل ذلك عقبة وأخد رحم دابّة فألقاها بين كتفيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف» [81] . فقتل عقبة يوم بدر صبرا، وأما أبىّ بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلّم بيده يوم أحد في المنابزة، وأنزل الله فيهما هذه الآية «3» . وقال الضحّاك: لمّا بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاد بزاقه في وجهه وانشعب شعبتين فأحرق خدّيه، فكان أثر ذلك فيه حتّى الموت.
وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: كان أبي بن خلف يحضر النبي صلى الله عليه وسلّم ويجالسه ويسمع إلى كلامه من غير أن يؤمن له فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك، فنزلت هذه الآية، وقال الشعبي: كان عقبة بن أبي معيط خليلا لأميّة بن خلف فأسلم عقبة فقال أميّة: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمدا، فكفر وارتدّ لرضا أميّة فأنزل الله سبحانه وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يعني الكافر عقبة بن أبي معيط «1» لأجل طاعة خليله الذي صدّه عن سبيل ربّه يَقُولُ يا لَيْتَنِي وفتح تاءه أبو عمرو اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ محمد صلى الله عليه وسلّم سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني أبي بن خلف الجمحي لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ يعني القرآن والرسول بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ وهو كلّ متمرّد عات من الجانّ، وكلّ من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصيته فهو شيطان لِلْإِنْسانِ خَذُولًا عند نزول البلاء والعذاب به. وحكم هذه الآيات عامّ في كلّ متحابّين اجتمعا على معصية الله، لذلك قال بعض العلماء: أنشدنيه أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق قال: أنشدنا أبو وائلة عبد الرحمن بن الحسين: تجنّب قرين السوء واصرم حباله ... فإن لم تجد عنه محيصا فداره وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه ... تنل منه صفو الودّ ما لم تماره وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا ... إذا اشتعلت نيرانه في عذاره «2» وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو بكر محمد بن عبد الله الحامدي: اصحب خيار الناس حيث لقيتهم ... خير الصحابة من يكون عفيفا والناس مثل دراهم ميّزتها ... فوجدت فيها فضّة وزيوفا «3» وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر المفسّر قال: حدّثنا أبو سعيد عبد الرّحمن ابن محمد بن حسكا قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدّثنا عاصم عن أبي كبشة قال: سمعت أبا موسى يقول على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم ينلك يعبق بك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل القين إن لم يحرق ثيابك يعبق بك من ريحه. وحدّثنا أبو القاسم بن حبيب لفظا سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو حاتم محمد
ابن حيان بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن أبي علي الخلادي قال: حدّثنا عبد الله بن الصقر السكري قال: حدّثنا وهب بن محمد النباتي قال: سمعت الحرث بن وجيه يقول: سمعت مالك ابن دينار يقول: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجّار. وَقالَ الرَّسُولُ يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي قالوا فيه غير الحق فزعموا أنّه سحر وشعر وسمر من الهجر، وهو القول السيّئ، عن النخعي ومجاهد. وقال الآخرون: هو من الهجران أي أعرضوا عنه وتركوه فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه. أخبرنا أبو الطيب الربيع بن محمد الحاتمي وأبو نصر محمد بن علي بن الفضل الخزاعي قالا: حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال: حدّثنا أبو القاسم الخضر بن أبان القرشي قال: حدّثنا أبو هدية إبراهيم بن هدية قال: حدّثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من تعلّم القرآن وعلّمه وعلّق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلّقا به يقول: يا ربّ العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» . كَذلِكَ أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء ومن مشركي قومك كذلك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أي من مشركي قومه، فاصبر لأمري كما صبروا فإني هاد بك وناصرك على من ناواك. وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً على الحال والتمييز وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ على محمد الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كما أنزلت التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى جملة واحدة قال الله سبحانه كَذلِكَ فعلنا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لنقوّي بها قلبك فتعيه وتحفظه، فإنّ الكتب نزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون، والقرآن أنزل على نبيّ أمّي ولأنّ من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرّقناه ليكون أوعى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأيسر على العالم به. وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا قال ابن عباس: ورسّلناه ترسيلا، وقال النخعي والحسن: فرّقناه تفريقا آية بعد آية وشيئا بعد شيء، وكان بين أوله وآخره نحو ثلاث وعشرين سنة، وقال ابن زيد: وفسّرناه تفسيرا، والترتيل: التبيين في ترسّل وتثبّت. وَلا يَأْتُونَكَ يا محمد يعني هؤلاء المشركين بِمَثَلٍ في إبطال أمرك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ أي بما تردّ به ما جاءوا به من المثل وتبطله. وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً بيانا وتفصيلا، ثمّ وصف حال المشركين وبيّن حالهم يوم القيامة فقال الَّذِينَ يعني هم الذين يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ فيساقون ويجرّون إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 إلى 52]
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خرجة قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا عثمان قال: حدّثنا بشر بن المفضل عن علي بن يزيد عن أوس بن أوس عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدوابّ، وثلث على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا» «1» [82] . [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 52] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً أي معينا وظهيرا فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القبط، وفي الآية متروك استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها: فكذّبوهما. فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً فأهلكناهم إهلاكا وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً عبرة وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ في الآخرة عَذاباً أَلِيماً سوى ما حلّ بهم من عاجل العذاب. وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ اختلفوا فيهم، فقال ابن عباس: كانوا أصحاب آبار، وقال وهب بن منبه: كانوا أهل بئر قعودا عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام فوجّه الله إليهم شعيبا يدعوهم الى الإسلام فأتاهم ودعاهم، فتمادوا في طغيانهم وفي أذى شعيب
فحذّرهم الله عقابه، فبينا هم حول البئر في منازلهم انهارت البئر فانخسفت بهم وبديارهم ورباعهم فهلكوا جميعا. قتادة: الرس: قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله، وقال بعضهم: هم بقية هود قوم صالح، وهم أصحاب البئر التي ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ «1» . قال سعيد بن جبير وابن الكلبي والخليل: كان لهم نبيّ يقال له حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل يقال له فتح، مصعده في السماء ميل، وكانت العنقاء تنتابه وهي أعظم ما تكون من الطير وفيها من كل لون، وسمّوها العنقاء لطول عنقها، وكانت تكون في ذلك الجبل تنقضّ على الطير تأكلها، فجاعت ذات يوم فأعوزتها الطير فانقضّت على صبي فذهبت، فسمّيت عنقاء مغرب لأنها تغرب بما تأخذه وتذهب به، ثم إنّها انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين، فطارت بها فشكوا الى نبيّهم فقال: اللهم خذها واقطع نسلها، فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر، فضربتها العرب في أشعارهم، ثم إنهم قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله. وقال كعب ومقاتل والسدي: هم أصحاب يس، والرسّ بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النّجار، فنسبوا لها وهم الرسّ، ذكرهم الله سبحانه في سورة يس، وقيل: هم أصحاب الأخدود والرسّ هو الأخدود الذي حفروه، وقال عكرمة: هم قوم رسّوا نبيهم في بئر، دليله ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة لعبد أسود وذلك أن الله سبحانه بعث نبيّا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلّا ذلك الأسود، ثمّ إنّ أهل القرية عدوا على ذلك النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها، ثم أطبق عليه بحجر ضخم، وكان ذلك العبد الأسود يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه فيشري به طعاما وشرابا، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة يعينه الله عليها فيدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردّها كما كانت. قال: وكان كذلك ما شاء الله أن يكون ثم إنّه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلمّا أراد أن يحتملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم إنه هبّ فتمطّى فتحوّل لشقّه الآخر فاضطجع، فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنّه هبّ فاحتمل حزمته ولا يحسب إلّا أنه نام ساعة من نهار، فجاء الى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع، ثم ذهب الى الحفرة في موضعها التي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه فآمنوا به وصدّقوه.
قال: وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون له: ما ندري، حتى قبض الله ذلك النبي فأهب الله الأسود من نومته بعد ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة» «1» [83] . قلت: قد ذكر في هذا الحديث انهم آمنوا بنبيهم واستخرجوه من حفرته فلا ينبغي ان يكونوا المعنيين بقوله وَأَصْحابَ الرَّسِّ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أصحاب الرسّ أنهم دمّرهم تدميرا إلّا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وأمنوا به فيكون ذلك وجها. وقد ذكر عن أمير المؤمنين «2» علي رضي الله عنه في قصة أصحاب الرس ما يصدّق قول عكرمة وتفسيره، وهو ما روى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنّ رجلا من أشراف بني تميم يقال له عمرو أتاه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرسّ في أيّ عصر كانوا؟ وأين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث الله سبحانه إليهم رسولا؟ وبماذا أهلكوا؟ فإنّي أجد في كتاب الله سبحانه ذكرهم ولا أجد خبرهم، فقال له علي رضي الله عنه: لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك ولا يحدّثك به أحد بعدي. وكان من قصتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها دوشاب كانت أنبتت لنوح عليه السلام بعد الطوفان، وإنّما سمّوا أصحاب الرسّ لأنهم رسّوا نبيهم في الأرض وذلك قبل سليمان بن داود، وكان له اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق، وبهم سمّي ذلك النهر، ولم يكن يومئذ في الأرض أغزر منه ولا أعذب، ولا قرى أكثر سكانا ولا أعمر منها، وكانت، أعظم مداينهم اسفندماه وهي التي ينزلها ملكهم، وكان يسمّى نركوز بن عانور بن ناوش بن سارن ابن نمرود بن كنعان، وبها العين والصنوبرة وقد غرسوا في كل قرية منها حبة من طلع تلك الصنوبرة فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة، وحرموا ماء العين والأنهار فلا يشربون منها هم ولا أنعامهم، ومن فعل ذلك قتلوه، ويقولون: هي حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن يقطف من حباتها، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الذي عليه قراهم، وقد جعلوا في كل شهر من السنة في كل قرية عيدا تجتمع إليه أهلها ويضربون على الشجرة التي بها كلّة من حرير فيها أنواع الصور، ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قربانا للشجرة ويشعلون فيها النيران بالحطب، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتاره في الهواء، وحال بينهم وبين النظر الى السماء، خرّوا للشجرة سجّدا يبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم.
وكان الشيطان يجيئ فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي: إني قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفسا وقرّوا عينا، فيرفعون عند ذلك رؤوسهم ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم، ثم ينصرفون حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقا، ويقرّبون لها الذبائح أضعاف ما قرّبوا للشجرة التي في قراهم، فيجيء إبليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكا شديدا ويتكلم من جوفها كلاما جهوريا يعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعد بهم الشياطين كلّها، فيرفعون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون من الشرب والعزف، فيكونون على ذلك اثنا عشر يوما ولياليها بعدد أعيادهم سائر السنة ثم ينصرفون. فلمّا طال كفرهم بالله سبحانه وعبادتهم غيره بعث الله سبحانه إليهم نبيا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم الى عبادة الله سبحانه وتعالى ومعرفة ربوبيته فلا يتبعونه، فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغي والضلال، وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح وحضر عند قريتهم العظمى قال: يا ربّ إنّ عبادك أبوا إلّا أن يكذّبوني ويكفروا بك وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضر، فأيبس شجرهم اجمع وأرهم قدرتك وسلطانك، فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّه، فهالهم ذلك وقطعوا بها وصاروا فرقتين: فرقة قالت سحر آلهتكم هذا الرجل الذي زعم أنه رسول ربّ السماء والأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه. وفرقة قالت: لا بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيه ويدعوكم الى عبادة غيرها، فحجبت حسنها وبهاءها لكي تضبوا لها فينتصروا منه، فأجمع رأيهم على قتله فاتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثم أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرابخ، ونزحوا ما فيها من الماء ثم حفروا في قرارها بئرا ضيقة المدخل عميقة، وأرسلوا فيها نبيّهم وألقموا فاها صخرة عظيمة ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا: نرجو الآن أن ترضى عنّا آلهتنا إذ رأت أنّا قد قتلنا من كان يقع فيها ويصد عن عبادتها ودفنّاه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لها نورها ونضرتها كما كان، فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيّهم عليه السلام وهو يقول: سيّدي قد ترى ضيق مكاني وشدّة كربي فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي، وعجّل قبض روحي ولا تؤخّر إجابة دعوتي حتى مات عليه السلام. فقال الله تعالى لجبرئيل: إنّ عبادي هؤلاء غرّهم حلمي وآمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي، وأنا المنتقم ممّن عصاني ولم يخش عقابي، وإنّي حلفت لأجعلنهم عبرة ونكالا للعالمين، فلم يرعهم وهم في عيدهم إلّا ريح عاصف شديدة الحمرة قد عروا عنها وتحيروا فيها، وانضم بعضهم إلى بعض ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت تتوقد وأظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبّة حمراء تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار نعوّذ بالله من غضبه ودرك نقمته.
وقال بعض أهل العلم بأخبار الماضين وسير المتقدمين: بلغني أنّه كان رسّان: أمّا أحدهما فكان أهله أهل بدو وعمود وأصحاب مواشي فبعث الله إليهم رسولا فقتلوه، ثم بعث إليهم رسولا آخر وعضده بولي فقتل الرسول وجاهدهم الولي حتى أفحمهم وكانوا يقولون إلهنا في البحر وكانوا على شفيره، وأنّه كان يخرج إليهم من البحر شيطان في كل شهر خرجة فيذبحون عنده ويجعلونه عيدا فقال لهم الولي: أرأيتكم إن خرج إلهكم الذي تعبدونه فدعوته فأجابني وأمرته فأطاعني أتجيبونني الى ما دعوتكم إليه؟ قالوا: بلى فأعطوه عهودهم ومواثيقهم على ذلك فانتظروا حتى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا أربعة أحوات وله عنق مستعلية، وعلى رأسه مثل التاج، فلمّا نظروا إليه خرّوا سجّدا وخرج الولي إليه فقال: ائتني طوعا أو كرها باسم الله الكريم فنزل عند ذلك عن أحواته فقال له الولي: ائتني عليهن لئلّا يكون من القوم في أمره شك، فأتى الحوت وأتين به حتى أفضن الى البر يجرّونه ويجرّهم، فكذبوه بعد ذلك فأرسل الله عليهم ريحا فقذفهم في البحر وقذف في البحر مواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضة وآنية، فأتى الولي الصالح الى البحر حتى أخذ الذهب والفضة والأواني فقسمها على أصحابه بالسويّة، وانقطع نسل هؤلاء القوم. وأما الآخر فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ ينسبون إليه فكان فيهم أنبياء كثيرة قل يوم يقوم فيهم نبيّ إلّا قتل، وذلك النهر بمنقطع أذربيجان بينهما وبين أرمينية فإذا قطعته مدبرا ذاهبا دخلت في حدّ أرمينية، وإذا قطعته مقبلا دخلت حدّ أذربيجان وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان ومن قدّامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران، وهم كانوا يعبدون الحواري العذارى فإذا تمّت لإحداهن ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها. وكان عرض نهرهم ثلاث فراسخ وكان يرتفع في كل يوم وليلة حتى بلغ أنصاف الجبال التي حوله، وكان لا ينصب في بر ولا بحر، إذا خرج من حدّهم يقف ويدور ثم يرجع، إليهم فبعث الله سبحانه إليهم ثلاثين نبيّا في شهر واحد فقتلوهم جميعا، فبعث الله إليهم نبيّا وأيّده بنصره وبعث معه وليّا فجاهدهم في الله حقّ جهاده ونابذوه على سواء، فبعث الله ميكائيل وكان ذلك في أوان وقوع الحب في الزرع وكانوا إذ ذاك أحوج ما كانوا إلى الماء ففجر نهرهم في البحر، فانصبّ ما في أسفله وأتى عيونها من فوق فسدّها. وبعث الله أعوانه من الملائكة خمسمائة ألف ففرّقوا ما بقي في وسط النهر، ثم أمر الله سبحانه جبرئيل، فنزل فلم يدع في أرضهم عينا لا ماء ولا نهر إلّا أيبسه بإذن الله تعالى، وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشي فأماتها ربضة واحدة، وأمر الرياح الأربع الجنوب والشمال والصبا والدبور فقصمت ما كان لهم من متاع، وألقى الله عليهم السبات ثم خفقت الرياح الأربع بما كان من ذلك المتاع أجمع، فنهبته في رؤوس الجبال وبطون الأودية.
فأما ما كان من حليّ أو تبر أو آنية فإن الله سبحانه أمر الأرض فابتلعته فأصبحوا ولا ماشية عندهم ولا مال يعودون إليه ولا ماء يشربونه، وأصبحت زروعهم يابسة فآمن بالله عند ذلك قليل منهم وهداهم الله سبحانه إلى غار في جبل له طريق الى خلفه، فنجوا وكانوا أحد وعشرين رجلا وأربع نسوة وصبيّين، وكان عدّة الباقين من الرجال والنساء والذراري ستمائة ألف فماتوا عطشا وجوعا، ولم يبق منهم باقية، ثم عاد القوم المؤمنون الى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها فدعوا الله عند ذلك مخلصين أن يجيئهم بزرع وماشية وماء ويجعله قليلا لئلّا يطغوا، فأجابهم الله سبحانه الى ذلك لما علم من صدقهم، وأطلق لهم نهرهم وزادهم على ما سألوا. فقام أولئك بطاعة الله ظاهرة وباطنة حتى مضى أولئك القوم وحدث من نسلهم بعدهم قوم أطاعوا الله في الظاهر ونافقوا في الباطن فأملى الله لهم، ثم كثرت معاصيهم فبعث الله سبحانه عليهم عدوّهم فأسرع فيهم القتل فبقيت شرذمة منهم، فسلّط الله عليهم الطاعون فلم يبق منهم أحدا، وبقي نهرهم ومنازلهم مائتي عام لا يسكنها أحد. ثم أتى الله سبحانه بقرن بعد ذلك فنزلوها فكانوا صالحين سنين ثم أحدثوا بعد ذلك فاحشة جعل الرجل يدعو ابنته وأخته وزوجته فينيكها جاره وصديقه وأخوه يلتمس بذلك البر والصلة، ثم ارتفعوا من ذلك الى نوع آخر استغنى الرجل بالرجل وتركوا النساء حتى شبقن فجاءتهن شيطانة في صورة امرأة وهي الدلهاث بنت إبليس وهي أخت الشيطان، كانا في بيضة واحدة فشبهت الى النساء ركوب بعضها الى بعض وعلّمتهن كيف يصنعن، فأصل ركوب النساء بعضهن بعضا من الدلهاث، فسلّط الله سبحانه على ذلك القرن صاعقة من أول الليل وخسفا في آخر الليل وصيحة مع الشمس، فلم يبق منهم باقية وبادت مساكنهم. ويشهد بصحّة بعض هذه القصة ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه قال: حدّثنا عبد الله بن جامع قال: حدّثنا عثمان بن خرزاذ قال: حدّثنا سلمان بن عبد الرّحمن قال: حدّثنا الحكم بن يعلى بن عطاء قال: حدّثنا معاوية بن عمار الدهني عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله وَأَصْحابَ الرَّسِّ قال: السحاقات. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل الدينوري قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن مالك السوسي قال: حدّثنا نصر بن حماد قال: حدّثنا عمر بن عبد الرّحمن عن مكحول عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من أشراط الساعة أن يستكفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق» «1» [84] .
والرسّ في كلام العرب: كل محفور مثل البئر والمعدن والقبر ونحوها وجمعه رساس، قال الشاعر: سبقت إلى فرط بأهل تنابلة ... يحفرون الرساسا «1» وقال أبو عبيد: الرسّ: كلّ ركية لم تطو بالحجارة والآجر والخشب. وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ في إقامة الحجّة فلم نهلكهم إلّا بعد الإعذار والإنذار وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أهلكنا إهلاكا، وقال المؤرخ: قال الأخفش: كسّرنا تكسيرا. وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني الحجارة وهي قرية قوم لوط وكانت خمس قرى فأهلك الله سبحانه أربعا وبقيت الخامسة، واسمها صغر وكان أهلها لا يعملون ذلك العمل الخبيث. أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها إذا مرّوا بها في أسفارهم فيعتبرون ويتذكروا. قال الله سبحانه بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ يخافون نُشُوراً بعثا وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً نزلت في أبي جهل كان إذا مرّ بأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال مستهزئا أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا قد كاد يصدّنا عن عبادتها لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها لصرفنا عنها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا وهذا وعيد لهم أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وذلك أنّ الرجل من المشركين كان يعبد الحجر أو الصنم، فإن رأى أحسن منه رمى به وأخذ الآخر فعبده، قال ابن عباس: الهوى إله يعبد من دون الله. أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا من الخروج إلى هذا الفساد، نسختها آية الجهاد أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ما يقول: سماع طالب للإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ ما يعاينون من الحجج والأعلام إِنْ هُمْ ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأنّ البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها التي تعلفها وتعهدها، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربّهم الذي خلقهم ورزقهم. أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ معناه ألم تر إلى مدّ ربك الظل، وهو ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس وإنّما جعله ممدودا لأنه لا شمس معه، كما قال في ظل الجنة (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) إذ لم يكن معه شمس، وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً دائما ثابتا لا يزول ولا تذهبه الشمس. قال أبو عبيد: الظلّ ما نسخته الشمس وهو بالغداة والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال، سمّي فيئا لأنه من جانب المشرق الى جانب المغرب ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ أي على
الظل دَلِيلًا ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عرف الظل إذ الأشياء تعرف بأضدادها، والظل يتبع الشمس في طوله وقصره كما يتبع السائر الدليل، فإذا ارتفعت الشمس قصر الظل وان انحطّت طال ثُمَّ قَبَضْناهُ يعني الظل إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً بالشمس التي يأتي بها فتنسخه، ومعنى قوله يَسِيراً أي خفيفا سريعا، والقبض: جمع الأجزاء المنبسطة، وأراد هاهنا النقل اللطيف. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي سترا تستترون وتسكنون فيه وَالنَّوْمَ سُباتاً راحة لأبدانكم وقطعا لعملكم، وأصل السبت القطع ومنه يوم السبت والنّعال السبتية وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي يقظة وحياة تنشرون فيه وتنتشرون لأشغالكم وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً وهو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ولم يقل ميتة لأنّه رجع به الى المكان والموضع، قال كعب: المطر روح الأرض وَنُسْقِيَهُ قرأه العامة بضم النون، وروى المفضل والبرجمي عن عاصم بفتح النون وهي قراءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً والأناسي جمع الإنسان، وأصله أناسين مثل بستان وبساتين فجعل الباء عوضا من النون، وإن قيل: هو أيضا مذهب صحيح كما يجمع القرقور قراقير وقراقر. أخبرني الحسن بن محمد الفنجوي قال: حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي، حدّثنا الحسن ابن علوي، حدّثنا إسحاق بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: حدّثنا ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل كلّهم قالوا وبلّغوا به ابن مسعود: إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ليس من سنة بأمطر من أخرى ولكنّ الله قسّم هذه الأرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر، ينزل منه كلّ سنة بكيل معلوم ووزن معلوم، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك الى الفيافي والبحار» «1» [85] . وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ يعني المطر بَيْنَهُمْ عاما بعد عام وفي بلدة دون بلدة، وقيل: صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ وابلا وطشّا ورهاما ورذاذا، وقيل: التصريف راجع الى الريح. لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أى جحودا، وقيل: هو قولهم مطر كذا وكذا وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً رسولا ولقسّمنا النذير بينهم كما قسّمنا المطر، فحينئذ يخفّ عليك أعباء النبوّة، ولكنّا حمّلناك ثقل نذارة جميع القرى لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والهيبة والدرجة الرفيعة. فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من عبادة آلهتهم ومقاربتهم ومداهنتهم وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن جِهاداً كَبِيراً.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 53 إلى 77]
[سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 77] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلطهما وحلّى وأفاض أحدهما في الآخر، وأصل المرج: الخلط والإرسال، ومنه قوله سبحانه فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ «1» وقول النبي صلى الله عليه وسلّم لعبد الله ابن عمر: «كيف بك يا عبد الله إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا» «2» [86] وشبّك بين أصابعه ، ويقال: مرجت دابّتي مرجها إذا أرسلتها في المرعى وخلّيتها تذهب حيث شاءت، ومنه قيل للروضة مرج، قال العجاج: رعى بها مرج ربيع ممّرجا
قال ابن عباس والضحاك ومقاتل: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلع أحدهما على الآخر هذا عَذْبٌ فُراتٌ شديد العذوبة وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً حاجزا بقدرته وحكمته لئلّا يختلطا وَحِجْراً مَحْجُوراً سترا ممنوعا يمنعهما ف لا يَبْغِيانِ ولا يفسد الملح العذب. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً قال علىّ بن أبي طالب: النسب ما لا يحلّ نكاحه، والصهر ما يحلّ نكاحه ، وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل: النسب سبعة والصهر خمسة، وقرءوا هذه الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» الى آخرها. أخبرني أبو عبد الله [القسايني] قال: أخبرنا أبو الحسن النصيبي القاضي قال: أخبرنا أبو بكر السبيعي الحلبي قال: حدّثنا علي بن العباس المقانعي قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا محمد بن عمرو قال: حدّثنا حسين الأشقر قال: حدّثنا أبو قتيبة التيمي قال: سمعت ابن سيرين يقول في قول الله سبحانه وتعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً قال: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلّم وعلي بن أبي طالب، زوج فاطمة عليّا وهو ابن عمّه وزوج ابنته فكان نسبا وصهرا «2» . وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ يعني هؤلاء المشركين مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه وَلا يَضُرُّهُمْ إن تركوه وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً أي معينا للشيطان على ربّه، وقيل: معناه وكان الكافر على ربّه هيّنا ذليلا من قول العرب: ظهرت به إذا جعلته خلف ظهرك فلم تتلفّت إليه. وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ فيقولون: إنّما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتّبعه كيلا نعطيه من أموالنا شيئا إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. قال أهل المعاني: هذا أمر الاستثناء المنقطع، مجازه لكن مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بإنفاقه ماله في سبيله، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي اعبده وصلّ له شكرا منك له على نعمه، وقيل: احمده منزّها له عمّا لا يجوز في وصفه، وقيل: قل: سبحان الله والحمد لله وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً فيجازيهم بها الَّذِي في محل الخفض على نعت الحي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فقال بينهما وقد جمع السموات لأنه أراد الصنفين والشيئين كقول القطامي:
ألم يحزنك أن حبال قيس ... وتغلب قد تباينتا انقطاعا «1» أراد وحبال تغلب فثنّى والحبال جمع لأنّه أراد الشيئين والنوعين، وقال آخر: إنّ المنيّة والحتوف كلاهما ... توفي المخارم يرقبان سوادي «2» ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً أي فسل خبيرا بالرحمن، وقيل: فسل عنه خبيرا وهو الله عز وجل، وقيل: جبرئيل (عليه السلام) ، الباء بمعنى عن لقول الشاعر: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب «3» أي عن النساء. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا قرأ حمزة والكسائي بالياء يعنيان الرحمن، وقرأ غيرهما تَأْمُرُنا بالتاء يعنون لما تأمرنا أنت يا محمد وَزادَهُمْ قول القائل لهم: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ... نُفُوراً عن الدين والإيمان، وكان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه الى السماء وقال: إلهي زادني خضوعا ما زاد أعداءك نفورا. تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً يعني منازل الكواكب السبعة السيارة وهي اثنا عشر برجا: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كل واحد منهما ثلاثة بروج تسمى المثلثات، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. واختلفت أقاويل أهل التأويل في تفسير البروج. فاخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: حدّثني محمد بن الحسين بن أبي الشيخ قال: حدّثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس قال: حدّثني أبي عن عطية العوفي في قوله سبحانه تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قال: قصورا فيها الحرس، دليله قوله وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «4» .
وقال الأخطل: كأنها برج رومي يشيّده ... بان بجصّ وآجرّ وأحجار وقال مجاهد وقتادة: هي النجوم. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا علي بن محمد بن ماهان قال: حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال: حدّثنا خالي يعلى عن إسماعيل عن أبي صالح تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قال: النجوم الكبائر. قال عطاء: هي الشرج وهي أبواب السماء التي تسمّى المجرّة. وَجَعَلَ فِيها سِراجاً يعني الشمس، نظيره قوله سبحانه وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «1» وقرأ حمزة والكسائي (وجعل فيها سُرُجا) بالجمع يعنون النجوم وهي قراءة أصحاب عبد الله وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً. قال ابن عباس والحسن وقتادة: يعني عوضا وخلفا يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال قتادة: فأروا الله من أعمالكم خيرا في هذا الليل والنهار فإنهما مطيّتان تقحمان الناس الى آجالهم، وتقّربان كلّ بعيد، وتبليان كلّ جديد، وتجيئان بكل موعود الى يوم القيامة. روى شمر «2» بن عطية عن شقيق قال: جاء رجل الى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: فاتتني الصلاة الليلة فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإنّ الله سبحانه وتعالى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. وقال مجاهد: يعني جعل كلّ واحد منهما مخالفا لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض. وقال ابن زيد وغيره: يعني يخلف أحدهما صاحبه، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر، فهما يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، يدلّ على صحّة هذا التأويل، قول زهير: بها العين والآدام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجشم «3» وقال مقاتل: يعني جعل النهار خلفا من الليل لمن نام بالليل، وجعل الليل خلفا بالنهار لمن كانت له حاجة أو كان مشغولا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ قرأه العامة بتشديد الذال يعني يتذكر ويتعظ، وقرأ حمزة وخلف بتخفيف الذال من الذكر أَوْ أَرادَ شُكُوراً شكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه.
وَعِبادُ الرَّحْمنِ يعني أفاضل العباد، وقيل هذه الإضافة على التخصيص والتفضيل، وقرأ الحسن: وعبيد الرّحمن. الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي بالسكينة والوقار والطاعة والتواضع غير أشرين ولا مرحين ولا متكبّرين ولا مفسدين. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا العباس بن محمد بن قوهبار قال: حدّثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال: حدّثنا يحيى بن يحيى قال: حدّثنا هشيم بن عباد بن راشد عن الحسن في قوله سبحانه يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قال: حلما وعلما، وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا. الضحّاك: أتقياء أعفّاء لا يجهلون قال: وهو بالسريانية. الثمالي: بالنبطيّة، والهون في اللغة: الرفق واللين ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما» «1» . وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ بما يكرهونه قالُوا سَلاماً سدادا من القول عن مجاهد. ابن حيان: قولا يسلمون فيه من الإثم. الحسن: سلّموا عليهم، دليله قوله سبحانه وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ «2» . قال أبو العالية والكلبي: هذا قبل أن يؤمروا بالقتال، ثم نسختها آية القتال. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش المقري قال: حدّثنا محمد بن صالح [الكيلسي] «3» بمكة قال: حدّثنا سلمة بن شبيب «4» قال: حدّثنا الوليد بن إسماعيل قال: حدّثنا شيبان بن مهران عن خالد أبن المغيرة بن قيس عن أبي محلز لا حق بن حميد عن أبي برزة الأسلمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «رأيت قوما من أمتي ما خلقوا بعد، وسيكونون فيما بعد اليوم أحبّهم ويحبّونني، ويتناصحون ويتبادلون، يمشون بنور الله في الناس رويدا في خفية وتقية، يسلمون من الناس، ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم، قلوبهم بذكر الله يرجعون، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون، يرحمون صغيرهم ويجلّون كبيرهم ويتواسون بينهم، يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم، يعودون مرضاهم ويتبعون جنائزهم» . فقال رجل من القوم: في ذلك يرفقون برفيقهم؟ فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «كلّا،
إنّهم لا رفيق لهم، هم خدّام أنفسهم، هم أكرم على الله من أن يوسّع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم» ثمّ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه الآية وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» [87] . وروي أنّ الحسن كان إذا قرأ هاتين الآيتين قال: هذا وصف نهارهم. ثمّ قال وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً هذا وصف ليلهم. قال ابن عباس: من صلّى بالليل ركعتين أو أكثر من ذلك فقد بات لله سبحانه وتعالى ساجدا وقائما. قال الكلبي: يقال: الركعتان بعد المغرب وأربع بعد العشاء الآخرة. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي ملحّا دائما لازما غير مفارق من عذّب به من الكفار، ومنه سمّي الغريم لطلبه حقّه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إيّاه، وفلانا مغرم بفلان إذا كان مولعا به لا يصبر عنه ولا يفارقه، قال الأعشى: إن يعاقب يكن غراما وإن ... يعط جزيلا فإنّه لا يبالي «1» قال الحسن: قد علموا أنّ كلّ غريم يفارق غريمه إلّا غريم جهنم «2» . ابن زيد: الغرام الشرّ، أبو عبيد: الهلاك، قال بشر بن أبي حازم: ويوم النسار ويوم الجفار ... كانا عذابا وكانا غراما «3» أي هلاكا. إِنَّها يعني جهنم ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً أي إقامة، من أقام يقيم. وقال سلامة بن جندل: يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب «4» فإذا فتحت الميم فهو المجلس من قام يقوم، ومنه قول عباس بن مرداس: فأتي ما وأيك كان شرّا ... فقيد إلى المقامة لا يراها «5»
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا واختلف القرّاء فيه فقرأ أهل المدينة والشام: يُقْتِرُوا بضم الياء وكسر التاء، وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وضم التاء، غيرهم بفتح الياء وكسر التاء وكلّها لغات صحيحة، يقال: أقتر وقتر يقتر ويقتر مثل يَعْرِشُونَ ويَعْكُفُونَ، واختلف المفسرون في معنى الإسراف والإقتار، فقال بعضهم: الإسراف: النفقة في معصية الله وإن قلّت، والإقتار: منع حق الله سبحانه وتعالى، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال: حدّثنا محمد بن عمر بن إسحاق الكلواذي قال: حدّثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث «1» قال: حدّثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الرملي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سهيل بن أبي حزم عن كثير بن زياد أبي سهل عن الحسن في هذه الآية قال: لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله. وقال بعضهم: الإسراف أن تأكل مال غيرك بغير حق. قال عون بن عبد الله بن عتبة: ليس المسرف من أكل ماله، إنما المسرف من يأكل مال غيره. وقال قوم: السرف: مجاوزة الحد في النفقة، والإقتار: التقصير عما ينبغي مما لا بد منه، وهذا الاختيار لقوله وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ أي وكان إنفاقهم بين ذلك قَواماً عدلا وقصدا وسطا بين الإسراف والإقتار. قال إبراهيم: لا يجيعهم ولا يعريهم، ولا ينفق نفقة تقول الناس: قد أسرف. مقاتل: كسبوا طيّبا، وأنفقوا قصدا، وقدموا فضلا، فربحوا وأنجحوا. وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوبا للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدّ عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربّهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ويكنّهم من الحرّ والقرّ. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا ابن زنجويه قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثنا عبد الرزاق عن أبي عيينة عن رجل عن الحسن في قوله سبحانه يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا إنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: كفى سرفا ان لا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية.
أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي قال: أخبرنا المؤمّل بن الحسن بن عيسى قال: حدّثنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا حجاج عن أبي جريح قال: أخبرني يعلى يعني ابن مسلم عن سعيد بن جبير سمعه يحدّث عن ابن عباس أنّ ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلّم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزل وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ ونزل يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» وقيل: نزلت في وحشي غلام ابن مطعم. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر والثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل. وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن عبد الرحمن قالا: حدّثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال: حدّثنا محمد بن كثير قال: حدّثنا سفيان بن الأعمش ومنصور وواصل الأحدب عن أبي وائل. وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا عبد الله بن نمير قال: أخبرنا الأعمش عن شقيق عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال: قلت يا رسول الله أيّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» ، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت: ثم أيّ؟ قال: إن ترى حليلة جارك، فأنزل الله سبحانه تصديق ذلك وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» [88] . قال مسافع: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ الآية. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حنش، قال: أخبرنا ابن زنجويه قال: أخبرنا سلمة بن عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنّ لقمان كان يقول: يا بني إياك والزنا فإن أوله مخافة وآخره ندامة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الذي ذكرت يَلْقَ أَثاماً قال ابن عباس: إثما، ومجازه: تلق جزاء الآثام. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن حفصويه، قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا زهير بن محمد، قال: حدّثنا محمد بن زياد قال: حدّثنا الكلبي، قال: حدّثنا شرقي القطامي، قال: حدّثني لقمان بن عامر، قال: حدّثني أبو أمامة الباهلي صدي بن عجلان، فقلت: حدّثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: فدعا لي بطلاء ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لو أن صخرة زنة عشر عشروات قذف بها في شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين
خريفا، ثم ينتهي إلى غيّ وأثام، قال: قلت: وما غيّ وأثام» ؟ قال: نيران يسيل فيها صديد أهل النار، وهما اللتان قال الله سبحانه في كتابه فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «1» ويَلْقَ أَثاماً «2» . وأخبرنا بو عمرو سعيد بن عبد الله بن إسماعيل الحيري قال: أخبرنا العباس بن محمد بن قوهباد قال: حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن زرين السلمي. قال: أخبرنا حفص بن عبد الرحمن، قال: حدّثنا سعيد عن قتادة، عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن أَثاماً واد في جهنم، وهو قول مجاهد، وقال أبو عبيد: الأثام: العقوبة. قال الليثي: جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثاما أي عقوبة. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً قرأه العامة بجزم الفاء والدال، ورفعهما ابن عامر وابن عباس على الابتداء. ثمّ قال إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآية. أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا موسى بن هارون الجّمال قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال: حدّثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله ابن عمر بن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم سنين «3» وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية. ثمّ نزلت إِلَّا مَنْ تابَ فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلّم فرح بشيء قط فرحه بها وفرحه ب إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ. وأخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال: حدّثنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا عبد العزيز بن الحصين عن ابن أبي نجيح قال: حدّثني القاسم بن أبي برة قال: قلت لسعيد بن جبير: أبا عبد الله أرأيت قول الله سبحانه وتعالى وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ قال: سمعت ابن عباس يقول: هذه مكيّة نسختها الآية المدنية التي في سورة النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ولا توبة له. وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت أنّه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل
العراق وهو يسأله عن هذه الآية التي في الفرقان والتي في سورة النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً «1» ، فقال زيد بن ثابت: قد عرفت الناسخة من المنسوخة نسختها التي في النساء بعدها ستّة أشهر. وروى حجاج عن أبي جريج قال: قال الضحّاك بن مزاحم: هذه السورة بينها وبين النساء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ثماني حجج، والصحيح أنّها محكمة. روى جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء قال: اختلفت إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلّا سألته عنه ورسولي يختلف إلى عائشة، فما سمعته ولا أحد من العلماء يقول: إنّ الله سبحانه يقول لذنب: لا أغفره. فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. قال ابن عباس وابن جبير والضحّاك وابن زيد: يعني فأولئك يبدّلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدّلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا، وقال الآخرون: يعني يبدّل الله سيّئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسنات يوم القيامة، يدلّ على صحّة هذا التأويل ما أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن برزة قال: حدّثنا أبو حفص المستملي قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز أبي رزمة قال: حدّثنا الفضل بن موسى القطيعي عن أبي العنبس عن ابنه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ليتمنّينّ أقوام أنّهم أكثروا من السيئات» . قيل: من هم؟ قال: الذين بدّل اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» «2» [89] . وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا وكيع قال: حدّثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: أعرضوا عليه صغار ذنوبه قال: فيعرض عليه ويخفى عنه كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وهو مقرّ لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كلّ سيئة عملها حسنة. قال: فيقول إنّ لي ذنوبا ما أراها، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضحك حتّى بدت نواجذه» «3» [90] . وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله عن عبد الله بن أبي سمرة البغوي ببغداد قال: حدّثنا محمد بن أحمد الطالقاني قال: حدّثنا محمد بن هارون أبو نشيط قال: حدّثنا أبو المغيرة
قال: حدّثنا صفوان قال: حدّثني عبد الرحمن بن جبير عن أبي الطويل شطب الممدود أنّه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا عمل الذنوب كلّها ولم يترك منها شيئا، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلّا اقتطعها بيمينه، فهل لذلك من توبة؟ قال: «هل أسلمت؟ قال: أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّك رسوله، قال: نعم تفعل الخيرات وتترك الشهوات يجعلهنّ الله خيرات كلهن. قال: وغدراتي وفجراتي قال: نعم قال: الله أكبر، فما زال يكبّر حتى توارى» «1» [91] . وأخبرني ابن فنجويه في عصبة قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن أبي حاتم قال: حدّثنا أبو نشيط قال: حدّثنا أبو المغيرة قال: سمعت مبشر بن عبيد وكان عارفا بالنحو والعربية يقول: الحاجة الذي يقطع على الحجّاج إذا توجهوا، والداجة الذي يقطع عليهم إذا قفلوا وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً رجوعا حسنا. وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال الضحاك: يعني الشرك وتعظيم الأنداد، علي بن أبي طلحة: يعني شهادة الزور، وكان عمر بن الخّطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، ويطوف به في السوق، يحيى بن اليمان عن مجاهد: أعياد المشركين ليث عنه: الغناء وهو قول محمد بن الحنفية بإسناد الصالحي عن إبراهيم بن محمد بن المنكدر قال: بلغني انّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أدخلوهم رياض المسك، أسمعوا عبادي تحميدي وثنائي وتمجيدي، وأخبروهم أن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: حدّثنا عبد الواحد بن محمد الارعياني قال: حدّثنا الأحمسي قال: حدّثنا عمرو العبقري قال: حدّثنا مسلمة بن جعفر عن عمرو بن قيس في قوله سبحانه الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال: مجالس الخنا، ابن جريج: الكذب، قتادة: مجالس الباطل، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيّل إلى من سمعه أو يراه أنّه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل لما توهّم أنّه حقّ. وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفّار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد، نظيره وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «2»
الآية، وقال السدّي: وهي منسوخة بآية القتال، العوّام بن حوشب عن مجاهد: إذا أتوا على ذكر النكاح كنّوا عنه، ابن زيد: إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له معرضين عنه، وقال الحسن والكلبي: اللغو: المعاصي كلّها، يعني إذا مرّوا بمجالس اللهو والباطل مَرُّوا كِراماً مسرعين معرضين، يدل عليه ما روى إبراهيم بن ميسرة أنّ ابن مسعود مرّ بلهو مسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن أصبح ابن مسعود لكريما» «1» [92] . وقال أهل اللغة: أصله من قول العرب ناقة كريمة، وبقرة كريمة، وشاة كريمة إذا كانت تعرض عن الحليب تكرّما كأنّها لا تبالي بما يحلب منها. وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا لم يقعوا ولم يسقطوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً كأنّهم صمّ عمي، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه. قال الفرّاء: ومعنى قوله لَمْ يَخِرُّوا أي لم يقيموا ولم يصيروا، تقول العرب: شتمت فلانا فقام يبكي يعني فظلّ وأقبل يبكي ولا قيام هنالك ولعلّه بكى قاعدا، وقعد فلان يشتمني أي أقبل وجعل وصار يشتمني، وذلك جائز على ألسن العرب. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّتِنا بغير ألف أبو عمرو وأهل الكوفة، الباقون: ذُرِّيَّاتِنا بالألف قُرَّةَ أَعْيُنٍ بأن يراهم مؤمنين صالحين مطيعين لك، ووحّد قُرَّةَ لأنها مصدر، وأصلها من البرد لأنّ العرب تتأذّى بالحر وتستروح إلى البرد. وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي أئمة يقتدى بها. قال ابن عباس: اجعلنا أئمة هداية كما قال وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «2» ولا تجعلنا أئمة ضلالة كقوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ «3» . قتادة: هداة دعاة خير. أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون ابن خالد قال: حدّثني أبو جعفر أحمد بن عبد الله العازي الطبري المعروف بابن فيروز قال: حدّثنا الحكم بن موسى قال: حدّثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرّحمن بن زيد بن جابر عن مكحول في قول الله عزّ وجل وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً قال: أئمة في التّقوى يقتدي بها المتّقون، وقال بعضهم: هذا من المقلوب واجعل المتّقين لنا إماما واجعلنا مؤتمّين مقتدين بهم، وهو قول مجاهد، ولم يقل أئمة لأنّ الإمام مصدر، يقال: أمّ فلان فلانا مثل الصيام والقيام، ومن جعله أئمة فلأنّه قد كثر حتى صار بمعنى الصفة.
وقال بعضهم: أراد أئمة كما يقول القائل: أميرنا هؤلاء يعني أمراؤنا، وقال الله سبحانه عزّ وجلّ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «1» ، وقال الشاعر: يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي ... إنّ العواذل لسن لي بأمين» أي أمناء. أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة بِما صَبَرُوا على أمر ربهم وطاعة نبيّهم، وقال الباقر: على الفقر. وَيُلَقَّوْنَ قرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف القاف، واختاره «3» أبو عبيد لقوله وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً «4» . خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي أي ما يصنع وما يفعل، عن مجاهد وابن زيد. وقال أبو عبيد: يقال: ما عبأت به شيئا أي لم أعدّه، فوجوده وعدمه سواء، مجازه: أي مقدار لكم، وأصل هذه الكلمة تهيئة الشيء يقال: عبّأت الجيش وعبأت الطيب أعبّئه عبؤا وعبوا إذا هيّأته وعملته، قال الشاعر: كأن بنحره وبمنكبيه ... عبيرا بات يعبؤه عروس «5» لَوْلا دُعاؤُكُمْ إيّاه، وقيل: لولا عبادتكم، وقيل: لولا إيمانكم. واختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم: معناها قل ما يعبأ بخلقكم ربّي لولا عبادتكم وطاعتكم إيّاه، يعني أنّه خلقكم لعبادته نظيرها قوله سبحانه وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «6» وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد، قال ابن عباس في رواية الوالبي: أخبر الله سبحانه الكفّار أنّه لا حاجة لربهم بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبّب إليهم الإيمان كما حبّب إلى المؤمنين. وقال آخرون: قل ما يعبأ بعذابكم ربّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ إيّاه في الشدائد، بيانه فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «7» ونحوها من الآيات.
وقال بعضهم: قل ما يعبأ بمغفرتكم ربّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ معه آلهة وشركاء، بيانه قوله سبحانه وتعالى ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ «1» وهذا المعنى قول الضحّاك. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أبو حاتم قال: حدّثنا أبو طاهر بن السرج قال: حدّثنا موسى بن ربيعة الجمحي قال: سمعت الوليد بن الوليد يقول: بلغني أنّ تفسير هذه الآية قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول: ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلّا أن تسألوني فأغفر لكم، وتسألوني فأعطيكم. فَقَدْ كَذَّبْتُمْ يا أهل مكة. وأخبرنا شعيب بن محمد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدّثنا روح بن عبادة قال: حدّثنا شعبة بن عبد الحميد بن واصل قال: سمعت مسلم بن عمّار قال: سمعت ابن عباس يقرأ: فقد كذّب الكافرون فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً. وبه شعبة عن أدهم يعني السدوسي عن أنّه كان خلف بن الزبير يقرأ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ فلمّا أتى على هذه الآية قرأها: فقد كذّب الكافر فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً، ومعنى الآية فسوف يكون تكذيبهم لزاما. قال ابن عباس: موتا. ابن زيد: قتالا، أبو عبيدة: هلاكا. وأنشد: فاما ينجوا من حتف أرضي ... فقد لقيا حتوفهما لزاما «2» وقال بعض أهل المعاني: يعني فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شر، وقال ابن جرير: يعني عذابا دائما لازما وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم بعضا كقول أبي ذؤيب. ففاجأه بعادية لزام ... كما يتفجّر الحوض اللقيف «3» يعني باللزام الكثير الذي يتبع بعضه بعضا وباللفيف الحجار المنهد، واختلفوا في اللزام هاهنا فقال قوم: هو يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي ابن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل. روى الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله: خمس قد مضين: الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم. وقال آخرون: هو عذاب الآخرة.
سورة الشعراء
سورة الشعراء مكيّة، إلّا قوله وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إلى آخر السورة فإنّها مدنية، وهي خمسة آلاف وخمسمائة واثنان وأربعون حرفا، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة ومائتان وسبع وعشرون آية أخبرنا أبو الحسين الخبازي قال: حدّثنا أبو الشيخ الاصفهاني قال: حدّثنا أبو العباس الطهراني قال: حدّثنا يحيى بن يعلى بن منصور قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدّثنا أبي عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: أعطيت السورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى (عليه السلام) ، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصّل نافلة «1» . وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الماوردي الفارسي قال: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم ابن منصور الخيزراني ببغداد قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن حبيب قال: حدّثنا يعقوب بن يوسف قال: حدّثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا خارجة عن عبد الله عن إسماعيل بن أبي رافع عن الرقاشي وعن الحسن عن أنس أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: إنّ الله أعطاني السبع مكان التوراة، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضّلني بالحواميم والمفصّل ما قرأهن نبيّ قبلي «2» . وأخبرني كامل بن أحمد النحوي وسعيد بن محمد المقري قالا: أخبرنا أحمد بن محمد ابن جعفر الشروطي قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، وبعدد من كذّب بعيسى وصدّق بمحمد صلى الله عليه وسلّم» [93] «3» .
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 إلى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) طسم اختلف القرّاء فيها وفي أختيها فكسر الطاء فيهن على الإمالة حمزة والكسائي وخلف وعاصم في بعض الروايات. وقرأ أهل المدينة بين الكسر والفتح وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وقرأ غيرهم بالفتح على التضخيم، وأظهر النون في السين هاهنا وفي سورة القصص أبو جعفر وحمزة للتبيين والتمكين، وأخفاها الآخرون لمجاورتها حروف الفم. وأمّا تأويلها فروى الوالبي عن ابن عباس قال: طسم قسم وهو من اسماء الله سبحانه، عكرمة عنه: عجزت العلماء عن علم تفسيرها. مجاهد: اسم السورة. قتادة وأبو روق: اسم من أسماء القرآن أقسم الله عزّ وجلّ به، القرظي أقسم الله سبحانه بطوله وسنائه وملكه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش «1» قال: حدّثني أحمد بن عبيد الله بن يحيى الدارمي قال: حدّثني محمد بن عبده المصّيصي قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي قال: حدّثنا محمد بن بشر الرقّي قال: حدّثنا أبو عمر حفص بن ميسرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية طسم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الطاء طور سيناء والسين الاسكندرية والميم مكة» «2» [94] . وقال جعفر الصادق (عليه السلام) : الطاء طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد المصطفى صلى الله عليه وسلّم. تِلْكَ آياتُ أي هذه آيات الْكِتابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ باخِعٌ قاتل نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وذلك حين كذّبه أهل مكة فشق ذلك عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، نظيرها في الكهف. إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ذليلين قال: لو شاء الله سبحانه لأنزل عليهم آية يذلّون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله عزّ وجل، ابن جريج: لو شاء لأراهم أمرا من أمره لا يعمل أحد منهم بمعصية.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبّان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى «1» قال: حدّثنا علي بن علي قال: حدّثني أبو حمزة الثمالي في هذه الآية قال: بلغنا- والله أعلم- أنّها صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان يخرج له العواتق من البيوت. وبه عن أبي حمزة قال: حدّثني الكلبي عن أبي صالح مولى أم هاني أنّ عبد الله بن عباس حدّثه قال: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أميّة قال: سيكون لنا عليهم الدولة فتذلّ لنا أعناقهم بعد صعوبة، وهوان بعد عزة. وأمّا قوله سبحانه خاضِعِينَ ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ففيه وجوه صحيحة من التأويل: أحدها: فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم لأنّ الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون، فجعل الفعل أوّلا للأعناق ثم جعل خاضعين للرجال، كقول الشاعر: على قبضة مرجوة ظهر كفّه ... فلا المرء مستحي ولا هو طاعم «2» فأنّث فعل الظهر لأنّ الكفّ تجمع الظهر وتكفى منه كما أنّك مكتف بأن تقول: خضعت للأمر أن تقول: خضعت لك رقبتي، ويقول العرب: كلّ ذي عين ناظر إليك وناظرة إليك لأنّ قولك: نظرت إليك عيني ونظرت بمعنى واحد، وهذا شائع في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويعمد الى الآخر فيجعل له الخبر كقول الراجز: طول الليالي أسرعت في نقضي ... طوين طولي وطوين عرضي «3» فأخبر عن الليالي وترك الطول، قال جرير: أرى مرّ السنين أخذن منّي ... كما أخذ السرار من الهلال «4» وقال الفرزدق: نرى أرماحهم متقلّديها ... إذا صدئ الحديد على الكماة «5» فلم يجعل الخبر للأرماح وردّه الى هم لكناية القوم وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط من وطول والأرماح من الكلام لم يفسد سقوطها معنى الكلام، فكذلك رد الفعل الى الكناية في قوله أعناقهم لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام ولأدّى ما بقي من الكلام عنها وكان فظلوا خاضعين لها واعتمد الفرّاء وأبو عبيد على هذا القول.
وقال قوم: ذكر الصفة لمجاورتها المذكر وهو قوله هم، على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه الى مذكر، وتأنيث المذكر إذا أضافوه الى مؤنّث، كقول الأعشى: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم «1» وقال العجاج: لما رأى متن السماء أبعدت. وقيل: لما كان الخضوع وهو المتعارف من بني آدم أخرج الأعناق مخرج بني آدم كقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «2» وقوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ «3» ومنه قول الشاعر: تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا «4» وقيل: إنما قال خاضِعِينَ «5» فعبّر بالأعناق عن جميع الأبدان، والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كله كقوله بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «6» وقوله أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «7» ونحوهما. قال مجاهد: أراد بالأعناق هاهنا الرؤساء والكبراء، وقيل: أراد بالأعناق الجماعات والطوائف من الناس، يقال: جاء القوم عنقا أي طوائف وعصبا كقول الشاعر: انّ العراق وأهله عنق ... إليك فهيت هيتا «8» وقرأ ابن أبي عبلة: فظلّت أعناقهم لها خاضعة. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ أي وعظ وتذكير مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ في الوحي والتنزيل إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا أخبار وعواقب وجزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهذا وعيد لهم أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ لون وصنف من النبات ممّا يأكل الناس والأنعام كَرِيمٍ حسن يكرم على الناس، يقال: نخلة كريمة إذا طاب حملها وناقة كريمة إذا كثر لبنها. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 إلى 33]
بختويه قال: حدّثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي يوسف «1» قالا: حدّثنا محمد بن يوسف الغزالي قال: حدّثنا سفيان عن رجل عن الشعبي في قوله أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ قال: الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنّة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم. إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت لَآيَةً لدلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وحكمتي وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لما سبق من علمي فيهم، قال سيبويه: كانَ هاهنا صلة، مجازه: وما أكثرهم مؤمنين وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ بالنقمة من أعدائه الرَّحِيمُ ذو الرحمة بأوليائه. [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 33] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) وَإِذْ نادى واذكر يا محمد إذ نادى رَبُّكَ مُوسى حين رأى الشجرة والنار أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأنفسهم بالكفر والمعصية ولبني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ وقرأ عبيد بن عمير بالتاء أي قل لهما: ألا تتّقون؟ قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي من تكذيبهم إيّاي وَلا يَنْطَلِقُ ولا ينبعث لِسانِي بالكلام والتبليغ للعقدة التي فيه، قراءة العامة برفع القافين على قوله أَخافُ ونصبها يعقوب على معنى وأن يضيق ولا ينطلق فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة، وهذا كما تقول: إذا نزلت بي نازلة أرسلت إليك، أي لتعينني وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ يعني القتل الذي قتله منهم واسمه ماثون، وكان خباز فرعون، وقيل: على معنى: عندي ولهم عندي ذنب فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قالَ الله سبحانه كَلَّا أي لن يقتلوك فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ
سامعون ما يقولون وما تجابون، وإنّما أراد بذلك تقوية قلبيهما وإخبارهما أنّه يعينهما ويحفظهماأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ولم يقل رسولا لأنه أراد المصدر أي رسالة ومجازه: ذو رسالة رب العالمين، كقول كثيّر: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول «1» أي برسالة. وقال العباس بن مرداس: إلّا من مبلغ عنّا خفافا ... رسولا بيت أهلك منتهاها «2» يعني رسالة فلذلك انتهاء، قاله الفرّاء. وقال أبو عبيد: يجوز أن يكون الرسول في معنى الواحد والاثنين والجمع، تقول العرب: هذا رسولي ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «3» وقيل: معناه كل واحد منا رسول ربّ العالمين. أَنْ أي بأن أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ إلى فلسطين ولا تستعبدهم وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفا فانطلق موسى إلى مصر، وهارون بها وأخبره بذلك فانطلقا جميعا الى فرعون، فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه، فدخل البوّاب فقال لفرعون: هاهنا إنسان يزعم أنّه رسول رب العالمين، فقال فرعون: ايذن له لعلّنا نضحك منه، فدخلا عليه وأدّيا إليه رسالة الله سبحانه وتعالى فعرف فرعون موسى لأنّه نشأ في بيته فقال له أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً صبيّا وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وهي ثلاثون سنة وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتل القبطي. أخبرنا ابن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفرّاء قال: حدّثني موسى الأنصاري عن السري بن إسماعيل عن الشعبي انه قرأ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي بكسر الفاء ولم يقرأ بها غيره. وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي، ربيناك فينا وليدا فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منّا وكفرت بنعمتنا، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس، وقال: إنّ فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية. فقال موسى قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي الجاهلين قبل أن يأتيني عن الله شيء، هذا قول أكثر المفسّرين وكذلك هو في حرف ابن مسعود وأنا من الجاهلين.
وقيل: مِنَ الضَّالِّينَ عن العلم بأن ذلك يؤدي الى قتله. وقيل: مِنَ الضَّالِّينَ عن طريق الصواب من غير تعمّد كالقاصد الى أن يرمي طائرا فيصيب إنسانا. وقيل: من المخطئين نظيره إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «1» إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» وقيل: من الناسين، نظيره أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «3» . فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ إلى مدين فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً فهما وعلما وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ. اختلف العلماء في تأويلها، ففسّرها بعضهم على إقرار وبعضهم على الإنكار، فمن قال: هو إقرار قال: عدّها موسى نعمة منه عليه حيث ربّاه ولم يقتله كما قتل غلمان بني إسرائيل، ولم يستعبده كما استعبد وتركني فلم يستعبدني «4» وهذا قول الفرّاء، ومن قال هو إنكار قال: معناه وتلك نعمة على طريق الاستفهام «5» كقوله هذا رَبِّي «6» وقوله فَهُمُ الْخالِدُونَ وقول الشاعر: ...... هم هم «7» ، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة: لم أنس يوم الرحيل وقفتها ... ودمعها في جفونها عرق وقولها والركب سائرة ... تتركنا هكذا وتنطلق «8» وهذا قول مجاهد، ثم اختلفوا في وجهها فقال بعضهم: هذا ردّ من موسى على فرعون حين امتنّ عليه بالتربية فقال: لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي فأىّ نعمة لك عليّ؟ وقيل: ذكره إساءته إلى بني إسرائيل فقال: تمنّ عليّ أن تربّيني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل.
وقيل: معناه كيف تمنّ علي بالتربية وقد استعبدت قومي؟ ومن أهين قومه ذلّ، فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليّ. وقال الحسن: يقول: أخذت أموال بني إسرائيل وأنفقت منها عليّ واتّخذتهم عبيدا. وقوله سبحانه أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي اتّخذتهم عبيدا، يقال: عبّدته وأعبدته، وأنشد الفرّاء: علام يعبّدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان «1» وله وجهان: أحدهما: النصب بنزع الخافض مجازه: بتعبيدك بني إسرائيل والثاني: الرفع على البدل من النعمة. قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وأيّ شيء ربّ العالمين الذي تزعم أنّك رسوله إليّ؟ قالَ موسى (عليه السلام) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ إنّه خلقها عن الكلبي. وقال أهل المعاني: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي ما تعاينونه كما تعاينونه فكذلك فأيقنوا أنّ ربّنا هو ربّ السموات والأرض. قالَ فرعون لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه، قال ابن عباس: وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة محيلا لقوم موسى معجبا لقومه أَلا تَسْتَمِعُونَ فقال موسى مفهما لهم وملزما للحجة عليهم رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قالَ فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يتكلّم بكلام لا يعقله ولا يعرف صحته. فقال موسى رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فقال فرعون حين لزمته الحجّة وانقطع عن الجواب تكبّرا عن الحق وتماديا في الغي لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ المحبوسين. قال الكلبي: وكان سجنه أشدّ من القتل لأنه كان يأخذ الرجل إذا سجنه فيطرحه في مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا، يهوى به في الأرض. فقال له موسى حين توعده بالسجن أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ يبيّن صدق قولي، ومعنى الآية: أتفعل ذلك إن أتيتك بحجّة بيّنة، وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون الى الإنصاف والإجابة الى الحق بعد البيان. فقال له فرعون فَأْتِ بِهِ فإنّا لن نسجنك حينئذنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ
[سورة الشعراء (26) : الآيات 34 إلى 68]
بيّن ظاهر أمره، فقال: وهل غير هذا؟ ف نَزَعَ موسى يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 34 الى 68] قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) ف قالَ فرعون لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم الزينة. قال ابن عباس: وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة وهو يوم النيروز. وقال ابن زيد: وكان اجتماعهم للميقات بالإسكندرية، ويقال: بلغ ذنب الحيّة من وراء البحيرة يومئذ. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ تنظرون الى ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة لموسى أو للسحرة؟ لَعَلَّنا لكي نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ موسى، قيل: إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء وأرادوا بالسحرة موسى وهارون وقومهما. فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ
الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ لا ضرر إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ لأن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ من أهل زماننا وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وقومه. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدّثنا الدورقي عن حجاج بن جريح في هذه الآية قال: أوحى الله سبحانه الى موسى أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أهل أبيات في بيت، ثم اذبحوا أولاد الضّأن فاضربوا بدمائها على أموالكم فإنّي سآمر الملائكة فلا تدخل بيتا على بابه دم، وسآمرها فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم، ثم اخبزوا خبزا فطيرا فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري ففعل ذلك، فلمّا أصبحوا قال فرعون: هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأموالنا، فأرسل في أمره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في الكرسي العظيم. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعني الشرط ليجمعوا السحرة وقال لهم: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ عصبة، وشرذمة كل شيء بقيّته القليلة، ومنه قول الراجز: جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منه التواق «1» قال ابن مسعود: كان هؤلاء الشرذمة ستّمائة وسبعون ألفا. وأخبرنا أبو بكر الخرمي قال: أخبرنا أبو حامد الأعمش قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي قال: حدّثنا يحيى بن آدم قال: حدّثنا إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي في هذه الآية قال: كان أصحاب موسى ستّمائة ألف. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ يعني أعداء، لمخالفتهم ديننا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها، وخروجهم من أرضنا بغير اذن منّا. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ قرأ النخعي والأسود بن يزيد وعبيد بن عمر وسائر قرّاء الكوفة وابن عامر والضحاك حاذِرُونَ بالألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس واختيار أبي عبيد، وقرأ الآخرون حذرون بغير ألف وهما لغتان. وقال قوم: حاذِرُونَ: مؤدّون مقرّون، شاكون في السلاح، ذوو أرادة قوّة وكراع وحذرون:
فرقون متيقظون، وقال الفرّاء: كأن الحاذر الذي يحذرك، والحذر المخلوق حذر ألّا يلقاه إلّا حذرا، والحذر اجتناب الشيء خوفا منه. وقرأ شميط بن عجلان: حادرون بالدال غير معجمة، قال الفرّاء: يعني عظاما من كثرة الأسلحة، ومنه قيل للعين العظيمة: حدرة وللمتورّم: حادر. قال امرؤ القيس: وعين لها حدرة بدرة ... وسقت مآقيها من أخر «1» فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ قال مجاهد: سمّاها كنوزا لأنها لم تنفق في طاعة الله سبحانه وَمَقامٍ كَرِيمٍ ومجلس حسن كَذلِكَ كما وصفنا وَأَوْرَثْناها بهلاكهم بَنِي إِسْرائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فلحقوهم في وقت إشراق الشمس وهو إضاءتها فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقابلا بحيث يرى كل فريق منهما صاحبه، وكسر يحيى والأعمش وحمزة وخلف الراء تراءى الباقون بالفتح. قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ لملحقون، وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير لمدّركون بتشديد الدال والاختيار قراءة العامة كقوله حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ «2» . قالَ موسى ثقة بوعد الله كَلَّا لا يدركونكم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ طريق النجاة فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الضنجوي قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله العقيلي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد قال: حدّثني محمد بن حمزة وعبد الله بن سلام أنّ موسى لمّا انتهى الى البحر قال: يا من قبل كلّ شيء، والمكوّن لكلّ شيء، والكائن بعد كلّ شيء، اجعل لنا مخرجا، فأوحى الله سبحانه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فانشقّ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ فرقة أي قطعة من الماء كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الضخم. قال ابن جريج وغيره: لما انتهى موسى الى البحر هاجت الريح، والبحر يرمي موجا مثل الجبال فقال له يوشع: يا مكلّم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون، والبحر أمامنا؟ قال موسى: هاهنا فخاض يوشع الماء وحار البحر يتوارى حتى أقرّ «3» دابته الماء، وقال الذي يَكْتُمُ إِيمانَهُ: يا مكلّم الله أين أمرت؟ قال: هاهنا فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقته، ثم أقحمه البحر فارتسب الماء، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدرو، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 إلى 87]
فأوحى الله سبحانه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه بعصاه فَانْفَلَقَ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل لبده ولا سرجه. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ يعني قوم فرعون يقول قرّبناهم الى الهلاك وقدّمناهم الى البحر. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فرعون وقومه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. قال مقاتل: لم يؤمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون وخربيل المؤمن ومريم بنت موساء التي دلّت على عظام يوسف. وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 87] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قال بعض العلماء: إنّما قالوا: فَنَظَلُّ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ قراءة العامة بفتح الياء أي: هل يسمعون دعاءكم، وقرأ قتادة يُسْمِعُونَكُمْ بضم الياء إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ. وفي هذه الآية بيان أنّ الدين إنما يثبت بالحجة وبطلان التقليد فيه. قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ الأولون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وأنا منهم بريء، وإنما وحّد العدو لأن معنى الكلام: فإنّ كل معبود لكم عدوّ لي «1» لو عبدتهم يوم القيامة، كما قال الله سبحانه وتعالى كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «2» .
وقال الفرّاء: هو من المقلوب أراد فإنّي عدو لهم لأنّ من عاديته عاداك. ثم قال إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ نصب بالاستثناء يعني فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي وغير معبود لي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ فإنّي أعبده، قاله الفرّاء، وقيل: هو بمعنى لكن، وقال الحسن «1» بن الفضل: يعني الأمر عند رب العالمين. ثم وصفه فقال الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أخبر أن الهادي على الحقيقة هو الخالق لا هادي غيره. قال أهل اللسان: الَّذِي خَلَقَنِي في الدنيا على فطرته فَهُوَ يَهْدِينِ في الآخرة إلى جنته. وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ يعني يرزقني ويربيني. وقال أبو العباس بن عطاء: يعني يطعمني أيّ طعام شاء، ويسقيني أيّ شراب شاء. قال محمد بن كثير العبدي: صحبت سفيان الثوري بمكة دهرا فكان يستف من السبت الى السبت كفّا من رمل. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن علي بن الشاه يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن حمدان يقول: سمعت الحجاج بن عبد الكريم يقول: خرجت من بلخ في طلب إبراهيم بن أدهم فرأيته بحمص في أتون يسجّرها فسلّمت عليه وسألته عن حاله، فردّ عليّ السلام وسألني عن حالي وحال أقربائه، فكنت معه يومه ذلك فقال: لعلّ نفسك تنازعك الى شيء من طعام؟ فقلت: نعم فأخذ رمادا وترابا فخلطهما وأكلهما ثمّ أقبل بوجهه عليّ وانشأ يقول: اخلط الترب بالرماد وكله ... وازجر النفس عن مقام السؤال فإذا شئت ان تقبّع بالذلّ ... فرم ما حوته أيدي الرجال فخرجت من عنده فمكثت أياما لم أدخل عليه فاشتدّ شوقي إليه، فدخلت عليه وكنت عنده فلم يتكلّم بشيء فقلت له: لم لا تكلّم؟ فقال: منع الخطاب لأنه سبب الردى ... والنطق فيه معادن الآفات فإذا نطقت فكن لربّك ذاكرا ... وإذا سكتّ فعدّ جسمك مات قال أبو بكر الوراق: يُطْعِمُنِي بلا طعام وَيَسْقِينِ بلا شراب، ومجازها: يشبعني ويرويني من غير علاقة، كقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّى أبيت يطعمني ربّي ويسقيني» [95] . يدلّ عليه حديث السقاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام يقرأ
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «1» فرمى بقربته، فأتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنّة فسقاه. قال أنس: فعاش بعد ذلك نيّفا وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوته. وقال علي بن قادم: كان عبد الرّحمن بن أبي نعم لا يأكل في الشهر إلّا مرّة، فبلغ ذلك الحجاج فدعاه وأدخله بيتا وأغلق عليه بابه ثم فتحه بعد خمسة عشر يوما ولم يشكّ أنّه مات فوجده قائما يصلّي فقال: يا فاسق تصلّي بغير وضوء! فقال: إنّما يحتاج الى الوضوء من يأكل ويشرب، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها هذا البيت. وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا سعيد الخزاز بمكة يقول: كنت بطرسوس جائعا، فاشتدّ بي الجوع فجلست على شاطئ النهر ووضعت رجلي في الماء فنوديت: أضجرت من جوعك؟ هاك شبع الأبد. قال: فعاش بعده سنين لم يشته طعاما ولا شرابا، وكان مع ذلك إذا أراد الاكل والشرب أمكنه. وبلغني أنّ امرأة أسرت من حلب الى الروم في أيام سيف الدولة علي بن حمدان، فهربت منهم ومشت مائتي فرسخ لم تطعم شيئا، فقدمت الى سيف الدولة فقال لها: كيف قويت على المشي وكيف عشت بلا طعام؟ فقالت: كنت كلّما جعت أو أعييت أقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثلاث مرّات فأشبع وأروى وأقوى. وسمعت أبا القاسم؟ يقول: سمعت أبا القاسم النصرآبادي يقول: سمعت أبا بكر الشبلي يقول: في الخبز لطيفة تشبعك لا الخبز، ولو شاء لأبقى فيك تلك اللطيفة حتى لا تحتاج الى الخبز. وقال ذو النون المصري: يطعمني طعام المحبّة ويسقيني شراب المحبّة. ثم أنشأ يقول: شراب المحبّة خير الشراب ... وكلّ شراب سواه سراب وسمعت ابن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الجرجاني يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول «2» : سمعت عمّي يقول: سمعت أبا يزيد البسطامي يقول: إنّ لله شرابا يقال له شراب المحبّة ادّخره لأفاضل عباده، فإذا شربوا سكروا، فإذا سكروا
طاشوا، فإذا طاشوا طاروا، فإذا طاروا وصلوا، فإذا وصلوا اتصلوا، فهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وقال الجنيد: يحشر الناس كلّهم عراة إلّا من لبس لباس التقوى، وغراثا إلّا من أكل طعام المعرفة، وعطاشى إلّا من شرب شراب المحبّة. وَإِذا مَرِضْتُ أضاف إبراهيم (عليه السلام) المرض الى نفسه وإن كان من الله سبحانه لأنّ قومه كانوا يعدّونه عيبا فاستعمل حسن الأدب، نظيرها قصة الخضر حيث قال فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها «1» وقال فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما «2» . فَهُوَ يَشْفِينِ يبرئني يحكى أنّ أبا بكر الورّاق مرّ بطبيب يعطي الناس الأدوية فوقف عليه وقال: أيفعل دواؤك هذا أمرين؟ قال: وما هما؟ فقال: ردّ قضاء قاض وجرّ شفاء شاف؟ فقال: لا قال: فليس [ذلك بشيء] . وقال جعفر الصادق: إِذا مَرِضْتُ بالذنوب شفاني بالتوبة «3» . سامر بن عبد الله «4» : إذا أمرضتني مقاساة الخلق شفاني بذكره والأنس به. وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ أدخل هاهنا (ثُمَّ) للقطع والتراخي. قال أهل اللسان والإشارة: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل، يميتني بالمعصية ويحييني بالطاعة، يميتني بالفراق ويحييني بالتلاقي، يميتني بالخذلان ويحييني بالتوفيق، يميتني غنى ويحييني به، يميتني بالجهل ويحييني بالعلم. وَالَّذِي أَطْمَعُ أرجو أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ قراءة العامّة بالتوحيد. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبا القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا أحمد بن يزيد قال: حدّثنا روح عن أبي اليقظان قال: حدّثنا الحكم السلمي
قال: سمعت الحسن يقرأ «والذي أطمع أن يغفر لي خطاياي يوم الدين» . قال: إنّها لم تكن خطيئة ولكن كانت خطايا. قال مجاهد ومقاتل: هي قوله إِنِّي سَقِيمٌ «1» وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «2» وقوله لسارة (هي أختي) زاد الحسن، وقوله للكواكب هذا رَبِّي «3» . أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال: حدّثنا أبو سعيد الأشج قال: حدّثنا أبو خالد عن داود عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إنّ عبد الله بن جدعان كان يقري الضيف ويصل الرحم ويفكّ العاني، فهل ينفعه ذلك؟ قال: لا، لأنّه لم يقل يوما قطّ: اغفر لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ. وهذا الكلام من إبراهيم (عليه السلام) احتجاج على قومه وإخبار أنّه لا يصلح للإلهية إلّا من فعل هذه الأفعال. رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وهو البيان على الشيء على ما توجبه الحكمة، وقال مقاتل: فهما وعلما، والكلبي: النبوّة. وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بمن قبلي من النبيين في الدرجة والمنزلة. وقال ابن عباس: بأهل الجنة. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي ذكرا جميلا وثناء حسنا وقبولا عاما في الأمم التي تجيء بعدي، فأعطاه الله سبحانه وتعالى ذلك، فكلّ أهل الأديان يتولّونه ويبنون عليه. قال القتيبي: ووضع اللسان موضع القول على الاستعارة لأن القول يكنى بها «4» ، والعرب تسمّي اللغة لسانا. وقال أعشى باهلة: إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر «5» وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وقد بيّنا المعنى الذي من أجله استغفر إبراهيم (عليه السلام) لأبيه في سورة التوبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 88 إلى 104]
وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 88 الى 104] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ خالص من الشرك والشك، فأمّا الذنوب فليس يسلم منها أحد هذا قول أكثر المفسّرين. وقال سعيد بن المسيّب: القلب السليم هو الصحيح، وهو قلب المؤمن لأنّ قلب الكافر والمنافق مريض، قال الله سبحانه فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1» . وقال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب الخالي من البدعة، المطمئن على السنّة. وقال الحسين بن الفضل: سليم من آفة المال والبنين. وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ فمعناه: كاللّديغ من خوف الله. وَأُزْلِفَتِ وقرّبت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ وأظهرت الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ للكافرين وَقِيلَ لَهُمْ يوم القيامة أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ لأنفسهم فَكُبْكِبُوا فِيها. قال ابن عباس: جمعوا، مجاهد: ذهبوا، مقاتل: قذفوا، وأصله كببوا فكررت الكاف فيه مثل قولك: تهنهني وريح صرصر ونحوهما. هُمْ وَالْغاوُونَ يعني الشياطين، عن قتادة ومقاتل، الكلبي: كفرة الجن. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ وهم أتباعه ومن أطاعه من الجن والإنس قالوا للشياطين والمعبودين تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ نعدلكم بِرَبِّ الْعالَمِينَ فنعبدكم من دونه وَما أَضَلَّنا أي دعانا إلى الضلال وأمرنا به إِلَّا الْمُجْرِمُونَ يعني الشياطين، عن مقاتل، والكلبي: أوّلونا الذين اقتدينا بهم، أبو العاليه وعكرمة: يعني إبليس وابن آدم القاتل لأنه أوّل من سنّ القتال وأنواع المعاصي.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 إلى 122]
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ قريب ينفعنا ويشفع لنا، وذلك حين يشفع الملائكة والنبيّون والمؤمنون. أخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال: حدّثنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا من سمع أبا الزبير يقول: أشهد لسمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الرجل ليقول في الجنة: ربّ ما فعل صديقي فلان وصديقه في الحميم؟ فيقول الله سبحانه: أخرجوا له صديقه الى الجنة فيقول من بقي فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ «1» [96] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا سمعان بن أبي مسعود قال: حدّثنا المضّاء بن الجارود قال: حدّثنا صالح المرّي عن الحسن قال: ما اجتمع ملأ على ذكر الله تعالى فيهم عبد من أهل الجنة إلّا شفّعه الله فيهم وإنّ أهل الإيمان شفعاء بعضهم في بعض، وهم عند الله شافعون مشفّعون. فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً رجعة الى الدنيا تمنّوا حين لم ينفعهم فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ادخلت التاء للجماعة كقوله قالَتِ الْأَعْرابُ. الْمُرْسَلِينَ يعني نوحا وحده كقوله يا أَيُّهَا الرُّسُلُ «2» . وأخبرني أبو عبد الله الدينوري قال: حدّثنا أبو علىّ المقري قال: حدّثنا أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب قال: حدّثنا الحسن بن محمد الصباح قال: حدّثنا عبد الوهاب عن إسماعيل
عن الحسين قال: قيل له: يا أبا سعيد أرأيت قوله عزّ وجل كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ وكَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ «1» وكَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ «2» وإنّما أرسل إليهم رسولا واحدا؟ قال: انّ الآخر جاء بما جاء به الأوّل، فإذا كذّبوا واحدا فقد كذّبوهم أجمعين. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسبة لا في الدين نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ على الوحي فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ قراءة العامة، وقرأ يعقوب: وأتباعك الْأَرْذَلُونَ يعني السفلة عن مقاتل وقتادة والكلبي. ابن عباس: الحاكة «3» . وأخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال: حدّثنا محمد بن الحسين الكعبي قال: حدّثنا حسين «4» بن مزاحم عن ابن عباس في قول الله سبحانه وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قال: الحاكة، عكرمة: الحاكة والأسالفة. قالَ نوح وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إنما لي منهم ظاهر أمرهم، وعليّ أن أدعوهم وليس علىّ من خساسة أحوالهم ودناءة مكاسبهم شيء، ولم أكلّف ذلك إنّما كلّفت أن أدعوهم. إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وقيل: معناه أي لم أعلم أنّ الله يهديهم ويضلكم، ويوفّقهم ويخذلكم. وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عمّا تقول وتدعو إليه لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ يعني المشؤومين عن الضحّاك، قتادة: المضروبين بالحجارة. قال ابن عباس ومقاتل: من المقتولين. الثمالي: كلّ شيء في القرآن من ذكر الْمَرْجُومِينَ فإنّه يعني بذلك القتل إلّا التي في سورة مريم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ «5» فإنّه يعني لأشتمنّك. قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ فاحكم بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ يعني الموقّر المجهّز عن ابن عباس. مجاهد: المملوء، المفروغ منه، عطاء: المثقل، قتادة: المحمل.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 إلى 140]
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ على الرسالة، وقال الكلبي: أمين فيكم قبل الرسالة فكيف تتّهموني اليوم؟ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ. قال الوالبي عن ابن عباس: بكل شرف. قتادة والضحّاك ومقاتل والكلبي: طريق، هي رواية العوفي عن ابن عباس. ابن جريج عن مجاهد: هو الفجّ بين الجبلين. ابن أبي نجيح عنه: هو الثقبة الصغيرة وعنه أيضا عكرمة: واد. مقاتل بن سليمان: كانوا يسافرون ولا يهتدون إلّا بالنجوم فبنوا على الطرق أميالا طوالا عبثا ليهتدوا بها، يدلّ عليه قوله آيَةً أي علامة. وروي عن مجاهد أيضا قال: الريع بنيان الحمام، دليله وقوله تَعْبَثُونَ أي تلعبون، أبو عبيد: هو المكان المرتفع، وأنشد لذي الرمّة: طراق الخوافي مشرف فوق ريعه ... ندى ليلة في ريشه يترقرق «1» وفيه لغتان ريع وريع بكسر الراء وفتحها وجمعه أرياع وريعه. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ. قال ابن عباس ومجاهد: قصور مشيّدة معمر عنه: الحصون. ابن أبي نجيح عنه: بروج الحمام، قتادة: مآخذ للماء، الكلبي: منازل، عبد الرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن: القصور العاديّة واحدتها مصنع.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 إلى 159]
لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ قال ابن عباس وقتادة: يعني كأنّكم تبقون فيها خالدين، ابن زيد: لعلّ استفهام، يعني فهل تخلدون حين تبنون هذه الأشياء؟ الفرّاء: كيما تخلدون. وَإِذا بَطَشْتُمْ أي سطوتم وأخذتم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ قتّالين من غير حقّ. قال مجاهد: قتلا بالسيف وضربا بالسوط، والجبّار: الذي يقتل ويضرب على الغضب. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. ثمّ ذكر ما أعطاهم فقال أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ. روى العباس عن ابن عمير، وواقد عن الكسائي بإدغام الطاء في التاء، الباقون: بالإظهار وهو الاختيار. أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأيّوب وأبي عبيد وأبي حاتم بفتح الخاء، لقوله وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً «1» وقوله إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ «2» ومعناه: إن هذا إلّا دأب الأوّلين وأساطيرهم وأحاديثهم، وقرأ الباقون: بضم الخاء واللام أي عبادة الأوّلين من قبلنا، يعيشون ما عاشوا ثمّ يموتون ولا بعث ولا حساب، وهذا تأويل قتادة. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا أي في الدنيا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها ثمرها هَضِيمٌ. قال ابن عباس: لطيف مادام في كفراه «1» ، ومنه قيل: هضيم الكشح إذا كان لطيفا، وهضم الطعام إذا لطف واستحال الى شكله، عطيّة عنه: يانع نضيج، قتادة وعكرمة: الرطب الليّن، الحسن: رخو. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا الطنافسي قال: حدّثنا وكيع عن سلام عن أبي إسحاق عن أبي العلاء، طَلْعُها هَضِيمٌ قال: مذنّب، مجاهد: متهشم متفتت وذلك حين يطلع يفيض عليه فيهضمه، وهو مادام رطبا فهو هضيم فإذا يبس فهو هشيم، أبو العالية: يهشهش في الفم. الضحاك ومقاتل: متراكم ركب بعضه بعضا حتى هضم بعضه بعضا، وأصله من الكسر. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فرهين قرأ أهل الشام والكوفة فارِهِينَ بالألف، وهي قراءة أصحاب عبد الله واختيار أبي عبيد أي حاذقين بتخيّرها. وقال عطيّة وعبد الله بن شداد: متخيرين لمواضع نحتها، وقرأ الباقون: فرهين بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم. واختلفوا في معناه فقال ابن عباس: أشرين، الضحّاك: كيّسين، قتادة: معجبين بصنعكم، مجاهد: شرهين، عكرمة: ناعمين، السدّي: متحيرين، ابن زيد: أقوياء، الكسائي: بطرين، أبو عبيدة: فرحين، الأخفش: فرحين، والعرب تعاقب بين الحاء والهاء مثل: مدحته ومدهته، ويجوز أن يكون فرهين وفارِهِينَ بمعنى واحد مثل قوله عِظاماً نَخِرَةً «2» وناخرة، ونحوها. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ المشركين الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي المسحورين المخدوعين عن مجاهد وقتادة. وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: من المعلّلين بالطعام والشراب، وأنشد الكلبي قول لبيد: فإن تسألينا فيم نحن فإننّا ... عصافير من هذا الأنام المسحّر «3» وقال آخر: ويسحر بالطعام وبالشراب
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 إلى 175]
أي يعلّل ويخدع، وهو على هذين القولين من السّحر بكسر السين. وقال بعضهم: من السّحر بفتح السين أي أصحاب الرؤية، يدلّ عليه قوله ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ على صحة ما يقول إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ حظ ونصيب من الماء وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بعقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها حين رأوا العذاب. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ مجاوزون الحلال إلى الحرام. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من بلدنا قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ يعني اللواط مِنَ الْقالِينَ المبغضين. ثمّ دعا فقال رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ عند نزول العذاب إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ وهي امرأة لوط بقيت في العذاب والهلاك. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ «1» فقال: سمعت وهب بن منبه يقول: الكبريت والنار. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 إلى 191]
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الغيضة وهم قوم شعيب والليكة والْأَيْكَةِ لغتان قرئتا جميعا الْمُرْسَلِينَ. قال أبو زيد «1» : بعث الله سبحانه شعيبا إلى قومه وأهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ولم يقل أخوهم شعيب لأنّه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلمّا ذكر مدين قال: أَخاهُمْ شُعَيْباً لأنه كان منهم. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وإنّما دعوة هؤلاء الأنبياء كلّهم فيما حكى الله سبحانه عنهم على صيغة واحدة للإخبار بأنّ الحقّ الذي يدعون إليه واحد، وأنّهم متّفقون على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على الدعوة وتبليغ الرسالة. أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين للكيل والوزن. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الخليقة الْأَوَّلِينَ. والجبلّ: الخلق، قال الشاعر: والموت أعظم حادث ... مما يمرّ على الجبلّة قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ وهو مجازيكم به وما عليّ إلّا الدعوة. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وذلك أنّ الله سبحانه حبس عنهم الريح سبعة أيّام
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 إلى 220]
وسلّط عليهم الحرّ حتى أخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظلّ ولا ماء، وكانوا يدخلون الأسراب ليتبرّدوا فيها فإذا دخلوها وجدوها أشدّ حرا من الظاهر، فخرجوا هرابا الى البرية فأظلّتهم سحابة وهي الظلّة، فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أمطرت عليهم نارا فاحترقوا. قال قتادة: بعث الله سبحانه شعيبا إلى أمّتين: أصحاب الأيكة وأهل مدين، فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلّة وأمّا أهل مدين فأخذتهم الصيحة، صاح بهم جبرئيل صيحة فهلكوا جميعا. أخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا الحسن بن علويه قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا المسيّب عن برد الجريري قال: سلّط الحرّ عليهم سبعة أيام ولياليهن، ثم رفع لهم جبل من بعيد، فأتاه رجل منهم فإذا تحته أنهار وعيون وماء بارد فتمكّن تحته وأخذ ما يكفيه ثم جاء إلى أهل بيته فآذنهم فجاؤوا فأخذوا ما يكفيهم وتمكّنوا، ثم آذن بقيّة الناس فاجتمعوا تحته كلّهم فلم يغادر منهم أحدا، فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك قوله سبحانه فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 220] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ يعني القرآن نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ قرأ الحجازيّون وأبو عمر بتخفيف الزاي ورفع الحاء والنون يعنون جبرئيل (عليه السلام) بالقرآن، وقرأ الآخرون بتشديد الزاي وفتح الحاء والنون أي نزّل الله جبرئيل (عليه السلام) ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لقوله وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ وهو مصدر نزّل، عَلى قَلْبِكَ يا محمد حتى وعيته.
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ يعني نزل بلسان عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ يعني ذكر القرآن وخبره عن أكثر المفسرين وقال مقاتل: يعني ذكر محمد صلى الله عليه وسلّم ونعته لَفِي زُبُرِ كتب الْأَوَّلِينَ وقرأ الأعمش زُبْرِ بجزم الباء، وغيره بالرفع. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً قرأ ابن عامر تكن بالتاء آيَةٌ بالرفع، غيره تكن بالتاء آيَةً بالنصب، ومعنى الآية أو لم يكن لهؤلاء المنكرين دلالة وعلامة أَنْ يَعْلَمَهُ يعني محمدا عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ. عبد الله بن سلام وأصحابه قال ابن عباس: بعث أهل مكة الى اليهود وهم بالمدينة فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلّم فقالوا: إن هذا لزمانه وإنّا نجد في التوراة نعته وصفته وكان ذلك آية لهم على صدقه. وَلَوْ نَزَّلْناهُ يعني القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ هو جمع الأعجم، وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية وإن كان منسوبا الى العرب، وتأنيثه عجماء، وجمعه عجم، ومنه قيل للبهائم عجم لأنها لا تتكلم. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «العجماء جرحها جبار» «1» [97] فإذا أردت أنه منسوب إلى العجم قلت: عجمي. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا سهل بن علي قال: حدّثنا أبو عمر قال: حدّثنا شجاع بن أبي نصر عن عيسى بن عمر عن الحسن أنّه قرأ «ولو نزّلناه على بعض الأعجميين» مشدّدة بيائين، جعله نسبة ومعنى الآية: ولو نزّلناه على رجل ليس بعربي اللسان فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ بغير لغة العرب ل ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، وقالوا: ما نفقه قولك نظيره قوله سبحانه وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ «2» ، وقيل معناه: ولو نزّلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتّباعه. كَذلِكَ سَلَكْناهُ أي أدخلنا القرآن فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لتقوم الحجة عليهم، وقيل: يعني سلكنا الكفر في قلوب المجرمين لا يُؤْمِنُونَ بِهِ. قال الفرّاء: من شأن العرب إذا وضعت (لا) موضع (كي) في مثل هذا ربّما جزمت ما بعدها وربّما رفعت فتقول: ربطت الفرس لا ينفلت جزما ورفعا، وأوثقت العبد لا يأبق في الجزم على تأويل إن لم أربطه انفلت، وإن لم أوثقه فرّ، والرفع على أنّ الجازم غير ظاهر. أنشد بعض بني عقيل:
وحتى رأينا أحسن الود بيننا ... مساكنة لا يقرف الشر قارف «1» ينشد رفعا وجزما، ومن الجزم قول الراجز: لطال ما حلأتماها لا ترد ... فخليّاها والسجال تبترد «2» حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ قراءة العامة بالياء يعنون العذاب. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: أخبرنا أبو العباس عبد الرّحمن بن محمد ابن حماد الطهراني قال: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن الفضل الحرمي قال: حدّثنا وهب بن عمرو النمري قال: أخبرنا هارون بن موسى العتكي قال: حدّثنا الحسام عن الحسن أنه قرأ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بالتاء فقال له رجل: يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة فانتهره الحسن وقال: إنّما هي الساعة. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ. قال مقاتل: فقال المشركون: يا محمد إلى متى توعدنا بالعذاب؟ فأنزل الله عزّ وجل أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ في الدنيا ولم نهلكهم ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ يعني العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ رسل ينذرونهم ذِكْرى أي ينذرونهم تذكرة محلّها نصب، وقيل رفع أي تلك ذكرى. وَما كُنَّا ظالِمِينَ في تعذيبهم حيث قدّمنا الحجّة عليهم وأعذرنا إليهم. وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ بل نزل به الروح الأمين، وقراءة العامّة الشَّياطِينُ بالياء في جميع القرآن لأن نونه سنخية وهجاؤه واحد كالدهاقين والبساتين. وقرأ الحسن البصري ومحمد بن السميدح اليماني: الشياطون بالواو وقال الفراء: غلط الشيخ يعني الحسن فقيل: ذلك النضر بن شميل فقيل: إن جاز أن يحتج يقول العجاج ورؤبة ودونهما فهلّا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه؟ مع إنّا نعلم أنهما لم يقرءا ذلك إلّا وقد سمعا فيه. وقال المؤرّخ: إن كان اشتقاق الشياطين من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. وأخبرني عمر بن شبّه قال: سمعت أبا عبيد يقول: لم نعب على الحسن في قراءته إلّا قوله: وما تنزّلت به الشياطون. وبإسناده عن عمر بن شبّه قال: حدّثنا أبو حرب البابي من ولد باب قال: جاء أعرابي إلى
يونس بن حبيب فقال: أتانا شاب من شبابكم هؤلاء فأتى بنا هذا الغدير فأجلسنا في ذات جناحين من الخشب فأدخلنا بساتين من وراءها بساتون. قال يونس: ما أشبه هذا بقراءة الحسن. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أن ينزلوا القرآن وَما يَسْتَطِيعُونَ ذلك إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي استراق السمع من السماء لَمَعْزُولُونَ وبالشهب مرجومون فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمر قال: حدّثني عبّاد بن يعقوب قال: حدّثنا علي بن هاشم عن صباح بن يحيى المزني عن زكريا بن ميسرة عن أبي إسحاق عن البراء قال: لمّا نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس، فأمر عليّا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا باسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم: اشربوا باسم الله، فشرب القوم حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما يسحركم به الرجل، فسكت النبي صلى الله عليه وسلّم يومئذ فلم يتكلّم. ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «يا بني عبد المطلب إنّي أنا النذير إليكم من الله سبحانه والبشير لما يجيء به أحد منكم، جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ومن يواخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيي بعدي، وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم، وأعاد ذلك ثلاثا كلّ ذلك يسكت القوم، ويقول علي: أنا فقال: «أنت» فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمّر عليك «1» [98] . وأخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني ومحمد بن عبد الله بن حمدون قالا: أخبرنا أحمد ابن محمد بن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيّب وأبو سلمة بن عبد الرّحمن أنّ أبا هريرة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلّم حين أنزل الله سبحانه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قال: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفيّة عمّة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، فسلوني من مالي ما شئتم» «2» [99] . وأخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم
قال: حدّثنا عبد الله قال: حدّثنا الأعمش عن عبد الله بن مرّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لمّا أنزل الله سبحانه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم قال: فإني نذيركم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم، ما دعوتنا إلّا لهذا، فأنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ «1» [100] . وَاخْفِضْ جَناحَكَ فليّن جانبك لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من عبادة الأوثان ومعصية الرحمن. فَتَوَكَّلْ بالفاء أهل المدينة والشام وكذلك هو في مصاحفهم، وغيرهم بالواو أي وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ليكفيك كيد أعدائك. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ إلى صلاتك عن أكثر المفسّرين. وقال مجاهد: الَّذِي يَراكَ أينما كنت وَتَقَلُّبَكَ ويرى تقلّبك في صلاتك في حال قيامك وقعودك وركوعك وسجودك. قال عكرمة وعطيّة عن ابن عباس، وقال مجاهد: ويرى تقلّبك في المصلّين أي إبصارك منهم من هو خلفك كما تبصر من هو أمامك. قال: وكان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن قال: حدّثنا السلمي وأحمد بن حفص وعبد الله الفرّاء وقطن قالوا: حدّثنا حفص قال: حدّثنا إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: اتمّوا الركوع والسجود فو الله إنّي لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم «2» . وقال قتادة وابن زيد ومقاتل والكلبي: يعني وتصرّفك مع المصلّين في أركان الصلاة في الجماعة قائما وقاعدا وراكعا وساجدا، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 إلى 227]
وقال سعيد بن جبير: وتصرّفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله، والساجدون في هذا القول: الأنبياء. وقال الحسن: يعني وتصرّفك وذهابك ومجيئك في أصحابك والمؤمنين. أخبرني أبو سهل عبد الملك بن محمد بن أحمد بن حبيب المقري قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن موسى، قال: حدّثنا زنجويه بن محمد، قال: حدّثنا علىّ بن سعيد النسوي أبو عاصم عن صهيب عن عكرمة عن ابن عباس وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال: من نبي الى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة. وحدّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخسي الفقيه إملاء قال: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة قال: حدّثنا الحسن بن بشر قال: حدّثنا سعدان بن الوليد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس في قوله سبحانه وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمّه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لقراءتك الْعَلِيمُ بعملك. [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ ثمّ بيّن فقال تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ كذّاب أَثِيمٍ فاجر، وهم الكهنة. وقال مقاتل: مثل مسيلمة وطلحة. يُلْقُونَ السَّمْعَ يعني يستمعون من الملائكة مسترقين فيلقون إلى الكهنة. وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ لأنّهم يخلطون به كذبا كثيرا، وهم الآن محجوبون وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن قهزاد المروزي قال: حدّثنا حاتم بن العلاء قال: أخبرنا عبد المؤمن عن بريده عن ابن عباس في هذه الآية وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ
الْغاوُونَ قال: هم الشياطين، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ. وقال الضحّاك: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، ومع كل واحد منهم غواة من قومه وهم السفهاء، فنزلت هذه الآية وهي رواية عطيّة عن ابن عباس. عكرمة عنه: الرواة. علي بن أبي طلحة عنه: كفّار الجنّ والإنس. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال: أخبرني جعفر بن محمد قال: حدّثنا حسين بن محمد بن علي قال: حدّثنا أبي عن عبد الله بن سعيد بن الحر عن أبي عبد الله وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال: هم الذين يشعرون قلوب الناس بالباطل، وأراد بهؤلاء شعراء الكفّار: عبد الله بن الزبعرى المخزومي، وهبيرة بن أبي وهب، ومسافع بن عبد مناف، وعمرو بن عبد الله أبا عزّة الجمحي، وأميّة بن أبي الصلت كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيتّبعهم الناس. أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة قال: حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال: حدّثنا علي بن سعيد النسوي قال: حدّثنا عبد السلام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن مكحول عن أبي إدريس عن غضيف أو أبي غضيف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه» «1» [101] . وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرنا أبو يعلى قال: حدّثنا إبراهيم بن عرعرة قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن مهدي قال: حدّثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لمّا فتح النبي صلى الله عليه وسلّم يعني مكة رنّ إبليس رنّة فاجتمعت إليه ذريّته فقال: «آيسوا أن ترتد أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن أفشوا فيها- يعني مكة- الشعر والنوح» [102] . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ من أودية الكلام يَهِيمُونَ حائرين وعن طريق الحق والرشد جائرين. قال الكسائي: الهائم الذاهب على وجهه. أبو عبيد: الهائم المخالف للقصد.
قال ابن عباس في هذه الآية: في كل لغو يخوضون، مجاهد: في كل فن يفتنون، قتادة: يمدحون قوما بباطل، ويشتمون قوما بباطل. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ ثمّ استثنى شعراء المؤمنين: حسّان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير فقال عزّ من قائل إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا يعني ردّوا على المشركين الذين هجوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد الكسائي قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا يحيى بن واضح عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي الحسن البراد قال: لما نزلت هذه الآية وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ جاء عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسّان بن ثابت الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله أنزل الله سبحانه هذه الآية وهو يعلم أنّا شعراء، فقال: اقرءوا ما بعدها إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أنتم وَانْتَصَرُوا أنتم «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري. وأخبرنا ابن حمدون قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنّه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلّم حين أنزل الله سبحانه في الشعراء ما أنزل: يا رسول الله إنّ الله سبحانه وتعالى قد أنزل في الشعراء ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال النبىّ صلى الله عليه وسلّم: «إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل» «2» [103] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل قال: حدّثنا عمرو بن محمد الناقد قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أنّ عمر مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة وقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «أجب عنّي، اللهم أيّده بروح القدس» ؟ [104] قال: اللهم نعم «3» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا محمد بن علي بن سالم الهمداني قال: حدّثنا أحمد بن منيع قال: حدّثنا أبو معاوية قال: حدّثنا الشيباني عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحسّان: «اهج المشركين فإنّ جبرئيل معك» «1» [105] . وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أيّ مرجع يرجعون إليه بعد مماتهم. وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس رضي الله عنه (أيّ منقلب ينفلتون) بالفاء والتاء ومعناهما واحد. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبة قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا ابن عون عن إبراهيم قال: كان شريح يقول: سيعلم الظالمون حظّ من نقصوا، إنّ الظالم ينتظر العقاب، وإنّ المظلوم ينتظر النصر.
سورة النمل
سورة النّمل مكّيّة، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا، وألف «1» وتسع وأربعون كلمة، وثلاث وسبعون آية. أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد المعدّل قال: حدّثنا أبو يحيى البزّاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال: حدّثني أبي، عن مجالد بن عبد الواحد، عن الحجاج بن عبد الله، عن أبي الخليل وعن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة، عن زرّ بن حبيش، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلّا الله» [106] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) طس قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عزّ وجل، أقسم الله سبحانه به أن هذه السورة آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ يعني وآيات كتاب مبين، وقيل: الطاء من اللطيف، والسين من السميع، وقال أهل الإشارة: هي إشارة إلى طهارة سرّ حبيبه. هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ فيهما وجهان من العربية، الرفع على خبر الابتداء أي هي هدى، وإن شئت على حرف جزاء الصفة في قوله لِلْمُؤْمِنِينَ والنّصب على القطع والحال. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة حتى رأوها حسنة، وتزيينه خذلانه إيّاهم.
[سورة النمل (27) : الآيات 7 إلى 14]
فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ شدّة الْعَذابِ في الدّنيا القتل والأسر بيده. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ بحرمان النجاة والمنع من دخول الجنّات. وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى لتلقّن وتعطى الْقُرْآنَ نظيره قوله سبحانه وتعالى وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ «1» مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ. [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ في مسيره من مدين إلى مصر وقد أصلد زنده إِنِّي آنَسْتُ ناراً فامكثوا مكانكم سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ قرأ أهل الكوفة ويعقوب: بِشِهابٍ منوّن على البدل، غيرهم بالإضافة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، ومعناه: سآتيكم بشعلة نار اقتبسها منها. لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ. قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن: يعني قدّس من في النار وهو الله سبحانه عنى به نفسه عزّ وجل، وتأويل هذا القول أنّه كان فيها لا على معنى تمكّن الأجسام لكن على معنى أنّه نادى موسى منها، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها، وهو كما روي أنّه مكتوب في التوراة: جاء الله عزّ وجلّ من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، فمجيئه عزّ وجلّ من سيناء بعثته موسى منها، ومن ساعير بعثته المسيح بها، واستعلامه من جبال فاران بعثه المصطفى صلى الله عليه وسلّم، وفاران مكة، وقالوا: كانت النار نوره عزّ وجلّ، وإنّما ذكره بلفظ النّار لأنّ موسى حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله سبحانه وتعالى، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن إسحاق قال: حدّثنا هاشم القاسم بن القاسم قال: حدّثنا المسعودي عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة، موسى عن الأشعري قال: قام بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأربع فقال: «إنّ الله عزّ وجل لا ينام، ولا ينبغي له
أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النار، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره» [107] «1» ، ثم قرأ أبو عبيدة أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وقيل معناه: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ سلطانه وقدرته وفيمن حولها. وقال آخرون: هذا التبريك عائد إلى موسى والملائكة، ومجاز الآية: بورك من في طلب النار وقصدها بالقرب منها، وهذا كما يقال: بلغ فلان البلد إذا قرب منه، وورد فلان الماء لا يريدون أنّه في وسطه، ويقال: أعط من في الدار، يريدون من هو فيها مقيم أو شريك وإن لم يكن في الوقت في الدار، ونحوها كثير. ومعنى الآية: بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار، وهذا تحيّة من الله سبحانه لموسى وتكرمة له كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. وقال بعضهم: هذه البركة راجعة إلى النار نفسها. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال: معناه بوركت النار، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى قال: حدّثنا أحمد بن نجدة قال: حدّثنا الحمّاني قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سمعت أبيّا يقرؤها: أن بوركت النار ومن حولها، وتقدير هذا التفسير أنّ (من) تأتي في الكلام بمعنى (ما) ، كقوله سبحانه وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ «2» وقوله فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ «3» الآية و (ما) قد تكون صلة في كثير من المواضع كقوله جُنْدٌ ما هُنالِكَ «4» وعَمَّا قَلِيلٍ «5» فمعنى الآية بورك في النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى (عليه السلام) ، فسمّى النار مباركة كما سمّى البقعة مباركة فقال فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ. وأمّا وجه قوله بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ فإنّ العرب تقول: باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك وبارك لك، أربع لغات، قال الشاعر: فبوركت مولودا وبوركت ناشيا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب «6»
فأما الكلام المسموع من الشجرة فاعلم أنّ مذهب أهل الحق أنّ الله سبحانه وتعالى مستغن عن الحدّ والمكان والجهة والزمان لأنّ ذلك كلّه من أمارات الحدث، وهي خلقه وملكه وهو سبحانه أجلّ وأعظم من أن يوصف بالجهات، أو تحدّه الصفات، أو تصحبه الأوقات، أو تحويه الأماكن والأقطار. ولمّا كان كذلك استحال أن توصف صفات ذاته بأنّها متنقّلة من مكان أو حالّة في مكان، وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف كلامه بأنّه يحلّ موضعا أو ينزل مكانا، كما لا يوصف بأنّه جوهر ولا عرض ولا حروف ولا صوت، بل هو صفة يوصف بها الباري عزّ وجل فينتفى عنه بها آفات الخرس والبكم وما لا يليق به. فأمّا الأفهام والأسماع فيجوز أن يكون في موضع دون موضع ومن مكان دون مكان ومن حيث لم تقع إحاطة واستغراق بالوقت على كنه صفاته، قال الله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «1» . يا مُوسى إِنَّهُ الهاء عماد وليست بكناية أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرّك كَأَنَّها جَانٌّ وهي الحيّة الخفيفة الصغيرة الجسم، وقال الكلبي: لا صغيرة ولا كبيرة. فإن قيل: كيف قال في موضع كَأَنَّها جَانٌّ وفي موضع آخر فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ «2» والموصوف واحد؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما: أنّها في أوّل أمرها جانّ وفي آخر الأمر ثعبان، وذلك أنّها كانت تصير حية على قدر العصا ثم لا تزال تنتفخ وتربو حتى تصير كالثعبان العظيم. والآخر: أنّها في سرعة الجانّ وخفّته وفي صورة الثعبان وقوّته. فلمّا رآها موسى (عليه السلام) وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع، قال قتادة: ولم يلتفت. فقال الله سبحانه يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ فعمل بغير ما أمر ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً قراءة العامة بضم الحاء وجزم السين، وقرأ الأعمش بفتح الحاء والسين بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ.
واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء ومعنى الآية، فقال الحسن وابن جريج: قال الله سبحانه (يا موسى إنّما أخفتك لقتلك) . قال الحسن: وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب، ثم تذنب والله فتعاقب. قال ابن جريج: فمعنى الآية: لا يخيف الله سبحانه الأنبياء بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب، فقوله إِلَّا على هذا التأويل استثناء صحيح، وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الرسل وغيرهم من الناس، وفي الآية استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها (فمن ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فإنّي غفور رحيم) . وقال الفرّاء: يقول القائل: كيف صيّر خائفا من ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء وهو مغفور له؟ فأقول له: في الآية وجهان: أحدهما: أن تقول أنّ الرسل معصومة، مغفور لها، آمنة يوم القيامة، ومن خلط عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً من سائر الناس فهو يخاف ويرجو، فهذا وجه. والآخر: أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة لأنّ المعنى لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إنما الخوف على غيرهم. ثمّ استثنى فقال عزّ من قائل: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ يقول: كان مشركا فتاب من الشرك وعمل حسنة مغفور له وليس بخائف. قال: وقد قال بعض النحويّين: إِلَّا هاهنا بمعنى الواو يعني: ولا من ظلم منهم كقوله سبحانه (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) . وقال بعضهم: قوله إِلَّا ليس باستثناء من المرسلين لأنّه لا يجوز عليهم الظلم وإنّما معنى الآية: لكن من ظلم فعليه الخوف فإذا تاب أزال الله سبحانه وتعالى عنه الخوف. وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ وإنّما أمره بإدخال يده في جيبه لأنّه كان عليه في ذلك الوقت مدرعة من صوف، ولم يكن لها كمّ، قاله المفسّرون. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ برص وآفة فِي تِسْعِ آياتٍ يقول هذه آية مع تسع آيات أنت مرسل بهنّ. إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فترك ذكر مرسل لدلالة الكلام عليه، كقول الشاعر: رأتني بحبليها فصدّت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق «1»
[سورة النمل (27) : الآيات 15 إلى 26]
أراد: راتني مقبلا بحبليها، فترك ذكره لدلالة الكلام عليه. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً مضيئة بيّنة يبصر بها قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 26] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ نبوّته وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود (عليه السلام) تسعة عشر ابنا. قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضى منه، وكان داود أشدّ تعبّدا من سليمان (عليهما السلام) . وَقالَ سليمان شاكرا لنعم الله سبحانه وتعالى عليه يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ جعل ذلك من الطير كمنطق بني آدم إذ فهمه عنها وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ. قال مقاتل في هذه الآية: كان سليمان (عليه السلام) جالسا إذ مرّ به طائر يطوف فقال لجلسائه: هل تدرون ما يقول الطائر الذي مرّ بنا؟ قالوا: أنت أعلم، فقال سليمان: إنّه قال لي: السلام عليك أيّها الملك المسلّط على بني إسرائيل، أعطاك الله سبحانه وتعالى الكرامة وأظهرك على عدوّك، إنّي منطلق الى فروخي ثم أمرّ بك الثانية، وإنّه سيرجع إلينا الثانية فانظروا إلى رجوعه. قال: فنظر القوم طويلا إذ مرّ بهم فقال: السلام عليك أيّها الملك إن شئت أن تأذن لي كيما أكسب على فروخي حتى يشبّوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت، فأخبرهم سليمان بما قال وأذن له.
وقال فرقد السخي: مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: الله ونبيّه أعلم، قال: يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا. وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسن العدل قال: حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة وأحمد ابن جعفر بن حمدان قالا: حدّثنا الفضل بن العباس الرازي قال: حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا موسى ابن إبراهيم قال: حدّثنا عباد بن إبراهيم عن الكلبي عن رجل عن كعب قال: صاحت ورشان عند سليمان بن داود (عليه السلام) فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: فإنّها تقول «1» : ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاوس عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنّه يقول «2» : من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عند سليمان فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنّه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، فمن ثمّ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قتله. قال: فصاحت طيطوى عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا. قال: فإنّها تقول: كلّ حىّ ميّت، وكلّ جديد بال. وصاح خطّاف عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنّه تقول: قدّموا خيرا تجدوه، فمن ثمّ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قتله. وهدرت حمامة عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما تقول هذه الحمامة؟
قالوا: لا. قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وصاح قمريّ عند سليمان (عليه السلام) فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال: فإنّه يقول: سبحان ربّي الأعلى، والغراب يدعو على العشّار، والحدأة تقول: كلّ شيء هالك إلّا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همّه، والضفدع يقول: سبحان ربّي القدّوس، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده، والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكلّ مكان. وأخبرنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا الفضل بن العباس بن مهران قال: حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا موسى بن إبراهيم قال: أخبرنا إسماعيل عن عياش عن زرّ عن مكحول قال: صاح درّاج عند سليمان بن داود (عليه السلام) فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا. قال فإنّه يقول: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى. وبإسناده عن موسى بن إبراهيم قال: أخبرنا صالح الهروي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الديك إذا صاح يقول: اذكروا الله يا غافلين» «1» [108] . وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسن بن علي قال: إذا صاح النسر قال: يا ابن آدم عش ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال: في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القبّر قال: الهي العن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطّاف قرأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، يمدّ الضَّالِّينَ كما يمد للقارئ. وَحُشِرَ وجمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ في مسير لهم فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا، وذلك أنّه جعل على كلّ صنف منهم وزعة ترد أولاها على أخراها لئلّا يتقدّموا في المسير كما يصنع الملوك. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يُوزَعُونَ: يدفعون. ابن زيد ومقاتل: يساقون، السدّي: يوقفون، وأصل الوزع في كلام العرب الكفّ والمنع، ومنه الحديث: ما يزع السلطان أكثر ممّا يزع القرآن ويقال للأمر أوزعه. وفي الخبر: لا بدّ للناس من وزعة . وقال الشاعر:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألمّا أصح والشيب وازع «1» أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر ابن مجاهد قال: حدّثنا أحمد قال: حدّثنا سنيد قال: حدّثنا حجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب في هذه الآية قال: بلغنا أنّ سليمان (عليه السلام) كان عسكره مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية، فأمر الريح العاصف فحملته وأمر الرخاء فسرت به، فأوحي إليه- وهو يسير بين السماء والأرض- إنّي قد زدت في ملكك أنّه لا يتكلّم أحد من الخلائق بشيء إلّا جاءت الريح فأخبرتك به. وقال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان (عليه السلام) بساطا فرسخا في فرسخ ذهبا في إبريسم، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه، وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة، يقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح الى الرّواح ومن الرواح إلى الصباح. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال: حدّثنا أبو بكر يعني ابن عياش عن إدريس ابن وهب بن منبه قال: حدّثني أبي قال: إنّ سليمان (عليه السلام) ركب البحر يوما فمرّ بحرّاث فنظر إليه الحرّاث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فحملت الريح كلامه في أذن سليمان فنزل حتى أتى الحرّاث فقال: إنّي سمعت قولك وإنّما مشيت إليك لأن لا تتمنى ما لا تقدر عليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير ممّا أوتي آل داود، فقال الحرّاث: أذهب الله همّك كما أذهبت همّي. حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد بن جعفر «2» قال: حدّثنا الحسن بن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا أبو إلياس عن وهب بن منبه عن كعب قال: إنّ سليمان (عليه السلام) كان إذا ركب حمل أهله وسائر حشمه وخدمه وكتّابه تلك السقوف بعضها فوق بعض على قدر درجاتهم، وقد اتّخذ مطابخ ومخابز تحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع في قدر عشرة جزائر، وقد اتّخذ ميادين للدوابّ أمامه، فيطبخ الطبّاخون ويخبز الخابزون وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوي بهم.
فسار بمن اصطحبه إلى اليمن، فسلك المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال سليمان: هذه دار هجرة نبىّ في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتّبعه، وطوبى لمن اقتدى به، ورأى حول البيت أصناما تعبد من دون الله سبحانه، فلمّا جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله سبحانه إلى البيت: ما يبكيك؟ فقال: يا ربّ أبكاني هذا نبيّ من أنبيائك وقوم من أولياءك مرّوا عليّ، فلم يهبطوا فيّ ولم يصلّوا عندي ولم يذكروك بحضرتي، والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله سبحانه إليه أن لا تبك وإنّي سوف أملأك وجوها سجّدا، وأنزل فيك قرآنا جديدا، وأبعث منك نبيّا في آخر الزمان أحبّ أنبيائي إليّ، وأجعل فيك عمّارا من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يرفّون إليك رفّة النّسور الى وكرها ويحنّون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضتها، وأطهّرك من الأوثان وعبدة الشيطان. قال: ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير، واد من الطائف فأتى عَلى وادِ النَّمْلِ ف قالَتْ نَمْلَةٌ تمشي، وكانت عرجاء تتكاوس، وكانت مثل المذنب في العظم، فنادت النملة يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يعني أنّ سليمان يفهم مقالتها وكان لا يتكلّم خلق إلّا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان (عليه السلام) . قال فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي إلى قوله فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ يعني مع عبادك الموحّدين. وقال قتادة ومقاتل: وادي النمل بأرض الشام. قال نوف الحميري: كان نمل وادي سليمان مثل الذباب. وقال الشعبي: النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات جناحين. قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. واختلفوا في اسم تلك النملة. فأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الحسني الدينوري قال: حدّثنا أبو العباس أحمد ابن محمد بن يوسف الصرصري قال: حدّثنا الهيثم بن خلف الدوري قال: حدّثنا هارون بن حاتم البزاز قال: حدّثنا إبراهيم بن الزبرقان التيمي عن أبي روق عن الضحاك قال: كان اسم النملة التي كلّمت سليمان بن داود (عليه السلام) طاحية. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة وعبيد الله قالا: حدّثنا ابن مجاهد قال: حدّثني الفضل بن الحسن قال: حدّثنا أبو محمد النعمان بن شبل الباهلي قال: حدّثنا ابن أبي روق عن أبيه قال: كان اسم نملة سليمان حرمي، وهو قول مقاتل. ورأيت في بعض الكتب أنّ سليمان لمّا سمع قول النملة قال: ائتوني بها، فأتوه بها فقال لها: لم حذّرت النمل ظلمي؟ أما علمت أنّي نبي عدل؟ فلم قلت: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ؟
فقالت النملة: أما سمعت قولي: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ؟ مع ما أنّي لم أرد حطم النفوس وإنّما أردت حطم القلوب، خشيت أن يتمنّين ما أعطيت ويشتغلن بالنظر عن التسبيح، فقال لها: عظيني، فقالت النملة: هل علمت لم سمّي أبوك داود؟ قال: لا. قالت: لأنّه داوى جرحه فردّ. هل تدري لم سمّيت سليمان؟ قال: لا. قالت: لأنّك سليم وكنت إلى ما أوتيت لسلامة صدرك وإنّ لك أن تلحق بأبيك ثم قالت: أتدري لم سخّر الله لك الريح؟ قال: لا. قالت: أخبرك الله أنّ الدنيا كلّها ريح، فَتَبَسَّمَ سليمان ضاحِكاً متعجّبا مِنْ قَوْلِها، وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي الى آخر الآية. أخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا ابن شنبة قال: أخبرنا الحضرمي قال: حدّثنا حسن الخلّال قال: حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قتل أربعة من الدواب: الهدهد والصرد والنحلة والنملة. وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ أي طلبها وبحث عنها فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ فتح ابن كثير وعاصم والكسائي وأيّوب (لِيَ) هاهنا وفي سورة يس وَما لِيَ لا أَعْبُدُ «1» وأرسل حمزة الياء فيهما جميعا «2» ، وأمّا أبو عمرو فكان يرسل الياء في هذه ويفتح في يس، وفرّق بينهما فقال: لأنّ هذه للتي في النمل استفهام والأخرى انتفاء. أَمْ كانَ قيل: الميم صلة وقيل: أم بمعنى بل كان مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً وكان عذابه أن ينتف ريشه وذنبه فيدعه ممعطا ثم يلقيه في بيت النمل فيلدغه، وقال عبد الله بن شدّاد: نتفه وتشميسه. الضحّاك: لأشدّن رجله ولأشمسنّه. مقاتل بن حيّان: لأطلينّه بالقطران ولأشمسنّه. وقيل: لأودعنّه القفص، وقيل: لأفرّقنّ بينه وبين إلفه، وقيل: لأمنعنه من خدمتي، وقيل: لأبدّدنّ عليه؟.
أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة واضحة، وأما سبب تفقّده الهدهد وسؤاله عنه من بين الطير إخلاله بالنوبة التي كان ينوبها واحتياج سليمان (عليه السلام) إلى الماء، فلم يعلم من قصره «1» بعد الماء، وقيل له: علم ذلك عند الهدهد، فتفقّده فلم يجده فتوعّده وكانت القصّة فيه على ما ذكره العلماء بسيرة الأنبياء دخل حديث بعضهم في بعض: إنّ نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلّم لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج الى أرض الحرم، فتجهز للمسير واستصحب من الإنس والجنّ والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ، وأمر الريح الرخاء فحملتهم، فلمّا وافى الحرم وأقام به ما شاء الله تعالى أن يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه جملة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة. وقال لمن حضره من أشراف قومه: إنّ هذا مكان يخرج منه نبيّ عربيّ صفته كذا وكذا، يعطى النصر على جميع من ناواه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر بالقريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم. قالوا: فبأي دين ندين يا نبي الله؟ قال: بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به وصدقه. قالوا: وكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال: زهاء ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل وإن اسمه محمد في زمر الأنبياء. قال: فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم أحب أن [يسعى] «2» إلى أرض اليمن فخرج من مكة صباحا وسار نحو اليمن يوم نجم سهيل فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا وأزهر خضرتها وأحب النزول بها ليصلي ويتغدى فطلبوا الماء فلم يجدوا وكان الهدهد دليله على الماء، كان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى أحدكم كأسه بيده فينقر الأرض فيعرف موضع الماء وبعده ثم يجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ثم يستخرجون الماء. قال سعيد بن جبير: ذكر ابن عباس هذا الحديث، فقال له نافع بن الأزرق: فرأيت قولك الهدهد ينقر الأرض فيبصر الماء، كيف يبصر هذا ولا يبصر [حبتي القمح] فيقع في عنقه؟. فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر. وروى قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقتلوا الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده، وأحب أن يعبد الله في الأرض حيث يقول وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً» الآية [109] .
قالوا: فلما نزل سليمان قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل ذلك فنظر يمينا وشمالا فرأى بستانا فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان بن داود عليه السلام: يعفور، واسم هدهد اليمن عنفر «1» فقال عنفر ليعفور سليمان: من أين أقبلت؟ وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليه السلام. فقال الهدهد: ومن سليمان بن داود؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والريح فمن أين أنت؟ فقال: أنا من هذه البلاد. قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها: بلقيس، وإن لصاحبكم سليمان ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها ملكت الشمس كلها وتحت يديها إثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل. فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يتفقدني سليمان وقت الصلاة إذا أحتاج إلى الماء. قال الهدهد اليماني: إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان إلّا وقت العصر. قال: فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة طلب الهدهد وذلك أنه نزل على غير ماء فسأل الإنس عن الماء فقالوا: ما نعلم هاهنا ماء. فسأل الجن والشياطين فلم يعلموا فتفقد الهدهد ففقده- قال ابن عباس: في بعض الروايات: وتعب] من تفحّصه إلى] الشمس- سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكانا، فغضب عند ذلك سليمان عليه السلام وقال لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. روى عكرمة عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة. قالوا: ثم دعا بالعقاب سيد الطير فقال: عليّ بالهدهد الساعة. فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى استقرّ بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء فناشده فقال: بحق الله الذي قواك فأقدرك عليّ إلّا رحمتني ولم تتعرض لي بسوء. قال: فولّ عنه العقاب وقال له: ويلك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو
يذبحك، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له: ويلك أين غبت في نومك هذا، فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال. فقال الهدهد: أوما استثنى رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: أو ليأتيني بعذر بيّن. ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه. فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله. فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان، فلمّا دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه وقال له: أين كنت؟ لأعذّبنك عذابا شديدا، فقال له الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه، فلمّا سمع ذلك سليمان ارتعد وعفا عنه. أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا محمد ابن إبراهيم بن أبي الرجال ببغداد قال: حدّثنا إبراهيم بن بسطام عن أبي قتيبة عن الحسن بن أبي جعفر الجعفري عن الزبير بن حريث عن عكرمة قال: إنّما صرف سليمان (عليه السلام) عن ذبح الهدهد لبرّه بوالديه. قالوا: ثم سأله فقال: ما الذي أبطا بك عنّي؟ فقال الهدهد: ما أخبر الله في قوله فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ قراءة العامّة بضم الكاف، وقرأ عاصم ويعقوب وأبو حاتم بفتحه وهما لغتان مشهورتان. فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ علمت ما لم تعلم وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ قرأ الحسن وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحميد وابن كثير في رواية البزي من سبأَ ولسبأ مفتوحة الهمزتين غير مصروفة، ردّوها الى القبيلة، وهي اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالجرّ، جعلوه اسم رجل وبه نطق الخبر أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عن سبأ فقال: كان رجلا له عشرة من البنين يتيامن من ستة ويتشاءم من أربعة، وسنذكر أسماءهم وقصتهم في سورة سبأ إن شاء الله عزّ وجل ، وقال الشاعر: الواردون وتيم في ذرى سبا ... قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس «1» بِنَبَإٍ بخبر يَقِينٍ لا شكّ فيه. قال وهب: قال الهدهد: إنّي أدركت ملكا لم يبلغه ملكك. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ واسمها بلقيس بنت الشيرح، وهو الهدهاد وقيل: شراحيل ابن ذي حدن بن اليشرج بن الحرث بن قيس بن صفى بن سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان، وكان أبو بلقيس الذي يسمّى اليشرج ويلقّب بالهدهاد ملكا عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكا،
وكان يملك أرض اليمن كلّها وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفوا لي، فأبى أن يتزوّج فيهم فزوّجوه امرأة من الجنّ يقال لها ريحانة بنت السكن، فولدت له تلمقة وهي بلقيس ولم يكن له ولد غيرها. ويصدّق هذا ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدّثنا محمد بن حريم بن مروان قال: حدّثنا هشام بن عمّار قال: حدّثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشر بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «كان أحد أبوي بلقيس جنّيا. قالوا: فلمّا مات أبو بلقيس ولم يخلّف ولدا غيرها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون، فاختاروا عليها رجلا فملّكوه عليهم، وافترقوا فرقتين كلّ فرقة منها استولت بملكها على طرف من أرض اليمن. ثمّ إنّ هذا الرجل الذي ملّكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمد يده إلى حرم رعيّته ويفجر، بهن وأراد أصحابه أن يخلعوه فلم يقدروا عليه، فلمّا رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها الملك: والله ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلّا اليأس منك فقالت: لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم فجمعهم وخطبها إليهم، فقالوا: لا نراها تفعل هذا، فقال لهم: إنّما هي ابتدأتني فأنا أحبّ أن تسمعوا قولها وتشهدوا عليها، فلمّا جاءوها وذكروا لها ذلك قالت: نعم أحببت الولد ولم أزل، كنت أرغب عن هذا فالساعة قد رضيت به فزوّجوها منه، فلمّا زفّت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها حتى غصّت منازله ودوره بهم، فلمّا جاءته سقته الخمر حتى سكر ثم حزّت رأسه وانصرفت من الليل الى منزلها، فلمّا أصبح الناس رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوبا على باب دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا لها: أنت بهذا الملك أحقّ من غيرك، فقالت: لولا العار والشنار ما قتلته ولكن عمّ فساده وأخذتني الحميّة حتى فعلت ما فعلت فملّكوها واستتبّ أمرها» «1» [110] . أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خديجة قال: حدّثنا ابن أبي الليث ببغداد قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أبي بكرة قال: ذكرت بلقيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» «2» [111] .
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة. وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ سرير ضخم حسن، وكان مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، ومؤخّره من فضّة مكلّل بألوان الجواهر وله أربع قوائم: قائمة من ياقوت أحمر وقائمة من زمرّد، وقائمة من ياقوت أخضر، وقائمة من درّ، وصفائح السرير من ذهب، وعليه سبعة أبواب كلّ بيت باب مغلق. وقال ابن عباس: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا، وطوله في الهواء ثلاثون ذراعا. وقال مقاتل: كان ثمانين ذراعا في ثلاثين ذراعا وطوله في الهواء ثمانون ذراعا مكلّل بالجوهر. وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ قرأ أبو عبد الرّحمن البلخي والحسن وأبو جعفر وحميد والأعرج والكسائي ويعقوب برواية رويس «ألا اسجدوا» بالتخفيف على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وجعلوه أمرا من الله سبحانه مستأنفا، وحذفوا هؤلاء بدلالة فاعلهما، وذكر بعضهم سماعا من العرب: ألا يا ارحمونا، ألا يا تصدّقوا علينا، يريدون ألا يا قوم كقول الأخطل: ألا يا سلمى يا هند، هند بني بدر ... وإن كان حيانا عدى آخر الدهر «1» فعلى هذه القراءة «اسجدوا» في موضع جزم على الأمر والوقف عليه ألا، ثمّ يبتدي اسجدوا. قال الفرّاء: حدّثني الكسائي عن عيسى الهمذاني قال: ما كنت أسمع المشيخة يقرءونها إلّا بالتخفيف على نيّة الأمر، وهي في قراءة عبد الله: هلّا تسجدوا لله، بالتاء، وفي قراءة أبي ألا يسجدون لله، فهاتان القراءتان حجة لمن خفّف، وقرأ الباقون: أَلَّا يَسْجُدُوا بالتشديد بمعنى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ لئلّا يسجدوا لله فأن موضع نصب ويَسْجُدُوا نصب بأن، واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال: للتخفيف وجه حسن إلّا أنّ فيه انقطاع الخبر عن أمر سبأ وقومها، ثم يرجع بعد إلى ذكرهم، والقراءة بالتشديد خبر يتّبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه، والوقف على هذه ألا ثمّ يبتدي يسجدوا كما يصل الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ الخفيّ المخبوّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني غيب السموات والأرض.
[سورة النمل (27) : الآيات 27 إلى 44]
وقال أكثر المفسّرين: خبء السماء المطر، وخبء الأرض النبات، وفي قراءة عبد الله: يخرج الخبء من السموات، ومن وفي يتعاقبان، يقول العرب: لاستخرجنّ العلم فيكم، يريد منكم، قاله الفرّاء. ويعلم ما يخفون وما يعلنون قراءة العامة بالياء فيهما، وقرأ الكسائي بالتاء وهي رواية حفص عن عاصم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الذي كل عرش وإن عظم فدونه، لا يشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره. قال ابن إسحاق وابن زيد: من قوله أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ الى قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ كلّه كلام الهدهد. [سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 44] قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) قالَ سليمان للهدهد سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ فيما أخبرت أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ فدلّهم الهدهد على الماء فاحتفروا الركايا وروى الناس والدوابّ، وكانوا قد عطشوا، ثم كتب سليمان كتابا من عبد الله سليمان بن داود (عليه السلام) الى بلقيس ملكة سبأ، السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، أمّا بعد فلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ. وقال ابن جريج: لم يزد سليمان على ما قصّ الله في كتابه إِنَّهُ ... وَإِنَّهُ.
قال منصور: كان يقال: كان سليمان أبلغ الناس في كتابه، وأقلّه إملاء ثم قرأ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال قتادة: وكذلك الأنبياء عليهم السلام كانت تكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون، فلمّا كتب الكتاب طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه وقال للهدهد اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فكن قريبا منهم فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ يردّون من الجواب. وقال ابن زيد: في الآية تقديم وتأخير مجازها: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم وانظر ماذا يرجعون ثم تولّ عنهم أي انصرف، كقوله ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ أي انصرف إليه، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به الى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها في قصرها وقد غلّقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلّقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها وآوت إلى فراشها، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها، هذا قول قتادة. وقال مقاتل: حمل الهدهد الكتاب بمنقاره فطار حتى وقف على رأس المرأة، وحولها القادة والجنود، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها. وقال ابن منبّه وابن زيد: كانت لها كوّة مستقبلة الشمس، تقع الشمس فيها حين تطلع، فإذا نظرت إليها سجدت لها، فجاء الهدهد تلك الكوّة فسدّها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم، فلمّا استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها. قالوا: فأخذت بلقيس الكتاب وكانت كاتبة قارئة عربية من قوم تبع بن شراحيل الحميري، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان (عليه السلام) كان في خاتمه، وعرفت أنّ الذي أرسل هذا الكتاب هو أعظم ملكا منها لأن ملكا رسله الطير إنّه لملك عظيم، فقرأت الكتاب وتأخّر الهدهد غير بعيد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد، مع كلّ قائد مائة ألف مقاتل. وقال قتادة ومقاتل والثمالي: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف. قالوا: فجاؤوا وأخذوا مجالسهم فقالت لهم بلقيس: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ. قال قتادة: حسن، نظيره قوله وَمَقامٍ كَرِيمٍ «1» .
وقال ابن عباس: شريف بشرف صاحبه. الضحاك: سمّته كريما لأنّه كان مختوما، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن شاذان قال: حدّثنا جبعويه بن محمد قال: حدّثنا صالح بن محمد بن محمد بن مروان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كرامة الكتاب ختمه» [112] . وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال: حدّثنا عمرو قال: حدّثني أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي قال: حدّثنا إسحاق بن منصور قال: حدّثنا معاذ بن هشام قال: حدّثني أبي عن قتادة عن أنس قال: لمّا أراد نبي الله صلى الله عليه وسلّم أن يكتب إلى العجم، قيل له: أنّ العجم لا يقبلون إلّا كتابا عليه خاتم، فاصطنع خاتما، فكأني انظر إلى بياضه في كفّه. وقال ابن المقفّع: من كتب الى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخفّ به لأن الختم ختم، وقيل: سمّته كريما لأنّه كان مصدّرا ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ وقرأ أشهب العقيلي: إلا تغلوا علىّ بالغين معجمة، وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ مؤمنين طائعين. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ قال ابن عباس: كان مع بلقيس مائة ألف قيل، مع كلّ قيل مائة ألف، والقيل تلك دون الملك الأعظم أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أشيروا عليّ فيما عرض لي وأجيبوني فيما أشاوركم فيه ما كُنْتُ قاطِعَةً قاضية وفاصلة أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ تحضروني. قالُوا مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في القتال وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ عند الحرب وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أيتها الملكة فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ تجدينا لأمرك مطيعين. ف قالَتْ بلقيس لهم حين عرضوا أنفسهم للحرب إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة وغلبة أَفْسَدُوها خرّبوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً أي أهانوا أشرافها وكبراءها لكي يستقيم لهم الأمر، وتناهى الخبر عنها هاهنا فصدّق الله سبحانه قولها فقال وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ. أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبي رحمه الله: انّ الملوك بلاء حيث ما حلّوا ... فلا يكن لك في أكنافهم ظل ماذا تؤمّل من قوم إذا غضبوا ... جاروا عليك وإن أرضيتهم ملّوا وإن مدحتهم خالوك تخدعهم ... واستثقلوك كما يستثقل الكلّ فاستغن بالله عن أبوابهم أبدا ... إنّ الوقوف على أبوابهم ذلّ «1»
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ وذلك أنّ بلقيس كانت لبيبة قد سيست وساست، فقالت للملأ من قومها: إنّي مرسلة الى سليمان وقومه بهديّة أصانعه بذلك عن ملكي واختبره بها أملك هو؟ فإن يكن ملكا قبل الهديّة وانصرف، وإن يكن نبيّا لم يقبل الهدية ولم يرضه منّا إلّا أن نتّبعه على دينه، فأهدت إليه وصيفا ووصائف. قال ابن عباس: ألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف ذكر من أنثى. وقال مجاهد: ألبس الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لبسة الغلمان، واختلفوا في عددهم فقال مقاتل: مائة وصيف ومائة وصيفة. وقال مجاهد: مائتي غلام ومائتي جارية. وقال الكلبي: عشرة غلمان وعشر جواري. وقال وهب وغيره: خمسمائة غلام وخمسمائة جارية. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا ابن فنجويه قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ثابت البناني في قوله وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ قال: أهدت له صفائح ذهب في أوعية الديباج، فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموّهوا له الآجرّ بالذهب ثم أمر به فألقي في الطريق، فلمّا جاءوا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان، قالوا: قد جئنا نحمل شيئا نراه هاهنا ملقى ما يلتفت إليه، فصغر في أعينهم ما جاءوا به، وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب. وقال وهب وغيره من أهل الكتب: عمدت بلقيس الى خمسمائة جارية وخمسمائة غلام فألبست الجواري لباس الغلمان، الأقبية والمناطق، وألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب، وفي آذانهم قروطا وشنوفا مرصّعات بأنواع الجواهر، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملونة، وبعثت إليه أيضا خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة وتاجا مكلّلا بالدرّ والياقوت المرتفع وأرسلت إليه أيضا المسك والعنبر وعود الألنجوج، وعمدت الى حقّة فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معرجة الثقب، ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمّت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا نسخة الهدية وقالت: إن كنت نبيّا فميّز بين الوصفاء والوصيفات، وأخبر بما في الحقّة قبل أن تفتحها وأثقب الدرّة ثقبا مستويا وأدخل خيطا. الخرزة وأمرت بلقيس الغلمان فقالت: إذا كلّمكم سليمان فكلّموه بكلام فيه تأنيث وتخنيث شبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلّمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثمّ قالت للرسول: انظر الى الرجل إذا دخلت عليه، فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنّه ملك ولا يهولنّك منظره فأنا أعزّ منه، وإن رأيت الرجل بشّا لطيفا فاعلم أنّه نبي مرسل فتفهّم قوله وردّ الجواب. فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان (عليه السلام) فأخبره الخبر كلّه،
فأمر سليمان (عليه السلام) الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب والفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفها من الذهب والفضة ففعلوا، ثم قال: أيّ الدوابّ أحسن ممّا رأيتم في البرّ والبحر؟ قالوا: يا نبي الله إنّا رأينا دوابّ في بحر كذا وكذا منمّرة منقطعة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي. قال: عليّ بها الساعة، فأتوا بها، فقال: شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضّة، وألقوا لها علوفها. ثم قال للجنّ: عليّ بأولادكم، فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان (عليه السلام) في مجلسه على سريره ووضع له أربعون ألف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفّوا صفوفا فراسخ، وأمر الإنس فاصطفّوا فراسخ، وأمر الوحش والسباع والهوامّ والطير فاصطفّوا فراسخ عن يمينه ويساره. فلمّا رأى القوم الميدان ونظروا إلى ملك سليمان (عليه السلام) ورأوا الدوابّ التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم وبقوا بما معهم من الهدايا. وفي بعض الروايات أن سليمان (عليه السلام) لمّا أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع اللبنات التي معهم، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا وكلّ الأرض مفروشة خافوا أن يتّهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان. قالوا: ثم جاءوا، فلمّا رأوا الشياطين نظروا إلى موضع عجيب ففزعوا فقال لهم الشياطين: جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرّون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والسباع والوحش حتى وقفوا بين يدي سليمان (عليه السلام) فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه فقال: أين الحقّة فأتى به فحرّكها، وجاءه جبرئيل (عليه السلام) فأخبره بما في الحقّة فقال: إنّ فيها درة يتيمة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوجّة الثقب، فقال الرسول: صدقت فاثقب الدّرة وأدخل الخيط في الخرزة فقال سليمان (عليه السلام) : من لي بثقبها؟ فسأل سليمان الإنس فلم يكن عندهم علم ذلك، ثمّ سأل الجانّ فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين فقالوا: ترسل الى الأرضة فجاءت الأرضة وأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان (عليه السلام) : حاجتك؟ فقالت: تصيّر رزقي في الشجرة فقال: لك ذاك، ثمّ قال: من لهذه الخرزة يسلكها؟ الخيط فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا رسول الله، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان: حاجتك؟ قالت: تجعل رزقي في الفواكه قال: لك ذاك، ثمّ ميز بين الجواري والغلمان بأن
أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به على الوجه، والغلام كان يأخذه من الآنية يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصبّ على باطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، وكانت الجارية تصب الماء صبّا، وكان الغلام يحدر الماء على يده حدرا، فميّز بينهنّ بذلك ثم ردّ سليمان (عليه السلام) الهديّة. قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ اختلف القرّاء فيه فقرأ حمزة ويعقوب أتمدّونّي بنون واحدة مشدّدة، غيرهما بنونين خفيفتين وحذف الياء، ابن عامر وعاصم والكسائي وخلف، الباقون بإثباته. فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لأنّكم أهل مفاخرة الدنيا والمكابرة بها ولا تعرفون غير ذلك، وليست الدنيا من حاجتي لأن الله سبحانه قد مكّنني منها وأعطاني فيها ما لم يعط أحدا ومع ذاك أكرمني بالدين والنبوّة والحكمة، ثمّ قال للمنذر بن عمرو آمر الوفد ارْجِعْ إِلَيْهِمْ بالهدية فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لا طاقة لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أي من أرضها وملكها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ ذليلون إن لم يأتوني مسلمين. قال وهب وغيره من أهل الكتب: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان (عليه السلام) قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وما نصنع بمكاثرته شيئا، فبعثت إلى سليمان: إنّي قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض، في آخر قصر من سبع قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب ووكلت به حرّاسا يحفظونه ثمّ قالت لمن خلّفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك وسرير ملكي، فلا يخلص إليه أحد ولا يزيّنه حتى آتيك، ثم أمرت مناديا فنادى في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل، وشخصت الى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة. قال ابن عباس: وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدئ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا قريبا منه فقال: ما هذه؟. قالوا: بلقيس يا رسول الله. قال: «وقد نزلت منّا بهذا المكان؟» [113] قال ابن عباس: وكان ما بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ فأقبل حينئذ سليمان على جنوده فقال أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي مؤمنين. وقال ابن عباس: طائعين. واختلف أهل العلم في السبب الذي لأجله أمر سليمان (عليه السلام) بإحضار العرش فقال أكثرهم: لأن سليمان (عليه السلام) علم أنها إن أسلمت حرم عليه ما لها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها.
وقال قتادة: لأنه أعجبته صفته لمّا وصفه الهدهد فأحبّ أن يراه. وقال ابن زيد: أراد أن يختبر عقلها فيأمر بتنكيره لينظر هل تثبته إذا رأته أم تنكره؟ وقيل: قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه في معجزه يأتي بها في عرشها. قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ وهو المارد القوي، وفيه لغتان: عفريت وعفرية، فمن قال عفريت جمعه عفاريت، ومن قال عفرية جمعه عفارت. قال وهب: اسمه كوذى، وقال شعيب الجبائي: كان اسم العفريت ذكوان، وقال ابن عباس: العفريت: الداهية، وقال الضحّاك: هو الخبيث. ربيع: الغليظ. الفراء: القوىّ الشديد. الكسائي: المنكر، وأنشد: فقال شيطان لهم عفريت ... مالكم مكث ولا تبييت «1» وقرأ أبو رجاء العطاردي قال: عفرية. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن سهل قال: حدّثنا عبد الرّحمن البحتري قال: حدّثنا عمرو بن عثمان قال: حدّثنا أبي عن عبد الله بن عبد العزيز القرشي عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه كان يقرأ: قال عفرية من الجنّ والعفرية البكر بين البكرين لم يلد أبواه قبله شيئا ولم يلد هو شيئا. أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي مجلسك الذي تقضي فيه، قال ابن عباس: وكان له كلّ غداة مجلس يقضي فيه الى منزع النهار. وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ على حمله أَمِينٌ على ما فيه من الجواهر، فقال سليمان عليه السلام أريد أسرع من هذا، قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ واختلفوا فيه، فقال بعضهم هو جبرئيل (عليه السلام) ملك من الملائكة أيّد الله عزّ وجلّ به نبيه سليمان عليه السلام. وقال الآخرون: بل كان رجلا من بني آدم. ثمّ اختلفوا فيه فقال أكثر المفسرين: هو آصف بن برخيا بن شمعيا بن ميكيا وكان صدّيقا يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي. أخبرني ابن فنجويه قال: أخبرنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال: حدّثنا الحسن بن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: حدّثنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: إنّ آصف قال لسليمان (عليه السلام) حين صلّى ودعا الله سبحانه:
مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك قال: فمدّ سليمان (عليه السلام) عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف، فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدّون الأرض خدّا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان (عليه السلام) . واختلف العلماء في الدعاء الذي دعا به آصف عند الإتيان بالعرش، فروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف «يا حيّ يا قيّوم» [114] «1» . وروى عثمان بن مطر عن الزهري قال: دعاء الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ (يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلّا أنت ائتني بعرشها) قال: فمثل له بين يديه. وقال مجاهد: يا ذا الجلال والإكرام. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد بن جعفر وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدّثنا إسماعيل عن عبد الله بن إسماعيل عن ابن زيد قال: الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ رجل صالح كان في جزيرة من جزائر البحر فخرج ذلك اليوم ينظر من ساكن الأرض؟ وهل يعبد الله عزّ وجل أم لا يعبد؟ فوجد سليمان (عليه السلام) فدعا باسم من أسماء الله فإذا هو بالعرش حمل فأتى به سليمان من قبل إن يرتدّ إليه طرفه. وبه عن مجاهد قال: حدّثني البزي وابن حرب قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا شبل قال: زعم ابن أبي بزة أن اسم الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ اسطوم، وقال بعضهم: كان رجل من حمير يقال له: ضبّة. وقال قتادة: كان اسمه بليحا، وقال محمد بن المنكدر: إنما هو سليمان أما إن الناس يرون أنّه كان معه اسم وليس ذلك كذلك، إنّما كان رجل عالم من بني إسرائيل آتاه الله علما وفقها فقال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، قال سليمان (عليه السلام) : هات، فقال: أنت النبي ابن النبي وليس أحد أوجه عند الله منك ولا أقدر على حاجته فإن دعوت الله، وطلبت إليه كان عندك. قال: صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت. وقوله قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ اختلفوا في معناه فقال سعيد بن جبير: يعني قبل أن يرجع إليك أقصى من تركت، وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك. قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر. وهب: تمد عينيك فلا ينتهي طرفك الى مداه حتى أمثّله بين يديك. مجاهد: يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئا.
وعنه أيضا قال: يعني مدّ بصرك ما بينك وبين الحيرة، وهو يومئذ في كندة. وعن قتادة: هو أن يبعث رسولا الى منتهى طرفه فلا يرجع حتى يؤتى به. فَلَمَّا رَآهُ يعني رأى سليمان (عليه السلام) العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ محمولا إليه من مأرب الى الشام في قدر ارتداد الطرف قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ نعمته أَمْ أَكْفُرُ ها فلا أشكرها وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لم ينفع بذلك غير نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ بالإفضال على من كفر نعمه. قالَ نَكِّرُوا غيّروا لَها عَرْشَها فزيدوا فيه وأنقصوا منه واجعلوا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي الى عرشها فتعرفه أَمْ تَكُونُ مِنَ الجاهلين به الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إليه، وإنما حمل سليمان (عليه السلام) على ذلك، كما ذكره وهب ومحمد بن كعب وغيرهما من أهل الكتب: إنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن، ولا ينفكّون من تسخير سليمان وذرّيته من بعده، فأرادوا أن يزهّدوه فيها فأساؤوا الثناء عليها وقالوا: إنّ في عقلها شيئا وإنّ رجلها كحافر الحمار، فأراد سليمان (عليه السلام) أن يختبر عقلها بتنكير عرشها، وينظر الى قدميها ببناء الصرح، فَلَمَّا جاءَتْ بلقيس قِيلَ لها أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ شبّهته به وكانت قد تركته خلفها في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فلم تقرّ بذلك ولم تنكر، فعلم سليمان (عليه السلام) كمال عقلها. قال الحسن بن الفضل: شبّهوا عليها فشبّهت عليهم وأجابتهم على حسب سؤالهم، ولو قالوا لها: هذا عرشك لقالت: نعم فقال سليمان (عليه السلام) وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بالله وبقدرته على ما شاء من قبل هذه المرأة وَكُنَّا مُسْلِمِينَ هذا قول مجاهد وقال بعضهم: معناه وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بإسلامها ومجيئها طائعة وقبل مجيئها، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ طائعين خاضعين. وقال بعضهم: هذا من قول بلقيس لمّا رأت عرشها عند سليمان (عليه السلام) قالت: عرفت هذه، وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بصحة نبوة سليمان (عليه السلام) بالآيات المتقدمة من قبل هذه الآية وذلك بما اختبرت من أمر الهديّة والرسل، وَكُنَّا مُسْلِمِينَ أي منقادين لك مطيعين لأمرك من قبل أن جئناك. وَصَدَّها ومنعها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهو الشمس بأن تعبد الله، وعلى هذا القول يكون (ما) في محل الرفع.
وقال بعضهم: معناه وَصَدَّها سليمان ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي منعها ذلك وحال بينها وبينه، ولو قيل: وصدّها الله ذلك بتوفيقها للإسلام لكان وجها صحيحا، وعلى هذين التأويلين يكون محل (ما) نصبا. إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ الآية. وذلك أنّ سليمان (عليه السلام) لما أقبلت بلقيس تريده أمر الشياطين فبنوا له صرحا أي قصرا من زجاج كأنّه الماء بياضا، وقيل: الصرح صحن الدار، وأجرى من تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر، السمك وغيره، ثمّ وضع له سريره في صدرها فجلس عليه وحلقت عليه الطير والجن والإنس وإنّما أمر ببناء هذا الصرح لأنّ الشياطين قال بعضهم لبعض: سخّر الله لسليمان عليه السلام ما سخّر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد له غلاما فلا ننفك من العبودية أبدا، فأرادوا أن يزهّدوه فيها فقالوا: إنّ رجلها رجل حمار وإنها شعراء الساقين لأنّ أمّها كانت من الجن فأراد أن يعلم حقيقة ذلك وينظر الى قدميها وساقيها. وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبّه قال: إنّما بنى الصرح ليختبر عقلها وفهمها، يعاينها بذلك كما فعلت هي من توجيهها إليه الوصفاء والوصائف ليمّيز بين الذكور والإناث، تعاينه بذلك، فلمّا جاءت بلقيس يلَ لَهَا: ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وهي معظم الماء وقال ابن جريج: يعني بحرا. كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لتخوضه الى سليمان عليه السلام، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلّا أنّها كانت شعراء الساقين، فلمّا رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها وناداهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مملّس مستونْ قَوارِيرَ وليس ببحر، فلمّا جلست قالت: يا سليمان إنّي أريد أن أسألك عن شيء. قال: سلي. قالت: أخبرني عن ما ماء رواء ولا من أرض ولا من سماء. وكان سليمان إذا جاءه شيء لا يعلمه سأل الإنس عنه، فإن كان عندهم علم ذلك وإلّا سأل الجن، فإن علموا وإلّا سأل الشياطين، فسأل الشياطين عن ذلك فقالوا له: ما أهون هذا من الخيل فلتجر ثم املأ الآنية من عرقها. فقال لها سليمان: عرق الخيل، قالت: صدقت، ثم قالت: أخبرني عن لون الربّ، فوثب سليمان عليه السلام عن سريره وخرّ ساجدا وصعق عليه فقامت عنه وتفرّقت جنوده وجاءه الرسول فقال: يا سليمان يقول لك ربك: ما شأنك؟ قال: يا رب أنت أعلم بما قالت، قال: فإن الله يأمرك أن تعود ألى سريرك وترسل إليها وإلى من حضرها من جنودك وجنودها فتسألها وتسألهم عمّا سألتك عنه، ففعل ذلك سليمان (عليه السلام) ، فلمّا دخلوا عليه قال لها: عمّا ذا سألتني؟
قالت: سألتك عن ماء رواء ليس من أرض ولا سماء فأجبت. قال: وعن أيّ شيء سألتني أيضا؟ قالت: ما سألتك عن شيء إلّا هذا فاسأل الجنود فقالوا مثل قولها، أنساهم الله تعالى ذلك وكفى سليمان (عليه السلام) الجواب، ثمّ إن سليمان دعاها الى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت وقالت بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بالكفر أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فحسن إسلامها. واختلف العلماء في أمرها بعد إسلامها فقال أكثرهم: لمّا أسلمت أراد سليمان أن يتزوجها، فلمّا همّ بذلك كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها وقال: ما أقبح هذا! فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى فقالت المرأة: لم تمسّني حديدة قطّ، فكره سليمان الموسى وقال: إنّها تقطع ساقيها، فسأل الجن فقالوا: لا ندري، ثمّ سأل الشياطين فتلكأوا ثمّ قالوا: انّا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا لها النورة والحمّام. قال ابن عباس: فإنّه لأول يوم رؤيت فيه النورة واستنكحها سليمان عليه السلام. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال: حدّثنا محمد بن عمران ابن هارون قال: حدّثنا محمد بن ميمون المكي قال: حدّثني أبو هارون العطار عن أبي حفص الأبّار عن إسماعيل بن أبي بردة عن أبي موسى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود عليه السلام، فلمّا ألزق ظهره إلى الجدر فمسّه حرّها قال: آوه من عذاب الله» [115] «1» . قالوا: فلما تزوّجها سليمان أحبّها حبّا شديدا وأقرّها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا وهي: سلحون وسون وعمدان، ثم كان سليمان عليه السلام يزورها في كل شهر مرّة بعد أن ردها الى ملكها، ويقيم عندها ثلاثة أيّام يبتكر من الشام الى اليمن ومن اليمن الى الشام، وولدت له فيما ذكر. وروى ابن أبي إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب قال: زعموا أنّ سليمان بن داود عليه السلام قال لبلقيس لمّا أسلمت وفرغ من أمرها: اختاري رجلا من قومك أزوّجكه. قالت: ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان. قال: نعم إنّه لا يكون في الإسلام إلّا ذلك ولا ينبغي لك أن تحرّمي ما أحل الله لك.
[سورة النمل (27) : الآيات 45 إلى 53]
فقالت: زوّجني إن كان لا بدّ من ذلك ذا تبّع ملك همذان فزوّجه إيّاها ثم ردّها الى اليمن وسلّط زوجها ذا تبّع على اليمن، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذي تبّع ما استعملك فيه. قال: فصنع لذي تبع الصنائع باليمن ثم لم يزل بها يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان ابن داود (عليه السلام) ، فلمّا أن حال الحول وتبيّنت الجن موت سليمان (عليه السلام) أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن إنّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم قال: فعمدت الشياطين الى حجرين عظيمين فكتبوا فيها كتابا بالمسند نحن بنينا سلحين دائبين [سبعة وسبعين خريفا] ، وبنينا صرواح ومرواح [وبنيون وحاضة وهند وهنيدة، وسبعة أمجلة بقاعة، وتلثوم بريدة، ولولا صارخ بتهامة لتركنا بالبون إمارة، وقال وسلحين وصرواح ومرواح وبينون وهند وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن عملتها الشياطين لذي تبع] «1» ، ثم رفعوا أيديهم وانطلقوا وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان (عليه السلام) «2» . [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ يعني بأن اعْبُدُوا اللَّهَ وحده فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ مؤمن وكافر ومصدّق ومكذّب يَخْتَصِمُونَ في الدين. قال مقاتل: واختصامهم مبيّن في سورة الأعراف وهو قوله قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ الى قوله يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. ف قالَ لهم صالح يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ بالبلاء والعقوبة قَبْلَ الْحَسَنَةِ العافية والرحمة، والاستعجال طلب التعجيل بالأمر، وهو الإتيان به قبل وقته. لَوْلا هلّا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ بالتوبة من كفركم لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قالُوا اطَّيَّرْنا تشاءمنا، وأصله تطيّرنا
بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وذلك أنّ المطر أمسك عنهم في ذلك الوقت وقحطوا فقالوا: أصابنا هذا الضرّ والشرّ من شؤمك وشؤم أصحابك، وإنّما ذكر التطيّر بلفظ الشأم على عادة العرب ونسبتهم الشؤم إلى البارح، وهو الطائر الذي يأتي من جانب اليد الشؤمي وهي اليسرى. قالَ طائِرُكُمْ من الخير والشر وما يصيبكم من الخصب والجدب عِنْدَ اللَّهِ بأمره وهو مكتوب على رؤوسكم، لازم أعناقكم، وليس ذلك إليّ ولا علمه عندي. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ قال ابن عباس: تختبرون بالخير والشر، نظيره وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً «1» . الكلبي: تُفْتَنُونَ حتى تجهلوا أنّه من عند الله سبحانه وتعالى. محمد بن كعب: تعذّبون بذنوبكم وقيل: تمتحنون بإرسالي إليكم لتثابوا على طاعتكم ومتابعتي، وتعاقبوا على معصيتي ومخالفتي. وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ يعني مدينة ثمود وهي الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ من أبناء أشرافهم يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع بن دهر وأسلم ورهمى وبرهم ودعمي وعيم وقتال وصداف. قالُوا تَقاسَمُوا تحالفوا بِاللَّهِ أيّها القوم وموضع تقاسموا جزم على الأمر كقوله بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وقال قوم من أهل المعاني: محله نصب على الفعل الماضي يعني انهم تحالفوا وتواثقوا، تقديره: قالوا متقاسمين بالله، ودليل هذا التأويل أنّها في قراءة عبد الله: ولا يصلحون تقاسموا بالله، وليس فيها قالوا. لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ من البيات فلنقتله، هذه قراءة العامة بالنون فيهما واختيار أبي حاتم، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي: لتبيّتنّه ولتقولنّ بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخطاب واختاره أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخبر عنهم. ثم ليقولن ما شَهِدْنا ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي إهلاكهم، وقرأ عاصم برواية أبي بكر مَهْلَكَ بفتح الميم واللام، وروى حفص عنه بفتح الميم وكسر اللام، وهما جميعا بمعنى الهلاك وَإِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا: إنّا ما شهدنا ذلك. وَمَكَرُوا مَكْراً وغدروا غدرا حين قصدوا تبييت صالح والفتك به وَمَكَرْنا مَكْراً وجزيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا قرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي أَنَّا بفتح الالف ولها وجهان:
أحدهما: أن يكون أَنَّا في محلّ الرفع ردّا على العاقبة. والثاني: النصب على تكرير (كان) تقديره: كان عاقبة مكرهم التدمير، واختار أبو عبيد هذه القراءة اعتبار الحرف أي أن دمرناهم، وقرأ الباقون: إنّا بكسر الألف على الابتداء. دَمَّرْناهُمْ يعني أهلكنا التسعة، واختلفوا في كيفية هلاكهم. فقال ابن عباس: أرسل سبحانه الملائكة فامتلأت بهم دار صالح فأتى التسعة الدار شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم. قال قتادة: خرجوا مسرعين الى صالح فسلّط الله عليهم صخرة فدمغتهم. مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم. السدّي: خرجوا ليأتوا صالحا فنزلوا خرقا من الأرض يتمكنون فيه فانهار عليهم. وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ بالصيحة وقد مضت القصة. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً خالية، قراءة العامّة بالنصب على الحال عن الفرّاء والكسائي وأبو عبيدة عن القطع مجازه: فتلك بيوتهم الخاوية، فلمّا قطع منها الألف واللام نصبت كقوله سبحانه وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» وقرأ عيسى بن عمر خاويةٌ بالرفع على الخبر بِما ظَلَمُوا أي بظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لعبرة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ من صيحة جبريل، والخراج الذي ظهر بأيديهم. قال مقاتل: خرج أوّل يوم على أيديهم مثل الحمّصة أحمر ثمّ اصفرّ من الغد، ثمّ اسودّ اليوم الثالث، ثمّ تفقّأت، وصاح جبريل (عليه السلام) في خلال ذلك فخمدوا، وكانت الفرقة المؤمنة الناجية أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، فلمّا دخلها صالح مات، فسمّي (حضرموت) . قال الضحّاك: ثمّ بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها: (حاضورا) «2» وقد مضت القصّة جميعا «3» .
[سورة النمل (27) : الآيات 54 إلى 59]
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 59] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وهي الفعلة القبيحة الشنيعة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أنّها فاحشة، وقيل: يرى بعضكم بعضا. كانوا لا يتستّرون عتوّا منهم وتمرّدا أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من أدبار الرجال، يقولونه استهزاء منهم بهم فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ وأهله قَدَّرْناها قضينا عليها أنها مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب وقال أهل المعاني: معنى قَدَّرْناها جعلناها مِنَ الْغابِرِينَ وإنّما قال ذلك لأنّ جرمها على مقدار جرمهم، فلمّا كان تقديرها كتقديرهم في الشرك والرضى بأفعالهم القبيحة، جرت مجراهم في إنزال العذاب بها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أي على شذّادها «1» مَطَراً وهو الحجارة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قال الفرّاء: قيل للوط: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على هلاك كفار قومي. وقال الباقون: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، يعني وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على هلاك كفّار الأمم الخالية، وقال مقاتل: على ما علّمك هذا الأمر. الآخرون: على جميع نعمه. وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى لرسالاته وهم الأنبياء (عليهم السلام) ، عن مقاتل دليله قوله: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ «2» وأخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا السدّي. قال: حدّثنا أحمد بن نجدة. قال: حدّثنا الحماني. قال: حدّثنا الحكم بن طهر، عن السدّي، عن أبي مالك، عن ابن عباس وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى قال: أصحاب محمّد (عليه السلام) . وأخبرني عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمّد العدل بقراءتي عليه، قال: أخبرني عبد الله بن محمّد بن مسلم، فيما أجازه لي أنّ محمّد بن إدريس حدّثهم، قال: حدّثنا الحميدي. قال: سمعت سفيان سئل عن عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى قال: هم أصحاب محمّد. وقال الكلبي: هم أمّة محمّد اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته، ثمّ قال إلزاما للحجّة: آللَّهُ القراءة بهمزة ممدودة وكذلك كلّ استفهام فيه ألف وصل، مثل قوله: (آلذين وآلآن) جعلت المدّة علما بين الاستفهام والخبر، ومعنى الآية: الله الذي صنع هذه الأشياء خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ من الأصنام، وقرأ عاصم وأهل البصرة (بالياء) ، الباقون (بالتاء) ، وكان النبي (عليه
[سورة النمل (27) : الآيات 60 إلى 66]
السلام) إذا قرأ هذه الآية قال: «بل الله خير وأبقى وأجلّ وأكرم» «1» [116] . [سورة النمل (27) : الآيات 60 الى 66] أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) أَمَّنْ قال أبو حاتم: فيه إضمار كأنّه قال: آلهتكم خير أم الذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ حسن. ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها هو (ما) النفي، يعني ما قدرتم عليه أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يعينه على ذلك، ثمّ قال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يشركون أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً لا تميد بأهلها وَجَعَلَ خِلالَها وسطها أَنْهاراً تطّرد بالمياه وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ جبالا ثوابت وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذب والملح حاجِزاً مانعا لئلّا يختلطا ولا يبغي أحدهما على صاحبه، وقيل: أراد الجزائر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ أي المجهود، عن ابن عباس وقال السدّي: المضطرّ الذي لا حول له ولا قوّة، ذو النون هو الذي قطع العلائق عمّا دون الله، أبو حفص وأبو عثمان النيسابوريّان: هو المفلس. وسمعت أبو القاسم الحسن بن محمّد يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا الحسن عمر بن فاضل العنزي يقول: سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول: الْمُضْطَرَّ الذي إذا رفع يديه إلى الله داعيا لم يكن له وسيلة من طاعة قدّمها وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي الضرّ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ يهلك قرنا وينشئ آخرين أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إذا سافرتم. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قدّام رحمته أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ للبعث وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَالْأَرْضِ النبات أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ حجّتكم على قولكم إنّ مع الله إلها آخر
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ نزلت في المشركين حيث سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن وقت قيام الساعة. قال الفرّاء: وإنّما رفع ما بعد (إِلَّا) لأنّ قبلها جحدا كما يقال: ما ذهب أحد إلّا أبوك وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ متى يُبْعَثُونَ قالت عائشة: من زعم أنّه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله عزّ وجل يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. أخبرنا أبو زكريا الحري قال: أخبرنا أبو حامد الأعمشي قال: حدّثنا علي بن حشرم قال: حدّثنا الفضل بن موسى، عن رجل قد سمّاه قال: كان عند الحجّاج بن يوسف منجّم، فأخذ الحجّاج حصيّات بيده قد عرف عددها فقال للمنجّم: كم في يدي؟ فحسب، فأصاب المنجّم، ثمّ اعتقله الحجّاج فأخذ حصيات لم يعددهنّ، فقال للمنجّم: كم في يدي؟ فحسب، فحسب، فأخطأ ثمّ حسب أيضا، فأخطأ، فقال: أيّها الأمير أظنّك لا تعرف عددها في يدك. قال: فما الفرق بينهما؟! قال: إنّ ذاك أحصيته فخرج من حدّ الغيب، فحسبت فأصبت، وإنّ هذا لم تعرف عددها، فصار غيبا، ولا يعلم الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ عزّ وجل. بَلِ ادَّارَكَ اختلف القرّاء فيه، فقرأ ابن عباس بلى بإثبات الياء ادَّارَكَ بفتح الألف وتشديد الدال على الاستفهام. روى شعبة عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عبّاس: في هذه الآية بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لم يدرك، قال الفرّاء: وهو وجه جيّد كأنّه يوجّهه إلى الاستهزاء بالمكذّبين بالبعث، لقولك للرجل تكذّبه: بلى لعمري لقد أدركت السلف فأنت تروي ما لا تروي، وأنت تكذّبه. وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب والأعمش وشيبة ونافع وعاصم وحمزة والكسائي بَلِ ادَّارَكَ بكسر اللام وتشديد الدال أي تدارك وتتابع عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ هل هي كائنة أم لا؟ وتصديق هذه القراءة أنّها في حرف أبي أم تدارك عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ والعرب تضع بل موضع أم، وأم موضع بل إذا كان في أوّل الكلام استفهام كقول الشاعر: فو الله ما أدري أسلمى تغوّلت ... أم البوم أم كلّ إلي حبيب» أي بل كلّ إليّ حبيب، ومعنى الكلام هل تتابع علمهم بذلك في الآخرة، أي لم يتتابع فصل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه لأنّ في الاستفهام ضربا من الحجد، وقرأ أبو جعفر ومجاهد وحميد وابن كثير وأبو عمرو بَلِ ادَّارَكَ من الادّراك أي لم يدرك علمهم علم في الآخرة، وقال مجاهد: معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم لأنّهم كانوا في [الأنبياء] مكذّبين، وقيل بل ضلّ وغاب علمهم في الآخرة فليس فيها لهم علم، ويقال: اجتمع علمهم في الآخرة أنّها كائنة وهم في شكّ من وقتهم.
[سورة النمل (27) : الآيات 67 إلى 81]
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ أي [جهلة] واحدها عمي، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار تدارك غير مهموزة، وقرأ ابن محيصن بل أءدّرك على الاستفهام، أي لم تدرك، وحمل القول فيه أنّ الله سبحانه أخبر رسوله صلى الله عليه وسلّم أنّهم إذا بعثوا يوم القيامة استوى علمهم بالآخرة وما وعدوا فيه من الثواب والعقاب، وإن كانت علومهم مختلفة في الدنيا وإن كانوا في شكّ من أمرها بل جاهلون به. وسمعت بعض العلماء يقول في هذه الآية: إنّ حكمها ومعناها لو ادّارك علمهم في ما هم في شكّ منها حيث هم منها عمون على تعاقب الحروف. [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 81] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكة إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ من قبورنا أحياء لَقَدْ وُعِدْنا هذا البعث نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ وليس ذاك بشيء إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلا تَحْزَنْ على تكذيبهم إيّاك عنك وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ نزلت في المستهزئين الذين أقسموا بمكّه وقد مضت قصّتهم. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ أي دنا وقرب لكم، وقيل: تبعكم. وقال ابن عباس: حضركم، والمعنى: ردفكم، فأدخل اللام كما أدخل في قوله: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ولِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ وقد مضت هذه المسألة. قال الفرّاء: اللام صلة زائدة كما يقول تقديرها به ويقدر له بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ من
[سورة النمل (27) : آية 82]
العذاب فحلّ بهم ذلك يوم بدر وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ تخفي صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ وَما مِنْ غائِبَةٍ أي مكتوم سرّ وخفيّ أمر، وإنما أدخل الهاء على الإشارة الى الجمع. فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهو اللوح المحفوظ. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين وَإِنَّهُ يعني القرآن لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين المختلفين في الدين يوم القيامة بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ المنيع فلا يردّ له أمر الْعَلِيمُ بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ البيّن إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى الكفار كقوله أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ «1» وقوله وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ «2» . وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ نظيره صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ «3» . وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ قراءة العامة على الاسم، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة يهدي العمى بالياء ونصب الياء على الفعل هاهنا وفي سورة النمل إِنْ تُسْمِعُ وتفهم إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا بأدلّتنا وحجتنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ في علم الله سبحانه وتعالى. [سورة النمل (27) : آية 82] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ وجب العذاب والسخط عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ قراءة العامة بالتشديد من التكلم وتصديقهم، وقرأ أبيّ: تنبئهم. قال السدي: تكلّمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام، وقرأ أبو رجاء العطاردي: تَكلِمهم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الحرج أي تسمهم. قال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس عن هذه الآية يكلّمهم أو تُكَلِّمُهُمْ فقال: كل ذلك يفعل تكلم المؤمن ويكلم الكافر. أَنَّ النَّاسَ قرأ ابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بالنصب وقرأ الباقون بالكسر. كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قبل خروجها.
ذكر الأخبار الواردة في صفة دابة الأرض وكيفية خروجها
ذكر الأخبار الواردة في صفة دابّة الأرض وكيفية خروجها أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني قال «1» : أخبرنا محمد بن إسحاق، قال «2» حدّثنا عبد الله بن محمّد بن رسمويه قال: حدّثنا الحكم بن بشير بن سليمان، عن عمرو بن قيس الملائي، عن عطية، عن ابن عمر وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ «3» قال: حين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر «4» . وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني عن أحمد بن عبد الله بن سليمان قال: أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرنا أبو بكر بن خرجة حدّثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي عن ميثم بن ميناء الجهني عن عمرو بن محمّد العبقري عن طلحة بن عمرو عن عبد الله بن عمير الليثي عن أبي شريحة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «يكون للدّابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكّة- ثمّ يمرّ زمانا طويلا ثمّ تخرج خرجة أخرى قريبا من مكّة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية- يعني مكّة- فبينا الناس يوما في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله سبحانه- يعني المسجد الحرام- لم ترعهم إلّا وهي في ناحية المسجد تدنو تدنو كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فيرفض الناس عنهم وتثبت لها عصابة عرفوا أنّهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنّها الكواكب الدرّية ثم ولّت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب، حتى أنّ الرجل ليقوم فيتعوّذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الآن تصلّي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، ويتجاور الناس في ديارهم ويصلحون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يعرف الكافر من المؤمن فيقال: للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر» [117] «5» . وأخبرني ابن محمّد بن الحسين الثقفي عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي عن محمّد بن عبد الغفّار الزرقاني عن أحمد بن محمّد بن هاني الطائي عن محمّد بن النضر بن محمّد الأودي عن أبيه عن سفيان الثوري عن شهاب بن عبد ربّه الرحمن عن طارق بن عبد الرحمن عن طارق بن عبد الرحمن عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «دابّة الأرض طولها سبعون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب تسمّ المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر
بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان (عليهما السلام) » «1» . وأخبرني الحسين بن محمّد قال: أخبرني أبو بكر مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عن بهز عن حمّاد عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «تخرج الدابّة معها عصا موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر بالخاتم، حتى أنّ أهل الخوان ليجتمعون فيقولون: هذا يا مؤمن ويقولون هذا يا كافر» [118] «2» . وأخبرنا الحسين بن محمّد عن عبد الله بن محمّد بن شنبة عن الحسن بن يحيى عن ابن جريج عن أبي الزبير أنّه وصف الدّابة فقال: رأسها رأس الثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيّل، وصدرها صدر الأسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّة، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم البعير، وبين كلّ مفصلين إثنا عشر ذراعا معها عصا موسى وخاتم سليمان، ولا يبقي مؤمن إلّا نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء فيفشو تلك النكتة حتى يضيء لها وجهه، ولا يبقى كافر إلّا وتنكت وجهه بخاتم سليمان فتفشو تلك النكتة فيسود لها وجهه، حتى أنّ الناس يبتاعون في الأسواق بكم يا مؤمن وبكم يا كافر، ثمّ تقول لهم الدّابّة: يا فلان أنت من أهل الجنّة ويا فلان أنت من أهل النار، وذلك قول الله عزّ وجل: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً.. الآية «3» . وأخبرنا الحسين بن محمّد عن ابن شنبة عن ابن عمر، وعن سفيان بن وكيع عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن أبي البيلماني عن ابن عمر قال: تخرج الدّابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى قال: فتحمل الناس بين يديها وعجزها «4» ، لا يبقى منافق إلّا خطمته ولا مؤمن إلّا مسحته «5» . وأخبرني الحسين بن محمّد عن عمر بن الخطاب عن عبد الله بن الفضل عن إبراهيم بن محمد بن عرعرة عن عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن فرقد بن الحجّاج القرشي قال: سمعت عقبة بن أبي الحسناء اليماني قال: سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «تخرج دابّة الأرض من موضع جياد «6» فيبلغ صدرها الركن ولما يخرج ذنبها بعد قال: وهي دابّة ذات وبر وقوائم» [119] «7» .
وأخبرني الحسن «1» قال: حدّثنا علي بن محمّد بن لؤلؤ قال: أخبرنا أبو عبيد محمّد بن أحمد بن المؤمل قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن جعفر الأحول قال: حدّثنا منصور بن عمّار قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن أبي قبيل «2» ، عن عبد الله بن عمرو أنّه ضرب أرض الطائف برجله وقال: من هاهنا تخرج الدّابة التي تكلّم الناس، وأخبرني عقيل بن محمّد الجرجاني الفقيه قال: حدّثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادي قال: أخبرنا أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا الأشجعي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن ابن عمر قال: تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيّام وما خرج ثلثها. وبه عن محمّد بن جرير قال: حدّثني عصام بن بندار «3» بن الجرّاح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سفيان بن سعيد قال: حدّثنا المنصور بن المعتمر، عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه الدابّة، قلت: يا رسول الله من أين تخرج؟ قال: «من أعظم المساجد حرمة على الله، بينما عيسى يطّوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم من تحرّك القنديل وينشقّ الصفا ممّا يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا أوّل ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، تسمّي الناس مؤمنا وكافرا، أمّا المؤمن فتترك وجهه كأنّه كوكب درّيّ، وتكتب بين عينيه: مؤمن، وأمّا الكافر فتترك بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه: كافر» «4» [120] . وبه عن محمّد بن جرير قال: حدّثني أبو عبد الرحمن «5» الرقي قال: حدّثنا ابن أبي مزينة قال: حدّثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قالا: حدّثنا ابن الهاد، عن عمرو بن الحكم أنّه سمع عبد الله بن عمر يقول: تخرج الدابة من شعب، فيمسّ رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ما خرجتا، فتمرّ بالإنسان يصلّي، فتقول: ما الصلاة من حاجتك، فتخطمه وقال وهب: وجهها وجه رجل «6» وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآهها أنّ أهل مكّة كانوا بمحمّد والقرآن لا يُوقِنُونَ، وفي هذا تصديق لقراءة من فتح أَنَّ. وقال كعب: صورتها صورة الحمار، وروى ابن جريج روح، عن هشام، عن الحسن «7» أنّ موسى (عليه السلام) سأل ربّه أن يريه الدّابة، فخرجت ثلاثة أيّام ولياليهنّ تذهب في السماء، وأشاره بيده لا يرى واحدا من طرفيها، فرأى منظرا فظيعا، فقال: ربّ ردّها، فردّها.
[سورة النمل (27) : الآيات 83 إلى 93]
[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 93] وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) قوله عزّ وجل: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً جماعة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّلهم على آخرهم ليجتمعوا ثمّ يساقون إلى النار، وقال ابن عباس: يُوزَعُونَ: يدفعون حَتَّى إِذا جاؤُ يوم القيامة قالَ الله سبحانه لهم أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ولم تعرفوا حقّ معرفتها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيها من تكذيب أو تصديق، وقيل: هو توبيخ، أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها، ولم تتفكّروا فيها؟ وَوَقَعَ الْقَوْلُ ووجب العذاب عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا أشركوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ لأنّ أفواههم مختومة. وقال أكثر المفسّرين: فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ بحجّة وعذر، نظيره قوله سبحانه: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «1» أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا خلقنا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً مضيئا يبصر فيه إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكرت لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقون فيعتبرون قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وهي النفخة الأولى. أخبرنا محمّد عبد الله بن حامد الوزّان قال: أخبرنا محمّد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا أسباط قال: حدّثنا سلمان التميمي «2» ، عن أسلم العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء إعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فسأله عن الصّور، فقال: «قرن ينفخ فيه» «3» [121] . وقال مجاهد: الصّور كهيئة البوق، وقيل: هو بلغة أهل اليمن، وعلى هذا أكثر
المفسّرين، يدلّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ» «1» [122] . وقال قتادة وأبو عبيدة: هو جمع صورة يقال: صورة وصور، وصور: مثل سور البناء والمسجد، وجمعها سور وسئور وأنشد أبو عبيدة: سرت إليها في أعالي السور فمعنى الآية: ونفخ في صور الخلق. وقد ورد في كيفيّة نفخ الصور حديث جامع صحيح وهو ما أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم المهرجاني قراءة عليه أبو بكر محمّد بن عبد الله بن ابراهيم الشافعي ببغداد، قال: أخبرني أبو قلابة الرقاشي قال: أخبرني أبو عاصم الضحّاك بن مخلد، عن إسماعيل بن رافع، عن محمّد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ الله عزّ وجلّ لمّا فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل وهو واضعه على فيه، شاخص بصره إلى العرض ينتظر متى؟ قال: قلت يا رسول الله: وما الصور؟ قال: القرن، قال: قلت: كيف هو؟ قال: عظيم، والذي بعثني بالحقّ إنّ أعظم داره فيه كعرض السماء والأرض، فينفخ فيه بثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين، فأمر الله عزّ وجل إسرافيل (عليه السلام) بالنفخة الأولى فيقول: انفخ نفخة الفزع فيفزع من في السموات والأرض إلّا من شاء الله، فيأمره فيمدّها ويطيلها وهو الذي يقول الله عزّ وجلّ: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ فيسيّر الله عزّ وجلّ الجبال فيمرّ من السحاب فيكون سرابا، وترجّ الأرض بأهلها رجّا فيكون كالسفينة الموثّقة في البحر، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح، أو كالقنديل المعلّق بالعرش يرجّحه الأرواح وهي التي يقول الله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ فتمتدّ الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى يأتي الأقطار فتلقّاها الملائكة تضرب وجوهنا، فيرجع ويولّي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا، وهو الذي يقول الله عزّ وجلّ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ. فبينا هم كذلك إذ تصدّعت الأرض من قطر إليّ قطروا أو أمرا عظيما لم يروا مثله، وأخذهم من الكرب والهول ما الله به عليم، ثمّ نظروا إلى السماء فهي كالمهل، ثمّ انشقّت فتناثرت نجومها وانكشفت شمسها وقمرها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «والأموات يومئذ يعلمون بشيء من ذلك» [123] . قال أبو هريرة: يا رسول الله فمن استثنى الله عزّ وجلّ حيث يقول فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ. قال صلى الله عليه وسلّم: «أولئك هم الشهداء وإنّما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ووقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم، وهو عذاب بعثه الله تعالى إلى شرار خلقه، وهو الذي يقول الله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ إلى قوله وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فيمكثون في ذلك البلاء ما شاء الله إلّا أنّه يطول عليهم، ثمّ يأمر الله عزّ وجلّ إسرافيل فينفخ نفخة الصعق فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبّار ويقول: قد مات أهل السماء والأرض إلّا من شئت، فيقول الله سبحانه وهو أعلم من بقي فقال: أي ربّ بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وبقيت أنا فيقول الله عزّ وجل فيموت جبرائيل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول: أي ربّ يموت جبرائل وميكائيل، فيقول: اسكت إنّي كتب الموت على كلّ من تحت عرشي فيموتان. ثمّ يأتي ملك الموت فيقول: أي ربّ قد مات جبرائيل وميكائيل فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول: بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت حملة عرشك فيقول ليمت حملة عرشي فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل فيموت. ثمّ يأتي ملك الموت فيقول: يا ربّ قد مات حملة عرشك فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول: بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت أنا فقال: أنت خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلّا الله الواحد الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وكان آخرا كما كان أوّلا طوى السموات كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ. ثمّ قال: أنا الجبّار، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، ولا يجيبه أحد، ثمّ يقول تبارك وتعالى جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ... يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ... وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ فيبسطها بسطا ثمّ يمدّها مدّ الأديم العكاضي لا يرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً. ثمّ يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدّلة في مثل ما كانوا فيه من الأوّل، من كان في بطنها، كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثمّ ينزل الله سبحانه عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال، ثمّ يأمر السحاب أن تنزل بمطر أربعين يوما حتى يكون] من فوقهم] إثنا عشر ذراعا، ويأمر الله سبحانه الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث وكنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت، قال الله سبحانه: ليحي حملة العرش، فيحيون. ثمّ يقول الله تعالى: ليحي جبريل وميكائيل. فيحييان، فيأمر الله إسرافيل، فيأخذ
الصور فيضعه على فيه، ثمّ يدعو الله الأرواح فيؤتى بها، تتوهّج أرواح المؤمنين نورا والأخرى ظلمة، فيقبضها جميعا ثمّ يلقيها على الصور، ثمّ يأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة للبعث فتخرج الأرواح كأنّها النحل قد ملأت ما في السماء والأرض، فيقول الله سبحانه: ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده، فتدخل الأرواح الخياشم، ثمّ تمشي في الأجساد كما يمشي السمّ في اللديغ. ثمّ تنشق الأرض عنهم سراعا، فأنا أوّل من ينشق عنه الأرض، فتخرجون منها إلى ربّكم تنسلون عراة حفاة عزّلا مهطعين إلى الداعي، فيقول الكافرون: هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» [124] . قوله عزّ وجل: فَفَزِعَ أي فيفزع، والعرب تفعل ذلك في المواضع التي يصلح فيها أذا، لأنّ إذا يصلح معها فعل ويفعل كقولك: أزورك إذا زرتني، وأزورك إذا تزورني. مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يفزع وقد ذكرنا في الخبر الماضي أنّهم الشهداء وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ قرأ الأعمش وحمزة وخلف وحفص أَتَوْهُ مقصورا على الفعل بمعنى جاءوه عطفا على قوله: فَفَزِعَ وأَتَوْهُ اعتبارا بقراءة ابن مسعود. أخبرنا محمّد بن نعيم قال: حدّثنا الحسين «1» بن أيّوب قال: حدّثنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا هشام، عن مغيرة، عن إبراهيم، وأخبرنا محمّد بن عبدوس قال: حدّثنا محمّد بن يعقوب قال: حدّثنا محمّد بن الجهم قال: حدّثنا الفرّاء قال: حدّثني عدّة، منهم المفضل الضبي وقيس وأبو بكر كلّهم عن جحش بن زياد الضبي كلاهما عن تميم بن حذلم قال: قرأت على عبد الله بن مسعود وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ بتطويل الألف، فقال: وَكُلٌّ أَتَوْهُ قصره وقرأ الباقون بالمدّ وضمّ التاء على مثال فاعلوه كقوله: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً «2» وهي قراءة علي رضي الله عنه داخِرِينَ صاغرين. قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ يا محمّد تَحْسَبُها جامِدَةً قائمة واقفة مستقرّة مكانها. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حين تقع على الأرض فتستوي بها. قال القتيبي: وذلك أنّ الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالواقفة وهي تسير، وكذلك كلّ شيء عظيم وكلّ جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمته ويعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو يسير، وإلى هذا ذهب الشاعر في وصف جيش: يا رعن مثل الطود تحسب أنّهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج «3» صُنْعَ اللَّهِ نصب على المصدر وقيل: على الإغراء أي اعلموا وأبصروا الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
أي أحكم [كلّ شيء، قتادة] : أحسن. إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ قرأ أهل الكوفة تَفْعَلُونَ بالتاء. غيرهم بالياء، واختار أبو عبيدة بقوله: أَتَوْهُ إنّما هو خبر عنهم مَنْ جاءَ أي وافى الله بِالْحَسَنَةِ بالإيمان. قال أبو معشر: كان إبراهيم يحلف ما يستثني أنّ الحسنة: لا إله إلّا الله، قتادة: بالإخلاص. وأخبرني الحسين بن محمد ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد ابن شنبه قال: حدّثنا عبيد «1» الله بن أحمد بن منصور قال: حدّثنا سهل بن بشر قال: حدّثنا عبد الله بن سليمان قال: حدّثنا سعد بن سعيد قال: سمعت علي بن الحسين يقول: رجل غزا في سبيل الله، فكان إذا خلا المكان قال: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، فبينما هو ذات يوم في أرض الروم في موضع في حلفاء وبرديّ رفع صوته يقول: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، خرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض، فقال: يا عبد الله ما ذات قلت؟ قال: قلت الذي سمعت، والذي نفسي بيده إنّها الكلمة التي قال الله عزّ وجل: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ. فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وأخبرني أبو عبد الله محمّد بن عبد الله العباسي قال: أخبرنا القاضي أبو الحسين محمّد بن عثمان [النصيبي ببغداد] قال: حدّثنا أبو بكر محمّد ابن الحسين السبيعي بحلب قال: حدّثني الحسين بن إبراهيم الجصّاص قال: أخبرنا حسين بن الحكم قال: حدّثنا إسماعيل بن أبان، عن [فضيل] بن الزبير، عن أبي داود السبيعي، عن أبي عبد الله الهذلي قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: يا عبد الله ألا أنبّئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنّة، والسيّئة التي من جاء بها أكبّه الله في النار، ولم يقبل معها عمل؟ قلت: بلى، قال: الحسنة حبّنا والسيّئة بغضنا فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي فله من هذه الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب ، قال ابن عباس: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي فمنها يصل إليه الخير، الحسن: معناه له منها خير، عكرمة وابن جريج: أمّا أن يكون له خير من الإيمان فلا، وإنّه ليس شيء خير من لا إله إلّا الله ولكن له منها خير، وعن ابن عباس أيضا فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يعني الثواب لأنّ الطاعة فعل العبد والثواب فعل الله سبحانه. وقيل: هو إنّ الله عزّ وجل يقبل إيمانه وحسناته، وقبول الله سبحانه خير من عمل العبد، وقيل: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يعني رضوان الله سبحانه، قال الله تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «2» . وقال محمّد بن كعب وعبد الرحمن بن زيد فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها يعني الإضعاف، أعطاه الله
الحسنة بالواحدة عشرا صاعدا، فهذا خير منها، وقد أحسن بن كعب وابن زيد في تأويلهما لأنّ للإضعاف خصائص منها أنّ العبد يسئل عن عمله ولا يسأل عن الإضعاف، ومنها أنّ للشيطان سبيلا إلى عمله ولا سبيل له إلى الإضعاف، ولأنّه لا مطمع للخصوم في الإضعاف، ولأنّ دار الحسنة الدنيا ودار الإضعاف الجنّة، ولأنّ الجنّة على استحقاق العبد، والتضعيف كما يليق بكرم الربّ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ قرأ أهل الكوفة فَزَعٍ منونا يَوْمَئِذٍ بنصب الميم وهي قراءة ابن مسعود، وسائر القرّاء قرءوا بالإضافة واختاره أبو عبيد قال: لأنّه أعمّ التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم، وإذا قال: مِنْ فَزَعِ يَوْمِئِذٍ صار كأنّه فزع دون فزع، وهو اختيار الفرّاء أيضا، قال: لأنّه فزع معلوم، ألا ترى أنّه قال: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» فصيّر معرفة؟ فإذا أضفته كان معرفة فهو أعجب إلي وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعني الشرك. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال: أخبرنا مكّي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي المحجل، عن أبي معشر، عن إبراهيم مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قال: لا إله إلّا الله. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قال: الشرك. وأخبرنا عبد بن حامد قال: أخبرنا أبو الحسن محمّد بن شعيب البيهقي قال: حدّثنا بشر ابن موسى قال: حدّثنا روح، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: ثمن الجنّة لا إله إلّا الله. فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ قال ابن عباس: ألقيت، الضحّاك: طرحت، أبو العالية: قلبت، وقيل لهم: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّما أُمِرْتُ يقول الله سبحانه لنبيّه محمّد (عليه السلام) قل: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها يعني مكّة جعلها حرما آمنا، فلا يسفك فيها دم حرام، ولا يظلم فيها أحد، ولا يهاج، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلي خلالها، وقرأ ابن عباس «التي حرمها» إشارة إلى البلدة. وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وملكا وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ «2» نسختها آية القتال وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمه، سَيُرِيكُمْ آياتِهِ يعني يوم بدر، نظيرها في سورة الأنبياء: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ وقال مجاهد: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ في أنفسكم وفي السماء والأرض والرزق، دليله قوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ «3» وقوله: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ «4» فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
سورة القصص
سورة القصص مكية، وهي خمسة آلاف وثمانمائة حرف، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة، وثمان وثمانون آية أخبرنا أبو الحسين الخباري، قال: حدّثنا ابن حنيش «1» قال: حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدفاق، قال: حدّثنا عبد الله بن روح المدائني، وأخبرنا الخياري، قال: حدّثنا طغران، قال: حدّثنا ابن أبي داود، قال: حدّثنا محمد بن عاصم، قالا: حدّثنا شبابه «2» بن سوار الفزاري، قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن زيد بن حنيش «3» ، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به، ولم يبق ملك في السموات والأرض إلّا شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا، إنّ كلّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» [125] «4» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ. نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا قال ابن عباس: استكبر، السدّي قال: تجبر، وقال قتادة: بغى،
[سورة القصص (28) : الآيات 7 إلى 14]
وقال مقاتل: تعظّم، فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً فرقا وأصنافا في الخدمة والسحر، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يعني بني إسرائيل، يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ يعني بني إسرائيل. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً قال ابن عباس: قادة في الخير يقتدى بهم، وقال قتادة: ولاة وملوكا، دليله قوله سبحانه: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً «1» ، مجاهد دعاة إلى الخير، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ بعد هلاك فرعون وقومه يرثونهم ديارهم وأموالهم، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ يعني ويوطّي لهم في أرض مصر والشام وينزلهم إياها، وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما قرأ حمزة ويحيى بن وثاب والأعشى «2» والكسائي وخلف تري بالتاء «3» ، وما بعده رفع على أنّ الفعل لَهُمْ، وقرأ غيرهم وَنُرِيَ بنون مضمومة وياء مفتوحة، وما بعده نصب بوقوع الفعل عليهم، مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ وذلك أنّهم أخبروا أنّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل، فكانوا على وجل منهم، فأراهم الله سبحانه ما كانُوا يَحْذَرُونَ. [سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 14] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى قال قتادة: قذفنا في قلبها وليس نبوة «4» ، واسم أم موسى يوخابد بنت لاوي بن يعقوب أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي عليه، وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد قال: «1» حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرجي «2» قال: حدّثنا الحسين بن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرني ابن سمعان، عن عطاء عن ابن عباس قال إسحاق: وأخبرني جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إنّ بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس، وعملوا بالمعاصي، ورق «3» خيارهم أشرارهم «4» ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، فسلّط الله عليهم القبط، فاستضعفوهم إلى أن نجّاهم الله تعالى على يدي نبيّه موسى (عليه السلام) . قال وهب: بلغني أنّه ذبح في طلب موسى تسعين ألف وليد، قال ابن عباس: إنّ أم موسى لمّا تقارب [ولادها] ، وكانت قابلة من القوابل التي وكّلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها، فقالت: قد نزل بي ما نزل، ولينفعني حبّك إياي اليوم، قال: فعالجت قبالها، فلمّا أن وقع موسى (عليه السلام) على الأرض هالها نور بين عيني موسى (عليه السلام) ، فارتعش كلّ مفصل منها ودخل حبّ موسى (عليه السلام) قلبها، ثم قالت لها: يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلّا ومن رأيي قتل مولودك وأخبر فرعون، ولكن وجدت لابنك هذا حبّا ما وجدت حبّ شيء مثل حبّه، فاحفظي «5» ابنك، فإنّي أراه هو عدونا. فلمّا خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخلوا على أم موسى، فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس بالباب، فلفّت موسى في خرقة، فوضعته في التنور وهو مسجور، فطاش عقلها، فلم تعقل ما تصنع، قال: فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون، ولم يظهر لها لبن، فقالوا: ما أدخل عليك القابلة؟ قالت: هي مصافية لي، فدخلت عليّ زائرة، فخرجوا من عندها، فرجع إليها عقلها، فقالت لأخت موسى: فأين الصبي؟ قالت: لا أدري، فسمعت بكاء الصبي من التنور، فانطلقت إليه، وقد جعل الله سبحانه النار عليه بردا وسلاما فاحتملته. قال: ثم إنّ أمّ موسى (عليه السلام) لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها، فقذف الله سبحانه في نفسها أن تتخذ له تابوتا، ثم تقذف بالتابوت في اليمّ وهو النيل، فانطلقت إلى رجل نجار من أهل مصر من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا صغيرا، فقال لها النجار: ما تصنعين بهذا التابوت؟
قالت: ابن لي أخبّئه في التابوت، وكرهت «1» الكذب، قال: ولم؟ قالت: أخشى عليه كيد فرعون، فلمّا اشترت التابوت وحملته وانطلقت، انطلق النجار إلى أولئك الذبّاحين ليخبرهم بأمر أمّ موسى، فلمّا همّ بالكلام أمسك الله سبحانه لسانه فلم ينطق الكلام، وجعل يشير بيده، فلمّا يدر الأمناء ما يقول، فلمّا أعياهم أمره قال كبيرهم: اضربوه، فضربوه وأخرجوه. فلمّا انتهى النجار إلى موضعه ردّ الله سبحانه عليه لسانه، فتكلم، فانطلق أيضا يريد الأمناء، فأتاهم ليخبرهم وأخذ الله سبحانه لسانه وبصره، فلم ينطق الكلام، ولم يبصر شيئا، فضربوه وأخرجوه، فوقع في واد تهوى «2» فيه حيران، فجعل لله عليه إن ردّ لسانه وبصره أن لا يدلّ عليه، وأن يكون معه لحفظه حيث ما كان، فعرف الله عزّ وجل منه الصدق، فردّ عليه بصره ولسانه فخرّ لله ساجدا، فقال: يا رب دلّني على هذا العبد الصالح، فدلّه الله عليه، فخرج من الوادي، فآمن به وصدّقه وعلم أنّ ذلك من الله. فانطلقت أم موسى، فألقته في البحر، وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها، وكانت من أكرم الناس عليه، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون، وكان بها برص شديد مسلخة «3» برصا، فكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة، فنظروا في أمرها، فقالوا له: أيها الملك لا تبرأ إلّا من قبل البحر يوجد «4» منه شبه الإنسان، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به «5» برصها فتبرأ من ذلك، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس. فلمّا كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهنّ وتنضح بالماء على وجوههن، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج، فقال فرعون: إنّ هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجرة، ائتوني به، فابتدروه بالسفن من كلّ جانب «6» حتى وضعوه بين يديه، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه. قال «7» : فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا لم يره غيرها للذي أراد الله سبحانه أن يكرمها، فعالجته ففتحت الباب، فإذا هي بصبي صغير في مهده، وإذا نور بين عينيه، وقد جعل
الله تعالى رزقه في إبهامه يمصّه لبنا، فألقى الله سبحانه لموسى (عليه السلام) المحبة في قلب آسية، وأحبّه فرعون وعطف عليه، وأقبلت بنت فرعون، فلمّا أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه، فلطخت به برصها، فبرأت فقبّلته وضمّته إلى صدرها. فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك إنّا نظن إنّ ذلك المولود الذي نحذر منه من بني إسرائيل هو هذا، رمي به في البحر فرقا منك فاقتله، فهمّ فرعون بقتله «1» ، قالت آسية: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تقتله عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، وكانت لا تلد، فاستوهبت موسى من فرعون، فوهبه لها، وقال فرعون: أما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال رسول الله (عليه السلام) «2» : «لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك مثل قالت امرأته لهداه الله سبحانه كما هداها، ولكن أحب الله عز وجل أن يحرمه للذي سبق في علم الله» [126] «3» . فقيل لآسية: سمّيه، قالت: سميته موشا لأنّا وجدناه في الماء والشجر، ف (مو) هو الماء، و (شا) : هو الشجر. فذلك قوله سبحانه: فَالْتَقَطَهُ أي فأخذه، والعرب تقول لما وردت عليه فجأة من غير طلب له ولا إرادة: أصبته التقاطا، ولقيت فلانا التقاطا، ومنه قول الراجز: ومنهل وردته التقاطا ... لم ألق إذ وردته فراطا «4» «5» ومنه اللقطة وهو ما وجد ضالًّا فأخذ، آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ هذه اللام تسمى لام العاقبة، ولام الصيرورة، لأنّهم إنما أخذوه ليكون لهم قرّة عين، فكان عاقبة ذلك أنّه كان لهم، عَدُوًّا وَحَزَناً، قال الشاعر: فللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدور تبنى المساكن «6» عَدُوًّا وَحَزَناً قرأ أهل الكوفة بضم الحاء وجزم الزاي، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي، واختاره أبو عبيد، قال: للتفخيم، واختلف فيه غير عاصم، وهما لغتان مثل العدم والعدم، والسقم والسقم إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ عاصين آثمين. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ أي هو قرّة عين، لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ فإنّ الله أتانا به من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل، عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
بما هو كائن من أمرهم وأمره، عن مجاهد، قتادة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ إنّ هلاكهم على يديه، محمد بن زكريا «1» بن يسار وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ إنّي أفعل ما أريد ولا أفعل ما يريدون «2» . أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة وعبيد الله قالا: حدّثنا أبو مجاهد قال: حدّثني أحمد بن حرب قال: حدّثنا سنيد» قال: حدّثني حجاج، عن أبي معشر «4» ، عن محمد بن قيس وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يقول: لا يدري بنو إسرائيل إنّا التقطناه «5» ، الكلبي وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ إلّا وإنّه ولدنا. وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي خاليا لاهيا ساهيا «6» من كلّ شيء إلّا من ذكر موسى وهمه، قاله أكثر المفسّرين، وقال الحسن وابن إسحاق وابن زيد: يعني فارِغاً من الوحي الذي أوحى الله سبحانه وتعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن، والعهد الذي عهدنا «7» إليه أن نردّه «8» إليها ونجعله «9» من المرسلين، فجاءها الشيطان، فقال: يا أمّ موسى كرهت أن يقتل فرعون موسى فتكون «10» لك أجره وثوابه، وتولّيت أنت قتله، فألقيته في البحر وغرّقته. ولمّا أتاها الخبر بأنّ فرعون أصابه في النيل قالت: إنّه وقع في يدي عدوه والذي فررت به منه، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله سبحانه إليها، فقال الله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من الوحي الذي أوحي إليها، وقال الكسائي: فارِغاً أي ناسيا، أبو عبيدة: فارِغاً من الحزن لعلمها بأنّه لم يغرق، وهو من «11» قول العرب: دم فرغ «12» إذا كان هدرا لا قود فيه ولا دية. وقال الشاعر: فإن تك أذواد أصبن «13» ونسوة ... فلن «14» تذهبوا فرغا بقتل حبال «15»
العلاء بن زيد فارِغاً: نافرا، وقرأ ابن محيصن وفضالة بن عبيد: فزعا بالزاي والعين من غير ألف، إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ قال بعضهم: الهاء في قوله: بِهِ راجعة إلى موسى ومعنى الكلام: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أنّه ابنها من شدة وجدها. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن بشر، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ قال: كادت تقول: وا ابناه، وقال مقاتل: لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر، فخشيت عليه الغرق، فكادت تصيح من شفقها «1» عليه، الكلبي: كادت تظهر أنّه ابنها، وذلك حين سمعت الناس وهم يقولون لموسى بعد ما شبّ: موسى بن فرعون، فشق عليها فكادت تقول: لا، بل هو ابني، وقال بعضهم: الهاء عائدة الى الوحي أي إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بالوحي الذي أوحينا إليها أن نردّه عليها. لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها قوّينا قلبها فعصمناها وثبّتناها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين الموقنين بوعد الله عزّ وجل وَقالَتْ أم موسى لِأُخْتِهِ لأخت موسى واسمها مريم قُصِّيهِ ابتغي أثره حتى تعلمي خبره، ومنه القصص لأنّه حديث يتبع فيه الثاني الأول، فَبَصُرَتْ بِهِ أبصرته عَنْ جُنُبٍ بعد، وقال ابن عباس: الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به. وقال قتادة: جعلت «2» تنظر إليها كأنّها لا تريده، وكان يقرأ عَنْ جَنْبٍ بفتح الجيم وسكون النون، وقرأ النعمان بن سالم عن جانب أي عن ناحية وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها أخته وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ وهي جمع المراضع، مِنْ قَبْلُ أي من قبل مجيء أم موسى، وذلك أنّه كان يؤتى بمرضع بعد مرضع فلا يقبل ثدي امرأة، فهمّهم ذلك، فلمّا رأت أخت موسى التي أرسلتها أمّه في طلبه ذلك، وما يصنع به، فَقالَتْ لهم: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنونه ويرضعونه ويضمّونه إليهم، وهي امرأة قد قتل ولدها، فأحبّ شيء إليها أن تجد صبيا صغيرا فترضعه، وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ والنصح: إخلاص العمل من شائب الفساد، وهو نقيض الغش، قالوا: نعم، فأتينا بها فانطلقت إلى أمّها فأخبرتها [بحال ابنها] وجاءت بها إليهم «3» ، فلمّا وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها فذلك قوله: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ الله وعدها ردّه إليها. قال السدي وابن جريج: لما قالت أخت موسى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ
[سورة القصص (28) : الآيات 15 إلى 22]
أخذوها وقالوا: إنّك قد عرفت هذا الغلام، فدلّينا على أهله، فقالت: ما أعرفه ولكني إنّما قلت: هم للملك ناصحون، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قال الكلبي: الأشدّ: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقال سائر المفسّرين: الأشد ثلاث وثلاثون سنة، وَاسْتَوى أي بلغ أربعين سنة. أخبرنا أبو محمد المخلدي، قال: أخبرنا أبو الوفاء المؤمل بن الحسن بن عيسى، قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح، قال: حدّثنا يحيى بن سليم، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله سبحانه: بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى قال: الأشدّ: ثلاث وثلاثون سنة، والاستواء: أربعون سنة، والعمر الذي أعده الله إلى ابن آدم ستون سنة، ثم قرأ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ «1» . آتَيْناهُ حُكْماً عقلا وفهما، وَعِلْماً قال مجاهد: قيل: النبوة، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 22] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَدَخَلَ يعني موسى الْمَدِينَةَ قال السدي: يعني مدينة منف «2» من أرض مصر «3» ، وقال مقاتل: كانت قرية تدعى خانين على رأس فرسخين من مصر. عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها قال محمد بن كعب القرظي: دخلها فيما بين المغرب والعشاء، وقال غيره: نصف النهار عند القائلة، واختلف العلماء في السبب الذي من أجله دخل
موسى هذه المدينة في هذا الوقت، فقال السدّي: كان موسى (عليه السلام) حين أمر بركب مراكب فرعون وبلبس مثل ما يلبس، وكان إنّما يدعى موسى بن فرعون، ثم إنّ فرعون ركب «1» مركبا وليس عنده موسى (عليه السلام) ، فلمّا جاء موسى قيل له: إنّ فرعون قد ركب، فركب في أثره، فأدركه المقيل بأرض يقال لها: منف، فدخلها نصف النهار وقد تقلّبت أسواقها، وليس في طرقها أحد، وهو الذي يقول الله سبحانه: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها. وقال ابن إسحاق: كانت لموسى من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه «2» ويقتدون به ويجتمعون إليه، فلمّا اشتد رأيه وعرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه، فخالفهم في دينه وتكلّم وعادى وأنكر حتى ذكر ذلك منه، وحتى خافوه وخافهم، حتى كان لا يدخل قرية إلّا خائفا مستخفيا، فدخلها يوما عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها. وقال ابن زيد: لمّا علا موسى فرعون بالعصا في صغره قال فرعون: هذا عدونا الذي قتلت فيه بني إسرائيل، فقالت امرأته: لا بل هو صغير، ثم دعت بالجمر والجوهر، فلمّا أخذ موسى الجمرة وطرحها في فيه حتى صارت عقدة في لسانه، ترك فرعون قتله وأمر بإخراجه من مدينته، فلم يدخل عليهم إلّا بعد أن كبر وبلغ أشدّه، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها عن موسى أي من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به. وقال علي بن أبي طالب «رضي الله عنه» : في قوله: حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم «3» ، فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ من أهل دينه من بني إسرائيل، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ من مخالفيه من القبط، قال المفسرون: الذي هو مِنْ شِيعَتِهِ هو السامري، والَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ طباخ فرعون واسمه فليثون. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد، قال: حدّثنا الحسن بن علوية، قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدّثنا المسيب بن شريك قال: اسمه فاثون وكان خباز فرعون، قالوا: يسخّره لحمل الحطب إلى المطبخ، روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لمّا بلغ موسى أشده، وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتد غضبه لأنّه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلّا إنّما ذلك من قبل الرضاعة من أمّ موسى، فقال للفرعوني، خلّ
سبيله، فقال: إنّما أخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك، فنازع أحدهما صاحبه، فقال الفرعوني لموسى: لقد هممت إلى أن أحمله عليك. وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش، فَوَكَزَهُ مُوسى بجمع كفّه ولم يتعمد قتله، قال الفرّاء وأبو عبيدة: الوكز: الدفع بأطراف الأصابع، وفي مصحف عبد الله (فنكزه) بالنون، والوكز واللكز والنكز واحد، ومعناها: الدفع، فَقَضى عَلَيْهِ أي قتله وفرغ من أمره، وكلّ شيء فرغت منه فقد قضيته، وقضيت عليه، قال الشاعر: أيقايسون «1» وقد رأوا حفاثهم ... قد عضّه فقضى عليه الأشجع «2» أي قتله. فلمّا قتله موسى ندم على قتله، وقال: لم أومر بذلك ثم دفنه] في الرمل] قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بالمغفرة فلم تعاقبني فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً عونا ونصيرا لِلْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس: لم يستثن فابتلى، قال قتادة: يعني فلن أعين بعدها على خطيئة، أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد، قال: حدّثنا داود بن سليمان، قال: أخبرنا عبد بن حميد، قال: حدّثنا عبيد الله بن موسى، عن سلمة بن نبيط قال: بعث بعض الأمراء وهو عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى، وقال: أعطهم، فقال: اعفني، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه، فقال له بعض أصحابه: وأنت لا [ترزأ] شيئا، فقال: لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم. وبه عن عبد «3» الله قال: حدّثنا يعلى، قال حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي قال: قلت لعطاء بن أبي رياح: إنّ لي أخا يأخذ بقلمه، وإنّما يكتب ما يدخل وما يخرج، قال: أخذ بقلمه كان ذلك غنى وإن تركه احتاج، وصار عليه دين وله عيال، فقال: من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله، قال: اما تقرأ ما قال العبد الصالح: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ، فلا يعينهم فإن الله تعالى سيغنيه. فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً من قتله القبطي أن يؤخذ فيقتل به، يَتَرَقَّبُ ينتظر الأخبار، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يستغيثه، وأصل ذلك من الصراخ، كما يقال: قال بني فلان: يا صاحبا.
قال ابن عباس: أتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا منّا، فخذ لنا بحقّنا ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: أبغوا لي قاتله ومن يشهد عليه، فلا يستقيم أن يقضى بغير بيّنة ولا ثبت فاطلبوا ذلك، فبينا هم يطوفون [و] لا يجدون ثبتا إذ مرّ موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا آخر يريد أن يسخّره، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتله القبطي، فقال موسى للإسرائيلي: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ظاهر الغواية حين قاتلت أمس رجلا وقتلته بسببك، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه. وقيل: إنّما قال للفرعوني: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ بتسخيرك وظلمك، والقول الأول أصوب وأليق بنظم الآية. قال ابن عباس: ثم مد موسى يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس فخاف أن يكون بعد ما قال له: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أراده] ، ولم يكن أراده، إنّما أراد الفرعوني، ف قالَ: يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ بالقتل ظلما، قال عكرمة والشعبي: لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق. وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ثم تتاركا، فلمّا سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أنّ موسى قتل ذلك الفرعوني، فانطلق إلى فرعون، فأخبره بذلك، فأمر فرعون بقتل موسى ولم يكن ظهر على قاتل القبطي حتى قال صاحب موسى ما قال. قال ابن عباس: فلمّا أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة أي آخرها، واختصر طريقا قريبا] وسبقهم فأخبره وأنذره] حتى أخذ طريقا آخر فذلك قوله: وَجاءَ رَجُلٌ واختلفوا فيه، فقال أكثر أهل التأويل: هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون، فقال شعيب الجبائي: اسمه شمعون، وقيل: شمعان «1» . مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قال الكلبي: يسرع في مشيه لينذره، مقاتل: يمشي على رجليه، قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ أي يهمّون بقتلك ويتشاورون فيك، وقيل: يأمر بعضهم بعضا نظيره قوله عز وجل: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ، وقال النمر بن تغلب: أرى الناس قد أحدثوا سمة ... وفي كلّ حادثة يؤتمر فَاخْرُجْ من هذه المدينة إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ موسى مِنْها أي من مدينة فرعون خائِفاً يَتَرَقَّبُ ينتظر الطلب قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ
[سورة القصص (28) : الآيات 23 إلى 28]
أي نحوها وقصدها ماضيا لها، خارجا عن سلطان فرعون، يقال: داره تلقاء دار فلان إذا كانت محاذيتها، وأصله من اللقاء، ولم تصرف مدين لأنّها اسم بلدة معروفة. قال الشاعر: رهبان مدين لو رأوك تنزّلوا ... والعصم من شغف العقول القادر «1» وهو مدين بن إبراهيم نسبت البلدة إليه «2» كما نسبت مدائن إلى أخيه مدائن بن إبراهيم قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ قصد الطريق إلى مدين، وإنّما قال ذلك لأنّه لم يكن يعرف الطريق إليها، فلمّا دعا جاءه ملك على فرس بيده عنزة فانطلق به إلى مدين. قال المفسّرون: خرج موسى من مصر بلا زاد ولا درهم ولا ظهر ولا حذاء إلى مدين وبينهما مسيرة ثماني ليال نحوا من الكوفة إلى البصرة، ولم يكن له طعام إلّا ورق الشجر، قال ابن جبير: خرج من مصر حافيا، فما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه. [سورة القصص (28) : الآيات 23 الى 28] وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وهو بئر كانت لهم وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ تحبسان وتمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب، وقال الحسن: تكفان [أغنامهما] عن أن تختلط بأغنام الناس وترك ذكر الغنم اختصارا، قتادة: [تذودان] الناس عن شائهما، أبو مالك وابن إسحاق: تحبسان غنمهما عن الماء حتى يصدر عنه مواشي الناس ويخلوا لهما البئر، ثم يسقيان «3» غنمهما لضعفهما، وهذا القول أولى بالصواب لما بعده، وهو قوله: قالَ يعني موسى ما خَطْبُكُما ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس؟ قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ قرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وابن عامر وابن جعفر
وأيوب بن المتوكل: بفتح الياء وضم الدال، جعلوا الفعل للرعاء أي حتى يرجعوا عن الماء، وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء، والرعاء: جمع راع مثل تاجر وتجار، ومعنى الآية لا نسقي مواشينا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ لأنّا لا نطيق أن نسقي، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض. وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يقدر أن يسقي مواشيه، واختلفوا في اسم أبيهما، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن: هو شعيب النبي صلى الله عليه وعلى جميع الأنبياء واسمه شعيب بن بويب بن مدين بن إبراهيم، قال وهب وسعيد بن جبير وأبو عبيدة بن عبد الله: هو بثرون ابن أخي شعيب، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعد ما كفّ بصره، فدفن بين المقام وزمزم. وروى حماد بن سلمة، عن أبي حمزة الضبعي، عن ابن عباس قال: اسم أبي امرأة موسى صاحب مدين بثرى، قالوا: فلمّا سمع موسى (عليه السلام) قولهما رحمهما، واقتلع صخرة على رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلّا جماعة من الناس. شريح: عشرة رجال، وقيل: إنّه زاحم القوم عن الماء وأخذ دلوهما وسقى غنمهما، عن ابن إسحاق، فذلك قوله سبحانه: فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ قال السدي: ظلّ شجرة، وروى عمر بن ميمون، عن عبد الله قال: أحييت على جمل لي ليلتين حتى صبّحت مدين، فسألت عن الشجرة التي آوى إليها موسى فإذا شجرة خضراء ترق فما هوى إليها جملي، وكان جائعا، فأخذها فعالجها «1» ساعة فلم «2» يقطعها، فدعوت الله سبحانه لموسى ثم انصرفت. فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ قال قطرب: اللام هاهنا بمعنى إلى تقول العرب: احتجت له، واحتجت إليه بمعنى واحد، مِنْ خَيْرٍ أي طعام فَقِيرٌ محتاج، قال ابن عباس: لقد قال ذلك وإنّ خضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال ما يسأل الله سبحانه إلّا أكله. قال الباقر: لقد قالها وإنّه لمحتاج إلى شق تمرة. قالوا: فلمّا رجعتا إلى أبيهما سريعا قبل الناس وأغنامهما حفّل بطان، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا، فسقى لنا أغنامنا [قبل الناس] ، فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي. فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قال عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» : مستترة بكم درعها لوف «3» قد سترت وجهها بيدها، روى قتادة، عن مطرف، قال: أما والله لو كان عند نبي الله شيء ما اتبع مذقتها، ولكنّه حمله على ذلك الجهد.
قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فانطلق موسى معها يتبعها، فهبت الريح، فألزقت ثوب المرأة بردفها، فكره موسى أن يرى ذلك منها، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، ودلّيني عليها إن أخطأت، فإنّا بني يعقوب لا ننظر إلى أعجاز النساء فَلَمَّا جاءَهُ يعني الشيخ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أخبره بأمره والسبب الذي أخرجه من أرضه قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني فرعون وقومه لا سلطان له بأرضنا. قالَتْ إِحْداهُما وهي التي تزوجها موسى يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ لرعي أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، فقال لها أبوها: وما علمك بقوته وأمانته؟ فقالت: أما قوته فإنّه لما رآنا حابسي» أغنامنا عن الماء، قال لنا: فهل بقربكما بئر؟ قلنا: نعم، ولكن عليها صخرة لا يرفعها إلّا أربعون رجلا، قال: انطلقا بي إليها [فأخذ] الصخرة بيده فنحّاها. وأما أمانته فإنّه قال لي في الطريق: امشي خلفي، وإن أخطأت فارمي قدامي بحصاة حتى أنهج نهجها «2» . قالَ عند ذلك الشيخ لموسى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ واسمهما صفورة ولباني، قول شعيب الجبّائي قال: امرأة موسى صفورة، وقال ابن إسحاق: صفورة وشرفا، وغيرهما: الكبرى صفرا والصغرى صفيرا عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي يعني آجرني، وقالت الأئمة: على أن تثيبني من تزويجها رعيّ «3» ماشيتي ثَمانِيَ حِجَجٍ سنين واحدتها حجة، جعل صداقها ذلك، قال: [يقول العرب] آجرك الله فهو يأجرك بمعنى أثابك فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً أي عشر سنين فَمِنْ عِنْدِكَ وأنت به متبرع متفضل وليس مما اشترطه عليك في عقد النكاح وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ من الوافين بالعهد، المحسنين الصحبة قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ الثمان أو العشر فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ شهيد وحفيظ. وقالت العلماء بأخبار الأنبياء: أنّ موسى وصاحبه (عليهما السلام) لما تعاقدا بينهما هذا العقد أمر صهره احدى بنتيه أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه، واختلفوا في حال تلك العصا، فقال عكرمة: خرج بها آدم من الجنة وأخذها جبريل بعد موت آدم، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه، وقال آخرون: لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى شعيب وكانت عصيّ الأنبياء عنده، فأعطاها موسى.
وقال السدي: كانت تلك العصا استودعها ملك في صورة رجل، وأمر ابنته أن تأتيه بعصا، فدخلت الجارية فأخذت العصا فأتته بها، فلمّا رآها الشيخ قال لابنته، آتيه بغيرها، فلمّا رمتها تريد أن تأخذ غيرها فلا تقع في يدها إلّا هي، كلّ ذلك تطير في يدها حتى فعلت ذلك مرات، فأعطاها موسى، فأخرجها معه، ثم إنّ الشيخ ندم، وقال: كانت وديعة، فخرج يتلقّى موسى، فلمّا لقيه، قال: أعطني العصا، قال موسى: هي عصاي، فأبى أن يعطيه، فاختصما حتى رضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما، فأتاهما ملك يمشي، فقضى بينهما، فقال: ضعوها بالأرض فمن حملها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها، وأخذها موسى بيده فرفعها، فتركها له الشيخ. وروى حيان عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنّه قال: كان في دار يثرون بيت لا يدخله إلّا يثرون وابنته التي زوجها موسى، كانت تكنسه وتنظّفه، وكان في البيت ثلاث عشرة عصا، وكان ليثرون أحد عشر ولدا من الذكور، فكلّما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصيّ، فجعل يحترق الولد حتى هلك كلّهم، فرجع موسى ذات يوم إلى منزله فلم يجد أهله، واحتاج إلى عصا لرعيه، فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي وخرج بها، فلمّا علمت بذلك امرأته انطلقت إلى أبيها، وأخبرته بذلك، فسرّ بها يثرون وقال لها: إنّ زوجك هذا نبي وإنّ له مع هذه العصا لشأنا. وفي بعض الأخبار أنّ موسى (عليه السلام) لمّا أصبح من الغد بعد العقد وأراد الرعي قال له صهره شعيب: اذهب بهذه الأغنام، فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ بها أكثر، فإنّ هناك تنينا عظيما أخشى عليك وعلى الأغنام منه. فذهب موسى بالأغنام، فلمّا بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين، فاجتهد موسى على أن يصرفها إلى ذات الشمال فلم تطعه فسار موسى على أثرها، فرأى عشبا وريفا لم ير مثله، ولم ير التنين، فنام موسى والأغنام ترعى، فإذا بالتنين قد جاء، فقامت عصا موسى وحاربته حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى وهي دامية. فلمّا استيقظ موسى رأى العصا دامية والتنين مقتولا، فارتاح لذلك وعلم أنّ لله سبحانه في تلك العصا قدرة وإرادة، فعاد إلى شعيب، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام، فإذا هي أمثل حالا مما كانت، فسأله، فأخبره موسى بالقصة، ففرح بذلك شعيب وعلم أنّ لموسى وعصاه شأنا، فأراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراما له وصلة لابنته فقال له: إنّي قد وهبت لك [من] الجدايا التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام. قال: فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه، فما أخطأت واحدة منها إلّا وقد
[سورة القصص (28) : الآيات 29 إلى 35]
وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء، فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه الله إلى موسى وامرأته، فوفى له بشرطه وسلّم إليه الأغنام. [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتمه وفرغ منه. أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكي بن عبدان عن عبد الرحمن، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر، قال: حدّثنا موسى بن عبد العزيز، قال: حدّثنا الحكم بن أبان، قال: حدّثني عكرمة، قال: قال ابن عباس: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الأجلين قضى موسى؟ قال: «أبعدهما وأطيبهما» [127] «1» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، قال: حدّثنا محمد بن عبد الجبار الهمذاني، قال: حدّثنا يحيى بن بكير قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن الحارث «2» بن زيد، عن علي بن رباح «3» ، عن عتبة بن التيب- وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يسكن الشام، ومات في زمن عبد الملك- قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الأجلين قضى موسى؟ قال: «أبرهما وأوفاهما» [128] «4» . وروى محمد بن إسحاق، عن حكم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: قال لي يهودي بالكوفة وأنا أتجهز للحج: إنّي أراك رجلا تتبع العلم، أخبرني أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أعلم، وأنا الآن قادم على حبر العرب- يعني ابن عباس- فسأسأله عن ذلك، فلمّا قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إنّ النبي إذا وعد لم يخلف، قال
سعيد: فقدمت العراق، فلقيت اليهودي فأخبرته، فقال: صدق، ما أنزل على موسى هذا والله العالم. وقال وهب: أنكحه الكبرى، وقد روي أنّ النبي (عليه السلام) قال: «تزوج صغراهما وقضى أوفاهما» [129] «1» فإن صح هذا الخبر فلا معدل عنه. وقال مجاهد: لما قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ومكث بعد ذلك عند صهره عشرا أخرى، فأقام عنده عشرين سنة، ثم إنّه استأذنه في العودة إلى مصر لزيارة والدته وأخيه، فأذن له، فسار بأهله وماله، وكانت أيام الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، وامرأته في شهرها لا يدري أليلا تضع أم نهارا، فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة «2» شديدة البرد، وأخذ امرأته الطلق، فقدح زندا فلم تور [المقدحة شيئا] «3» ، ف آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ قطعة وشعلة مِنَ النَّارِ وفيها ثلاث لغات: فتح الجيم وهي قراءة عاصم، وضمها وهي قراءة حمزة، وكسرها وهي قراءة الباقين، وقال قتادة ومقاتل: الجذوة: العود الذي قد احترق بعضه، وجمعها جذيّ، قال ابن مقبل: باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذي غير خوار ولا دعر «4» لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي تستدفئون وتستحمّون بها من البرد فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ جانب الْوادِ الْأَيْمَنِ عن يمين موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ وقرأ أشهب العقيلي فِي الْبَقْعَةِ بفتح الباء مِنَ الشَّجَرَةِ أي من ناحية الشجرة أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قال عبد الله بن مسعود: كانت الشجرة سمرة خضراء ترق، قتادة، عوسجة، وهب: علّيق. وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرك كَأَنَّها جَانٌّ وهي الحيّة الصغيرة من سرعة حركته وَلَّى مُدْبِراً هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع، فنودي يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فخرجت كأنّها مصباح وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ قرأ حفص بفتح الراء وجزم (الهاء) ، وقرأ أهل الكوفة والشام بضمّ (الراء) وجزم (الهاء) ، غيرهم بفتح (الراء) و (الهاء) ، دليلهم قوله سبحانه: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً «5» وكلّها لغات بمعنى الخوف والفرق.
ومعنى الآية إذا هالك أمر يدك وما ترى «1» من شعاعها، فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى، وقال بعضهم، أمره الله سبحانه وتعالى أن يضم يده إلى صدره ليذهب الله عز وجل ما ناله من الخوف عند معاينة الحية، وقيل: معناه سكّن روعك واخفض عليك جأشك لأنّ من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه، وضم الجناح هو السكون، ومثله قوله سبحانه وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ «2» يريد الرفق، وقوله سبحانه: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «3» أي ارفق بهم وألن جانبك لهم، وقال الفرّاء: أراد بالجناح عصاه. وقال بعض أهل المعاني: الرهب، الكم بلغة حمير وبني حنيفة، وحكي عن الأصمعي أنّه سمع بعض الأعراب يقول لآخر: أعطني ما في رهبك، قال: فسألته عن الرهب؟ فقال: الكم، ومعناه على هذا التأويل: اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم لأنّه تناول العصا ويده في كمّه. فَذانِكَ قراءة العامة بتخفيف (النون) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد (النون) وهي لغة قريش، وفي وجهها أربعة أقوال: قيل: شدّد النون عوضا من (الألف) الساقطة ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين لأنّ أصله فَذانِكَ فحذفت الألف الأولى لالتقاء الساكنين. وقيل: التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك. وقيل: شدّدت فرقا بينها وبين التي تسقط للإضافة لأنّ ذان لا تضاف. وقيل: للفرق بين تثنية الاسم المتمكن وبينها. قال أبو عبيد: وكان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد دون كلّ تثنية في القرآن، وأحسبه فعل ذلك لقلة الحروف في الاسم، فقرأه بالتثقيل. ومعنى الآية فَذانِكَ يعني العصا واليد البيضاء بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وأحسن «4» بيانا، وإنّما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً معينا، يقال: أردأته أي أعنته، وترك همزه عيسى بن عمر وأهل المدينة طلبا للخفّة يُصَدِّقُنِي قرأه العامة بالجزم، ورفعه عاصم وحمزة، وهو اختيار أبو عبيد، فمن جزمه فعلى جواب الدعاء، ومن رفعه فعلى الحال، أي ردءا مصدقا حاله التصديق كقوله سبحانه: رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ أي كائنة حال صرف إلى الاستقبال. إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ أن نقويك ونعينك بِأَخِيكَ وكان هارون يومئذ بمصر وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً قوة وحجة وبرهانا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.
[سورة القصص (28) : الآيات 36 إلى 43]
[سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 43] فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا الذي تدعونا إليه فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. وَقالَ مُوسى قراءة العامة بالواو، وقرأ أهل مكة بغير واو، وكذلك هو في مصاحفهم رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ بالمحق من المبطل «1» وَمَنْ تَكُونُ لَهُ [قرأ] بالياء أهل الكوفة والباقون بالتاء. عاقِبَةُ الدَّارِ أي العقبى المحمودة في الدار الآخرة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا ينجح الكافرون. وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فاطبخ لي الآجر، وقيل: إنّه أول من اتخذ الآجر وبنى به. قال أهل التفسير «2» : لمّا أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامان العمال والفعلة «3» حتى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص، وينجر الخشب والأبواب، ويضرب المسامير، فرفعوه وشيّدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق منذ خلق الله السموات والأرض، أراد الله سبحانه أن يفتنهم فيه، فلمّا فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه، فأمر بنشابه فرمى بها نحو السماء، فردّت إليه وهي ملطّخة دما. فقال: قد قتلت إله موسى، قالوا: لو كان فرعون يصعده على البراذين، فبعث الله سبحانه جبريل (عليه السلام) [عند] غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف رجل، ووقعت قطعة منها في البحر، وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلّا هلك، فذلك قوله تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ، فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً قصرا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أنظر إليه وأقف على حاله.
[سورة القصص (28) : الآيات 44 إلى 50]
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعائه كون إله غيري وأنّه رسوله وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فألقيناهم فِي الْيَمِّ يعني البحر، قال قتادة: هو بحر من وراء مصر يقال له: أساف، غرّقهم الله فيه فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قادة ورؤساء يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً حزنا وعذابا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ الممقوتين، وقال أبو عبيدة وابن كيسان: المهلكين، وقال ابن عباس: يعني المشوّهين الخلقة بسواد الوجه وزرقة العيون، قال أهل [اللغة] يقال: قبحه الله، وقبّحه إذا جعله قبيحا وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. أخبرنا شعيب بن محمد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أحمد بن الأزهر، قال: حدّثنا روح بن عبادة، عن عوف، عن أبي نصرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «ما أهلك الله عز وجل قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل الله سبحانه التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخوا قردة، ألم تر أنّ الله سبحانه قال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى الآية» [130] «1» . [سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 50] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَما كُنْتَ يا محمد بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي غربي الجبل إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي أخبرناه بأمرنا ونهينا، وألزمناه عهدنا وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين هناك تذكرة من ذات نفسك وَلكِنَّا أَنْشَأْنا أحدّثنا وخلقنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فنسوا عهد الله سبحانه وتركوا أمره، نظيره فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ «2» ، وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يعني أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولما أخبرتهم] بما تشاهده، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا موسى: خذ الكتاب بقوة.
قال وهب بن منبه: قال موسى يا رب أرني محمد صلى الله عليه وسلّم؟ قال: إنّك] لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمّته فأسمعتك صوتهم، قال: «بلى يا رب» [131] «1» ، فقال الله سبحانه: يا أمّة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم. وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني، قال أخبرنا محمد بن جعفر المطري، قال: حدّثنا الحماد بن الحسن، قال: حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي مدرك، عن أبي زرعة يعني ابن عمرو بن جرير وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قال: قال: يا أمّة محمد قد أجبتكم من قبل أن تدعوني، وأعطيتكم من قبل أن تسألوني. وأخبرني عبد الله بن حامد الوزان، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، قال: حدّثنا جيعويه «2» بن محمد، قال: حدّثنا صالح بن محمد، قال: وأخبرنا عثمان بن أحمد، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الجبلي، قال: حدّثنا محمد بن الصباح بن عبد السلم، قال: حدّثنا داود أبو سلمان كلاهما، عن سلمان بن عمرو، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قول الله سبحانه: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قال: «كتب الله عزّ وجل كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورقة آس، ثم وضعها على العرش، ثم نادى: يا أمّة محمد إنّ رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا عبدي ورسولي أدخلته الجنّة» [132] «3» . وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قراءة العامة بالنصب على الخبر، تقديره: ولكن رحمناك «4» رحمة، وقرأ عيسى بن عمر رحمةٌ بالرفع يعني (ولكنه رحمة من ربك) إذا أطلعك عليه وعلى الأخبار الغائبة عنك لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني أهل مكة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ عقوبة ونقمة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الكفر والمعصية
[سورة القصص (28) : الآيات 51 إلى 60]
فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وجواب لولا محذوف أي لعاجلناهم بالعقوبة، وقيل معناه: لما أرسلناك إليهم رسولا، ولكنا بعثناك إليهم لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «1» ، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا يعني محمد (عليه السلام) قالُوا يعني كفار مكة لَوْلا أُوتِيَ محمد مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى كتابا جملة واحدة. قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا قال الكلبي: وكانت مقالتهم تلك حين بعثوا الرهط منهم إلى رؤوس اليهود بالمدينة في عيد لهم، فسألوهم عن محمد (عليه السلام) فأخبروهم أنّه نعته وصفته، وأنّه في كتابهم التوراة، فرجع الرهط إلى قريش، فأخبروهم بقول اليهود، فقالوا عند ذلك ساحران تظاهرا قرأ أهل الكوفة سِحْرانِ بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود، وبه قرأ عكرمة، واحتج بقوله: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما «2» وقرأ الآخرون ساحران بالألف، واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب، فمن قرأ سِحْرانِ أراد التوراة والقرآن، ومن قرأ ساحران أراد موسى ومحمدا (عليهما السلام) . وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ لهم يا محمد فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ولم يأتوا به فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 60] وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60)
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ ابن عباس ومجاهد: فصّلنا، ابن زيد: وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنّهم عاينوا الآخرة في الدنيا، وقال أهل المعاني: أي والينا وتابعنا، وأصله من وصل الجبال بعضها إلى بعض، قال الشاعر: فقل لبني مروان ما بال ذمّة ... وحبل ضعيف ما يزال يوصّل «1» وقرأ الحسن وَصَلْنا خفيفة، وقراءة العامة بالتشديد على التكثير لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل محمد (عليه السلام) هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر بِما صَبَرُوا على دينهم، قال مجاهد: نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأوذوا وَيَدْرَؤُنَ ويدفعون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ القبيح من القول أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أي دين الجاهلين عن الكلبي، وقيل: محاورة الجاهلين، وقيل: لا نريد أن نكون جهالا. إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ أي من أحببت هدايته، وقيل: من أحببته، نزلت في أبي طالب. حدّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي- إملاء- قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن زيد بن كيسان، قال: حدّثني أبو حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمّه: «قل لا إله إلّا الله أشهد لك بها يوم القيامة» [133] «2» قال: لولا أن تعيّرني نساء قريش يقلن: إنّه حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك، فأنزل الله سبحانه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ «3» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدّثنا عبد الرزاق قال: وأخبرنا محمد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا أبو سعيد بن حمدون، قال: أخبرنا ابن الشرقي «1» ، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه دخل على عمّه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه وعنده أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية فقال: «يا عمي قل: لا إله إلّا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» [134] «2» . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فقال: بل على ملّة عبد المطلب «3» . فأنزل الله سبحانه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أخبرني «4» ابن فنجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن مالك، قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الطيالسي، قال: حدّثنا الحسين بن علي بن يزيد المدايني، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا الفضل بن العباس الهاشمي، قال: حدّثنا عبد الوهاب ابن عبد المجيد الثقفي، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن الزهري، عن محمد بن [جبير عن] مطعم، عن أبيه قال: لم يستمع أحد الوحي يلقى على رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلّا أبو بكر الصديق، فإنّه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فوجده يوحى إليه فسمع إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ. وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنّه قال للنبي (عليه السلام) أنّا لنعلم إنّ الذي تقول حقّ، ولكن يمنعنا اتباعك أنّ العرب
تتخطّفنا من أرضنا، لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم، فأنزل الله سبحانه وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا مكة. قال الله سبحانه: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً وذلك أنّ العرب في الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض، فيقتل بعضهم بعضا، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ يجلب ويجمع، قرأ أهل المدينة ويعقوب (تجبى) بالتاء لأجل الثمرات واختاره أبو حاتم وقرأ غيرهم بالياء كقوله كُلِّ شَيْءٍ واختاره أبو عبيد قال: لأنّه قد حال بين الاسم المؤنث والفعل حائل رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها، أي أشرت وطغت، فكفرت بربّها، قال عطاء بن رياح: أي عاشوا في البطر والأشر وأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام، وجعل الفعل للقرية وهو في الأصل للأهل، وقد مضت هذه المسألة فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا يعني فلم يعمر منها إلّا أقلها، وأكثرها خراب، قال ابن عباس: لم يسكنها إلّا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ نظيره قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها «1» وقوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» . وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بكفر أهلها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها يعني مكة رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ كافرون وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ بالياء أبو عمرو، يختلف عنه الباقون بالتاء.
[سورة القصص (28) : الآيات 61 إلى 75]
[سورة القصص (28) : الآيات 61 الى 75] أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً يعني الجنة فَهُوَ لاقِيهِ مدركه ومصيبه كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في النار، نظيره قوله سبحانه: وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ «1» قال مجاهد: نزلت في النبي (عليه السلام) وفي أبي جهل بن هشام. محمد بن كعب: في حمزة وعلي وفي أبي جهل. السدي: عمار والوليد بن المغيرة. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ في الدنيا أنّهم شركائي قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وجب عليهم العذاب وهم الرؤوس عن الكلبي، غيره: الشياطين رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ لبني آدم الكفار ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ جواب (لو) مضمر، أي لو كانوا يهتدون لما رأوا العذاب، وقيل معناه: ودّوا إذا رأوا العذاب لو أنّهم كانوا يهتدون. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ فخفيت واشتبهت عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يعني الأخبار والأعذار والحجج يَوْمَئِذٍ لأنّ الله سبحانه قد أعذر إليهم في الدنيا، فلا يكون لهم حجة ولا عذر يوم القيامة فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يجيبون، قتادة: لا يحتجّون، وقيل: يسكتون، لا يسئل بعضهم بعضا، مجاهد: لا يَتَساءَلُونَ بالأنساب كما كانوا يفعلون في الدنيا، نظيره قوله سبحانه: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ «2» . فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ وهذا جواب لقول الوليد بن المغيرة: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «3» أخبر الله سبحانه أنّه لا يبعث «4» الرسل باختيارهم. وهذا من الجواب المفصول، وللقراء في هذه الآية طريقان: أحدهما: أن يمرّ على قوله: وَيَخْتارُ، ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ويجعل (ما) إثباتا بمعنى الذي، أي ويختار لهم ما هو الأصلح والخير.
والثاني: أن يقف على قوله: وَيَخْتارُ ويجعل ما نفيا أي ليس إليهم الاختيار، وهذا القول أصوب وأعجب إليّ كقوله سبحانه: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ «1» ، وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، قال: أنشدني أبو جعفر محمد بن صالح، قال: أنشدنا حماد بن علي «2» البكراوي لمحمود بن الحسن الوراق: توكل على الرحمن في كلّ حاجة ... أردت فإنّ الله يقضي ويقدر «3» إذا ما يرد ذو العرش أمرا بعبده ... يصبه وما للعبد ما يتخيّر وقد يهلك الإنسان من وجه؟؟؟؟ حذره ... وينجو بحمد الله من حيث يحذر وأنشدني الحسين بن محمد، قال: أنشدني أبو الفوارس حنيف بن أحمد بن حنيف الطبري: العبد ذو ضجر والربّ ذو قدر ... والدهر ذو دول والرزق مقسوم والخير أجمع فيما اختار خالقنا ... وفي اختيار سواه اللؤم والشوم «4» روى سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلّم، قال: «إنّ الله عز وجل اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار من أصحابي أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي «رضوان الله عليهم أجمعين» فجعلهم خير أصحابي، وفي كلّ أصحابي خير، واختار أمتي على سائر الأمم، واختار لي من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي: القرون الأول والثاني والثالث تترى والرابع فردي» [135] «5» . أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا جعفر بن أحمد الواسطي، قال: حدّثنا محمد بن عبيد قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب السلمي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه في قوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ قال: اختار من الغنم الضأن ومن الطير الحمام. سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ. وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ دائما لا نهار «6» معه.
[سورة القصص (28) : الآيات 76 إلى 88]
مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا ليل فيه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ. وَنَزَعْنا وأخرجنا وأحضرنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ يعني التوحيد والصدق والحجة البالغة وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ. [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 88] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان ابن عمه لأنّه قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران بن فاهث، هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن إسحاق: تزوّج يصهر ابن فاهث شميت بنت تباويت بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر، فنكح [عمران] نجيب بنت سمويا «1» بن بركيا بن رمنان «2» بن بركيا فولدت له هارون
ابن عمران وموسى بن عمران (عليهم السلام) ، فموسى على قول ابن إسحاق: ابن اخي قارون وقارون عمه لأبيه وأمه، قال قتادة: وكان يسمّى المنوّر لحسن صورته ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري. فَبَغى عَلَيْهِمْ أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد، قال: حدّثنا الحسن بن علوية، قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، عن المسيّب إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ قال: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم، قال ابن عباس: كان فرعون قد ملّكه على بني إسرائيل حين كان بمصر، سعيد، عن قتادة: فَبَغى عَلَيْهِمْ بكثرة ماله وولده، سفيان «1» عنه: بالكبر والبذخ، عطاء الخراساني وشهر بن حوشب: زاد عليهم في الثياب شبرا وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ وهي جمع المفتح، وهو الذي يفتح به الباب لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ أي لتثقل بهم إذا حملوها لثقلها، يقال: ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل، قال الشاعر: تنوء بأخراها فلأيا قيامها ... وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر «2» «3» واختلفوا في مبلغ عدد العصبة في هذا الموضع، فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، أبو صالح: أربعون رجلا، عكرمة منهم من يقول: أربعون، ومنهم من يقول: سبعون، الضحّاك عن ابن عباس: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: ستون. روى جرير، عن منصور، عن خيثمة، قال: وجدت في الإنجيل أنّ مفاتيح خزائن قارون توقر ستين بغلا غرّاء محجّلة، ما يزيد منها مفتاح على إصبع، لكل مفتاح منها كنز «4» ، مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل، ويقال: كان قارون [أينما] ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه، وكانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلت من خشب، فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا. وقال بعضهم: أراد بالمفاتيح الحرّاس «5» وإليه ذهب أبو صالح. وروى حصين، عن أبي زرين قال: لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافيا إنّما يعني كنوزه، فإن قيل: فما وجه قوله: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ «6» وإنّما العصبة هي التي تنوء بها، قيل فيه قولان: أحدهما
يميل بهم ويثقلهم حملها، والآخر قال أهل البصرة: قد يفعل العرب هذا، تقول للمرأة: إنّها لتنوء بها عجيزتها، وإنّما هي تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله، وقال الشاعر: فديت بنفسه نفسي ومالي ... وما آلوك إلّا ما أطيق «1» والمعنى فديت بنفسي ومالي نفسه، وقال آخر: وتركب خيلا لا هوادة بينها ... وتشقي الرماح بالضياطرة الحمر «2» وإنّما يشقي الضياطرة بالرماح، والخيل هاهنا: الرجال. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ من بني إسرائيل لا تَفْرَحْ لا تأشر ولا تمرح، ومنه قول الله سبحانه: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ «3» ، وقال الشاعر: ولست بمفراح إذا الدهر سرّني ... ولا جازع من صرفه المتحول «4» أراد: لست بأشر لأن السرور غير مكروه ولا مذموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ الأشرين البطرين المتكبرين الذين لا يشكرون الله سبحانه على ما أعطاهم. أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا منصور بن جعفر النهاوندي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى النهاوندي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن الجارود، قال: حدّثنا محمد بن عمرو بن حيان عن نفته «5» قال: حدّثنا مبشر بن عبد الله في قول الله سبحانه وتعالى: لا تَفْرَحْ قال: لا تفسد إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ المفسدين، وقال الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أفرحتك الودائع «6» يعني أفسدتك. وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا قال مجاهد وابن زيد: لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك حتى تنجو من عذاب الله، وهي رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وقال علي «رضي الله عنه» : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة ، وقال الحسن: ولا تنس أن تطلب فيها كفايتك وغناك مما أحل الله لك منها. وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد، قال: حدّثنا أحمد بن علي
الحران «1» ، قال: حدّثنا سعيد بن سلمة، قال: حدّثنا خلف بن خليفة، عن منصور بن زادان في قوله: وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا قال: قوتك وقوة أهلك. وقيل: هو الكفن لأنّه حظه من الدنيا عند خروجه منها. وَأَحْسِنْ إلى الناس كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ ولا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ قارون إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ على فضل علم عِنْدِي علمنيه الله، ورآني لذلك أهلا، ففضلني بهذا المال عليكم لفضلي عليكم بالعلم وغيره، وقيل: هو علم الكيمياء، قال سعيد بن المسيب: كان موسى (عليه السلام) يعلم الكيمياء، فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم، وعلّم كالب بن نوفيا «2» ثلثه، وعلم قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، وفي خبر آخر أنّ الله سبحانه وتعالى علّم موسى علم الكيمياء، فعلّم موسى أخته، فعلّمت أخته قارون، فكان ذلك سبب أقواله، وقيل: على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب، وقيل: في سبب جمعه تلك الأموال، ما أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد قال: حدّثنا محمد بن موسى الحلواني قال: حدّثنا خزيمة بن أحمد، قال: حدّثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: سمعت أبا سلمان الداراني يقول: يبدي إبليس لقارون وكان قارون قد أقام في جبل أربعين سنة يتعبد حتى إذا غلب بني إسرائيل في العبادة بعث إليه إبليس شياطينه، فلم يقدروا عليه، فتبدى هو له وجعل يتعبد، وجعل قارون وجعل إبليس يقهره بالعبادة ويفوقه، فخضع له قارون، فقال له إبليس: يا قارون قد رضينا بهذا الذي نحن فيه، لا تشهد لبني إسرائيل جماعة، ولا تعود مريضا، ولا تشهد جنازة، قال: فحذره من الجبل إلى البيعة، فكانوا يؤتون بالطعام، فقال إبليس: يا قارون قد رضينا الآن أن يكون هكذا كلا على بني إسرائيل، فقال له قارون: فأي شيء الرأي عندك؟ قال: نكسب يوم الجمعة ونتعبد بقية الجمعة، قال: فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقية الجمعة. فقال: إبليس لقارون: قد رضينا أن يكون هكذي. فقال له قارون: فأي شيء الرأي عندك، قال: نكسب يوما ونتعبد يوما ونتصدق ونعطي، قال: فلمّا كسبوا يوما وتعبدوا يوما خنس إبليس وتركه، ففتحت على قارون الدنيا، فبلغ ماله، ما أخبرنا ابن فنجويه، قال: أخبرنا موسى، قال: حدّثنا الحسن ابن علويه، قال: حدّثنا إسماعيل بن موسى، عن المسيب بن شريك ما إِنَّ مَفاتِحَهُ قال: أوعيته وكانت أربعمائة ألف ألف في أربعين جرابا. قال الله سبحانه: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ الكافرة
مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ قال قتادة: يدخلون النار بغير حساب، مجاهد: يعني: إنّ الملائكة لا تسأل عنهم لأنّهم يعرفونهم بسيمائهم، الحسن: لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ليعلم ذلك من قبلهم فأن سئلوا سؤال تقريع وتوبيخ. فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال جابر «1» بن عبد الله: في القرمز، النخعي والحسن: في ثياب حمراء، مجاهد: على براذين بيض عليها سروج الأرجوان، عليهم المعصفرات، قتادة: على أربعة ألف دابة عليهم وعلى دوابهم [الأرجوان] ، ابن زيد: في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، قال: وكان ذلك أول يوم رؤيت المعصفرات فيما كان يذكر لنا، مقاتل: على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعلى دوابهم الأرجوان، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحليّ والثياب الحمر على البغال الشهب. قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من المال وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها ولا يلقن ويوفق لهذه الكلمة إِلَّا الصَّابِرُونَ على طاعة الله وعن زينة الدنيا. فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ قال العلماء بأخبار القدماء: كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون، وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم ولكنه نافق السامري فبغى على قومه، واختلف في معنى هذا البغي، فقال ابن عباس: كان فرعون قد ملك قارون على بني إسرائيل حين كان بمصر، وعن المسيب بن شريك: أنه كان عاملا على بني إسرائيل وكان يظلمهم، وقيل: زاد عليهم في الثياب شبرا، وقيل: بغى عليهم بالكبر، وقيل: بكثرة ماله، وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم. واختلف في مبلغ عدة العصبة في هذا الموضع فقال مجاهد: ما بين العشرة إلى خمسة عشر، وقال قتادة: ما بين العشرة إلى أربعين، وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون ومنهم من يقول سبعون، وقال الضحاك: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: هم ستون. وروي عن خثيمة قال: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز، ويقال: كان أينما يذهب تحمل معه وكانت من حديد، فلمّا ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع، فكانت تحمل معه على أربعين بغلا، وكان أول طغيانه أنه تكبر واستطال على الناس بكثرة الأموال فكان يخرج في زينته ويختال كما قال تعالى فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ. قال مجاهد: خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليهم المعصفرات. وقال عبد الرحمن: خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، وقال مقاتل: على بغلة
شهباء عليها سرج من الذهب عليها الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثة آلاف جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب، فتمنى أهل الجهالة مثل الذي أوتيه كما حكى الله فوعظهم أهل العلم بالله أن اتقوا الله فإن ثواب الله (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) . قال: ثم إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر لونه لون السماء، فدعا موسى بني إسرائيل وقال لهم: إن الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطا خضرا كلون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها، وإنه تعالى ينزل من السماء كلامه عليكم، فاستكبر قارون وقال: إنما تفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا من غيرهم. ولما قطع موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة وهي رئاسة المذبح وبيت القربان لهارون فكان بنو إسرائيل يأتون بهديتهم ويدفعونه إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله، فوجد قارون في نفسه من ذلك وأتى موسى وقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك، وأنا أقرأ للتوراة منكما لا صبر لي على هذا، فقال موسى: والله ما أنا جعلتها في هارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون: والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني بيانه، قال: فجمع موسى (عليه السلام) رؤساء بني إسرائيل وقال: هاتوا عصيكم، فجاءوا بها فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله تعالى فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا، فأصبحت عصا هارون (عليه السلام) قد اهتز لها ورق أخضر، وكانت من ورق شجر اللوز، فقال موسى: يا قارون ترى هذا؟ فقال قارون: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر. فذهب قارون مغاضبا واعتزل موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما، وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد كل يوم إلا كبرا ومخالفة ومعاداة لموسى (عليه السلام) حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه. قال ابن عباس: ثم إن الله سبحانه وتعالى أنزل الزكاة على موسى (عليه السلام) فلمّا أوجب الله سبحانه الزكاة عليهم أبى قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، وعن كل ألف شاة على شاة، وعن كل ألف شيء شيئا، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم: يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلا على أن تقذفه
بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه، فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم وقيل: ألف دينار، وقيل: طستا من ذهب، وقيل: حكمها، وقال لها: إني أموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل، فلمّا أن كان الغد جمع قارون بني إسرائيل، ثم أتى موسى فقال له: إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبين لهم أعلام دينهم وأحكام شريعتهم فخرج إليهم موسى وهم في براح من الأرض فقام فيهم خطيبا ووعظهم [فكان] فيما قال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت، فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال قارون: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال: أنا، قال: نعم، قال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت، فلمّا أن جاءت قال لها موسى: يا فلانة إنما أنا فعلت لك ما يقول هؤلاء، وعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت، فلمّا ناشدها تداركها الله بالتوفيق وقالت في نفسها: لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله، فقالت: لا كذبوا، ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فلمّا تكلمت بهذا الكلام سقط في يده قارون ونكس رأسه وسكت الملأ وعرف أنه وقع في مهلكة وخرّ] «1» موسى ساجدا يبكي ويقول: اللهم إن كنت رسولك، فاغضب لي، فأوحى الله سبحانه إليه: مر الأرض بما شئت، فإنها مطيعة لك، فقال موسى: يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليثبت مكانه، ومن كان معي فليعتزل، فاعتزل قارون ولم يبق معه إلّا رجلان، ثم قال موسى: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه عليه. ثم قال: يا أرض خذيهم، فانطبقت عليهم الأرض، وأوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى ما أفظك. استغاثوا بك سبعين مرة فلم ترحمهم ولم تغثهم، أما وعزتي لو إياي دعوا لوجدوني قريبا مجيبا. قال قتادة: وذكر [لنا] أنّه يخسف به كلّ يوم قامة وأنّه يتخلخل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة، قالوا: وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أنّ [موسى] إنّما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله، فدعا الله موسى حتى يخسف بداره وأمواله الأرض. وأوحى الله سبحانه إلى موسى: إنّي لا أعبّد الأرض لأحد بعدك أبدا، فذلك قوله تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ، فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ
الممتنعين وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ العرب تعبّر بأضحى وأمسى وأصبح عن الصيرورة والفعل، فتقول: أصبح فلان عاملا وأمسى حزينا وأضحى معدما، إذا صاروا بهذه الأحوال وليس ثمّ من الصبح والمساء والضحى شيء. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ اختلف العلماء في هذه اللفظة، فقال مجاهد: معناه: ألم تعلم؟ قتادة: ألم تر؟، الفرّاء: هي كلمة تقرير كقول الرجل: أما ترى إلى صنع الله وإحسانه؟ وذكر أنّه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنّه وراء البيت، يعني أما ترينه وراء البيت؟ ابن عباس والحسن: هي كلمة ابتداء وتحقيق، تقديره إنّ الله يبسط الرزق المؤرّخ: هو تعجّب، قطرب: إنّما هو ويلك فأسقط منه اللام، قال عنترة: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قول الفوارس ويك عنتر أقدم «1» وقيل: هو تنبيه بمنزلة ألا وأما. قال بعض الشعراء: ويكأن من يكن له نشب ... يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ «2» وقال القتيبي: معناه رحمة بلغة حمير، وقال سيبويه: سألت الخليل عنه، فقال: وي كلمة تنبيه منفصلة من كأن فكأن في معنى الطب والعلم. يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يقتّر لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا قرأ يعقوب وبعض أهل الشام والكوفة بفتح الخاء والسين، وقراءة العامة بضم الخاء وكسر السين، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ تكبرا وتجبرا فيها، وَلا فَساداً عملا بالمعاصي عن ابن جريج ومقاتل وعكرمة ومسلم البطين «3» : الفساد: أخذ المال بغير حق، الكلبي: الدعاء إلى غير عبادة الله. وَالْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ قال قتادة: الجنة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أنزله عن أكثر المفسرين، وقال عطاء بن أبي رباح: فرض عليك العمل بالقرآن لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال [الضحاك و] مجاهد: إلى مكة، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، قال [ابن قتيبة] «4» : معاد الرجل: بلده لأنّه ينصرف ثم يعود إلى بلده. قال مقاتل: خرج النبي (عليه السلام) من الغار ليلا ثم هاجر من وجهه إلى المدينة، فسار
في غير الطريق مخافة الطلب، فلمّا أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد آبائه، فأتاه جبريل (عليه السلام) ، فقال: أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال: «نعم» [136] «1» ، قال: فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ إلى مكة ظاهرا عليها. قال مقاتل: قال الضحاك: قال ابن عباس: إنّما نزلت بالجحفة ليس بمكة ولا المدينة، وروي جابر عن أبي جعفر، قال: انطلقت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري، فسأله عن هذه الآية: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ، قال: إلى الموت. وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال الحسن والزهري وعكرمة: إلى يوم القيامة، وقال أبو مالك وأبو صالح: إلى الجنة. أخبرنا عبد الخالق بن علي، قال: أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: حدّثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا عمار «2» بن كثير، قال: أخبرنا فضيلة «3» ، عن ليث، عن مجاهد في قوله: لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قال: إلى الجنة. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال بعض أهل المعاني: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ. فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ. وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وهذا «4» حين دعا إلى دين آبائه وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعني إلّا هو، عن مجاهد، الصادق: دينه ، أبو العالية: إلّا ما أريد به وجهه. أخبرنا ابن «5» شاذان، قال: أخبرنا جيعويه، قال: حدّثنا صالح بن محمد، عن جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن شهر بن حوشب، عن عبادة بن الصامت، قال: يجاء بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا ما كان لله منها، قال: فيماز ما كان لله منها، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار. وبه عن صالح، عن سليمان بن عمرو، عن سالم الأفطس، عن الحسن وسعيد بن جبير،
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ رجلا سأله، فلم يعطه شيئا، فقال: أسألك بوجه الله، فقال له علي: كذبت، ليس بوجه الله سألتني، إنّما وجه الله الحق، ألا ترى قوله سبحانه وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعني الحق؟ ولكن سألتني بوجهك الخالق «1» كلّ شيء هالك إلّا الله والجنة والنار والعرش [137] . ابن كيسان: إلّا ملكه. لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
سورة العنكبوت
سورة العنكبوت مكية، وهي أربعة ألف ومائة وخمسة وتسعون حرفا، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وتسع وستون آية أخبرنا الخباري «1» قال: أخبرنا ابن حيان، قال: أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال: حدثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدثنا يوسف بن عطية قال: حدثنا هارون بن كثير قال: حدثنا زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ المؤمنين والمنافقين» [138] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) الم. أَحَسِبَ أظن وأصله من الحساب النَّاسُ يعني الذين جزعوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أذى المشركين أَنْ يُتْرَكُوا بغير اختبار ولا ابتلاء بأن قالوا: آمَنَّا كلا لنختبرنهم لنتبين الصادق من الكاذب، (إن) الأولى منصوبة ب أَحَسِبَ والثانية خفض بنزع الخافض، أي لأن يقولوا، والعرب لا تقول: تركت فلانا أن يذهب، إنّما تقول: تركته يذهب،
معه جوابان: أحدهما يشتركوا لأن يقولوا «1» ، والثاني: على التكرير تقديره: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أحسبوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ لا يبتلون ليظهر المخلص من المنافق، وقيل: يُفْتَنُونَ يصابون بشدائد الدنيا، يعني: أنّ البلاء لا يدفع عنهم في الدنيا لقولهم: آمَنَّا. واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن جريج وابن عمير: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذّب في الله. وقال الشعبي: نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة إنّه لا يقبل منكم إقرار بإسلام حتى تهاجروا، فخرجوا عائدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم إنّه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتبعنا أحد قاتلناه. فخرجوا، فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله سبحانه فيهم هاتين الآيتين، وقال مقاتل: نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يومئذ سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» [139] «2» ، فجزع عليه أبواه وامرأته، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية وأخبر أنّه لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله تعالى، وقيل: وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ بالأوامر والنواهي. ثم عزّاهم، فقال عز من قائل: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ والله تعالى عالم بهم قبل الاختبار، وعلمه قديم تام، وإنّما معنى ذلك: فليظهرنّ الله تعالى ذلك حتّى يوجد معلومة. قال مقاتل: فليرين الله، الأخفش: فليميزنّ الله. وقال القتيبي: علم الله سبحانه نوعان: أحدهما: علم شيء كان يعلم إنّه كان، والثاني: علم شيء يكون، فعلم إنّه يكون وقت كذا ولا يعلمه كائنا واقعا إلّا بعد كونه ووقوعه، بيانه قوله سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ «3» أي نعلم المجاهدين منكم مجاهدين ونعلم الصابرين صابرين، فكذلك هاهنا فليعلمنّ الله ذاك موجودا كائنا وهذا سبيل علم الله في الاستقبال. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الشرك «4» أَنْ يَسْبِقُونا يعجزونا ويقولوا ما بأنفسهم
فلا يقدر على الانتقام منهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء حكمهم الذي يحكمون مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قال ابن عباس ومقاتل: من كان يخشى البعث. سعيد بن جبير: من كان يطمع في ثواب الله فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب الكائن وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ له ثوابه. إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً اختلف النحاة في وجه نصب الحسن، فقال أهل البصرة: على التكرير تقديره ووصيناه حسنا أي بالحسن، كما يقول: وصيته خيرا، أي بخير، وقال أهل الكوفة: معناه ووصينا الإنسان أن يفعل حسنا، فحذفه لدلالة الكلام عليه كقول الراجز: عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا خيرا بها كأنّنا جافونا أي يوصينا أن نفعل بها خيرا، وهو مثل قوله: فَطَفِقَ مَسْحاً «1» أي يمسح مسحا. وقيل معناه: وألزمناه حسنا، وقرأ العامة حُسْناً بضم الحاء وجزم السين، وقرأ أبو رجاء العطاردي بفتح الحاء والسين. وفي مصحف أبي إحسانا نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري. واسم أبي وقاص: مالك بن وهبان، وذلك إنّه لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف: يا سعد بلغني إنّك صبوت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه، وكان أحب ولدها إليها، فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل، فأتى سعد النبي (عليه السلام) وشكا ذلك إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف، فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنّه لي شريك فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. أخبرنا عبد الله بن حامد- قراءة- قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا نمير بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله من أبرّ؟ قال: «أمّك» ، قلت: ثم من؟ قال: «أمّك» ، قلت: ثم من؟ قال: «ثم أمّك» ، قلت: ثم من؟ قال: «ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب» [140] «2» .
وأخبرنا عبد الله «1» - إجازة- قال: أخبرنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي قال: حدثنا منصور بن مهاجر قال: حدثنا أبو النصر الأبار، عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الجنة تحت أقدام الأمهات» [141] «2» . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرتهم وجملتهم، وقال محمد بن جرير: أي في مدخل الصالحين «3» وهو الجنة، وقيل: في بمعنى مع، والصالحون هم الأولياء والأنبياء. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ أي أذاهم وعدائهم كَعَذابِ اللَّهِ في الآخرة فارتد عن إيمانه وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ هؤلاء المرتدون إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وهم كاذبون أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أي ليميّزنهم ويظهر أمرهم بالابتلاء والاختبار والفتن والمحن. واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية: فقال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا. الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك. عكرمة عن ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر، فارتدوا وهم الذين نزلت فيهم إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ «4» ... الآية، وقد مضت القصة. قتادة: نزلت هذه الآية في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة. وهذه الآيات العشر مدنية إلى هاهنا، وسائرها مكي، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في العياش بن أبي ربيعة بن مغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، وذلك إنّه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي (عليه السلام) ، فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة ابن أبي جندل بن نهشل التميمي أن لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل لها رأسا ولا تدخل بيتا حتى يرجع إليها، فلما رأى ابناها- أبو جهل والحارث ابنا هشام وهما أخوا عيّاش لأمّه- جزعها وحلفها رهبا في ظلمة حتى أتيا المدينة فلقياه، فقال أبو جهل لأخيه عياش بن أبي ربيعة: قد علمت أنّك أحبّ إلى أمّك من جميع ولدها وكنت بها بارا، وقد حلفت أمك إنّها لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتا حتى ترجع إليها، وأنت تزعم أنّ في دينك بر الوالدين، فارجع إليها فإنّ ربّك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها، فلم يزالا به حتى أخذ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 إلى 21]
عليهما المواثيق لا يحركاه ولا يصرفاه عن دينه، فأعطياه ما سأل من المواثيق فتبعهما، وقد صبرت أمه ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت، قالا: فلما خرجوا من أهل المدينة أخذاه فأوثقاه وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمّد (رحمهما الله) جزعا من الضرب وقال ما لا ينبغي، فأنزل الله سبحانه فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ ... الآية. قالا: وكان الحارث «1» أشدهما عليه وأسوأهما قولا، فحلف عياش بالله لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربنّ عنقه، فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حينا ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون إلى المدينة، فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه. ثم إنّ الله تعالى قذف الإيمان في قلب الحارث «2» بن هشام، فهاجر إلى المدينة وبايع النبي (عليه السلام) على الإسلام ولم يحضر عياش، فلقيه عياش يوما بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه، فضرب عنقه، فقيل له: إنّ الرجل قد أسلم، فاسترجع عياش وبكى، ثم أتى النبي (عليه السلام) وأخبره بذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ... الآية. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 21] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أوزاركم، قال الفراء: لفظة أمر ومعناه: جزاء، مجازه إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله سبحانه: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ وقوله سبحانه: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ لفظة نهي وتأويله جزاء. وقال الشاعر:
فقلت ادعي وادع فإنّ أندى ... لصوت أن ينادي داعيان «1» يريد إن دعوت دعوت. فأكذبهم الله تعالى، فقال: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أوزار أنفسهم وأثقال من أضلوا وصدوا عن سبيل الله وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ نظيرها لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «2» الآية. روي عوف، عن الحسن أنّ النبي (عليه السلام) قال: «أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة، فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» [142] «3» ثم قرأ الحسن وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن عبد الرحمن بن هلال العنسي «4» ، عن جرير قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحثّنا على الصدقة، فأبطأ الناس حتى رئي وجهه الغضب، ثم إنّ رجلا من الأنصار قام فجاء بصرّة وأعطاها، فتتابع الناس، فأعطوا حتى رئي «5» في وجهه السرور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ سنة سيّئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» [143] «6» . وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ. قال ابن عباس: بعث نوح (عليه السلام) لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ. وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً. ويقولون كذبا، وقال مجاهد: وتصنعون أصناما بأيديكم فتسمونها آلهة، نظيره قوله
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 22 إلى 27]
سبحانه: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ «1» ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً على المبالغة والكثرة. إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ فاهلكوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أَوَلَمْ يَرَوْا بالتاء كوفي غيرهم بالياء كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الله، الْخَلْقَ يعني فانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ولم يتعذر عليه مبدئا فكذلك لا يتعذر عليه إنشائها معيدا. ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ أي يبدأ البدأة الْآخِرَةَ بعد الموت. وفيها لغتان: نشأة بالمد وهي قراءة ابن كثير والحسن وأبو عمر وحبيب كانت، ونشأة بالقصر وتسكين السين وهي قراءة الناس «2» ونظيرها الرأفة «3» ، والرأفة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تردون. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 22 الى 27] وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ اختلف أهل المعاني في وجهها، فقال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجز، وهو من غامض العربية الضمير الذي لم يظهر في الثاني. كقول حسان بن ثابت: فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء «4» أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر من وإلى هذا التأويل ذهب عبد الرحمن بن زيد قال: لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوا.
وقال قطرب: ولا في السماء لو كنتم فيها، كقولك: ما يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا في بلدي، وهو معك في البلد أي ولا بالبصرة لو صار إليها. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فأعرض سبحانه بهذه الآيات تذكيرا وتحذيرا لأهل مكة، ثم عاد إلى قصة إبراهيم، فقال عز من قائل: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قرأ العامة بنصب الباء على خبر كان وإن قالوا: في محل الرفع على اسم كان، وقرأ سالم الأفطس جواب رفعا على اسم كان، وإن موضعه نصب على خبره إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وجعلها عليه بردا وسلاما، قال كعب: ما حرقت منه إلّا وثاقه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وَقالَ يعني إبراهيم (عليه السلام) لقومه: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ اختلف القرّاء فيها، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب مودةُ رفعا بَيْنِكُمْ خفضا بالإضافة، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على معنى: أنّ الذين اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً هي مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لم تنقطع ولا تنفع في الآخرة كقوله: [لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ثم قال: بَلاغٌ] «1» أي هذا بلاغ، وقوله سبحانه: [لا يُفْلِحُونَ ثم قال: مَتاعٌ] «2» أي هو متاع، فكذلك أضمروا هاهنا هي ويجوز أن تكون خبر إن. وقرأ عاصم في بعض الروايات مودةُ مرفوعة منونة بينَكم نصبا وهو راجع إلى معنى القراءة الأولى، وقرأ حمزة مَوَدَّةَ بالنصب بَيْنِكُمْ بالخفض على الإضافة بوقوع الاتحاد عليها وجعل إنّما حرفا واحدا وهي رواية حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون: مودةَ نصبا منونة بينَكم بالنصب وهي راجعة إلى قراءة حمزة ومعنى الآية أنكم اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا. مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا تتوادون وتتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها. ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وتتبرأ الأوثان من عابديها وَمَأْواكُمُ جميعا العابدون والمعبودون النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وهو أول من صدق إبراهيم (عليه السلام) حين رأى أنّ النار لم تضرّه. وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي فهاجر من كوتي- من سواد الكوفة- إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة، وهو أول من هاجر، قال مقاتل: هاجر إبراهيم (عليه السلام) وهو ابن خمس وسبعين سنة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 إلى 35]
إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَلُوطاً فأذكر لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ مجلسكم الْمُنْكَرَ. حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، قال: حدثنا جدي لأمّي أبو الحسن المحمودي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: أنّ بشر بن معاذ العمقدي حدثهم قال: حدثنا يزيد بن زريع «1» قال: حدثنا حاتم بن أبي صغيرة، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا عمير بن مرداس الدونقي، قال: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، قال: حدثنا يحيى بن أبي الحجاج أبو أيوب البصري قال: حدثنا أبو يونس حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن أبي مولى أم هانئ، عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قوله سبحانه: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتون؟ قال: «كانوا يخذفون أهل الطرق ويسخرون بهم» [144] «2» . وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا موسى بن محمد، قال: حدثنا الحسن بن علوية، قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدثنا المسيب، قال: سمعت زياد بن أبي زياد يحدّث عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كلّ رجل منهم قصعة فيها حصى، فإذا مر بهم عابر سبيل قذفوه، فأيهم أصابه كان أولى به» [145] «3» وذلك قول الله سبحانه: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم
والخذف فإنّه لا ينكأ العدو ولا يصيب الصيد، ولكن يفقأ العين ويكسر السن» [146] «1» . وأخبرنا الحسين قال: أخبرنا أبو علي بن حنيش المقري قال: حدثني أبو جعفر محمد بن جعفر المقري، قال: حدثنا إبراهيم بن الحسين الكسائي، قال: حدثنا هارون بن حاتم، قال: أخبرنا أبو بكر بن أوس المدني، عن أبيه، عن يزيد بن بكر بن دأب، عن القاسم بن محمد وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال: الضراط، كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضا في مجالسهم. أخبرنا أبو جعفر الخلفاني قال: حدثنا أبو العباس التباني «2» قال: حدثنا أبو لبيد «3» السرخسي، قال: حدثنا الحسن بن عمر بن شفيق، قال: حدثنا سليمان بن ظريف عن مكحول، قال: عشرة في هذه الأمة من أخلاق قوم لوط: مضغ العلك، وتطويق الأصابع بالحناء، وحل الإزار، وتنقيص الأصابع والعمامة التي يلف بها على الرأس، والسلينية «4» ، ورمي الجلاهق، والصفير، والخذف، واللوطية. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إنّه نازل بنا وذلك إنّه أوعدهم العذاب، قالَ لوط رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ. وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى من الله سبحانه إسحاق ويعقوب: قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني قوم لوط إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إبراهيم للرسل: إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً وحسب إنّهم من الإنس سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ. إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً عذابا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً عبرة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهي الخبر عما صنع بهم، وقال ابن عباس: هي آثار منازلهم الخرباء. أبو العالية وقتادة: هي الحجارة التي ألقاها الله. مجاهد: الماء الأسود على وجه الأرض.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 إلى 40]
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني ابن شنبه قال: حدثنا أبو حامد المستملي قال: حدثنا محمد بن حاتم الرمني قال: حدثنا محمد بن سلامة «1» الجمحي قال: قال يوسف «2» النحوي: وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ يعني اخشوا وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ. وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ في الضلالة، قال مجاهد وقتادة: مُسْتَبْصِرِينَ في ضلالهم معجبين بها. الفراء: عقلاء ذوي بصائر. ضحاك ومقاتل والكلبي: حسبوا إنّهم على الهدى والحق وهم على الباطل. وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فائتين من عذابنا فَكُلًّا أَخَذْنا عاقبنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ريحا تأتي في الحصباء، وهي الحصى الصغار، وهم قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعني ثمودا. وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ قارون وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا فرعون وقومه وقوم نوح. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني: الأصنام يرجون نصرها ونفعها عند حاجتهم إليها كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها كيما يكنّها فلم يغن عنها بناؤها شيئا عند حاجتها إياه، فكما أنّ بيت العنكبوت لا يدفع عنها بردا ولا حرا كذلك هذه الأوثان لا تملك لعابديها نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا.
وَإِنَّ أَوْهَنَ أضعف الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قال النحاة: العنكبوت مؤنثة التاء التي فيها، وقد يذكّرها بعض العرب، أنشد الفراء: على هطالهم منهم «1» بيوت ... كأنّ العنكبوت هو ابتناها «2» وزنته فعللون. أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا أبو حامد المستملي، قال: حدثنا محمد بن عمران الضبي، قال: حدثني محمد بن سليمان المكي، قال: حدّثني عبد الله بن ميمون القداح، قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي يقول: قال علي بن أبي طالب: طهّروا بيوتكم من نسيج العنكبوت، فإنّ تركه في البيوت يورث الفقر ، قال: سمعت عليا يقول: منع الخميرة يورث الفقر. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ بالياء أهل البصرة واختاره أبو عبيد قال: لذكر الأمم قبلها. واختلف فيها عن عاصم، غيرهم بالتاء. مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الأشياء والأوصاف، والمثل: قول سائر يشبّه حال الثاني بالأول نَضْرِبُها يبيّنها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ. أخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن مندة «3» قال: حدثنا الحارث «4» بن أبي أسامة قال: حدثنا داود بن المخبر قال: حدثنا عباد بن كثير، عن أبي جريج «5» ، عن عطاء وأبي الزبير، عن جابر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ فقال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه» [147] «6» . خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ. اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قال ابن عمر: تغني. الفراء: أن تنهي عن الفحشاء والمنكر ودليل هذا التأويل قوله: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك. وقال آخرون: هي الصلاة التي فيها الركوع والسجود. قال ابن مسعود وابن عباس: يقول: في الصلاة: منتهى ومزدجر عن معاصي الله سبحانه وتعالى، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلّا بعدا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وإطاعة الصلاة أن تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» [148] «1» . وروى أبو سفيان عن جابر قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وسلّم) : إنّ فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل، فقال: «إنّ صلاته لتردعه» [149] «2» . وقال أنس بن مالك: كان فتى من الأنصار يصلي الصلاة «3» مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه، فوصف لرسول الله (عليه السلام) حاله، فقال: «إنّ صلاته تنهاه يوما ما» «4» ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألم أقل لكم إنّ صلاته تنهاه يوما ما» [150] . وقال ابن عون: معناه أنّ الصلاة تنهى صاحبها عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ مادام فيها، وقال أهل المعاني: ينبغي أن تنهاه صلاته كقوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «5» . وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ اختلفوا في تأويله، فقال قوم: معناه وَلَذِكْرُ اللَّهِ إياكم أفضل من ذكركم إياه، وهو قول عبد الله وسلمان ومجاهد وعطية وعكرمة وسعيد بن جبير، ورواية عبد الله بن ربيعة عن ابن عباس، وقد روى ذلك مرفوعا: أخبرناه الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني، قال: حدثني أحمد بن علي بن الحسين، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود البزكي، قال: حدثنا الحسين اللهبني، قال: حدثنا صالح بن عبد الله بن أبي فروة، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمّه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال في قول الله سبحانه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال: «ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه» «6» [151] . قالت الحكماء: لأنّ ذكر الله سبحانه للعبد على حدّ الاستغناء، وذكر العبد إياه على حدّ الافتقار، ولأنّ ذكره دائم، وذكر العبد مؤقت، ولأنّ ذكر العبد بحد رفع أو دفع ضر، وذكر الله سبحانه إياه للفضل والكرم. وقال ذو النون: لأنّك ذكرته بعد أن ذكرك، وقال ابن عطاء: لأنّ ذكره لك بلا علة، وذكرك مشوب بالعلل. أبو بكر الوراق: لأنّ ذكره تعالى للعبد أطلق لسانه بذكره له، ولأنّ ذكر العبد مخلوق وذكره غير مخلوق. وقال أبو الدرداء وابن زيد وقتادة: معناه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ مما سواه وهو أفضل من كل شيء.
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن محمد «1» الثقفي الحافظ قال: حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، قال: حدثنا عيسى بن يونس قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن جويبر عن الضحاك، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال: «ذكر الله على كل حال أحسن وأفضل، والذكر أن نذكره عند ما حرم، فندع ما حرم ونذكره عند ما أحل فنأخذ ما أحل» [152] . وأخبرني الحسين بن محمد «2» قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا جعفر بن محمد الفرباني قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا إسحاق بن سليمان الرازي قال: سمعت موسى بن عبيدة الزيدي يحدث أبي عبد الله القراظ، عن معاذ بن جبل قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم نسير بالدف من حمدان إذ استنبه، فقال «3» : «يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله، من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله سبحانه» [153] «4» . قال إسحاق بن سليمان: سمعت حريز بن عثمان يحدث «5» ، عن أبي بحرية، عن معاذ بن جبل، قال: ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله سبحانه، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: لا ولو ضرب بسيفه «6» ، قال الله سبحانه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. وأخبرني الحسين بن محمد، قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا جعفر بن محمد الفرباني، قال: حدثنا يحيى بن عمار المصيصي، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي غريب، عن كثير بن مرة الحضرمي، قال: سمعت أبا الدرداء يقول: ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم، وخير من أن تغزوا عدوكم فتضرب رقابكم وتضربون رقابهم، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم، قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال: ذكر الله، قال الله سبحانه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. وقيل لسلمان: أي العمل أفضل؟ قال: أما تقرأ القرآن وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ لا شيء أفضل من ذكر الله سبحانه. وأنبأني عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا محمد بن يعقوب، قال: حدثنا حميد بن داود،
قال: حدثني يزيد بن خالد قال: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير ابن هبير «1» ، عن مالك بن عامر، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله «: أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال صلى الله عليه وسلّم: «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله» [154] «2» . وأنبأني عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا سلمة بن محمد ابن أحمد بن مجاشع الباهلي، قال: حدثنا خالد بن يزيد العمري، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلّا ذكر الله عز وجل وما والاه أو عالم أو متعلم» [155] «3» . قالت الحكماء: وإنّما «4» كان الذكر أفضل الأشياء لأنّ ثواب الذكر الذكر، قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ «5» ويؤيد هذا ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدثنا عبد الله بن هشام، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقترب إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» [156] «6» . وأخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا علي، قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأعز أبي مسلم، قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد إنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنّه قال: «ما جلس قوم يذكرون الله سبحانه إلّا حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم «7» فيمن عنده» [157] «8» . وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا الفرباني، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شنبه، قال: حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 إلى 55]
قال: ذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة. ابن عون: معناه: الصلاة التي أنت فيها وذكرك الله فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر، وقال ابن عطاء: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ من أن تبقى معه بالمعصية. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 55] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ الجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج فيه، وأصله شدة الفتل ومنه قيل للصقر: أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه، وقيل: الجدال من الجدالة وهو أن يروم كل واحد من الخصمين قهر صاحبه وصرعه على الجدالة وهي الأرض. إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ألطف وأرفق، وهو الجميل من القول والدعاء إلى الله والبينة على آيات الله وحججه. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال مجاهد: يعني إن قالوا شرا فقولوا خيرا إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب، فأولئك انتصروا منهم وجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يقرّوا بالجزية. قال سعيد بن جبير: هم أهل الحرب من لا عهد لهم فجادلوهم بالسيف. ابن زيد: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم. ومجاز الآية: إلّا الذين ظلموكم لأنّ جميعهم ظالم. وقال قتادة ومقاتل: هذه الآية منسوخة بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «1» ... الآية.
وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري: إنّ أبا نملة أخبره واسمه [عمّار] «1» إنّه بينما هو عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة. فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الله أعلم» ، فقال اليهودي: إنّها تتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوهم وإن كان حقا لم تكذبوهم» [158] «2» . وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ... الآية» [159] «3» . وروى سفيان ومسعود، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار قال: بينما رجل من أهل الكتاب يحدث أصحابه وهم يسبّحون كلما ذكر شيئا من أمرهم، قال: فأتوا رسول الله (عليه السلام) فأخبروه، فقال: «لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ولكن قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ «4» [160] . وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. وَكَذلِكَ أي وكما أنزلنا الكتاب عليهم. أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني مؤمني أهل الكتاب- عبد الله بن سلام وأصحابه. وَمِنْ «5» هؤُلاءِ الذين هم بين ظهرانيك اليوم من يؤمن به وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ قال قتادة: إنّما يكون الجحود بعد المعرفة. وَما كُنْتَ تَتْلُوا يا محمد مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل هذا الكتاب الذي أنزلنا عليك مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ تكتبه بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ يعني: لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب
قبل الوحي إذا لشك المبطلون- أي المشركون- من أهل مكة وقالوا: هذا شيء تعلّمه محمد وكتبه، قاله قتادة. وقال مقاتل: الْمُبْطِلُونَ هم اليهود، ومعنى الآية: إذا لشكّوا فيك واتهموك يا محمد، وقالوا: إنّ الذي نجد نعته في التوراة هو أمي لا يقرأ ولا يكتب. بَلْ هُوَ يعني القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ عن الحسن، وقال ابن عباس وقتادة: بل هو يعني محمد صلى الله عليه وسلّم والعلم بأنّه «1» أمي آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ «2» أهل العلم من أهل الكتاب يجدونها «3» في كتبهم. ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن السميقع بل هي آيات. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ. وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ كما أنزل على الأنبياء قبلك، قرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب وعاصم برواية أبي بكر آية على الواحد، الباقون آياتٌ بالجمع واختاره أبو عبيد لقوله: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ حتى إذا شاء أرسلها، وليست عندي ولا بيدي. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هذا جواب لقولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، وروى حجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة أنّ أناسا من المسلمين أتوا نبي الله (عليه السلام) بكتب قد كتبوها فيها بعض ما يقول اليهود فلما أن نظر فيها ألقاها ثم قال: «كفى بها حماقة قوم- أو ضلالة قوم- أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قوم غيرهم» «4» [161] ، فنزلت أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ... الآية. قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أني رسوله، وأن هذا القرآن كتابه. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ نزلت في النضر بن الحارث «5» حين قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ وقال: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا ... وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى في نزول العذاب، وقال ابن عباس: يعني ما وعدتك أن لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، بيانه قوله: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «6» ... الآية، وقال الضحاك: يعني مدة أعمارهم في الدنيا. وقيل: يوم بدر.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 إلى 69]
لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ يعني العذاب وقيل: الأجل بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ لا يبقى منهم أحد إلّا دخلها، وقيل: هو متصل بقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ يصيبهم الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني: إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنّم. وَيَقُولُ بالياء كوفي ونافع وأيوب، غيرهم بالنون ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 69] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بإرسال الياء عراقي غير عاصم، سائرهم بفتحها إِنَّ أَرْضِي مفتوحة الياء ابن عامر، غيره ساكنة واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ توحدون من غير طاعة مخلوق في معصيتي، قال سعيد بن جبير: إذا عمل في أرض بالمعاصي، فاهربوا «1» فإنّ أرضي واسعة «2» . مجاهد: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فهاجروا وجاهدوا، وقال مقاتل والكلبي: نزلت في المستضعفين المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن، يحثهم على الهجرة ويقول لهم: إنّ أرض المدينة واسعة آمنة. وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: أَرْضِي واسِعَةٌ أي رزقي لكم واسع، أخرج من الأرض ما يكون بها.
أخبرنا عبد الله بن حامد «1» ، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، قال: حدثنا جيغويه ابن محمد الترمذي، قال: حدثنا صالح بن محمد، عن سليمان، عن عباد بن منصور الناجي، عن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد (عليهما السلام) » «2» [162] . كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فلا تقيموا بدار المشركين. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي، قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء، غيرهم بالياء أي لينزلنّهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَكَأَيِّنْ وكم مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا وذلك إنّ رسول الله (عليه السلام) قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون: «أخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة فيها» [163] «3» . فقالوا: يا رسول الله كيف نخرج إلى المدينة ليس لنا بها دار ولا عقار ولا مال، فمن يطعمنا بها ويسقينا؟ فأنزل الله سبحانه: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ ذات حاجة إلى غذاء لا تحمل رزقا فيرفعه لغذائها يعني الطير والبهائم. اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ يوما بيوم وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم: نخشى لفراق «4» أوطننا العيلة. الْعَلِيمُ بما في قلوبكم وما إليه صائرة أموركم. أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الرقاق، وقال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا إسماعيل بن زرارة الرقي، قال: حدثنا أبو العطوف الجراح بن المنهال الجوزي «5» ، عن الزهري، عن عطاء بن أبي رياح، عن ابن عمر قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حائطا من حياطان «6» الأنصار، فجعل رسول الله (عليه السلام) يلقط الرطب بيده ويأكل فقال: «كل يا ابن عمر» ، قلت: لا أشتهيها يا رسول الله، قال: «لكنّي أشتهيه وهذه صبحة رابعة لم أزق طعاما ولم أجده» . فقلت «7» : إنّا لله، الله المستعان، قال: «يا بن عمر لو سألت ربّي لأعطاني مثل ملك
كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة، ولكني أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبّؤون رزق سنة ويضعف اليقين» «1» [164] ، فنزلت على رسول الله (عليه السلام) : وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا ... الآية. أخبرني ابن فنجويه، حدثنا ابن حنيش، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا يحيى من معين، حدثنا يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن علي بن الأرقم «2» وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا قال: لا تدخر شيئا لغد. قال سفيان: ليس شيء مما خلق الله يخبّئ إلّا الإنسان والفأرة والنملة. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ يعني الدائمة الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ولكنهم لا يعلمون ذلك. فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وخافوا الغرق والهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ ليجحدوا نعمه في إنجائه إياهم وسائر الآية وَلِيَتَمَتَّعُوا جزم لامه الأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب، واختلف فيه عن عاصم ونافع وابن كثير، الباقون بكسر اللام واختاره أبو عبيد لِيَكْفُرُوا لكون الكلام نسقا. ومن جزم احتج بقراءة أبي بن كعب يمتعوا. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. أخبرني أبو محمد عبد الله بن حامد- فيما أذن لي روايته عنه- قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أسكت، قال: حدثنا عقال، قال: حدثنا جعفر بن سلمان قال: حدثنا ملك بن دينار، قال: سمعت أبو العالية قرأ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف يعلمون بالياء، فالكسر على كي والجزم على التهديد. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ بالأصنام يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يعني الإيمان يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعموا أنّ لله شريكا، وقالوا إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها «3» .
أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ بمحمد والقرآن لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً منزل لِلْكافِرِينَ. وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا أي والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنصرة ديننا لنثبتهم على ما قاتلوا عنه. قال أبو سورة: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في الغزو لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبيل الشهادة أو المغفرة. أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا. وقال الفضيل بن عياض: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في طلب العلم لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل العمل به. وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد، قال: حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد ابن حمدون، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن إدريس، قال: حدثنا أحمد بن أبي الجواري، قال: قال أبو أحمد- يعني عباس الهمداني- وأبو سليمان الداراني في قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم ربّهم إلى ما لا يعلمون. وعن عمر بن عبد العزيز إنّه تكلم بكلمات وعنده نفر من العلماء، فقال له الوضين بن عطاء: بم أوتيت هذا العلم يا أبا مروان؟ قال: ويحك يا وضين إنّما قصر بنا من علم ما جهلنا بتقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو أنّا عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا. وعن عبد الله بن الزبير قال: تقول الحكمة: من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه، أو يدع أسوأ ما يعلمه. وروي عن ابن عباس: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في طاعتنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل ثوابنا. ضحاك: وَالَّذِينَ جاهَدُوا بالهجرة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الثبات على الإيمان، وقيل: وَالَّذِينَ جاهَدُوا بالثبات على الإيمان لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل دخول الجنان، سهل بن عبد الله: وَالَّذِينَ جاهَدُوا في إقامة السنّة لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبل الجنة ثم قال: مثل السنّة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى، من دخل الجنة في العقبى سلم، فكذلك من لزم السنّة في الدنيا سلم، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: والذين هديناهم سبيلنا جاهدوا فينا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر والمعونة في دنياهم، وبالثواب والمغفرة في عقباهم.
سورة الروم
سورة الروم مكّية، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة، وستّون آية أخبرنا المغازي غير مرّة، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني، وأبو الشيخ عبد الله بن أحمد الأصبهاني قالا: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الكوفي، قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي، قال: حدّثنا سلام بن سليمان المدائني، قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «من قرأ سورة الرّوم كان له من الأجر، عشر حسنات بعدد كلّ ملك سبّح لله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيّع في يومه وليلته» [165] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) قوله عزّ وجلّ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ الآية. قال المفسّرون: كانت في فارس امرأة لا تلد إلّا الملوك والأبطال بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ!، فدعاها كسرى فقال: إنّي أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك فأشيري عليّ أيّهم أستعمل؟ فقالت: هذا فلان، أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر «2» ، وهذا فرخان أنفذ من سنان «3» ، وهذا شهريراز «4» هو أحلم من كذا، فاستعمل أيّهم شئت. قال: فإنّي
استعملت الحليم، فاستعمل شهريراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم، وكان قيصر بعث رجلا يدعى يحنس «1» وبعث كسرى شهريراذ فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فغلبت فارس الروم، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم، وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أن يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم. وفرح كفّار مكّة وشمتوا ولقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقالوا: إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أمّيون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم. فإنّكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم. فأنزل الله عزّ وجلّ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ ... إلى آخر الآيات «2» . فخرج الصّدّيق رضي الله عنه إلى الكفّار فقال: فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرّن الله أعينكم، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبيّنا، فقام إليه أبيّ بن خلف الجمحي فقال: كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدوّ الله، فقال: اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه، والمناحبة: المراهنة على عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين. فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وأخبره وذلك قبل تحريم القمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما هكذا ذكرت، إنّما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال: لعلّك ندمت قال: لا، قال: فتعال أزايدك في الخطر وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت فلمّا خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال: إنّي أخاف أن تخرج من مكّة فأقم لي كفيلا، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر. فلمّا أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه قال: والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ثمّ خرج إلى أحد، ثمّ رجع أبيّ بن خلف فمات بمكّة من جراحته التي جرحه رسول الله صلّى الله عليه حين بارزه. وظهرت الروم على فارس يوم الحديبيّة وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم. هذا قول أكثر المفسّرين.
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل: لمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتاهم الخبر أنّ الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك. قال الشعبي: لم تمض تلك المدّة التي عقدوا المناحبة بينهم، أهل مكّة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر، وذلك قبل تحريم القمار حتّى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فقمر أبو بكر أبيّا، وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به يحمله إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «تصدّق به» [166] «1» . وكان سبب غلبة الروم فارس على ما قال عكرمة وغيره أنّ شهريراز بعد ما غلب الروم لم يزل يطأهم ويخرّب مدائنهم حتّى بلغ الخليج، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه: لقد رأيت كأنّي جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهريراز: إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فرخان. فكتب إليه: أيّها الملك إنّك لم تجد مثل فرخان، إنّ له نكاية وصوتا في العدوّ فلا تفعل، فكتب إليه: إنّ في رجال فارس خلفا منه فعجّل إليّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا إلى أهل فارس إنّي قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان. ثمّ دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهريراز وقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه، فلمّا قرأ شهريراز الكتاب قال: سمعا وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان فدفع إليه الصحيفة فقال: ائتوني بشهريراز فقدّمه ليضرب عنقه. قال: لا تعجل حتّى أكتب وصيّتي، قال: نعم، قال: فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كلّ هذا راجعت فيه كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد، فردّ الملك إلى أخيه. فكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم: إنّ لي إليك حاجة لا يحملها البريد ولا تبلغها الصحف فألقني ولا تلقني إلّا في خمسين روميّا فإنّي ألقاك في خمسين فارسيّا. فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مكر به حتّى أتاه عيونه أنّه ليس معه إلّا خمسون رجلا ثمّ بسط لهما والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما ومع كلّ واحد منهما سكين، فدعيا بترجمان بينهما فقال شهريراز: إنّ الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا ومكرنا وشجاعتنا، وإنّ كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت. ثمّ أمر أخي أن يقتلني. فقد خلعناه جميعا فنحن نقاتله معك، قال: قد أصبتما ثمّ أشار أحدهما إلى صاحبه أنّ السرّ بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، فقتلا الترجمان جميعا بسكّينيهما [فأديلت] الروم على فارس عند ذلك فأتبعوهم يقتلونهم ومات كسرى. وجاء الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه يوم الحديبية ففرح ومن معه، فذلك قوله عزّ
وجلّ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ يعني أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس وهي أذرعات «1» . قال ابن عبّاس: طرف الشام. مجاهد: أرض الجزيرة. مقاتل: الأردن وفلسطين، عكرمة: أذرعات وكسكر. مقاتل بن حبان: هي ريف الشام. وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي غلبتهم فحذفت التاء منه كما حذفت من قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ «2» وانّما هو إقامته. وقرأ أبو حيوة الشامي (غَلْبِهِمْ) بسكون اللام وهما لغتان مثل الطّعن والطعن. سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ وقرأ عبد الله بن عمرو وأبو سعيد الخدري والحسن وعيسى بن عمر غَلَبَتِ بفتح الغين واللام سَيَغْلِبُونَ بضم الواو وفتح اللام. قالوا: نزلت هذه الآية حين أخبر الله عزّ وجلّ نبيّه صلى الله عليه وسلّم عن غلبة الروم فارس، ومعنى الآية: الم غلبت الروم فارس فِي أَدْنَى الْأَرْضِ إليكم. وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مصرف في أداني الأرض بالجمع وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سيغلبهم المسلمون. فِي بِضْعِ سِنِينَ وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم. أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدويه، عن الحسين بن الحسن بن أيّوب، عن علي بن عبد العزيز قال: أخبرني أبو عبيد عن حمّاد بن خالد الخيّاط عن معاوية بن صالح عن مرتد بن سمي قال: سمعت أبا الدرداء يقول: سيجيء قوم يقرءون: الم غَلَبَتِ الرُّومُ وإنّما هي غُلِبَتِ الرُّومُ. قال أبو عبيد بضم الغين يعني الأخيرة. قوله: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ يعني من قبل دولة الروم على فارس ومن بعد وهما مرفوعان على الغاية. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ الروم لأنّهم أهل كتاب، وبنصر الله المؤمنين على الكافرين يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن عبد الله بن محمد بن شنبه، عن علي بن محمد ابن هامان، عن علي بن محمد الطّنافسي عن النعمان بن محمد عن أبي إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فارس نطحة أو نطحتان» ثمّ قال: «لا فارس بعدها أبدا، والروم ذات القرون أصحاب بحر وصخر، كلّما ذهب قرن خلف قرن، هيهات إلى آخر الأبد» [167] «3» .
[سورة الروم (30) : الآيات 8 إلى 18]
وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتّجرون ومتى يغرسون ويحصدون وكيف يبنون ويعيشون. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ وبها جاهلون ولها مضيّعون، لا يتفكّرون فيها ولا يعملون لها. فعمّروا دنياهم وخرّبوا آخرتهم. [سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 18] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني ولوقت معلوم إذا انتهت إليه فنيت، وهو يوم القيامة. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ حرثوها وقلّبوها للزراعة والعمارة. وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فلم يؤمنوا وأهلكهم الله عزّ وجلّ. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا العمل السُّواى يعني الخلّة التي تسوؤهم وهي النار. وقيل: (السُّواى) اسم لجهنّم كما أنّ (الْحُسْنى) اسم للجنة. أَنْ كَذَّبُوا يعني لأن كذّبوا. وقيل: تفسير (السُّواى) ما بعدها وهو قوله: أَنْ كَذَّبُوا يعني: ثمّ كان عاقبة المسيئين التكذيب حملهم تلك السيئات على أن كذّبوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ استهزءوا بها. اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (يُبْلِسُ) يكتئب. أبو يحيى عنه: يفتضح. قتادة
ومقاتل والكلبيّ: بياءين، ابن زيد: المبلس الذي قد نزل به البلاء والشّرّ. الفرّاء: ينقطع كلامهم وحججهم. أبو عبيدة: يندمون، وأنشد: يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال نعم أعرفه وأبلسا «1» وقرأ السلمي يُبْلَسُ بفتح اللّام، والأوّل أجود. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ أوثانهم التي عبدوها من دون الله ليشفعوا لهم شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ جاحدين وعنهم متبرّين. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ بستان يُحْبَرُونَ قال ابن عبّاس: يكرمون. مجاهد وقتادة: ينعمون. أبو عبيدة: يسرّون، ومنه قيل: كلّ حبرة تتبعها عبرة. وقال العجاج: فالحمد لله الذي أعطى الحبر ... موالي الحقّ إن المولى شكر أي السرور. وقال بعضهم: الحبرة في اللغة كلّ نعمة حسنة. والتّحبير: التحسين. ومنه قيل للمداد: حبر لأنّه يحسّن به الأوراق. والعالم: حبر لأنّه متخلّق بأخلاق حسنة، وقال الشاعر: يحبرها الكاتب الحميري. وقيل: يحبرون يلذّذون بالسّماع. أخبرنا عبد الله بن حامد، عن حامد بن محمد بن عبد الله عن محمد بن يونس، عن روح عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال: السماع في الجنّة. أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله عن ابن شنبه، عن عمير بن مرداس عن سلمة بن شبيب عن عبد القدّوس بن الحجّاج قال: سمعت الأوزاعي يقول: فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال: السّماع. وقال: إذا أخذ في السّماع لم يبق في الجنّة شجرة إلّا ورّدت. وبه عن سلمة بن شبيب عن داود بن الجرّاح، العسقلاني قال: سمعت الأوزاعي يقول: ليس أحد ممّن خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل فإذا أخذ في السّماع قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم. وأخبرنا الحسين بن محمد الدينوري، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني، عن الحسن ابن أيّوب، عن عبد الله بن عراد الشيباني قالا: أخبرنا القاسم بن مطيب العجلي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين منها كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها سموّا وأوسطها محلّه، ومنها تنفجر أنهار الجنّة، وعليها يوضع العرش يوم القيامة» [168] «2» . فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله إنّي رجل حبّب إليّ الصّوت، فهل في الجنّة صوت حسن؟ قال: إي والذي نفسي بيده، إنّ الله سبحانه ليوحي إلى شجرة في الجنّة أن أسمعي
عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن عزف البرابط والمزامير، فترفع صوتا لم يسمع الخلائق مثله قط من تسبيح الرّبّ وتقديسه. وأخبرني الحسين بن محمد عن هارون، عن محمّد بن هارون العطّار، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن الوليد بن عبد الملك، عن مسروح الحرّاني، عن سليمان بن عطاء، عن سلمة بن عبد الله الجهني، عن عمّه، عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يذكّر الناس فذكر الجنّة وما فيها من الأزواج والنعيم وفي [آخر] القوم أعرابي فجثا لركبتيه وقال: يا رسول الله هل في الجنّة من سماع؟ قال: «نعم يا أعرابي إنّ في الجنّة لنهرا حافتاه الأبكار من كلّ بيضاء خوصانية، يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها، فذلك أفضل نعيم أهل الجنّة» [169] «1» . قال: فسألت أبا الدرداء بم يتغنّين؟ قال: بالتسبيح إن شاء الله. قال: والخوصانية: المرهفة الأعلى الضخمة الأسفل. وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد بن علي الهمداني عن علي بن سعيد العسكري قال: أخبرني أبو بدر عبّاد بن الوليد الغبري، عن محمّد ابن موسى الخراساني عن عبد الله بن عرادة الشيباني، عن القاسم بن مطيب عن مغيرة عن إبراهيم قال: «إنّ في الجنّة لأشجارا عليها أجراس من فضّة فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث الله عزّ وجلّ ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الأرض لماتوا طربا» [170] «2» . وأخبرني الحسين، عن أبي شنبه وعبد الله بن يوسف قالا: قال محمد بن عمران، عن محمد بن منصور، قال: أخبرني يحيى بن أبي الحجّاج، عن عبد الله بن مسلم عن مولى لبني أميّة يقال له: سليمان، قال: سمعت أبا هريرة يسأل: هل لأهل الجنّة من سماع؟ قال: نعم، شجرة أصلها من ذهب وأغصانها فضّة وثمرها اللؤلؤ والزّبرجد والياقوت يبعث الله سبحانه وتعالى ريحا فيحكّ بعضها بعضا، فما سمع أحد شيئا أحسن منه. قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ. فَسُبْحانَ اللَّهِ فصلّوا لله حِينَ تُمْسُونَ وهو صلاة العصر والمغرب وَحِينَ تُصْبِحُونَ صلاة الصبح وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وهو صلاة العشاء الآخرة. أيّ وسبّحوه عشيا وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان عن «3» أحمد بن محمد بن الحسين الحافظ، عن محمد بن
يحيى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين قال نافع بن الأزرق لابن عبّاس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ... إلى قوله: وَحِينَ تُظْهِرُونَ. حدّثنا أبو بكر بن عبدوس قال: حدّثني أبو بكر الشرقي قال: حدّثني أبو حاتم الرازي قال: حدّثني أبو صالح كاتب الليث، حدّثني الليث، عن سعيد بن بشير، عن محمد بن عبد الرحمن السلماني، عن أبيه، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه قال: «من قال حين يصبح فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ... إلى قوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلة» [171] «1» . وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد قال: كتب إليّ عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي أنّ زيد بن محمد بن خلف القرشي حدّثهم عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمي، عن الماضي بن محمد عن جويبر، عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قال: سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ- هذه الآيات الثلاث من سورة الروم وآخر سورة الصافات- دبر كلّ صلاة يصلّيها كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء وقطر المطر وعدد ورق الشجر وعدد تراب الأرض، فإذا مات أجري له بكلّ حسنة عشر حسنات في قبره» [172] «2» . وأخبرني عبد الله بن فنجويه، عن ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان والفضل بن الفضل قالوا: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام الزنجاني، عن الحجّاج بن يوسف بن قتيبة بن مسلم، عن بشر بن الحسين، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ... إلى قوله: وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ... إلى قوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3» » [173] «4» . وأخبرني ابن فنجويه عن عمر بن أحمد بن القاسم عن محمد بن عبد الغفّار عن حبارة بن المغلس عن كثير عن الضحاك قال: من قال: سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ إلى آخر الآية كان له من الأجر كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل (عليه السلام) . وأخبرني ابن فنجويه عن ابن شنبه «5» عن علي بن محمد الطيالسي «6» ، عن يحيى بن آدم عن
[سورة الروم (30) : الآيات 19 إلى 27]
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد العمي، عن محمد بن واسع، عن كعب قال: من قال حين يصبح: سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ إلى آخر الآية، لم يفته خير كان في يومه ولم يدركه شرّ كان فيه، ومن قالها حين يمسي لم يدركه شرّ كان في ليله «1» ولم يفته خير كان في ليله «2» ، وكان إبراهيم خليل الله صلّى الله عليه يقولها في كلّ يوم وليلة ست مرّات. [سورة الروم (30) : الآيات 19 الى 27] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني آدم (عليه السلام) . ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ يعني ذريته. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً من جنسكم ولم يجعلهنّ من الجنّ، وقيل: من ضلع آدم وقيل: من نطف الرجال. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ألفة ومحبّة وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أخبرني الحسين بن محمد، عن موسى بن محمد بن علي قال: أخبرني أبو شعيب الحراني، عن يحيى بن عبد الله البابلي، عن صفوان بن عمرو، عن المشيخة أنّ رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلّم فقال: يا نبيّ الله لقد عجبت من أمر وإنّه لعجب، إنّ الرجل ليتزوّج المرأة وما رآها وما رأته قط حتى إذا ابتنى بها اصطحبا وما شيء أحبّ إليهما من الآخر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ فعربي وأعجمي.
وَأَلْوانِكُمْ أبيض وأسود وأحمر وأنتم ولد رجل واحد وامرأة واحدة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ بكسر اللّام حفص، والياقوت بفتحها. وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وحذف أن من قوله (يُرِيكُمُ) لدلالة الكلام عليه، كقول طرفه: ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ... وإن اشهد اللذات هل أنت مخلدي «1» أراد أن أحضر. وقيل: هو على التقديم والتأخير تقديره: ويريكم البرق خوفا، من آياته. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي من قبوركم، عن ابن عبّاس إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ منها، وأكثر العلماء على أنّ معنى الآية ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ من الأرض. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ. وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فقرأ ابن مسعود: يبدي، ودليله قوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ «2» . ودليل العامّة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ «3» وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «4» قال الربيع بن خيثم والحسن: وهو هيّن عليه وما شيء عليه بعزيز، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وهذا كقول الفرزدق: إنّ الذي سمك السماء بنا لها ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول «5» أي عزيزة طويلة. وقال آخر: لعمرك إنّ الزبرقان لباذل معروفه ... عند السنين وأفضل أي فاضل. وقال مجاهد وعكرمة: الإعادة أهون عليه من البدأة أي أيسر. وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس: ووجه هذا التأويل أنّ هذا مثل ضربه الله تعالى، يقول: إعادة الشيء على الخلق أهون
[سورة الروم (30) : الآيات 28 إلى 35]
من ابتدائه فينبغي أن يكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء. وقال قوم: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ، أي على الخلق، يصاح بهم صيحة فيقومون، ويقال لهم: كونوا فيكونون أهون عليهم من أن يكونوا نطفا ثمّ علقا ثمّ مضغا إلى أن يصيروا رجالا ونساء. وهذا معنى رواية حسان، عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عبّاس واختيار قطرب. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عبّاس: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وقال قتادة: مثله أنّه لا إله إلّا هو ولا ربّ غيره. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 35] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبيدكم وإمائكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من المال فَأَنْتُمْ وهم فِيهِ شرع سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ قال ابن عبّاس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا، وقيل: تخافون هؤلاء الشركاء أن يقاسموكم أموالكم كما يقاسم بعضكم بعضا، وهذا معنى قول أبي محلز، فإذ لم تخافوا هذا من مماليككم ولم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء؟ وأنتم وهم عبيدي وأنا مالككم جميعا، فكما لا يجوز استواء المملوك مع سيّده فكذلك لا يجوز استواء المخلوق مع خالقه. ثمّ قال: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ. دين الله وهو نصب على المصدر أي فطر فطرة. ومعنى الآية: إنّ الدّين الحنيفية، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وقيل: نصب على الإغراء. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لدين الله، أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل، ظاهره نفي ومعناه نهي، هذا قول أكثر العلماء والمفسّرين. وقال عكرمة ومجاهد: لا تغيير لخلق الله من البهائم بالخصاء ونحوه. أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن
يحيى، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون «1» فيها من جدعاء؟» [174] «2» قال: ثمّ يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها الآية. وأخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو بكر محمد بن جعفر المطيري، عن أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدّب عن عبد الرزاق، وأخبرنا أبو سعيد التاجر قال: أخبرني أبو حامد الشرقي، وحدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر والسلمي، قالوا: قال عبد الرزّاق عن معمر عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه قال: «ما من مولود إلّا يولد على هذه «3» الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه كما تنتجون البهيمة فهل تجدون فيها من جدعاء حتّى تكونوا أنتم تجدعونها؟ قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين» [175] «4» . وقال الأسود بن سريع: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أربع غزوات وأنّ قوما تناولوا الذرّية بالقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما بال أقوام قتلوا المقاتلة ثمّ تناولوا الذرّية؟» ، فقال رجل: يا رسول الله إنّما هم أولاد المشركين، فقال (عليه السلام) : «إنّ خياركم أولاد المشركين، والذي نفسي بيده ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فما يزال عليها حتّى يبيّن عنه لسانه فأبواه يهوّدانه وينصّرانه» [176] «5» . وروى قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّ الله «6» أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا وأنّه قال: إن «7» كلّ مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا» [177] «8» . وذكر الحديث.
قال أبو بكر الورّاق: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها هي الفقر والفاقة. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ «1» وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً فرقا كاليهود والنصارى. أخبرني «2» الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري، عن محمد بن عمر بن إسحاق بن حبيش الكلواذي، عن عبد الله بن سليمان بن الأشعث، عن محمد بن مصفى، عن بقية بن الوليد عن شعبة أو غيره، عن مجالد، عن الشعبي، عن شريح، عن عمر بن الخطّاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعائشة: «يا عائشة إنّ الّذين فارقوا دينهم وَكانُوا شِيَعاً هم أهل البدع والضّلالة من هذه الأمّة، يا عائشة إنّ لكلّ صاحب ذنب توبة إلّا صاحب البدع والأهواء ليست لهم توبة، أنا منهم بريء وهم منّي براء» [178] «3» . كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قوله: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً ... خصبا ونعمة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وفي مصحف عبد الله وليتمتّعوا أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً. قال ابن عبّاس والضحّاك: حجّة وعذرا. قتادة والربيع: كتابا. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ ينطق بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ يعذرهم على شركهم ويأمرهم به.
[سورة الروم (30) : الآيات 36 إلى 53]
[سورة الروم (30) : الآيات 36 الى 53] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً. قرأ ابن كثير (ءاتيتم) مقصور غير ممدود لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ. قرأ الحسن وعكرمة وأهل المدينة لتربوا بضمّ التاء وجزم الواو وعلى الخطاب أي لتربوا أنتم، وهي قراءة ابن عبّاس واختيار يعقوب وأيّوب وأبي حاتم. وقرأ الآخرون (لّيربوا) بياء مفتوحة ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا. واختاره أبو عبيد لقوله: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ ولم يقل فلا يربى. واختلف المفسّرون في معنى الآية. فقال سعيد ابن جبير ومجاهد وطاوس وقتادة والضحاك: هو الرجل يعطي الرجل العطية ويهدي الهدية ليثاب أكثر منها، فهذا ربا حلال ليس فيه أجر ولا وزر، وهذا للناس عامّة، فأمّا النبيّ صلى الله عليه وسلّم خاصّة فكان هذا عليه حراما لقوله عزّ وجلّ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «1» . وقال الشعبي: هو الرجل يلزق بالرجل فيحف له ويخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله ليجزيه وإنّما أعطاه التماس عونه ولم يرد به وجه الله. وقال النخعي: هذا في الرجل يقول للرجل: لأمولنّك فيعطيه مراعاة، وكان الرجل في الجاهلية يعطي ذا القرابة له المال ليكثر ماله، وهي رواية أبي حسين «2» عن ابن عبّاس. وقال السدي: نزلت في ثقيف كانوا يعطون الربا. فَلا يَرْبُوا يزكو عِنْدَ اللَّهِ لأنّه لم يرد به وجه الله. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ قال قتادة: هذا الذي يقبله الله ويضاعفه له عَشْرُ أَمْثالِها وأكثر من ذلك. ومعنى قوله: (الْمُضْعِفُونَ) . أهل التضعيف. كقول العرب: أصبحتم مسمنين، إذا
سمنت إبلهم، ومعطشين إذا عطشت. ورجل مقو إذا كانت إبله قويّة، ومضعف إذا كانت ضعيفة، ومنه الخبيث المخبّث أي أصحابه خبّثا. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ أي قحط المطر ونقص الغلّات وذهاب البركة فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تقول: أجدبت البرّ وانقطعت مادّة البحر بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بشؤم ذنوبهم. قال قتادة: هذا قبل أن يبعث الله نبيّه (عليه السلام) امتلأت الأرض ظلما وضلالة، فلمّا بعث الله عزّ وجلّ محمّدا (صلى الله عليه وسلّم) رجع راجعون من الناس. فالبرّ أهل العمود والمفاوز والبراري، والبحر أهل الرّيف والقرى. قال مجاهد: أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كلّ قرية على ماء جار فهو بحر. وقال عكرمة: العرب تسمّي الأمصار بحرا. وقال عطية وغيره: البرّ ظهر الأرض، الأمصار وغيرها، والبحر هو البحر المعروف. وقال عطية: إذا قلّ المطر قلّ الغوص. وقال ابن عبّاس: إذا مطرت السماء تفتح الأصداف فمها في البحر فما وقع فيها من ماء السماء فهو لؤلؤ. وقال الحسن: البحر القرى على شاطئ البحر. قال ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ بقتل ابن آدم أخاه وَالْبَحْرِ بالملك الجائر الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا واسمه الجلندا، رجل من الأزد. لِيُذِيقَهُمْ قرأ السلمي بالنون وهو اختيار أبي حاتم. الباقون بالياء بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا أي عقوبة بعض الذي عملوا من ذنوبهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم وأعمالهم الخبيثة. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ. فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتفرّقون، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.. مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يفرشون ويسوّون المضاجع في القبور. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ثوابه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ. قوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ نعمته المطر. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ رزقه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أشركوا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ في العاقبة، فكذلك نحن ناصروك ومظفروك على من عاداك وناواك. قال الحسن: يعني أنجاهم مع الرسل من عذاب الأمم. أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري، قال أبو العبّاس أحمد بن محمد بن يوسف الصرصري، عن الحسين بن محمد المطبقي، عن الربيع بن سليمان، عن علي
ابن معبد عن موسى بن أعين، عن بشير بن أبي سليمان، عن عمرو بن مرّة عن شهر بن حوشب [عن أمّ الدرداء] عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما من امرئ يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّا على الله سبحانه أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة» [179] «1» ، ثمّ تلا هذه الآية: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أخبرني ابن فنجويه عن مخلد الباقرحي، عن الحسن بن علوية، عن إسماعيل بن عيسى، عن إسحاق بن بشر، أخبرنا إدريس أبو الياس، عن وهب بن منبه: أنّ الأرض شكت إلى الله عزّ وجلّ أيّام الطوفان لأنّ الله عزّ وجلّ أرسل الماء بغير وزن ولا كيل فخرج الماء غضبا لله عزّ وجلّ فخدش الأرض وخدّدها فقالت: يا ربّ إنّ الماء خدّدني وخدشني، فقال الله عزّ وجلّ فيما بلغني- والله أعلم- إنّي سأجعل للماء غربالا لا يخدّدك ولا يخدشك، فجعل السّحاب غربال المطر. فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ردّ الكناية إلى لفظ السحاب لذلك ذكرها. والسحاب جمع كما يقال: هذا تمر جيّد وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعا متفرّقة. فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وسطه. وقرأ ابن عبّاس من خلله. فَإِذا أَصابَ بِهِ أي بالودق مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا وقد كانوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ وقيل: وما كانوا إلّا. قال قطرب والفائدة في تكرار قبل هاهنا أنّ الأولى للإنزال والثّانية للمطر، وقيل على التأكيد، كقول الله عزّ وجلّ: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ «2» كرّر تحسبنّ للتأكيد. وقال الشاعر: إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلّا من وراء وراء «3» وفي حرف ابن مسعود لا تحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب غير مكرّر، وفي حرفه أيضا: وإن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم لمبلسين غير مكرّر. قوله عزّ وجلّ: فَانْظُرْ إِلى آثارِ بالألف على الجمع- أهل الشام والكوفة. واختلف فيه عن أصم، غيرهم: أثر على الواحد رَحْمَتِ اللَّهِ يعني المطر كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من البعث وغيره. وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً باردة مضرّة فأفسدت ما أنبت الغيث فَرَأَوْهُ يعني الزرع والنبات كناية عن غير مذكور مُصْفَرًّا يابسا بعد خضرته ونضرته لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ وقد رأوا هذه الآيات الواضحات، ثمّ ضرب لهم مثلا فقال: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
[سورة الروم (30) : الآيات 54 إلى 60]
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ. [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ نطفة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً شبابا ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً هرما وَشَيْبَةً. قرأ يحيى وعاصم والأعمش وحمزة [بفتح] «1» الضاد من الضعف، غيرهم بالضمّ فيها كلّها، واختارها أبو عبيد لأنّها لغة النبي صلى الله عليه وسلّم. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن حامد بن محمد، عن علي بن عبد العزيز قال أبو نعيم، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن عمر اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً يعني بالضم، ثمّ قال: إنّي قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخذها عليّ كما أخذتها عليك ، وكان عاصم الجحدري يقرأ الله الّذي خلقكم من ضعف ثمّ جعل من بعد ضعف- بالضم- قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً- بالفتح- أراد أن يجمع بين اللغتين. قال الفرّاء: الضمّ لغة قريش والنصب لغة تميم يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. وقوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف المشركون ما لَبِثُوا في الدنيا غَيْرَ ساعَةٍ «2» استقلّ القوم أجل الدنيا لمّا عاينوا الآخرة. وقال مقاتل والكلبي: يعني ما لَبِثُوا في قبورهم غَيْرَ ساعَةٍ، استقلّوا ذلك لما استقبلوا من هول يوم القيامة، نظيرها قوله عزّ وجلّ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ ومِنْ نَهارٍ ... كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ يكذّبون في الدّنيا. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه. وقيل: في حكم الله، كقول الشاعر:
ومال الولاء بالبلاء فملتم ... وما ذاك قال الله إذ هو يكتب «1» أي يحكم. وقال قتادة ومقاتل: هذا من مقاديم الكلام تأويلها: وقال الّذين أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان لقد لبثتم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ في الدنيا أنّه يكون وأنّكم مبعوثون ومجزيّون فكنتم به تكذّبون. فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يسترجعون. وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ما أنتم إلّا على باطل كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ في نصرك وتمكينك حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يستزلنّك ويستخفنّ رأيك عن حكمك الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.
سورة لقمان
سورة لقمان مكيّة، وهي ألفان ومائة وعشرة أحرف، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة، وأربع وثلاثون آية أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن يزيد المعدل قال: أخبرني أبو يحيى البزار، عن محمد بن منصور، عن محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدّثني أبي، عن مخالد بن عبد الواحد، عن الحجّاج بن عبد الله، عن أبي الخليل، عن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقا في يوم القيامة وأعطي من الحسنات عشرا بقدر من عمل المعروف، وعمل بالمنكر» «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً قرأ العامة بالنصب على الحال والقطع، وقرأ حمزة (وَرَحْمَةٌ) بالرفع على الابتداء لِلْمُحْسِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي، كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدّث بها قريشا ويقول لهم: إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدّثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأعاجم والأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن، وقال مجاهد: يعني شراء [القيان] والمغنّين، ووجه الكلام على هذا التأويل يشتري ذات أو ذا لهو الحديث. أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى سنة ثلاث وثمانين، حدّثني جدّي محمد بن إسحاق بن خزيمة] عن علي بن خزيمة] عن علي بن حجرة، عن مستمغل بن ملجان الطائي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زجر، عن علي بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ تعليم المغنيات ولا بيعهن، وأثمانهن حرام، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ... » [180] «1» إلى آخر الآية. وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلّا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتّى يكون هو الذي يسكت. وقال آخرون: معناه يستبدل ويختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وقال: سبيل الله: القرآن. وقال أبو الصهباء البكري: سألت ابن مسعود عن هذه الآية، فقال: هو الغناء والله الذي لا إله إلّا هو يردّدها ثلاث مرّات، ومثله روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. ابن جريج: هو الطبل. عبيد عن الضحّاك: هو الشرك. جويبر عنه: الغناء، وقال: الغناء مفسدة للمال، مسخطة للربّ مفسدة للقلب. وقال ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عبّاس: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلا ونهارا. وكلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله إلى ما نهى عنه فهو لهو ومنه الغناء وغيره. وقال قتادة: هو كلّ لهو ولعب. قال عطاء: هو الترّهات والبسابس. وقال مكحول: من اشترى جارية ضرّابة ليمسكها لغناها وضربها مقيما عليه حتّى يموت لم أصلّ عليه، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... إلى آخر الآية. وروى علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير والأوتار والصّلب وأمر الجاهلية، وحلف ربّي بعزّته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر متعمّدا «2» إلّا سقيته من الصديد مثلها
يوم القيامة مغفورا له أو معذّبا، ولا يسقيها صبيّا صغيرا ضعيفا مسلما إلّا سقيته مثلها من الصديد «1» يوم القيامة مغفورا له أو معذّبا، ولا يتركها من مخافتي إلّا سقيته من حياض القدس يوم القيامة. لا يحلّ بيعهن ولا شرائهن ولا تعليمهن ولا التجارة بهن وثمنهنّ حرام» [181] «2» . يعني الضوارب. وروى حمّاد عن إبراهيم قال: الغناء ينبت النفاق في القلب. وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يحرقون الدفوف. أخبرنا عبد الله بن حامد، عن ابن شاذان، عن جيغويه، عن صالح بن محمد، عن إبراهيم ابن محمد، عن محمد بن المنكدر قال: بلغني أنّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم رياض المسك، ثمّ يقول للملائكة: أسمعوا عبادي حمدي وثنائي وتمجيدي وأخبروهم أن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. قوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب وَيَتَّخِذَها بنصب الذال عطفا على قوله: لِيُضِلَّ وهو اختيار أبي عبيد قال: لقربه من المنصوب، وقرأ الآخرون بالرفع نسقا على قوله: يَشْتَرِي. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ أخبره بِعَذابٍ أَلِيمٍ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ. خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي نوعا حسنا هذا الذي ذكرت ممّا يعاينون خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ من آلهتكم التي تعبدونها بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 إلى 21]
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 21] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ يعني العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأمور. قال محمّد بن إسحاق بن يسار: وهو لقمان بن باعور بن باحور بن تارخ وهو آزر، وقال وهب: كان ابن أخت أيّوب. وقال مقاتل: ذكر أنّ لقمان كان ابن خالة أيّوب. قال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل، واتّفق العلماء على أنّه كان حكيما ولم يكن نبيّا إلّا عكرمة فإنّه قال: كان لقمان نبيّا، تفرّد بهذا القول. حدّثنا أبو منصور الجمشاذي قال: حدّثني أبو عبد الله محمد بن يوسف، عن الحسين بن محمد، عن عبد الله بن هاشم، عن وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة قال: كان لقمان نبيّا. وقال بعضهم: خيّر لقمان بين النبوّة والحكمة، فاختار الحكمة. وروى عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: «حقّا أقول لم يكن لقمان نبيّا ولكن عبد صمصامة كثير التفكير، حسن اليقين «1» ، أحبّ الله فأحبّه وضمن عليه بالحكمة» [182] «2» . [وروي أنّ لقمان في ابتداء أمره] «3» كان نائما نصف النهار إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت فقال: إن خيّرني ربّي قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم عليّ فسمعا وطاعة. فإنّي أعلم إن فعل ذلك بي عصمني وأعانني، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كلّ مكان إن [وفي فبالحري] أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة، ومن يكن في الدنيا ذليلا [وفي الآخرة شريفا] خير من أن يكون] في الدنيا] شريفا [وفي الآخرة ذليلا] . ومن تخيّر الدنيا على الآخرة تفته «4» الدنيا ولا يصيب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة. فانتبه يتكلّم بها «5» .
ثمّ نودي داود بعده فقبلها ولم يشرط ما شرط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرّة كلّ ذلك يعفو الله عزّ وجلّ عنه، وكان لقمان يؤازره بحكمته، فقال له داود: طوبى لك يا لقمان أعطيت الحكمة وصرفت عنك البلوى. وأعطي داود الخلافة وأبتلي بالبليّة والفتنة. وحدّثنا الإمام أبو منصور بن الجمشاذي لفظا قال: حدّثني أبو عبد الله بن يوسف عن الحسن بن محمد، عن عبد الله بن هاشم، عن وكيع، عن محمّد بن حسّان، عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدا حبشيّا نجّارا. وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي عن أسود بن عامر، عن حمّاد، عن علي بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أنّ لقمان كان خيّاطا. أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ يعني وقلنا له: أن اشكر لله. وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ. قال مجاهد: كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين، متشقّق القدمين. وروى الأوزاعي عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد: لا تحزن من أجل أنّك أسود، فإنّه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر بن الخطّاب ولقمان الحكيم كان أسود نوبيّا من سودان مصر ذا مشافر. قوله تعالى: وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ واسمه أنعم وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ قال ابن عبّاس: شدّة بعد شدّة. الضحاك: ضعف على ضعف. قتادة: جهدا على جهد. مجاهد وابن كيسان: مشقّة على مشقّة. وَفِصالُهُ فطامه. وروي عن يعقوب: وفصله فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ أنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني، عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي قال: أخبرني أبو بكر محمّد بن القاسم البلخي، عن نصير بن يحيى، عن سفيان بن عيينة في قول الله عزّ وجلّ: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ قال: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر للوالدين. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً عشرة جميلة، وتقديره: بالمعروف. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ واسلك طريق محمّد وأصحابه. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقّاص وأمّه، وقد مضت القصّة.
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قال بعض النحاة: هذه الكناية راجعة إلى الخطيئة والمعصية، يعني: إنّ المعصية إن تك. يدلّ عليه قول مقاتل: قال أنعم بن لقمان لأبيه: يا أبة إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟ فقال له: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ. وقال آخرون: هذه الهاء عماد، وإنّما أنّث لأنّه ذهب بها إلى الحبّة، كقول الشاعر: ويشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم «1» ويرفع المثقال وينصب، فالنّصب على خبر كان والرّفع على اسمها ومجازه: إن تقع وحينئذ لا خبر له: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ قال قتادة: في جبل، وقال ابن عبّاس: هي صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجّار، وخضرة السماء منها، وقال السدي: خلق الله الأرض على حوت وهو النون الذي ذكره الله عزّ وجلّ في القرآن ن. وَالْقَلَمِ «2» والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك والملك، على صخرة، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، والصخرة على الرّيح. أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ باستخراجها خَبِيرٌ عالم بمكانها. ورأيت في بعض الكتب أنّ لقمان (عليه السلام) قال لابنه: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ ... إلى آخر الآية. فانفطر من هيبة هذه الكلمة فمات فكانت آخر حكمته. قوله: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور الواجبة التي أمر الله بها، وقال ابن عبّاس: حزم الأمور. مقاتل: حقّ الأمور. وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قرأ النخعي ونافع وأبو عمرو وابن محيص ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تصاعر بالألف. أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو حبش قال أبو القاسم بن الفضل قال أبو زرعة: حدّثني نضر بن علي قال: أخبرني أبي عن معلى الورّاق عن عاصم الجحدري وَلا تُصْعِرْ خَدَّكَ بضم التاء وجزم الصاد من أصعر. الباقون تُصَعِّرْ من التّصعير. قال ابن عبّاس: يقول لا تتكبّر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك. مجاهد: هو الرجل يكون بينه وبينك إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه. عكرمة: هو الذي إذا سلّم عليه لوى عنقه تكبّرا. الربيع وقتادة: لا تحقّر الفقراء، ليكن الفقير والغني عندك سواء. عطاء: هو الذي يلوي شدقه. أخبرنا عبد الله بن حامد، عن حامد بن محمد، عن محمد
ابن صالح، عن عبد الصمد، عن خارجة بن مصعب، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ قال: التشديق في الكلام. وقال المؤرّخ: لا تعبس في وجوه الناس. وأصل هذه الكلمة من الميل، يقال: رجل أصعر إذا كان مائل العنق. وجمعه صعر، ومنه، الصّعر: وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤوسها حتى يلفت أعناقها، فشبّه الرجل المتكبّر الذي يعرض عن الناس احتقارا لهم بذلك. قال الشاعر يصف إبلا: وردناه في مجرى سهيل يمانيا ... بصعر البري من بين جمع وخادج «1» أي مائلات البري. وقال آخر: وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه ... أقمنا له من ميله فتقوّما «2» وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي خيلاء. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ في مشيته فَخُورٍ على الناس. أخبرني عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن شاذان، عن جيغويه، عن صالح ابن محمد، عن جرير بن عبد الحميد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خرج رجل يتبختر في الجاهلية عليه حلّة، فأمر الله عزّ وجلّ الأرض فأخذته، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة «3» . وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي تواضع ولا تتبختر وليكن مشيك قصدا لا بخيلاء ولا إسراع. أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرني أبو العبّاس محمد بن إسحاق السرّاج وأبو الوفا، المؤيّد بن الحسين بن عيسى قالا: قال عبّاس بن محمد الدوري، عن الوليد بن سلمة قاضي الأردن، عن عمر بن صهبان، عن نافع عن ابن عمران أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن» [183] «4» . وَاغْضُضْ واخفض مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قال مجاهد وقتادة والضحاك: أقبح، أوّله زفير وآخره شهيق، أمره بالاقتصاد في صوته. عكرمة والحكم بن عيينة: أشدّ. ابن زيد: لو كان رفع الصوت خيرا ما جعله للحمير. أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحري قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن عبدون بن عمارة الأعمش قال: أخبرني أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي، عن يحيى بن صالح
فصل في ذكر بعض ما روي من حكم لقمان
الوحاضي، عن موسى بن أعين قال: سمعت سفيان يقول في قوله عزّ وجلّ: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ يقول: صياح كلّ شيء تسبيح لله عزّ وجلّ إلّا الحمار. وقيل: لأنّه ينهق بلا فائدة. أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن محمد بن الحسين بن بشر قال: أخبرني أبو بكر ابن أبي الخصيب، عن عبد الله بن جابر، عن عبد الله بن الوليد الحراني، عن عثمان بن عبد الرحمن، عن عنبسة بن عبد الرحمن، عن محمد بن زادان، عن أمّ سعد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ يبغض ثلاثة أصوات: نهقة الحمار، ونباح الكلب، والداعية بالحرب» [184] . فصل في ذكر بعض ما روي من حكم لقمان أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان الأصفهاني، عن أحمد بن شاذان، عن جيغويه بن محمد [عن صالح بن محمد] عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن محمد بن عجلان قال: قال لقمان: ليس مال كصحّة، ولا نعيم كطيب نفس. وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، عن محمد بن عبد الغفّار الزرقاني، عن أبو سكين زكريا بن يحيى بن عمر بن [حفص «1» ] عن عمّه أبي زجر بن حصن، عن جدّه حميد بن منهب قال: حدّثني طاوس، عن أبي هريرة قال: مرّ رجل بلقمان والناس مجتمعون عليه فقال: ألست بالعبد الأسود الذي كنت راعيا بموضع كذا وكذا؟ قال: بلى. قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني. وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو الحسين بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله ابن أحمد بن حنبل، عن أبيّ، عن وكيع قال: أخبرني أبو الأشهب، عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبدا حبشيّا نجّارا، فقال له سيّده: اذبح لنا شاة، فذبح له شاة، فقال له: ائتني بأطيب المضغتين فيها، فأتاه باللسان والقلب. فقال: ما كان فيها شيء أطيب من هذا؟ قال: لا، قال: فسكت عنه ما سكت، ثمّ قال له: اذبح لنا شاة، فذبح شاة، فقال: ألق أخبثها مضغتين، فرمى باللسان والقلب، فقال: أمرتك أن تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللّسان والقلب وأمرتك أن تلقي أخبثها مضغتين فألقيت اللسان والقلب؟! فقال: لأنّه ليس شيء بأطيب منهما إذا طابا وأخبث منهما إذا خبثا.
وأخبرني الحسين بن محمد، عن أحمد بن جعفر بن حمدان، عن يوسف بن عبد الله عن موسى ابن إسماعيل، عن حمّاد بن سلمة، عن أنس أنّ لقمان كان عند داود (عليه السلام) وهو يسرد درعا فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى، ويريد أن يسأله، ويمنعه حكمه عن السؤال، فلمّا فرغ منها وجاء بها وصبها قال: نعم درع الحرب هذه! فقال لقمان: إنّ من الحكم الصمت وقليل فاعله. [وأخبرني الحسين بن محمد بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي «1» ] قال: أخبرني أبو أسامة ووكيع قالا: أخبرنا سفيان، عن أبيه، عن عكرمة قال: كان لقمان من أهون مملوكيه على سيّده. قال: فبعثه مولاه في رقيق له إلى بستان له ليأتوه من ثمره، فجاؤوا وليس معهم شيء، وقد أكلوا الثمر، وأحالوا على لقمان. فقال لقمان لمولاه: إنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله أمينا، فاسقني وإيّاهم ماء حميما ثمّ أرسلنا فلنعد، ففعل، فجعلوا يقيئون تلك الفاكهة وجعل لقمان يقيء ماء، فعرف صدقه وكذبهم. قال: أوّل ما روي من حكمته، أنّه بينا هو مع مولاه، إذ دخل المخرج فأطال فيه الجلوس، فناداه لقمان: إنّ طول الجلوس على الحاجة ينجع منه الكبد، ويورث الباسور، ويصعد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هونا، وقم هونا، قال: فخرج وكتب حكمته على باب [الحش] «2» . قال: وسكر مولاه يوما فخاطر قوما على أن يشرب ماء بحيرة، فلمّا أفاق عرف ما وقع فيه فدعا لقمان فقال: لمثل هذا كنت اجتبيتك، فقال: اخرج كرسيّك وأباريقك ثمّ اجمعهم، فلمّا اجتمعوا قال: على أيّ شيء خاطرتموه؟ قالوا: على أن يشرب ماء هذه البحيرة، قال: فإنّ لها موادّ احبسوا موادّها عنها، قالوا: وكيف نستطيع أن نحبس موادها عنها؟ قال لقمان: وكيف يستطيع شربها ولها موادّ؟! وأخبرني الحسين بن محمد، عن عبيد الله بن محمد بن شنبه، عن علي بن محمد بن ماهان، عن علي بن محمد الطنافسي قال: أخبرني أبو الحسين العكلي [عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن داود بن عمر، عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار أنّ لقمان قدم من سفر،] «3» فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟ قال: مات، قال: الحمد لله، ملكت
أمري. قال: ما فعلت امرأتي؟ قال: ماتت. قال: جدّد فراشي، قال: ما فعلت أختي؟ قال: ماتت، قال: ستر عورتي، قال: ما فعل أخي؟ قال: مات، قال: انقطع ظهري. وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي، عن سفيان قال: قيل للقمان: أيّ الناس شرّ؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا. وقيل للقمان: ما أقبح وجهك! قال: تعيب بهذا على النقش أو على النقّاش؟ قوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ. قرأ نافع وشيبه وأبو جعفر وأبو رجاء العطاردي وأبو محلز وأبو عمرو والأعرج وأيّوب وحفص نعمه بالجمع والإضافة، واختاره أبو عبيد وأبو معاذ النحوي وأبو حاتم، وقرأ الآخرون منوّنة على الواحد ومعناها جمع أيضا، ودليله قول الله عزّ وجلّ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «1» وقال مجاهد وسفيان: هي لا إله إلّا الله، وتصديقه أيضا ما أخبرني أبو القاسم [الحبيبي] «2» أنّه رأى في مصحف عبد الله نعمته بالإضافة والتوحيد ظاهِرَةً وَباطِنَةً اختلفوا فيها فأكثروا. فقال ابن عبّاس: أمّا الظاهرة فالدين والرياش، وأمّا الباطنة فما غاب عن العباد وعلمه الله. مقاتل: الظاهرة تسوية الخلق والرّزق والإسلام، والباطنة ما ستر من ذنوب بني آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب عليها. الضحّاك: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء، والباطنة المغفرة. القرظي: الظاهرة محمّد (عليه السلام) والباطنة المعرفة. ربيع: الظاهرة بالجوارح والباطنة بالقلب. عطاء الخراساني: الظاهرة تخفيف الشرائع، والباطنة الشفاعة. مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء، والباطنة الإمداد بالملائكة. أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم النيستاني، قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ابن محمش، قال: أخبرني أبو يحيى زكريا بن يحيى بن الحرب، عن محمد بن يوسف بن محمد ابن سابق الكوفي قال: أخبرني أبو مالك الجبني، عن جويبر، عن الضحاك قال: سألت ابن عبّاس عن قول الله عزّ وجلّ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً فقال: هذا من محرزي الذي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم. قلت: يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة؟ قال: أمّا الظاهرة فالإسلام وما حسن من خلقك وما أفضل عليك من الرزق، وأمّا الباطنة ما ستر من سوء عملك، يا ابن عبّاس يقول الله تعالى: إنّي جعلت للمؤمن ثلثا صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أكفّر
به عن خطاياه، وجعلت له ثلث ماله ليكفّر به عنه من خطاياه وسترت عليه سوء عمله الذي لو قد أبديته للناس لنبذه أهله فما سواهم. وقال محمّد بن علي الترمذي: النعمة الظاهرة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي «1» والباطنة قوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2» . [الحرث بن أسد المحاسبي] «3» : الظاهرة نعيم الدنيا، والباطنة نعيم العقبى. عمرو بن عثمان الصدفي: الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة تضعيف الصنائع. وقيل: الظاهرة الجزاء، والباطنة الرضا. سهل بن عبد الله: الظاهرة إتباع الرسول، والباطنة محبّته. وقيل: الظاهرة تسوية الظواهر والباطنة تصفية السرائر. وقيل: الظاهرة التبيين، بيانه قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «4» وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ «5» والباطنة التزين قوله: وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ «6» وقيل: الظاهرة الرزق المكتسب، والباطنة الرزق مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وقيل: الظاهرة المدخل للغذاء، والباطنة المخرج للأذى. وقيل: الظاهرة الجوارح، والباطنة المصالح. وقيل: الظاهرة الخلق، والباطنة الخلق. وقيل الظاهرة التنعيم، بيانه قوله: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ «7» والباطنة التعليم. قوله: وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ «8» وقيل: الظاهرة ما أعطى وحبا من النعماء، وقيل الباطنة: ما طوي وزوي من أنواع البلاء، وقيل: الظاهرة الدعوة، بيانه قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ «9» والباطنة الهداية. بيانه قوله: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ «10» . وقيل: الظاهرة الإمداد بالملائكة، والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفّار، وقيل: الظاهرة تفصيل الطاعات، وهو أنّه ذكر طاعتك واحدة فواحدة وأثنى عليك بها وأثابك عليها، بيانه قوله: التَّائِبُونَ «11» وقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «12» وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ «13» إلى آخر الآية. والباطنة إجمال المعاصي وذلك أنّه دعاك منها إلى التوبة باسم الإيمان من غير عدّها وتفصيلها، بيانه قوله: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «14» وقيل: الظاهرة إنزال الأقطار والأمطار، والباطنة إحياء الأقطار والأمصار.
وقيل: الظاهرة التوفيق للعبادات، والباطنة الإخلاص والعصمة من المراءاة، وقيل: الظاهرة ذكر اللسان، والباطنة ذكر الجنان، وقيل: الظاهرة تلاوة القرآن والباطنة معرفته. وقيل: الظاهرة ضياء النهار للتصرّف والمعاش، والباطنة ظلمة الليل للسكون والقرار. وقيل: الظاهرة النطق، والباطنة العقل، وقيل: الظاهرة نعمه عليك بعد ما خرجت من بطن أمّك، والباطنة: نعمه عليك وأنت في بطن أمّك. وقيل: الظاهرة الشهادة الناطقة، والباطنة السعادة السابقة. وقيل: الظاهرة ألوان العطايا، والباطنة غفران الخطايا. وقيل: الظاهرة وضع الوزر ورفع الذّكر، والباطنة شرح الصدر. وقيل: الظاهرة فتح المسالك والباطنة نزع الممالك ممّن خالفك، وقيل: الظاهرة المال والأولاد، والباطنة الهدى والإرشاد، وقيل: الظاهرة القول السديد والباطنة التأييد والتسديد، وقيل: الظاهرة ما يكفّر الله به الخطايا من الرزايا والبلايا، والباطنة ما يعفو عنه ولا يؤاخذ به في الدنيا والعقبى، وقيل: الظاهرة ما بينك وبين خلقه من الأنساب والأصهار، والباطنة ما بينك وبينه من القرب والأسرار والمناجاة في الأسحار، وقيل: الظاهرة العلوّ بيانه قوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «1» والباطنة الدنوّ بيانه قوله: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ «2» . قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحرث حين زعم أنّ الملائكة بنات الله وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ. وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا. قال الله تعالى: أَوَلَوْ كانَ قال الأخفش: لفظه استفهام ومعناه تقرير، وقال أبو عبيدة: لو هاهنا متروك الجواب مجازه أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي موجباته فيتبعونه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 إلى 34]
[سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 34] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) قوله: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي يخلص دينه لله ويفوّض أمره إليه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي (يسلّم) بالتشديد، وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ «1» وأشباه ذلك. وَهُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أي: اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه. وقال ابن عبّاس: هي: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ... وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ يعني مرجعها. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. نُمَتِّعُهُمْ نعمّرهم ونمهلهم قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ نلجئهم، ونردّهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية. قال المفسّرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الرّوح فأنزل الله بمكّة: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «2» الآية، فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار اليهود، فقالوا: يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، أفعنيتنا أم قومك؟ فقال (عليه السلام) : كلّا قد عنيت. قالوا: ألست تتلوا فيما جاءك: إنّا قد أوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. قالوا: يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «3» فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير؟ فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي بريت
أقلاما وَالْبَحْرُ بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب. غيرهم بالرّفع، وحجّتهم: قراءة عبد الله وبحر يَمُدُّهُ أي يزيده وينصب عليه مِنْ بَعْدِهِ من خلفه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ وفي هذه الآية اختصار تقديرها: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يكتب بها كلام الله ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هذه الآية على قول عطاء بن يسار: مدنيّة، قال: نزلت بعد الهجرة كما حكينا. وعلى قول غيره: مكّيّة، قالوا: إنّما أمر اليهود وفد قريش أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة، والله أعلم. قوله: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ يعني إلّا كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «1» أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. ذلِكَ الذي ذكرت لتعلموا: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ برحمة الله، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على أمر الله شَكُورٍ على نعمه. قال أهل المعاني: أراد لكلّ مؤمن، لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين. وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ قال مقاتل: كالجبال. وقال الكلبي: كالسحاب (والظّلل) جمع ظلّه شبّه الموج بها في كثرتها وارتفاعها- كقول النّابغة في صفة بحر: يماشيهن أخضر ذو ظلال ... على حافاته فلق الدنان. وإنّما شبّه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع، لأنّ الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل. وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنّما لم يجمع لأنّه مصدر، وأصله من الحركة والازدحام «2» . دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قال ابن عبّاس: موف بما عاهد الله عليه في البحر. ابن كيسان: مؤمن. مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر. الكلبي: مُقْتَصِدٌ في القول من الكفّار لأنّ بعضهم أشدّ قولا وأغلى في الافتراء من بعض. ابن
زيد: المقتصد الذي على صلاح من الأمر. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدّار كَفُورٍ جحود، والختر أسوأ الغدر. وقال عمرو بن معدي كرب: وإنّك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر «1» قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي لا يقضي ولا يغني ولا يكفّر والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. قراءة العامّة: بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا: هو الشيطان. وقال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنّى المغفرة. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين ومعناه لا تغتروا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية. نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية، أتى النبي صلى الله عليه وسلّم فسأله عن الساعة ووقتها وقال: إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت أين ولدت فبأيّ أرض تموت؟ فأنزل الله هذه الآية. أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «مفاتيح الغيب خمسة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية» [185] «2» . وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنّ رجلا قال: يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته؟ فقال: لقد أوتيت علما كثيرا أو علما حسنا [أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم] «3» ثمّ تلا رسول الله هذه الآية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى قوله: خَبِيرٌ فقال: هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلّا الله تبارك وتعالى «4» . وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال: أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش، عن علي بن حشرم، عن الفضل بن موسى، عن رجل سمّاه قال: بلغ ابن عبّاس أنّ يهوديا خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله. فقال: إن شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك. فقال: إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم، ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي، وأنت لا تخرج من الدّنيا حتى تعمى، فقال ابن عبّاس: وأنت يا يهودي؟ قال: لا يحول عليّ الحول حتى أموت، قال: فأين موتك؟ قال: لا أدري. قال ابن عبّاس:
صدق الله وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. قال: فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغ عشرا حتّى مات الصبي، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا: مات، وما خرج ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره. قال علي: هذا أعجب حديث. قوله: بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كان حقه بأيّة أرض، وبه قرأ أبيّ بن كعب، إلّا أنّ من ذكّر قال: لأنّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء. وقيل: أراد بالأرض المكان فلذلك ذكّر، وأحتج بقول الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا الأرض ابقل ابقالها «1»
سورة السجدة
سورة السجدة مكّية، وهي ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وثلاثون آية أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي، عن عمران بن موسى، عن مكي بن عبدان، عن سليمان بن داود، عن أحمد بن نصر قال: أخبرني أبو معاد، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم، عن زيد العمي عن أبي نضرة، عن ابن عبّاس، عن أبيّ بن كعب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ سورة الم تَنْزِيلُ أعطي من الأجر كأنّما أحيا ليلة القدر» [186] . وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهنرزي بها، عن حمزة بن محمد بن العبّاس ببغداد، عن عبد الله بن روح عن شبابة] بن سوار] عن المغيرة بن مسلم، عن ابن الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنّه كان لا ينام حتّى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ «1» ويقول: «هما تفضلان كلّ سورة في القرآن سبعين حسنة، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة، ومحي عنه سبعون سيئة، ورفع له سبعون درجة» [187] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
قوله عزّ وجلّ: الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ. أي، بل يقولون وقيل: الميم صلة، أي أيقولون استفهام توبيخ. وقيل: هو بمعنى الواو يعني ويقولون. وقيل: فيه إضمار مجازه: فهل يؤمنون به، أم يقولون: افْتَراهُ ثمّ قال: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ أي لم يأتهم من نذير مِنْ قَبْلِكَ. قال قتادة: كانوا أمّة أميّة لم يأتهم نذير قبل محمّد (عليه السلام) . قال ابن عبّاس ومقاتل: ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمّد (عليهما السلام) . لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ يصعد إِلَيْهِ جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيّام الدّنيا، وقدر مسيره ألف سنة، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء. وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول: لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلّا في ألف سنة، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء، ونزولهم من السماء إلى الأرض، وأمّا قوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فإنّه أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل (عليه السلام) . يقول: يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيّام الدنيا، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة والضحّاك، وأمّا معنى قوله: إِلَيْهِ على هذا التأويل فإنّه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أن يعرج إليه، كقول إبراهيم (عليه السلام) إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي «2» وإنّما أراد أرض الشام. وقال: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ «3» أي إلى المدينة، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام. أخبرني ابن فنجويه، عن هارون بن محمد بن هارون، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن محمد بن المتوكل، عن عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أتاني ملك برسالة من الله عزّ وجلّ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السماء، والاخرى في الأرض لم يرفعها» [188] «4» . وقال بعضهم معناه:
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ مدّة أيّام الدنيا، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ الأمر والتدبير، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وهو يوم القيامة. وأمّا قوله: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فإنّه أراد على الكافر، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلّاها في دار الدنيا. ويجوز أن يكون ليوم القيامة أوّل وليس له آخر وفيه أوقات شتّى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة. ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدّته وهوله ومشقّته لأنّ العرب تصف أيّام المكروه بالطّول وأيّام السرور بالقصر، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسّرين. وروي عبد الرزاق عن ابن جريح قال: أخبرني ابن أبي مليكة قال: دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان على ابن عبّاس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية، فقال له ابن عبّاس: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان، فقال عبد الله بن عبّاس: أيّام سمّاها الله لا أدري ما هي، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتّى دخلت على سعيد بن المسيّب فسئل عنها فلم يدر ما يقول، فقلت له: ألا أخبرك ما حضرت من ابن عبّاس، فأخبرته، فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عبّاس قد اتّقى أن يقول فيها وهو أعلم منّي. قوله: ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قرأ نافع وأهل الكوفة (خَلَقَهُ) بفتح اللّام على الفعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ثمّ قالا: لسهولتها في المعنى وهي قراءة سعيد بن المسيب. وقرأ الآخرون بسكون اللام. قال الأخفش: هو على البدل ومجازه: الذي أحسن خلق كلّ شيء. قال ابن عبّاس: أتقنه وأحكمه، ثمّ قال: أما إنّ است القرد ليست بحسنة ولكنّه أحكم خلقها. وقال قتادة: حسنه. مقاتل: علم كيف يخلق كلّ شيء، من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه. وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني آدم (عليه السلام) مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذريته مِنْ سُلالَةٍ من نطفة، سمّيت بذلك لأنّها تنسل من الإنسان، أي تخرج، ومنه قيل للولد: سلالة. وقال ابن عبّاس: وهي صفو الماء مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ضعيف ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ. وَقالُوا يعني منكري البعث، أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي أهلكنا وبطلنا وصرنا ترابا، وأصله من قول العرب: ضلّ الماء في اللبن إذا ذهب، ويقال: أضللت الميّت أي دفنته. قال الشاعر:
وأب مضلوه بغير جلية ... وغودر بالجولان جرم ونائل «1» وقرأ ابن محيصن بكسر اللام (ضَلِلْنا) وهي لغة. وقرأ الحسن والأعمش صَلَلْنا [بالصاد] غير معجمة أي أنتنّا، وهي قراءة عليّ رضي الله عنه «2» . أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شنبه قال: أخبرني أبو حامد المستملي، عن محمد بن حاتم [الكرخي] «3» أبو [عثمان] «4» النحوي، عن المسيب بن شريك، عن عبيدة الضبي، عن رجل، عن علي أنّه قرأ أءذا صللنا أي أنتنّا. قال محمّد بن حاتم: يقال: صلّ اللّحم وأصل إذا أنتن. أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ قال الله: بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ. قوله عزّ وجلّ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ بقبض أرواحكم مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ قال مجاهد: حويت له الأرض فجعلت له مثل طست يتناول منها حيث يشاء، وقال مقاتل والكلبي: بلغنا أنّ اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة: جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وجناح له في أقصى العالم من حيث يجيء ريح الصبا، وجناح من الأفق الآخر. ورجل له بالمشرق، والأخرى بالمغرب، والخلق بين رجليه، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وجعلت له الدنيا مثل راحة اليد، صاحبها يأخذ منها ما أحبّ في غير مشقة ولا عناء، أي مثل اللّبنة بين يديه فهو يقبض أنفس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك عن الخطّاب بن أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبو نافع أحمد بن كثير، عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم عن ابن عبّاس قال: إنّ خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب. وأخبرنا الحسين بن محمد، عن عبد الله بن يوسف، عن عبد الرحيم بن محمد، عن سلمة ابن شبيب، عن الوليد بن سلمة الدمشقي، عن ثور بن يزيد عن خالد بن [معد «5» ] ، عن معاذ بن جبل قال: إنّ لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفّح وجوه الناس، فما من أهل بيت إلّا وملك الموت يتفحّصهم في كلّ يوم مرّتين، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة، وقال: الآن يزار بك عسكر الأموات.
[سورة السجده (32) : الآيات 12 إلى 22]
وأخبرنا الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل، عن أبي، عن عبد الله بن نميرة عن الأعمش عن خيثمة وعن شهر بن حوشب قال: دخل ملك الموت على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر، فلمّا خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إليّ كأنّه يريدني، قال: فما تريد؟ قال: أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند، فدعا بالريح فحملته عليها فألقته بالهند، ثمّ أتى ملك الموت سليمان (عليه السلام) فقال: إنّك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي، قال: كنت أعجب منه إنّي أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك. فإن قيل: ما الجامع بين قوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «1» وتَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «2» وقُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «3» وقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «4» وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «5» . قيل: توفّي الملائكة: القبض والنزع. وتوفّي ملك الموت: الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه ثمّ يأمر أعوانه بقبضها، وتوفّي الله سبحانه: خلق الموت، والله أعلم. [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 22] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي مطأطئو رؤوسهم عِنْدَ رَبِّهِمْ حياء منه للذي سلف من معاصيهم في الدنيا يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا ما كنّا به مكذّبين وَسَمِعْنا
منك تصديق ما أتتنا به رسلك فَارْجِعْنا فارددنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وجواب لو مضمر مجازه: لرأيت العجب وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها رشدها وتوفيقها للإيمان وَلكِنْ حَقَّ وجب وسبق الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهو قوله لإبليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» . ثمّ يقال لأهل النار: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي تركتم الإيمان به إِنَّا نَسِيناكُمْ تركناكم في النار وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني، عن الحسن ابن أيّوب القزويني، عن عبد الله بن أبي زياد القطواني، عن سيار حماد الصفار، عن حجاج الأسود، عن جبلة، عن مولى له، عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الملائكة فيشفعون، ثمّ يقوم الأنبياء فيشفعون، ثمّ يقوم الشهداء فيشفعون ثمّ يقوم المؤمنون فيشفعون. حتّى انصرمت الشفاعة كلّها فلم يبق أحد، خرجت الرحمة، فتقول: يا ربّ أنا الرحمة فشفّعني، فيقول: قد شفّعتك، فتقول: يا ربّ فيمن؟ فيقول: في من ذكرني في مقام وخافني فيه أو رجاني أو دعاني دعوة واحدة خافني أو رجاني فأخرجيه، قال: فيخرجون فلا يبقى في النار أحد يعبأ الله به شيئا، ثمّ يعظم أهلها بها، ثمّ يأمر بالنار فتقبض عليهم فلا يدخل فيها روح أبدا، ولا يخرج منها غمّ أبدا وقيل: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا «2» . إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان به والسجود له. تَتَجافى أي ترتفع وتنتحي، وهو تفاعل من الجفا، والجفا: التبوّء والتباعد، تقول العرب: جاف ظهرك عن الجدار، وجفت عين فلان عن الغمض إذا لم تنم. جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ. أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن أحمد ابن سمعان الوزان، عن عبد الله بن قحطبة بن مرزوق، عن محمد بن موسى الحرشي، عن الحرث بن وحيه الراسبي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: سألت أنس بن مالك عن قول الله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ، فقال أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فأنزل الله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ. أخبرني الحسين بن محمد [عن موسى بن محمد، عن الحسن بن محمد، عن موسى بن محمد] عن الحسن بن علويه، عن إسماعيل بن عيسى، عن المسيب، عن سعيد بن أبي عروبة،
عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: نزلت فينا معاشر الأنصار: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ الآية، كنّا نصلّي المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتّى نصلّي العشاء مع النبي صلّى الله عليه وآله. وأخبرنا الحسين بن محمد عن عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله، عن عبد الله بن محمد بن وهب، عن محمد بن حميد، عن يحيى بن الضريس، عن النضر بن حميد، عن سعيد، عن الشعبي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من عقّب ما بين المغرب والعشاء بني له في الجنّة قصران [ما بينهما] مسيرة [مائة] عام، وفيهما من الشجر، ما لو نزلها «1» أهل المشرق وأهل المغرب لأوسعتهم «2» فاكهة، وهي صلاة الأوّابين وغفلة الغافلين، وإنّ من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء ما بين المغرب والعشاء» [189] «3» . وقال عطاء: يعني يصلّون صلاة العتمة لا ينامون عنها، يدلّ عليها ما أنبأني عبد الله بن حامد، عن عبد الصمد بن الحسن بن علي بن مكرم، عن السري بن سهل، عن عبد الله بن رشيد قال: أنبأني أبو عبيدة مجاعة بن الزبير، عن أبان قال: جاءت امرأة إلى أنس بن مالك، فقالت: إنّي أنام قبل العشاء. فقال: لا تنامي. فإنّ هذه الآية نزلت في الذين لا ينامون قبل العشاء الآخرة تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وابن زيد: هو التهجّد وقيام الليل، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه عن أبي بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي عن زيد بن الحبّاب، عن حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً قال: قيام العبد في الليل. وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني، عن محمّد بن عبد الله بن عبد الواحد الهمداني، عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق بن معمر، عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل، عن معاذ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سفر فأصبحت قريبا منه ونحن نسير، فقلت: يا نبيّ الله ألا تخبرني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار؟ قال: يا معاذ، لقد سألت عن عظيم، وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت. ثمّ قال: ألا أدلّك على أبواب الخير. الصوم جنّة من النار والصدقة تطفئ غضب الربّ «4» وصلاة الرجل في جوف الليل ثمّ قرأ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ
حتّى بلغ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ثمّ قال: ألا أخبرك «1» بملاك ذلك كلّه. فقلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه. فقال: «اكفف «2» ، عليك هذا» . فقلت: يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم؟ فقال: «ثكلتك أمّك يا معاذ! وهل يكبّ الناس في النّار على وجوههم أو على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» [190] «3» . وقال الضحّاك: هو أن يصلّي الرجل العشاء والغداة في جماعة. أخبرني الحسين بن فنجويه عن أحمد بن الحسين بن ماجة قال: أخبرني أبو عوانة الكوفي بالري عن منجاب بن الحرث عن علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق كلّهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثمّ يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ. فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعا إلى الجنّة ثمّ يحاسب سائر الناس» [191] «4» . يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي خبّئ لهم، هذه قراءة العامّة. وقرأ حمزة ويعقوب أُخْفِي مرسلة الياء أي: أنا أخفي وحجّتهما قراءة عبد الله: نخفي بالنون. وقرأ محمّد بن كعب: أخفى بالألف يعني: أخفى الله من قرّة أعين، قراءة العامّة على التوحيد. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن مكي بن عبدان، عن عبد الله بن هاشم قال: أخبرني أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ومن بله ما [قد] أطلعتكم عليه، اقرءوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ من قرّات أعين» [192] «5» . جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ قال: وكان أبو هريرة يقرأ. هكذا: قرّات أعين. وقال ابن مسعود: إنّ في التوراة مكتوبا: لقد أعد الله للّذين تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولا يخطر على
قلب بشر وما لا يعلمه ملك مقرّب، وإنّه لفي القرآن فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الآية. قوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمّه وذلك أنّه كان بينهما تنازع وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي: أسكت فإنّك صبيّ، وأنا والله أبسط منك لسانا وأحدّ منك سنانا، وأشجع جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة، فقال له علي: اسكت فإنّك فاسق، فأنزل الله عزّ وجلّ: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ولم يقل يستويان، لأنّه لم يرد بالمؤمن مؤمنا واحدا، وبالفاسق فاسقا واحدا، وإنّما أراد جميع الفسّاق وجميع المؤمنين. قال الفرّاء: إنّ الاثنين إذا لم يكونا مصمودين لهما ذهب بهما مذهب الجمع. ثمّ ذكر حال الفريقين ومآلهما، فقال عزّ من قائل: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قال أبي بن كعب وأبو العالية والضحّاك والحسن وإبراهيم: العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها ممّا يبتلي الله به العباد حتّى يتوبوا، وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس. عكرمة عنه: الحدود. عبد الله بن مسعود والحسن بن علي وعبد الله بن الحرث: القتل بالسيف يوم بدر. مقاتل: الجوع سبع سنين بمكّة حتّى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. مجاهد: عذاب القبر. قالوا: والعذاب الأكبر، يوم القيامة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم. قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ المشركين مُنْتَقِمُونَ قال زيد بن رفيع: عنى بالمجرمين هاهنا أصحاب القدر ثمّ قرأ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى قوله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «1» وأخبرنا الحسين بن محمد، عن أحمد ابن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرني جماهر بن محمد الدمشقي، عن هشام بن عمّار، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبد الله، عن عبادة بن سني، عن جنادة بن أبي أمية، عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من اعتقد لواء في غير حقّ، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم لينصره «2» فقد أجرم. يقول الله تعالى: إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» [193] «3» .
[سورة السجده (32) : الآيات 23 إلى 30]
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ ليلة المعراج. عن ابن عبّاس، وقال السدّي: من تلقّيه كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. قال أهل المعاني: لم يرد باللقاء الرؤية وإنّما أراد مباشرته الحال وتبليغه رسالة الله عزّ وجلّ وقبول كتاب الله. وقيل: من لقاء الله الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلّم والمراد به غيره. وَجَعَلْناهُ [يعني الكتاب، وقال قتادة: موسى] هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً قادة في الخير يقتدى بهم يَهْدُونَ يدعون بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا قرأ حمزة والكسائي (لِما) بكسر اللام وتخفيف الميم أي لصبرهم، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة عبد الله لما صبروا وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي حين صبروا. وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بينهم. ويسمّي أهل اليمن القاضي الفيصل يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ آيات الله وعظاته فيتّعظون بها. قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي اليابسة المغيرة: الغليظة التي لا نبات فيها. وأصله من قولهم: ناقة جراز إذا كانت تأكل كلّ شيء تجده، ورجل جروز، إذا كان أكولا. قال الراجز: خبّ جروز وإذا جاع بكى ... ويأكل التمر ولا يلقي النوى وسيف جراز أي قاطع، وجرزت الجراد الزرع إذا استأصلته، فكأن الجرز هي الأرض التي لا يبقى على ظهرها شيء إلّا أفسدته، وفيه أربع لغات: - جرز وجرز وجرز وجرز «1» . قال ابن عبّاس: هي أرض باليمن. قال مجاهد: هي أبين فَنُخْرِجُ فننبت بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قال بعضهم: أراد
بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب والحكم بين العباد. قال قتادة: قال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه: إنّ لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم، فقال الكفّار استهزاء: مَتى هذَا الْفَتْحُ؟ أي القضاء والحكم. قال الكلبي: يعني فتح مكّة. وقال السدي: يعني يوم بدر، لأنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه كانوا يقولون لهم: إنّ الله ناصرنا ومظهرنا عليكم. قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ يوم القيامة لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ومن تأوّل النصر قال: لا ينفعهم إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ قراءة العامّة مُنْتَظِرُونَ بكسر الظاء. وقرأ محمد بن السميقع بفتح الظاء، قال الفرّاء: لا يصحّ هذا إلّا بإضمار مجازه: إنّهم منتظرون ربّهم، قال أبو حاتم: الصحيح كسر الظاء لقوله: فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ «1» .
محتوى الجزء السابع من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء السابع من كتاب تفسير الثعلبي سورة الحج 5 سورة المؤمنون 37 فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق 60 سورة النور 62 ذكر حكم الآية 71 باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح 90 فصل فيمن يستحبّ ويختار من النساء 92 فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف 93 سورة الفرقان 122 سورة الشعراء 155 سورة النّمل 188 ذكر الأخبار الواردة في صفة دابّة الأرض وكيفية خروجها 223 سورة القصص 232 سورة العنكبوت 269 سورة الروم 291 سورة لقمان 309 فصل في ذكر بعض ما روي من حكم لقمان 316 سورة السجدة 325
الجزء الثامن
[الجزء الثامن] سورة الأحزاب مدنية، وهي خمسة آلاف وسبعمائة وتسعون حرفا، وألف ومائتان وثمانون كلمة، وثلاث وسبعون آية. أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرني أبو عمرو الحميري وعمرو بن عبد الله البصري قالا: قال محمد بن عبد الوهاب العبدي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سلام بن سليم، عن هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن [أبي أمامة] عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «من قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر» [1] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور عمرو بن [أبي] سفيان السلمي، وذلك أنّهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبي رأس المنافقين بعد قتال أحد، وقد أعطاهم النبيّ صلّى الله عليه الأمان على أن يكلّموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم وعنده عمر ابن الخطّاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومنات وقل: إنّ لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربّك، فشقّ على النبي صلّى الله عليه قولهم، فقال عمر بن الخطّاب: ائذن لنا يا رسول
الله في قتلهم، فقال النبي (عليه السلام) : «إنّي قد أعطيتهم الأمان» [2] ، فقال عمر بن الخطّاب: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبيّ صلّى الله عليه عمر أن يخرجهم من المدينة فأنزل الله عزّ وجلّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ] «1» [3] . وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ من أهل مكّة يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة وَالْمُنافِقِينَ عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بالياء. أبو عمرو، وغيره بالتاء. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أخبرني ابن فنجويه، عن موسى بن علي [عن الحسن ابن علويه] ، عن إسماعيل بن عيسى، عن المسيب، عن شيخ من أهل الشام قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وفد من ثقيف فطلبوا إليه أن [يمتعهم] باللات والعزّى سنة وقالوا: لتعلم قريش منزلتنا منك، فهمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك «2» ، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ الآيات. قوله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزلت في أبي معمر جميل [بن معمر] بن حبيب بن عبد الله الفهري، وكان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلّا وله قلبان. وكان يقول: إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد، فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ أبو معمر تلقّاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلّق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله، فقال له: يا أبا معمر ما حال الناس؟ قال: انهزموا، قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك، فقال له أبو معمر: ما شعرت إلّا أنّهما في رجلي، فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده «3» . وقال الزهري ومقاتل: هذا مثل ضربه الله للمظاهر من امرأته، وللمتبنّي ولد غيره، يقول: فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمّه حتى يكون له أمّان، ولا يكون ولد أحد ابن رجلين. قوله: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي قرأ أبو جعفر وأبو عمر وورش اللَّاء بغير مدّ ولا همز، ممدودة مهموزة بلا ياء، نافع غير ورش وأيّوب ويعقوب والأعرج، وأنشد:
من اللّاء لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفّلا «1» وقرأ أهل الكوفة والشام بالمدّ والهمز وإثبات الياء واختاره أبو عبيد للإشباع واختلف فيه، عن ابن كثير وكلّها لغات معروفة تُظاهِرُونَ بفتح التاء وتشديد الظاء شامي. بفتح التاء وتخفيف الظاء كوفي غير عاصم، واختاره أبو عبيد بضمّ التاء وتخفيف الظاء وكسر الهاء عاصم والحسن. قال أبو عمرو: هذا منكر لأنّ المظاهرة من التعاون والآية نزلت في أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم أخي عبادة، وفي امرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك يقول الله تعالى: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون: هنّ علينا كظهور أمّهاتنا في الحرام كما تقولون، ولكنّها منكم معصية وفيها كفّارة وأزواجكم لكم حلال، وسنذكر القصّة والحكم في سورة المجادلة إن شاء الله. قوله: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ يعني من تبنّيتموه أَبْناءَكُمْ نزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من بني عبد ودّ، كان عبدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فأعتقه وتبنّاه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطّلب في الإسلام، فجعل الفقير أخا للغني ليعود عليه، فلمّا تزوّج النبي صلّى الله عليه زينب بنت جحش الأسدي وكانت تحت زيد بن حارثة، فقالت اليهود والمنافقون: تزوج محمّد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات وقال: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ ولا حقيقة له، يعني قولهم: زيد ابن محمّد وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الذين ولدوهم هُوَ أَقْسَطُ أعدل عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ إن كانوا محرريكم وليسوا ببنيكم. أنبأني عقيل بن محمد الجرجاني، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، قال: قال أبو بكر: قال الله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فأنا ممّن لا يعرف أبوه، وأنا من إخوانكم في الدين. قال: قال أبي إنّي لأظنّه لو علم أنّ أباه كان حمارا لانتمى إليه وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ قبل النهي، فنسبتموه إلى غير أبيه، وقال قتادة: يعني أن تدعوه لغير أبيه وهو يرى أنّه كذلك وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ فنسبتموه إلى غير أبيه بعد النهي، وأنتم تعلمون أنّه ليس بابنه. ومحلّ ما في قوله: ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ خفض ردّا على (ما) التي في قوله: فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ ومجازه: ولكن في ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «من ادّعى إلى غير أبيه أو إلى غير أهل نعمته فعليه لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [4] «2» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 إلى 8]
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد بن الحسن، عن محمد بن يحيى قال: أخبرني أبو صالح، حدّثني الليث، حدّثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس- كان ممّن شهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم- تبنّى سالما وأنكحه ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الأنصار فتبنّاه، كما تبنّى رسول الله صلّى عليه زيدا وكان من تبنّى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتّى نزلت ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) قوله عزّ وجلّ: النَّبِيُّ أَوْلى أحقّ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أن يحكم فيهم بما شاء فيجوز حكمه عليهم. قال ابن عبّاس وعطا: يعني إذا دعاهم النبيّ (عليه السلام) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم، وقال مقاتل: يعني طاعة النبي (عليه السلام) أولى من طاعة بعضكم لبعض، وقال ابن زيد: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كما أنت أولى بعبدك، فما قضى فيهم من أمر، جار، كما أنّ كلّ ما قضيت على عبدك جار. وقيل: إنّه (عليه السلام) أولى بهم في إمضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم لما فيه من مصلحة الخلق والبعد من الفساد. وقيل: إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه، وقالت الحكماء: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، لأنّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم، وقال أبو بكر الورّاق: لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى، وقال بسام بن عبد الله العراقي: لأنّ أنفسهم تحترس من نار الدّنيا، والنبيّ يحرسهم من نار العقبى. وروى سفيان عن طلحة عن عطاء عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو أب لهم. وروى سفيان عن عمرو عن بجالة أو غيره قال: مرّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو أب لهم. فقال: يا غلام حكّها. قال: هذا مصحف أبي، فذهب إليه فسأله، فقال: إنّه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق
في الأسواق. وقال عكرمة: أخبرت أنّه كان في الحرف الأوّل: وهو أبوهم. أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبي قال: أخبرني أبو عامر وشريح قالا: قال [فليح] بن سليمان، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، عن النبيّ صلّى الله عليه، قال: «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن هلك «1» وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فإنّي أنا مولاه» [5] «2» . وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ يعني كأمّهاتهم في الحرمة، نظيره قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ «3» أي كالسماوات، وإنّما أراد الله تعالى تعظيم حقّهن وحرمتهن، وإنّه لا يجوز نكاحهن لا في حياة النبيّ صلّى الله عليه إن طلّق ولا بعد وفاته، هنّ حرام على كلّ مؤمن كحرمة أمّه، ودليل هذا التأويل أنّه لا يحرم على الولد رؤية الأمّ، وقد حرّم الله رؤيتهنّ على الأجنبيين، ولا يرثنّهم ولا يرثونهنّ، فعلموا أنّهن أمّهات المؤمنين من جهة الحرمة، وتحريم نكاحهنّ عليهم. روى سفيان، عن خراش، عن الشعبي، عن مسروق قال: قالت امرأة لعائشة: يا أمّاه، فقالت: أنا لست بأمّ لك إنّما أنا أمّ رجالكم. قوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يعني في الميراث. قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملك والقرابات. وقال الكلبي: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين الناس، وكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتّى نزلت هذه الآية: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين آخى رسول الله بينهم وَالْمُهاجِرِينَ فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات ، وقيل: أراد إثبات الميراث بالإيمان والهجرة. ثمّ قال: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يعني: إلّا أن توصوا لذوي قرابتكم من
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 إلى 17]
المشركين فتجوز الوصية لهم، وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة، وهذا قول محمد بن الحنفية وقتادة وعطاء وعكرمة. وقال ابن زيد ومقاتل: يعني: إلّا أن توصوا لأوليائكم من المهاجرين. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحقّ الإيمان والهجرة كانَ ذلِكَ الذي ذكرت من أنّ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ، وأنّ المشرك لا يرث المسلم فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبا. وقال القرظي: في التوراة. قوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ على الوفاء بما حمّلوا، وأن يبشر بعضهم ببعض ويصدّق بعضهم بعضا. وَمِنْكَ يا محمّد وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وإنّما خصّ هؤلاء الخمسة بالذكر في هذه الآية لأنّهم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل وأئمّة الأمم. وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أخبرنا الحسين بن محمد، عن عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقرئ، عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، عن هارون بن محمد بن بكار، عن أبيه عن سعيد يعني ابن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه قال: «كنت أوّل النّبيّين في الخلق، وآخرهم في البعث» [6] «1» ، قال: وذلك قول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فبدأ به صلّى الله عليه قبلهم. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 17] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الآية، وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه أيّام الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني الأحزاب، قريش وغطفان
ويهود بني قريظة والنضير فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعني الصبا. قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي بنصر رسول الله صلّى الله عليه، فقالت الشمال: إنّ الحرة لا تسري بالليل، فكانت الريح التي أرسلت عليهم هي الصبا. قال رسول الله صلّى الله عليه: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور «1» . وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة ولم تقاتل يومئذ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً قال المفسّرون: بعث الله تعالى عليهم بالليل ريحا باردة، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، فأرسل الله عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم، حتّى كان سيّد كلّ حيّ يقول: يا بني فلان هلمّ إليّ فإذا اجتمعوا عنده قال: النجا النجا أتيتم، لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال. أنبأني محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرني أبو الحسن السليطي قال: أخبرني المؤمل ابن الحسن، عن الفضل بن محمد الأشعراني «2» عن عمرو بن عون، عن خالد بن عبد الله، عن أبي سعد سعيد بن عبد الرحمن البقّال، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه وأنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة، حدّثني محمد بن يسار، عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرطي قالا: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن أخي، قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنّا نجهد، قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، ولخدمناه وفعلنا وفعلنا. فقال حذيفة: يا بن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق في ليلة باردة، لم أجد قبلها ولا بعدها بردا أشدّ منه، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه هونا من الليل ثمّ التفت إلينا فقال: «من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنّة» [7] «3» . فما قام منّا رجل، ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هونا من الليل، ثمّ التفت إلينا فقال مثله، فسكت القوم وما قام منّا رجل. ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه هونا من الليل، ثمّ التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنّة؟ فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد، فلمّا لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: يا حذيفة، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقلت: لبّيك يا رسول الله، وقمت حتى أتيته وإنّ
جنبيّ لتضطربان، فمسح رأسي ووجهي ثمّ قال: ائت هؤلاء القوم حتّى تأتيني بخبرهم، ولا تحدثنّ شيئا حتّى ترجع إليّ. ثمّ قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي وشددت على أصلابي، ثمّ انطلقت أمشي نحوهم كأنّي أمشي في حمّام، فذهبت فدخلت في القوم، وقد أرسل الله عليهم ريحا فقطّعت أطنابهم وقلعت أبنيتهم وذهبت بخيولهم، ولم تدع شيئا إلّا أهلكته، وأبو سفيان قاعد يصطلي، فأخذت سهمي فوضعته في كبد قوسي، فذكرت قول النبيّ صلّى الله عليه: لا تحدثنّ حدثا حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي. فلمّا رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء قام فقال: يا معشر قريش ليأخذ كلّ رجل منكم بيد جليسه فلينظر من هو؟ فأخذت بيد جليسي فقلت من أنت؟ قال: سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان، فإذا هو رجل من هوازن. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخفّ وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإنّي مرتحل ثمّ قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثمّ ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلّا وهو قائم. وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم، وهزم الله الأحزاب فذلك قوله: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه كأني أمشي في حمّام، فأخبرته الخبر فضحك عليه السلام حتّى بدت أنيابه في سواد الليل قال: وذهب عنّي الدفء فأدناني النبيّ عليه السلام فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه، وألزق صدري ببطن قدمه. قوله تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ يعني من فوق الوادي من قبل المشرق، وعليهم مالك بن عوف النضيري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحيي بن أخطب في يهود بني قريضة وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، وهو أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قبل الخندق. وكان الذي جر غزوة الخندق، فيما قيل إجلاء رسول الله صلّى الله عليه بني النضير عن ديارهم. قال محمد بن إسحاق: حدّثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير، عن عروة بن الزبير ومن لا أتّهم، عن عبيد الله بن كعب بن مالك، وعن الزهري، وعن عاصم بن قتادة وعن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وعن محمد بن كعب القرظي، وعن غيرهم من علمائنا، دخل
حديث بعضهم في بعض، قالوا: كان من حديث الخندق أنّ نفرا من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس وأبو عمّار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل وهم الذين حزّموا الأحزاب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكّة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقالوا: إنّا سنكون معكم عليه حتّى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحقّ منهم، قال: فهم الذين أنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله: وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً «1» فلمّا قالوا ذلك لقريش سرّهم ما قالوا، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأجمعوا لذلك، واستعدّوا له، ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود حتّى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه، وأنّ قريشا قد بايعوهم على ذلك، وأجمعوا فيه، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة، والحريث بن عون بن أبي جارية المرّي في بني مرّة، ومسعود بن جبلة بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع، فلمّا سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وبما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالخندق سلمان الفارسي، وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه، وهو يومئذ حرّ. وقال: يا رسول الله إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فعمل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون معه حتى أحكموه. وقد ذكرنا حديث سلمان في صفة حفر الخندق في سورة آل عمران قالوا: فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتّى نزلت بمجتمع الأسيال من دونه من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا [بذنب نقمى] إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون حتّى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام، وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان قد وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قومه وعاهده على ذلك، فلمّا سمع كعب بحيي بن أخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فنادى حيي: يا كعب افتح
لي، فقال: ويحك يا حيي، إنّك امرؤ ميشوم، إنّي قد عاهدت محمّدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي أكلّمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: والله إن غلقت دوني إلّا على حشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل ففتح له. فقال: يا كعب، ويحك جئتك بعزّ الدهر، وبحر طم، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دونه، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب مقمي إلى جانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمّد ومن معه. فقال له كعب بن أسد: جئتني والله بذلّ الدهر، بمجهام قد اهراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شيء، فدعني ومحمّدا وما أنا عليه، ولم أر من محمّد إلّا صدقا ووفاء. فلم يزل حيي بن أخطب بكعب يقبله في الذروة والغارب حتى يسمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمّدا أن أدخل معك في حصّتك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فلمّا انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه الخبر وإلى المسلمين، بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل وهو يومئذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيّد الخزرج، ومعهما عبد الله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف. فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم؟ فإن كان حقّا فالحنوا إليّ لحنا نعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم وقالوا: من رسول الله؟ وقالوا: لا عقد بيننا وبين محمّد ولا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه، وكان رجلا فيه حدّ فقال له سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثمّ أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه فسلّموا عليه ثمّ قالوا: عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه. فقال رسول الله صلّى الله عليه: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين. وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ، ونجم النفاق من بعض المنافقين حتى قال لهم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط «1»
ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً حتى قال أوس بن قبطي أحد بني حارثة: يا رسول الله إنّ بيوتنا بعورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه، فأذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنّها خارجة من المدينة. فأقام رسول الله صلّى الله عليه وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بين القوم حرب إلّا الرمي بالنبل والحصى، فلمّا اشتدّ البلاء على الناس، بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، تجرى بينهم وبينه الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة، فذكر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشار هما فيه. فقالا: يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به أم أمر تحبّه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا؟ قال: لا بل لكم والله ما أصنع ذلك، إلّا إنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلّا قري أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه: فأنت وذاك، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثمّ قال: ليجهدوا علينا. فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم والمشركون يحاصروهم ولم يكن بينهم قتال إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيلهم، ومرّوا على بني كنانة. فقال: بنو الحارث: يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان، ثمّ أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلمّا رأوه قالوا: والله إنّ هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها ثمّ تيمّموا مكانا من الخندق ضيّقا فضربوا خيولهم فاقتحموا منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع. وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين حتى أخذ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان نحوهم، وقد كان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحدا، فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليري مكانه، فلمّا وقف هو وخيله قال له علي: يا عمرو، إنّك كنت تعاهد الله، لا يدعوك رجل من قريش إلى خلّتين إلّا أخذت منه إحداهما. قال: أجل. قال: فإنّي أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإنّي أدعوك إلى النزال. قال: ولم يا بن أخي؟ فإنّي والله ما أحبّ أن أقتلك.
قال علي رضي الله عنه: ولكنّي والله أحبّ أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه وأقبل على عليّ فتناولا وتجاولا وقتله عليّ رضي الله عنه. وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة «1» ، وقتل مع عمرو رجلان: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار، أصابه سهم فمات منه بمكّة، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، وكان قد اقتحم الخندق فتورّط فيه فرموه بالحجارة، فقال: يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه، فنزل إليه عليّ فقتله فغلب المسلمون على جسده، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلّى الله عليه: لا حاجة لنا في جسده ولا ثمنه فشأنكم به، فخلّى بينهم وبينه. قالت عائشة أمّ المؤمنين: كنّا يوم الخندق في حصن بني حارثة، وكان من أحرز حصون المدينة، وكانت أمّ سعد بن معاذ معنا في الحصن، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلّها وفي يده حربته وهو يقول: لبّث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل «2» فقالت أمّه: الحق يا بني فقد والله أخرت، قالت عائشة: فقلت لها: يا امّ سعد والله لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ ممّا هي، وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، قالت: فرمي سعد يومئذ فقطع منه الأكحل، وزعموا أنّه لم ينقطع من أحد قطع إلّا لم يزل يفيض دما حتى يموت، رماه حيان بن قيس بن الغرقة أحد بني عامر بن لؤي، فلمّا أصابه قال: خذها فأنا ابن الغرقة فقال سعد: غرق الله وجهك في النار، ثمّ قال سعد: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ من أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، فكذّبوه وأخرجوه، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية. وروى محمد بن إسحاق بن يسار، عن يحيى بن عبادة بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عبادة قال: كانت صفية بنت عبد المطّلب في قارع حصن حسّان بن ثابت قالت: وكان حسّان معنا فيه مع النساء والصبيان. قالت صفية: فمرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت
ما بينها وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنّا، ورسول الله والمسلمون في [نحور] عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت. قالت: فقلت: يا حسّان إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي والله ما آمنه أن يدلّ على عورتنا من ورائنا من اليهود، وقد شغل عنّا رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلمّا قال ذلك لي ولم أر عنده شيئا احتجزت ثمّ أخذت عمودا ثمّ نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتّى قتلته فلمّا فرغت منه، رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسّان انزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني من سلبه إلّا أنّه رجل، قال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب. قالوا: وأقام رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في ما وصف الله عزّ وجلّ من الخوف والشدّة لتظاهر عدوّهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم، ثمّ إنّ نعيم بن مسعود بن عامر بن [أنيف] بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد «1» بن غطفان أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله صلّى الله عليه: إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال لهم: يا بني قريظة، قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمّد، وقد ظاهرتموهم عليه، وإنّ قريشا وغطفان ليسوا [كهيئتكم] ، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا عنه إلى غيره، وإنّ قريشا وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره، وإن رأوا نهزة وغنيمة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمّدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت برأي ونصح. ثمّ خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّدا، وقد بلغني أمر رأيت أنّ حقّا عليّ أن أبلّغكموه نصحا لكم فاكتموا عليّ. قالوا: نفعل. قال: تعلمون أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه، أن قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك عنّا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم [فنعطيكم] فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا
إليهم منكم رجلا واحدا، ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليّ ولا أراكم تتّهموني، قالوا: صدقت، قال: فاكتموا عليّ قالوا: نفعل، ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم، فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس، وكان ممّا صنع الله برسوله، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان، فقالوا لهم: إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم: إنّ اليوم السبت، وهو يوم لا يعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا، فإنّا نخشى إن [ضرستكم] الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد. فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة، قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال، فاخرجوا فقاتلوا. فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلّا أن تقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتّى انصرفوا راجعين وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قال الله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ مالت الْأَبْصارُ وشخصت وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فأمّا المنافقون فظنّوا أنّ محمّدا وأصحابه سيغلبون ويستأصلون، وأمّا المؤمنون فأيقنوا أنّ ما وعدهم الله حقّ [من] أنّه سيظهر دينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «1» . واختلف القرّاء في قوله: الظُّنُونَا والرَّسُولَا والسَّبِيلَا، فأثبت الألفات فيها وصلا ووقفا، أهل المدينة والشام وأيّوب وعاصم برواية أبي بكر، وأبو عمر برواية ابن عبّاس. والكسائي برواية قتيبة، قالوا: إنّ ألفاتها ثابتة في مصحف عثمان وسائر مصاحف البلدان. وقرأها أبو عمرو في سائر الروايات وحمزة ويعقوب بغير (ألف) في الحالين على الأصل. وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل، واحتجّوا بأنّ العرب تفعل ذلك في قوافي
أشعارهم ومصاريعها فتلحق بالألف في موضع الفتح عند الوقوف ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات، فحسن إثبات الألف في هذه الحروف لأنّها رؤوس الآي تمثيلا لها بالقوافي. قوله عزّ وجلّ: هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبروا ومحّصوا ليعرف المؤمن من المنافق وَزُلْزِلُوا وحرّكوا وخوّفوا زِلْزالًا تحريكا شَدِيداً وقرأ عاصم الجحدري (زَلْزالًا) بفتح الزاي وهما مصدران. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ يعني معتب بن قشير وأصحابه وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ وضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه، وقال مقاتل: هم من بني سالم يا أَهْلَ يَثْرِبَ يعني المدينة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، ومدينة الرسول (عليه السلام) في ناحية منها. لا مُقامَ لَكُمْ قراءة العامّة بفتح الميم، أي لا مكان لكم تقيمون فيه. وقرأ السّلمي بضم الميم، أي لا إقامة لكم، وهي رواية حفص عن عاصم فَارْجِعُوا إلى منازلكم أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال ابن عبّاس: قالت اليهود لعبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيدي أبي سفيان وأصحابه فارجعوا إلى المدينة فرجعوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة بن الحرث يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي هي خالية [ضائعة] وهي ممّا يلي العدوّ، وإنّا نخشى عليها العدوّ والسرّاق. وقرأ ابن عبّاس وأبو رجاء العطاردي عَوِرَةٌ، بكسر الواو يعني قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة، والعرب تقول: دار فلان عورة، إذا لم تكن حصينة، وقد اعور الفارس إذا بدا فيه خلل الضرب، قال الشاعر: متى تلقهم لا تلقى في البيت معورا ... ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا «1» قال الله تعالى: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ يقول لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة مِنْ أَقْطارِها جوانبها ونواحيها، واحدها قطر وفيه لغة أخرى قطر وأقطار. ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ الشرك لَآتَوْها قراءة أهل الحجاز بقصر الألف، أي لجاءوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا، وقرأ الآخرون بالمدّ، أي لأعطوها. وقالوا: إذا كان سؤال كان إعطاء وَما تَلَبَّثُوا بِها وما احتبسوا عن الفتنة إِلَّا يَسِيراً ولأسرعوا الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم، هذا قول أكثر المفسّرين، وقال الحسن والفراء: وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلّا قليلا حتى يهلكوا وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 إلى 27]
لا يُوَلُّونَ عدوّهم الْأَدْبارَ. وقال يزيد بن دومان: هم بنو حارثة همّوا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها أبدا، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم، وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ، فساق الله ذلك إليهم في ناحية المدينة. وقال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وقالوا له: اشترط لربّك ولنفسك ما شئت، فقال النبي (عليه السلام) : «اشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة» [8] «1» قالوا: قد فعلنا، فذلك عهدهم. وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا قوله عزّ وجلّ: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ الذي كتب عليكم وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا إلى آجالكم، والدنيا كلّها قليل. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً هزيمة أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً نصرة وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 27] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ المثبّطين مِنْكُمْ الناس عن رسول الله صلّى الله عليه وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ تعالوا إِلَيْنا ودعوا محمّدا فلا تشهدوا معه الحرب فإنّا نخاف عليكم الهلاك. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا دفعا وتغديرا. قال قتادة: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم: ما محمّد وأصحابه إلّا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا هذا الرجل فإنّه هالك. قال مقاتل: نزلت في المنافقين، وذلك أنّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين، فقالوا: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنّهم إن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنّا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلمّ إلينا، فأقبل عبد الله بن أبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا: لئن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحدا، ما ترجون من محمّد؟ فو الله ما يريدنا بخير وما عنده خير، ما هو إلّا أن يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلّا إيمانا واحتسابا. وقال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوجد أخاه، وبين يديه شواء ورغيف ونبيذ، فقال له: أنت هاهنا في الشواء والنبيذ والرغيف ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف، فقال له [أخوه] : هلمّ إلى هذا فقد [تبع] بك وبصاحبك، والذي تحلف به لا يستقيلها محمّد أبدا، فقال: كذبت والذي تحلف به، وكان أخوه من أبيه وأمّه، أما والله لأخبرنّ النبي صلّى الله عليه أمرك، فذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليخبره فوجده قد نزل جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآية «1» . قوله: أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء بالخير والنفقة في سبيل الله وعند قسم الغنيمة، وهي نصب على الحال والقطع من قوله: وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا وصفهم الله بالجبن والبخل. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في رؤوسهم من الخوف والجبن كَالَّذِي أي كدوران عين الذي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ عصوكم ورموكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ذربة جمع حديد، ويقال للخطيب الفصيح اللسان الذرب اللسان، مسلق ومصلق وسلاق وصلاق وأصل السلق الضرب. وقال قتادة: يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا فإنّا قد شهدنا معكم القتال فلستم بأحقّ بالغنيمة منّا، فأمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة، وأمّا
عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحقّ. أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ يعني الغنيمة أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. قوله: يَحْسَبُونَ يعني هؤلاء المنافقين الْأَحْزابَ يعني قريشا وغطفان واليهود الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلّى الله عليه ومخالفته أي اجتمعوا، والأحزاب الجماعات واحدهم حزب. لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا عن قتالهم وقد انصرفوا منهم جماعة وفرقا. وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ إن يرجعوا إليكم كرّة ثانية. يَوَدُّوا من الخوف والجبن لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ خارجون إلى البادية فِي الْأَعْرابِ أي معهم يَسْئَلُونَ قراءة العامّة بالتخفيف، وقرأ عاصم الجحدري ويعقوب في رواية رويس وزيد مشدّدة ممدودة بمعنى يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضا. عَنْ أَنْبائِكُمْ أخباركم وما آل إليه أمركم وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ يعني هؤلاء المنافقين ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء من غير حسبة، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا. قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ محمّد صلّى الله عليه أُسْوَةٌ قدوة حَسَنَةٌ قرأ عاصم هاهنا وفي سورة الامتحان (أُسْوَةٌ) بضمّ الألف وقرأهما الآخرون بالكسر وهما لغتان مثل عدوة وعدوة ورشوة ورشوة وكسوة وكسوة. وكان يحيى بن ثابت يكسرها هنا ويضمّ الأخرى. قال أبو عبيد: ولا نعرف بين ما فرّق يحيى فرقا. قال المفسّرون: يعني لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ سنّة صالحة أن تنصروه وتؤازروه ولا تتخلّفوا عنه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان هواه، كما فعل هو إذ كسرت رباعيته، وجرح فوق حاجبة وقتل عمّه حمزة، وأوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم أيضا كذلك واستنّوا بسنّته. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً في الرخاء والبلاء. ثمّ ذكر المؤمنين وتصديقهم بوعود الله تعالى فقال: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. ووعد الله تعالى إيّاهم قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ «1» . وَما زادَهُمْ ذلك إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً.
قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فوفوا به فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ يعني فرغ من نذره ووفى بعهده فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب النذر، والنحب أيضا الموت. قال ذو الرمّة: عشية فر الحارثيون بعد ما ... قضى نحبه من ملتقى القوم هوبر «1» «2» أي مات. قال مقاتل: قَضى نَحْبَهُ يعني أجله، فقتل على الوفاء، يعني حمزة وأصحابه. وقيل: قَضى نَحْبَهُ أي [أجهده] في الوفاء بعهده من قول العرب: نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع [إذا مد] «3» فلم ينزل. قال جرير: [بطخفة] جالدنا الملوك وخيلنا ... عشية بسطام جرين على نحب «4» وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة وَما بَدَّلُوا قولهم وعهدهم ونذرهم تَبْدِيلًا. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا نهر بن أسد عن سليمان بن المغيرة عن أنس قال: وأخبرنا أحمد بن عبد الله المرني، عن محمد بن عبد الله بن سليمان، عن محمد بن العلاء عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد عن أنس قال: غاب عمّي أنس بن النضر- وبه سميت أنس- عن قتال بدر فشقّ عليه لما قدم وقال: غبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه، والله لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالا ليرينّ الله ما أصنع. قال: فلمّا كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء المشركون، وأعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء، يعني المسلمين، ثمّ مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ، فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إنّي لأجد ريح الجنّة دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس، فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، وقد مثّلوا به، وما عرفناه حتى عرفته أخته بثناياه، ونزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. قال: فكنا نقول: نزلت فيه هذه الآية وفي أصحابه. وأخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد ابن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد الترمذي، عن صالح بن محمد، عن سليمان بن
حرب، عن حزم، عن عروة عن عائشة في قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قالت: منهم طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه حتى أصيبت يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه: أوجب طلحة الجنّة. وبإسناده عن صالح عن مسلم بن خالد عن عبد الله بن أبي نجيح أنّ طلحة بن عبيد الله يوم أحد كان محتصنا للنبيّ (عليه السلام) في الخيل وقد بهر النبيّ صلّى الله عليه قال: فجاء سهم عابر متوجّها إلى النبيّ صلّى الله عليه فاتّقاه طلحة بيده فأصاب خنصره فقال: [حس] ثمّ قال: بسم الله، فقال النبيّ (عليه السلام) : «لو أنّ بها بدأت لتخطفتك الملائكة حتى تدخلك الجنّة» «1» . وروى معاوية بن إسحاق، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: إنّي لفي بيتي ورسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في الفناء وبيني وبينهم الستر إذ أقبل طلحة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قَضى نَحْبَهُ فلينظر إلى طلحة» [9] «2» . وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد بن سليمان بن بابويه بن قهرويه قال: أخبرني أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي، عن محمد ابن عبّاد الواسطي، عن مكي بن إبراهيم، عن الصلت بن دينار، عن ابن نضر، عن جابر، عن أبي عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: «من سرّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله» . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش وغطفان بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً نصرا وظفرا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالملائكة والريح وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً. قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ يعني عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأهل الإيمان وهم بنو قريظة، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمّا أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم، وانصرف (عليه السلام) والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة، ووضعوا السلاح، فلمّا كان الظهر أتى جبرائيل رسول الله صلّى الله عليه [معتما] بعمامة من إستبرق على بغلة عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش، وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقّة فقال: قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال:
نعم، قال جبرائيل: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلّا من طلب القوم، إنّ الله يأمرك يا محمّد بالسير إلى بني قريظة [وأنا عامد إلى بني قريظة] فانهض إليهم، فإنّي قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مناديا، فأذّن إنّ من كان سامعا مطيعا لا يصلّين العصر إلّا في بني قريظة. وقدّم رسول الله صلّى الله عليه عليّ بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس فسار علي ابن أبي طالب حتّى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة [على] رسول الله صلّى الله عليه منهم، فرجع حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه بالطريق وقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: لم؟ أظنّك سمعت لي منهم أذى. قال: نعم يا رسول الله، قال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلمّا دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا. ومرّ رسول الله صلّى الله عليه على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال: هل مرّ بكم أحد؟ فقالوا: يا رسول الله لقد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ذاك جبرائيل بعث إلى بني قريظة، يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم، فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها يراقا، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلّوا العصر، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يصلّين أحدكم العصر إلّا في بني قريظة، فصلّوا العصر بها بعد صلاة العشاء الآخرة، فما عابهم الله بذلك في كتابه، ولا عنّفهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم «1» . قال: وحاصرهم رسول الله خمسا وعشرين ليلة حتّى جهدهم الحصار وَقَذَفَ الله فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وقال كعب بن أسد بما كان عاهده، فلمّا أيقنوا بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر اليهود إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاث، فخذوا أيّها شئتم، فقالوا: وما هنّ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدّقه فو الله لقد تبيّن لكم أنّه نبي مرسل، وأنّه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالا
مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين فلا خير في العيش بعدهم. قال: فإن أبيتم على هذه فإنّ الليلة ليلة السبت، وأنّه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلّنا أن نصيب من محمّد وأصحابه غرّة، قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ممّن قد علمت، فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه بليلة واحدة من الدهر حازما. قال: ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف- وكانوا حلفاء الأوس- نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله صلّى الله عليه إليهم، فلمّا رأوه قام إليه الرجال ونهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرقّ لهم، وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنّه الذبح. قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتّى يتوب الله عليّ ممّا صنعت، وعاهد الله لا يطأ بني قريظة، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا. فلمّا بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، فأمّا إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتّى يتوب الله عليه، ثمّ إنّ الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في بيت أمّ سلمة وقالت أمّ سلمة: فسمعت رسول الله صلّى الله عليه من السّحر يضحك فقلت: ممّ ضحكت يا رسول الله أضحك الله سنّك؟ قال: تيب على أبي لبابة، فقالت: ألا أبشّره بذلك يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب الحجاب عليهن. فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فسار إليه الناس ليطلقوه، فقال: لا والله حتّى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده. فلمّا مرّ عليه خارجا إلى الصبح أطلقه. قال: ثمّ إنّ ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هزل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك وهم بنو عم القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمرّ بحرس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري في تلك الليلة، فلمّا رآه قال: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وقال: لا أغدر بمحمّد أبدا، فقال محمّد بن مسلمة حين عرفه: اللهمّ لا تحرمني
عشرات الكرام، ثمّ خلّى سبيله، فخرج على وجهه، حتّى بات في مسجد رسول الله صلّى الله عليه بالمدينة تلك الليلة، ثمّ ذهب فلا يدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا، فذكر لرسول الله صلّى الله عليه شأنه فقال: ذاك رجل نجّاه الله بوفائه. وبعض الناس يزعم أنّه أوثق برمّة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه، فأصبحت رمّته ملقاة لا يدرى أين ذهب، فقال رسول الله صلّى الله عليه تلك المقالة والله أعلم. فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وتواثبت الأوس، فقالوا: يا رسول الله إنّهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه فسألهم إيّاه عبد الله بن أبي سلول فوهبهم له، فلمّا كلّمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم» ؟ قالوا: بلى. قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ» [10] «1» . وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين، يقال لها (رفيدة) في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، وتحبس نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين. وكان رسول الله صلّى الله عليه قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» [11] «2» . فلمّا حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فاحتملوه على حمار، وقد وطئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنّما ولّاك ذاك لتحسن فيهم، فلمّا أكثروا عليه قال: قد أتى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه. فلمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه قال: قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه. فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ولّاك مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيها ما حكمت؟ قالوا: نعم، قال: وعليّ من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالا له، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: نعم. قال سعد: فإنّي أحكم فيهم، أن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى النساء والذراري،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة، ثمّ استنزلوا فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجّار، ثمّ خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خندقا ثمّ بعث إليهم فضرب أعناقهم، فهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدوّ الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول: كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة. وقيل: قالوا لكعب بن أسد وهو يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أرسالا: يا كعب ما ترى أن يصنع بنا؟ فقال كعب: في كلّ موطن لا تعقلون! ألا ترون أنّ الداعي لا ينزع وأنّ من يذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل. فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم رسول الله صلّى الله عليه وأتي بحيي بن أخطب عدوّ الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة [أنملة أنملة] لئلّا يسلبها، مجموعه يداه إلى عنقه بحبل، فلمّا نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنّه من يخذل الله يخذل، ثمّ أقبل على الناس، فقال: أيّها الناس، إنّه لا بأس بأمر الله، كتاب الله وقدره، وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثمّ جلس فضربت عنقه فقال هبل «1» بن حواس [الثعلبي] «2» : لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل يجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل يغبي العز كل مقلقل «3» وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت: لم يقتل من نساء بني قريظة إلّا امرأة واحدة، قالت: والله إنّها لعندي تتحدّث معي وتضحك ظهرا، ورسول الله صلّى الله عليه يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله. قالت: قلت: ويلك ما لك؟ قالت: أقتل. قلت: ولم؟ قالت: حدث أحدثته. قال: فانطلق بها فضربت عنقها، وكانت عائشة تقول: ما أنسى كذا عجبا منها طيب نفس، وكثرة ضحك، وقد عرفت أنّها تقتل. قال الواقدي: واسم تلك المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي، وكانت قد قتلت خلّاد بن سويد، رمت عليه رحا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بها وضربت عنقها بخلّاد بن سويد، وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس هناك. وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أنّ الزبير بن باطا القرظي- وكان يكنى أبا عبد الرحمن- كان قد منّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بغاث أخذه فجرّ ناصيته، ثمّ خلّى سبيله، وجاءه يوم قريظة، وهو شيخ كبير فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟
فقال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال: إنّي قد أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إنّ الكريم يجزي الكريم، قال: ثمّ أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه فقال: يا رسول الله قد كان للزبير عندي يد وله عليّ منّة، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه، فقال رسول الله صلّى الله عليه: «هو لك» . فأتاه فقال له: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك. فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أهله وولده؟ فقال: «هم لك» . فأتاه فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك. فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله فقال: يا رسول الله ماله. فقال: هو لك، فأتاه فقال: إنّ رسول الله قد أعطاني مالك فهو لك. فقال أي ثابت: ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد قال: قتل. قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل مقدمنا إذا شددنا، وحامينا إذا كررنا أعزال ابن سموأل؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قال: ذهبوا قتلوا، قال: وإنّي اسألك بيدي عندك يا ثابت إلّا ألحقتني بالقوم، فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فها أنا صابر لله حتى ألقى الأحبّة، فقدّمه ثابت فضرب عنقه، فلمّا بلغ قوله أبا بكر ألقى الأحبّة، فقال: يلقاهم والله في نار جهنّم خالدا فيها مخلّدا أبدا، فقال ثابت بن قيس في ذلك: وفت ذمّتي إني كريم وإنّني ... صبور إذا ما القوم حادوا عن الصبر وكان زبير أعظم الناس منّة ... عليّ فلما شد كوعاه بالأسر أتيت رسول الله كي ما أفكّه ... وكان رسول الله بحرا لنا يجري «1» قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه قد أمر بقتل من أسر منهم، فسألته سليمى بنت قيس أمّ المنذر أخت سليط بن قيس- وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وكانت قد صلّت معه القبلتين وبايعته بيعة النساء- رفاعة بن سموأل القرظي وكان رجلا قد بلغ، فلاذ بها وكان يعرفها قبل ذلك فقالت: يا نبي الله بأبي أنت وأمّي هب لي رفاعة بن سموأل، فإنّه زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها [فاستحيته] «2» قالوا: ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه قسّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان للخيل وسهمان للرجال، وأخرج منها الخمس، وكان للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللفارس سهم «3» ، وللرّاجل ممّن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستّة وثلاثون فرسا،
وكان أوّل فيء وقع فيه السهمان، وأخرج منه الخمس فعلى سنتها وما مضى من رسول الله فيها وقعت المقاسم ومضت السنّة في المغازي، ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلا وسلاحا. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن حنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلّى الله عليه حتى توفّي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه يحرص أن يتزوّجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملك فهو أخفّ عليّ وعليك فتركها، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلّا اليهودية، فعزلها رسول الله صلّى الله عليه ووجد في نفسه بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إنّ هذا لثعلبة بن شعبة يبشّرني بإسلام ريحانة، فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسّره ذلك. فلمّا انقضى شأن بني قريظة الفجر خرج سعد بن معاذ، وذلك أنّه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال: اللهمّ إنّك قد علمت أنّه لم يكن قوم أحبّ إليّ من أن أجاهدهم من قوم كذّبوا رسولك، اللهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها، وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضرب عليه في المسجد. قالت عائشة: فحضره رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فو الذي نفس محمّد بيده إنّي لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإنّي لفي حجرتي، قالت: وكانوا كما قال الله عزّ وجلّ: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «1» . قال علقمة: [أي أمّه] «2» كيف كان يصنع رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: كانت عينه لا تدمع على أحد، ولكنّه كان إذا اشتدّ وجده فإنّما هو آخذ بلحيته، قال محمّد بن إسحاق: لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلّا ستّة نفر، وقتل من المشركين ثلاثة نفر، وقتل يوم قريظة من المسلمين خلّاد بن سويد بن ثعلبة طرحت عليه رحى فشدخته فقط «3» . ولمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه من الخندق وقريظة قال: الآن نغزوهم- يعني قريشا- ولا يغزوننا، فكان كذلك حتّى فتح الله على رسوله مكّة ، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس للهجرة فذلك قوله الله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 إلى 32]
أي حصونهم ومعاقلهم، واحدها صيصية، ومنه قيل لقرن البقر صيصية، ولشوكة الديك والحاكة صيصية، وقال الشاعر: كوقع الصياصي في النسيج الممدد «1» وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم النساء والذراري وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد. قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني خيبر. قتادة: كنّا نحدّث أنّها مكّة. قال الحسن: فارس والروم. عكرمة: كلّ أرض تفتح إلى يوم القيامة. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 32] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ متعة الطلاق وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فأطعتنهما فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً قال المفسّرون: كان أزواج النبي صلّى الله عليه سألنه شيئا من عرض الدنيا وآذينه بزيادة النفقة والغيرة، فهجرهن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وآلى أن لا يقربهن شهرا، ولم يخرج إلى أصحابه صلوات، فقالوا: ما شأنه؟ فقال عمر: إن شئتم لأعلمن لكم ما شأنه، فأتى النبي (عليه السلام) فجعل يتكلّم ويرفع صوته حتى أذن له، قال: فجعلت أقول في نفسي: أيّ شيء أكلّم به رسول الله صلّى الله عليه لعلّه ينبسط؟ فقلت: يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة، فصككتها صكّة فقال: ذلك أجلسني عنكم. فأتى عمر حفصة فقال: لا تسألي رسول الله شيئا ما كانت لك من حاجة فإليّ، قال: ثمّ تتبّع نساء النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يكلّمهنّ، فقال لعائشة: أيعزّك أنّك امرأة حسناء وأنّ زوجك يحبّك لتنتهن أو لينزلن فيكنّ القرآن، قال: فقالت له أمّ سلمة: يا بن الخطّاب أو ما بقي لك إلّا أن تدخل بين رسول الله وبين نسائه؟! من يسأل المرأة إلّا زوجها؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات. وكانت تحت رسول الله صلّى الله عليه يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش عائشة بنت أبي
بكر، وحفصة بنت عمر، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأمّ سلمة بنت أبي أمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحرث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحرث المصطلقية، فلمّا نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلّى الله عليه بعائشة، وكانت أحبّهنّ إليه، فخيّرها وقرأ عليها القرآن، فاختارت اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلّى الله عليه وتابعنها على ذلك. قال قتادة: فلمّا اخترن الله ورسوله، شكرهنّ الله على ذلك، وقصره عليهن وقال: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) الآية. أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن الحسين عن أحمد بن يوسف عن عبد الرزّاق عن معمر، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لمّا مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه فقلت: يا رسول الله، إنّك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وإنّك قد دخلت عليّ من تسع وعشرين أعدّهن، فقال: إنّ الشهر تسع وعشرون، ثمّ قال: يا عائشة إنّي ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: ثمّ قرأ عليّ هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا حتى بلغ أَجْراً عَظِيماً. قالت عائشة: قد علم والله إنّ أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت: في هذا أستامر أبويّ؟ فإنّي أريد اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قال معمر: فحدّثني أيّوب أنّ عائشة قالت: لا تخبر أزواجك انّي اخترتك، فقال النبي صلّى الله عليه: إنّما بعثني الله مبلّغا ولم يبعثني متعنّتا. وأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون عن [أحمد بن محمّد بن الحسن] «1» عن محمد بن يحيى عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن [أبي] «2» سلمة أنّ عائشة قالت: لمّا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: إنّي مخبرك خبرا فلا عليك أن لا تعجلي حتّى تستأمري أبويك، ثمّ قال: إنّ الله عزّ وجلّ قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا حتّى بلغ أَجْراً عَظِيماً. فقلت: أفي هذا أستأمر أبويّ؟ فإنّي أريد اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ. قالت: ثمّ فعل أزواج النبيّ صلّى الله عليه مثل ما فعلت. قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ قرأ الجحدري بالتاء. غيره بالياء. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بمعصية ظاهرة يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ في الآخرة ضِعْفَيْنِ وقرأ ابن عامر وابن كثير: نضعّف بالنون وكسر العين مشدّدا من غير ألف (الْعَذابَ) نصبا.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب يضعّف بالياء وفتح العين مشدّدا الْعَذابُ رفعا. قال أبو عمرو: إنّما قرأت هذه وحدها بالتشديد لقوله: ضِعْفَيْنِ وقرأ الباقون نضاعف بالألف ورفع الباء من الْعَذابُ وهما لغتان مثل باعد وبعد. وقال أبو عمرو وأبو عبيدة: ضعفت الشيء إذا جعلته مثله، ومضاعفته جعلته أمثاله. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً قوله: وَمَنْ يَقْنُتْ يطع. قال قتادة: كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة [وقراءة العامة تقنت بالتاء] «1» وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف (يعمل) (يؤتها) بالياء. غيرهم بالتاء. قال الفراء: إنّما قال (يَأْتِ) (ويَقْنُتْ) لأنّ من أداة تقوم مقام الاسم يعبّر به عن الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث. قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ «2» . وقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ «3» ، وقال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ «4» . وقال الفرزدق في الاثنين: تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... تكن مثل من يا ذئب يصطحبان «5» مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ أي مثلي غير هن من النساء. وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً يعني الجنّة. أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمد بن عمران بن هارون، عن أحمد بن منيع، عن يزيد، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت عن أبي رافع قال: كان عمر يقرأ في صلاة الغداة بسورة يوسف والأحزاب، فإذا بلغ: يا نِساءَ النَّبِيِّ رفع بها صوته، فقيل له، فقال: أذكّرهنّ العهد. واختلف العلماء في حكم التخيير، فقال عمر وابن مسعود: إذا خيّر الرجل امرأته فاختارت زوجها فلا شيء عليه، وإن اختارت نفسها [طلّقت] «6» وإلى هذا ذهب مالك. وقال الشافعي: إن نوى الطلاق في التخيير كان طلاقا وإلّا فلا. واحتجّ من لم يجعل التخيير بنفسه طلاقا، بقوله: وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا، وبقول عائشة: خيّرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاخترناه، فلم نعدّه طلاقا.
[سورة الأحزاب (33) : آية 33]
قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ الله فأطعتنه. قال الفرّاء: لم يقل كواحدة، لأنّ الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنث. قال الله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» وقال: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «2» . فَلا تَخْضَعْنَ تلنّ بِالْقَوْلِ للرجال فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وضعف إيمان وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً صحيحا جميلا. [سورة الأحزاب (33) : آية 33] وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بفتح القاف. غيرهم بالكسر، فمن فتح القاف فمعناه واقررن، أي الزمن بيوتكنّ، من قولك قررت في المكان، أقرّ قرارا. وقررت أقرّ لغتان فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل ونقلت حركتها إلى القاف فانفتحت كقولهم في ظللت وظلت. قال الله تعالى: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ «3» ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً «4» والأصل ظللت فحذفت إحدى اللّامين، ودليل هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة واقررن بفتح الراء على الأصل في لغة من يقول: قررت أقرّ قرارا. وقال أبو عبيدة: وكان أشياخنا من أهل العربية ينكرون هذه القراءة وهي جائزة عندنا مثل قوله: فَظَلْتُمْ ومن كسر القاف فهو أمر من الوقار كقولك من الوعد: عدن ومن الوصل صلن، أي كنّ أهل وقار أي هدوء وسكون وتؤدة من قولهم: وقر فلان يقر وقورا إذا سكن واطمأن. أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري قال: أخبرني أبو بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثني أبي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش عن أبي الضحى قال: حدّثني من سمع عائشة تقرأ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فتبكي حتّى تبلّ خمارها. أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد، عن داود بن سليمان، عن عبد الله بن حميد، عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن محمد قال: نبئت أنّه قيل لسودة زوج النبي (عليه السلام) : ما لك لا تحجّين ولا تعتمرين كما يفعلنّ أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله تعالى أن أقرّ في بيتي، فو الله لا أخرج من بيتي حتّى أموت.
قال: فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. قوله: وَلا تَبَرَّجْنَ قال مجاهد وقتادة: التبرّج التبختر التكبّر والتغنّج وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى واختلفوا فيها. قال الشعبي: هي ما بين عيسى ومحمّد (عليهما السلام) . أبو العالية: هي زمن داود وسليمان وكانت المرأة تلبس قميصا من الدرّ غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه. الكلبي: الجاهلية التي هي الزمان الذي فيه ولد إبراهيم (عليه السلام) ، وكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتّخذ الدّرع من اللؤلؤ فتلبسه ثمّ تمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره، وتعرض نفسها على الرجال، وكان ذلك في زمان نمرود الجبّار، والناس حينئذ كلّهم كفّار. الحكم: هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان. فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها. وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ هذه الآية فقال: إنّ الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس (عليهما السلام) ، وكانت ألف سنة، وإنّ بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحا وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة، وإنّ إبليس أتى رجلا من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه، فكان يخدمه، واتّخذ إبليس شيئا مثل الذي يزمر فيه الرّعاء، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم، فانتابوه يستمعون إليه، واتّخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرّج النساء للرجال وتتزيّن الرجال لهنّ، وإنّ رجلا من أهل الجبل هجم عليهم، وهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحوّلوا إليهم فنزلوا معهم، فظهرت الفاحشة فيهنّ. فهو قول الله عزّ وجلّ: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ. وقال قتادة: هي ما قبل الإسلام وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الإثم الذي نهى الله النساء عنه. قاله مقاتل. وقال قتادة: يعني السوء. وقال ابن زيد: يعني الشيطان. أَهْلَ الْبَيْتِ يعني يا أهل بيت محمّد وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً من نجاسات الجاهلية. وقال مجاهد (الرِّجْسَ) الشكّ (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) من الشرك. واختلفوا في المعنيّ بقوله سبحانه أَهْلَ الْبَيْتِ فقال قوم: عنى به أزواج النبي (عليه السلام) خاصّة، وإنّما ذكّر الخطاب لأنّ رسول الله صلّى الله عليه كان فيهم وإذا اجتمع المذكّر والمؤنّث غلب المذكّر. أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن جعفر، عن الحسن بن علي بن عفّان قال: أخبرني أبو يحيى، عن صالح بن موسى عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: أنزلت
هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الآية في نساء النبيّ صلّى الله عليه. قال: وتلا عبد الله: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ «1» . وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة عن الحماني عن ابن المبارك عن الأصبغ بن علقمة. وأنبأني عقيل بن محمد قال: أخبرني المعافى ابن زكريا عن محمّد بن جرير قال: أخبرني [ابن] «2» حميد عن يحيى بن واضح عن الأصبغ بن علقمة، عن عكرمة في قول الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال: ليس الذي تذهبون إليه، إنّما هو في أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم خاصّة. قال: وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق. وإلى هذا ذهب مقاتل قال: يعني نساء النبي صلّى الله عليه كلّهن ليس معهنّ رجل. «3»
وقال آخرون: عنى به رسول الله صلّى الله عليه عليا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم. وأخبرني عقيل بن محمّد الجرجاني عن المعافى بن زكريا البغدادي، عن محمّد بن جرير، حدّثني بن المثنى عن بكر بن يحيى بن ريان الغبري، عن مسدل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نزلت هذه الآية فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» [12] «1» . وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن أبي عبد الله بن نمير، عن عبد الملك يعني ابن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح، حدّثني من سمع أمّ سلمة تذكر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك، قالت: فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الحجرة أصلّي فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنّك إلى خير. وأخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي، عن عمر بن الخطّاب، عن عبد الله بن الفضل، عن الحسن بن علي، عن يزيد بن هارون، عن العوّام بن حوشب، حدّثني ابن عمّ لي
من بني الحرث بن تيم الله يقال له: (مجمع) ، قال: دخلت مع أمّي على عائشة، فسألتها امّي، فقالت: أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنه كان قدرا من الله سبحانه، فسألتها عن علي، فقالت: تسأليني عن أحبّ النّاس كان إلى رسول الله صلّى الله عليه، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله، لقد رأيت عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا جمع رسول الله صلّى الله عليه بثوب عليهم ثمّ قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. قالت: فقلت: يا رسول الله أنا من أهلك؟ قال: تنحّي فإنّك إلى خير. وأخبرني الحسين بن محمّد عن أبي حبيش المقرئ قال: أخبرني أبو القاسم المقرئ قال: أخبرني أبو زرعة، حدّثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة، أخبرني ابن أبي فديك حدّثني ابن أبي مليكة عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر الطيّار عن أبيه، قال: لمّا نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الرحمة هابطة من السماء قال: من يدعو؟ مرّتين، فقال زينب «1» : أنا يا رسول الله، فقال: أدعي لي عليّا وفاطمة والحسن والحسين. قال: فجعل حسنا عن يمناه وحسينا عن يسراه وعليّا وفاطمة وجاهه ثمّ غشاهم كساء خيبريّا. ثمّ قال: اللهم لكلّ نبيّ أهل، وهؤلاء أهلي، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ الآية. فقالت زينب: يا رسول الله ألا أدخل معكم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه: «مكانك فإنّك إلى خير إن شاء الله» [13] «2» . وأخبرني الحسين بن محمد عن عمر بن الخطّاب عن عبد الله بن الفضل قال: أخبرني أبو بكر بن أبي شيبة عن محمّد بن مصعب عن الأوزاعي، عن عبد الله بن أبي عمّار قال: دخلت على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليّا فشتموه فشتمته، فلمّا قاموا قال لي: أشتمت هذا الرجل؟ قلت: قد رأيت القوم قد شتموه فشتمته معهم. فقال: ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه؟ قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت: توجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه فجلست فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومعه علي والحسن والحسين كلّ واحد منهما آخذ بيده حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كلّ واحد منهما على فخذه، ثمّ لفّ عليهم ثوبه أو قال كساءه، ثمّ تلا هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ثمّ قال: اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ.
وقيل: هم بنو هاشم. أخبرني ابن فنجويه عن ابن حبيش المقرئ عن محمّد بن عمران قال: حدّثنا أبو كريب قال: أخبرني وكيع عن أبيه عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنشدكم الله في أهل بيتي مرّتين، قلنا لزيد بن أرقم ومن أهل بيته؟ قال: الذين يحرمون الصدقة آل علي وآل عبّاس وآل عقيل وآل جعفر. وأخبرني أبو عبد الله، قال: أخبرني أبو سعيد أحمد بن علي بن عمر بن حبيش الرازي عن أحمد بن عبد الرحمن الشبلي أبو عبد الرحمن قال: أخبرني أبو كريب عن معاوية بن هشام عن يونس بن أبي إسحاق عن نفيع أبي داود عن أبي الحمراء قال: أقمت بالمدينة تسعة أشهر كيوم واحد، وكان رسول الله صلّى الله عليه يجيء كلّ غداة فيقوم على باب علي وفاطمة فيقول الصلاة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. وأخبرني أبو عبد الله، حدّثني عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن محمّد بن إبراهيم ابن زياد الرازي، عن الحرث بن عبد الله الخازن، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية ابن الربعي، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قسّم الله الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ «1» فأنا خير أصحاب اليمين» . ثمّ جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا، فذلك قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ «2» فأنا من السابقين [وأنا من خير السابقين] ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ «3» الآية، وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر. ثمّ جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [14] «4» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 34 إلى 38]
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 34 الى 38] وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ السنّة، عن قتادة، وقال مقاتل: أحكام القرآن ومواعظه إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً. وقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً. وقوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية. وذلك أنّ أزواج النبي صلّى الله عليه قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به، إنّا نخاف أن لا تقبل منّا طاعة، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. وقال مقاتل: قالت أمّ سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلّى الله عليه: ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه؟ نخشى أن لا يكون فيهنّ خير ولا لله فيهنّ حاجة، فنزلت هذه الآية. روى عثمان بن حكم عن عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أمّ سلمة زوج النبي (عليه السلام) تقول: قلت للنبي (عليه السلام) : يا رسول الله ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قلت: فلم يرعني ذات يوم ظهرا إلّا بدواة على المنبر وأنا أسرح رأسي فلفقت شعري ثمّ خرجت إلى حجرة من حجر بيتي فجعلت سمعي عند الجريدة، فإذا هو يقول على المنبر: يا أيّها الناس إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... إلى قوله: وَأَجْراً عَظِيماً. وقال مقاتل بن حيان: بلغني أنّ أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، فدخلت على نساء رسول الله صلّى الله عليه فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن؟ قلن: لا، فأتت رسول الله صلّى الله عليه فقالت: يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار، قال رسول الله صلّى الله عليه: وممّ ذلك؟ قالت: لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلى آخر الآية. أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي «1» عن إبراهيم بن سعيد، عن عبيد الله عن شيبان، عن الأعمش، عن علي بن الأرقم، عن الأغر أبي مسلم، عن أبي سعيد وأبي هريرة
قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه: من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصلّيا جميعا ركعتين كتبا من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ. وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد، عن صالح بن محمد عن سليمان بن عمرو، عن حنظلة التميمي، عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عبّاس قال: جاء إسرافيل إلى النبيّ صلّى الله عليه فقال: قل يا محمّد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلّا بالله عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم، من قالها كتبت له ستّ خصال، كتب من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً، وكان أفضل ممّن ذكره الليل والنهار، وكان له غرس في الجنّة، وتحاتت عنه ذنوبه كما تتحات ورق الشجر اليابسة، ونظر الله إليه، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه. وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا. قال عطاء بن أبي رباح: من فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ومن أقرّ بأنّ الله ربّه، وأنّ محمّدا رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله: وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنّة فهو داخل في قوله: وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله: وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ومن صلّى فلم يعرف من عن يمينه ويساره فهو داخل في قوله: وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزيّة فهو داخل في قوله: وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ومن تصدّق في كلّ اسبوع بدرهم فهو داخل في قوله: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ومن صام في كلّ شهر أيّام البيض، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله: وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ومن حفظ فرجه عمّا لا يحلّ فهو داخل في قوله: وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ومن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. قوله عزّ وجلّ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية. نزلت في زينب بنت جحش بن رئاب ابن النعمان بن حبرة بن مرّة بن غنم بن دودان الأسدية، وأخيها عبد الله بن جحش، وكانت زينب بنت آمنة بنت عبد المطلب عمّة النبي صلّى الله عليه وسلم، فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشترى زيدا في الجاهلية من عكاظ، وكان من سبي الجاهلية فأعتقه وتبنّاه، فكان زيد عربيّا في الجاهلية مولى في الإسلام. فلمّا خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب رضيت، [ورأت] أنّه يخطبها على نفسه فلمّا علمت أنّه يخطبها على زيد أبت وأنكرت وقالت: أنا أتمّ نساء قريش وابنة عمّتك، فلم أكن لأفعل يا رسول الله ولا أرضاه لنفسي، وكذلك قال أخوها عبد الله، وكانت زينب بيضاء جميلة، وكانت فيها حدة فأنزل الله عزّ وجلّ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ يعني عبد الله بن جحش وزينب أخته
إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ قرأ أهل الكوفة وأيّوب بالياء واختاره أبو عبيد قال: للحائل بين التأنيث والفعل، وكذلك روى هاشم عن أهل الشام وقرأ الباقون بالتاء «1» . لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي الاختيار وقراءة العامّة (الْخِيَرَةُ) بكسر الخاء وفتح الياء، وقرأ ابن السميقع بسكون الياء وهما لغتان مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً فلمّا نزلت هذه الآية قالت: قد رضيت يا رسول الله، وجعلت أمرها بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيدا، فدخل بها، وساق إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وكانت أوّل من هاجر من النساء، ف وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم، فقال: قد قبلت، فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنّما أردنا رسول الله صلّى الله عليه فزوّجنا عبده فأنزل الله عزّ وجلّ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الآية. وذلك أنّ زينب مكثت عند زيد حينا، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه أتى زيدا ذات يوم لحاجة، فأبصرها قائمة في درع وخمار فأعجبته، وكأنّها وقعت في نفسه فقال: سبحان الله مقلّب القلوب! وانصرف. فلمّا جاء زيد، ذكرت ذلك له ففطن زيد، كرهت إليه في الوقت، فألقي في نفس زيد كراهتها، فأراد فراقها، فأتى رسول الله صلّى الله عليه فقال: إنّي أريد أن أفارق صاحبتي. قال: ما لك؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلّا خيرا، ولكنّها تتعظّم عليّ بشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي (عليه السلام) : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، ثمّ إنّ زيدا طلّقها بعد ذلك، فلمّا انقضت عدّتها، قال رسول الله صلّى الله عليه لزيد: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك. أئت زينب فاخطبها عليّ. قال زيد: فانطلقت، فإذا هي تخمّر عجينها، فلمّا رأيتها، عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذكرها فولّيتها ظهري، وقلت: يا زينب أبشري فإنّ رسول الله يخطبك، ففرحت بذلك وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها وأنزل القرآن زَوَّجْناكَها فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى امتد النهار ، فذلك قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإسلام وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإعتاق وهو زيد بن حارثة أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني زينب بنت جحش وكانت ابنة عمّة النبي صلّى الله عليه.
وَاتَّقِ اللَّهَ فيها وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ أن لو فارقها تزوّجتها. قال ابن عبّاس: حبّها. وقال قتادة: ودّ أنّه لو طلّقها. وَتَخْشَى النَّاسَ قال ابن عبّاس والحسن: تستحيهم، وقيل: وتخاف لائمة الناس أن يقولوا أمر رجلا بطلاق امرأته ثمّ نكحها حين طلّقها. وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قال عمر وابن مسعود وعائشة: ما نزلت على رسول اله صلّى الله عليه آية هي أشدّ عليه من هذه الآية. وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي عن الفضل بن الفضل الكندي قال: أخبرني أبو العبّاس الفضل بن عقيل النيسابوري، عن محمد بن سليمان قال: أخبرني أبو معاوية عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: لو كتم النبيّ صلّى الله عليه وسلم شيئا ممّا أوحي إليه لكتم هذه الآية وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ. وقد روي عن زين العابدين في هذه الآية ما أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه عن طلحة بن محمد وعبد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: قال أبو بكر بن مجاهد عن بن أبي مهران، حدّثني محمد بن يحيى أبي عمر العرني، عن سفيان بن عيينة قال: سمعناه من علي بن زيد بن زيد بن جدعان يبديه ويعيده قال: سألني علي بن الحسين: ما يقول الحسن في قوله عزّ وجلّ: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ (وَتَخْشَى النَّاسَ) وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ؟ فقلت يقول: لما جاء زيد إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله إنّي أريد أن أطلّق زينب، فأعجبه ذلك، قال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ قال علي بن الحسين: ليس كذلك، كان الله عزّ وجلّ قد أعلمه أنّها ستكون من أزواجه فإنّ زيدا سيطلّقها فلمّا جاء زيد قال: إنّي أريد أن أطلّق زينب، فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ. يقول: فلم قلت: أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك. وهذا التأويل مطابق للتلاوة وذلك أنّ الله عزّ وجلّ حكم واعلم إبداء ما أخفى، والله لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ، ثمّ لم نجده عزّ وجلّ أظهر من شأنه غير التزويج بقوله: زَوَّجْناكَها. فلو كان أضمر رسول الله صلّى الله عليه محبّتها، أو أراد طلاقها، لكان لا يجوز على الله تعالى كتمانه مع وعده أن يظهره، فدلّ ذلك على أنّه (عليه السلام) إنّما عوتب على قوله: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ مع علمه بأنّها ستكون زوجته، وكتمانه ما أخبره الله سبحانه به حيث استحيا أن يقول لزيد: إنّ التي تحتك ستكون امرأتي والله أعلم. وهذا قول حسن مرضي قوي، وإن كان القول الآخر لا يقدح في حال النبيّ صلّى الله عليه، لأنّ العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه لمأثم. قوله: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي حاجته من نكاحها زَوَّجْناكَها فكانت زينب تفخر على نساء النبي (عليه السلام) فتقول: أنا أكرمكنّ وليّا، وأكرمكنّ سفيرا، زوجكن أقاربكن وزوّجني الله عزّ وجلّ.
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال: أخبرنا أبو العبّاس الدغولي قال: أخبرني أبو أحمد محمد ابن عبد الوهاب ومحمد بن عبيد الله بن قهراذ جميعا، عن جعفر [بن محمّد] بن عون، عن المعلى بن عرفان عن محمّد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة، وقالت زينب: أنا التي نزل تزوّجي من السماء، فقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت زينب: وما قلت حين ركبتها؟ قالت: قلت: حسبي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ قالت: كلمة المؤمنين. وأنبأني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا أخبره عن محمد بن جرير، عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبيّ (عليه السلام) : إنّي لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ «1» بهن: جدّي وجدّك واحد، وإنّي أنكحنيك الله في السماء، وإنّ السفير لجبرائيل «2» . قوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوه إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً بالنكاح وطلقوهن أو ماتوا عنهن. قال الحسن: كانت العرب تظنّ أنّ حرمة المتبنى مشبّكة كاشتباك الرحم، فميّز الله تعالى بين المتبنى وبين الرحم فأراهم أنّ حلائل الأدعياء غير محرّمة عليهم لذلك قال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ «3» فقيّد وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا كائنا لا محالة، وقد قضى في زينب أن يتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه. قوله: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ أحل الله لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ أي كسنّة الله، نصب بنزع حرف الخافض، وقيل: فعل سنّة الله، وقيل: على الإغراء، أي ابتغوا سنّة الله في الأنبياء الماضين، أي لا يؤاخذهم بما أحلّ لهم. وقال الكلبي ومقاتل: أراد داود (عليه السلام) ، حين جمع الله بينه وبين المرأة التي هواها، فكذلك جمع بين محمد وزينب حين هواها، وقيل: الإشارة بالسنة إلى النكاح، وإنّه من سنّة الأنبياء وقيل: إلى كثرة الأزواج مثل قصة داود وسليمان (عليه السلام) . وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ماضيا كائنا. وقال ابن عبّاس: وكان من قدره أن تلد تلك المرأة التي ابتلى بها داود ابنا مثل سليمان وتهلك من بعده.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 39 إلى 55]
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 39 الى 55] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) قوله تعالى: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ محلّ الذين خفض على النعت على الَّذِينَ خَلَوْا ... وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً حافظا لأعمال خلقه ومحاسبتهم عليها، ثمّ نزلت في قول الناس إنّ محمّدا تزوّج امرأة ابنه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إيّاها، يعني زيدا، وإنّما كان أبا القاسم والطيب والمطهر وإبراهيم. وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ أي آخرهم ختم الله به النبوّة فلا نبيّ بعده، ولو كان لمحمّد ابن لكان نبيّا. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان، عن عبد الرحمن عن سفيان، عن
الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبيّ «1» . واختلف القرّاء في قوله خاتَمَ النَّبِيِّينَ فقرأ الحسن وعاصم بفتح التاء على الاسم، أي آخر النّبيين. كقوله: خِتامُهُ مِسْكٌ، أي آخره. وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، أي أنّه خاتم النبيّين بالنبوّة. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً قال ابن عبّاس: لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلّا جعل لها حدّا معلوما، ثمّ عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر، فإنّه لم يجعل له حدّا ينتهى إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلّا مغلوبا على عقله، وأمرهم بذكره في الأحوال كلّها فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ «2» وقال: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً بالليل والنهار وفي البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والصحّة والقسم والسرّ والجهر وعلى كلّ حال. وقال مجاهد: الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا. أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي «3» ، عن عمرو بن عثمان، عن أبي، عن أبي لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: أكثروا ذكر الله حتّى يقولوا مجنون وَسَبِّحُوهُ وصلّوا له بُكْرَةً يعني صلاة الصبح وَأَصِيلًا يعني صلاة العصر عن قتادة. وقال ابن عبّاس: يعني صلاة العصر والعشاءين. وقال مجاهد: يعني قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، فعبّر بالتسبيح عن أخواته، فهذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث. قوله: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ بالرحمة. قال السدي: قالت بنو إسرائيل لموسى: أيصلّي ربّنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه أن قل لهم: إنّي أصلّي، وإنّ صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء. وقيل: (يُصَلِّي) يشيع لكم الذكر الجميل في عباده. وقال الأخفش: يبارك عليكم وَمَلائِكَتُهُ بالاستغفار والدعاء لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.
قال أنس بن مالك: لمّا نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الآية، قال أبو بكر: ما خصّك الله بشرف إلّا وقد أشركتنا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. تَحِيَّتُهُمْ أي تحية المؤمنين يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أي يرون الله عزّ وجلّ سَلامٌ أي يسلّم عليهم ويسلّمهم من جميع الآفات والبليّات. أخبرني ابن فنجويه، عن ابن حيان، عن ابن مروان عن أبي، عن إبراهيم بن عيسى، عن علي بن علي، حدّثني أبو حمزة الثمالي في قوله عزّ وجلّ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال: تسلّم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشّرهم حين يخرجون من قبورهم. وقيل: هو عند الموت والكناية مردودة إلى ملك الموت كناية عن غير مذكور. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين، عن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، عن إسحاق بن محمد بن الفضل الزيّات، عن محمد بن سعيد بن غالب، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن عبد الله بن وافد أبو رجاء، عن محمد بن مالك، عن البراء بن عازب في قوله عزّ وجلّ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلّا سلّم عليه. وأخبرني الحسين بن محمد عن ابن حبيش المقرئ، حدّثني عبد الملك بن أحمد بن إدريس القطان بالرقة، عن عمر بن مدرك القاص قال: أخبرني أبو الأخرص محمد بن حيان البغوي، عن حمّاد بن خالد الخيّاط، عن خلف بن خليفة، عن أبي هاشم، عن أبي الأخوص، عن ابن مسعود قال: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربّك يقرئك السلام. وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً وهو الجنّة. قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً يستضيء به أهل الدين. قال جابر بن عبد الله: لمّا نزلت إِنَّا فَتَحْنا «1» الآيات، قال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله هذه العارفة، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ اصبر عليهم ولا تكافئهم. نسختها آية القتال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ تجامعوهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها تحصونها عليهن بالأقراء والأشهر فَمَتِّعُوهُنَّ أي أعطوهن ما يستمتعن به. قال ابن عبّاس: هذا إذا لم يكن سمّى لها صداقا، فإذا فرض لها صداقا فلها نصفه، وقال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ «2» وقيل: هو أمر ندب،
فالمتعة مستحبّة ونصف المهر واجب وَسَرِّحُوهُنَّ وخلّوا سبيلهن سَراحاً جَمِيلًا بالمعروف، وفي الآية دليل على أنّ الطلاق قبل النكاح غير واقع خصّ أو عمّ خلافا لأهل الكوفة. أخبرني الحسين بن محمّد بن فنجويه، عن ابن شنبه، عن عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي، عن عبد السلام بن عاصم الرازي، قال: أخبرني أبو زهير، عن الأحلج، عن حبيب بن أبي ثابت قال: كنت قاعدا عند علي بن الحسين، فجاءه رجل فقال: إنّي قلت: يوم أتزوّج فلانة بنت فلان فهي طالق. قال: اذهب فتزوّجها، فإنّ الله عزّ وجلّ بدأ بالنكاح قبل الطلاق، وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثمّ نكحتموهن ولم يره شيئا. والدليل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: أخبرني أبو بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري بمكّة، عن الربيع بن سليمان، عن أيّوب بن سويد، عن ابن أبي ذيب عن عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا طلاق قبل نكاح» [15] «1» . قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ مهورهن وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ مثل صفية وجويرية ومارية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ من نساء عبد المطلب وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ من نساء بني زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فمن لم تهاجر منهنّ فليس له نكاحها. وقرأ ابن مسعود: واللّاتي هاجرن، بواو. أنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير قال: أخبرني أبو كريب، عن عبد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح، عن أمّ هاني قالت: خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ... إلى قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قالت: فلم أحلّ له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء. وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ بغير مهر. وقرأ العامة إِنْ بكسر الألف على الجزاء والاستقبال، وقرأ الحسن بفتح الألف على المضي والوجوب، إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فله ذلك خالِصَةً خاصّة لك، مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل بغير شهود ولا وليّ ولا مهر إلّا النبيّ (عليه السلام) ، وهذا من خصائصه في النكاح، كالتخيير والعدد في النساء، وما روي انّه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها ولو تزوّجها بلفظ الهبة لم ينعقد النكاح، هذا قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء ومالك والشافعي وربيعة وأبي عبيد وأكثر الفقهاء. وقال النخعي وأهل الكوفة: إذا وهبت نفسها منه وقبلها بشهود ومهر فإنّ النكاح ينعقد
والمهر يلزم به، فأجازوا النكاح بلفظ الهبة. وقالوا: كان اختصاص النبي (عليه السلام) في ترك المهر. والدليل على ما ذهب الشافعي إليه: إنّ الله تعالى سمّى النكاح باسمين التزويج والنكاح، فلا ينعقد بغيرهما. واختلف العلماء في التي وهبت نفسها لرسول الله، وهل كانت امرأة عند رسول الله صلّى الله عليه كذلك؟ فقال ابن عبّاس ومجاهد: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه امرأة وهبت نفسها منه، ولم يكن عنده (عليه السلام) امرأة إلّا بعقد النكاح أو ملك اليمين، وإنّما قال الله تعالى إِنْ وَهَبَتْ على طريق الشرط والجزاء. وقال الآخرون: بل كانت عنده موهوبة، واختلفوا فيها. فقال قتادة: هي ميمونة بنت الحرث. قال الشعبي: زينب بنت خزيمة أمّ المساكين امرأة من الأنصار. قال علي بن الحسين والضحّاك ومقاتل: أمّ شريك بنت جابر من بني أسد. قال عروة بن الزبير: خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم. قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ يعني أوجبنا على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ قال مجاهد: يعني أربعا لا يتجاوزونها. قتادة: هو أن لا نكاح إلّا بوليّ وشاهدين وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعني الولائد والإماء لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ في نكاحهن وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. قوله: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخّر وَتُؤْوِي وتضمّ إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ واختلف المفسّرون في معنى الآية، فقال أبو رزين وابن زيد: نزلت هذه الآية حين غارت بعض أمّهات المؤمنين على النبيّ صلّى الله عليه وسلم وطلب بعضهنّ زيادة النفقة، فهجرهنّ رسول الله صلّى الله عليه شهرا حتى نزلت آية التخيير، وأمره الله عزّ وجلّ أن يخيّرهنّ بين الدنيا والآخرة، وأن يخلّي سبيل من اختارت الدّنيا، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أنّهنّ أمّهات المؤمنين ولا ينكحن أبدا، وعلى أنّه يؤوي إليه من يشاء ويرجي منهنّ من يشاء فيرضين به، قسم لهنّ أو لم يقسم، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهنّ، أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة والقسمة والعشرة أو ساوى بينهنّ، ويكون الأمر في ذلك كلّه إليه، يفعل ما يشاء، وهذا من خصائصه (عليه السلام) . فرضين بذلك كلّه واخترنه على هذا الشرط، وكان رسول الله صلّى الله عليه مع ما جعل الله له من ذلك ساوى بينهنّ في القسم إلّا امرأة منهنّ أراد طلاقها فرضيت بترك القسمة لها وجعل يومها لعائشة وهي سودة بنت زمعة. وروى منصور عن أبي رزين قال: لمّا نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلّقن فقلن: يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا على حالنا، فنزلت هذه الآية، فكان ممّن أرجي منهن سودة وجويرية وصفيّة وميمونة وأمّ حبيبة، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء، وكانت ممّن
آوى إليه عائشة وحفصة وأمّ سلمة وزينب رحمة الله عليهنّ، كان يقسم بينهن سواء لا يفضّل بعضهنّ على بعض، فأرجأ خمسا وآوى أربعا. وقال مجاهد: يعني تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق، وترد إليك من تشاء منهنّ بعد عزلك إيّاها بلا تجديد مهر وعقد. وقال ابن عبّاس: تطلّق من تشاء منهنّ وتمسك من تشاء. وقال الحسن: تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء امّتك. قال: وكان النبي (عليه السلام) إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أن يخطبها حتى يتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يتركها. وقيل: وتقبل من تشاء من المؤمنات اللّاتي يهبن أنفسهن لك، فتؤويها إليك، وتترك من تشاء فلا تقبلها. روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها كانت تعيّر النساء اللّاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وقالت: أما تستحي امرأة أن تهب أو تعرض نفسها على رجل بغير صداق، فنزلت هذه الآية، قالت عائشة: فقلت لرسول الله إنّ ربّك ليسارع لك في هواك. وَمَنِ ابْتَغَيْتَ أي طلبت وأردت إصابته مِمَّنْ عَزَلْتَ فأصبتها وجامعتها بعد العزل فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فأباح الله تعالى له بذلك ترك القسم لهنّ حتّى إنّه ليؤخّر من شاء منهنّ في وقت نوبتها، فلا يطأها ويطأ من شاء منهنّ في غير نوبتها، فله أن يردّ إلى فراشه من عزلها، فلا حرج عليه فيما فعل تفضيلا له على سائر الرّجال وتخفيفا عنه. وقال ابن عبّاس: يقول: إنّ من فات من نسائك اللّاتي عندك أجرا وخلّيت سبيلها، فقد أحللت لك، فلا يصلح لك أن تزداد على عدد نسائك اللّاتي عندك. ذلِكَ الذي ذكرت أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ أطيب لأنفسهنّ وأقلّ لحزنهنّ إذا علمن أنّ ذلك من الله وبأمره، وأنّ الرخصة جاءت من قبله وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ من التفضيل والإيثار والتسوية كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من أمر النساء والميل إلى بعضهنّ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً. قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ بالتاء أهل البصرة، وغيرهم بالياء النِّساءُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد هؤلاء النساء التسع اللّاتي خيّرتهنّ فاخترنك لما اخترن اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قصره عليهنّ، وهذا قول ابن عبّاس وقتادة. وقال عكرمة والضحاك: لا يحلّ لك من النساء إلّا اللّاتي أحللناها لك وهو قوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ... «1» ثمّ قال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ التي أحللنا لك بالصفة التي تقدّم ذكرها.
روى داود بن أبي هند عن محمّد بن أبي موسى عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبيّ بن كعب: أرأيت لو مات نساء النبي صلّى الله عليه أكان يحلّ له أن يتزوّج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك وما يحرّم ذلك عليه؟ قلت: قوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنّما أحلّ الله له ضربا من النساء فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ... ثمّ قال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ. وقال أبو صالح: أمر أن لا يتزوّج أعرابية ولا عربية ويتزوّج بعد من نساء قومه من بنات العمّ والعمّة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: معناه لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ من غير المسلمات فأمّا اليهوديّات والنصرانيّات والمشركات فحرام عليك، ولا ينبغي أن يكنّ من أمّهات المؤمنين. وقال أبو رزين: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ يعني الإماء بالنكاح. وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ قال مجاهد وأبو رزين: يعني ولا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من اليهود والنصارى والمشركين وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من السبايا والإماء الكوافر. وقال الضحّاك: يعني ولا تبدّل بأزواجك اللّاتي هنّ في حبالك أزواجا غيرهنّ، بأن تطلّقهنّ وتنكح غيرهن، فحرّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلاق النساء اللّواتي كنّ عنده، إذ جعلهنّ أمّهات المؤمنين، وحرّمهن على غيره حين اخترنه، فأمّا نكاح غيرهنّ فلم يمنع منه، بل أحلّ له ذلك إن شاء. يدلّ عليه ما أخبرناه عبد الله بن حامد الوزان، عن أحمد بن محمد بن الحسين، عن محمّد بن يحيى قال: أخبرني أبو عاصم عن جريح عن عطاء عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء. وقال ابن زيد: كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأة ذاك فقال الله: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ يعني تبادل بأزواجك غيرك أزواجه، بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلّا ما ملكت يمينك لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت فأمّا الحرائر فلا. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الاصفهاني، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، عن أحمد بن نجدة، عن الحماني، عن عبد السلام بن حرب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك بامرأتي، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ... قال: فدخل عيينة بن حصين على النبي صلّى الله عليه وعنده عائشة فدخل بغير إذن، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه: «يا عيينة فأين الاستئذان؟» قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، ثمّ قال: من
هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أمّ المؤمنين» . قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق، قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّ الله عزّ وجلّ قد حرّم ذلك» ، فلمّا خرج، قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: «هذا أحمق مطاع وإنّه على ما ترين لسيّد قومه» [16] . قال ابن عبّاس في قوله: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، وفيه دليل على جواز النظر إلى من يريد أن يتزوّج بها، وقد جاءت الأخبار بإجازة ذلك. وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر المطيري، عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان عن عاصم الأحول، عن بكير بن عبد الله المزني أنّ المغيرة بن شعبة أراد أن يتزوّج بامرأة، فقال النبيّ (عليه السلام) : «فانظر إليها فإنّه أجدر أن يودم بينكما» [17] «1» . وأخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمد بن جعفر، عن علي بن حرب قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحجّاج بن أرطأة، عن سهل بن محمد بن أبي خيثمة، عن عمّه سليمان بن أبي خيثمة قال: رأيت محمد بن سلمة يطارد نبيتة بنت الضحّاك على إجار من أياجير المدينة قلت: أتفعل هذا؟ قال: نعم، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول: «إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها» [18] . وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى، عن الحميدي عن سفيان، عن يزيد ابن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أنّ رجلا أراد أن يتزوّج امرأة من الأنصار، فقال له النبي صلّى الله عليه: «أنظر إليها فإنّ في أعين نساء الأنصار شيئا» [19] «2» . قال الحميدي: يعني الصّغر. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً حفيظا. قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... قال أكثر المفسّرين: نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب. قال أنس بن مالك: أنا أعلم الناس بآية الحجاب، ولقد سألني عنها أبيّ بن كعب لمّا بنى رسول الله صلّى الله عليه بزينب بنت جحش أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة، وبعثت إليه أمّي أمّ سليم بحيس في تور من حجارة، فأمرني النبي صلّى الله عليه وسلم أن أدعو أصحابه إلى الطعام، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون، ثمّ يجيء القوم فيأكلون ويخرجون.
فقلت: يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم فرفعوا وخرج القوم، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقمت معه لكي يخرجوا، فمشى رسول الله صلّى الله عليه منطلقا نحو حجرة عائشة فقال: «السلام عليكم أهل البيت» [20] ، فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، كيف وجدت أهلك؟ ثمّ رجع فأتى حجر نسائه فسلّم عليهنّ، فدعون له ربّه، ورجع إلى بيت زينب، فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون في البيت، وكان النبيّ (عليه السلام) شديد الحياء، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلمّا رأوا النبي صلّى الله عليه وسلم ولّى عن بيته خرجوا، فرجع رسول الله (عليه السلام) إلى بيته وضرب بيني وبينه سترا، ونزلت هذه الآية. وقال قتادة ومقاتل: كان هذا في بيت أمّ سلمة، دخلت عليه جماعة في بيتها فأكلوا، ثمّ أطالوا الحديث، فتأذّى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاستحيى منهم أن يأمرهم بالخروج، وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلّا أن تدعوا إِلى طَعامٍ فيؤذن لكم فتأكلوه غَيْرَ ناظِرِينَ منظرين إِناهُ إدراكه ووقت نضجه ، وفيه لغتان أنى وإنى بكسر الألف وفتحها، مثل ألّى وإلّى ومعا ومعا، والجمع إناء، مثل آلاء وأمعاء، والفعل منه أنى يأنى إنى بكسر الألف مقصور، وآناء بفتح الألف ممدود. قال الحطيئة: وأنيت العشا إلى سهيل ... أو الشعرى فطال بي الأنا «1» وقال الشيباني: تمخضت المنون له بيوم ... أنى ولكل حاملة تمام «2» وفيه لغة أخرى: آن يئين أينا. قال ابن عبّاس: نزلت في ناس من المؤمنين كان يتحيّنون طعام رسول الله صلّى الله عليه، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتأذّى بهم، فنزلت هذه الآية. وغَيْرَ نصب على الحلال وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا فتفرّقوا واخرجوا من منزله وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ طالبين الأنس بحديث، ومحله خفض مردود على قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ ولا غير مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أي لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقّ ولا يمنعه ذلك منه. حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظا قال: أخبرني أبو موسى عمران بن
موسى بن الحصين قال: أخبرني أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن خرزاد «1» الأنطاكي، عن عمرو بن مرزوق، عن جويرية بن أسماء قال: قرئ بين يدي إسماعيل ابن أبي حكيم هذه الآية فقال: هذا [أدب] أدّب الله به الثقلاء «2» . وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن محمد يقول: سمعت الغلابي يقول: سمعت ابن عائشة يقول: حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا. قوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أخبرنا عبد الله بن حامد، عن محمّد بن يعقوب، عن محمد بن سنان الفزار، عن سهيل بن حاتم، عن ابن عون، عن عمرو بن سعيد، عن أنس بن مالك قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وكان يمرّ على نسائه، فأتى امرأة عرس بها حديثا فإذا عندهم قوم، فانطلق النبي صلّى الله عليه أيضا فاحتبس فقضى حاجته، ثمّ جاء وقد ذهبوا، فدخل وأرخى بينه وبيني سترا قال: فحدّثت أبا طلحة فقال: إن كان كما تقول لينزلنّ شيء في هذا، فنزلت آية الحجاب. وأنبأني عبد الله بن حامد الوزان أنّ الحسين بن يعقوب حدّثه عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن حميد عن أنس قال: قال عمر: يا رسول الله، تدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب. فنزلت آية الحجاب. وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن محمد الشرقي، عن محمد بن يحيى عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبي، عن صالح بن شهاب، عن عروة بن الزبير: أنّ عائشة قالت: كان عمر بن الخطّاب يقول لرسول الله صلّى الله عليه: احجب نساءك، فلم يفعل، وكان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم يخرجن ليلا إلى ليل قبل المناصع وهو صعيد أقبح، فخرجت سودة بنت زمعة، وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال: قد عرفتك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل الله الحجاب. وأخبرنا عبد الله بن حامد إجازة، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن علي بن عفان قال: أخبرني أبو أسامة، عن مخالد بن سعيد، عن عامر قال: مرّ عمر على نساء النبي صلّى الله عليه وهو مع النساء في المسجد فقال لهنّ: احتجبن، فإنّ لكنّ على النساء فضلا، كما انّ لزوجكنّ على الرجال الفضل، فلم يلبثوا إلّا يسيرا حتى أنزل الله آية الحجاب. وروى عطاء بن أبي السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: أمر عمر بن الخطاب نساء
النبي صلّى الله عليه وسلم بالحجاب فقالت زينب: يا بن الخطّاب إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا، فأنزل الله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. وقيل في سبب نزول الحجاب ما أخبرنا أحمد بن محمد أنّ المعافى حدّثه عن محمّد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، عن هشام، عن ليث، عن مجاهد: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم، فكره النبي ذلك، فنزلت آية الحجاب. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي المزكى قال: أخبرني أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرخسي، عن شيبان بن فروخ الابلي، عن جرير بن حازم، عن ثابت البنائي، عن أنس بن مالك قال: كنت أدخل على رسول الله صلّى الله عليه بغير إذن، فجئت يوما لأدخل فقال: مكانك يا بني، قد حدث بعدك أن لا يدخل علينا إلّا بإذن. قوله: وَما كانَ لَكُمْ يعني وما ينبغي وما يصلح لكم أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً نزلت في رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لئن قبض رسول الله صلّى الله عليه لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر. أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير، عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن داود عن عامر أنّ النبي صلّى الله عليه مات وقد ملك قتيلة بنت الأشعث بن قيس ولم يجامعها، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك، فشقّ على أبي بكر مشقّة شديدة، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنّها ليست من نسائه، إنّها لم يخيّرها رسول الله صلّى الله عليه ولم يحجبها، وقد برّأها منه بالردّة التي ارتدّت مع قومها قال: فاطمأنّ أبو بكر وسكن. وروى معمر عن الزهري: أنّ العالية بنت طيبان التي طلّقها النبيّ صلّى الله عليه تزوّجت رجلا وولدت له، وذلك قبل أن يحرّم على الناس أزواج النبي (عليه السلام) . إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ.... قال ابن عبّاس: لمّا نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ونحن أيضا نكلّمهنّ من وراء حجاب؟ فأنزل الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ.... وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ في ترك الاحتجاب من هؤلاء وأن يروهن. وقال مجاهد: لا جناح عليهن في وضع جلابيبهن عندهم. وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 إلى 68]
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 68] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ قراءة العامة بنصب التاء وقرأ ابن عبّاس: وَمَلائِكَتُهُ بالرفع عطفا على محلّ قوله: اللَّهَ قبل دخول إنّ، نظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى «1» وقد مضت هذه المثلة. يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ أي يثنون ويترحّمون عليه ويدعون له. وقال ابن عبّاس: يتبرّكون. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ترحّموا عليه وادعو له وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً وحيّوه بتحية الإسلام. أخبرنا عبد الله بن حامد، عن المطري، عن علي بن حرب، عن ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل العدل، عن إسماعيل بن محمد الصفّار، عن الحسين بن عروة، عن هشيم بن بشير، عن يزيد بن أبي زياد، وحدّثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدّثني كعب بن عجرة قال: لمّا نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قل: اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد» [21] «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، عن مكي بن عبدان، عن عمّار بن رجاء عن ابن عامر، عن عبد الله بن جعفر، عن يزيد بن مهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله هذا السلام قد علمنا، فكيف الصلاة عليك؟
قال: «قولوا اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم» [22] «1» . وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه، عن مكي بن عبدان عن محمد بن يحيى قال: فيما قرأت على ابن نافع، وحدّثني مطرف، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن محمد بن عمرو بن حرم، عن أبيه، عن عمرو بن سليمان الزرقي، أخبرني أبو حميد الساعدي أنّهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قولوا: اللهم صلّ على محمّد وأزواجه وذرّيته كما صلّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد» [23] «2» . وبإسناده عن مالك عن نعيم، عن عبد الله بن المجمر، عن محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري، عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن [سعد] «3» : أمرنا الله أن نصلّي عليك يا رسول الله، فكيف نصلّي عليك؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه حتّى تمنّينا أنّه لم يسأله، ثمّ قال: «قولوا اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم» [24] «4» . وأخبرنا عبد الله بن حامد بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن، عن داود ابن سليمان، عن عبد بن حميد قال: أخبرني أبو نعيم عن المسعودي، عن عون، عن أبي فاختة، عن الأسود قال: قال عبد الله: إذا صلّيتم على النبي صلّى الله عليه فأحسنوا الصلاة عليه، فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك يعرض عليه، قالوا: فعلّمنا، قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيّد المرسلين وإمام المتّقين وخاتم النبيّين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأوّلون والآخرون، اللهم صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد. أخبرنا عبد الخالق بن علي قال: أخبرني أبو بكر بن جنب عن يحيى بن أبي طالب عن يزيد بن هارون قال: أخبرني أبو معاوية، عن الحكم بن عبد الله بن الخطّاب، عن أمّ الحسن،
عن أبيها قالوا: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فقال النبي (عليه السلام) : هذا من العلم المكنون، ولو أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به، إنّ الله تعالى وكّل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان: غفر الله لك، وقال الله تعالى وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان، لا غفر الله لك، وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ يعني بمعصيتهم إيّاه ومخالفتهم أمره. وقال عكرمة: هم أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله عزّ وجلّ، وفي بعض الأخبار يقول الله جلّ جلاله: ومن أظلم ممّن أراد أن يخلق مثل خلقي فليخلق حبّة أو ذرّة ، وقال (عليه السلام) : لعن الله المصوّرين «1» . وقال ابن عبّاس: هم اليهود والنصارى والمشركون، فأمّا اليهود فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وقالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ. وقالت النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وثالِثُ ثَلاثَةٍ. وقال المشركون: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. قال قتادة: في هذه الآية ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربّهم، وقيل: معنى يُؤْذُونَ اللَّهَ يلحدون في أسمائه وصفاته، وقال أهل المعاني: يؤذون أولياء الله مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» وقول رسول الله صلّى الله عليه حين قفل من تبوك فبدا له أحد: هذا جبل يحبّنا ونحبّه ، فحذف الأهل، فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه فجعل أذاهم أذاه. وَرَسُولَهُ قال ابن عبّاس: حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وقيل له: شاعِرٌ وساحِرٌ ومُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. وروى العوفي عنه: أنّها نزلت في الذين طعنوا على النبي (عليه السلام) في نكاحه صفيّة بنت حيي بن أخطب ، وقيل: بترك سنّته ومخالفة شريعته. لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا من غير أن عملوا ما أوجب الله أذاهم فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. قال الحسن وقتادة: إيّاكم وأذى المؤمن فإنّه حبيب ربّه، أحبّ الله فأحبّه، وغضب لربّه فغضب الله له، وإنّ الله يحوطه ويؤذي من آذاه. وقال مجاهد: يعني يقفونهم ويرمونهم بغير ما عملوا. وقال مقاتل: نزلت في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أنّ ناسا من المنافقين كانوا يؤذونه ويسمعونه. وقيل: في شأن عائشة. وقال الضحّاك والسدي والكلبي: نزلت في الزّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتّبعون النساء إذا تبرّزن بالليل لقضاء حوائجهنّ، فيرون
المرأة فيدنون منها، فيغمزونها، فإن سكتت اتّبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلّا الإماء، ولم يكن يومئذ تعرف الحرّة من الأمة ولأنّ زيّهن كان واحدا، إنّما يخرجن في درع واحد وخمار الحرّة والأمة، فشكون ذلك إلى أزواجهنّ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه. فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... ثمّ نهى الحرائر أن يتشبهنّ بالإماء، فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن ليعلم أنّهنّ حرائر فلا يتعرّض لهنّ ولا يؤذين. قوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف منهن من ترك السنن رَحِيماً بهنّ إذ سترهنّ وصانهنّ. قال ابن عبّاس وعبيدة: أمر الله النساء المؤمنات أن يغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. قال أنس: مرّت جارية بعمر بن الخطّاب متقنّعة فعلاها بالدرّة وقال: يا لكاع أتشبهين بالحرائر؟ ألقي القناع. قوله عزّ وجلّ: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فجور، يعني الزناة وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ بالكذب والباطل، وذلك أنّ ناسا منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه يوقعون في الناس أنّهم قتلوا وهزموا، وكانوا يقولون: قد أتاكم العدوّ ونحوها. وقال الكلبي: كانوا يحبّون أن يفشوا الأخبار، وأَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ... لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنولعنّك ونحرشنّك بهم، ونسلطنّك عليهم. ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا أي لا يساكنونك في المدينة إلّا قليلا حتّى يخرجوا منها مَلْعُونِينَ مطرودين، نصب على الحال، وقيل: على الذم أَيْنَما ثُقِفُوا أصيبوا ووجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. قال قتادة: ذكر لنا أنّ المنافقين أرادوا أن يظهروا لما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه. وأنبأني عبد الله بن حامد الأصفهاني عن عبد الله بن جعفر النساوي، عن محمد بن أيّوب عن عبد الله بن يونس، عن عمرو بن شهر، عن أبان، عن أنس قال: كان بين رجل وبين أبي بكر شيء، فنال الرجل من أبي بكر، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى غمر الدّم وجهه، فقال: «ويحكم، ذروا أصحابي وأصهاري، احفظوني فيهم لأنّ عليهم حافظا من الله عزّ وجلّ، ومن لم يحفظني فيهم تخلّى الله منه، ومن تخلّى الله منه يوشك أن يأخذه» [25] . مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. سُنَّةَ اللَّهِ أي كسنّة الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً. إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 إلى 73]
الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قوله: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظهرا لبطن حين يسحبون عليها. وقراءة العامّة بضمّ التاء وفتح اللام على المجهول. وروي عن أبي جعفر بفتح التاء واللام على معنى يتقلّب. وقرأ عيسى بن عمر (نقلب) بضم النون وكسر اللّام. وُجُوهُهُمْ نصبا. يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا في الدنيا وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا قادتنا ورؤسانا في الشرك والضلالة. وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حاتم (ساداتنا) جمع بالألف وكسر التاء على جمع الجمع فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي مثلي عذابنا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً قرأ يحيى بن وثاب وعاصم كَبِيراً بالباء وهي قراءة أصحاب عبد الله. وقرأ الباقون بالثاء، وهي اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، ثمّ قالا: إنّا اخترنا الثاء لقوله: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «1» وقوله: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» فهذا يشهد للكثرة. وأخبرني أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: سمعت أبا الحسن عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي من حفظه إملاء يقول: سمعت محمد بن الحسن ابن قتيبة العسقلاني بعسقلان ورملة أيضا يقول: سمعت محمد بن أبي السري يقول: رأيت في المنام كأنّي في مسجد عسقلان وكان رجلا يناظرني وهو يقول: وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً وأنا أقول كثيرا فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم، وكان في وسط المسجد منارة لها باب، وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يقصدها فقلت: هذا النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: السلام عليك يا رسول الله، استغفر لي، فأمسك عنّي فجئت عن يمينه فقلت: يا رسول الله، استغفر لي فأعرض عنّي، فقمت في صدره فقلت: يا رسول الله حدّثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله: أنّك ما سئلت شيئا قط فقلت: لا، فتبسّم، ثمّ قال: «اللهمّ اغفر له» ، فقلت: يا رسول الله، إنّي وهذا نتكلّم في قوله: وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً وهو يقول: كَبِيراً وأنا أقول: «كثيرا» ، قال: فدخل المنارة وهو يقول: كثيرا إلى أن غاب صوته عنّي. [26] ، يعني بالثاء. [سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ فطهّره الله سبحانه مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً كريما مقبولا ذا جاه، واختلفوا فيما آذوا به موسى. فأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرني أبو حامد بن الشرفي، عن محمد ويحيى بن عبد الرحمن بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا: أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو بكر المطيري قال: أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن يزيد المؤدب، عن عبد الرزاق، عن معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه قال: «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى (عليه السلام) يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر «1» ، فذهب مرّة يغتسل وحده فوضع ثوبه على الحجر ففرّ الحجر بثوبه فجمح في أثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه، فأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضربا» [27] «2» . قال أبو هريرة: إنّ بالحجر ندبا ستّة أو سبعة أثر ضرب موسى (عليه السلام) . وروى الحسن وابن سيرين عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّ موسى كان رجلا حيّيا ستيرا لا يكاد يري من جلده شيئا يستحيي منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا: ما يستر هذا الستر إلّا من عيب بجلده، إمّا برص وإمّا برص وإمّا أدرة، فأراد الله أن يبرئه ممّا قالوا: وإنّ موسى خلا يوما وحده، فوضع ثوبه على حجر ثمّ اغتسل، فلمّا فرغ من غسله أقبل على ثوبه ليأخذه بعد الحجر بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، وجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فنظروا إلى أحسن الناس خلقا وأعدلهم صورة، وإنّ الحجر قام فأخذ ثوبه فلبسه، فطفق بالحجر ضربا، وقال الملأ: قاتل الله أفّاكي بني إسرائيل فكانت براءته التي برّأه الله منها» [28] «3» . وقال قوم: كان إيذاؤهم إيّاه ادّعاءهم عليه قتل أخيه هارون. أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أنّ المعافى بن زكريا القاضي أخبره عن محمد بن جرير بن يزيد الطبري، حدّثني علي بن مسلم الطوسي، عن عبّاد عن سفيان بن حصين، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن علي بن أبي طالب في قول الله تعالى: كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون، فقال بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشدّ حبّا لنا منك وألين لنا منك، فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مرّوا به على
بني إسرائيل، وتكلّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنّه مات، فبرّأه الله من ذلك، فانطلقوا به فدفنوه، فلم يطّلع على قبره أحد من خلق الله إلّا الرّخم فجعله الله أصمّ أبكم. وقال أبو العالية: هو أنّ قارون استأجر مومسة لتقذف موسى (عليه السلام) بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله منه وبرّأ موسى من ذلك وأهلك هارون. وقد مضت هذه القصّة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً أي حقّا قصدا. ابن عبّاس: صوابا. قتادة ومقاتل: عدلا. المؤرخ: مستقيما. عكرمة: هو قول: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. ابن حيان: يعني قولوا في شأن زينب وزيد سديدا ولا تنسبوا رسول الله صلّى الله عليه إلى ما لا يحمل. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً. قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ قيل: كان العرض على أعيان هذه الأشياء، فأفهمهنّ الله خطابه وأنطقهنّ. وقيل: عرضها على من فيها من الملائكة. وقيل: عرضها على أهلها كلّها دون أعيانها، وهذا كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» [أي أهلها] . فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها مخافة وخشية لا معصية ومخالفة، وكان العرض تخييرا لا إلزاما وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ واختلفوا في الأمانة، فقال أكثر المفسّرين: هي الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده، عرضها على السماوات والأرض والجبال، إن أدّوها أثابهم وإن ضيّعوها عذّبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها وقالوا: لا، نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا. فقال الله تعالى لآدم: إنّي عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذها بما فيها؟ قال: يا ربّ وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فتحمّلها آدم صلوات الله عليه وقال: بين أذني وعاتقي، فقال الله تعالى: أمّا إذا تحمّلت فسأعينك فاجعل لبصرك حجابا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحلّ لك فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلقا، فإذا خشيت فأغلق، واجعل لفرجك لباسا فلا تكشفه على ما حرّمت عليك. قالوا: فما لبث آدم إلّا مقدارا ما بين الظهر والعصر حتى أخرج من الجنّة. وقال مجاهد: الأمانة الفرائض وحدود الدين. وأبو العالية: هي ما أمروا به ونهوا عنه. وقال زيد بن أسلم وغيره: هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من شرائع الدين. أنبأني عقيل بن محمد، عن المعافى بن زكريا، عن محمد بن جرير الطبري، عن محمد بن خالد العسقلاني عن عبد الله بن عبد المجيد الحنفي قال: أخبرنا أبو العوام القطان عن قتادة
وأبان بن أبي عبّاس عن خليد العصري عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: خمس من جاء بهنّ يوم القيامة مع إيمان دخل الجنّة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهنّ ومواقيتهنّ، وأعطى الزكاة من ماله عن طيب نفس- وكان يقول: [وأيم] الله لا يفعل ذلك إلّا مؤمن- وأدّى الأمانة. قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ «1» قال: الغسل من الجنابة. قال: الله عزّ وجلّ لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيره «2» . وبه عن ابن جرير عن ابن بشّار، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن أبيّ بن كعب قال: من الأمانة أنّ المرأة ائتمنت على فرجها. وقال عبد الله بن عمر بن العاص: أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه، وقال: هذه أمانة استودعتكها. فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال بعضهم: هي أمانات الناس، والوفاء بالعهد، فحق على كل مؤمن ألّا يغش مؤمنا، ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، وقال السدي بإسناده: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده، وخيانته إياه في قتل أخيه- وذكر القصة إلى أن قال-: قال الله عز وجل لآدم: يا آدم هل تعلم أنّ لي في الأرض بيتا؟ قال: اللهم لا. قال: فإن لي بيتا بمكة فأته. فقال آدم للسماء: «احفظي ولدي بالأمانة» [29] ، فأبت، وقال للأرض فأبت، وقال للجبال فأبت، وقال لقابيل فقال: نعم تذهب وترجع تجد أهلك كما يسرك. فانطلق آدم (عليه السلام) ، فرجع وقد قتل قابيل هابيل، فذلك قوله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ يعني قابيل حين حمل أمانة آدم ثم لم يحفظ له أهله. وقال الآخرون: وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ يعني آدم. ثم اختلفت عباراتهم في معنى (الظلوم) و (الجهول) فقال ابن عباس والضحاك: ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا غرّا بأمر الله وما احتمل من الأمانة. قتادة: ظَلُوماً للأمانة جَهُولًا عن حقها. الكلبي: ظَلُوماً حين عصى ربه، جَهُولًا لا يدري ما العقاب في تركه الأمانة. الحسين بن الفضل: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا عند الملائكة لا عند الله. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
سورة سبأ
سورة سبأ أخبرنا ابن المقرئ عن ابن مطيرة عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبي ولا رسول إلّا كان يوم القيامة له رفيقا ومصافحا» [30] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ كما هو له في الدنيا لأنّ النعم كلها في الدارين منه، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ. قوله: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ يدخل ويغيب فيها من الماء والموادّ والحيوانات، وَما يَخْرُجُ مِنْها
من النبات، وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار، وَما يَعْرُجُ يصعد فِيها: من الملائكة وأعمال العباد، وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ الساعة، ثم عاد جلّ جلاله إلى تمجيده والثناء على نفسه، فقال عز من قائل: عالِمِ الْغَيْبِ، اختلف القراء فيها، فقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي: (علّام الغيب) بخفض الميم على وزن فعال، وهي قراءة عبد الله وأصحابه. قال الفراء: وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله (علّام) . وقرأ أهل مكة والبصرة وعاصم بجر الميم على مثال فاعل ردا على قوله، وهي اختيار أبي عبيد فيه، وفي أمثاله يؤثر النعوت على الابتداء. وقرأ الآخرون (عالمُ) رفعا بالاستئناف إذ حال بينهما كلام. لا يَعْزُبُ يغيب ويبتعد عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ: وزن نملة، وهذا مثل لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة. فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ... لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا عملوا في إبطال أدلّتنا والتكذيب بكتابنا مُعاجِزِينَ: مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا. قال ابن زيد: جاهدين، وقرأ: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ «1» . أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ، قرأ ابن كثير ويعقوب وعاصم برواية حفص والمفضل أَلِيمٌ بالرفع على نعت ال (عذاب) . غيرهم بالخفض على نعت ال (رجز) . قال قتادة: الرجز أسوأ العذاب، ومثله في الجاثية «2» وَيَرَى يعني: وليرى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني: مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال قتادة: هم أصحاب محمد (عليه السلام) . الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني: القرآن هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي يعني: القرآن إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وهو الإسلام. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا منكرين للبعث متعجبين منه: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ: يخبركم، يعنون: محمدا (عليه السلام) إِذا مُزِّقْتُمْ: قطعتم وفرقتم كُلَّ مُمَزَّقٍ وصرتم رفاتا إِنَّكُمْ بالكسر على الابتداء والحكاية، مجازة يقول لكم: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أَفْتَرى ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل لذلك نصب عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ: جنون؟ قال الله تعالى: بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 إلى 11]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فيعلموا أنهم حيث كانوا، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم، لا يخرجون من أقطارها، وأنا لقادر عليهم ولا يعجزونني؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قطعة. قراءة العامة بالنون في الثلث، وقرأ الأعمش والكسائي كلها بالياء وهو اختيار أبي عبيد قال: لذكر الله عز وجل قبله «1» . إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ تائب مقبل على ربه راجع إليه بقلبه. [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ مجازه وقلنا: يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ: سبحي معه إذا سبح. قال أبو ميسرة: هو بلسان الحبشة، وقال بعضهم: هو التفعيل من الإياب، أي ارجعي معه بالتسبيح. فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد، وقال وهب بن منبّه: نوحي معه. وَالطَّيْرَ تساعدك على ذلك، قال: وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم. ويقال: إن داود كان إذا سبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح. ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه: «لأعبدن الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها» ، فصعد الجبل، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة، فأوحى الله سبحانه إلى الجبال أن آنسي داود قال: فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل، فقال داود في نفسه: «كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات؟» فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر، فركله برجله فانفرج له البحر، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز، فقال له الملك: إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع. وقال القتيبي: أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا. قال ابن مقبل: لحقنا بحي أوّبوا السير بعد ما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه، وقيل: سيري معه كيف يشاء: وَالطَّيْرَ قراءة العامة بالنصب، وله وجهان:
أحدهما بالفعل، مجازه: وسخرنا له الطير، مثل قولك: (أطعمته طعاما وماء) تريد: وسقيته ماء، والوجه الآخر النداء كقولك: يا عمرو والصلت أقبلا، نصبت الصلت لأنه إنما يدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته، فنصب، وقيل: مع الطير، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب. وروي عن يعقوب بالرفع ردا على الجبال أي أَوِّبِي مَعَهُ أنت والطيرُ، كقول الشاعر: ألا يا عمرو والضحاك سيرا ... فقد جاوزتما خمر الطريق «1» يجوز نصب الضحاك ورفعه. قوله: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد، وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار أن داود (عليه السلام) لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا، فإذا رأى رجلا لا يعرفه، تقدم إليه يسأله عن داود، فيقول له: «ما تقول في داود وإليكم هذا أي رجل هو؟» فيثنون عليه ويقولون: خيرا فينا هو. فبينا هو في ذلك يوما من الأيام إذ قيّض الله ملكا في صورة آدمي، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله، فقال له الملك: نعم الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داود ذلك وقال: «ما هي يا عبد الله؟» قال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال: فتنبه لذلك، وسأل الله تعالى أن يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع، وعلمه صنعة الدروع، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها. فيقال: إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين، ويقال أيضا: إنما ألان الحديد في يده لما أعطي من القوّة. أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ دروعا كوامل واسعات وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، أي لا تجعل المسامير دقاقا فتغلق ولا غلاظا فتكسر الحلق. فكان يفعل ذلك: وهو أول من اتخذ الدروع، وكانت قبل ذلك صفائح، والسرد: صنعة الدرع، ومنه قيل لصانعها: السراد والزراد والدرع المسرودة، قال أبو ذويب: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبّع وأصله الوصل والنظم، ومنه قيل للخرز: سرد وللأشفى مسرد وسراد. قال الشماخ: كما تابعت سرد العنان الخوارز
[سورة سبإ (34) : الآيات 12 إلى 14]
وسرد الكلام. وَاعْمَلُوا يعني داود وآله صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. [سورة سبإ (34) : الآيات 12 الى 14] وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) قوله: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قراءة العامة بنصب الحاء، أي وسخرنا لسليمان الريح، وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم بالرفع على جر حرف الصفة. غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها من انتصاف النهار إلى الليل مسير شَهْرٌ، فجعل [ما] «1» تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين، وقال وهب: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوب فيه كتابة [كتبها] «2» بعض صحابة سليمان (عليه السلام) ، إما من الجن وإما من الإنس بحرّ نزلناه وما بنيناه، مبنيا وجدناه غدوناه من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام. قال الحسن: لما شغلت نبي الله سليمان بن داود الخيل حتّى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله تعالى مكانها خيرا وأسرع له، تجري بأمره كيف يشاء غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وكان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل. وقال ابن زيد: كان له (عليه السلام) مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه من الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر، فلا يدري القوم إلّا وقد أظلهم معه الجيوش. ويروى أن سليمان (عليه السلام) سار من أرض العراق غاديا فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير، ثم سار من مدينة بلخ متخللا بلاد الترك، ثم جازهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثله. ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض القندهار، وخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جازها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياما وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى الشام، وكان مستقره
بمدينة تدمر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر، وفي ذلك يقول النابغة: ألا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وخيس الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد «1» ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان بن داود (عليهما السلام) : ونحن ولا حول سوى حول ربنا ... نروح إلى الأوطان من أرض تدمر إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ... مسيرة شهر والغدوّ لآخر أناس شروا لله طوعا نفوسهم ... بنصر ابن داود النبي المطهّر لهم في معالي الدين فضل ورفعة ... وإن نسبوا يوما فمن خير معشر متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت ... مبادرة عن شهرها لم تقصّر تظلهم طير صفوف عليهم ... متى رفرفت من فوقهم لم تنفر قوله: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ: وأذبنا له عين النحاس أسيلت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان. وَمَنْ يَزِغْ: يمل ويعدل عَنْ أَمْرِنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ في الآخرة. عن أكثر المفسرين، وقال بعضهم: في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكّل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ: مساجد ومساكن وقصور، والمحراب: مقدم كل مسجد، ومجلس وبيت. قال عدي: كدمى العاج في المحاريب أو ... كالبيض في الروض زهره [مستنير] «2» وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن الله تعالى بارك في نسل إبراهيم (عليه السلام) حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يحصون، فلما كان زمن داود (عليه السلام) لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين، وهم كل يوم يزدادون كثرة، فأعجب داود بكثرتهم فأمر بعدّهم، فكانوا يعدون زمانا من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمهم بعدد بني إسرائيل، فأوحى الله إلى داود: «إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح
ولده فصدقني وائتمر أمري أن أبارك له في ذريته، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم» وخيّره بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين، وبين أن يسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر، وبين أن يرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام. فجمع داود بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله إليه وخيره فيه، فقالوا: أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا، غير أن الجوع لا صبر لنا [عليه] وتسليط العدو أمر فاضح، فإن كان لا بد فالموت. فأمرهم داود عليه السلام أن يتجهزوا للموت، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين، وأمرهم أن يضجّوا إلى الله تعالى ويتضرعوا إليه لعله «1» يرحمهم، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. قال: وارتفع داود (عليه السلام) فوق الصخرة فخرّ ساجدا يبتهل إلى الله تعالى فأرسل الله فيهم الطاعون. فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلّا بعد مدة شهرين. فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داود وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون. قالوا: فلما أن شفّع الله تعالى داود في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داود بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم: «إن الله سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكرا» . فقالوا: كيف تأمرنا. قال: «آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجدا لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر» . فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل: إنّ لي فيه موضعا أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه. فقالوا له: يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلّا وله في هذا الصعيد حق مثل حقك، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه. فقال: أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون. فقالوا له: إما إن ترضى وتطيب نفسا، وإلّا أخذناه كرها. فقال لهم: أو تجدون ذلك في حكم الله وفي حكم داود؟ قال: فرفعوا خبره إلى داود فقال: «أرضوه» . فقالوا: بكم نأخذه يا نبي الله؟ قال: «خذوه بمائة شاة» . فقال الرجل: زد. فقال داود: «بمائة بقر» . قال: زد. قال: «مائة إبل» . قال: زدني فإنّ ما تشتريه لله تعالى. فقال داود: «أما إذا قلت هذا، فاحتكم أعطكه» فقال: تشتري مني بحائط مثله زيتونا ونخلا وعنبا. قال: «نعم» . فقال: تشتريه لله فلا تبخل. قال: «سل ما شئت أعطكه، وإن شئت أؤاجرك نفسي» قال: وتفعل ذلك يا نبي الله؟ قال: «نعم إذا شئت» . قال: أنت أكرم على الله من ذلك، ولكنك تبني حوله جدارا مشرفا ثم تملؤه ذهبا، وإن شئت ورقا. قال داود: «هو هين» .
فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال: هذا هو التائب المخلص. ثم قال لداود: يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنبا واحدا أحبّ إلي من كل شيء وهبته لي، ولكني كنت أجرّبكم. فأخذوا في بناء بيت المقدس، وكان داود (عليه السلام) ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة. فأوحى الله تعالى إلى داود (عليه السلام) : «إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان، أسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده، وذلك صيته وذكره لك باقيا» «1» . فصلوا فيه زمانا، وداود يومئذ ابن سبع وعشرين ومائة سنة، فلما صار من أبناء أربعين ومائة سنة توفّاه الله واستخلف سليمان. فأحبّ بناء بيت المقدس، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له. فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضا، وأنزل كل ربض منها سبطا من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطا. فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجّه الشياطين فرقا، يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر، وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر، فأتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلّا الله تعالى، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللئالئ فكانوا يعالجونها، فتصوّت صوتا شديدا لصلابتها، فكره سليمان تلك الأصوات. فدعا الجن وقال لهم: «هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت؟» . فقالوا: يا رسول الله، ليس في الجن أكثر تجارب، ولا أكثر علما من صخر العفريت، فأرسل إليه من يأتيك به. فطبع سليمان خاتمه طابعا- وكان يطبع للشياطين بالنحاس، ولسائر الجن بالحديد- وكان إذا طبع أحد هما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف، فكان لا يراه أحد: جني ولا شيطان إلّا انقاد له بإذن الله عزّت قدرته. فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور، فأروه الطابع، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفا، فأقبل مسرعا مع الرسل حتى دخل على سليمان (عليه السلام) . فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه. فقالوا: يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس. فقال له سليمان (عليه السلام) : «ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعا حتى صرت تسخر بالناس؟» .
فقال: يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّبا مما كنت أسمع وأرى في طريقي. فقال سليمان: «وما ذاك؟» . قال: اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها، فسقى البغلة وملأ الجرة، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة «1» . ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله، فضحكت من غفلته وجهله. ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء، وقد كنت عهدت رجلا دفن في موضع فراشها ذهبا كثيرا في الدهور الخالية، فرأيتها تموت جوعا وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها. ومررت برجل في بعض المدن، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه، فصار يتطبّب للناس، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلّا أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ، فضحكت منه. ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلا، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزنا فضحكت من ذلك. ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة، فملّ منهم قوم وقاموا، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس، وغشيت الذين جاءوا فجلسوا، فضحكت تعجبا للقضاء والقدر. قالوا: فقال سليمان له: هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئا تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت؟ فقال: نعم يا نبي الله، أعرف حجرا أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب. فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى ينقبه به ليصل إلى فراخه. قال: فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوما وليلة، ثم سرح العقاب دون الفراخ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة، وثقب به الصندوق حتى
وصل إلى فراخه. فوجه سليمان مع العقاب نفرا من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم، وهو حجر عزيز ثمين. قال: فبنى سليمان (عليه السلام) المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمّده بأساطين المها الصافي، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر. فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله وأنّ كل شيء فيه خالص لله، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا. وقالوا: من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أن بنى بيتا وطيّن حائطه بالخضرة وصقله، فكان إذا دخله الورع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود. فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة. ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها، ومن مسها من غيرهم احترقت يده. وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الله الثالثة: سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أن لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلّا خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» [31] «1» . قالوا: فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان (عليه السلام) حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق. قال سعيد بن المسيب: لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتى قال في دعائه: «بصلوات أبي داود إلّا فتحت الأبواب» . ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلّا والله يعبد فيها.
وَتَماثِيلَ أي صور، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم. وَجِفانٍ أي قصاع، واحدها جفنة كَالْجَوابِ كالحياض التي يجبى فيها الماء، أي يجمع، واحدها جابية. قال الأعشى ميمون بن قيس: تروح على آل مخلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال: أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا سهل السرّاج قال: سمعت الحسن يقول: (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) مثل حياض الإبل، ويقال: إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه. وَقُدُورٍ راسِياتٍ: ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن، ومنه قيل للجبال: رواسي اعْمَلُوا أي وقلنا: اعملوا آلَ داوُدَ شُكْراً مجازه: اعْمَلُوا بطاعة الله يا آلَ داوُدَ شُكْراً له على نعمه، وشُكْراً في محل المصدر. وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ أرسل حمزة (الياء) وفتحها الباقون. قال القرظي: الشكر: تقوى الله والعمل بطاعته. وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال: حدثنا الحصر بن أبان قال: حدّثنا سيار قال: حدّثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت ثابتا يقول: كان داود نبي الله (عليه السلام) قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلي، فعمهم الله تعالى في هذه الآية اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً. فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ قال المفسرون: كان سليمان (عليه السلام) يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، يدخل فيه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدوّ ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلّا نبتت في بيت المقدس شجرة فيسألها: «ما اسمك؟» فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول لها: «لأيّ شيء أنت؟» فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع. فإن كانت نبتت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتب. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: «ما اسمك؟» . قالت: الخروبة. قال: «ولأيّ شيء نبتّ؟» قالت: لخراب هذا المسجد. فقال سليمان: «ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي، وخراب بيت المقدس» . فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال: «اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب» -
وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء وإنهم يعلمون ما في غد- ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات. قال ابن زيد: قال سليمان لملك الموت: «إذا أمرت بي فاعلمني» . قال: فأتاه فقال: «يا سليمان قد أمرت بك، وقد بقيت لك سويعة» . فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلي واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متّكئ على عصاه. وفي رواية أخرى: أنّ سليمان (عليه السلام) قال ذات يوم لأصحابه: «قد آتاني الله من الملك ما ترون، وما مرّ عليّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببت أن يكون لي يوم واحد يصفو لي إلى الليل، ولا أغتم فيه ولكن ذلك اليوم غدا» . فلما كان من الغد دخل قصرا له وأمر بإغلاق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع ذلك اليوم شيئا يسوؤه، ثم أخذ عصاه بيده، وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب من جوانب قصره، فقال: «السلام عليك يا سليمان» . فقال: «وعليك السلام، كيف دخلت هذا القصر، وقد منعت من دخوله؟ أما منعك البوّاب والحجّاب؟ أما هبتني حيث دخلت قصري بغير إذني؟» فقال: «أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن» قال سليمان: «فمن أذن لك في دخوله؟» قال: «ربه» . فارتعد سليمان وعلم أنه ملك الموت، فقال له: «أنت ملك الموت؟» قال: «نعم» ، قال: «فبمّ جئت؟» . قال: «جئت لأقبض روحك» . قال: «يا ملك الموت هذا يوم أردت أن يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني» . قال: «يا سليمان، إنّك أردت يوما يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتم فيه، ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا فارض بقضاء ربك فإنه لا مرد له» . قال: «فامض لما أمرت به» . فقبض ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه. قالوا: وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلاه أينما كان، فكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه، وكان الشيطان الذي يريد أن يخرج يقول: ألست جليدا إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر. فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق فنظر إلى سليمان وقد سقط ميتا، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته- وهي العصا بلسان الحبشة- قد أكلتها الأرضة،
ولم يعلموا مذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوما وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات من سنة، وكانت الجن تعمل بين يديه ينظرون إليه ويحسبون أنه حيّ ولا ينظرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك «1» . وهي في قراءة ابن مسعود: فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا كاملا، فأيقن الناس أنّ الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له. ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الطين والماء. فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت. قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون فوق الخشب فهو ممّا يأتيها به الشياطين تشكرا لها، فذلك قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ وهي الأرضة، ويقال لها: القادح أيضا وهي دويبة تأكل العيدان. تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ أي عصاه، فأصلها من نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها، وقال طرفة: أمون كألواح الأران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد «2» أي سقتها، وهمزها أكثر القراء، وترك همزها أبو عمرو وأهل المدينة، وهما لغتان، وقال الشاعر في الهمز: ضربنا بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا «3» وقال الآخرون في ترك الهمز: إذا دببت على المنساة من هرم ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل «4» قوله: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ، و (أن) في محل الرفع لأن معنى الكلام: فلما خر تبين وانكشف أن لو كان الجن أي ظهر أمرهم، وفي قراءة ابن مسعود أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، وقيل: (أن) في موضع نصب أي علمت وأيقنت الجن أن لو كانوا يعلمون. وقال أهل التاريخ: كان عمر سليمان (عليه السلام) ثلاثا وخمسين سنة وكان مدة ملكه أربعين سنة، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه والله أعلم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 إلى 27]
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 27] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ، روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرني عن سبأ ما كان رجلا أو امرأة، أو أرضا أو جبلا أو واديا؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلا من العرب ولد له عشرة من الولد، فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة فأما الذين تيامنوا، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير» . فقال رجل: وما أنمار؟ قال: «الذين منهم خثعم وبجيلة، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان» [32] «1» . والإجراء وترك الإجراء فيه سائغ، وقد قرئ بهما جميعا فالإجراء على أنه اسم رجل معروف، وترك الإجراء على أنه اسم قبيلة نحو (هذه تميم) . واختاره أبو عبيد لقوله: في مساكنهم، واختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والنخعي: (مَسْكَنِهِمْ) - بفتح الكاف- على الواحد، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر الكاف على الواحد. الباقون: مساكنهم جمع. آيَةٌ دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا، ثم فسرها فقال: جَنَّتانِ أي هي جنتان: بستانان
عَنْ يَمِينٍ من أتاهما وَشِمالٍ وعن شماله كُلُوا: وقيل لهم: كلوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ على ما أنعم عليكم، وإلى ها هنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال: بَلْدَةٌ أي هذه بلدة أو بلدتكم بلدة طَيِّبَةٌ ليست بسبخة. قال ابن زيد: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة قط ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القمل والدواب فما هو إلّا أن ينظروا لي بيوتهم فتموت الدواب، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفواكه ولم يتناول منها شيئا بيده فذلك قوله سبحانه: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ الهواء، وَرَبٌّ غَفُورٌ الخطأ كثير العطاء. قوله تعالى: فَأَعْرَضُوا، قال وهب: بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله، وذكروهم نعمه عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة. فقولوا لربكم الذي تزعمون فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع، فذلك قوله عز وجل: فَأَعْرَضُوا. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، والعرم: السد والمسناة التي تحبس الماء واحدتها عرمة، وأصلها من العرامة وهي الشدة والقوة. وقال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان هذا السد يسقي جنتيهم، وكان فيما ذكر بنته بلقيس وذلك أنها لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها فنزلته، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت، فقالوا: لترجعنّ أو لنقتلنّك. فقالت: إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول. قالوا: فإنا نطيعك فإنا لم نجد فينا خيرا بعدك. فجاءت فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة ضخمة، فجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم، فلما جاء المطر اجتمع إليه ماء الشجر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة وأمرت بالبعر فألقي فيها، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار وترسل البعر في الماء حتى خرجت جميعا معا فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان. وبقوا على ذلك بعدها، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الباب الأسفل ولا ينفد الماء، حتى يؤوب الماء من السنة المقبلة. فلما طغوا وكفروا، سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد فنقب من أسفله، فغرّق الماء جناتهم وخرب أرضهم. وقال وهب: وكانوا فيما يزعمون يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم ذلك فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلّا ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان وما أراد الله بهم من التفريق
أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى وهنته للسيل وهم لا يعلمون ذلك. فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على أموالهم فغرّقها ودفن بيوتهم الرمل، وفرّقوا ومزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب [فقالوا] «1» : تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، فذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ. وقيل: العرم هو المطر الشديد من العرامة وهي التمرّد والعصيان. وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ قراءة العامة بالتنوين، وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالإضافة، وهما متقاربتان كقول العرب: في بستان فلان أعناب كرم وأعناب كرم، فتضيف أحيانا الأعناب إلى الكرم لأنه منه، وتنون أحيانا الأعناب، ثم يترجم بالكرم عنها إذ كانت الأعناب ثمر الكرم. والأكل: الثمر، والخمط: الأراك في قول أكثر المفسرين، وقيل: كل شجرة ذات شوك، وقيل: شجرة الغضا، وقيل: هو كل نبت قد أخذ طعما من المرارة حتى لا يمكن أكله، وَأَثْلٍ وهو الطرفاء، عن ابن عباس، وقيل: هو شجر شبيه بالطرفاء إلّا أنه أعظم منه، وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة: ضرب من الخشب، وقيل: هو السمر. أبو عبيدة: هو النضار. وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، قال قتادة: بينما شجر القوم من خير الشجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم. قال الكلبي: فكانوا يستظلون بالشجر ويأكلون البربر وثمر السدر وأبوا أن يجيبوا الرسل ذلِكَ الذي جعلنا بهم، جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا أي بكفرهم، ومحل ذلك نصب بوقوع المجازاة عليه، تقديره جزيناهم ذلك بما كفروا: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ قرأ أهل الكوفة بالنون وكسر الزاي ونصب الراء، واختاره أبو عبيدة قال: [لقوله] «2» : جَزَيْناهُمْ، ولم يقل: جوزوا، وقرأ الآخرون بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع الراء، ومعنى الآية: وهل يجازى مثل هذا الجزاء إلّا الكفور، وقال مجاهد: يجازي أي يعاقب. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي الشام قُرىً ظاهِرَةً أي متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها. قال الحسن: كان أحدهم يغدوا فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى أخرى، وكانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار، وكان ما بين اليمن والشام كذلك. وقال ابن عباس: قُرىً ظاهِرَةً يعني: قرى عربيّة بين المدينة والشام. سعيد بن جبير: هي القرى التي ما بين مأرب والشام. مجاهد: هي السروات، وهب بن منبه: هي قرى صنعاء.
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، لا ينزلون إلّا في قرية، ولا يغدون إلّا في قرية، وقلنا لهم: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً وقت شئتم آمِنِينَ: لا تخافون عدوّا ولا جوعا ولا عطشا، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا: لو كان جني جناننا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا: فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد. فجعل الله لهم الإجابة، واختلف القراء في هذه الآية فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: (ربنا بعّد) ، على وجه الدعاء والسؤال من (التبعيد) ، وهي رواية هشام عن قرّاء الشام، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب: رَبُّنا- برفع الباء- باعَدَ- بفتح الباء والعين والدال- على الخبر، وهي اختيار أبي حاتم، استبعدوا أسفارهم بطرا منهم وأشرا، وقرأ الباقون: رَبَّنا بفتح الباء، باعِدْ بالألف وكسر العين وجزم الدال- على الدعاء، ففعل الله ذلك بهم، فقال: وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والبطر والطغيان، فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ: عظة وعبرة يتمثل بهم، وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، وأما الأزد فلحقوا بعمان. وقال ابن إسحاق: يزعمون أنّ عمران بن عامر وهو عم القوم- كان كاهنا فرأى في كهانته أنّ قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم، فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون، فمن كان منكم ذا همّ بعيد وحمل شديد ومزاد جديد فليلحق بكأس أو كرود، قال: فكان وادعة بن عمرو. ومن كان منكم يريد عيشا هانئا وحرما آمنا فليلحق بالأردن فكانت خزاعة، ومن كان منكم يريد الراسيات في الرجل والمطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل، فكان الأوس والخزرج، ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا وذهبا وحريرا وملكا وتأميرا، فليلحق بكوثى وبصرى، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام، ومن كان منهم بالعراق. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ قال مطرف: هو المؤمن الذي إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر. قوله: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ، قرأ أهل الكوفة: بتشديد الدال وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد، أي ظن فيهم ظنا حيث قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «1» ، وقال: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «2» ، فصدّق ظنه وحقّقه لفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه، وقرأ الآخرون: صدق بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم.
عَلَيْهِمْ أي على أهل سبأ، وقال مجاهد: على الناس كلّهم إلّا من أطاع الله فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إلّا تسليطنا إياه عليهم لِنَعْلَمَ: لنرى ونميز، ونعلمه موجودا ظاهرا كائنا موجبا للثواب والعقاب، كما علمناه قبل مفقودا معدوما بعد ابتلاء منا لخلقنا. قال الحسن: والله ما ضربهم بسيف ولا عصا ولا سوط إلّا أماني وغرورا دعاهم إليها. مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ الآية. قُلِ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين أنت بين ظهرانيهم: ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ، ثم وصفها فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ من خير وشر وضرّ ونفع، فكيف يكون إلها من كان كذلك؟ وَما لَهُمْ فِيهِما أي في السماوات والأرض مِنْ شِرْكٍ شركة وَما لَهُ أي لله مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ: عون. وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ تكذيبا منه لهم حيث قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي: (أُذِنَ) بضم الألف، واختلف فيها عن عاصم، وقرأ غيرهم: بالفتح. حَتَّى إِذا فُزِّعَ قرأ ابن عامر ويعقوب بفتح الفاء والزاي، [وقرأ] «1» غير هما: بضم الفاء وكسر الزاي، أي كشف الفزع، وأخرج عَنْ قُلُوبِهِمْ، وأخبرني ابن فنجويه قال: أخبرني أبو علي بن حبيس المقرئ قال: حدثنا أبو عبيد القاضي قال: أخبرني الحسين بن محمد الصباغ عن عبد الوهاب عن موسى الأسواري عن الحسن أنه كان يقرؤها (حتى إذا فرع عن قلوبهم) - بالراء والعين- يعني: فرعت قلوبهم من الخوف. واختلفوا في هذه الكناية والموصوفين بهذه الصفة من هم؟ وما السبب الذي من أجله فزع عن قلوبهم؟ فقال قوم: هم الملائكة، ثم اختلفوا في سبب ذلك، فقال بعضهم: إنما يفزع عن قلوبهم غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله سبحانه. أخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي بن عفان قال: حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال: إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيصعقون عند ذلك ويخرون سجدا، فإذا علموا أنه وحي فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قال: فيرد إليهم، فينادي أهل السماوات بعضهم بعضا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فرفعه بعضهم.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي سعيد البزاز قال: حدثنا علي بن أشكاب قال: أخبرني أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل (عليه السلام) ، فإذا جاءهم جبرائيل عليه السلام فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ فيقولون: يا جبرائيل ماذا قال ربك؟ قال: يقول: الحق، فينادون: الحق الحق» «1» [33] . والشاهد لهذا الحديث والمفسر له ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه قال: أخبرني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب قال: أخبرنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إنّ نبي الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله عز وجل الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: للذي قال: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» «2» [34] . وأنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير الطبري عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم عن الوليد بن مسلم عن عبد الرّحمن بن يزيد بن جابر عن أبي زكريا عن رجاء بن حبوة عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله: «فإذا سمع بذلك أهل السماوات، صعقوا وخرّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراده، ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مرّ بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. قال: فيقولون كلهم مثلما ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمر الله» [35] «3» . وبه عن ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن هشام عن عروة قال: قال الحرث ابن هشام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ قال: «يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته، ويأتيني أحيانا في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلاما وهو أهون عليّ» [36] «4» . وقال بعضهم: إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة. وقال الكلبي: كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) فترة زمان طويلة لا يجري فيها
الرسل خمسمائة وخمسين عاما، فلما بعث الله محمدا (عليه السلام) كلّم الله جبرائيل بالرسالة إلى محمد، فلما سمعت الملائكة الصوت ظنوا أنها الساعة قد قامت فصعقوا مما سمعوا. فلما انحدر جبرائيل جعل يمر بأهل كلّ سماء فيكشط عنهم فيرفعون رؤوسهم، فيقول بعضهم لبعض: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ فلم يدروا ما كان ولكنهم قالُوا: قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وذلك أنّ محمدا عند أهل السماوات من أشراط الساعة، فلما بعثه الله تعالى فزع أهل السماوات لا يشكون إلّا أنها الساعة. وقال الضحاك: إنّ الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم، إذا أرسلهم الرب فانحدروا سمع لهم صوت شديد، فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا ويصعقون، حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة، وهذا تنبيه من الله سبحانه وإخبار أنّ الملائكة مع هذه الصفة لا يمكنهم أن يشفعوا لأحد إلّا أن يؤذن لهم، فإذا أذن الله لهم وسمعوا وحيه كان هذا حالهم. فكيف تشفع الأصنام؟! وقال آخرون: بل الموصوفون بذلك المشركون. قال الحسن وابن زيد يعني: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم، قالت لهم الملائكة: ماذا قالَ رَبُّكُمْ في الدنيا؟ قالُوا: الْحَقَّ، فأقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في آخر السورة: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ «1» . قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ هذا على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل: أحدنا كاذب وهو يعلم أنه صادق وأنّ صاحبه كاذب. والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، إنّ أحد الفريقين لمهتد والآخر ضال. فالنبيّ ومن معه على الهدى ومن خالفه في ضلال، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب. وقيل هذا على جهة الاستهزاء بهم وهو غير شاك في دينه، وهذا كقول الشاعر وهو أبو الأسود: يقول الأرذلون بنو قشير: ... طوال الدهر لا تنسى عليّا بنو عم النبي وأقربوه ... أحبّ الناس كلّهم إليّا فإن يك حبهم رشدا أصبه ... وليس بمخطئ إن كان غيا «2»
فقاله من غير شك، وقد أيقن أن حبهم رشد. وقال بعضهم: أَوْ بمعنى الواو، يعني: إنا لعلى هدى وإنكم إياكم لفي ضلال مبين، كقول جرير: أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا «1» يعني ثعلبة ورياحا. قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا: يقضي بيننا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ. قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ يعني الأصنام هل خلقوا من الأرض شيئا أم لهم شرك في السماوات: وتفسيرها في سورة (الملائكة) و (الأحقاف) . ثم قال تعالى كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وهو القاهر القوي الذي يمنع من يشاء ولا يمنعه مانع، فهو العزيز المنتقم ممن كفر به وخالفه، الحكيم في تدبيره لخلقه، فإنّى يكون له شريك في ملكه؟
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 إلى 48]
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 48] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً عامة لِلنَّاسِ كلهم العرب والعجم وسائر الأمم. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا ابن فضيل قال: حدثنا (يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا ولا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة فادّخرتها لأمتي يوم القيامة، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئا» [37] . وقيل: معناه كافّ للناس. يكفّهم عما هم عليه من الكفر، ويدعوهم إلى الإسلام، والهاء فيه للمبالغة. بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب، ثم أخبر حالهم في مآلهم، فقال: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ: الكافرون مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يتلاومون ويحاور بعضهم بعضا يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي مكركم بنا. فهما كما يقال: عزم الأمر وفلان نهاره صائم وليله قائم. قال الشاعر: ونمت وما ليل المطي بنائم وقيل: مكر الليل والنهار بهم طول السلامة فيهما كقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ «1» ،
ونحوه. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ ... ، نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا: أظهروا النَّدامَةَ، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء، والإبداء لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ: الجوامع من النار فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا: الأتباع والمتبوعين، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا؟ وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ: رسول إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: رؤساؤها وأغنياؤها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً منكم، ولو لم يكن راضيا بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخوّلنا الأموال والأولاد. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، وليس يدل ذلك على العواقب والمنقلب، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنها كذلك. وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ: لكن من آمن وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا من الثواب بالواحد عشرة، و (من) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون محله نصبا بوقوع تقرب عليه، والآخر: رفع تقديره: وما هو إلّا من آمن. وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ الدرجات آمِنُونَ. وقراءة العامة: جَزاءُ الضِّعْفِ بالإضافة، وقرأ يعقوب: (جَزاءً) منصوبا منوّنا. الضعف رفع مجازه: فأولئك لهم الضعف جزاء على التقديم والتأخير، وقراءة العامة: الْغُرُفاتِ بالجمع، واختاره أبو عبيد قال: لقوله: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً «1» ، وقرأ الأعمش وحمزة: (في الغرفة) على الواحدة. وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ: يعملون فِي آياتِنا بإبطال حججنا وكتابنا، ومُعاجِزِينَ معاونين معاندين يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم ويعجزوننا، أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ. قال سعيد بن جبير: ما كان من غير إسراف ولا تقتير فَهُوَ يُخْلِفُهُ، وقال الكلبي: ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير والبر من نفقة فَهُوَ يُخْلِفُهُ إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدثنا أبي قال: حدثنا علي بن داود القنطري قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الله عزّ وجل قال لي: أنفق أنفق عليك» [38] «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن شاذان عن جعونة بن محمد قال: حدثنا صالح
ابن محمد عن سليمان بن عمرو عن ابن حزم عن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد كلّ ليلة: لدوا للموت وينادي مناد: ابنوا للخراب، وينادي مناد: اللهمّ هب للمنفق خلفا، وينادي مناد: اللهم هب للممسك تلفا، وينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا، وينادي مناد: ليتهم إذ خلقوا فكروا فيما له خلقوا» [39] «1» . وأخبرني الحسين بن محمد الحافظ قال: حدثنا موسى بن محمد قال: حدثنا الحسن بن علويه قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا المسيب، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرّحمن عن أبيه قال: قال عمر لصهيب: إنك رجل لا تمسك شيئا، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ. وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وأخبرني أبو سفيان الثقفي قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا الحسن بن داود الخشاب قال: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا عبد الحميد بن الحسن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة وما وقى به عرضه فهو صدقة، وما أنفق المؤمن من نفقة فإنّ خلفها على الله ضامن إلّا ما كان نفقة في بنيان أو معصية» [40] «2» . قال عبد الحميد: فقلت لمحمد: ما معنى «ما يقي به الرجل عرضه» ؟ قال: يعطي الشاعر أو ذا اللسان المتّقى. وقال مجاهد: إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ فإنّ الرزق مقسوم، فلعل رزقه قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، ومعنى الآية (ما كان من خلف فهو منه) ، وربما أنفق الإنسان ماله أجمع في الخير ثم لم يزل عائلا حتى يموت، ولكن ما كان من خلف فهو منه، ودليل تأويل مجاهد ما أخبرني أبو سفيان الحسين بن محمد بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن الحسين بن بشير قال: أخبرني أبو بكر بن أبي الخصيب قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عمرو بن الحصين قال: حدثنا ابن علانة- وهو محمد- عن الأوزاعي عن ابن أبي موسى عن أبي أمامة قال: إنكم تؤوّلون هذه الآية على غير تأويلها وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ. وسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول وإلّا فصمتا: «إياكم والسّرف في المال والنفقة، وعليكم بالاقتصاد، فما افتقر قوم قط اقتصدوا» [41] «3» .
وقال (عليه السلام) : «ما عال من اقتصد» «1» [42] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عاصم بن خالد قال: أخبرني أبو بكر قال: حدثنا حمزة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من فقه الرجل رفقه في معيشته» [43] «2» . وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وإنما جاز الجمع لأنه يقال: رزق السلطان الجند، وفلان يرزق عياله، كأنه قال: وهو خير المعطين. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني هؤلاء الكفّار ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ في الدّنيا؟ فتتبرأ منهم الملائكة فتقول: سُبْحانَكَ: تنزيها لك. أَنْتَ وَلِيُّنا: ربنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي يطيعون إبليس وذريته وأعوانه في معصيتك. أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ: مصدقون. قال قتادة: هو استفهام تقديره كقوله لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي ... «3» . فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا: شفاعة ولا عذابا، وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في الدّنيا فقد وردتموها. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا يعني محمدا (عليه السلام) إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً يعنون القرآن وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَما آتَيْناهُمْ هؤلاء المشركين مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها يقرءونها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ. وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم رسلنا وتنزيلنا وَما بَلَغُوا يعني هؤلاء المشركين مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ يعني مكذبي الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ: إنكاري وتغيري عليهم، يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية. قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ آمركم وأوصيكم بِواحِدَةٍ بخصلة واحدة وهي أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ لأجل الله و (أن) في محل الخفض على البيان من (واحدة) والترجمة عنها مَثْنى يعني اثنين اثنين متناظرين، وَفُرادى واحدا واحدا متفكرين ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا جميعا، والفكر: طلب المعنى بالقلب، فتعلموا، ما بِصاحِبِكُمْ محمد مِنْ جِنَّةٍ جنون كما تقولون، و (ما) جحد ونفي. إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ. قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ على تبليغ
[سورة سبإ (34) : الآيات 49 إلى 54]
الرسالة والنصيحة مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما ثوابي إلّا على الله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ: يرمي ويأتي بِالْحَقِّ ينزله من السماء إلى خير الأنبياء، عَلَّامُ الْغُيُوبِ رفع بخبر إن. [سورة سبإ (34) : الآيات 49 الى 54] قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) قُلْ جاءَ الْحَقُّ القرآن والإسلام، وقال الباقر: يعني السيف. وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبق له بقية يبدي بها ولا يعيد، وهذا كقوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ «1» . وقال الحسن: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ، وهو كل معبود من دون الله لأهله خيرا في الدنيا وَما يُعِيدُ في الآخرة. وقال قتادة: الباطل إبليس، أي ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه، وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود معه ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «2» جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ. قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وآخذ بجنايتي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ. وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ يعني من عذاب الدنيا، فلا نجاة وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يعني عذاب الدّنيا، وقال الضحاك وزيد بن أسلم: هو يوم بدر. الكلبي: من تحت أقدامهم. وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال: خسف بالبيداء. أخبرني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال: أخبرنا محمد بن
جرير قال: حدّثني عصام بن رواد بن الجراح قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سفيان بن سعيد قال: حدّثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب: «فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق، فيبعث جيشين: جيشا إلى المشرق، وجيشا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام، فتخرج راية هدى من الكوفة، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها. ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله سبحانه جبرائيل (عليه السلام) فيقول: يا جبرائيل اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ فلا ينفلت منهم إلّا رجلان: أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة» [44] «1» . فلذلك جاء القول: «وعند جهينة الخبر اليقين» . وقال قتادة: ذلك حين يخرجون من قبورهم، وقال ابن معقل: إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه. وَقالُوا حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى: من أين لَهُمُ التَّناوُشُ تناول التوبة ونيل ما يتمنون؟ قال ابن عباس: يسألون الراد وليس يحين الرد، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (التناؤش) : بالهمز والمد، وهو الإبطاء والبعد. يقال: تناشيت الشيء أي أخذته من بعيد، والنيش الشيء البطيء. قال الشاعر: تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور «2» وقال آخر: وجئت نئيشا بعدها فاتك الخبر «3»
وقرأ الباقون: بغير همز، من التناول. يقال: نشته نوشا إذا تناولته. قال الراجز: فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا «1» وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضا وتدانوا، واختار أبو عبيد: ترك الهمز لأنّ معناه: التناول، وإذا همز كان معناه البعد. فكيف يقول: أنى لهم البعد مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ: من الآخرة؟ فكيف يتناولون التوبة، وإنما يقبل التوبة في الدّنيا وقد ذهبت الدّنيا فصارت بعيدة من الآخرة؟ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، أي من قبل نزول العذاب وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، يعني يرمون محمدا صلّى الله عليه وسلم بالظنون لا باليقين، وهو قولهم: إنه ساحر، بل شاعر، بل كاهن، هذا قول مجاهد، وقال قتادة: يعني يرجمون بالظن، يقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ، يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدّنيا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي أهل دينهم وموافقهم من الأمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
سورة الملائكة (فاطر)
سورة الملائكة (فاطر) أخبرني محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن مطير النيسابوري قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاث أبواب من الجنّة أن ادخل من أي الأبواب شئت» [45] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) قوله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ يعني في أجنحة الملائكة. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا ابن شاذان قال: حدّثنا جعونة بن محمد قال: حدّثنا صالح بن محمد قال: حدثنا مسلم بن إياس عن عبد الله بن المبارك عن ليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جبرائيل (عليه السلام) : أن يتراءى له في صورته، فقال له جبرائيل (عليه السلام) . «إنك لن تطيق ذلك» . قال: «إني أحبّ أن تفعل» .
فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المصلّى في ليلة مقمرة، فأتاه جبرائيل (عليه السلام) في صورته، فغشي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين رآه، فلما أفاق وجبرائيل (عليه السلام) مسنده واضعا إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سبحان الله ما كنت أرى أنّ شيئا من الخلق هكذا» . فقال جبرائيل عليه السلام: «فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام؟ إنّ له لاثني عشر جناحا جناح منها بالمشرق وجناح بالمغرب، وإنّ العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين «1» لعظمة الله عز وجل حتى يعود هذا الوصع- والوصع عصفور صغير- حتى ما يحمل عرشه إلّا عظمة» [46] . وأخبرني أبو الحسن الساماني قال: أخبرني أبو حامد البلالي عن العباس بن محمد الدوري قال: أخبرني أبو عاصم النبيل عن صالح التاجي عن ابن جريج عن ابن شهاب في قول الله عز وجل: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال: حسن الصورة. وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن عبد الله بن محمد بن سنان عن سلمة بن حبان عن صالح التاجي عن الهيثم القارئ قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم في المنام فقال: أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك؟ جزاك الله خيرا، وقيل: الخطّ الحسن. أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شيبة عن ابن زنجويه عن سلمة عن يحيى بن أحمد الفزار ويحيى ابن أكثم قالا: أخبرنا أبو اليمان عن عاصم بن مهاجر الكلاعي عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: الخط الحسن يزيد الحق وضحا. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثني الحسن بن علي بن يزيد الوشاء عن علي بن سهل الرملي قال: أخبرني الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله عز وجل: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ قال: الملاحة في العينين. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الزيادة والنقصان. ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ نعمة، فَلا مُمْسِكَ لَها: لا يستطيع أحد حبسها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ فيما أمسك الْحَكِيمُ فيما أرسل. يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ. قرأ سفيان بن سلمة وأبو جعفر وحمزة والأعمش والكسائي: غير بالخفض وهو اختيار أبي عبيد. الياقوت: بالرفع. وهذه الآية حجة على القدرية لأنه نفى خالقا غيره وهم يثبتون معه خالقين كثيرين. يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
فعزى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، قراءة العامة بفتح الغين، وهو الشيطان، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا أحمد بن يزيد المقري عن محمد بن المصفى عن أبي حياة، قرأ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغُرُورُ برفع الغين، وهي قراءة ابن السماك العدوي يدل عليه وما حدثنا. قال: أخبرنا عبد الله بن حامد محمد بن خالد قال: أخبرنا داود بن سليمان قال: أخبرنا عبد بن حميد عن يحيى بن عبد الحميد عن ابن المبارك عن عبد الله بن عقبة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير: لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ قال: أن يعمل المعصية ويتمنّى العفو. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا: فعادوه ولا تطيعوه إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ: أشياعه وأولياءه لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ليسوقهم إلى النار، فهذه عداوته ثم بيّن حال موافقيه ومخالفيه فقال عزّ من قائل: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ. قوله: فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ أي شبّة وموّه وحسّن له سُوءُ: قبح عَمَلِهِ وفعله فَرَآهُ حَسَناً زين ذلك الشيطان بالوسواس ونفسه تميله إلى الشبهة وترك النظر في الحجة المؤدية إلى الحق، والله سبحانه وتعالى يخلقه ذلك في قلبه، وجوابه محذوف مجازه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ كمن لم يزين له سوء عمله ورأى الحق حقا والباطل باطلا؟ نظيره قوله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «1» ، وقوله أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ «2» ونحوها. وقيل: معناه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فأضلّه الله كمن هداه؟ دليله قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وقيل: معناه تحت قوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، فيكون معناه: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة، أي تتحسف عليه؟ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ، وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، والحسرة: شدة الحزن على ما فات من الأمر. وقراءة العامة: (تَذْهَبْ نَفْسُكَ) : بفتح التاء والهاء وضم السين، وقرأ أبو جعفر بضم التاء وكسر الهاء وفتح السين، ومعنى الآية: لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إذ لم يؤمنوا، نظيره فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ «3» .
[سورة فاطر (35) : الآيات 9 إلى 14]
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ. [سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 14] وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ من القبور. أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد عن داود بن سليمان عن عبد بن حميد عن المؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال: قلت يا رسول الله: كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «هل مررت بواد أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا؟» قلت: نعم. قال: «فكذلك يحيى الله الموتى، وتلك آيته في خلقه» [47] «1» . قوله عز وجل مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ، يعني علم العزة لمن هي، فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، وذلك أنّ الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «2» ، وقال سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «3» ، كلّا، وردّ الله عليهم: من أراد أن يعلم لمن العزّة الحقيقة فآية العزّة لله، ومن أراد أن يكون في الدراين عزيزا فليطع الله فإنّ العزّة لله جميعا.
إِلَيْهِ أي إلى الله، ومعناه: إلى محل القبول وإلى حيث لا يملك فيه الحكم إلّا الله عز وجل، وهو كما يقال: ارتفع أمرهم إلى القاضي. يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يعني: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» وكل ذكر مرضي لله تعالى، وقرأ أبو عبد الرّحمن: (الكلام الطيب) ، وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن أحمد الهمداني قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد المسكين البصري عن أحمد بن محمد المكي عن علي بن عاصم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم: في قول الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال: «هو قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر، إذا قالها العبد عرج بها ملك إلى السماء فحيا بها وجه الرّحمن عزّ وجل، فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه» [48] . واختلف العلماء في حكم هذه الكناية ومعنى الآية، فقال أكثر المفسرين: الهاء في قوله: يَرْفَعُهُ راجعة إلى الْكَلِمُ الطَّيِّبُ، يعني أنّ العمل الصالح يرفع الكلم فلا يقبل القول إلّا بالعمل، وهذا اختيار نحاة البصرة، وقال الحسن وقتادة: الْكَلِمُ الطَّيِّبُ: ذكر الله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ أداء فرائضه. فمن ذكر الله ولم يؤدّ فرائضه زاد كلامه على عمله، وليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقته «1» الأعمال. فمن قال حسنا وعمل غير صالح ردّ الله عليه قوله، ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ذلك فإن الله يقول: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ. ودليل هذا التأويل قوله (عليه السلام) : «لا يقبل الله قولا إلّا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلّا بنية [ولا يقبل قولا ونية إلّا باصابة السنة] » [49] . وجاء في الخبر: «الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب» [50] «2» . وفي هذا المعنى يقول الشاعر: لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يزيّن ما يقول فعال «3» فإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال قال ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر، وفيه قيل: لا يكون المقال إلّا بفعل ... إنما القول زينة في الفعال
كل قول يكون لا فعل فيه ... مثل ماء يصبّ في غربال وأنشدني أبو القاسم الحبيشي لنفسه: لا يكون المقال إلّا بفعل ... وكلّ قول بلا فعال هباء إنّ قولا بلا فعال جميل ... ونكاحا بلا ولي سواء «1» وقال بعض أهل المعاني على هذا القول: معنى يَرْفَعُهُ، أي يجعله رفيعا ذا وزن وقيمة، كما يقال: طود رفيع ومرتفع، وقيل: العمل الصالح هو الخالص، يعني أنّ الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأعمال، دليله قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً «2» أي خالصا ثم قال: وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «3» ، فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء، وقال قوم: هذه الكناية راجعة إلى العمل، يعني أنّ الكلم الطيب يرفع العمل فلا يرفع ولا يقبل عمل إلّا أن يكون صادرا عن التوحيد وعائد الذكر يرفع وينصب، وهذا التأويل اختيار نحاة الكوفة وقال آخرون: الهاء كناية عن العمل، والرفع من صفة الله سبحانه، أي يرفعه الله. وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يعملون، قال مقاتل: يعني الشرك، وقال أبو العالية: يعني الذين مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار الندوة، وقال الكلبي: الَّذِينَ يَمْكُرُونَ يعني يعملون السيئات في الدّنيا، وقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب: هم أصحاب الرياء. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ أي يكسد ويفسد ويضل ويضمحل في الآخرة. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قراءة العامة: (يُنْقَصُ) بضم الياء، وقرأ الحسن وابن سيرين وعيسى (يَنْقُصُ) بفتح الياء وضم القاف، وقرأ الأعرج: مِنْ عُمْرِهِ بالتخفيف. قال سعيد بن جبير: مكتوب في أول الكتاب عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره. وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ: طيب سائِغٌ: جائز هني شَرابُهُ. وقرأ عيسى: (سيّغ) مثل: ميّت وسيّد. وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة، عن: ابن عباس، وقال الضحاك: هو المرّ مزاجه كأنه يحرق من شدة المرارة والملوحة. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا: طعاما شهيا، يعني: السمك من العذب والملح، وَتَسْتَخْرِجُونَ منه: من
الملح دون العذب حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني اللؤلؤ، وقيل: فيه عيون عذبة، ومما بينهما يخرج اللؤلؤ. وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ: جواري، وقال مقاتل: هو أن يرى سفينتين إحداهما مقبلة والأخرى مدبرة، وهذه تستقبل تلك وتلك تستدبر هذه، يجريان بريح واحدة، لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله على نعمه. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا ابن شاذان قال: حدثنا جيفويه بن محمد قال: حدثنا صالح بن محمد عن القاسم بن عبد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كلم الله البحرين فقيل للبحر الذي بالشام: يا بحر إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء، وإني حامل فيك عبادا يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم. قال الله عز وجل: فإني أحملهم على ظهرك وأجعل بأسك في نواحيك [وحاملهم على يدي] . وقال للبحر الذي باليمن: إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل فيك عبادا لي يسبحونني ويحمدونني ويهللوني ويكبرونني فما أنت صانع بهم؟ قال: أسبحك وأحمدك وأهللك وأكبرك معهم، وأحملهم على [ظهري] بطني. قال الله سبحانه: فإني أفضلك على البحر الآخر بالحلية والطري» [51] «1» . قوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وهي القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة، عن أكثر المفسرين. وقال ابن عباس: هو شق النواة، وقال السدي: هو ما ينقطع به القمع. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يعني نفسه تعالى.
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 إلى 35]
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 35] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، سئل الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» فقال: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى طوعا وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ كرها. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ يعني وَإِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بذنوب غيرها إِلى حِمْلِها، أي حمل ما عليها من الذنوب لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى: ولو كان المدعوّ ذا قربى له: ابنه أو أمه أو أباه أو أخاه. أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عن أحمد بن محمد بن رزمة القزويني عن محمد بن عبد ابن عامر السمرقندي قال: حدّثنا إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: قوله سبحانه: لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى قال: يعني الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم تكن بطني لك وعاء؟ ألم يكن لك ثديي سقاء؟ فيقول: بلى يا أماه. فتقول: يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني ذنبا واحدا. فيقول: يا أماه إليك عني، فإني اليوم عنك مشغول. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه ولم يروه، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى صلح عمل خيرا وصالحا فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني: الجاهل والعالم، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ
يعني: الكفر والإيمان، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ يعني: الجنة والنار، والحرور: الريح الحارة بالليل، والسموم بالنهار، وقال بعضهم: الحرور: بالنهار مع الشمس، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ يعني: المؤمنين والكفار. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، حتى يتعظ ويجيب وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يعني: الكفار شبههم بالأموات، وقرأ أشهب العقيلي: (بِمُسْمِعِ مَنْ فِي الْقُبُورِ) بلا تنوين على الإضافة. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كرر وهما واحد لاختلاف اللفظين. ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها قدم النعت على الاسم فلذلك نصب. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ: طرق، واحدها جدّة نحو مدة و (مدد) ، وأما جمع الجديد فجدد (بضم الدال) مثل: سرير وسرر بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ، قال الفراء: فيه تقديم وتأخير، مجازه: سود غرابيب، وهي جمع غربيب، هو الشديد السواد يشبّهها بلون الغراب قال الشاعر يصف كرما: ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... البعض منها ملاحيّ وغربيب «1» وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ قال: المؤرخ: إنما أَلْوانُهُ لأجل (من) «2» ، وسمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر محمّد بن عياش يقول: إنما قال: أَلْوانُهُ لأجل أنها مردودة إلى «ما» في الإضمار، مجازه: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ ما هو مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ «3» . كَذلِكَ تمام الكلام هاهنا، أي ومن هذه الأشياء مختلف ألوانه باختلاف الثمرات، ثم ابتدأ فقال سبحانه وتعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ روى عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأ (إِنَّما يَخْشَى اللَّهُ) رفعا و (الْعُلَماءَ) نصبا، وهو اختيار أبي حنيفة على معنى يعلم الله، وقيل: يختار، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة. وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه عن إسحاق بن صدقة قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم عن سيف بن عمر قال: حدّثنا عباس بن
عوسجة عن عطاء الخراساني رفع الحديث قال: ظهر من أبي بكر خوف حتى عرف فيه فكلمه النبي صلّى الله عليه وسلم في ذلك فأنزل الله سبحانه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ في أبي بكر رضي الله عنه وفي الحديث: «أعلمهم بالله أشدهم له خشية» [52] . وقال مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه. وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أيوب المحرمي قال: حدثنا صالح بن مالك الأزدي قال: حدّثنا عبيد الله بن سعد عن صالح بن مسلم الليثي قال: أتى رجل الشعبيّ فقال: أفتني أيها العالم؟ فقال: العالم من خشي الله عز وجل. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ الآية قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: حدّثنا ابن شاذان قال: حدثنا جيعويه قال: حدّثنا صالح بن محمد عن عبد الله بن عبد الله عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي أنه قال: قام رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال: «ألك مال؟» . قال: نعم. قال: «فقدمه» . قال: لا أستطيع. قال: «فإنّ قلب المرء مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به، وإن أخّره أحب أن يتأخر معه» [53] «1» . يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ، قال الفراء: قوله يَرْجُونَ جواب لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ مردود إلى ما قبله من كتب الله في قوله: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، أي قبله من الكتب السالفة، أي أنزلنا تلك الكتب، ثُمَّ أَوْرَثْنَا هذا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، ويجوز أن تكون ثُمَّ بمعنى الواو أي (وأورثنا) كقوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «2» أي وكان ومعنى أَوْرَثْنَا: أعطينا لأنّ الميراث عطاء، قاله مجاهد، وقال بعض أهل المعاني: أَوْرَثْنَا أي أخرنا، ومنه الميراث لأنه تأخر عن الميت ومعناه: أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهّلناكم له، وقال عنترة: وأورثت سيفي عن حصين بن معقل ... إلى جده إني لثأري طالب أي أخرت، وفي هذا كرامة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم حيث قال لهم: أَوْرَثْنَا وقال: لسائر الأمم وَرِثُوا الْكِتابَ الآية يعني القرآن.
الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وهم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) . ثم قسمهم ثلاث طبقات ورتبهم على ثلاث درجات فقال الله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قيّد اللفظ وعلّق الظلم بالنفس فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه. فإن قيل: ما وجه الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق وإنما يقدم الأفضل؟ فالجواب عنه أن نقول: إنما أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنان والثواب، كما قدم الصوامع والبيع والصلوات في سورة الحج على المساجد التي هي أفضل بقاع الأرض، فتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله تعالى. ومنهم من قال: إنما جعل ذلك لأن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى على الأفضل. كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «1» ، وقال: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ «2» ، وقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ «3» وقال: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ «4» . وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله. وقال جعفر الصادق (عليه السلام) : «بدأ بالظالم إخبارا «5» أنه لا يتقرب إليه إلّا بصرف رحمته وكرمه، وأنّ الظلم لا يؤثّر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله وكلّهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص» [54] «6» . وقال بعضهم: قدم الظالم لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلّا رحمة الله فاعتمد على الله واتكل على رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته وطاعته. وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء لأنّ الاصطفاء أوجب الإرث لا الإرث أوجب الاصطفاء لذلك قيل: صحح النسبة ثم أطمع في الميراث. وقال أبو بكر الوراق: إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأنّ أحوال العبد ثلاث: معصية، وغفلة، ثم توبة وقربة. فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين، وإذا تاب دخل في
جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة اتصل بالله ودخل في عداد السابقين. واختلف المفسرون والمتأوّلون في معنى الظالم والمقتصد والسابق فأكثروا، وأنا ذاكر نصوص ما قالوا وبالله التوفيق: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن الحسين بن عبد الله الحافظ، قال: حدّثنا برهان ابن علي الصوفي والفضل بن الفضل الكندي قالا: أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب قال: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي ثابت أنّ رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم: قرأ هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فقال: «أما السابق فيدخل الجنة بِغَيْرِ حِسابٍ، وأما المقتصد ف يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة، فهم [الذين] قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ... إلى قوله: لُغُوبٌ [55] «1» . قال الكندي والأعمش عن رجل عن أبي ثابت: وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدّثني أبي عن إسحاق بن عيسى حدّثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عتبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فأما الذين سبقوا بالخيرات فأولئك الذين يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ... بِغَيْرِ حِسابٍ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حِساباً يَسِيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحسبون في طول المحشر ثم هم الذين تلقّاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ... إلى قوله: لُغُوبٌ [56] «2» وأخبرني الحسين قال: حدّثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن سمعان الذرار قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب بن الحسن المقرئ بواسط قال: حدّثنا محمّد بن خالد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله الحرازي قال: حدّثني من سمع عثمان بن عفان تلا هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية، فقال: سابقنا: أهل جهادنا، ومقصرنا: أهل حضرنا، وظالمنا: أهل بدونا.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا محمد بن إسحاق قال: حدّثنا إسماعيل بن يزيد قال: حدّثنا داود عن الصلت بن دينار قال: حدّثنا عقبة بن صهبان قال: دخلت على عائشة فسألتها عن قول الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ... فقالت لي: يا بني كلّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا. وقال مجاهد والحسن وقتادة: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالوا: هم أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ ... ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ هم أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ... وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ هم السَّابِقُونَ ... الْمُقَرَّبُونَ من الناس كلهم. قال قتادة: فهذا في الدنيا على ثلاث منازل وعند الموت قال الله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ إلى قوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ «1» ، وفي الآخرة أيضا، قال عز وجل: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ إلى قوله: الْمُقَرَّبُونَ «2» . وقال ابن عباس: السابق: المؤمن المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر بنعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، وسمعت أبا محمد شيبة بن محمد بن أحمد الشعبي يقول: سمعت أبا بكر بن عبد يقول: قالت عائشة: السابق: الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد: الذي أسلم بعد الهجرة، والظالم: نحن. وقال بكر بن سهل الدمياطي: الظالم لنفسه: الذي مات على كبيرة ولم يتب منها، والمقتصد: الذي لم يصب كبيرة، والسابق بالخيرات: الذي لم يعص الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وعن الحسن أيضا قال: السابق: من رجحت حسناته، والمقتصد: من استوى حسناته وسيئاته، والظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته. سهل بن عبد الله: السابق: العالم، والمقتصد: المتعلم، والظالم: الجاهل، وعنه أيضا: السابق: الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد: الذي اشتغل بمعاده عن معاشه، والظالم: الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل: الظالم: طالب الدنيا، والمقتصد: طالب العقبى، والسابق، طالب المولى. وقيل: الظالم: المسلم، والمقتصد: المؤمن، والسابق: المحسن.
وقيل: الظالم: المرائي في جميع أعماله، والمقتصد: من تكون أعماله بعضها رياء وبعضها إخلاصا، والسابق: المخلص في أفعاله كلها، وقيل: الظالم: من أخذ الدنيا حلالا كان أو حراما، والمقتصد: من يجتهد في طلب الحلال، والسابق: الذي ترك الدنيا جملة وأعرض عنها. أبو عثمان الحبري: الظالم: من وجد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله، والمقتصد: من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه، والسابق: من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص في عمله، وقيل: السابقون: هم المهاجرون الأولون، والمقتصدون: عامة الصحابة، والظالمون: التابعون. وسمعت محمد بن الحسين السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز بمصر يقول: قال ابن عطا: الظالم: الذي تحبه من أجل الدّنيا، والمقتصد: الذي تحبه من أجل العقبى، والسابق: الذي أسقط مراده بمراد الحق، فلا يرى لنفسه طلبا ولا مرادا لغلبة سلطان الحق عليه، وقيل: الظالم: من كان ظاهره خيرا من باطنه، والمقتصد: الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق: الذي باطنه خير من ظاهره. وقيل: الظالم: الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد: الذي يعبده طمعا في الجنة، والسابق: الذي يعبده لا لسبب، وقيل: الظالم: الزاهد، والمقتصد: العارف، والسابق: المحب، وقيل: الظالم: الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد: الذي يصبر عند البلاء، والسابق: الذي يتلذذ بالبلاء، وقيل: الظالم: الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد: الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق: الذي يعبده على الهيبة ورؤية المنة، وقيل: الظالم: الذي أعطي فمنع، والمقتصد: الذي أعطي فبذل، والسابق: الذي منع فشكر، وقيل: الظالم: غافل، والمقتصد: طالب، والسابق واجد، وقيل: الظالم: من استغنى بماله، والمقتصد: من استغنى بدينه، والسابق: من استغنى بربه، وقيل: الظالم التالي للقرآن، والمقتصد: القارئ له والعالم به، والسابق: القارئ لكتاب الله العالم بكتاب الله العامل به، وقيل: السابق: الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد: الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم: الذي يدخل المسجد وقد أقيم، وقيل: الظالم: الذي يحب نفسه، والمقتصد: الذي يحب ربه، والسابق: الذي يحبه ربه، وقيل: الظالم: مريد، والمقتصد: مراد، والسابق: مطلوب، وقيل: الظالم: مدعو، والمقتصد مأذون له، والسابق: مقرب، وقيل: الظالم: عيوف، والمقتصد: ألوف، والسابق: حليف. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الظالم: ينتصف ولا ينصف، والمقتصد: ينصف وينتصف، والسابق ينصف ولا ينتصف.
ذو النون المصري: الظالم: الذي لا يذكر الله بلسانه، والمقتصد: الذي يذكره بقلبه، والسابق: الذي لا ينسى ربه. أحمد بن عاصم الأنطاكي: الظالم: صاحب الأقوال، والمقتصد: صاحب الأفعال، والسابق: صاحب الأحوال. ثم جمعهم الله سبحانه وتعالى في دخول الجنة فقال سبحانه وتعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن زرعة قال: حدّثنا يوسف بن عاصم الرازي قال: حدّثنا أبو أيّوب سليمان بن داود المنقري المعروف بالشاذكوي عن حصين ابن نمير أبو محصن عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن أسامة بن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية قال: «كلهم في الجنة» [57] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن محمد بن علي بن الحسين الفأفاء القاضي قال: حدّثنا بكر بن محمد المروزي قال: حدّثنا أبو قلابة قال: حدّثنا عمرو بن الحصين عن الفضل بن عميرة عن ميمون الكردي عن أبي عثمان الهندي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج «2» ، وظالمنا مغفور له» [58] «3» . قال أبو قلابة: فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه. يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير قال: حدثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بن أمّ سعيد قال: حدّثنا الربيع بن سليمان المرادي قال: حدّثنا أسيد بن موسى عن ابن ثومان عن عطاء ابن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله سبحانه به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا» «4» [59] . وَقالُوا أي يقولون إذا دخلوا الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أخبرني الحسين بن محمد العدل قال: حدّثنا محمد بن المظفر قال: حدّثنا علي بن إسماعيل بن حماد البغدادي قال: حدّثنا عمرو بن علي الفلاس قال: حدّثنا معاذ بن هشام، قال حدّثني أبي عن
عمرو بن مالك عن ابن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال: حزن النار. وأخبرني الحسين بن محمد عن محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي داود الحراني قال: حدّثنا جرير عن أشعث بن قيس عن شمر بن عطية في قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال حزن الخبز. عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات، وقيل: حزن الموت، وقيل: حزن الجنة والنار لا يدرى إلى أيهما يصير. الثمالي: حزن الدنيا. الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. ذو النون: حزن القطيعة. الكلبي: يعني الحزن الذي يحزننا في الدنيا من يوم القيامة، وقيل: حزن العذاب والحساب، وقيل: حزن أهوال الدنيا وأوجالها، وقال القاسم: حزن زوال النعم وتقليب القلب وخوف العاقبة. وسمعت السلمي يقول: سمعت النصرآبادي يقول: ما كان حزنهم إلّا تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم، فلما نجوا منها حمدوا وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، أخبرني أبو عبد الله الدينوري قال: أخبرني أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «ليس على أهل (لا إله إلّا الله) وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [60] «1» . الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي الإقامة مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي كلال وإعياء وفتور، وقراءة العامة بضم اللام، وقرأ السلمي بنصب اللام وهو مصدر أيضا كالولوع، وقال الفراء: كأنه جعله ما يلغب مثل لغوب. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن مهدي قال: أبو عبد الله محمد بن زكريا بن محمدويه «2» الرجل الصالح عن عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي قال: حدّثنا عاصم بن عبد الله قال: حدّثني إسماعيل عن ليث بن أبي سليم عن الضحاك بن مزاحم في قول الله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال: إذا
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 إلى 45]
دخل أهل الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون. قال: فيبعث الله ملكا من الملائكة معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه. قال: فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت فيقف ومعه عشرة «1» خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه. مكتوب في أول خاتم منها: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ «2» ، وفي الثاني مكتوب: ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ «3» ، وفي الثالث مكتوب: «رفعت عنكم الأحزان والهموم» ، وفي الرابع مكتوب: «زوجناكم الحور العين» ، وفي الخامس مكتوب: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» ، وفي السادس مكتوب: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا «4» ، وفي السابع مكتوب: «أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» ، وفي الثامن: «صرتم آمنين لا تخافون» ، وفي التاسع مكتوب: «رافقتم النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» ، وفي العاشر مكتوب: «سكنتم في جوار من لا يؤذي الجيران» . ثم تقول الملائكة: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» . فلما دخلوا بيوتا ترفع قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. إلى قوله: لُغُوبٌ. [سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 45] وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا أي لا يقبضون فيستريحون. وذكر عن الحسن: فيموتون، و (لا) يكون حينئذ جوابا للنفي، والمعنى: لا يقضى عليهم ولا يموتون. كقوله: لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «1» . وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ قراءة العامة بنصب النون واللام وقرأ أبو عمرو بضم الياء واللام وفتح الزاي على غير تسمية الفاعل. وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ: يدعون ويستغيثون ويصيحون فيها، وهو افتعال من الصراخ، ويقال للمغيث: صارخ وللمستغيث: صارخ. رَبَّنا أَخْرِجْنا من النار نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في الدّنيا، فيقول الله عز وجل: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ. اختلفوا في هذه المدة، فقال قتادة والكلبي: ثماني عشرة سنة، وقال الحسن: أربعون سنة، وقال ابن عباس: ستون سنة. أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه «2» قال: حدّثنا ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان قالا: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة حدّثنا ابن أبي فديك عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي حصين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين؟ وهو الذي قال الله عز وجل فيه: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» [61] «3» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن حرجة قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: حدّثنا الحجبي عن عبد العزيز بن أبي حازم قال: سمعت أبي يحدث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» [62] «4» . وأخبرني ابن فنجويه عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن إبراهيم بن سهلويه عن الحسين بن عرفة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك» [63] «5» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «معترك منايا أمتي ما بين الستين إلى السبعين» «6» [64] .
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي الرسول، وقال زيد بن علي: القرآن، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل: يعني الشيب، وفيه قيل: رأيت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبها وحسبك من نذير «1» فحدّ الشيب أهبة ذي وقار ... فلا خلف يكون مع القتير وقال آخر: وقائلة تبيض والغواني ... نوافر عن معاينة القتير «2» فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسودا وجه النذير فَذُوقُوا أي العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ. إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ. هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً غضبا وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً. قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أي في الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يأمرهم بذلك فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش وحمزة بَيِّنَةٍ على الواحد، وقرأ غيرهم (بينات) بالجمع، وهو اختيار أبي عبيد قال: لموافقة الخط. فإني قد رأيتها في بعض المصاحف بالألف والتاء. بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً. إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً، روى مغيرة عن إبراهيم قال: جاء من أصحاب عبد الله بن مسعود إلى كعب ليتعلم من علمه، فلما رجع قال عبد اللَّه: هات الذي أصبت من كعب. قال: سمعت كعبا يقول: إنّ السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحا في عمود على منكب ملك. فقال عبد الله: وددت أنك انفلتّ من رحلتك براحلتك ورحلها، كذب كعب ما ترك يهوديته بعد، إنّ الله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا الآية، إن السماوات لا تدور، ولو كانت تدور لكانت قد زالت. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ وذلك أنّ قريشا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى دينا منهم، وهذا قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلم، فلما بعث محمد صلّى الله عليه وسلم كذبوه فأنزل الله عز وجل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، يعني اليهود والنصارى، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ: محمد صلّى الله عليه وسلم ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً بعدا ونفارا.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ ونصب اسْتِكْباراً على البدل من النفور، قاله الأخفش، وقيل: على المصدر، وقيل: نزع الخافض. وَمَكْرَ السَّيِّئِ يعني العمل القبيح، وقال الكلبي: هو إجماعهم على الشرك وقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أي لا يحل ولا ينزل، ويحيط ويلحق فقتلوا يوم بدر، وقراءة العامة: السَّيِّئِ بإشباع الإعراب فيها، وجزم الأعمش وحمزة (ومكر السّي) تخفيفا وكراهة لالتقاء الحركات ولم يعملا ذلك في الأخرى، والقراءة المرضية ما عليه العامة. وفي الحديث أنّ كعبا قال لابن عباس: قرأت في التوراة: من حفر حفرة وقع فيها. فقال ابن عباس: أنا أوجد لك ذلك في القرآن، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا محمد بن الحسن البلخي قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري قال: بلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن: الله سبحانه وتعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، ولا تبغ ولا تعن باغيا، بقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «1» ولا تنكث ولا تعن ناكثا فإنّ الله سبحانه يقول: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ «2» » [65] «3» فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعني العذاب إذا كفروا فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً. وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الجرائم ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها، يعني الأرض كناية عن غير مذكور مِنْ دَابَّةٍ. قال الأخفش والحسين بن الفضل: أراد بالدابة: الناس دون غيرهم، وأجراها الآخرون على العموم. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه [عن] الفربابي قال: حدّثني أبو مسعود أحمد بن الفرات قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا أصاب الله عز وجل قوما بعذاب أصاب به من بين ظهرانيهم ثم يبعثون على أعمالهم يوم القيامة» [66] .
وقال قتادة في هذه الآية: قد فعل الله ذلك في زمن نوح فأهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلّا ما حمل في سفينة نوح، وقال ابن مسعود: كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ هذه الآية، وقال أنس: إنّ الضب ليموت هزلا في جحره بذنب ابن آدم، وقال يحيى ابن أبي كثير: أمر رجل بمعروف ونهى عن منكر، فقال له رجل: عليك نفسك فإنّ الظالم لا يضر إلّا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت والذي نفسي بيده، إنّ الحباري لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم. وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية: يحبس المطر فيهلك كل شيء. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً.
سورة يس
سورة يس مكيّة، وهي ثلاثة آلاف حرف وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة وثلاث وثمانون آية في فضلها: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الناقد قال: أخبرني أبو العباس محمد بن إسحاق السراج قال: حدّثنا حميد بن عبد الرّحمن عن الحسين بن صالح عن هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء قلب وإنّ قلب القرآن (يس) ومن قرأ (يس) كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» [67] «1» . وأخبرني محمد بن الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مسلم الملطي بمصر قال: حدّثنا إسماعيل بن محمود النيسابوري قال: حدّثنا أحمد بن عمران الرازي عن محمد بن عمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها، ألا وهي سورة يس» [68] «2» . وأخبرنا أبو الحسن عبد الرّحمن بن محمد بن إبراهيم الطبراني بها قال: حدّثنا العباس بن محمد بن قوهيار قال: حدّثنا الفضل بن حماد وأخبرنا أحمد بن أبي الفراتي قال: أخبرنا أبو نصر السرخسي قال: حدّثنا محمد بن أيوب قالا: حدّثنا إسماعيل بن أبي أوس عن محمد بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن مرقاع عن هلال بن الصلت أنّ أبا بكر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يس تدعى المعمة» . قيل: يا رسول الله وما المعمة؟ قال: «تعم صاحبها: خير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة، وتدعى الدافعة والقاضية» قيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: «تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة، ومن قرأها عدلت له عشرون حجة، ومن سمعها كان له ألف دينار في سبيل الله، ومن كتبها وشربها أدخلت [جوفه] «3» ألف دواء وألف
يقين وألف زلفى وألف رحمة، ونزع عنه كل داء وغل» [69] «1» . وأخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي قال: حدّثنا أبو الأحرز محمد بن عمر بن جميل قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم- وهو أبو بسطام البغدادي- قال: حدّثنا إسماعيل ابن إبراهيم قال: حدّثنا يوسف بن عطية عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ (يس) يريد بها الله عز وجل غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة «2» مرة، وأيما مريض قرئت عنده سورة (يس) نزل عليه بعدد كل حرف عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا فيصلون ويستغفرون له ويشهدون قبضه وغسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه، وأيما مريض قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان خازن الجنان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيموت وهو ريان ويبعث وهو ريان ويحاسب وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان» [70] «3» . وحدّثنا أبو الفضل علي بن محمّد بن أحمد بن علي الشارعي الخوارزمي إملاء قال: حدّثنا أبو سهل بن زياد القطان قال: حدّثنا ابن مكرم قال: حدّثنا مصعب بن المقدّم قال: حدّثنا أبو المقدام هشام عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (يس) في ليلة أصبح مغفورا له» [71] «4» . وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي قال: حدّثنا محمد بن أحمد الرياحي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا أيوب بن مدرك عن أبي عبيدة عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من دخل المقابر فقرأ سورة (يس) خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات» [72] «5» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا علي بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي قال: حدّثنا عبد الرّحمن المحاربي قال: حدّثنا عامر بن يساف اليمامي عن يحيى بن كثير قال: بلغنا أنه من قرأ (يس) حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي، ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح، وقد حدّثني من جربها.
[سورة يس (36) : الآيات 1 إلى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) يس اختلف القراء فيه، فقرأ حمزة والكسائي وخلف في أكثر الروايات يِس بكسر الياء بين اللفظين قراءة أهل المدينة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. الباقون: بفتح الياء، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وحمزة وأيوب وأبو حاتم وعاصم في أكثر الروايات، (يسين) ، بإظهار النون والسكون. واختلف فيه عن نافع وابن كثير، فقرأ عيسى بن عمر: (يَس) بالنصب، شبهه ب (أين) و (كيف) ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر النون، شبهه بأمس ورقاش وحذام وقرأ هارون الأعور: بضم النون، شبهه بمنذ وحيث وقطّ. الآخرون: بإخفاء النون. واختلف المفسرون في تأويله، فقيل: قسم، وقال ابن عباس: يعني يا إنسان بلغة طيئ عطا: بالسريانية، وقال أبو العالية: يا رجل، وقال سعيد بن جبير: يا محمّد، دليله قوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وقال السيد الحميري: يا نفس لا تمحضي بالنصح جامدة ... على المودة إلّا آل ياسينا «1» وقال أبو بكر الوراق: يا سيد البشر. فإن قيل: لم عدّ يس آية ولم يعد طس آية؟ فالجواب أنّ طس أشبه قابيل من جهة الزنة والحروف الصحاح ويس أوله حرف علة وليس مثل ذلك في الأسماء المفردة، فأشبه الجملة والكلام التام وشاكل ما بعده من رؤوس الآي. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وهو جواب لقول الكفار: لَسْتَ مُرْسَلًا.
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بنصب اللام على المصدر كأنه قال: نزل تنزيلا، وقيل: على الخروج من الوصف، وقرأ الآخرون بالرفع أي هو تنزيل الْعَزِيزِ: الشديد المنع على الكافرين الرَّحِيمِ: ب [عباده] «1» وأهل طاعته. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ في الفترة، وقيل: بما أنذر آباؤهم فَهُمْ غافِلُونَ عن الإيمان والرشد. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وجب العذاب عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنا، نزلت في أبي جهل وأصحابه المخزوميين، وذلك أنّ أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمدا يصلّي ليرضخن برأسه. فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده. فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم: أنا أقتله بهذا الحجر. فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه وقالوا له: ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنا. فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ: مغلولون، وأصل الإقماح غض البصر ورفع الرأس، يقال: بعير مقمح إذا رفع رأسه وغض بصره، وبعير قامح إذا أروى من الماء فأقمح. قال الشاعر يذكر سفينة كان فيها: ونحن على جوانبها قعود ... نغضّ الطرف كالإبل القماح «2» وقال أبو عبيدة: هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل، إنما أراد: منعناهم عن الإيمان وعما أرادوا بموانع، فجعل الأغلال مثلا لذلك، وفي الخبر أنّ أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم أتته المرأة- واسمها أم مالك- فراودته عن نفسه، فأبى وأنشد يقول: فليس كعهد الدار يا أمّ مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل «3» وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل «4» أراد منعنا: بموانع الإسلام عن تعاطي الزنا والفسق، وقال عكرمة: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا يعني ظلمات وضلالات كانوا فيها.
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ: فأعميناهم، العامة بالغين. أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال: حدّثنا البغوي ببغداد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن أبي شنبه البغدادي قال: حدّثنا أبو القاسم عثمان بن صالح الحناط قال: حدّثنا عثمان بن عمر عن شعبة عن علي بن نديمة قال: سمعت عكرمة يقول: فأعشيناهم- بالعين غير معجمة- وروى ذلك عن ابن عباس. فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أخبرنا ابن فنجويه الدينوري عن عبد الله بن محمد بن شنبه قال: حدّثنا عمير بن مرداس قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا الحسين بن الوليد قال: حدّثنا حنان بن زهير العدوي عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدّثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا محمد بن عمرو الليثي أنّ الزهري حدثه قال: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تكلم في القدر؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنهم يكذبون عليّ. قال: يا غيلان اقرأ أول سورة (يس) فقرأ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. فقال غيلان: يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم، أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول في القدر. فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان صادقا فتب عليه، وإن كان كاذبا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين. قال: فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال: حدّثنا عبد الله بن معاذ قال: حدّثنا أبي عن بعض أصحابه قال: حدث محمد بن عمير بهذا الحديث ابن عون، فقال ابن عون: أنا رأيته مصلوبا على باب دمشق. إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ يعني إنما ينفع إنذارك- لأنه كان ينذر الكل- مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ: القرآن فعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ: أخبره بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى عند البعث وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من الأعمال وَآثارَهُمْ ما استن به بعدهم، نظيره قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ «1» ، وقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ «2» . وقال المغيرة بن شعبة والضحاك: نزلت في بني عذرة، وكانت منازلهم بعيدة عن المسجد فشق عليهم حضور الصلوات، فأنزل الله عز وجل: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ يعني خطاهم إلى المسجد. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفربابي قال: حدّثنا
[سورة يس (36) : الآيات 13 إلى 44]
حنان بن موسى قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد الحريري عن أبي نضرة عن جابر عن عبد الله قال: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حول المسجد خالية فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فأتانا في ديارنا فقال: «يا بني سلمة، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد؟» فقالوا: يا رسول الله، بعد علينا المسجد، والبقاع حول المسجد خالية. فقال: «يا بني سلمة، دياركم فإنما تكتب آثاركم» . قال: فما وددنا بحضرة المسجد لمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه الذي قال. [73] «1» . أخبرنا أبو علي الروزباري قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن مهرويه الرازي قال: حدّثنا أبو حاتم الرازي قال: حدّثنا قرة بن حبيب قال: حدّثنا عتبة بن عبد الله عن ثابت عن أنس في قوله سبحانه: وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ قال: الخطى يوم الجمعة. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ علمناه وعدّدناه وبيناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ وهو اللوح المحفوظ. [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهي أنطاطية إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ يعني رسل عيسى: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: بعث عيسى (عليه السلام) رسولين من الحواريين إلى أنطاكية، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات وهو حبيب صاحب (يس) ، فسلما عليه، فقال الشيخ: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرّحمن. فقال: أمعكما آية؟ قالا: نعم، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله. فقال الشيخ: إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين. قالا: فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله. فأتى بهما إلى منزله، فمسحها ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحا، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيرا من المرضى، وكان لهم ملك يقال له سلاحين، وقال: وهب اسمه ابطيحيس، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، قالوا: فانتهى الخبر إليه فدعاهما، فقال لهما: من أنتما؟ قالا: رسولا عيسى. قال: وما آيتكما؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص، ونشفي المرضى بإذن الله. قال: وفيم جئتما؟ قالا: جئناك ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر. فقال الملك: أو لنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك. قال: قوما حتى أنظر في أمركما. فتتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق. وقال وهب بن منبه: بعث عيسى (عليه السلام) هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها فطالت مدة مقامهما، فخرج الملك ذات يوم: فكبرا وذكرا الله، فغضب الملك وأمر بهما فأخذا وحبسا وجلد كل واحد منهما مائة جلدة. قالوا: فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما. فدخل شمعون البلدة متنكرا وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفع خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته، وآنس به وأكرمه. ثم قال له ذات يوم: أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال الملك: حال الغضب بيني وبين ذلك. قال: فإذا رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما. فدعاهما الملك فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك. فقال لهما شمعون: فصفاه وأوجزا. فقالا: إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال شمعون: وما آيتكما؟ قالا له: ما تتمناه. فأمر الملك حتى جاءوا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة. فما زالا يدعوان ربّهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما «1» في حدقتيه فصارتا مقلتين فبصر بهما، فتعجب الملك، فقال شمعون للملك: أرأيت [لو] سألت إلهك حتى يصنع صنيعا مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك.
فقال له الملك: ليس عندي سر إنّ إلهنا الذي نعبده لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلّي كثيرا ويتضرع، حتى ظنوا أنه على ملتهم. وقال الملك للرسولين: إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما. قالا: إلهنا قادر على كل شيء. فقال الملك: إنّ ها هنا ميتا مات منذ سبعة أيام ابنا لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا. فجاؤوا بالميت وقد تغيّر وأروح، فجعلا يدعوان ربهما علانية، وجعل شمعون يدعو ربه سرا. فقام الميت وقال: إني قد مت منذ سبعة أيام، ووجدت مشركا فأدخلت في تسعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه، فآمنوا بالله. ثم قال: فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك: ومن الثلاثة؟ قال: شمعون وهذان، وأشار إلى صاحبيه. فتعجب الملك، فلما علم شمعون أنّ قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه، فآمن قوم وكان الملك فيمن آمن، وكفر آخرون. وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب: بل كفر الملك، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل، فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله سبحانه: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ. واختلفوا في اسميهما، فقال ابن عباس: تاروص وماروص، وقال وهب: يحيى ويونس، ومقاتل: تومان ومانوص. فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ أي فقوّينا برسول ثالث. قرأ طلحة بن مصرف وعاصم عن حفص: فَعَزَزْنا مخففا، أي فغلبناهم، من عزيز برسول ثالث وهو شمعون. وقال مقاتل: شمعان، وقال كعب: الرسولان صادق وصدوق والثالث شلوم وإنما أضاف الإرسال إليه لأن عيسى (عليه السلام) إنما بعثهم بأمره عزّ وجل، وكانوا في جملة الرسل، فقالوا جميعا لأهل أنطاكية: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ. قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ: ما أنتم إلّا كاذبون. قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا تشاء منا. بِكُمْ، قال مقاتل: حبس عنهم المطر فقالوا: هذا بشؤمكم لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ، قال قتادة: بالحجارة، وقال آخرون: لنقتلنكم، وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. قالُوا طائِرُكُمْ: شؤمكم مَعَكُمْ بكفركم، وقال ابن عباس والضحاك: حظّكم من الخير والشر. قال قتادة: أعمالكم، وقرأ الحسن والأعرج: طيركم.
أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ وعظتم، وقرأ أبو جعفر بالتخفيف، يعني من حيث ذكرتم، وجوابه محذوف مجازه: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ قلتم هذا القول، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ: مشركون مجاوزون الحد. قوله: وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى وهو حبيب بن مري، وقال ابن عباس ومقاتل: حبيب بن إسرائيل النجار، وقال وهب: وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين: فيطعم نصفا عياله ويتصدق بنصفه، فلما بلغه أنّ قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم فقال: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ، قال قتادة: لما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم: تسألون على هذا من أجر؟ قالوا: لا. فقال ذلك. قال: وكان حبيب في غار يعبد ربه، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وما هو عليه من التوحيد وعبادة الله، فقيل له: وأنت مخالف لديننا وتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم؟ فقال: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إن فعلت ذلك إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ فلما قال لهم ذلك وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يكن أحد يدفع عنه. قال عبد الله بن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قضيبه من دبره، وقال السدّي: كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي حتى قطعوه وقتلوه، وقال الحسن: خرقوا خرقا في حلقة فعلقوه من سوق المدينة، وقبره في سور أنطاكية فأوجب الله له الجنة، فذلك قوله: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ. فلما أفضى إلى جنة الله وكرامته، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ. أخبرنا أبو بكر عبد الرّحمن بن عبد الله بن علي بن حمشاد المزكى بقراءتي عليه في شعبان سنة أربعمائة فأقرّ به قال: أخبرنا أبو ظهير عبد الله بن فارس بن محمد بن علي ابن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في شهر ربيع الأول سنة ست وأربع وثلاثمائة قال: حدّثنا إبراهيم بن الفضل بن مالك قال: حدّثنا عن أخيه عيسى عن عبد الرّحمن ابن أبي ليلى عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب آل يس، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون وعلي أفضلهم» [74] «1» . قالوا: فلما قتل حبيب غضب الله له وعجّل لهم النقمة، فأمر جبرئيل (عليه السلام) فصاح
بهم صيحة ماتوا عن آخرهم، فذلك قوله عز وجل: وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، وفي مصحف عبد الله: (إن كانت إلّا زقية واحدة) ، وهي الصيحة أيضا وأصلها من الزقا، وقرأ أبو جعفر: صيحةٌ بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميتون. يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ قال عكرمة: يعني على أنفسهم، وفيه قولان: أحدهما: أنّ الله يقول: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ وكآبة عليهم حين لم يؤمنوا. والآخر: أنه من قول الهالكين. قال أبو العالية: لما عاينوا العذاب قالوا: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ يعني الرسل الثلاثة حين لم يؤمنوا، بهم فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم، وقرأ عكرمة: يا حَسْرَهْ عَلَى الْعِبادِ بجزم الهاء ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وكان خبر الرسل الثلاثة في أيام ملوك الطوائف. أَلَمْ يَرَوْا يعني أهل مكة كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ؟ والقرن: أهل كل عصر سموا بذلك لاقترابهم في الوجود أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا بالتشديد، ابن عامر والأعمش وعاصم وحمزة. الباقون: بالتخفيف. فمن شدد جعل (إِنْ) بمعنى الجحد، و (لَمَّا) بمعنى (إلّا) ، تقديره: وما كل إلا جميع، كقولهم: سألتك لما فعلت، أي إلّا فعلت، ومن خفف جعل (إن) للتحقيق وحققه، وما صلة، مجازه: وكل جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها بالمطر، وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ: بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ، قرأ الأعمش: بضم الثاء وجزم الميم (ثُمْرِهِ) ، وقرأ [خلف] ويحيى وحمزة والكسائي بضم الثاء والميم، وقرأ الآخرون بفتحهما «1» وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ قرأ العامة بالهاء، وقرأ عيسى بن عمر وأهل الكوفة: (عملت) بلا هاء، ويجوز في (ما) ثلاثة أوجه: الوجه الأوّل: الجحد، بمعنى ولم تعمله أيديهم، أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها، وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل. والوجه الثاني معنى المصدر، أي ومن عمل أيديهم. والوجه الثالث معنى الذي، [أي وما عملت أيديهم] من الحرث والزرع والغرس، وهو معنى قول ابن عباس. أَفَلا يَشْكُرُونَ نعمه؟ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ: الأشكال والأصناف
كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ. وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ: ننزع ونخرج مِنْهُ النَّهارَ، وقال الكلبي: نذهب به فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ: داخلون في الظلام. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها يعني إلى مستقر لها. قال ابن عباس: لا تبلغ مستقرها حتى ترجع إلى منازلها، وقال قتادة: إلى وقت واحد لها لا تعدوه، وقيل: إلى انتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا، وقيل: إلى أبعد منازلها في الغروب. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب وأحمد بن جعفر قالا: حدّثنا إبراهيم ابن سهل قال: حدّثنا محمد بن بكار العيسي قال: حدّثنا إسماعيل بن علية قال: حدّثنا يونس بن عبيد عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال: «مستقرها تحت العرش» [75] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثني أبو الطيب أحمد بن عبد الله بن يحيى الدارمي قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد السمرقندي بدمياط قال: حدّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدّثنا مروان بن معاوية عن محمد بن أبي حسان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: (والشمس تجري لا مستقر لها) ، وهي قراءة ابن مسعود أيضا، أي لا قرار لها، فهي جارية أبدا. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ بالرفع، نافع وابن كثير وأبو عمرو وأيوب ويعقوب غير ورش «2» ، واختاره أبو حاتم قال: لأنك شغلت الفعل عنه فرفعته للابتداء، وقرأ الباقون بالنصب، واختاره أبو عبيد، قال: للفعل المتقدم قبله والمتأخر بعده، فأما المتقدم فقوله: نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ وأما المتأخر فقوله: قَدَّرْناهُ، أي قدرنا له المنازل. مَنازِلَ، أي قدرنا له المنازل وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها، وأسماؤها: الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت. فإذا صار إلى آخر منازله عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، وهو العذق الذي فيه الشماريخ، فإذا أقدم وعتق يبس وتقوّس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته به، ويقال لها أيضا الأهان. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ بل هما يسيران دائبين ولكلّ حدّ لا يعدوه ولا
[سورة يس (36) : الآيات 45 إلى 59]
يقصر دونه، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك وإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا، فذلك قوله: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ. فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد صاحبه قامت القيامة وذلك قوله سبحانه: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «1» . وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ: يجرون. وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ الموقر المملوء، وهي سفينة نوح الآباء في السفينة، والأبناء في الأصلاب، والحمل: منع الشيء أن يذهب إلى جهة السفل. وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ أي مثل سفينة نوح ما يَرْكَبُونَ وهي السفن كلها. أخبرنا عبيد بن محمد بن محمّد بن مهدي قال: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا أحمد بن حازم قال: حدّثنا عبد الله بن موسى عن سفيان عن السدي عن أبي مالك في قوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ قال: السفن الصغار، وقال ابن عباس: الإبل سفن البر. وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ: ينجون من الغرق إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يعني انقضاء آجالهم. [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 59] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي ما بين أيديكم من الآخرة فاعملوا لها وَما خَلْفَكُمْ من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. قاله ابن عباس، وقال مجاهد: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ: ما يأتي من الذنوب، وَما خَلْفَكُمْ: ما مضى من الذنوب. الحسن. ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يعني وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وَما خَلْفَكُمْ من أمر الساعة.
مقاتل: ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عذاب الأمم الخالية، وَما خَلْفَكُمْ: عذاب الآخرة. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، والجواب محذوف تقديره: إذا قيل لهم هذا، أعرضوا، دليله ما بعده: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ: الرزق مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ يتوهمون أنّ الله تعالى لما كان قادرا على إطعامه وليس يشاء إطعامه، فنحن أحق بذلك. نزلت في مشركي مكة حين قال لهم فقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله، وذلك قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً «1» فحرموهم، وقالوا: لو شاء الله أطعمكم فلا نعطيكم شيئا حتى ترجعوا إلى ديننا. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في اتباعكم محمدا ومخالفتكم ديننا. عن مقاتل بن حيان، وقال غيره: هو من قول أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لهم. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنا نبعث؟ فقال الله تعالى: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي نفخة إسرافيل تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يختصمون ويخاصم بعضهم بعضا. واختلفت القراء فيه فقرأ ابن كثير وورش وأبو عبيد وأبو حاتم بفتح الخاء وتشديد الصاد ومثله روى هشام عن أهل الشام: لما أدغموا نقلوا حركة التاء إلى الخاء. وقرأ أبو جعفر وأيوب ونافع غير ورش ساكنة الخاء مخففة الصاد، وقرأ أبو عمرو: بالإخفاء، وقرأ حمزة: ساكنة الخاء مخففة الصاد، أي يغلب بعضهم بعضا بالخصام، وهي قراءة أبي بن كعب، وقرأ الباقون: بكسر الخاء وتشديد الصاد. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً: فلا يقدرون على أن يوصي بعضهم بعضا، وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ وهي النفخة الأخيرة: نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة، فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور، واحدها جدث إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يخرجون، ومنه قيل للولد: نسلا لأنه يخرج من بطن أمّه، والنسلان والعسلان: الإسراع في السير. قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي منامنا قال أبي بن كعب وابن عباس وقتادة: إنما يقولون هذا لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون، وقال أهل المعاني: إنّ الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار ما عذبوا في القبور في جنبها كالنوم، فقالوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ ثم قال: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ: أقرّوا حين لم ينفعهم
الإقرار، وقال مجاهد: يقول الكفار: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ ويقول المؤمنون: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ. فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، محل (ما) نصب من وجهين: أحدهما: مفعول ما لم يسمّ فاعله. والثاني: بنزع حرف [الخفض] «1» ، أي ب (ما) . إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشيبة بجزم الغين، واختاره أبو حاتم، وقرأ الآخرون: بضم الغين، واختاره أبو عبيد، وهما لغتان مثل السّحت والسّحت ونحوهما. واختلف المفسرون في معنى الشغل. فأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا أسباط بن محمد عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ قال: افتضاض الأبكار. وأخبرني فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا أحمد بن الوليد الشطوي قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا معلى بن عبد الرّحمن قال: حدّثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكارا» [76] «2» . وقال الكلبي والثمالي والمسيب: يعني فِي شُغُلٍ عن أهل النار وعما هم فيه، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم، وقال وكيع بن الجراح: يعني في السماع، سئل يحيى بن معاذ: أي الأصوات أحسن؟ قال: مزامير أنس في مقاصير قدس بألحان تجميل في رياض تمجيد فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وقال ابن كيسان: يعني في زيارة بعضهم بعضا، وقيل: في ضيافة الله وقيل: في شغلهم بعشرة أشياء: ملك لا عزل معه، وشباب لا هرم معه، وصحة لا سقم معها، وعزّ لا ذل معه، وراحة لا شدة معها، ونعمة لا محنة معها، وبقاء لا فناء معه، وحياة لا موت معها، ورضا لا سخط معه، وأنس لا وحشة معه. وقيل: شغلهم في الجنة بسبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء: فأما ثواب الرجل فقوله:
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ «1» ، وثواب اليد قوله: يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً «2» ، وثواب الفرج قوله: وَحُورٌ عِينٌ «3» ، وثواب البطن قوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً «4» الآية، وثواب اللسان قوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «5» وثواب الأذن قوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «6» ، وثواب العين قوله: وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ. قال طاوس: لو علم أهل الجنة عمّن شغلوا ما هنّأهم ما اشتغلوا به، وسئل بعض الحكماء عن قوله (عليه السلام) : «أكثر أهل الجنة البله» [77] قال: لأنهم في شغل بالنعيم عن المنعم، ثم قال: من رضي بالجنة عن الله فهو أبله. فاكِهُونَ قرأ العامة: بالألف، وقرأ أبو جعفر (فكهون وفكهين) بغير ألف حيث كانا، وهما لغتان: كالحاذر والحذر والفاره والفره، وقال الكسائي: الفاكه والفاكهة مثل شاحم ولاحم ولابن وتامر، واختلف العلماء في معناهما، فقال ابن عباس: فرحون. مجاهد والضحاك: معجبون. السدي: ناعمون. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ: حلائلهم فِي ظِلالٍ قرأ العامة بالألف وكسر الظاء على جمع (ظلّ) ، وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وحمزة والكسائي وخلف: (ظلل) على جمع (ظلة) . عَلَى الْأَرائِكِ يعني السرر في الحجال، واحدتها أريكة، مثل سفينة وسفن وسفائن وقيل: هي الفرش، مُتَّكِؤُنَ. لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ قال ابن عباس: يسألون. قال مقاتل: يتمنون ويريدون، وقيل: معناه. من ادّعى منهم شيئا فهو له بحكم الله عز وجل لأنهم لا يدعون إلّا ما يحسن. سَلامٌ قرأ العامة بالرفع، أي لهم سلام، وقرأ النخعي: بالنصب على القطع والمصدر. أخبرني الحسن بن محمّد بن عبد الله الحافظ قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدّثنا محمد بن عبد الملك أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عاصم عبد الله بن عبد الله العباداني قال: حدّثنا الفضل بن عيسى الرقاشي، وأخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن قال: حدّثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني قال: حدّثنا الحسن بن أبي علي الزعفراني قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال: حدّثنا
[سورة يس (36) : الآيات 60 إلى 83]
أبو عاصم قال: حدّثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطح لهم نور، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الربّ عزّ وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة. فذلك قوله عز وجل سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» [78] «1» . وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ قال ابن عباس: تفرقوا. أبو العالية: تميزوا. السدي: كونوا على حدة. قتادة: اعدلوا عن كل خير. الضحاك: إنّ لكل كافر في النار بيتا، يدخل ذلك البيت ويردم به بالنار فيكون فيه أبد الآبدين فلا يرى ولا يرى. [سورة يس (36) : الآيات 60 الى 83] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ أي لا تطيعوه في معصية الله. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ أي أغوى بالدعاء إلى المعصية جِبِلًّا كَثِيراً قرأ علي رضي الله عنه (جِبِلًا) بالباء مخففا ، وقرأ أهل المدينة وعاصم وأيوب
وأبو عبيد وأبو حاتم بكسر الجيم والباء، وتشديد اللام، وقرأ يعقوب بضم الجيم والباء، وتشديد اللام، وبه قرأ الحسن وعبيد بن عمير وعيسى بن عمر والأشهب، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بضم الجيم وجزم الباء مخففا، وقرأ الباقون: بضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وكلها لغات. معناه: الخلق والأمة، وإنما اختار أبو عبيد وأبو حاتم ضم الجيم والباء والتشديد لقوله تعالى وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ «1» . أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ. هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ تحذرون، اصْلَوْهَا: ادخلوها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ فلا يتكلمون. قال قتادة: جرى بينهم خصومات وكلام فكان هذا آخرها. أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا أبو عامر حامد بن سعدان قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا عبد الله بن وهب قال: حدّثني عمرو بن الحرث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله، فجحد وخاصم، فيقال له: هؤلاء جيرانك يشهدون. فيقول: كذبوا. فيقال: أهلك وعشيرتك. فيقول: كذبوا. فيقال: احلفوا، فيحلفون. ثم يصمتهم الله عز وجل ويشهد عليهم ألسنتهم ثم يدخلهم النار» [79] «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال: حدّثنا هشام بن عمار قال: حدّثنا إسماعيل بن عياش قال: حدّثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال» [80] «3» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا يزيد قال: أخبرنا الحريري أبو مسعود عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام وإنّ أول ما يتكلم من الآدميين فخذه وكفه» [81] «4» . وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ
: فتبادروا إلى الطريق، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وقد طمسنا أعينهم؟ قال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة: يعني ولو نشاء لتركناهم عميا يترددون، فكيف يبصرون الطريق حينئذ؟ وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ، أي أقعدناهم في منازلهم قردة وخنازير، والمسخ تحويل الصورة، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ إلى ما كانوا عليه، وقيل: لا يستطيعون الذهاب ولا الرجوع. وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة بالتشديد. غيرهم بفتح النون وضم الكاف مخففا. أي يرده إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ شبه حال الصبي الذي هو أول الخلق، وقيل: يصيّره بعد القوة إلى الضعف، وبعد الزيادة إلى النقصان، وبعد الحدة والطراوة إلى البلى والخلوقة، فكأنه نكس حاله. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش المقرئ قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا مهران بن أبي عمر عن سفيان: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ قال: إذا بلغ ثمانين سنة تغيّر جسمه. أَفَلا يَعْقِلُونَ. وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ لأنه يورث الشبهة. أخبرني ابن فنجوية قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدّثنا حامد بن شعيب عن شريح بن يونس قال: حدّثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي عيينة عن أبيه عن الحكم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمثل بقول العباس بن مرداس: «أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة» . قالوا: يا رسول الله إنما قال: ... بين عيينة والأقرع . فأعادها وقال: ... «بين الأقرع وعيينة» . فقام إليه أبو بكر رضي الله عنه فقبل رأسه وقال: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [82] «1» . وأخبرنا الحسين بن محمد الحديثي قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا يوسف بن عبد الله بن هامان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: «كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا» «2» . فقال أبو بكر: يا نبي الله، إنما قال الشاعر: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدّثنا حامد بن شعيب قال: حدّثنا شريح بن يونس قال: حدّثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ قال: بلغني أنّ عائشة سئلت هل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: كان الشعر أبغض الحديث إليه، قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر إلّا ببيت أخي بني قيس طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد «1» فجعل يقول: «من لم تزود بالأخبار» ، فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إني لست بشاعر، وما ينبغي لي» [83] «2» . إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِتُنْذِرَ بالتاء [وهي قراءة] «3» أهل المدينة والشام والبصرة إلّا أبا عمرو، والباقون بالياء قال: التاء للنبي صلّى الله عليه وسلم والياء للقرآن. مَنْ كانَ حَيًّا أي عاقلا مؤمنا في علم الله لأن الكافر والجاهل ميّت الفؤاد، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا يعني عملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة، أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ: ضابطون وقاهرون. وَذَلَّلْناها لَهُمْ: سخرناها فَمِنْها رَكُوبُهُمْ قرأ العامة بفتح الراء أي مركوبهم، كما يقال: ناقة حلوب، أي محلوب، وقرأ الأعمش والحسن: بضم الراء على المصدر. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن هامان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: في مصحف عائشة: (ركوبتهم) ، والركوب والركوبة واحد مثل: الحمول والحمولة. وَمِنْها يَأْكُلُونَ لحمانها. وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من أصوافها ولحومها وغير ذلك من المنافع. وَمَشارِبُ يعني ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ أي لتمنعهم من عذاب الله، ولا يكون ذلك قط. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ في النار لأنهم مع أوثانهم في النار فلا يدفع بعضهم عن بعض النار. فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يعني تكذيبهم وأذاهم وجفاهم. تم الكلام هاهنا ثم استأنف فقال
إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ. أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ جدل بالباطل مُبِينٌ. واختلفوا في هذا الإنسان من هو؟ فقال ابن عباس: هو عبد الله بن أبيّ، وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي، وقال الحسن: هو أميّة بن خلف، وقال قتادة: أبي بن خلف الجمحي وذلك أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلم بعظم حائل قد بلي فقال: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «نعم، ويبعثك ويدخلك النار» [84] «1» فأنزل الله هذه الآية: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ بدء أمره، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ بالية، وإنما لم يقل رميمة لأنه معدول من فاعله وكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه كقوله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «2» أسقط الهاء لأنها مصروفة عن باغية. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها: خلقها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، وإنما لم يقل الخضر، والشجر- جمع الشجرة- لأنه ردّه إلى اللفظ. قال ابن عباس: هما شجرتان يقال لإحداهما مرخ، والأخرى العفار. فمن أراد منهم النار قطع منها غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار أنثى فتخرج منهما النار بإذن الله عز وجل. يقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار «3» ، وقال الحكماء: كل شجر فيه نار إلّا العناب. فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ النار فذلك زادهم. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ قرأ العامة بالألف، وقرأ يعقوب (بقدر) - على الفعل- عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، ثم قال: بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ. إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أي وجود شيء، أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
سورة الصافات
سورة الصافات مكية، وهي ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا، وثمانمائة وستون كلمة، ومائة واثنتان وثمانون آية أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال: أخبرنا محمد بن جعفر الوراق قال: حدّثنا إبراهيم بن الفضل قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير الآملي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ وَالصَّافَّاتِ أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ جنّي وشيطان، وتباعد عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمنا بالمرسلين» [85] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 23] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال ابن عباس ومسروق والحسن وقتادة: يعني صفوف الملائكة في السماوات كصفوف الخلق في الدّنيا للصلاة، وقيل: هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها بما يريد، وقيل: هي الطير، دليله قوله: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» وقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ «3» .
والصف: ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة والحرب. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة: هي زواجر القرآن. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً يعني جبرائيل والملائكة تتلو كتب الله، عن مجاهد والسدي، وقيل: هي جماعة قرّاء القرآن، وهي كلها جمع الجمع، فالصافة جمع الصاف، والصافات جمع الصافة وكذلك أختاها، وقيل: هو قسم بالله تعالى على تقدير: وربّ الصافات. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ موضع القسم قال مقاتل: لأنّ كفار مكة قالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ فأقسم الله تعالى بهؤلاء: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ، وقرأ الأعمش وأبو عمرو وحمزة كلّهم بالإدغام، والباقون بالبيان. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ أي مطالع الشمس وذلك أنّ الله تعالى خلق للشمس ثلاثمائة وستين كوة في المشرق، وثلاثمائة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة تطلع كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها فهي المشارق والمغارب. حدّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاء قال: حدّثنا أبو العباس محمّد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي إملاء قال: حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عمر بن منيع- صدوق ثقة- قال: حدّثنا ابن عليه عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال: قال ابن عباس: إنّ الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كوة تطلّع كل يوم في كوة ولا ترجع إلى تلك الكوة إلّا ذلك اليوم من العام القابل، ولا تطلع إلّا وهي كارهة، فتقول: ربّ لا تطلعني على عبادك فإني أراهم يعصونك ويعملون بمعاصيك أراهم. قال: أو لم تسمعوا إلى ما قال أمية بن أبي الصلت: ... حتى تجر وتجلد؟ قلت: يا مولاي وتجلد الشمس؟ قال: عضضت بهن أبيك، إنما اضطره الروي إلى الجلد. وقيل: وكل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق، وكل موضع غربت عليه فهو مغرب، كأنه أراد ربّ جميع ما شرقت عليه الشمس «1» . إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ قرأ عاصم برواية أبي بكر (بِزِينَةٍ) منونة (الْكَواكِبَ) نصبا، يعني بتزييننا الكواكب، وقيل: أعني الكواكب، وقرأ حمزة وعاصم في سائر الروايات (بِزِينَةٍ) منونة. الْكَواكِبِ خفضا على البدل، أي بزينة الكواكب.
وقرأ الباقون بِزِينَةِ الْكَواكِبِ مضافة. قال ابن عباس: يعني بضوء الكواكب. وَحِفْظاً أي وحفظناها حفظا، أو وجعلناها أيضا حفظا، وذلك شائع في اللغة مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ: خبيث خال عن الخير. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى كأنه قال: فلا يسمعون. قرأ أهل الكوفة يَسَّمَّعُونَ بالتشديد، أي يتسمعون، قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون، وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الآخرون بالتخفيف، وهو اختيار أبي حاتم، إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى يعني الكتبة من الملائكة في السماء وَيُقْذَفُونَ، ويرمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ من آفاق السماء. دُحُوراً يبعدونهم عن مجالس الملائكة، والدحر والدحور: الطرد والإبعاد، وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ: دائم، نظيره قوله سبحانه: وَلَهُ الدِّينُ واصِباً «1» ، وقال ابن عباس: شديد. الكلبي: موجع، وقيل: خالص. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ: مسارق فسمع الكلمة، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ: تبعه ولحقه كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتل أو يحرق أو يحيل، وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعا في السلامة ونيل المراد كراكب البحر. فَاسْتَفْتِهِمْ فسلهم، يعني: أهل مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني: من الأمم الخالية، وقد أهلكناهم بذنوبهم، وقيل: يعني السماوات والأرض وما بينهما. نزلت في أبي الأسد بن كلدة، وقيل: أبيّ بن أسد، وسمّي بالأسدين لشدة بطشه وقوته، نظيرها: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «2» وقوله سبحانه أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «3» . إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي جيد حر يلصق ويعلق، باليد ومعناه اللازم تبدل الميم كأنه يلزم اليد، وقال السدي: خالص. قال مجاهد والضحاك: [الرمل] «4» . بَلْ عَجِبْتَ قرأ حمزة والكسائي وخلف (عَجِبْتُ) بضم التاء- وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس على معنى أنهم قد حلّوا محل من تعجّب منهم، وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله، إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب، وقد جاء في الخبر: عجب ربكم من إلّكم وقنوطكم والخبر الآخر: إنّ الله ليعجب من الشاب إذا لم يكن له صبوة ونحوها، وسمعت أبا
القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي البغدادي يقول: سئل جنيد عن هذه الآية فقال: إنّ الله لا يعجب من شيء، ولكنّ الله وافق رسوله لمّا عجب رسوله، فقال: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ «1» . أي هو لما يقوله. وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وهي قراءة شريح القاضي. قال: إنما يعجب من لا يعلم، والله عنده علم كلّ شيء، ومعناه، بل عجبت من تكذيبهم إياك. وَيَسْخَرُونَ وهم يسخرون من تعجّبك. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وإذا وعظوا لا يتعظون. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يعني انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ يسخرون وقيل: يستدعي بعضهم بعضا إلى أن يسخر. وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا يعني: وآباؤنا أو بمعنى الواو الْأَوَّلُونَ. قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ: صاغرون. فَإِنَّما هِيَ يعني: النفخة والقيامة زَجْرَةٌ: صيحة واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أحياء. وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ أخبرني الحسن بن محمد المدني قال: حدّثنا محمد بن علي الحسن الصوفي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا عمّي أبو بكر قال: حدّثنا وكيع عن سفيان عن سماك، عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قال: «ضرباءهم» [86] «2» ، وقال ابن عباس: أشباههم. ضحاك ومقاتل: قرناءهم من الشياطين، كل كافر معه شيطانه في سلسلة. قتادة والكلبي: كل من عمل مثل عملهم، فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا، وقال الحسن: وأزواجهم المشركات «3» . وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في الدنيا فَاهْدُوهُمْ: فادعوهم، قاله الضحاك، وقال ابن عباس: دلّوهم، وقال ابن كيسان: فدلوهم، والعرب تسمي السائق هاديا، ومنه قيل: الرقية هادية السائق، قال امرؤ القيس: كأن دماء الهاديات بنحره ... عصارة حنا بشيب مرجّل «4» إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ: طريق النار.
[سورة الصافات (37) : الآيات 24 إلى 61]
[سورة الصافات (37) : الآيات 24 الى 61] وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) وَقِفُوهُمْ واحبسوهم، يقال: وقفته وقفا فوقف وقوفا. إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ قال ابن عباس: عن لا إله إلّا الله. ضحاك: عن خطاياهم. القرظي: عن جميع أقوالهم وأفعالهم. أخبرني الحسين بن محمد الدينوري قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا محمد بن عقبة قال: حدّثنا أبو حصين بن نمير الهمداني قال: حدّثنا حسين بن قيس الرحبي- وزعم أنه شيخ صدوق- قال: حدّثنا عطاء عن أبي عمر عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين كسبه، وفيما أنفقه، وما عمل فيما علم» [87] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن عبد الرّحمن بطرسوس قال: حدّثنا أحمد بن خليد قال: حدّثنا يوسف بن يونس الأخطف الأقطس قال: حدّثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دعا الله سبحانه بعبد من عبيده فيوقفه بين يديه فيسائله عن جاهه كما يسائله عن ماله» [88] «2» .
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي لا تنتقمون ولا ينصر بعضهم بعضا، يقوله خزنة النار للكفار، وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. قال الله سبحانه وتعالى: بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قال ابن عباس: خاضعون. الحسن: منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم، وقال أهل المعاني: مسترسلون لما لا يستطيعون له دفعا ولا منه امتناعا كحال الطالب السلامة في نزل المنازعة. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: الرؤساء والأتباع يَتَساءَلُونَ: يتخاصمون. قالُوا يعني: الأتباع للرؤساء: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ أي من قبل اليمين فتضلوننا عنه، قاله الضحاك، وقال مجاهد: عن الصراط الحق: وقال أهل المعاني: أي من جهة النصيحة والبركة والعمل الذي يتيمن به، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين، وقال بعضهم: أي عن القوة والقدرة كقول الشماخ. إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين «1» أي بالقوة وغرابة اسم ملك اليمن. قالُوا يعني: الرؤساء بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ. فَحَقَّ عَلَيْنا وعليكم قَوْلُ رَبِّنا يعنون قوله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» . إِنَّا جميعا لَذائِقُونَ العذاب. فَأَغْوَيْناكُمْ: فأضللناكم لأنا كُنَّا غاوِينَ ظالمين، قال الله سبحانه: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعني النبي صلّى الله عليه وآله. قال الله سبحانه ردا عليهم: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ. وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ يعني: بكرة وعشية، كقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «3» . فَواكِهُ: جمع الفاكهة، وهي كلّ طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت الذي يحفظ الصحة، يقال: فلان يتفكّه بهذا الطعام، وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ: إناء فيه شراب، ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب، وإلّا فهو إناء،
قال الأخفش: كل كأس في القرآن فهو خمر مِنْ مَعِينٍ: خمر جارية في أنهار طاهرة العيون، ويجوز أن يكون فعيلا من (المعن) وهو الإسراع والشدة من (أمعن في الأمر) إذا اشتدّ دخوله فيه. يعني: خمرا شديدة الجري سريعته. بَيْضاءَ أي صافية في نهاية اللطافة ولَذَّةٍ: لذيذة لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ أي إثم عن الكلبي، نظيره لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ «1» . قتادة: وجع البطن. الحسن: صداع. مجاهد: داء. ابن كيسان: مغص. الشعبي: لا تغتال عقولهم فتذهب بها، وقال أهل المعاني: الغول: فساد يلحق في خفاء، يقال: اغتاله اغتيالا إذا فسد عليه أمره في خفية، ومنه الغول والغيلة وهو القتل خفية. وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ قرأ حمزة والكسائي وخلف: بكسر الزاي هاهنا وفي سورة الواقعة، وافقهم عاصم في الواقعة. الباقون: بفتح الزاي فيهما. فمن فتح الزاي، فمعناه: لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون، يقال: نزف الرجل فهو منزوف ونزيف، إذا سكر وزال عقله، قال الشاعر «2» : فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج أي السكران، ومن كسر الزاي فمعناه: لا ينفد شرابهم. يقال: أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره. قال الحطيئة: لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا «3» وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ: حابسات الأعين، غاضّات الجفون، قصرن أعينهن عن غير أزواجهن، فلا ينظرن إلّا إلى أزواجهنّ عِينٌ نجل العيون حسانها، واحدتها: عيناء، يقال: رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ: جمع البيضة مَكْنُونٌ مستور مصون. قال الحسن وابن زيد شبههن ببيض النعامة تكنها «4» بالريش من الريح والغبار «5» ، وقيل: شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر، وهو معنى قول ابن عباس، وإنما ذكّر المكنون والبيض جمع لأنه ردّه إلى اللفظ. فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ في الجنة. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ في
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 إلى 78]
الدنيا. قال مجاهد: كان شيطانا، وقال آخرون: كان من الإنس. قال مقاتل: كانا أخوين، وقال الباقون: كانا شريكين: أحدهما فطروس وهو الكافر، والآخر يهوذا وهو المؤمن، وهما اللذان قصّ الله حديثهما في سورة الكهف. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بالبعث؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ: مجزيون ومحاسبون ومملوكان قالَ الله سبحانه لأهل الجنة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار؟ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أحمد ابن يزيد المقرئ عن جلاد عن الحكم بن طاهر، عن السدي، عن أبي ملك عن ابن عباس أنه قرأ هل مطلعون فاطّلع بخفضهما وبكسر اللام، قال: رافعون فرفع، قال ابن عباس: وذلك أنّ في الجنة كوى «1» فينظر أهلها منها إلى النار وأهلها. فَاطَّلَعَ هذا المؤمن فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ فرأى قرينه في وسط النار. قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ما أردت إلّا أن تهلكوا «2» وأصله من التردّي. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي: عصمته ورحمته لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في النار. أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، فتقول لهم الملائكة: لا، وقيل: إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة الله سبحانه عليهم في أنّهم لا يموتون ولا يعذّبون، وقيل: يقوله المؤمن على جهة التوبيخ لقرينه بما كان ينكره. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 78] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا: رزقا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، والزقوم ثمرة شجرة كريهة الطّعم جدا، من قولهم: يزقم هذا الطعام، إذا تناوله على كره ومشقة شديدة. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ: للكافرين، وذلك أنهم قالوا: كيف يكون في النار شجرة
والنار تحرق الشجر؟! وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش: إنّ محمدا يخوفنا بالزقوم وإنّ الزقوم بلسان بربر وأفريقية الزبد والتمر، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال: يا جارية زقّمينا. فأتتهم بالزبد والتمر، فقال: تزقّموا فهذا ما يوعدكم به محمد، فقال الله سبحانه: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ: قعر النار. قال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. طَلْعُها ثمرها، سمّي طلعها لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قال بعضهم: هم الشياطين بأعيانهم، شبّهه بها لقبحه لأن الناس إذا وصفوا شيئا بعاهة القبح قالوا: كأنه شياطين، وإن كانت الشياطين لا ترى لأن قبح صورتها متصور في النفس، وهذا معنى قول ابن عباس والقرظي، وقال بعضهم: أراد بالشياطين الحيّات، والعرب تسمي الحية القبيحة الخفيفة الجسم شيطانا، قال الشاعر: تلاعب مثنى حضرميّ كأنه ... تعمج شيطان بذي خروع قفر «1» وقال الراجز: عنجرد تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف «2» والأعرف: الذي له عرق، وقيل: هي شجرة قبيحة خشنة مرة منتنة، تنبت في البادية تسميها العرب رؤوس الشياطين. فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، والملء: حشو الوعاء بما لا يحتمل زيادة عليه، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً: خلطا ومزاجا، وقال مقاتل: شرابا مِنْ حَمِيمٍ: ماء حار شديد الحرارة، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ ثم بمعنى قبل، مجازه: وقبل ذلك مرجعهم لإلى الجحيم، كقول الشاعر: إنّ من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده «3» أي قبل ذلك ساد أبوه، ويجوز أن تكون بمعنى الواو. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي المقري قال: حدّثني علي بن الحسن بن سعد الهمداني قال: حدّثنا عباس بن يزيد بن أبي حبيب قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله أنه قرأ (ثم إنّ مقتلهم لإلى الجحيم) . إِنَّهُمْ أَلْفَوْا: وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يسرعون. وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ: مرسلين
[سورة الصافات (37) : الآيات 79 إلى 98]
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ، نظيره: وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ «1» ، وهو قوله: فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «2» . فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ على التعظيم، وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وهو الغرق، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ، أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: حدّثنا بندار قال: حدّثنا محمد بن خالد بن غيمة قال: حدّثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ قال: «سام وحام ويافث» [89] «3» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال: حدّثنا أبو عبد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال: كان ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس وروم، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وما هنالك. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال: حدّثنا الحسن بن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما خرج نوح عليه السلام من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلّا ولده ونساءهم، فذلك قوله: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، أي لقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم. [سورة الصافات (37) : الآيات 79 الى 98] سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ: أهل دينه وسنته لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ: مخلص من الشرك والشك، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال: حدّثنا محمد بن العلا قال: حدّثنا عصام بن علي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: يا بنيّ لا تكونوا لعّانين أو لم يروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط فقال الله سبحانه: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ؟ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا: ما الذي تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ، قال ابن عباس: كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم حيث كانوا لئلّا ينكروا عليه وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم ويقرّبون لهم القرابين ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم زعموا التّبرك عليه، فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه. قال مقاتل: وكانت الأصنام اثنين وسبعين صنما من خشب وحديد ورصاص وشبه وفضّة وذهب، وكان كبيرهنّ من ذهب في عينيه ياقوتتان، وقالوا لإبراهيم (عليه السلام) : لا تخرج غدا معنا إلى عيدنا. فنظر إلى النجوم، فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ، قال ابن عباس: مطعون، وقال الحسن: مريض، وقال الضحاك: سأسقم لقوله سبحانه إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» . وقيل: سَقِيمٌ بما في عنقي من الموت، وقيل: سَقِيمٌ بما أرى من أحوالكم القبيحة، وقيل: سَقِيمٌ بعلة عرضت له، وإنّه إنما نظر في النجوم مستدلا بها على وقت حمّى كانت تأتيه، والصحيح أنه لم يكن سقيما لما روي عن النبي (عليه السلام) أنه قال: «لقد كذب إبراهيم ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلّا وهو بماحل وناصل بها عن دينه «2» : قوله: إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارة: هذه أختي» [90] «3» . فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ إلى عيدهم، فدخل إبراهيم إلى الأصنام فكسرها ووضع الفأس على عاتق الصنم الكبير، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم قبل أن يرجعوا إلى منازلهم، فدخلوا عليها فإذا هي مكسورة، فذلك قوله سبحانه: فَراغَ: فمال إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ إظهارا لضعفهم وعجزهم: أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ لأنها أقوى على العمل من الشمال، وهذا قول الربيع بن أنس قال: يعني يده اليمنى، وقيل: بالقسم الذي سبق منه، وذلك قوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ» وقال الفراء: بالقوة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 99 إلى 106]
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ: إلى إبراهيم يَزِفُّونَ، أي يسرعون عن الحسن. مجاهد: يزفون زفيف النعام وهو حال بين المشي والطيران. الضحاك: يسعون، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة يُزِفُّونَ بضم الياء، وهما لغتان: فقال لهم إبراهيم على وجه الحجاج: أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟ وفي هذه الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى حيث قال: وَما تَعْمَلُونَ على [أنها] مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملا، فأبطل مذهب القدرية والجبرية بهذه الآية، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله خالق كلّ صانع وصنعته» [91] «1» . قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ: معطم النار. قال مقاتل: بنوا له حائطا من الحجر طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملؤوه من الحطب وأوقدوا فيه النار. فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ: المقهورين. [سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 106] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَقالَ إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي، أي إلى مرضاة ربي، وهو المكان الذي أمر بالذهاب إليه. نظيره قوله: وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي «2» ، وقيل: ذاهِبٌ إِلى رَبِّي بنفسي وعملي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ مختصر. أي رب هب لي ولدا صالحا من الصالحين. فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ذلك الغلام، قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ الآية، واختلف السّلف من علماء المسلمين في الذي أمر إبراهيم بذبحه من ابنيه بعد إجماع [أهل الخاص] على أنه كان إسحاق، فقال قوم: الذبيح إسحاق، وإليه ذهب من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب، ومن الباقين وأتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبد الرّحمن بن سابط والزبيري والسدّي. وهي رواية عكرمة وابن جبير عن ابن عباس. أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله قال:
حدّثنا طلحة بن محمّد، وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدّثنا أحمد ابن حرب قال: حدّثنا سنيد بن داود قال: حدّثني حجاج عن ليث بن سعد عن صفوان بن عمرو عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: هو إسحاق. وأخبرني الحسن قال: حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب قال: حدّثنا رضوان بن أحمد الصيدلاني قال: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال: حدّثنا أبو معاوية عن حجاج عن القاسم بن نافع عن أبي الطفيل، عن علي قال: «الذي أراد إبراهيم (عليه السلام) ذبحه إسحاق» [92] «1» . وروى شبعة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال: افتخر رجل عند ابن مسعود فقال: أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام. فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله (عليه السلام) . وأخبرنا الحسين محمد قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا يوسف بن عبد الله قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا المبارك عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال: الذي فداه الله بِذِبْحٍ عَظِيمٍ إسحاق. وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن بكار قال: حدّثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن داود ابن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه إسحاق (عليهما السلام) . وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدّثنا يوسف بن عبد الله قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حمّاد قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الذي أراد إبراهيم ذبحه هو إسحاق. وأخبرني الحسن قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدّثنا عباس الدوري قال: حدّثنا أبو سلمة- يعني المنقري- قال: حدّثنا محمد بن ثابت العبدي عن موسى مولى أبي بكر الصديق عن سعيد بن جبير قال: [لمّا] أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام سار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه فسار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طويت له الأودية والجبال. وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال موسى: «يا رب
يقولون: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فبم قالوا ذلك؟» قال: «إن إبراهيم لم يعدل بي شيئا قط إلّا اختارني عليه، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإن يعقوب كلّما زدته بلاء زاد بي حسن ظنّ» [93] «1» . وروى حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: قال يوسف: للملك: «ترغب أن تأكل معي أو تنكف وأنا والله يوسف بن يعقوب نبيّ الله ابن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله (عليهم السلام) ؟!» [94] «2» . وقال الآخرون: هو إسماعيل، وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن عمر وأبو الطفيل عامر ابن واثلة وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح وأبي حمرة نصر بن عمران الضبعي ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا القولين، ولو كان فيهما صحيح بالإجماع لم يعزه إلى غيره «3» ، وأمّا الرواية التي رويت عنه صلّى الله عليه أنّ الذبيح إسحاق ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد [قالا] «4» : حدّثنا ابن مجاهد قال: حدّثنا موسى بن إسحاق قال: حدّثنا عبد الله بن أبي شنبه قال: أخبرنا الأشيب قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذي أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق» [95] «5» . أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن علي بن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدّثنا حجاج عن ابن جريح قال: أخبرت عن صفوان بن سليم وزيد بن أسلم عن النبي (عليه السلام) أنه قال: «إنّ إسحاق الذي أراد إبراهيم أن يذبحه» [96] . وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة [فأقرأنيه] «6» قال: أخبرنا جدي قال: حدّثنا علي بن حجر قال: حدّثنا عمر بن حفص عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «يشفع إسحاق بعدي فيقول: يا رب صدّقت نبيّك وجدت بنفسي
للذبح فلا تدخل النار من لم يشرك بك شيئا» . قال: «فيقول تبارك وتعالى: وعزتي لا أدخل النار من لا يشرك بي شيئا» [97] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال: حدّثنا أبو حفص عمر بن محمد بن عيسى الجوهري قال: حدّثنا عيسى بن مساور الجوهري قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله عزّ وجل خيّرني بين أن يغفر لنصف أمّتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجّلت منها دعوتي إنّ الله سبحانه لما فرّج عن إسحاق كرب الذبح قيل: يا إسحاق سل تعط. فقال: أما والذي نفسي بيده لأتعجّلنها قبل نزغة الشيطان، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة» [98] «1» . وأما ما روي عنه صلّى الله عليه أنّ الذبيح إسماعيل فروى عمر بن عبد الرّحمن، عن عبيد الله بن محمد العتبي- من ولد عتبة بن أبي سفيان- عن أبيه قال: حدّثني عبد الله بن سعيد عن الصنابحي قال: كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق، فقال: على الخبير سقطتم، كنت عند النبي صلّى الله عليه فجاء رجل فقال: يا رسول الله عد عليّ مما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين فضحك رسول الله صلّى الله عليه، فقيل له: يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ فقال: إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله عز وجل لئن سهل الله عز وجل له أمرها ليذبحنّ أحد ولده، قال: فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا: افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل (عليه السلام) [99] «2» . فهذا ما ورد من الأخبار في هذا الباب، فأما حجة القائلين بأنه إسحاق من القرآن فهو أنّ الله سبحانه أخبر عن خليله إبراهيم (عليه السلام) حين فارق قومه مهاجرا إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط وقال: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ إنه دعا فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ وذلك أنه قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له أم إسماعيل. ثم اتبع ذلك الخبر عن إجابته ودعوته وتبشيره أياه بِغُلامٍ حَلِيمٍ ثم عن رؤيا إبراهيم أن يذبح ذلك الغلام الذي بشر به حين بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وليس في [كتاب الله بشير لإبراهيم بولد ذكر] «3» إلّا بإسحاق. واحتج من قال: إنه إسماعيل من القرآن بما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول: إنّ الذي أمر الله سبحانه إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل، وإنا لنجد ذلك
في كتاب الله سبحانه، وذلك أن الله عز وجل يقول حين فرغ من قصة المذبوح: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وقال عز من قائل: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «1» يقول: بابن وبابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله سبحانه وتعالى الموعود «2» . فلما لم يذكر الله تعالى إسحاق إلّا بعد انقضاء قصّة الذبح، ثم بشّره بولد إسحاق علمنا أنّ الذبيح إسماعيل. قال القرظي: فذكرت ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، إذ كنت معه بالشام، فقال لي عمر: إنّ هذا الشيء ما كنت أنظر فيه، وإني لأراه كما قلت. ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام، وكان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علماء اليهود، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده فقال: أيّ ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل. ثم قال: والله يا أمير المؤمنين إنّ اليهود لتعلم ذلك ولكنهم ليحسدونكم معشر العرب على أن يكون أنّ أباكم الذي كان من أمر الله سبحانه وتعالى فيه والفضل الذي ذكره الله سبحانه منه لصبره على ما أمر به، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم. واحتجوا أيضا بأن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير «3» والحجاج، قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة، وكان القرنان ميراثا لولد إسماعيل عن أبيهم، فلم يزاحمهم على ذلك ولد إسحاق وهم الروم، وكانوا أكبر وأعزّ وأمنع من العرب: وهذا أدل دليل على أن الذبيح إسماعيل. وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال لي: يا أصمع أين ذهب عنك عقلك؟ ومتى كان إسحاق عليه السلام بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه إبراهيم (عليهما السلام) ، كما قال الله سبحانه وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ «4» ، والمنحر بمكة لا شكّ فيه. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن المنذر الضرير يقول: سمعت أبا محمد الزنجاني المؤدّب يقول: سئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد: إنّ الذبيح هديت إسماعيل ... نطق الكتاب بذاك والتنزيل «5»
شرف به خصّ الإله نبيّنا ... وأتى به التفسير والتأويل إن كنت أمّته فلا تنكر له ... شرفا به قد خصّه التفضيل وأما قصة الذبح فقال السدي بإسناده: لمّا فارق إبراهيم الخليل (عليه السلام) قومه مهاجرا إلى الشام هاربا بدينه، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ دعا الله سبحانه وتعالى أن يهب له ابنا صالحا من سارة فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ. فلما نزل به أضيافه من الملائكة المرسلين إلى المؤتفكة وبشّروه بغلام حليم، قال إبراهيم لما بشّر به: فهو إذن لله ذبيح. فلما ولد الغلام وبَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، قيل: أوف بنذرك الذي نذرت. فكان هذا هو السبب في أمر الله تعالى رسوله إبراهيم بذبح ابنه، فقال إبراهيم عند ذلك لإسحاق: «انطلق نقرّب قربانا لله تعالى» [100] ، وأخذ سكّينا وحبلا ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام: يا أبت أين قربانك؟ فقال يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وقال محمد بن إسحاق بن يسار: كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيصلي بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام. حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أري في المنام أن يذبحه، فلما أمر بذلك قال لابنه: «يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب» . فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب [ثبير] ، أخبره بما أمر، كما ذكر الله تعالى، قالوا: فقال له ابنه الذي أراد أن يذبحه: «يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عنّي ثيابك حتى لا ينضح عليها من دمي شيء، فينقص أجري وتراه أمّي فتحزن، واشحذ شفريك، وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ، فإنّ الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عنّي» . فقال له إبراهيم (عليه السلام) : «نعم العون أنت يا بني على أمر الله» . ففعل إبراهيم ما أوصاه به ابنه، ثم أقبل عليه يقبّله، وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي حتى استنقع الدموع تحت خده، ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تنحر السكين. قال السدي: ضرب الله صفحة من النحاس على حلقه. قالوا: فقال الابن عند ذلك: «يا أبت كبّني لوجهي على جبيني، فإنّك إذا نظرت في وجهي رحمتني، وأدركتك رقّة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع» . ففعل ذلك إبراهيم، ووضع السكين على قفاه فانقلب السكين، ونودي: «يا إبراهيم مه، قد صدّقت الرّؤيا، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها دونه» ، فنظر إبراهيم فإذا هو بجبرائيل ومعه كبش أقرن أملح فكبّر جبرائيل فكبّر الكبش فكبّر إبراهيم فكبّر ابنه وأخذ إبراهيم الكبش وأتى به المنحر من منى فذبحه.
قال ابن عباس: فو الذي نفسي بيده، لقد كان أوّل الإسلام، وإنّ رأس الكبش لمعلّق بقرنيه في ميزاب الكعبة. قال السدّي: فلما أخذ إبراهيم (عليه السلام) الكبش خلّى عن ابنه، وأكبّ عليه وهو يقبّله ويقول: «يا بني وهبت لي» ، ثم رجع إلى سارة فأخبرها الخبر، فجزعت سارة وقالت: يا إبراهيم، أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني؟ [101] . وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قالوا: لما أري إبراهيم (عليه السلام) ذبح ابنه قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم، لا أفتن منهم أحدا أبدا. فتمثل لهم الشيطان رجلا وأتى أمّ الغلام فقال لها: هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب به يحطبنا من هذا الشعب. قال: لا والله ما ذهب به إلّا ليذبحه. قالت: كلا هو أرحم به وأشدّ حبّا له من ذلك. قال: إنه يزعم أنّ الله أمره بذلك. قالت: فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه، وسلّمنا لأمر الله عز وجل. فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له: يا غلام هل تدري أين يذهب أبوك؟ قال: «يحطب أهلنا من هذا الشعب» . قال: والله ما يريد إلّا أن يذبحك. قال: «ولم» . قال: زعم أنّ ربه أمره بذلك، قال: «فليفعل ما أمره به ربه، فسمعا وطاعة» . فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم، فقال له: أين تريد أيّها الشيخ؟ قال: «أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه» . فقال: والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك، فأمرك بذبح بنيّك هذا. فعرفه إبراهيم فقال: «إليك عنّي يا عدوّ الله، فو الله لأمضينّ لأمر الله» [102] «1» . وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أنّ إبراهيم لما أمر بذبح ابنه، عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم، ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى بأمر الله عز وجل في ذلك. وقال أمية بن أبي الصلت: «2» ولإبراهيم الموفي بالنذر ... احتسابا وحامل الأحدال بكره لم يكن ليصبر عنه ... لو يراه في معشر أقتال يا بني إني نذرتك لله ... شحيطا فاصبر فدى لك حالي
واشدد الصفد لا أحيد عن السكين ... حيد الأسير ذي الأغلال وله مدية تخايل في اللحم ... هذام حنية كالهلال بينما يخلع السرابيل عنه ... فكّه ربّه بكبش حلال قال خذه ذا وأرسل ابنك إني ... للذي قد فعلتما غير قال ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال فهذه قصة الذبح كما قال الله سبحانه: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قال ابن عباس: يعني المشي مع أبيه إلى الحيل «1» . قال الحسن ومقاتل بن حيان: يحني العقل الذي يقوم به الحجة، وقال الضحاك: يعني الحركة، وقال ابن زيد: [هو السعي في] العبادة. يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ: رأيت في المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ لنذر عليّ فيك أمرت بذلك، وذلك أنّ إبراهيم (عليه السلام) رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا. فلما أصبح روّى في نفسه- أي فكّر- من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحكم أو من الشيطان؟ فمن ثم سمّي يوم التروية. فلما أمسى رأى في المنام ثانيا ما رآه من ذبح الولد، فلما أصبح عرف أنّ ذلك الحكم من الله، فمن ثم سمّي يوم عرفة. وقال: مقاتل: رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات، وقال عطاء ومقاتل: أمر إبراهيم أن يذبح ابنه ببيت المقدس فلما تيقّن ذلك أخبر ابنه فقال لابنه فَانْظُرْ ماذا تَرى؟ قرأ العامة بفتح التاء، وقرأ حمزة والكسائي (تُرِي) بضم التاء وكسر الراء- أي ماذا تشير؟ وإنما جاز أن يؤامر ابنه في المضي لأمر الله لأنه أحبّ أن يعلم صبره على أمر الله وعزمه على طاعته فقال له ابنه: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا وخضعا لأمر الله سبحانه وتعالى ورضيا به، وقرأ ابن مسعود (فلما سلّما) أي فوّضا، وقرأ ابن عباس (استسلما) . قال قتادة: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي صرعه وأضجعه وكبّه على وجهه للذّبح وَنادَيْناهُ، قال أهل المعاني: (الواو) مقحمة صلة، مجازه: ناديناه، كقوله: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا «2» يعني: أوحينا، وقوله: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ «3» وقال امرؤ القيس: فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى «4»
[سورة الصافات (37) : الآيات 107 إلى 122]
وقال الشاعر: حتى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبّوا وقلبتم ظهر المجن لنا ... إنّ اللئيم العاجز الخب «1» أراد: قلبتم. أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ: الاختبار المظهر فيما يوجب النعمة أو النقمة، ولذلك قيل للنعم: بلاء وللمحنة بلاء لأنها سمّيت باسم سببها المؤدّى به إليها، كما قيل لأسباب الموت: هذا الموت بعينه. [سورة الصافات (37) : الآيات 107 الى 122] وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، والذّبح: المهيأ لأن يذبح، والذّبح- بالفتح- المصدر، وقد اختلفوا في هذا الذّبح وسبب تسميته عظيما فأخبرنا أبو الحسن الفهندري قال: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا إبراهيم بن مرزوق البصري قال: حدّثنا أبو عامر العقدي عن سفيان ابن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قرّبه ابن آدم، وقال سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا، وقال مجاهد: سمّاه عظيما لأنه متقبل، وقال الحسين بن الفضيل: لأنه كان من عند الله، وقال أبو بكر الورّاق: لأنه لم يكن عن نسل وإنما كان بالتكوين، وقيل: لأنه فداء عبد عظيم، وقال أهل المعاني: قيل له: عظيم لأنه يصغر مقدار غيره من الكباش بالإضافة إليه، وأكثر المفسرين على أنه كان كبشا من الغنم أعين أقرن أملح، وروى عمر بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول: ما فدى إسماعيل إلّا تيس من الأروى، وأهبط عليه من [السماء] ، وهي رواية أبي صالح عن ابن عباس قال: وكان وعلا. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة وعبيد
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 إلى 138]
الله قالا: حدّثنا ابن مجاهد قال: حدّثني أحمد بن حرب قال: حدّثنا سبيك قال: حدّثنا وكيع عن سفيان عن داود عن عكرمة عن ابن عباس. وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ: بشرى نبوّة بشّر به مرتين حين ولد وحين نبّئ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ أي على إبراهيم في الأولاد، وَعَلى إِسْحاقَ حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه. وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ: مؤمن وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ: كافر ظاهر الكفر. وَلَقَدْ مَنَنَّا: أنعمنا عَلى مُوسى وَهارُونَ بالنبوة. وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما: بني إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، يعني الغرق، حيث أغرقنا فرعون وقومه وَنَصَرْناهُمْ يعني موسى وهارون وقومهما فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على القبط، وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ: المستنير وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ. [سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 138] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، أخبرنا أبو محمد بن أبي القاسم بن المؤهل قال: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: حدّثنا بكار بن قتيبة قال: حدّثنا أبو داود الطيالسي قال: حدّثنا قيس بن أبي إسحاق عن عبية بن ربيعة عن ابن مسعود قال: إلياس هو إدريس، وإسرائيل هو يعقوب، وإلى هذا ذهب عكرمة، وقال: هو في مصحف عبد الله: وإن إدريس لمن المرسلين وتفرّد عبد الله وعكرمة بهذا القول. وقال الآخرون: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل. قال ابن عباس: وهو ابن عمّ اليسع، وقال ابن إسحاق: هو إلياس بن ياسين بن العيزار بن هارون بن عمران، وقال أيضا محمد بن إسحاق ابن ياسر والعلماء من أصحاب الأخبار: لمّا قبض الله سبحانه حزقيل النبي عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وظهر فيهم الفساد والشرك، ونسوا عهد الله، ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، فبعث الله إليهم إلياس (عليه السلام) : نبيا وإنما دانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام يبعثون إليهم تجديد ما نسوا من التوراة، وبنو إسرائيل يومئذ متفرّقون في أرض الشام وفيهم ملوك كثيرة وكان سبب ذلك أنّ يوشع بن نون لما فتح أرض الشام بعد موسى
وملكها بوّأها بني إسرائيل وقسّمها بينهم، فأحلّ سبطا منهم بعلبك ونواحيها، وهم سبط إلياس الذي كان منهم إلياس فبعثه الله إليهم نبيّا، وعليهم يومئذ ملك يقال له: [أجب] «1» قد ضلّ أضل قومه، وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان يعبد هو وقومه صنما يقال له: بعل، وكان طوله عشرين ذراعا، وكانت له أربعة وجوه. قال: فجعل إلياس يدعوهم إلى الله سبحانه، وهم في كلّ ذلك لا يسمعون منه شيئا إلّا ما كان من أمر الملك الذي كان ببعلبك، فإنه آمن به وصدّقه وكان إلياس يقوم أمره ويسدده ويرشده وكان «2» لأجب الملك هذا امرأة يقال لها أزبيل «3» ، وكان يستخلفها على رعيته إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها، فكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتركب كما يركب، وتجلس في مجلس القضاء فتقضي بين الناس، وكانت قتّالة للأنبياء. قال: وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتمها إيمانه، وكان كاتبها قد خلّص من يدها ثلاثمائة نبي كانت تريد قتل كل «4» واحد منهم إذا بعث سوى الذين قبلهم ممن يكثر عددهم، وكانت في نفسها غير محصنة، ولم يكن على وجه الأرض أفحش منها، وهي مع ذلك قد تزوجت سبعة «5» ملوك من بني إسرائيل وقتلتهم «6» كلّهم بالاغتيال، وكانت معمّرة حتى يقال: إنها ولدت سبعين ولدا. قال: وكان لأجب هذا جار من بني إسرائيل، رجل صالح يقال له (مزدكي) وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ويزينها، وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، وكانا «7» يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان أجب الملك مع ذلك يحسن إليه، وامرأته أزبيل تحسده على ذلك لأجل تلك الجنينة، وتحتال في أن تغصبها إياه لما تسمع الناس يكثرون ذكر الجنينة ويتعجبون من حسنها، ويقولون: ما أحرى أن تكون هذه الجنينة لأهل هذا القصر! ويتعجبون من الملك وامرأته كيف لم يغصباها صاحبها. فلم تزل امرأة الملك تحتال على العبد الصالح مزدكي في أن تقتله وتأخذ جنينة والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلا. ثم إنه اتفق خروج الملك إلى سفر بعيد، وطالت غيبته، فاغتنمت امرأته أزبيل ذلك للحيلة
على مزدكي، وهو غافل عمّا تريد به، مقبل على عبادة ربه وإصلاح معيشته، فجمعت أزبيل جمعا من الناس وأمرتهم أن يشهدوا على مزدكي أنه سبّ زوجها أجب فأجابوها إلى ملتمسها من الشهادة عليه. وكان من حكمهم في ذلك الزمان على من سبّ الملك القتل إذا قامت عليه البيّنة بذلك فأحضرت مزدكي، وقالت له: بلغني أنّك شتمت الملك وعبته. فأنكر مزدكي ذلك، فقالت المرأة: إنّ عليك شهودا، وأحضرت الشهود فشهدوا بحضرة الناس عليه بالزور، فأمرت بقتل مزدكي فقتل وأخذت جنينته غصبا فغضب الله عليهم بقتل العبد» الصالح. فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر، فقال لها: ما أصبت ولا وفقت ولا أرانا نفلح بعده أبدا، وإنا كنّا عن جنينته لأغنياء، قد كنّا نتنزه فيها، وقد جاورنا وتحرّم بنا مذ زمان طويل، فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى، لوجوب حقه علينا، فختمت أمره بأسوأ الجوار، وما حملك على اجترائك عليه إلّا سفهك وسوء رأيك وقلّة تفكرك في العواقب. فقالت: إنما غضبت لك وحكمت بحكمك. فقال لها: أوما يسعه حلمك ويحدوك عظيم خطرك على العفو عن رجل واحد فتحفظين له جواره؟ قالت: قد كان ما كان. فبعث الله تعالى إلياس (عليه السلام) إلى أجب الملك وقومه وأمره أن يخبرهم أنّ الله سبحانه قد غضب لوليّه حين قتلوه بين أظهرهم ظلما، وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنعهما ولم يردّا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما- يعني أجب وامرأته- في جوف الجنينة أشرّ ما يكونان بسفك دميهما ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى تتعرى عظامهما من لحومهما ولا يمتّعان بها إلّا قليلا. قال: فجاء إلياس وأخبره بما أوحى الله تعالى إليه في أمره وأمر امرأته والجنينة، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له: يا إلياس والله ما أرى ما تدعو إليه إلّا باطلا، والله ما أرى فلانا وفلانا، سمى ملوكا منهم قد عبدوا الأوثان- إلّا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويشربون ويتنعّمون مملكين ما ينقص من دنياهم ولا من أمرهم «2» الذي تزعم أنه باطل، وما نرى لكم علينا [ولا] عليهم من فضل. قال: وهمّ الملك بتعذيب إلياس وقتله، فلما سمع إلياس ذلك وأحسّ بالشر، رفضه وخرج عنه، فلحق بشواهق الجبال، وعاد «3» الملك إلى عبادة بعل. فارتقى إلياس أصعب جبل وأشمخه، فدخل مغارة فيه، فيقال: إنه قد بقي فيه سبع سنين شريدا طريدا خائفا يأوي إلى
الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر، وهم في طلبه قد وضعوا عليه العيون، يتوقعون أخباره ويجتهدون في أخذه، والله سبحانه وتعالى يستره ويدفع عنه. فلما تمّ له «1» سبع سنين أذن الله تعالى في إظهاره عليهم وشفاء غيظه منهم، فأمرض الله سبحانه ابنا لأجب- وكان أحبّ ولده إليه، وأعزهم عليه، وأشبههم به- فأدنف حتى يئس منه، فدعا صنمه بعلا- وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه، حتى جعلوا له أربعمائة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أمناءه، فكان الشيطان يدخل في جوف الصّنم فيتكلّم بأنواع الكلام، وأربعمائة يصغون بآذانهم إلى ما يقول الشيطان، ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيكتبونها للناس فيعملون بها، ويسمونهم الأنبياء. فلما اشتدّ مرض ابن الملك طلب إليهم الملك أن يتشفعوه إلى بعل ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء والعافية فدعوه «2» فلم يجبهم، ومنع الله بقدرته الشيطان عن صنمهم فلم يمكنه الولوج في جوفه ولا الكلام «3» ، وهم مجتهدون في التضرع إليه وهو لا يزداد إلّا خمودا «4» . فلما طال عليهم ذلك قالوا لأجب: إنّ في ناحية الشام آلهة أخرى، وهي في العظم مثل إلهك، فابعث إليها الأنبياء ليشفعوا لك إليها، فلعلّها أن تشفع لك إلى إلهك بعل، فإنه غضبان عليك، ولولا غضبه عليك لكان قد «5» أجابك وشفى لك ابنك. قال أجب: ومن أجل ماذا غضب عليّ، وأنا أطيعه وأطلب رضاه منذ كنت، لم أسخطه ساعة قط؟ قالوا: من أجل أنك لم تقتل إلياس، وفرطت فيه حتى نجا سليما، وهو كافر بإلهك، يعبد غيره، فذلك الذي أغضبه عليك. قال أجب: وكيف لي أن أقتل إلياس يومي هذا، وأنا مشغول عن طلبه بوجع ابني؟ فليس لإلياس مطلب، ولا يعرف له موضع فيقصد، فلو عوفي ابني تفرّغت لطلبه، ولم يكن لي همّ ولا شغل غيره حتى آخذه فاقتله، فأريح إلهي منه وأرضيه. قال: ثم إنه بعث أنبياءه الأربعمائة ليشفعوا إلى الآلهة «6» . التي بالشام، ويسألوها أن تشفع إلى صنم الملك ليشفي ابنه. فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه إلياس، أوحى الله سبحانه إلى إلياس أن يهبط من الجبل ويعارضهم ويستوقفهم ويكلمهم، وقال له: «لا تخف فإني سأصرف عنك شرّهم، وألقي الرّعب في قلوبهم» فنزل إلياس من الجبل، فلما لقيهم استوقفهم، فلما وقفوا، قال لهم: «إنّ الله سبحانه أرسلني إليكم وإلى من وراءكم، فاسمعوا أيّها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم، فارجعوا إليه وقولوا له: إنّ الله يقول لك: ألست تعلم يا أجب
أنّي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا إله بني إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم، أفجهلك وقلة علمك حملك على أن تشرك بي، وتطلب الشفاء لابنك من غيري ممن لا يملكون لأنفسهم شيئا إلّا ما شئت؟ إنّي حلفت باسمي لأغيظنّك في ابنك ولأميتنه في فوره هذا حتى تعلم أنّ أحدا لا يملك له شيئا دوني» . فلما قال لهم هذا رجعوا، وقد ملئوا منه رعبا، فلما صاروا إلى الملك قالوا له ذلك وأخبروه بأن إلياس انحط عليهم وهو رجل نحيف طويل «1» ، قد قشف وقحل وتمعط شعره وتقشر جلده، عليه جبّة من شعر وعباءة قد خللها على صدره بخلال، فاستوقفنا، فلما صار معنا قذفت له في قلوبنا الهيبة والرعب، وانقطعت ألسنتنا، ونحن في هذا العدد الكبير وهو واحد، فلم نقدر على أن نكلّمه ونراجعه ونملأ أعيننا منه، حتى رجعنا إليك، وقصّوا عليه كلام إلياس، فقال أجب: لا ينتفع بالحياة ما كان إلياس حيّا، ما الذي منعكم أن تبطشوا به حين لقيتموه وتوثقوه وتأتوني به، وأنتم تعلمون أنه طلبي وعدوّي؟ فقالوا: قد أخبرناك ما الذي منعنا منه ومن كلامه والبطش به. قال أجب: ما يطاق إذن إلياس إلّا بالمكر والخديعة. فقيّض له خمسين رجلا من قومه من ذوي القوة والبأس، وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال عليه «2» والاعتناء به، وأن يطمعوه في أنهم قد آمنوا به هم ومن وراءهم ليستنيم إليهم ويغترّ بهم فيمكنهم من نفسه، فيأتوا به ملكهم. فانطلقوا حتى ارتقوا ذلك الجبل الذي فيه إلياس (عليه السلام) ، ثم تفرّقوا فيه وهم ينادونه بأعلى أصواتهم، ويقولون: يا نبي الله ابرز لنا وأشرف «3» بنفسك فإنا قد آمنا بك وصدقناك، وملكنا أجب وجميع قومنا، وأنت آمن على نفسك، وجميع بني إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون: قد بلّغتنا رسالة ربك وعرفنا ما قلت وآمنا بك، وأجبناك إلى ما دعوتنا فهلمّ إلينا، فأنت نبينا ورسول ربنا، فأقم بين أظهرنا واحكم فينا، فإنا ننقاد لما أمرتنا وننتهي عما نهيتنا، وليس يسعك أن تتخلف عنا مع إيماننا وطاعتنا، فتداركنا وارجع إلينا، وكلّ هذا كان منهم مماكرة وخديعة. فلما سمع إلياس مقالتهم وقعت بقلبه، وطمع في إيمانهم وخاف الله، وأشفق من سخطه إن هو لم يظهر ولم يجبهم بعد الذي سمع منهم، فلمّا أجمع على أن يبرز لهم، رجع إلى نفسه فقال: «لو أنّي دعوت الله سبحانه وتعالى وسألته أن يعلمني ما في أنفسهم ويطلعني على حقيقة أمرهم» ، وذلك أنّ الله سبحانه وفقه وألهمه التوقّف والدعاء والتحرز، فقال: «اللهم إن كانوا صادقين فيما يقولون فائذن لي في البروز إليهم، وإن كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم» .
فما استتمّ قوله حتى حصبوا بالنار من فوقهم أجمعين. قال: وبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء، واحتال ثانيا في أمر إلياس، وقيّض فئة أخرى مثل عدد أولئك، أقوى منهم وأمكن من الحيلة والرأي فأقبلوا حتى توغلوا [في] تلك الجبال. متفرقين، وجعلوا ينادون: يا نبي الله إنا نعوذ بالله وبك من غضب الله وسطواته، إنا لسنا كالذين «1» أتوك قبلنا، إنّ أولئك فرقة نافقوا وخالفوا «2» ، فصاروا إليك ليكيدوا بك من غير رأينا ولا علمنا «3» ، وذلك أنهم حسدونا وحسدوك وخرجوا إليك سرا، ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤونتهم، والآن فقد كفاك ربك أمرهم وأهلكهم بسوء نياتهم وانتقم دونك منهم. فلما سمع إلياس مقالتهم دعا الله بدعوته الأولى، فأمطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم. وفي كل ذلك ابن الملك في البلاء الشديد من وجعه كما وعده الله سبحانه وتعالى على لسان نبيّه إلياس، لا يقضى عليه فيموت ولا يخفف عنه من عذابه، فلما سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا إزداد غضبا إلى غضب، وأراد أن يخرج في طلب إلياس بنفسه إلّا أنه شغله عن ذلك مرض «4» ابنه، فلم يمكنه، فوجه نحو إلياس الكاتب المؤمن الذي هو كاتب امرأته، رجاء أن يأنس به إلياس، فينزل معه وأظهر للكاتب أنه لا يريد بإلياس سوءا، وإنما أظهر له ذلك لما اطّلع عليه من إيمانه، وأنّ الملك مع اطلاعه على إيمانه كان مغضيا عنه فيه لما هو عليه من الأمانة والكفاءة والحكمة وسداد الرأي والبصر «5» بالأمور- فلما وجّهه نحوه أرسل معه «6» فئة من أصحابه، وأوعز إليهم «7» دون الكاتب أن يوثقوا إلياس ويأتوه به إن أراد التخلف عنهم، وإن جاء مع الكاتب واثقا به آنسا لمكانته لم يوحشوه ولم يرّوعوه. ثم أظهر للكاتب الإنابة، وقال له: إنه قد آن لي أن أتوب واتّعظ، وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا، والبلاء الذي فيه ابني، وقد عرفت أنّ ذلك بدعوة إلياس، ولست آمن أن يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته، فانطلق لنا إليه وأخبره أنا قد تبنا وأنبنا، وإنّه لا يصلحنا في توبتنا، وما نريد من رضا ربنا وخلع أصنامنا إلّا أن يكون إلياس بين أظهرنا، يأمرنا وينهانا، ويخبرنا بما يرضي ربنا. قال: وأمر قومه فاعتزلوا الأصنام وقال له: أخبر إلياس أنّا قد خلعنا آلهتنا التي كنا نعبد
وأرجأنا أمرها حتى ينزل إلياس إلينا فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها، وكان ذلك مكرا من الملك. فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه إلياس، ثم ناداه، فعرف إلياس صوته، فتاقت نفسه إليه وأنس به «1» ، وكان مشتاقا إلى لقائه. قال: وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى إلياس أن انزل إلى أخيك الصالح، فالقه وجدد العهد به. فنزل إليه وسلم عليه وصافحه وقال له: ما الخبر؟ فقال المؤمن: إنه بعثني إليك هذا الجبار الطاغية وقومه، ثم قصّ عليه ما قالوا، ثم قال له: إني لخائف إن رجعت إليه ولست معي أن يقتلني، فمرني بما شئت أفعله وأنتهي إليه، وإن شئت انقطعت إليك فكنت معك وتركته، وإن شئت جاهدته معك، وإن شئت ترسلني إليه بما تحبّ فأبلغه رسالتك، وإن شئت دعوت ربك فجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا. قال: فأوحى الله سبحانه إلى إلياس أنّ كلّ شيء جاءك منهم مكر وكذب ليظفروا بك، وإنّ أجب إن أخبرته رسله أنّك قد لقيت هذا الرجل ولم يأت بك إليه اتهمه وعرف أنه قد داهن «2» في أمرك فلم يأمن أن يقتله فانطلق معه، فإنّ انطلاقك معه عذره وبراءته عند أجبّ، وإنّي سأشغل عنكما أجب، فأضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له همّ غيره ثم أميته على شرّ حال، فإذا مات هو فارجع عنه ولا تقم. قال: فانطلق معهم حتى قدموا عليه شدّد الله الوجع على ابنه وأخذ الموت يكظمه فشغل الله بذلك أجب وأصحابه عن إلياس، ورجع إلياس سالما إلى مكانه. فلما مات ابن أجب، وفرغوا من أمره وقلّ جزعه، انتبه لإلياس وسأل عنه الكاتب الذي جاء به، فقال: ليس لي به علم وذلك أنه شغلني عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك إلّا وقد استوثقت منه. فأضرب عنه أجب وتركه لما كان فيه من الجزع على ابنه. فلما طال الأمر على إلياس ملّ المكث «3» في الجبال والمقام بها واشتاق إلى العمران والناس، نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامرأة من بني إسرائيل، وهي أمّ يونس بن متّى ذي النون، فاستخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود يرضع، وكانت أمّ يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها ولا تدّخر عنه كرامة تقدر عليها. قال: ثم إنّ إلياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال دوحها فأحبّ اللّحوق بالجبال، فخرج وعاد إلى مكانه، فجزعت أمّ يونس لفراقه [وأوحشها] «4» فقده ثم لم تلبث إلّا
يسيرا حتى مات ابنها حين فطمته، فعظمت مصيبتها فيه، فخرجت في طلب إلياس فلم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته فقالت له: إني قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتي واشتد لفقده بلائي وليس لي ولد غيره فارحمني وادع ربك جل جلاله ليحيي لي ابني ويجبر مصيبتي، وإني قد تركته مسجّى لم أدفنه، وقد أخفيت مكانه. فقال لها إلياس: «ليس هذا مما أمرت به، وإنما أنا عبد مأمور أعمل بما يأمرني ربي، ولم يأمرني بهذا» فجزعت المرأة وتضرعت، فأعطف الله سبحانه قلب إلياس لها، فقال لها: «ومتى مات ابنك؟» قالت: منذ سبعة أيام. فانطلق إلياس معها وسار سبعة أخرى حتى انتهى إلى منزلها فوجد ابنها يونس بن متّى ميتا منذ أربعة عشر يوما، فتوضأ وصلّى ودعا فأحيا الله يونس بن متّى بدعوة إلياس. فلما عاش وجلس، وثب إلياس وانصرف وتركه وعاد إلى موضع ما كان فيه. فلما طال عصيان قومه ضاق بذلك إلياس ذرعا وأجهده البلاء، قال: فأوحى الله سبحانه إليه بعد سبع سنين وهو خائف مجهود: «يا إلياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه؟ ألست أميني على وحيي، وحجّتي في أرضي، وصفوتي من خلقي؟ فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم» قال: «تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملّوني، وأبغضتهم فيك وأبغضوني» . فأوحى الله سبحانه إليه: «يا إلياس، ما هذا باليوم الذي أعري منك الأرض وأهلها، وإنما قوامها وصلاحها بك وأشباهك وإن كنتم قليلا، ولكن تسألني فأعطيك» . قال إلياس: «فإن لم تمتني يا إلهي فأعطني ثاري من بني إسرائيل» . قال الله سبحانه: «وأي شيء تريد أن أعطيك يا إلياس؟» قال: «تمكّنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشأ عليهم سحابة إلّا بدعوتي، ولا يمطر عليهم سبع سنين قطرة إلّا بشفاعتي، فإنهم لا يذلّهم إلّا ذلك» . قال الله سبحانه وتعالى: «يا إلياس، أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين» . قال: «فستّ سنين» . قال: «أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين» . قال: «فخمس سنين» . قال: «أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين، ولكنّي أعطيك ثأرك ثلاث سنين، أجعل خزائن المطر بيدك، ولا تنشأ عليهم سحابة إلّا بدعوتك، ولا ينزل عليهم قطرة إلّا بشفاعتك» . قال إلياس: «فبأي شيء أعيش؟» قال: «أسخّر لك جنسا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف والأرض التي لم تقحط» . قال إلياس: «قد رضيت» . قال: فأمسك الله عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر، وجهد
الناس جهدا شديدا، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان، وقد عرفه بذلك قومه، فكانوا إذا وجدوا ريح الخبز في البيت قالوا: لقد دخل إلياس هذا المكان، فطلبوه ولقي منهم أهل ذلك المنزل شيئا. قال ابن عباس: أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط، فمرّ إلياس بعجوز، فقال لها: هل عندك طعام؟ فقالت: نعم، شيء من دقيق وزيت قليل. قال: فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسّه حتى ملأ جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا، فلمّا رأى بنو إسرائيل «1» ذلك عندها قالوا: من أين لك هذا؟ قالت: مرّ بي رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته، فعرفوه وقالوا: ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم. ثم إنه آوى ليلة إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له: اليسع بن أخطوب وكان «2» به ضر، فآوته وأخفت أمره، فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتّبع اليسع إلياس فآمن به وصدّقه ولزمه، وكان يذهب به حيثما ذهب، وكان إلياس قد أسنّ وكبر، وكان اليسع غلاما شابا. ثم إن الله سبحانه أوحى إلى إلياس: «إنك قد أهلكت كثيرا من الخلق ممن لم يعص سوى بني إسرائيل من البهائم والدواب والطير والهوام والشجر يحبس المطر من بني إسرائيل» . فيزعمون- والله أعلم- أنّ إلياس قال: «يا ربّ دعني أكن أنا الذي أدعو لهم به، وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء الذي أصابهم لعلّهم أن يرجعوا وينزعوا عمّا هم عليه من عبادة غيرك» . قيل له: «نعم» . فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال لهم: «إنكم قد هلكتم جوعا وجهدا، وهلكت البهائم والدواب والطير والهوام والشجر لخطاياكم، وإنكم على باطل وغرور، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم [تلك] «3» فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم، ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء» . قالوا: أنصفت. فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تستجب لهم ولم يفرّج عنهم ما كانوا فيه من البلاء، ثم قالوا لإلياس (عليه السلام) : يا إلياس إنا قد هلكنا فادع الله لنا. فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج عنهم مما هم فيه، وأن يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر، وهم ينظرون،
فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق، ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر وأغاثهم وحييت بلادهم. فلما كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد، ولم ينزغوا عن كفرهم، ولم يقلعوا عن ضلالتهم، وأقاموا على حيث ما كانوا عليه، فلما رأى إلياس ذلك دعا ربه عز وجل أن يريحه منهم، فقيل له- فيما يزعمون- انظر يوم كذا وكذا، فاخرج فيه إلى موضع كذا، فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه. فخرج إلياس ومعه اليسع بن أحطوب، حتى إذا كان بالموضع الذي أمر، أقبل فرس من نار حتى وقف بين يديه، فوثب عليه إلياس، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع: يا إلياس، ما تأمرني؟ فقذف إليه بكسائه من الجوّ الأعلى، وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، فكان ذلك آخر العهد به، ورفع الله سبحانه إلياس من بين أظهرهم، وقطّع عنه لذّة المطعم والمشرب، وكساه الرّيش، فكان إنسيّا ملكيّا، أرضيّا سماويّا، وسلّط الله تعالى على أجب الملك وقومه عدّوا لهم، فقصدهم من حيث لم يشعروا بهم حتى رهقهم، فقتل أجب ملكهم وأزبيل امرأته في بستان مزدكي، فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما. ونبّأ الله سبحانه بفضله اليسع، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وأوحى إليه وأيده بمثل ما أيّد به عبده إلياس، فآمنت به بنو إسرائيل، فكانوا يعظّمونه وينتهون إلى أمره، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثنا الحسن بن عبد العزيز الجدوي عن ضمرة عن السدي بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: إلياس والخضر عليهما السلام يصومان شهر رمضان بيت المقدس، ويوافيان الموسم في كلّ عام. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا الحسن بن أيوب قال: حدّثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدّثنا يسار قال: حدّثنا بشر بن منصور قال: حدّثني سعيد بن أبي سعيد البصري قال: قال حدّثني العلاء البجلي عن زيد مولى عون الطفاوي عن رجل من أهل عسقلان كان يمشي بالأردن عند نصف النهار، فرأى رجلا فقال: يا عبد الله من أنت؟ قال: فجعل لا يكلمني، قلت: يا عبد الله من أنت؟ قال: «أنا إلياس» قال: فوقعت عليّ رعدة، فقلت: ادع الله يرفع عني ما أجد حتى أفهم حديثك وأعقل عنك. قال: فدعا لي بثماني دعوات: «يا برّ يا رحيم يا حنان يا منان يا حي يا قيوم» ، ودعوتين بالسريانية لم أفهمهما. قال: ورفع الله عنّي ما كنت أجد، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين يدي، قال: فقلت له: يوحى إليك اليوم؟ قال: «منذ بعث الله سبحانه محمدا رسولا فإنه ليس يوحي إليّ» قال: قلت له: كم الأنبياء اليوم أحياء؟ قال: «أربعة، اثنان في الأرض، واثنان في السماء، في
السماء عيسى وإدريس، وفي الأرض إلياس والخضر» . قلت: كم الأبدال؟ قال: «ستون رجلا، خمسون منهم من لدن عريش مصر إلى شاطئ الفرات، ورجل بالمصيصية ورجلان بعسقلان وسبعة في سائر البلدان، كلّما أذهب الله بواحد، جاء الله بآخر، بهم يدفع عن الناس وبهم يمطرون» . قلت: فالخضر أين يكون؟ قال: «في جزائر البحر» . قلت: فهل تلقاه؟ قال: «نعم» . قلت: أين؟ قال: «بالموسم» قلت: فما يكون من حديثكما؟ قال: «يأخذ من شعري وآخذ من شعره» . قال: وذاك حين كان بين مروان بن الحكم وبين أهل الشام القتال، فقلت: فما تقول في مروان بن الحكم؟ قال: «ما تصنع به؟ رجل جبّار عات على الله سبحانه، القاتل والمقتول والشاهد في النار» . قال: قلت: فإني قد شهدت فلم أطعن برمح ولم أرم بسهم ولم أضرب بسيف، وأنا أستغفر الله عز وجل من ذلك المقام أن أعود إلى مثله أبدا. قال: «أحسنت، هكذا فكن» . قال: فأني وإياه قاعدان، إذ وضع بين يديه رغيفان أشد بياضا من الثلج، أكلت أنا وهو رغيفا وبعض آخر ثم رفع فما رأيت أحدا وضعه ولا أحدا رفعه. قال: وله ناقة ترعى في وادي الأردن، فرفع رأسه إليها فما دعاها حتى جاءت فبركت بين يديه فركبها، قلت: أريد أن أصحبك. قال: «إنك لا تقدر على صحبتي» . قلت: إني خلوّ، ما لي زوجة ولا عيال. قال: «تزوج وإياك والنساء الأربع: إياك والناشز والمختلعة والملاعنة والمبارية «1» ، وتزوّج ما بدا لك من النساء» . قال: قلت: إني أحبّ لقاءك. قال: «إذا رأيتني فقد لقيتني «2» » ، ثم قال: «إني أريد أن أعتكف في بيت المقدس في شهر الله المبارك رمضان» [103] . قال: ثم حالت بيني وبينه شجرة، فو الله ما أدري كيف ذهب، فذلك قوله عز وجل: وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ أتعبدون بَعْلًا؟ وهو اسم صنم لهم كانوا يعبدونها، ولذلك سمّيت مدينتهم بعلبك، وقال مجاهد وعكرمة والسدّي: البعل الرب بلغة أهل اليمن، وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال ابن عباس: وسألت أعرابيا يقول: لآخر: من بعل هذه الناقة؟ يعني صاحبها. قال الفراء: هي بلغة هذيل. وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ، فلا تعبدونه: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب بنصب الهاء والبائين على البدل، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ورواية حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون برفعها على الاستئناف. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ في العذاب والنار إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ من قومه فإنهم
[ناجون من النار] «1» وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ قرأ ابن محيص وشيبة سلام على إلياسين موصلا. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب (آل ياسين) بالمدّ. الباقون: إِلْ ياسِينَ بالقطع والقصر، فمن قرأ آل ياسين بالمد، فإنه أراد آل محمد عن بعضهم، وقيل: أراد إلياس، وهو أليق بسياق الآية، ومن قرأ إِلْ ياسِينَ فقد قيل: إنها لغة في إلياس مثل إسماعيل وإسماعين وميكائيل وميكائين، وقال الفراء: وهو جمع، أراد إلياس وأتباعه من المؤمنين كقولهم: الأشعرون والمكيون وقال الكسائي: العرب تثني وتجمع الواحد كقول الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدي وإنما هو أبو خبيب عبد الله بن الزبير. وقال الآخر: جزاني الزهدمان جزاء سوء وإنما هو زهدم، وفي حرف عبد الله (وإن إدريس لمن المرسلين، وسلام على ادراسين) . إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ، أي على آثارهم ومنازلهم، مُصْبِحِينَ : وقت الصباح، وَبِاللَّيْلِ أيضا تمرّون، وهاهنا تمّ الكلام، ثم قال أَفَلا تَعْقِلُونَ ، فتعتبروا؟
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 إلى 182]
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 182] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ . هرب إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، قال ابن عباس ووهب: كان يونس (عليه السلام) قد وعد قومه العذاب فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمنشور «1» منهم، فقصد البحر وركب السفينة، فاحتبست السفينة، فقال الملّاحون: هاهنا عبد أبق من سيّده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيه آبق لا تجري. فاقترعوا، فوقعت القرعة على يونس، فقالوا: ألا نلقيه في الماء؟ واقترعوا ثانيا وثالثا فوقعت القرعة على يونس، فقال: «أنا الآبق» وزجّ نفسه في الماء، فذلك قوله سبحانه: فَساهَمَ : فقارع، والمساهمة: إلقاء السهام على جهة القرعة. فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ المقروعين المخلوعين المغلوبين. فَالْتَقَمَهُ: فابتلعه والتقمه الْحُوتُ وأوحى الله سبحانه إليه أنّي جعلت بطنك سجنا ولم أجعله لك طعاما، وَهُوَ مُلِيمٌ مذنب، قد أتى بما يلام عليه. فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ المنزّهين الذاكرين لله سبحانه قبل ذلك في حال الرخاء، وقال ابن عباس: من المصلين، وقال مقاتل: من المصلحين المطيعين قبل المعصية، وقال وهب: من العابدين، وقال سعيد بن جبير: يعني قوله لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «2» وقال الحسن: ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملا صالحا، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة. فَنَبَذْناهُ: طرحناه بِالْعَراءِ قال الكلبي: يعني وجه الأرض. مقاتل بن حيان: يعني ظهر الأرض. مقاتل بن سليمان بالبراري من الأرض. الأخفش بالفناء الفراء بالأرض الواسعة. السدّي: بالساحل، وأصل العراء الأرض الخالية عن الشجر والنّبات، ومنه قيل للمتجرد: عريان. قال الشاعر: [ترك الهام ... بالعراء ... صار للخير حاصر العبقا] «3» وَهُوَ سَقِيمٌ عليل كالفرخ الممغط، واختلفوا في المدة التي لبث يونس (عليه السلام) في بطن الحوت، فقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام. عطاء: سبعة أيام، ضحاك: عشرين يوما. السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما.
وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ أي له، وقيل: عنده، كقوله: لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ» أي عندي شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ قال ابن مسعود: يعني القرع. ابن عباس والحسن ومقاتل هو كل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض، ولا يبقى على الشتاء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل. سعيد ابن جبير: هو كل شيء ينبت ثمّ يموت من عامه، وقيل: هو يفعيل من (قطن بالمكان) إذا أقام به إقامة زائل لا إقامة ثابت، وقال مقاتل بن حيان: وكان يستظل بالشجرة، وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها، وَأَرْسَلْناهُ يجوز أن يكون من حبسه في بطن الحوت، تقدير الآية وقد أرسلناه، ويجوز أن يكون بعده، ويجوز أن يكون إلى قوم آخرين. إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال ابن عباس: معناه ويزيدون، قال الشاعر: فلما اشتد أمر الحرب فينا ... تأملنا رياحا أو رزاما «2» أي ورزاما، وقال مقاتل: بل يزيدون. واختلفوا في مبلغ الزيادة على مائة ألف فقال ابن عباس ومقاتل: عشرون ألف. الحسن والربيع: بضع وثلاثون ألفا، ابن حيان: سبعون ألفا، فَآمَنُوا عند معاينة العذاب، فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ انقضاء آجالهم. فَاسْتَفْتِهِمْ: فسل يا محمد أهل مكة أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ وذلك أن جهينة وبني سلمة بن عبد الدار زعموا أنّ الملائكة بنات الله، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ: حاضرون خلقنا إياهم، نظيره قوله: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ «3» . أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى. قرأ العامة بقطع الألف لأنه ألف استفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوحة على حالها مثل أَسْتَكْبَرْتَ «4» وأَسْتَغْفَرْتَ «5» وأَذْهَبْتُمْ «6» ونحوها. وقرأ أبو جعفر ونافع في بعض الروايات (الكاذبون اصطفى) موصولة على الخبر والحكاية عن قول المشركين، مجازه: لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ ويقولون أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ثم رجع إلى الخطاب: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ: برهان بيّن على أنّ الله ولدا فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً : فجعلوا
الملائكة بنات الله، فسمّي الملائكة جنّا لاختبائهم عن الأبصار، هذا قول مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس: قالوا لحيّ: من الملائكة- يقال لهم: الجنّ ومنهم إبليس- بنات الله. قال الكلبي: قالوا (لعنهم الله) : بل تزوّج من الجن فخرج منها الملائكة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه. وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ يعني قائلي هذا القول لَمُحْضَرُونَ في النار. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فإنهم من النار ناجون. فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ يعني الأصنام ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي مع ذلك بِفاتِنِينَ: بمضلّين إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ أي إلّا من هو في علم الله وإرادته سيدخل النار. أخبرني ابن فنجويه قال حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال: حدّثنا أبو بكر بن شنبه قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس عن عمر بن ذر قال: قدمنا على عمر بن عبد العزيز فذكر عنده القدر، فقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله ألّا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة، وإن في ذلك لعلما من كتاب الله، وجهله من جهله وعرفه من عرفه، ثم قرأ فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ، وقد فصلت هذه الآية بين الناس. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفربابي قال: حدّثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال: حدّثنا أنس بن عياض قال: حدّثني أبو سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز (من فيه إلى أذني) : ما تقول في الذين يقولون لا قدر؟ قال: أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلّا ضربت أعناقهم. قال عمر بن عبد العزيز: ذلك الرأي فيهم والله لو لم يكن إلّا هذه الآية الواحدة لكفى بها: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ. ما مِنَّا إِلَّا لَهُ يعني إلّا من له مَقامٌ مَعْلُومٌ: مكان مخصوص في العبادة. قال ابن عباس: ما في السماوات موضع شبر إلّا وعليه ملك مصلّ أو مسبح، وقال أبو بكر: الوراق: إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ يعبد الله عليه، كالخوف والرجا، والمحبة والرضا، وقال السدي: يعني في القربى والمشاهدة. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ في الصلاة، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَإِنْ كانُوا وقد كادوا يعني أهل مكة لَيَقُولُونَ لام التأكيد: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ: كتابا مثل كتبهم، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فيه اختصار تقديره: فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به. نظيره قوله: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «1» .
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وهذا وعيد لهم. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، وهي قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ قال ابن عباس: يعني الموت، وقال مجاهد: يعني يوم بدر، وقيل: إلى يوم القيامة، وقال مقاتل بن حيان: نسختها آية القتال. وَأَبْصِرْهُمْ. أنظر إليهم إذا عدوا، وقيل: أبصر حالهم بقليل، وقيل: انتظرهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما أنكروا: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وذلك أنّ رسول الله (عليه السلام) لما أوعدهم العذاب، قالوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية. فَإِذا نَزَلَ العذاب بِساحَتِهِمْ: بناحيتهم وفنائهم فَساءَ: فبئس صَباحُ الْمُنْذَرِينَ: الكافرين. أخبرنا أبو عبد الله بن محمد بن عبد الله الزاهد قال: أخبرنا أبو العباس السراح قال: حدّثنا محمد بن رافع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمّر عن قتادة عن أنس في قوله: فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ قال: لما أتى النبي صلّى الله عليه خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومعهم مساحيهم، فلما رأوه ومعه الجيش نكصوا، فرجعوا إلى حصنهم، فقال النبي عليه السلام: «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ» [104] «2» . وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تأكيد للأولى. سُبْحانَ رَبِّكَ- إلى آخر السورة- أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا أبو مسلم: حدّثنا محمد بن إسماعيل بن محمد بن أسد بن عبد الله الأصفهاني قال: حدّثنا أسيد بن عاصم قال: حدّثنا أبو سفيان بن صالح بن مهران قال: حدّثنا نعمان قال: حدّثنا أبو العوام عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إذا سلمتم عليّ فسلّموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين» «3» [105] . قال أبو العوام: كان قتادة يذكر هذا الحديث إذا تلا هذه الآية: سُبْحانَ رَبِّكَ إلى آخر السورة. وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا الحسن بن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا المسيب قال: حدّثنا مطرف عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد
الخدري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه يقول قبل أن يسلّم: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال: حدّثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه قال: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» [106] «2» . [أخبرنا ابن فنجويه، أخبرنا الحسن المخلدي المقرئ عن أبي الحسن علي بن أحمد عن أبي [عثمان] البصري عن أبي خليفة [الجمحي عن] عبد المؤمن عن إبراهيم بن إسحاق [عن عبد الصمد] عن صالح بن مسافر قال: قرأت على عاصم بن أبي النجود سورة والصافات فلما أتيت على آخرها سكت، فقال: لم؟ اقرأ. فقلت: قد ختمت، قال إني فعلت كما فعلت على أبي عبد الرحمن السلمي، فقال أبو عبد الرحمن: كذلك قال لي عليّ وقال لي: قل: آذنتكم بأذانة المرسلين ولتسئلن عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ «3» .
سورة ص
سورة ص وهي ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا، وسبعمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وثمانية وثمانون آية. من كتاب ثواب الأعمال: أخبرنا إبراهيم قال: حدّثنا سلام في إسناده قال: ومن قرأ سورة ص كان له من الأجر مثل جبل سخّره الله لداود عشرة حسنات، وعصم من أن يصرّ على ذنب صغير أو كبير «1» . حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن الحسن قال: حدّثنا أبو الربيع قال: حدّثنا ابن وهب قال: حدّثني العطاف بن خلد عن عبد الرّحمن بن حرملة عن برد مولى سعيد بن المسيب: إنّ ابن المسيّب كان لا يدع أن يقرأ كل ليلة ص. قال العطاف: فلقيت عمران بن محمّد بن سعيد بن المسيب فسألته عن ذلك. قال: بلغني أنّه ما من عبد يقرأها كلّ ليلة إلّا اهتز له العرش. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) ص قرأ العامة بالجزم، واختلفوا في معناه. فقال الكلبي: عن أبي صالح، سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن ص فقالا: لا ندري. وقال عكرمة: سأل نافع الأزرق عبد الله بن عباس عن ص فقال: كان بحرا بمكّة وكان عليه عرش الرّحمن، إذ لا ليل ولا نهار.
سعيد بن جبير: ص بحر يحيي الله به الموتى بين [النفختين] . الضحّاك: صدق الله. مجاهد: فاتحة السّورة. قتادة: اسم من أسماء القرآن. السدّي: قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به، وهو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ. وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس. محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله، صمد، وصانع المصنوعات، وصادق الوعد. وقيل: هو اسم السّورة، وقيل: هو إشارة إلى صدود الكفّار من القرآن. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: صادِ بخفض الدّال، من المصادّاة، أي عارض القرآن بعملك وقابله به، واعمل بأوامره، وانته عن نواهيه. وقرأ عيسى بن عمر صادَ بفتح الدّال، ومثله قافَ ونونَ، لاجتماع السّاكنين، حرّكها إلى أخف الحركات. وقيل: على الإغراء. وقيل في ص: إنّ معناه صاد محمّد قلوب الخلق واستمالها حتّى آمنوا به. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قال ابن عباس ومقاتل: ذي البيان. الضحاك: ذي الشرف، دليله قوله عزّ وجل: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. وقيل: ذي ذكر الله عزّ وجلّ. واختلفوا في جواب القسم، فقال قتادة: موضع القسم قوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا كما قال سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا. وقال الأخفش جوابه قوله: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ كقوله عزّ وجل: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا ... وقوله: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ... إِنْ كُلُّ نَفْسٍ. وقيل: قوله: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ. وقال الكسائي: قوله: إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ. وقيل: مقدم ومؤخر تقديره بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ... وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. وقال الفراء: ص معناها وجب وحقّ، فهي جواب لقوله وَالْقُرْآنِ كما تقول: [نزل] والله. وقال القتيبي من قال جواب القسم بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا قال: «بل» إنما تجيء لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم ب ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ويعني حمية جاهلية وتكبر.
وَشِقاقٍ يعني خلاف وفراق. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا بالأيمان والاستغاثة عند نزول العقوبة وحلول النقمة بهم. وَلاتَ حِينَ مَناصٍ وليس بوقت فرار ولا بر. وقال وهب: وَلاتَ بلغة السريانية إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول: ولات. وقال أئمة أهل اللغة: وَلاتَ حِينَ مفتوحتان كأنّهما كلمة واحدة، وإنّما هي «لا» زيدت فيها التاء كقولهم: ربّ وربّت، وثمّ وثمّت. قال أبو زيد الطائي: طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء «1» [وقال] آخر: تذكّرت حبّ ليلى لات حينا ... وأمسى الشيب فقطع القرينا «2» وقال قوم: إن التاء زيدت في حين كقول أبي وجزة السعديّ: العاطفون حين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم «3» وتقول العرب: تلان بمعنى الآن، ومنه حديث ابن عمر سأله رجل عن عثمان رضي الله عنه فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك يريد الآن «4» . وقال الشاعر: تولى قبل يوم بين حمانا ... وصلينا كما زعمت تلانا «5» فمن قال: إن التاء مع «لا» قالوا: قف عليه لأن بالتاء [ ... ] «6» . وروى قتيبة عن الكسائي أنّه كان يقف: ولاه، بالهاء، ومثله روي عن أهل مكة، ومن قال: إن التاء مع حين. قالوا: قف عليه ولا، ثم يبتدئ تحين مناص. وهو اختيار أبي عبيد قال: لأني تعمّدت النظر إليه في الأمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه عنه فوجدت التاء متصلة مع حين قد ثبتت: «تحين» «7» .
وقال الفراء: النوص بالنون التأخر، والبوص بالباء التقدم. وجمعهما امرؤ القيس في بيت فقال: أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوة وتبوص «1» فمناص مفعل من ناص مثل مقام. قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض: مناص، أي اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله سبحانه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً. وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش، وهم الصناديد والأشراف، وكانوا خمسة وعشرين رجلا، الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنّا، وأبو جميل ابن هشام، وأبي وأميّة ابنا خلف، وعمر بن وهب بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبد الله بن أميّة والعاص بن وائل، والحرث بن قيس، وعدي بن قيس، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وقرط بن عمرو، وعامر بن خالد، ومحرمة بن نوفل، وزمعة بن الأسود، ومطعم بن عدي، والأخنس بن سريق، وحويطب ابن عبد العزى، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والوليد بن عتبة، وهشام بن عمر بن ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال لهم الوليد بن المغيرة: امشوا إلى أبي طالب. فأتوا أبا طالب فقالوا له: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنّا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: يا ابن أخ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وماذا يسألوني؟» فقال: يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك. فقال النبي (عليه السلام) : «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟» فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» «2» [107] . فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي عجيب. قال مقاتل: بلغة أزد شنوه. قال أهل اللغة: العجيب والعجاب واحد كقولك كريم وكرام وكبير وو كبار وطويل وطوال وعريض وعراض وسكين حديد وحداد. أنشد الفراء: كحلقة من أبي رماح ... تسمعها لاهة الكبار وقال آخر: نحن أجدنا دونها الضرابا ... إنّا وجدنا ماءها طيابا «1» يريد طيبا. وقال عباس بن مرداس: تعدوا به سلمية سراعه. أي سريعة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر: عجّاب بالتشديد. وهو المفرط في العجب. فأنشد الفراء: آثرت إدلاجي على ليل جرّة ... هضيم الحشا حسانة المتجرد «2» وأنشد أبو حاتم: جاءوا بصيد عجّب من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب «3» وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا يعني إلى أبي طالب فأشكوا إليه ابن أخيه وَاصْبِرُوا واثبتوا عَلى آلِهَتِكُمْ نظيرها في الفرقان لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها «4» . إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي لأمر يراد بنا ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقول محمّد فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ. قال ابن عبّاس والقرظي والكلبي ومقاتل: يعنون النصرانية، لأن النصارى تجعل مع الله إلها.
[سورة ص (38) : الآيات 8 إلى 21]
وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملة قريش، ملة زماننا هذا «1» . إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ القرآن مِنْ بَيْنِنا قال الله عزّ وجلّ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أيّ وحيي. [سورة ص (38) : الآيات 8 الى 21] أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) بَلْ لَمَّا أي لم يَذُوقُوا عَذابِ ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ نعمة رَبِّكَ يعني مفاتيح النبوة، نظيرها في الزخرف أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «2» أي نبوة ربك الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في الجبال إلى السماوات، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ويشاؤن، وهذا أمر توبيخ وتعجيز. وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها. جُنْدٌ أي هم جند ما هُنالِكَ أي هنالك و (ما) صلة مَهْزُومٌ مغلوب، ممنوع عن الصعود إلى السماء مِنَ الْأَحْزابِ أي من جملة الأجناد. وقال أكثر المفسرين: يعني أن هؤلاء الملأ الذين يقولون هذا القول، جند مهزوم مقهور وأنت عليهم مظفر منصور. قال قتادة: وعده الله عزّ وجلّ بمكة أنّه سيهزمهم، فجاء تأويلها يوم بدر من الأحزاب، أيّ كالقرون الماضية الذين قهروا وأهلكوا، ثم قال معزّا لنبيه صلّى الله عليه وسلم كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ قال ابن عبّاس: ذو البناء المحكم.
وقال القتيبي: والعرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد. يريدون أنّه دائم شديد، وأصل هذا أن البيت من بيوتهم بأوتاده. قال الأسود بن يعفر: في ظل ملك ثابت الأوتاد. وقال الضحاك: ذو القوة والبطش. وقال الحلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحمد مدّه مستلقيا بين أربعة أوتاد كل رجل منه إلى سارية وكل يد منه إلى سارية، فيتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتّى يموت. وقال مقاتل بن حيان: كان يمد الرجل مستلقيا على الأرض ثم يشده بالأوتاد. وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيّات. وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسال وملاعب يلعب عليها بين يديه. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ إِنْ كُلٌّ ما كل منهم إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ فوجب عليهم ونزل بهم عذابي وَما يَنْظُرُ ينتظر هؤُلاءِ يعني كفار مكة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي نفخة القيامة. وقد روي هذا التفسير مرفوعا إلى النبي (عليه السلام) . ما لَها مِنْ فَواقٍ. قال ابن عبّاس وقتادة: من رجوع. الوالبي: يزداد. مجاهد: نظرة. الضحاك: مستوية. وفيه لغتان: (فُواقٍ) بضم الفاء وهي لغة تميم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف. و (فَواقٍ) بالفتح وهي لغة قريش، وقراءة سائر القرّاء واختيار أبي عبيد. قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال حمام المكوك وحمامه، وقصاص الشعر وقصاصه. وفرّق الآخرون بينهما. قال أبو عبيدة والمؤرخ: بالفتح بمعنى الراحة والإفاقة كالجواب من الإجابة، ذهبا به إلى إفاقة المريض من علته، و (الفواق) بالضم ما بين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم تترك ساعة حتّى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق. فاستعير في موضع الانتظار مدة يسيرة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من رابط فواق ناقة في سبيل الله حرّم الله جسده على النار» «1» [108] .
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ. قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: يعني كتابنا. وعنه أيضا: القط الصحيفة التي أحصت كل شيء. قال أبو العالية والكلبي: لمّا نزلت في الحاقة فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ «1» ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ «2» . قالوا على جهة الاستهزاء: (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) يعنون كتابنا عجّله لنا في الدّنيا. قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ. وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: يعني عقوبتنا وما كتب لنا من العذاب. قال عطاء: قاله النضر بن الحرث، وهو قوله: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» وهو الذي قال الله سبحانه سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «4» قال عطاء: لقد نزلت فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عزّ وجلّ. وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنّة التي تقول. قال الفراء: القطّ في كلام العرب الحظ، ومنه قيل للصك قطّ «5» . وقال أبو عبيدة والكسائي: القطّ الكتاب بالجوائة. قال الأعشى: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بغبطته يعطي القطوط ويأفق «6» يعني كتب الجوائز أيّ بفضل وبعلو، يقال فرس أفق وناقة أفقه إذا كانا كريمين، وفضّلا على غيرهما. وقال مجاهد: قِطَّنا حسابنا، ويقال لكتاب الحساب: قطّ، وأصل الكلمة من الكتابة. فقال الله سبحانه لنبيه (عليه السلام) : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ ذا القوة في العبادة إِنَّهُ أَوَّابٌ مطيع.
عن ابن عبّاس: رجّاع إلى التوبة. عن الضحاك، سعيد بن جبير: هو المسبّح بلغة الحبش «1» . أخبرني الحسين بن محمّد الدينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا أبو العبّاس عبد الله بن جعفر بن أحمد بن [فارس] ببغداد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن القاسم قال: حدثنا عمرو بن حصين قال: حدثنا الحسين بن عمرو عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الزرقة يمن وكان داود النبي (عليه السلام) أزرق» «2» [109] . إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بتسبيحه. قال ابن عبّاس: وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر. بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الحسين بن يحيويه قال: حدثنا أبو أميّة محمّد بن إبراهيم قال: حدثنا الحجاج بن نصير قال: حدثنا أبو بكر الهذلي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: كنت أمرّ بهذه الآية لا أدري ما العشي والإشراق، حتّى حدثتني أم هاني بنت أبي طالب أن رسول الله (عليه السلام) دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الضحى وقال: «يا أم هاني هذه صلاة الإشراق» [110] «3» . روى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال: لم يزل في نفسي [من] صلاة الضحى شيء حتّى طلبتها في القرآن فوجدتها في هذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ. قال عكرمة: وكان ابن عبّاس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلّى بعدها. وروي أن كعب الأحبار قال لابن عبّاس رضي الله عنهما: إني لأجد في كتاب الله صلاة بعد طلوع الشمس. فقال ابن عبّاس: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله في قصة داود يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وليس الإشراق طلوع الشمس، إنّما هو صفاؤها وضوؤها. وَالطَّيْرَ أيّ وسخّرنا له الطير مَحْشُورَةً مجموعة كُلٌّ لَهُ أيّ لداود أَوَّابٌ مطيع وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أيّ قوّيناه.
وقرأ الحسن: وشدّدنا بتشديد الدال. قال ابن عبّاس: كان أشد ملوك الأرض سلطانا كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل، فذلك قوله وَشَدَدْنا مُلْكَهُ بالحرس. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا محمّد بن الفضل قال: حدثنا داود بن أبي الفرات عن عليّ بن أحمد عن عكرمة عن ابن عبّاس: أن رجلا من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم، فاجتمعا عند داود النبي فقال المستعدي: ان هذا غصبني بقرتي. فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم يكن له بيّنة. فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما. فقاما من عنده، فأوحى الله سبحانه إلى داود (عليه السلام) في منامه: أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه. فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتّى أتثبت. فأوحى الله سبحانه إليه مرة أخرى أن يقتله. فلم يفعل، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه الثالثة: أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال له: إن الله قد أوحى إليّ أن أقتلك. فقال له الرجل: تقتلني بغير بيّنة ولا ثبت! فقال له داود: نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك. فلمّا عرف الرجل أنّه قاتله قال: لا تعجل حتّى أخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فلذلك أخذت. فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل عند ذلك لداود، واشتد به ملكه فهو قوله سبحانه: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ. وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ يعني النبوة والإصابة في الأمور. وقال أبو العالية: العلم الذي لا تردّه العقول. وَفَصْلَ الْخِطابِ قال ابن عبّاس: بيان الكلام. وقال الحسن والكلبي وابن مسعود ومقاتل وأبو عبد الرحمن السلمي: يعني علم الحكم والبصر بالقضاء، كأن لا يتتعتع في القضاء بين الناس، وهي إحدى الروايات عن ابن عبّاس. وقال علي بن أبي طالب: هو البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر.
وأخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن محمّد بن عمر الجوري قال: أخبرنا أبو بكر بالويه بن محمّد بن بالويه المربتاني بها، قال: حدثنا محمّد بن حفص الحوني قال: حدثنا نصر بن علي الخميصمي قال: أخبرنا أبو أحمد قال: أخبرنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن كعب في قوله وَفَصْلَ الْخِطابِ قال: الشهود والإيمان. أنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن يحيى قال: حدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا [شعبة] عن الحكم عن شريح في قوله وَفَصْلَ الْخِطابِ قال: الشهود والإيمان. وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدثنا أحمد بن محمّد أبي شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا يعني ابن أبي زائدة عن [السبيعي] قال: سمعت زيادا يقول: فَصْلَ الْخِطابِ الذي أعطي داود، أما بعد وهو أوّل من قالها. وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ الآية. اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب امتحان الله سبحانه نبيّه داود بما امتحنه به من الخطيئة. فقال قوم: كان سبب ذلك أنه تمنى يوما من الأيام على ربّه عزّ وجلّ منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) وسأله أن يمتحنه نحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم. وروى السدي والكلبي ومقاتل: عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما يخلوا فيه لعبادة ربّه، ويوما يخلوا فيه لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي. فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أنهم ابتلوا ببلاء ما لم تبتل بشيء من ذلك فصبروا عليها. ابتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه، وابتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره، وابتلى يعقوب بالحزن على يوسف. وأنك لم تبتل بشيء من ذلك. فقال داود: ربّ فابتلني بمثل ما ابتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم. فأوحى الله سبحانه إليه: أنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا واحترس. فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده الله تعالى، دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فوقعت بين رجليه، فمدّ يده ليأخذها ويدفعها إلى ابن صغير له، فلما أهوى إليها
طارت غير بعيد، من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتّى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فنظر داود أين تقع، فبعث إليها من يصيدها، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبي. وقال السدي: رآها تغتسل على سطح لها، فرأى امرأة من أجمل النساء خلقا، فتعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة وأبصرت ظله، فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجابا بها فسأل عنها. فقيل: هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود. فكتب داود إلى ابن أخته أيوب صاحب بعث البلقاء: أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتّى يفتح الله سبحانه على يديه أو يستشهد، فبعثه وقدّمه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. فبعثه ففتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضا: أن ابعثه إلى عدو كذا أشدّ منه بأسا. فبعثه فقتل في المرة الثالثة، فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوّجها داود فهي أم سليمان «1» . وقال آخرون: سبب امتحانه أن نفسه حدثته أنّه يطيق قطع يوم بغير مقارفة. وهو ما أخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد عن مطر عن الحسن قال: إن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوما لنسائه، ويوما للعبادة، ويوما للقضاء بين بني إسرائيل، ويوما لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكيهم ويبكونه. قال: فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنبا؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطبق ذلك، فلما كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لا يدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة التوراة، فبينما هو يقرأ إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتّى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها، فلمّا رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك بها إعجابا، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن أسر إلى مكان كذا وكذا مكانا، إذا سار إليه قتل ولم يرجع ففعل فأصيب، فخطبها داود فتزوجها «2» .
وقال بعضهم: في سبب ذلك ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد قال: حدثنا مخلد ابن جعفر الباقرجي قال: حدثنا الحسين بن علوية قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن قال: قال داود لبني إسرائيل حين ملك: والله لأعدلن بينكم، فلم يستثن فابتلي به «1» . وقال أبو بكر محمّد بن عمر الوراق: كان سبب ذلك أن داود (عليه السلام) كان كثير العبادة فأعجب بعلمه فقال: هل في الأرض أحد يعمل عملي؟ فأتاه جبرئيل فقال: ان الله عزّ وجلّ يقول: أعجبت بعبادتك والعجب يأكل العبادة، فإن أعجبت ثانيا وكلتك إلى نفسك. قال: يا رب كلني إلى نفسي سنة. قال إنها لكثيرة. قال: فساعة. قال: شأنك بها. فوكل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحراب ووضع الزبور بين يديه، فبينا هو في نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه وكان من أمر المرأة ما كان. قالوا: فلمّا دخل داود بامرأة أوريا لم تلبث إلّا يسيرا حتّى بعث الله سبحانه ملكين في صورة إنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلّا وهو بهما بين يديه جالسين «2» ، فذلك قوله: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا وإنّما جعلوا جمع الفعل، لأن الخصم اسم يصلح للواحد والجميع والإثنين والمذكر والمؤنث. قال لبيد: وخصم يعدون الدخول كأنهم ... قروم غيارى كل أزهر مصعب «3» وقال آخر: وخصم عضاب ينفضون لحاهم ... كنفض البراذين العراب المخاليا «4»
[سورة ص (38) : الآيات 22 إلى 28]
وإنّما جمع وهما اثنان، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فالاثنان فما فوقهما جماعة، كقوله عزّ وجلّ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» . [سورة ص (38) : الآيات 22 الى 28] إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ قال الفراء: قد كرر إذ مرتين، ويكون معناهما كالواحد، كقولك: ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت، فالدخول هو الاجتراء، ويجوز أن يجعل إحداهما على مذهب لما. فَفَزِعَ مِنْهُمْ حين همّا عليه محرابه بغير إذنه. قالُوا لا تَخَفْ يا داود خَصْمانِ أي نحن خصمان بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ ولا تجز، عن ابن عبّاس والضحاك. وقال السدي: لا تسرف. المؤرخ: لا تفرط. وقرأ أبو رجاء العطاردي: وَلا تَشْطُطْ بفتح التاء وضم الطاء الأولى، والشطط والأشطاط مجاوزة الحد، وأصل الكلمة من حدهم شطت الدار، وأشطت إذا بعدت. وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أيّ وسط الطريق، فإن قيل: كيف قال: إِنَّ هذا أَخِي فأوجب الأخوة بين الملائكة ولا مناسبة بينهم، لأنهم لا ينسلون. في الجواب: أن معنى الآية: نحن لخصمين كما يقال وجهه: القمر حسنا، أيّ كالقمر. قال أحد الخصمين إِنَّ هذا أَخِي على التمثيل لا على التحقيق، على معنى كونهما على طريقة واحدة وجنس واحد، كقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وقد قيل: إن المتسورين كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، وإن أحدهما كان ملكا والآخر لم يكن ملكا، فنبها داود على ما فعل.
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ وهذا من أحسن التعريض، حتّى كنّى بالنعاج عن النساء. والعرب تفعل ذلك كثيرا توري عن النساء بالظباء والشاة والبقر وهو كثير وأبين في أشعارهم. قال الحسن بن الفضل: هذا تعريض التنبيه والتفهيم، لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي، وإنما هو كقول الناس ضرب زيد عمرا، وظلم عمرو زيدا، واشترى بكر دارا وما كان هناك ضرب ولا ظلم ولا شراء. فَقالَ أَكْفِلْنِيها. قال ابن عبّاس: أعطنيها. ابن جبير عنه: تحوّل لي عنها. مجاهد: أنزل لي عنها. أبو العالية: ضمها إليّ حتّى أكفلها. ابن كيسان: اجعلها كفلي، أي نصيبي. وَعَزَّنِي وغلبني فِي الْخِطابِ. قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني. وقرأ عبيد بن عمير: وعازني في الخطاب بالألف من المعاز وهي المغالبة. فقال داود: قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ فإن قيل: كيف جاز لداود أن يحكم وهو لم يسمع كلام الخصم الآخر؟ قيل: معنى الآية أن أحدهما لمّا ادّعى على الآخر عرّف له صاحبه، فعند اعترافه فصل القضية بقوله: (لَقَدْ ظَلَمَكَ) فحذف الاعتراف، لأن ظاهر الآية دال عليه، كقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال. وقال الشاعر: تقول ابنتي لما رأتني شاحبا ... كأنك سعيد يحميك الطعام طبيب «1» تتابع أحداث تخر من إخوتي ... فشيّبن رأسي والخطوب تشيب «2» وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فليسوا كذلك وَقَلِيلٌ ما هُمْ ودليل ما ذكرنا من التأويل.
ما قاله السدي، بإسناده: إن أحدهما لما قال: إِنَّ هذا أَخِي الآية فقال داود للآخر: ما تقول؟ فقال إن لي تسعا وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، وأنا أريد ان آخذها منه فأكمل نعاجي مائة. قال: وهو كاره. قال: إذا لا ندعك وذلك، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله الجبهة. فقال: يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلّا امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتّى قتل وتزوجت امرأته. قال: فنظر داود فلم ير أحدا، فعرف ما قد وقع فيه «1» ، فذلك قوله سبحانه: وَظَنَّ وأيقن داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ابتليناه. قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنة داود النظر. قلت: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة، ولكنه أعاد النظر إليها فصارت عليه. فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود. وقد روى عن الحرث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من حدّث بحديث داود على ما روته القصاص معتقدا صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب من الوزر والإثم، برمي من قد رفع الله سبحانه وتعالى محله، وأبانه رحمة للعالمين وحجة للمهتدين. فقال القائلون بتنزيه المرسلين في هذه القصة: إن ذنب داود لما كان أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالا له وحدث نفسه بذنب، واتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجع له، كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته، فعاتبه الله سبحانه على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله سبحانه وتعالى. وقال بعضهم: كان ذنب داود أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا غما شديدا، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم تزل هذه الواحدة لخاطبها الأول، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة. وممّا يصدق ما ذكرنا [ما] قيل عن المفسرين المتقدمين، ما أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الفقيه: أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أحمد بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرني ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر
عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك سمعه يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن داود النبيّ حين نظر إلى المرأة وأهم، قطع على بني إسرائيل، وأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضر العدو فقرّب فلانا بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت وكان التابوت لم يرجع حتّى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة ونزل المكان يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا حتّى نبت الزرع من دموعه وأكلت الأرضة من جبينه، وهو يقول في سجوده: ربّ زلّ داود زلة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلوف من بعده. فجاءه جبرئيل (عليه السلام) من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إن الله غفر لك الهمّ الذي هممت به. فقال داود: عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: ربّ دمي الذي عند داود؟ فقال جبرئيل: ما سألت ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن. قال: نعم. فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ما شاء الله ثم نزل، فقال: قد سألت الله تعالى يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب [لي] دمك الذي عند داود. فيقول: هو لك يا رب. فيقول: فإن لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضا» «1» [111] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشير قال: أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: وأخبرنا سعيد بن بشير وعصمة بن حداس القطعي، عن قتادة عن الحسن وابن سمعان، عمن يخبره عن كعب الأحبار قال: وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعا: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه. وعلم داود إنه عني به، فخر ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلّا لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة، ثم يعود ساجدا ثم لا يرفع رأسه إلّا لحاجة لا بدّ منها، ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوما، لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتّى نبت [الزرع] حول رأسه وهو ينادي ربّه عزّ وجلّ ويسأله التوبة، وكان يقول في سجوده: سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء، سبحان خالق النور، سبحان الحائل
بين القلوب، سبحان خالق النور، إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس، فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته وداود يبكي على خطيئته، سبحان خالق النور، إلهي لم اتعظ بما وعظت به غيري، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني، وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي يغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه والخطيئة لازمة بي لا تذهب عني، سبحان خالق النور، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال: هذا داود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عينين أنظر بهما إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، إلهي بأي قدم أقوم بها أمامك يوم تزول أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور، إلهي ويل للخاطئين يوم القيامة من سوء الحساب، سبحان خالق النور، إلهي مضت النجوم وكنت أعرفها بأسمائها، فتركتني والخطيئة لازمة بي، سبحان خالق النور، إلهي من أين تطلب المغفرة إلّا من عند سيده، سبحان خالق النور، إلهي مطرت السماء ولم تمطر حولي، سبحان خالق النور، إلهي أعشبت الأرض ولم تعشب حولي بخطيئتي، سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك، سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم، سبحان خالق النور، إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت شاهدهم حيث كانوا، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي، سبحان خالق النور، إلهي الطير تسبّح لك بأصوات ضعاف تخافك وأنا العبد الخاطئ الذي لم ارع وصيتك، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب، سبحان خالق النور، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعوا المستغيث إلّا المغيث، سبحان خالق النور، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري، سبحان خالق النور. اللهمّ إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي، سبحان خالق النور، اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني، سبحان خالق النور، اللهمّ إني أعوذ بك من دعوة لا تستجاب وصلاة لا تتقبّل وذنب لا يغفر وعذر لا يقبل، سبحان خالق النور، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني، سبحان خالق النور، فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي، فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطيئتي الزم بي من جلدي، سبحان خالق النور. قال: فأتاه نداء: يا داود أجائع أنت فتطعم، أظمآن أنت فتسقى، أمظلوم أنت فتنصر؟ ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء، فصاح صيحة هاج ما حوله ثم نادى: يا رب الذنب الذنب الذي أصبته.
ونودي: يا داود ارفع رأسك فقد غفرت لك. فلم يرفع رأسه حتّى جاء جبرئيل (عليه السلام) فرفعه. قال وهب: إن داود (عليه السلام) أتاه نداء: أني قد غفرت لك. قال: يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا. قال: اذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه. قال: فانطلق حتّى أتى قبره وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبره ثم نادى: يا أوريا. فقال: لبيك من هذا الذي قطع عليّ لذتي وايقظني؟ قال: أنا داود. قال: ما جاء بك يا نبي الله؟ قال: أسألك أن تجعلني في حل ممّا كان مني إليك! قال: وما كان منك إليّ؟ قال: عرضتك للقتل. قال: عرضتني للجنّة وأنت في حلّ. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود ألم تعلم أنّي حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير، ألا أعلمته أنك قد تزوجت امرأته. قال: فرجع إليه فناداه فأجابه. فقال: من هذا الذي قطع عليّ لذتي؟ قال: أنا داود. قال: يا نبي الله أليس قد عفوت عنك؟ قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها. قال: فسكت فلم يجبه، ودعاه فلم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النّار، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النّار، سبحان خالق النور. قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك.
قال: يا رب كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني. قال: يا داود أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له: رضى عبدي؟ فيقول: يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي. فأقول له: هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي. قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي «1» . فذلك قوله سبحانه: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ يعني ذلك الذنب وَإِنَّ لَهُ بعد المغفرة عِنْدَنا يوم القيامة لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ يعني حسن مرجع. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا مخلد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا أبو الياس ومقاتل وأبو عبد الرحمن الجندي عن وهب بن منبه قال: إن داود لما تاب الله عزّ وجلّ عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا ترقأ له دمعة ليلا ونهارا، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: فكان يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي وفي الجبال والساحل، ويوم يخلوا في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم سياحته، يخرج في الفيافي فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي وتبكي معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتّى تسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحجارة والجبال والدواب والطير حتّى تسيل أودية من بكائهم، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر والسباع وطير الماء، فإذا أمسى رجع. فإذا كان يوم نوحه على نفسه، نادى مناديه: أن اليوم يوم نوح داود على نفسه، فليحضر من يساعده. قال: فيدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط له ثلاث فرش من مسوح، حشوها ليف فيجلس عليها وتجيء الرهبان أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب، ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكي حتى يغرق الفراش من دموعه، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح بها وجهه ويقول: يا رب اغفر ما ترى، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدّنيا لعدله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ماجة قال: حدثنا الحسن بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدثنا سيار عن جعفر قال: سمعت ثابتا يقول: ما شرب داود شرابا بعد المغفرة إلّا وهو ممزوج بدموع عينيه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عثمان بن أبي العاتكة: أنه كان من دعاء داود: سبحانك إلهي إذا ذكرت خطيئتي، ضاقت عليّ الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إليّ روحي، إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا إليّ خطيئتي، فكلهم عليك يدلني «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا محمّد ابن موسى الحلواني قال: حدثنا مهنى بن يحيى الرملي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «خدّ الدموع في وجه داود (عليه السلام) خديد الماء في الأرض» «2» [112] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ظفران بن الحسن بن جعفر بن هاشم قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن موسى بن سليمان قال: حدثنا أبو حفص عمر بن محمّد النسائي قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله عن ابن بشر بن محمّد بن أبان قال: حدثنا الحسن بن عبد الله القرشي قال: لما أصاب داود (عليه السلام) الخطيئة فزع إلى العباد، فأتى راهبا في قلة جبل فناداه بصوت عال فلم يجبه، فلما أكثر عليه الصوت قال الراهب: من هذا الذي يناديني؟ قال: أنا داود نبي الله. قال: صاحب القصور الحصينة والخيل المسوّمة والنساء والشهوات، لئن نلت الجنّة بهذا لأنت أنت. فقال داود: فمن أنت؟ قال: أنا راهب راغب مترقب. قال: فمن أنيسك وجليسك؟ قال: اصعد تره إن كنت تريد ذلك. قال: فتخلل داود الجبل حتّى صار إلى القلة فإذا هو بميت مسجى.
فقال له: هذا جليسك وهذا أنيسك؟ قال: نعم. قال: من هذا؟ قال: تلك قصته مكتوب في لوح من نحاس عند رأسه. قال: فقرأ الكتاب فإذا فيه: أنا فلان ابن فلان ملك الأملاك، عشت ألف عام وبنيت ألف مدينة وهزمت ألف عسكر وألف امرأة أحصنت وافتضضت ألف عذراء، فبينا أنا في ملكي أتاني ملك الموت وأخرجني ممّا أنا فيه، فهذا التراب فراشي والدود جيراني. قال: فخرّ داود مغشيا عليه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن علي الهمداني قال: حدثنا عثمان بن نصر البغدادي قال: حدثنا محمّد بن عبد الرحمن بن غزوان قال: حدثنا الأشجعي عن الثوري عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كان الناس يعودون داود يظنون أن به مرضا، وما به مرض وما به إلّا الحياء والخوف من الله سبحانه» «1» [113] . وقال وهب: لما تاب الله تعالى على داود كان يبدأ إذا دعا [يستغفر] للخاطئين قبل نفسه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: كان داود ساجدا من بعد الخطيئة لا يجالس إلّا الخاطئين ثم يقول: تعالوا إلى داود الخاطئ. ولا يشرب شرابا إلّا مزجه بدموع عينيه، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعته، فلا يزال يبكي حتّى يبتل بدموع عينيه، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين. قال: وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم النصف من الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان، صام الدهر كله وقام الليل كله. وأخبرنا عن إسحاق قال: حدثنا مقاتل وأبو الياس قالا: حدثنا وهب بن منبه: أن داود لما تاب الله عليه قال: يا رب غفرت لي؟ قال: نعم.
قال: فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخطائين إلى يوم القيامة. قال: فوسم الله عزّ وجلّ خطيئته في يده اليمنى، فما رفع فيها طعاما ولا شرابا إلّا بكى إذا رآها، وما كان خطيبا في الناس إلّا بسط راحته فاستقبل الناس، ليروا وسم خطيئته. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي قال: ما رفع داود رأسه بعد الخطيئة إلى السماء حتّى مات. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا محمّد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا أبو أسامة عن محمّد بن سليمان قال: حدثنا ثابت قال: كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله لا يسدها إلّا الأسر وإذا ذكر رحمته تراجعت. قال: وروى المسعودي عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة، ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم (عليه السلام) أكثر حيث أخرجه الله تعالى من الجنّة وأهبط إلى الأرض. ويروى أن داود كان إذا قرأ الزبور بعد الخطيئة لا يقف له الماء ولا تصغي إليه البهائم والوحوش والطيور كما كان قبلها، ونقصت نعمته فقال: إلهي ما هذا؟ فأوحى الله سبحانه: يا داود إن الخطيئة هي التي غيّرت صوتك وحالك. فقال: إلهي أو ليس قد غفرتها لي؟ فقال: نعم قد غفرتها لك، ولكن ارتفعت الحالة التي كانت بيني وبينك من الودّ والقربة، فلن تدركها أبدا فذلك قوله: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ. قال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قوله سبحانه: وَخَرَّ راكِعاً هل يقال للراكع خرّ؟ قلت: لا. قال: فما معنى الآية؟ قلت: معناها فخرّ بعد أن كان راكعا، أي سجد. أخبرني الحسن بن محمّد بن الحسين قال: حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار قال: حدثنا محمّد بن عبد العزي قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي سعيد الخدري قال: رأيتني أكتب سورة ص
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، فلما أتيت على هذه الآية وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، رأيت فيما يرى النائم كأنّ القلم خرّ ساجدا، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «تقول كما قال وتسجد كما سجد» [114] فتلاها فسجدوا وأمرنا أن نسجد فيها. وأخبرني الحسين بن محمّد قال: حدثنا صمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو حفص بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا عمر بن علي الصيرفي قال: حدثنا اليمان بن نصر الكعبي قال: حدثنا عبد الله أبو سعد المدني قال: حدثني محمّد بن المنكدر عن محمّد بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني أبو سعيد الخدري قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رأيت الليلة في منامي كأني تحت شجرة، والشجرة تقرأ ص، فلما بلغت السجدة سجدت، فسمعتها تقول في سجودها: اللهم أكتب لي بها أجرا، وحط عني بها وزرا، وارزقني بها شكرا، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أفسجدت أنت يا أبا سعيد؟» . قلت: لا يا رسول الله. قال: «أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتّى بلغ السجدة فسجد ثم قال مثل ما قالت الشجرة «1» . وأخبرني الحسين بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن علي بن الحسن قال: حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا محمّد بن يزيد بن خنيس قال: حدثنا الحسن بن محمّد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريح: حدثنا حسن قال: حدثني جدّك عبيد الله بن أبي يزيد قال: حدثني ابن عبّاس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة، فرأيت كأني قرأت السجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت، فسمعتها وهي ساجدة تقول: اللهم اكتب لي عندك بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود. قال ابن عبّاس: فرأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم قرأ السجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل من كلام الشجرة، قال الله سبحانه وتعالى فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ.
[سورة ص (38) : الآيات 29 إلى 44]
روى أبو معشر عن محمّد بن كعب ومحمّد بن قيس أنهما قالا في قوله عزّ وجلّ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ. روى أبو معشر عن محمّد بن كعب قال: إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود. يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ تركوا الأيمان بيوم الحساب وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ليتدبروا آياتِهِ. [سورة ص (38) : الآيات 29 الى 44] كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) هذه قراءة العامة. وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى والترجمني: (ليدبّروا) بياء واحدة مفتوحة مخففة على الحذف. قال الحسن: تدبر آياته، إتباعه. وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ. قال الكلبي: غزا سليمان (عليه السلام) أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس. وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقال عوف عن الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة. قالوا: فصلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيّه وهي تعرض عليه، فعرضت عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غابت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك بفتنته له، واغتم لذلك فقال: رُدُّوها عَلَيَّ.
فردوها عليه فعرقبت وعقرت بالسيف ونحرها لله سبحانه، وبقي منها مائة فرس، فما في أيدي الناس اليوم من الخيل فهو من نسل تلك المائة. قال الحسن: فلما عقر الخيل، أبدله الله سبحانه مكانها خيرا منها وأسرع [من] الريح التي تَجْرِي بِأَمْرِهِ كيف يشاء، وكان يغدوا من إيليا فيقيل بقرير الأرض باصطخر «1» ويروح من قرير [بكابل] «2» . وقال ابن عبّاس: سألت علي بن أبي طالب عن هذه الآية فقال: ما بلغك في هذا يا ابن عبّاس؟ فقلت له: سمعت كعب الأحبار يقول: إن سليمان اشتغل ذات يوم بعرض الأفراس والنظر إليها حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ. فقال لما فاتته الصلاة: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ رُدُّوها عَلَيَّ يعني الأفراس وكانت أربعة وعشرون، وبقول: أربعة عشر، فردوها عليه فأمر بضرب سوقها وأعناقها بالسيف فقتلها، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما، لأنه ظلم الخيل بقتلها. فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كذب كعب الأحبار، لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس ذات يوم، لأنه أراد جهاد عدو حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ، فقال بأمر الله للملائكة الموطنين بالشمس: رُدُّوها عَلَيَّ. يعني الشمس، فردوها عليه حتّى صلّى العصر في وقتها. فإن أنبياء الله لا يظلمون ولا يأمرون بالظلم ولا يرضون بالظلم، لأنهم معصومون مطهّرون، فذلك قوله سبحانه: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ وهي الخيل القائمة على ثلاث قوائم، وقد أقامت الأخرى على طرف الحافر من يد أو رجل. قال عمر بن كلثوم: تركنا الخيل عاكفة عليه مقلدة أعنتها صفونا. وقال القتيبي: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل وغيرها. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار» «3» [115] أي وقوفا الْجِيادُ الخيار السراع واحدها جواد فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ يعني الخيل، والعرب تعاقب بين الراء واللام فيقول: انهملت العين وانهمرت، وختلت الرجل وخترته أي خدعته.
وقال مقاتل: حُبَّ الْخَيْرِ يعني المال وهي الخيل التي عرضت عليه عَنْ ذِكْرِ رَبِّي يعني الصلاة، نظيرها لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ «1» ، حَتَّى تَوارَتْ يعني الشمس، كناية عن غير مذكور. كقول لبيد: حتّى إذا ألقت يدا في كافر «2» يعني الشمس بِالْحِجابِ وهو جبل دون قاف بمسيرة سنة، تغرب الشمس من ورائها. رُدُّوها كرّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي فأقبل يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، وينحرها تقربا بها إلى الله سبحانه وطلبا لرضاه، حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك قربانا منه ومباحا له، كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام. وقال قوم: معناه حبسها في سبيل الله، وكوى سوقها وأعناقها بكيّ الصدقة. ويقال للكيّة على الساق: علاظ، وللكيّة على العنق: دهاو. وقال الزهري وابن كيسان: كان يمسح سوقها وأعناقها، ويكشف الغبار عنها حبا لها. وهي رواية ابن أبي طلحة عن ابن عبّاس. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ هذه قصة محنة نبي الله سليمان وسبب زوال ملكه مدة، واختلفوا في سبب ذلك. فروى محمّد بن إسحاق عن بعض العلماء قال: قال وهب بن منبه: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر يقال لها صيدون، بها ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان الله قد أتى سليمان في ملكه سلطانا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه [إذا ركب على] الريح، فخرج إلى تلك المدينة تحمله الريح على ظهر الماء حتى نزل بها بجنوده من الجنّ والإنس، فقتل ملكها واستقام فيها وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك يقال لها: جرادة، لم ير مثلها حسنا وجمالا، واصطفاها لنفسه ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على جفاء منها وقلة ثقة، وأحبها حبا لم يحبه شيئا من نسائه، وكانت على منزلتها عنده، لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إن أبي أذكره وأذكره ملكه وما كان فيه وما أصابه فيحزنني ذلك.
فقال سليمان: فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانا أعظم من سلطانه، وهداك للإسلام وهو خير من ذلك كله. قالت: إن ذلك لكذلك، ولكنني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين فصوّروا صورته في داري التي أنا فيها أراها بكرة وعشيا، لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلّى عني بعض ما أجد في نفسي. فأمر سليمان الشياطين فقال: مثّلوا لها صورة أبيها في دارها حتّى لا تنكر منه شيئا. فمثّلوا لها حتّى نظرت إلى أبيها بعينه، إلّا أنّه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته، وردّته بمثل ثيابه التي كان يلبس، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدوا عليه في ولائدها حتّى تسجد له ويسجدن معها كما كانت تصنع به في ملكه، وتروح كل عشية بمثل ذلك، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحا وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صدّيقا وكان لا يرد عن باب سليمان أيّ ساعة أراد دخول شيء من بيوته، حاضرا كان [سليمان] أو غائبا، فأتاه فقال: يا نبي الله كبرت سني، ودق عظمي، ونفد عمري، وقد حان مني الذهاب، وقد أحببت أن أقوم مقاما قبل الموت، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمورهم. فقال: افعل. فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبا، فذكر من مضى من أنبياء الله، فأثنى على كل نبي بما فيه وذكر ما فضّله الله به، حتّى انتهى إلى سليمان فقال: ما كان أحلمك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك، ثم انصرف. فوجد سليمان في نفسه من ذلك حتّى ملأه غضبا، فلما دخل سليمان داره أرسل إليه فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله، وأثنيت عليهم خيرا في كل زمانهم وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني عليّ بخير في صغري، وسكت عمّا سوى ذلك من أمري في كبري فما الذي أحدثت في آخر عمري؟ قال: إن غير الله ليعبد في دارك منذ أربعين صباحا في هوى امرأة. فقال: في داري؟ فقال: في دارك. قال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، لقد علمت أنك ما قلت الذي قلت إلّا عن شيء بلغك. ثم رجع سليمان إلى داره فكسّر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب
الطهرة فأتى بها- وهي ثياب لا يغزلها إلّا الأبكار ولم تمسها امرأة رأت الدم- فلبسها ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، وأمر برماد ففرش له، ثم أقبل تائبا إلى الله عزّ وجلّ حتّى جلس على ذلك الرماد وتمعك فيه بثيابه تذللا لله سبحانه وتضرعا إليه، يبكي ويدعو ويستغفر ممّا كان في داره ويقول فيما يقول: رب ماذا ببلائك عند آل داود أن يعبدوا غيرك وأن يقرّوا في دورهم وأهاليهم عبادة غيرك. فلم يزل كذلك يومه ذلك حتى أمسى، ثم يرجع إلى داره، وكانت أم ولد له يقال لها: الأمينة، كان إذا دخل مذهبه أو أراد إصابة امرأة من نسائه وضع خاتمه عندها حتّى يتطهر، وكان لا يلبس خاتمة إلّا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يوما من تلك الأيام عندها كما كان يضعه ثم دخل مذهبه، فأتاها الشيطان صاحب البحر وكان اسمه: صخر، على صورة سليمان لا ينكر منه شيئا. فقال: يا أمينة خاتمي. فناولته إياه فجعله في يده ثم خرج حتّى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والانس، وخرج سليمان فأتى الأمينة، وقد غيرت حاله وهيبته عند كل من رأى فقال: يا أمينة خاتمي. فقالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود. فقالت: كذبت لست بسليمان وقد جاء سليمان وأخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه. فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته، فخرج فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل فيقول: أنا سليمان بن داود. فيحثون عليه التراب ويسبونه ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول يزعم أنه سليمان بن داود. فلما رأى سليمان ذلك عمد إلى البحر فكان ينقل الحيتان لأصحاب البحر إلى السوق، فيعطونه كل يوم سمكتين فإذا امسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى فأكلها، فمكث بذلك أربعين صباحا، عدة ما كان عبد ذلك الوثن في داره، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين اليوم. فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيت؟ قالوا: نعم. قال: أمهلوني حتّى أدخل على نسائه فأسألهن: هل أنكرن منه في خاصة أمره، ما أنكرناه في عامة أمر الناس وعلانيته؟
فدخل على نسائه فقال: ويحكن هل أنكرتن من أمر ابن داود ما أنكرناه؟ فقلن: أشدّه ما يدع امرأة منّا في دمها، ولا يغتسل من جنابة. فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ... إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ. ثم خرج إلى بني إسرائيل فقال: ما في الخاصة أعظم ممّا في العامة. فلما قضى أربعون صباحا طار الشيطان عن مجلسه، ثم مرّ بالبحر فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة وأخذها بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه ذلك حتّى إذا كان العشي أعطاه سمكته وأعطى السمكة التي أخذت الخاتم، وخرج سليمان بسمكتيه فباع التي ليس في بطنها الخاتم بالأرغفة، ثم عمد إلى السمكة الأخرى فبقرها ليشويها، فاستقبله خاتمه في جوفها فأخذه فجعله في يده، ووقع ساجدا وعكفت عليه الطير والجنّ وأقبل عليه الناس، وعرف الذي كان دخل عليه لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه وأظهر التوبة من ذنبه وأمر الشياطين فقال: ائتوني بصخر. فطلبته له الشياطين حتّى أخذ له فأتى به فجاءت له صخرة، فأدخله فيها ثم شد عليه أخرى ثم أوثقها بالرصاص والحديد، ثم أمر به فقذف في البحر. فهذا حديث وهب بن منبه «1» . قال السديّ في سبب ذلك: كان لسليمان (عليه السلام) مائة امرأة، وكانت امرأة منهنّ يقال لها: جرادة، وهي أبرّ نسائه وآمنهن عنده، فكان إذا أحدث أو أتى حاجة، نزع خاتمه ولم يأتمن عليه أحدا من الناس غيرها، فجاءته يوما من الأيام فقالت له: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، وأنا أحب أن تقضي له إذا جاءك. فقال: نعم. ولم يفعل، فابتلي بقوله وأعطاها خاتمه ودخل المخرج فخرج الشيطان في صورته، فقال لها: هات الخاتم. فأعطته، فجاء حتّى جلس على مجلس سليمان، وخرج سليمان بعده فسألها أن تعطيه خاتمه. فقالت: ألم تأخذه قبل؟ قال: لا. وخرج من مكانه تائها، ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما. قال: فأنكر الناس حكمه، فاجتمع قرّاء بني إسرائيل وعلمائهم، فجاؤا حتّى دخلوا على نسائه، فقالوا: إنّا قد أنكرنا هذا، فإن كان سليمان فقد ذهب عقله، وأنكرنا أحكامه، فبكى النساء عند ذلك قال: فأقبلوا يمشون حتّى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا التوراة فقرءوها، فلما قرءوا
التوراة طار من بين أيديهم حتّى وقع على شرفة والخاتم معه، ثم طار حتّى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعته حوت. قال: فأقبل سليمان في حاله التي كان فيها، حتّى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه، فاستطعمه من صيدهم، وقال: إني أنا سليمان. فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه. قال: فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر، فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه، وقالوا: بئس ما صنعت حين ضربته. فقال: إنه زعم أنه سليمان. فأعطوه سمكتين ممّا قد مذر عندهم، فلم يشغله ما كان به من الضرب، حتّى قام إلى شط البحر فشق بطونهما وجعل يغسلهما، فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه، فردّ الله عليه ملكه وبهاءه، وجاءت الطير حتّى حامت عليه، فعرف القوم أنه سليمان، فقاموا يعتذرون مما صنعوا. فقال: ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم هذا أمر كان لا بدّ منه. ثم جاء حتّى أتي ملكه وأمر حتّى أتى بالشيطان الذي أخذ خاتمه، وجعله في صندوق من حديد ثم أطبق عليه، وأقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمره فألقي في البحر، وهو كذلك حيّ حتّى الساعة «1» . وفي بعض الروايات: أن سليمان لما افتتن، سقط الخاتم من يده وكان فيه ملكه، فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط من يده، فلما رآه سليمان لا يثبت في يده أيقن بالفتنة، وأن آصف قال لسليمان: إنك مفتون بذنبك والخاتم لا يتماسك في يدك أربعة عشر يوما. ففرّ إلى الله تائبا من ذنبك، وأنا أقوم مقامك وأسير في عالمك وأهل بيوتك بسيرتك، إلى أن يتوب الله عليك ويردك إلى ملكك. ففرّ سليمان هاربا إلى ربّه، وأخذ أصف الخاتم فوضعه في يده فثبت، وأن الجسد الذي قال الله تعالى: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً كان هو أصف كاتبا لسليمان، وكان عنده علم من الكتاب، فأقام أصف في ملك سليمان وعالمه يسير بسيرته ويعمل بعمله أربعة عشر يوما، إلى أن رجع سليمان إلى منزله تائبا إلى الله سبحانه وردّ الله عليه ملكه، فقام أصف من مجلسه وجلس سليمان على كرسيه، وأعاد الخاتم في يده فثبت فيها. وأخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: أخبرنا أحمد بن الأزهر قال:
حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب: أن سليمان بن داود احتجب عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي، ولم تنصف مظلوما من ظالم. وذكر حديث الخاتم وأخذ الشيطان إياه كما رويناه «1» . وقال في آخره: قال علي: فذكرت ذلك للحسن فقال: ما كان الله عزّ وجلّ يسلطه على نسائه «2» . وقال بعض المفسرين: كان سبب فتنة سليمان أنه أمر أن لا يتزوج امرأة [إلّا] من بني إسرائيل، فتزوج امرأة من غيرهم فعوقب على ذلك. وقيل: ان سليمان لما أصاب ابنة ملك صيدون أعجب بها، فعرض عليها الإسلام فأبت وامتنعت فخوّفها سليمان. فقالت: إن أكرهتني على الإسلام قتلت نفسي. فخاف سليمان أن تقتل نفسها، فتزوج بها وهي مشركة، وكانت تعبد صنما لها من ياقوت أربعين يوما في خفية من سليمان إلى أن أسلمت، فعوقب سليمان بزوال ملكه أربعين يوما» . وقال الشعبي في سبب ذلك: ولد لسليمان ابن، فاجتمعت الشياطين وقال بعضهم لبعض: إن عاش له ولد لم ننفك مما نحن فيه من البلاء والسحرة، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نحيله. فعلم سليمان بذلك فأمر السحاب حتّى حملته الريح وغدا ابنه في السحاب خوفا من معرة الشيطان، فعاقبه الله لخوفه من الشيطان، ومات الولد فألقى ميتا على كرسيّه، فهو الجسد الذي قال الله سبحانه: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ. وقيل: هو ان سليمان قال يوما: لأطوفن الليلة على نسائي كلهن، حتّى يولد لي من كل واحدة منهن ابن فيجاهد في سبيل الله. ولم يستثن، فجامعهن كلهن في ليلة واحدة، فما خرج له منهن إلّا شق مولود، فجاءت به القابلة والقته على كرسي سليمان. فذلك قوله عزّ وجلّ: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً وهو ما أخبرنا عبد الله بن حامد عن آخرين قالوا: حدثنا ابن الشرقي، قال: حدثنا محمّد بن عقيل وأحمد بن حفص قالا: حدثنا حفص قال: حدثني إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة، قال: اخبرني أبو الزناد عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قال سليمان بن داود لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلّا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون» [116] «1» فذلك قوله عزّ وجلّ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ. قال مقاتل: فتن سليمان بعد ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة. وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أيّ شيطانا، عن أكثر المفسرين. واختلفوا في اسمه، فقال مقاتل وقتادة: اسمه صخر بن عمر بن عمرو بن شرحبيل وهو الذي دل سليمان على الألماس حين أمر ببناء بين المقدس وقيل له: لا يسمعن فيه صوت حديد، فأخذوا الألماس فجعلوا يقطعون به الحجارة والجواهر ولا تصوت، وكان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء والحمام لم يدخل بخاتمه، فدخل الحمام وذكر القصة في أخذ الشيطان الخاتم. قال: وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب في القوة فقال: أما والله لأجربنّه، فقال: يا نبي الله- وهو لا يرى أنه نبي الله- أرأيت أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتّى تطلع الشمس، أترى عليه بأسا؟ قال: لا. فرخص له في ذلك، وذكر الحديث. وروى أبو إسحاق عن عمارة بن عبد عن علي رضي الله عنه قال: بينما سليمان جالس على شاطئ البحر وهو يلعب بخاتمه، إذ سقط في البحر وكان ملكه في خاتمه. وروى حماد بن سلمة عن عمر بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كان نقش خاتم سليمان بن داود لا إله إلّا الله محمّد رسول الله» [117] «2» . رجع إلى حديث علي قال: فانطلق سليمان وخلّف شيطانا في أهله وأتى عجوزا فآوى إليها فقالت له العجوز: أن شئت ان تنطلق فاطلب فأكفيك عمل البيت وإن شئت أن تكفيني البيت وانطلق والتمس. قال: فانطلق يلتمس، فأتى قوم يصيدون السمك فجلس إليهم فنبذوا إليه سمكات، فانطلق بهن حتّى أتى العجوزة، فأخذت تصلحه فشقت بطن سمكة، فإذا فيها الخاتم فأخذته وقالت لسليمان: ما هذا؟ فأخذه سليمان فلبسه، فأقبلت الشياطين والجنّ والإنس والطير والوحوش، وهرب الشيطان
الذي خلّف في أهله، فأتى جزيرة في البحر فبعث إليه الشياطين فقالوا: لا نقدر عليه، ولكنه يرد علينا في الجزيرة في كل سبعة أيام يوما، لا نقدر عليه حتّى يسكر. قال: فنزح ماءها وجعل فيها خمرا. قال: فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال: والله إنك لشراب طيب إلّا أنك تصبين «1» الحليم وتزيدين الجاهل جهلا. ثم رجع حتّى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلّا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا. قال: ثم شربها حتّى غلبته على عقله، ثم أروه الخاتم فقال: سمع وطاعة «2» . قال: فأتى به سليمان فأوثقه ثم بعث به إلى جبل، فذكروا أنه جبل الدخان الذي يرون من نفسه، والماء الذي يخرج من الجبل هو بوله. وقال السدي: اسم ذلك الشيطان اسمذي وقيل خبفيق. وقال مجاهد: اسمه آصف. أخبرنا أبو صالح بن أبي الحسن البيهقي الفقيه قال: أخبرنا أبو حاتم التميمي قال: حدثنا أبو الأزهر العبدي قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً قال: شيطانا يقال له: آصف. قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيّه ومنعه الله سبحانه نساء سليمان فلم يقربهن، وأنكر الناس أمر سليمان، وكان سليمان يستطعم فيقول: أتعرفونني؟ أنا سليمان فيكذبونه حتّى أعطته امرأة يوما حوتا فبطّ بطنه، فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفرّ آصف فدخل البحر. وقيل: إن الجسد هو آصف ابن برخيا الصدّيق، وقد مضت القصة. وقيل: هو الولد الميت الذي غدا في السحاب. وقيل: هو الولد الناقص الخلق. وقيل: معنى قوله: وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أن سليمان ضرب بعلّة أشرف منها على الموت، حتّى صار جسدا في المثل بلا روح، وقد وصف المريض المضني بهذه الصفة، فيقال كالجسد الملقى ولم يبق منه إلّا جسده وتقدير الآية وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً.
وأما صفة كرسي سليمان
وأما صفة كرسي سليمان فروي ان سليمان لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي ليجلس عليه للقضاء، وأمر بأن يعمل بديعا مهولا، بحيث إن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع وتهيّب. قال: فعمل له كرسي من أنياب الفيل، وفصصوه بالياقوت واللؤلؤ والزبرجد وأنواع الجواهر، وحففوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، على رأس نخلتين منها طاوسان من ذهب وعلى رأس الآخرين نسران من ذهب بعضها مقابل لبعض، وقد جعلوا من جنبتي الكرسي أسدين من الذهب، على رأس كل واحد منهما عمود من الزمرد الأخضر، وقد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر، واتخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث أظل عريش الكروم النخل والكرسي. قال: وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى، فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحى المسرعة، وتنشر تلك النسور والطواويس أجنحتها ويبسط الأسدان أيديهما فيضربان الأرض بأذنابهما، وكذلك يفعل في كل درجة يصعدها سليمان، فإذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان، ثم يستدير الكرسي بما فيه ويدور معه النسران والطاوسان والأسدان مائلات برءوسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك والعنبر ثم تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة، فيفتحها سليمان ويقرأها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء، ويجلس عظماء بني إسرائيل على كراسي الذهب المفصصة وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجيء عظماء الجنّ ويجلسون على كراسي من الفضة عن يساره وهي ألف كرسي حافين جميعا، به ثم تحف بهم الطير تظلهم، ويتقدم إليه الناس للقضاء، فإذا دعى بالبينات وتقدمت الشهود لإقامة الشهادات، دار الكرسي بما فيه من جميع ما حوله دوران الرحى المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما ويضربان الأرض بأذنابهما وينشر النسران والطاوسان أجنحتهما، فيفزع منه الشهود ويدخلهم من ذلك رعب شديد، فلا يشهدون إلّا بالحق «1» . قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذنبي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ. وقال ابن كيسان: أي لا يكون لأحد. مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي. قال عطاء بن أبي رباح: يريد هب لي ملكا لا أسلبه في باقي عمري كما سلبته في ماضي عمري.
وقال مقاتل بن حيان: كان سليمان ملكا ولكنه أراد بقوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي تسخير الرياح والطير، يدل عليه ما بعده. وقيل: إنما سأل ذلك ليكون آية لنبوته ودلالا على رسالته ومعجزا لمن سواه. وقيل: إنما سأل ذلك ليكون علما له على المغفرة وقبول التوبة، حيث أجاب الله سبحانه وتعالى دعاءه ورد إليه ملكه وزاد فيه. وقال عمر بن عثمان الصدفي: أراد به ملك النفس وقهر الهوى. يؤيده ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: أخبرنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد الأفريقي قال: حدثنا سلمان بن عامر الشيباني قال: بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أرأيتم سليمان وما أعطاه الله من ملكه؟ فإنه لم يرفع طرفه إلى السماء تخشعا لله عز وجل حتّى قبضه الله عزّ وجلّ» [118] «1» . وأخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أبو الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا هشام عن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قد عرض لي الشيطان في مصلاي الليلة كأنه هرّكم هذا، فأخذته فأردت أن أحبسه حتّى أصبح، فذكرت دعوة أخي سليمان رب هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فتركته» [119] «2» . ومنه عن روح عن شعبة عن محمّد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتا من الجن جعل يتقلب عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي وأن الله عزّ وجلّ أمكنني منه [فرعته] «3» فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتّى يصبح فتنظرون إليه كلكم، فتذكرت قول سليمان: ربّ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فردّه الله عزّ وجلّ خاسئا» [120] «4» . فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً ليّنة رطبة حَيْثُ أَصابَ حيث أراد وشاء، بلغة حمير. تقول العرب: أصاب الصواب وأخطأ الجواب، أي أراد الصواب. قال الشاعر:
أصاب الكلام فلم يستطع ... فأخطأ الجواب لدى المفصل «1» وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ يستخرجون له اللئالئ من البحر، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ يعني مشدودين في القيود واحدها صفد هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ فأعط، من قوله سبحانه: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ «2» . وتقول العرب: منّ عليّ برغيف، أي أعطانيه. قال الحسن: إن الله عزّ وجلّ لم يعط أحدا عطية إلّا جعل فيها حسابا، إلّا سليمان فإن الله سبحانه أعطاه عطاء هنيئا فقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ. أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ قال: إن أعطى أجر وان لم يعط لم يكن عليه تبعة. قال مقاتل: هو في أمر الشياطين، خذ من شئت منهم في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى قربة وَحُسْنَ مَآبٍ مصير. وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ. قال مقاتل: كنيته أبو عبد الله. إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ بتعب ومشقة وبلاء وضر. قال مقاتل: بِنُصْبٍ في الجسد وَعَذابٍ في المال. وفيه أربع لغات: (نُصُب) بضمتين وهي قراءة أبي جعفر، و (نَصَب) بفتح النون والصاد وهي قراءة يعقوب و (نَصْب) بفتح النون وجزم الصاد وهي رواية هبيرة عن حفص عن عاصم، و (نصب) بضم النون وجزم الصاد وهي قراءة الباقين. واختلفوا في سبب ابتلاء أيوب: فقال وهب: استعان رجل أيوب على ظلم يدرأه عنه، فلم يعنه فابتلي. وروى حيان عن الكلبي: أن أيوب كان يغزوا ملكا من الملوك كافرا، وكانت مواشي أيوب في ناحية ذلك الملك، فداهنه ولم يغزه فابتلي. وقال غيرهما: كان أيوب كثير المال فأعجب بماله فابتلى. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ الأرض، أي ادفع وحرك هذا مُغْتَسَلٌ.
[سورة ص (38) : الآيات 45 إلى 60]
ثم نبعث له عين أخرى باردة فقال: هذا بارِدٌ وَشَرابٌ وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً أي حزمة من الحشيش فَاضْرِبْ بِهِ امرأتك وَلا تَحْنَثْ في يمينك إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 60] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) وَاذْكُرْ عِبادَنا. قرأه العامة: بالألف. وقرأ ابن كثير: (عبدنا) على الواحد، وهي قراءة ابن عبّاس. أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن يوسف الفقيه قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن يحيى ابن بلال قال: حدثنا يحيى بن الربيع المكي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمر بن عطاء عن ابن عبّاس أنه كان يقرأ: واذكر عبدنا إبراهيم ويقول: إنما [ذكر] إبراهيم ثم ولده بعده وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي ذوي القوة في العبادة وَالْأَبْصارِ التبصر في العلم والدين إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. قرأ أهل المدينة مضافا وهي رواية هشام عن الشام. وقرأ الآخرون: بالتنوين على البدل وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ هذا الذي ذكرت ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ لذات مستويات على ملاذ امرأة واحدة بنات ثلاث وثلاثين سنة، واحدها ترب هذا ما تُوعَدُونَ بالتاء. ابن كثير وأبو عمر والباقون: بالياء. لِيَوْمِ الْحِسابِ أي في يوم الحساب. قال الأعشى:
المهينين ما لهم لزمان السوء ... حتّى إذا أفاق أفاقوا «1» أي في زمان السوء إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ هلاك وفناء هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ الكافرين لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها فَبِئْسَ الْمِهادُ هذا أيّ هذا العذاب فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. قال الفراء: رفعت الحميم والغساق ب (هذا) مقدما ومؤخرا، والمعنى هذا حميم وغساق فليذوقوه، وإن شئت جعلته مستأنفا وجعلت الكلام فيه مكتفيا كاملا قلت: هذا فليذوقوه ثم قلت منه حميم وغساق. كقول الشاعر: حتّى إذا ما أضاء الصبح في غلس ... وغودر البقل ملوي ومحصود «2» واختلف القراء في قوله: (وَغَسَّاقٌ) ، فشددها يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف وحفص وهي قراءة أصحاب عبد الله، وخففها الآخرون. قال الفراء: من شدد جعله اسما على فعّال نحو الخبّاز والطبّاخ. ومن خفف [جعله] اسما على فعال نحو العذاب. واختلف المفسرون فيه: فقال ابن عبّاس: هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار. وقال مجاهد ومقاتل: هو [الثلج] البارد الذي قد انتهى برده، أي يريد هو المبين بلغة الطحارية وقد بلغه النزل. محمّد بن كعب: هو عصارة أهل النار. قتادة والأخفش: هو ما يغسق من قروح الكفرة والزناة بين لحومهم وجلودهم، أيّ تسيل. قال الشاعر: إذا ما تذكرت الحياة وطيبها ... وإلي جرى دمع من العين غاسق «3» وَآخَرُ قرأ أهل البصرة ومجاهد: (وأخر) بضم الألف على جمع أخرى، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه نعته بالجمع فقال: أرواح مثل الكبرى والكبر. وقرأ غيرهم: على الواحد وَآخَرُ.
[سورة ص (38) : الآيات 61 إلى 70]
مِنْ شَكْلِهِ مثله أَزْواجٌ أصناف من العذاب والكناية في شكله راجعة إلى العذاب في قوله هذا. وأما قوله هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قال ابن عبّاس: هو أن القتادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للقادة هذا يعني الاتباع فَوْجٌ جماعة مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ النار، أيّ داخلوها كما دخلتم. فقالت السادة: لا مَرْحَباً بِهِمْ يعني بالأتباع إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كما صليناها، فقال الاتباع للسادة: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أيّ شرعتم وسننتم الكفر لنا فَبِئْسَ الْقَرارُ أي قرارنا وقراركم، والمرحب والرحب السعة، ومنه رحبة المسجد. قال أبو عبيدة: يقول العرب للرجل: لا مرحبا بك، أي لا رحبت عليك الأرض، أيّ اتسعت. وقال القتيبي: معنى قولهم: مرحبا وأهلا وسهلا، أي أتيت رحبا وسعة، وأتيت سهلا لا حزنا، وأتيت أهلا لا غرباء، فأنس ولا تستوحش، وهي في مذهب الدعاء كما تقول: لقيت خيرا، فلذلك نصب «1» . قال النابغة: لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد «2» [سورة ص (38) : الآيات 61 الى 70] قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا أي شرّعه وسنّه فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ على عذابنا. وقال ابن مسعود: يعني حيات وأفاعي. وَقالُوا يعني صناديد قريش وهم في النار ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ في دار الدّنيا، يعني فقراء المؤمنين أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا.
قرأ أهل العراق إلّا عاصما وأيوب: بوصل الألف، واختاره أبو عبيد قال: من جهتين: إحداهما: أنّ الاستفهام متقدم في قوله: (ما لَنا لا نَرى رِجالًا) . والأخرى: أنّ المشركين لم يكونوا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدّنيا سخريا، فكيف يستفهمون عمّا قد عملوه. ويكون على هذه القراءة بمعنى بل. وقرأ الباقون: بفتح الألف وقطعها على الاستفهام وجعلوا (أم) جوابا لها مجازا: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا في الدّنيا وليسوا كذلك، فلم يدخلوا معنا النار. أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ فلا نراهم وهم في النار، ولكن احتجبوا عن أبصارنا. وقال الفراء: هو من الاستفهام الذي معناه التعجب والتوبيخ، فهو يجوز باستفهام ويطرحه. وقال ابن كيسان: يعني أم كانوا خيرا منّا ولا نعلم نحن بذلك، فكانت أبصارنا تزيغ منهم في الدّنيا فلا نعدهم شيئا. أخبرنا أبو بكر الحمشادي قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله ابن مسلم قال: حدثنا عصمة بن سليمان الجرار عن يزيد عن ليث عن مجاهد وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. قال: صهيب وسلمان وعمّار لا نراهم في النار أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا في الدّنيا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ في النار إِنَّ ذلِكَ الذي ذكرت لَحَقٌّ ثم بيّن فقال: تَخاصُمُ أي هو تخاصم أَهْلِ النَّارِ ومجاز الآية: أن تخاصم أهل النار في النار لحق قُلْ يا محمّد لمشركي مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ مخّوف وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ يعني القرآن. عن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة، وروى معمر عنه يوم القيامة، نظيرها عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ «1» . أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدم وهو قولهم حين قال الله سبحانه لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «2» الآية هذا قول أكثر المفسرين. وروى ابن عبّاس عن النبي (عليه السلام) قال: «قال ربّي: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يعني الملائكة؟
[سورة ص (38) : الآيات 71 إلى 88]
فقلت: لا. قال: اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات: فإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة: وأما الدرجات: فإفشاء السلام، واطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» [121] «1» . إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. قال الفراء: ان شئت جعلت (أَنَّما) في موضع رفع، كأنك قلت: ما يوحى إليّ إلّا الإنذار، وإن شئت جعلت المعنى ما يوحى إليّ إلّا لأني نذير مبين. وقرأ أبو جعفر (إنما) بكسر الألف، لأن الوحي قول. [سورة ص (38) : الآيات 71 الى 88] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وفي تحقيق الله سبحانه وتعالى التنشئة في اليد، دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة، إنما هما وصفان من صفات ذاته. قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد، والصلة مجاز لما خلقت، كقوله سبحانه: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ «2» أي ربك، وهذا تأويل غير قوي، لأنه لو كان بمعنى الصلة فكان لإبليس أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني. وكذلك في القدرة والنعمة، لا تكون لآدم في الخلق مزية على إبليس وقد مضت هذه المسألة عند قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا «3» .
قال: العرب تسمي الاثنين جميعا لقوله سبحانه هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «1» ، وقوله وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» قال: هما رجلان وقال: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «3» . أَسْتَكْبَرْتَ ألف الاستفهام تدخل على ألف الخبر أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ المتكبرين على السجود كقوله سبحانه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «4» . قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنّة. وقيل: من السماوات. وقال الحسن وأبو العالية: أيّ من الخلقة التي أنت فيها. قال الحسين بن الفضل: وهذا تأويل صحيح، لأن إبليس تجبّر وافتخر بالخلقة، فغيّر الله تعالى خلقه فاسودّ بعد ما كان أبيضا وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد أن كان نورانيا. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود معذّب وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو النفخة الأولى قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. قرأ مجاهد والأعمش وعاصم وحمزة وخلف: برفع الأول ونصب الثانية على معنى فأنا الحقّ أو فمنّي الحق، وأقول الحق. وقال الباقون: بنصبهما. واختلف النحاة في وجهيهما، قيل: نصب الأول على الإغراء والثاني بإيقاع القول عليه. وقيل: هو الأول قسم، والثاني مفعول مجاز قال: فبالحق وهو الله عزّ وجلّ أقسم بنفسه وَالْحَقَّ أَقُولُ. وقيل: إنه أتبع قسما بعد قسم. وقال الفراء وأبو عبيد: معناهما حققا لم يدخل الألف واللام، كما يقال: الحمد لله وأحمد الله، هما بمعنى واحد. وقرأ طلحة بن مصرف: فالحق والحقِّ بالكسر فهما على القسم. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدش يقول: هو مردود إلى ما قبله
ومجازه: فبعزتك وبالحق والحق قال الله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أيّ من نفسك وذريتك وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أيّ على تبليغ الوحي، كناية عن غير مذكور مِنْ أَجْرٍ قال الحسين بن الفضل: هذه الآية ناسخة لقوله قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» . وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتقولين القرآن من تلقاء نفسي. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق البستي قال: حدثنا أحمد بن عمير بن يوسف قال: حدثنا محمّد بن عوف قال: حدثنا محمّد بن المصفى قال: حدثنا حنوة بن سريج بن يزيد قال: حدثنا أرطاة بن المنذر عن ضمرة بن حبيب عن سلمة بن مقبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول فيما لا يعلم» [122] «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني السنّي قال: حدثني عبد الله بن محمّد بن جعفر قال: حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم قال: حدثنا سيف بن عمر الضبي عن وائل بن داود عن يزيد البهي عن الزبير بن العوام قال: نادى منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم أغفر للذين يدعون أموات امتي ولا يتكلفون إلّا أني بريء من التكلف وصالحوا أمتي» [123] «3» . وأخبرني الحسين قال: حدثنا ابن شيبة قال: حدثنا عبد الله بن محمّد بن وهب قال: حدثنا إبراهيم بن عمرو بن بكر السكسكي ببيت المقدس قال: حدثنا أبي قال: حدثنا إبراهيم بن [........] «4» علية الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من أتاه الله عزّ وجلّ علما فليتق الله وليعلّمه الناس ولا يكتمه، فإنه من كتم علما يعلمه كان كمن كتم ما أنزل الله تعالى على نبيّه وأمره أن يعلمه الناس، ومن لم يعلم فليسكت وإياه أن يقول ما لا يعلم فيهلك ويصير من المتكلفين ويمرق من الدين، وأن الله عزّ وجلّ قال: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ من أفتى بغير السنّة فعليه الإثم. وأخبرني الحسن قال: حدثنا السنيّ قال: أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا محمّد بن خبير
العبدي قال: أخبرنا سفيان الثوري عن الأعمش عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم شيئا فليقل الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم وأن الله عزّ وجلّ قال لنبيّه: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ ما هو يعني القرآن إِلَّا ذِكْرٌ عظة لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ. قال قتادة: يعني بعد الموت. وابن عبّاس: يعني يوم القيامة.
سورة الزمر
سورة الزمر مكية، إلا قوله سبحانه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية. وهي أربعة آلاف وتسعمائة وثمانية أحرف، وألف ومائة واثنتان وسبعون كلمة، وخمس وسبعون آية أخبرنا ابن المقرئ قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدثنا ابن شريك قال: حدثنا ابن يونس قال: حدثنا أبو سليمان قال: حدثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه، وأعطاه ثواب الخائفين» [124] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن حمدان قال: حدثنا ابن ماهان قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا حماد بن يزيد عن مروان أبي لبابة مولى عبد الرحمن بن زياد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة ببني إسرائيل والزمر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 إلى 8]
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) تَنْزِيلُ الْكِتابِ. قال الفراء: معناه هذا تنزيل الكتاب، وإن شئت رفعته لمن، مجازه: من الله تنزيل الكتاب، وإن شئت جعلته ابتداء وخبره ممّا بعده. مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أيّ الطاعة الدِّينُ الْخالِصُ قال قتادة: شهادة ان لا إله إلّا الله. قال أهل المعاني: لا يستحق الدين الخالص إلّا الله. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني الأصنام ما نَعْبُدُهُمْ مجازه قالوا ما نعدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى. قال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خلقكم وخلق السماوات والأرض ونزل من السماء ماء؟ قالوا: الله. فيقال لهم: فما يعني عبادتكم الأوثان؟ قالوا: لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وتشفع لنا عند الله. قال الكلبي: وجوابه في الأحقاف فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً «1» الآية. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يوم القيامة فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي لدينه وحجته مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما زعموا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ. قال قتادة: يعني يغشي هذا هذا ويغشي هذا هذا، نظيره قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» . وقال المؤرخ: يدخل هذا على هذا وهذا على هذا، نظيره قوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ «3» .
قال مجاهد: يدور. وقال الحسن وابن حيان والكلبي: ينقص من الليل فيزيد في النهار وينقص من النهار فيزيد في الليل، فما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل، ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمسة عشر ساعة، وأصل التكوير اللف والجمع، ومنه كور العمامة. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ وأنشأ وجعل لَكُمْ وقال بعض أهل المعاني: جعلنا لكم نزلا ورزقا. مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أصناف وأفراد، تفسيرها في سورة الأنعام يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ نطفة ثم علقة ثم مضغة، كما قال: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً «1» . وقال ابن زيد: معناه يخلقكم في بطون أمهاتكم من بعد الخلق الأول الذي خلقكم في ظهر آدم. فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ يعني البطن والرحم والمشيمة ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن عبادته إلى عبادة غيره إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ. فإن قيل: كيف؟ قال: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وقد كفروا. قلنا: معناه لا يرضى لعباده أن يكفروا به، وهذا كما يقول: لست أحب الإساءة وإن أحببت أن يسيء فلان فلانا فيعاقب. وقال ابن عبّاس والسدي: معناه وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ المخلصين المؤمنين الْكُفْرَ، وهم الذين قال: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فيكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى كقوله: عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «2» وإنما يريد به بعض العباد دون البعض. وَإِنْ تَشْكُرُوا تؤمنوا ربّكم وتطيعوه يَرْضَهُ لَكُمْ ويثيبكم عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ مخلصا راجعا إليه مستغيثا به ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ أعطاه، ومنه قيل
[سورة الزمر (39) : الآيات 9 إلى 19]
للمال والعطاء: خول، والعبيد خول. قال أبو النجم: اعطي فلم يبخل ولم يبخل ... كوم الذرى من خول المخول «1» نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ترك ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ في حال النصر وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً يعني الأوثان. وقال السدي: يعني أندادا من الرجال، يطيعونهم في معاصي الله. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [سورة الزمر (39) : الآيات 9 الى 19] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ. قرأ نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة: (أمن) بتخفيف الميم. وقرأ الآخرون بتشديده، فمن شدّده فله وجهان، أحدهما: تكون الميم في أم صلة ويكون معنى الكلام الاستفهام، وجوابه محذوف مجازه: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ كمن هو غير قانت، كقوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ كمن لم يشرح الله صدره، أو تقول: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ كمن جعل لله أندادا. والوجه الثاني: أن يكون بمعنى العطف على الاستفهام مجازه: فهذا خير أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ، فحذف لدلالة الكلام عليه ونحوها كثير. ومن خفف فله وجهان. أحدهما: أن يكون الألف في (أمن) بمعنى حرف النداء، تقديره: يا من هو قانت، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بياء فتقول: يا زيد أقبل، وأزيد أقبل.
قال أوس بن حجر: أبني لبينى لستم بيد ... ألا يد ليست لها عضد «1» يعني يا بني ليتني. وقال آخر: أضمر بن ضمرة ماذا ذكرت ... من صرمة أخذت بالمغار «2» فيكون معنى الآية: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ، ويا من هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ إنك من أهل الجنّة، كما تقول: فلان لا يصلي ولا يصوم، فيا من تصلي وتصوم أبشر، فحذف لدلالة الكلام عليه. والوجه الثاني: أن يكون الألف في (أمن) ألف استفهام، ومعنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أندادا، فاكتفى بما سبق إذ كان معنى الكلام مفهوما. كقول الشاعر: فاقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ... ولكن لم نجد لك مدفعا «3» أراد لدفعناه. وقال ابن عمر: القنوت قراءة القرآن وطول القيام. وقال ابن عبّاس: الطاعة. آناءَ اللَّيْلِ ساعاته ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، أخبرنا محمّد بن خالد، أخبرنا داود بن سليمان، أخبرنا عبد بن حميد، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرأ: (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يحذر عذاب الآخرة) . وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ. قال مقاتل: نزلت في عمار بن ياسر وأبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله المخزومي. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ يعني عمار وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني أبا حذيفة إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن العدل حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار حدثنا حازم ابن يحيى الحلواني حدثنا محمّد بن يحيى بن الطفيل حدثنا هشام بن يوسف حدثني محمّد بن إبراهيم اليماني قال: سمعت وهب بن منبه يقول: سمعت ابن عبّاس يقول: من أحب أن يهوّن الله تعالى الموقف عليه يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ.. قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ يعني الجنّة، عن مقاتل. وقال السدي: يعني العافية والصحة. وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فهاجروا فيها واعتزلوا الأوثان، قاله مجاهد. وقال مقاتل: يعني أرض الجنّة. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ. قال قتادة: لا والله ما هنالك مكيال ولا ميزان. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري بقراءتي عليه، حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني حدثنا إبراهيم بن محمّد بن الضحاك حدثنا نصر بن مرزوق حدثنا أسيد بن موسى حدثنا بكر بن حبيش عن ضرار بن عمرو عن زيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم «تنصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصيام فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الحج فيؤتون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا بغير حساب، قال الله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ حتّى يتمنى أهل العافية في الدّنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» «1» . قال حدثنا أبو علي بن جش المقرئ قال: حدثنا أبو سهل [عن إسماعيل بن سيف] عن جعفر بن سليمان الضبعي عن سعد بن الطريف عن الأصبغ بن نباتة قال: دخلت مع علي بن أبي طالب إلي الحسن بن علي رضي الله عنهما نعوده فقال له علي: كيف أصبحت يا ابن رسول الله؟ قال: أصبحت بنعمة «2» الله بارئا.
قال: كذلك إن شاء الله. ثم قال الحسن: أسندوني. فأسنده عليّ إلى صدره ثم قال: سمعت جدي رسول الله يقول: «يا بني أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن أغنى الناس، يا بني إن في الجنّة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا- ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية- إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» «1» . حدثنا الحرث بن أبي اسامة حدثنا داود بن المخبر حدثنا عباد بن كثير عن أبي الزناد عن [.........] «2» [عن أبي ذر عن النبي أنه] قال: «من سرّه أن يلحق بذوي الألباب والعقول فليصبر على الأذى والمكاره فذلك انه [.......] «3» الجزع ومن جزع صيّره جزعه إلى النار، وما نال الفوز في القيامة إلّا الصابرون إن الله تعالى يقول: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ وقال الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ «4» » «5» . قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمة قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي فعبدت غيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهذا حين دعى إلى دين آبائه، قاله أكثر المفسرين. وقال أبو حمزة الثمالي والسبب هذه الآية منسوخة، إنما هذا قبل أن غفر ذنب رسول الله (عليه السلام) «6» . قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ. أمر توبيخ وتهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «7» . وقيل: نسختها آية القتال قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وأزواجهم وخدمهم في الجنّة يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.
قال ابن عبّاس: إن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلا في الجنّة وأهلا، فمن عمل بطاعة الله تعالى كان له ذلك المنزل والأهل، ومن عمل بمعصية الله [أخذه] «1» الله تعالى إلى النار، وكان المنزل ميراثا لمن عمل بطاعة الله إلى ما كان له قبل ذلك وهو قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ «2» . لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ أطباق وسرادق مِنَ النَّارِ ودخانها وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ مهاد وفراش من نار، وإنما سمّي الأسفل ظلا، لأنها ظلل لمن تحتهم، نظيره قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ «3» وقوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «4» وقوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها «5» وقوله: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ «6» وقوله سبحانه وتعالى: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ «7» . ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ الأوثان أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا رجعوا له إِلَى اللَّهِ إلى عبادة الله لَهُمُ الْبُشْرى في الدّنيا بالجنّة وفي العقبى فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أرشده وأهداه إلى الحق. أخبرنا الحسين بن محمّد الدينوري حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق أخبرنا إبراهيم بن محمّد حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرنا يحيى بن أيوب عن خالد بن يزيد عن عبد الله بن زحر عن سعيد بن مسعود قال: قال أبو الدرداء: لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوما واحدا: الظما بالهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسه أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقي طيب التمر. قال قتادة: أحسنه طاعة الله. وقال السدي: أحسنه ما يرجون به فيعملون به. أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ. عن ابن زيد في قوله: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ الآيتين: حدثني أبي: أن هاتين الآيتين
[سورة الزمر (39) : الآيات 20 إلى 28]
نزلتا في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وهم زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي «1» . أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [يريد أبا لهب وولده] «2» أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ أي: هو يكون من أهل النار، كرر الاستفهام كما كرر: أنكم أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ «3» . ومثله كثير. [سورة الزمر (39) : الآيات 20 الى 28] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ [غرف مبنية، قال ابن عباس: من زبرجد وياقوت] «4» . حدثنا عبد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا [.........] «5» حدثني طلحة حدثنا [حماد عن أبي هارون عن مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد] الخدري عن رسول الله (عليه السلام) قال: «إن أهل الجنّة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، فقالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا
المرسلين» «1» . تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب ماءً فَسَلَكَهُ فادخله يَنابِيعَ عيونا فِي الْأَرْضِ قال: [الشعبي والضحاك: كل ماء في الأرض فمن السماء نزل إنما ينزل] «2» من السماء إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ ييبس فَتَراهُ بعد خضرته مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا منكسرا متفتتا إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ فتح الله صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ للإيمان فَهُوَ عَلى نُورٍ على دلالة مِنْ رَبِّهِ قال قتادة: النور كتاب الله منه تأخذ وإليه ننتهي «3» ومجاز الآية أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ أي أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ كمن أقسى قلبه. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شيبة حدثنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن يزيد حدثنا الموصلي ببغداد حدثنا أبو فروة واسمه يزيد بن محمّد حدثني أبي عن أبيه حدثنا زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحرث عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» . قلنا: يا رسول الله كيف انشراح صدره؟ قال: «إذا دخل النور لقلبه انشرح وانفتح» . قلنا: يا رسول الله فما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» [125] » . وقال الثمالي: بلغنا أنها نزلت في عمّار بن ياسر «5» وقال مقاتل: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلم. فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أبو جهل وذويه من الكفّار أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. أخبرنا الحسن بن محمّد بن الحسين الحافظ أخبرنا أبو أحمد القاسم بن محمّد بن أحمد
ابن عبد ربه السراج الصوفي أخبرنا [......] «1» يونس بن يعقوب البزاز حدثنا الحسين بن الفضل بن السمح البصري ببغداد حدثنا جندل حدثنا أبو مالك الواسطي الحسيني حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي عن داود بن أبي هند عن أبي نصرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ: اطلبوا الحوائج من السمحاء فاني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي» [126] «2» . أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن محمّد عن وهب حدثنا يوسف بن الصباح العطار حدثنا إبراهيم بن سليمان بن الحجاج حدثنا عمي محمّد بن الحجاج حدثنا يوسف بن ميسرة بن جبير عن أبي إدريس الحولاني عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحبّ الرفق في الأمر كله ويحبّ كل قلب خاشع حليم رحيم يعلّم الناس الخير ويدعوا إلى طاعة الله ويبغض كل قلب قاس ينام الليل كله فلا يذكر الله تعالى ولا يدري يرد عليه روحه أم لا» [127] «3» . أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا ابن نصرويه حدثنا ابن وهب حدثنا إبراهيم بن بسطام حدثنا سعيد بن عامر حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلبه وما غضب الله تعالى على قوم إلّا نزع منهم الرحمة. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً. قال ابن مسعود: وابن عباس: قال الصحابة: يا رسول الله لو حدثتنا، فنزلت اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا في الحسن ويصدق بعضه بعضا ليس فيه تناقض ولا اختلاف فيه «4» . وقال قتادة: تشبه الآية الآية والكلمة الكلمة والحرف الحرف. مَثانِيَ القرآن. قال المفسرون: يسمى القرآن مثاني لأنه تثنى فيه الأخبار والأحكام والحدود وثنى للتلاوة فلا يمل تَقْشَعِرُّ وتستنفر جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ. يعني إلى العمل بكتاب الله والتصديق به وقيل إلى بمعنى اللام. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا أحمد بن داود حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا خلف بن سلمة عنه حدثنا هشيم عن حصين عن عبد الله بن
عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعلون إذا قرئ عليهم القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. فقلت لها: إن ناسا اليوم إذا قريء عليهم القرآن؟ قالت: كما نعتهم: خر أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وبه عن سلمة حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: أن ابن عمر مرّ برجل من أهل العراق ساقط فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله تعالى سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. وقال ابن عمر: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن الحسين بن [ديزيل] حدثنا أبو نعيم حدثنا عمران أو حمران بن عبد العزيز قال: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرئ عليهم القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره، فإن رمى بنفسه فهو صادق «1» . حدثنا الحسن بن محمّد حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا صلت ابن مسعود الجحدري حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا أبو عمران الجوني قال: وعظ موسى (عليه السلام) قومه فشق رجل منهم قميصه فقيل لموسى قل لصاحب القميص لا يشق قميصه أيشرح لي عن قلبه. أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي حدثنا أحمد بن محمّد بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن سعيد بن عمر حدثنا سعدان بن نصر أبو علي حدثنا [نشابة [عن أبي غسان المدني محمّد بن مطرف عن زيد بن أسلم قال: قرأ أبي بن كعب عند النبي صلّى الله عليه وسلم فرقّوا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة» [128] «2» . أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا محمّد بن عبد الله بن برزة وموسى بن محمّد بن علي بن
عبد الله قالا: حدثنا محمّد بن يحيى بن سليمان المروزي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني أخبرنا الحسين بن محمّد وحدثنا موسى بن محمّد بن عليّ حدثنا محمّد بن عبدوس بن كامل حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا عبد العزيز بن محمّد عن يزيد بن الهاد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن أم كلثوم بنت العبّاس عن العبّاس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتت عن الشجر اليابسة ورقها» [129] «1» . أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا أحمد بن جعفر حدثنا حمدان حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري حدثنا محمّد بن معونة حدثنا الليث بن سعد حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن أم كلثوم بنت العبّاس عن أبيها قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تعالى حرّمه الله تعالى على النار» [130] . ذلِكَ يعني أحسن الحديث هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وفيه ردّ على القدرية أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي شدته يوم القيامة. قال مجاهد: يجر على وجهه في النار. وقال عطاء: يرمى به في النار منكوسا، فأول شيء تمسه النار وجهه. وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة ضخمة مثل الجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرّها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها من وجهه من أجل الأغلال التي في يده وعنقه، ومجاز الآية أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ كمن هو آمن من العذاب وهو كقوله أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ «2» الآية. قال المسيب: نزلت هذه الآية في أبي جهل. وَقِيلَ أي: ويقول الخزنة لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: وباله كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ العذاب والذل الّذي يستحيا منه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على الحال غَيْرَ ذِي عِوَجٍ. قال مجاهد: يعني غير ذي لبس.
[سورة الزمر (39) : الآيات 29 إلى 39]
قال عثمان بن عفان: غير متضاد. ابن عبّاس: غير مختلف. السدي: غير مخلوق. بكر بن عبد الله المزني غير ذي لحن. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ الكفر والتكذيب به. [سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 39] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا. قال الكسائي: نصب رَجُلًا، لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه ضرب الله مثلا لرجل أو في رجل. فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ مختلفون متنازعون متشاحون فيه وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه فيه يقال رجل شكس وشرس وضرس وضبس، إذا كان سيء الخلق مخالفا للناس. وقال المؤرخ: مُتَشاكِسُونَ متماكسون يقال شاكسني فلان أي ماكسني. وَرَجُلًا سَلَماً. قرأ ابن عبّاس ومجاهد والحسن وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب سالما بالألف، واختاره أبو عبيد، قال: إنما اخترنا سالما لصحة التفسير فيه، وذلك أن السالم الخالص وهو ضد المشترك، وأما السلم فهو ضد المحارب، ولا موضع للحرب هاهنا. وقرأ سعيد بن جبير: سِلْماً بكسر السين وسكون اللام.
وقرأ الآخرون: سَلَماً بفتح السين واللام من غير ألف، واختاره أبو حاتم وقال: هو الذي لا تنازع فيه. لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وهذا مثلا ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن لا يعبد إلّا الله الواحد، ثم قال عزّ من قائل الْحَمْدُ لِلَّهِ الشكر الكامل لله سبحانه دون كل معبود سواه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّكَ يا محمّد مَيِّتٌ عن قليل وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. وقرأ ابن محيصن وابن أبي علية: إنك مايت وإنهم مايتون، بالألف فيهما. قال الحسن والكسائي والفراء: (الميّت) ، بالتشديد، من لم يمت سيموت، و (الميت) ، بالتخفيف الذي فارقه الروح، لذلك لم يخفف هاهنا. قال قتادة: نعيت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم. أخبرنا ابن فنجويه حدثنا ابن ماجة حدثنا الحسين بن أيوب حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت قال: نعي رجل إلى صلت بن أشيم أخا له فوافقه يأكل فقال: ادن فكل فقد نعى إليّ أخي منذ حين. قال: [وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر قال: إن الله تعالى نعاه إلىّ فقال] الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «1» . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ المحق والمبطل والظالم والمظلوم. أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا ابن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا ابن نمير حدثنا محمّد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن أنس عن الزبير بن العوام قال: لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ. قال الزبير: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدّنيا مع خواصّ الذنوب؟ قال: «نعم ليكررن عليكم حتّى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» [131] . قال الزبير: والله إن الأمر لشديد «2» . أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن الحسين بن [ديزيل] حدثنا آدم بن أبي أياس حدثنا ابن أبي ذنب حدثنا سعيد المقرئ عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من ماله أو عرضه فليتحلّلها اليوم منه قبل أن يؤخذ حين لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه» [132] «1» . أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي حدثنا الفضل بن الفضل الكندي حدثنا أبو عبد الله محمّد ابن عبد الله بن محمّد بن النعمان حدثنا محمّد بن بكر بن أبي بكر البرجمي حدثنا محمّد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تدرون من مفلس أمتي؟» . قلنا: نعم من لا مال له. قال: «لا، مفلس أمتي من يجاء به يوم القيامة قد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا، فيؤخذ من حسناته فيوضع على حسنات الآخر، وإن فضل عليه فضل أخذ من سيئات الآخر فطرحت عليه ثم يؤخذ فيلقى في النار» [133] . وقال أبو العالية: هم أهل القبلة. أخبرنا الحسين بن فنجويه حدثنا موسى بن محمّد بن علي بن عبد الله بن الحسن بن علوية حدثنا عبيد بن جناد العلوي الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن القاسم ابن عوف البكري قال: سمعت ابن عمر يقول: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتابين ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد فما هذه الخصومة وكتابنا واحد؟ حتّى رأيت بعضنا يضرب وجه بعض بالسيف، فعرفت أنه فينا نزلت. وروى خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن أبي سعيد الخدري في هذه الآية قال: كنا نقول: ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا. أخبرنا الحسين بن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز البغوي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد: زعم ابن عون عن إبراهيم قال: لما نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قالوا: كيف نختصم ونحن اخوان؟ فلما قتل عثمان قالوا: هذه خصومتنا. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فزعم أن له ولدا وشريكا وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ بالقرآن
إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً منزل ومقام لِلْكافِرِينَ وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ. قال السدي: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) يعني جبرائيل جاء بالقرآن (وَصَدَّقَ بِهِ) محمّد تلقاه بالقبول. وقال ابن عبّاس: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) يعني رسول الله جاء بلا إله إلّا الله (وَصَدَّقَ بِهِ) هو أيضا رسول الله بلّغه إلى الخلق. وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) يعني رسول الله (وَصَدَّقَ بِهِ) أبو بكر. وقال قتادة ومقاتل: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) رسول الله (وَصَدَّقَ بِهِ) هم المؤمنون واستدلا بقوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ. وقال عطاء: (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ) الأنبياء (عليهم السلام) (وَصَدَّقَ بِهِ) الاتباع وحينئذ يكون (الَّذِي) بمعنى (الذين) على طريق الجنس كقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً «1» ثم قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «2» وقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «3» . ودليل هذا التأويل ما أخبرنا ابن فنجويه حدثنا طلحة بن محمّد بن جعفر وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب قالا: حدثنا أبو بكر عن مجاهد حدثنا عبدان بن محمّد المروزي حدثنا عمار بن الحسن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع: أنّه كان يقرأ والذين جاؤ يعني الأنبياء (عليهم السلام) وصدقوا به الاتباع. وقال الحسن: هو المؤمن صدّق به في الدّنيا وجاء به يوم القيامة. يدل عليه ما أخبرنا ابن فنجويه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ أخبرنا يعني الظهراني أخبرنا يحيى بن الفضل الخرقي حدثنا وهيب بن عمرو أخبرنا هارون النحوي عن محمّد بن حجارة عن أبي صالح الكوفي وهو أبو صالح السمان أنه قرأ وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ مخففة، قال: هو المؤمن جاء به صادقا فصدّق به. وقال مجاهد: هم أهل القرآن يجيؤون به يوم القيامة يقولون هذا الذي أعطيتمونا فعملنا بما فيه. أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ.
[سورة الزمر (39) : الآيات 40 إلى 52]
قرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: عباده بالجمع. وقرأ الباقون: عَبْدَهُ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم. وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وذلك أنهم خوّفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم معرة الأوثان وقالوا: إنك تعيب آلهتنا وتذكرها بسوء، فو الله لتكفّ عن ذكرها أو لنخلينك أو يصيبك بسوء وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ شدة وبلاء هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ نعمة ورخاء هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ. قرأ شيبة وأبو عمرو ويعقوب: بالتنوين فيهما، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم. وقرأ الباقون: بالإضافة. قال مقاتل: فسألهم النبي (عليه السلام) فسكتوا فأنزل الله سبحانه قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ إذا جاءكم بأس الله تعالى من المحق منّا ومن المبطل. [سورة الزمر (39) : الآيات 40 الى 52] مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ ورقيب، وقيل: موكّل عليهم في حملهم على الإيمان.
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها فيقبضها عند فناء أجلها وانقضاء مدتها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها كما يتوفى التي ماتت، فجعل النوم موتا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ عنده. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف. قضي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء الموت رفع على مذهب ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون بفتحها، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لقوله (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) فهو يقضي عليها. قال المفسرون: إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتعارف ما شاء الله تعالى منها، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وحبسها، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها «1» . إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت انقضاء مدة حياتها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني أخبرنا محمّد بن جعفر المطري حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضل حدثنا عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها قال: يقبض أنفس الأموات والأحياء، فيمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء إلى أجل مسمّى لا يغلط. وقال ابن عبّاس: في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي حدثنا الفضل بن الفضل الكندي حدثنا إبراهيم بن سعد بن معدان حدثنا ابن كاسب حدثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة ان النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: باسمك ربّي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» [134] «2» . أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من الشفاعة وَلا يَعْقِلُونَ يعني وإن كانوا لا يملكون شيئا من الشفاعة ولا يعقلون إنكم تعبدونهم أفتعبدونهم قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً فمن يشفع فبإذنه يشفع لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.
قال ابن عبّاس ومجاهد ومقاتل: انقبض. قتادة: كفرت واستكبرت. الضحاك: نفرت. الكسائي: انتفضت. المؤرخ: أنكرت، وأصل الاشمئزاز النفور والازورار. قال عمرو بن كلثوم: إذا عضّ الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا «1» وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان، وذلك حين ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءته سورة النجم: تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يا فاطر السماوات والأرض عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان حدثنا عبيد الله بن ثابت حدثنا أبو سعيد الكندي حدثنا ابن فضيل حدثنا سالم بن أبي حفصة عن منذر الثوري قال: كنت عند الربيع بن خيثم فدخل عليه رجل ممّن شهد قتل الحسين ممّن كان يقاتله فقال ابن خيثم يا معلقها. يعني الرءوس، ثم أدخل يده في حنكه تحت لسانه فقال: والله لقد قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبّل أفواههم وأجلسهم في حجره، ثم قرأ قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أشركوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أخبرنا ابن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا ابن وهب حدثني محمد بن الوليد القرشي حدثنا محمّد بن جعفر حدثنا شعبة عن ابن عمران الحوني قال: سمعت أنس بن مالك يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا لو أن لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلّا أن تشرك بي» «2» . وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ في الدّنيا أنه نازل بهم في الآخرة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 إلى 64]
قال السدي: ظنّوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات. قال سفيان: وقرأ هذه الآية: ويل لأهل الريا ويل لأهل الريا. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا الفرياني حدثني محمّد ابن عبد الله بن عماد حدثني عقبة بن سالم عن عكرمة بن عمار قال: جزع محمّد بن المنكدر عند الموت فقيل له: تجزع. فقال: أخشى آية من كتاب الله تعالى وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ فأنا أخشى ان يبدو لي من الله ما لم أحتسب. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ أعطيناه نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ من الله بأني له أهل. قال قتادة: على خير عندي. بَلْ هِيَ يعني النعمة فِتْنَةٌ. وقال الحسين بن الفضل: بل كلمته التي قالها فتنة. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: قارون إذ قال إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ يعني كفار هذه الأمة سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 64] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64)
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية. اختلف المفسرون في المعنيّين بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها قوما من المشركين. قال ابن عبّاس: نزلت في أهل مكة قالوا يزعم محمّد انه من عبد الأوثان وقتل النفس الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ لم يغفر له، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله الها آخر وقتلنا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. أنبأني عبد الله بن حامد بن محمّد الأصفهاني أخبرني إبراهيم بن محمّد بن عبد الله البغدادي حدثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان الجبلي حدثنا أبو إسماعيل حدثنا إسحاق بن سعيد أبو سلمة الدمشقي حدثنا أنس بن سفيان عن غالب بن عبد الله عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه: يا محمّد كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أنه من قتل أو شرك أو زنى يَلْقَ أَثاماً ويُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً، وأنا قد فعلت ذلك كله، فهل تجد لي رخصة؟ فأنزل الله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً «1» الآية. قال وحشي: هذا شرط شديد فلعلي لا أقدر على هذا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» . فقال وحشي: هذا شرط شديد فلعلي لا أقدر على هذا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. فقال وحشي: أراني بعد في شبهة فلا أدري يغفر لي أم لا، فهل غير ذلك؟ فأنزل الله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. فقال وحشي: نعم هذه، فجاء فأسلم. فقال المسلمون: هذه له خاصة أم للمسلمين عامة؟ وقال: «بل للمسلمين عامة» «3» . وقال قتادة ذكر لنا أن ناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا أن لن يتاب عليهم، فدعاهم الله بهذه الآية. وقال ابن عمر: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين، كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا، قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به، فنزلت على هؤلاء الآيات فكان
عمر بن الخطاب كاتبا فكتبها بيده، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا أبو بكر بن خرجة حدثنا محمّد بن عبد الله بن سلمان الحضرمي حدثنا محمّد بن العلاء حدثنا يونس بن بكير حدثنا ابن إسحاق حدثنا نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما اجتمعنا إلى الهجرة أبعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل وقلنا: الميعاد بيننا المناصف ميقات بني غفار، فمن حبس منكم لم يأبها فقد حبس فليمض صاحبه، فأصبحت عندها أنا وعياش وحبس عنا هشام وفتن فافتتن، فقدمنا المدينة فكنا نقول: هل يقبل الله من هؤلاء توبة قوم عرفوا الله ورسوله ثم رجعوا عن ذلك لما أصابهم من الدّنيا؟ فأنزل الله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إلى قوله أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ. قال عمر: فكتبتها بيدي كتابا ثم بعثت بها إلى هشام. قال هشام: فلما قدمت عليّ خرجت بها إلى ذي طوى فقلت اللهم فهمنيها، فعرفت أنها أنزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقتل هشام شهيدا بأجنادين في ولاية أبي بكر رضي الله عنه. وقال بعضهم: نزلت في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار، فأعلمهم الله تعالى أنه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمن يشاء. وروى مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب رسول الله نرى أو نقول: أنه ليس شيء من حسناتنا إلّا وهي مقبولة حتّى نزلت هذه الآية أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقيل لنا: الكبائر والفواحش. قال: فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك، فنزلت هذه الآية، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك، فكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه، وإن لم يصب منها شيئا رجونا له. وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر، والآية عامة للناس أجمعين لا تَقْنَطُوا. قرأ أبو عمرو والأعمش ويحيى بن وثاب وعيسى والكسائي ويعقوب (لا تَقْنِطُوا) بكسر النون. وقرأ أشهب العقيلي: بضمه. وقرأ الآخرون: بفتحه. روى الأعمش عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود قال: دخل عبد الله بن مسعود المسجد فإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال، فجاء حتّى قام على رأسه وقال: يا مذكّر لم
تقنط الناس ثم قرأ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ الآية. أخبرنا ابن فنجويه حدثنا أبو حبش المقرئ حدثنا ابن فنجويه حدثنا عبد سلمة حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم: أن رجلا كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة فيشدد على نفسه ويقنّط الناس من رحمة الله ثم مات فقال: أي رب ما لي عندك؟ قال: النار. قال: أي رب وأين عبادتي واجتهادي؟ فيقول: إنك كنت تقنط الناس من رحمتي في الدّنيا، فأنا اليوم أقنطك من رحمتي. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا حامد بن محمّد بن عبد الله حدثنا محمّد بن صالح الأشج حدثنا داود بن إبراهيم حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت بن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ولا يبالي» [135] . وفي مصحف عبد الله: (إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء) . إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. أخبرنا ابن فنجويه حدثنا محمّد بن المظفر حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال: ما علمت أحدا من أهل العلم ولا من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم يقول لذنب: إن الله لا يغفر هذا. أخبرنا عقيل بن محمّد بن أحمد: أن المعافا بن زكريا أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا زكريا بن يحيى وهداد بن أبي زائدة حدثنا حجاج حدثنا ابن لهيعة عن أبي قنبل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول: حدثني أبو عبد الرحمن الجيلاني أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله (عليه السلام) : «يقول ما أحب أن لي الدّنيا وما فيها بهذه الآية قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» [136] . فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت النبي (عليه السلام) ثم قال: «ألا ومن أشرك ألا ومن أشرك ألا ومن أشرك» [137] «1» .
وبإسناده عن محمّد بن جرير حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا يونس عن ابن سيرين قال: قال علي رضي الله عنه: ما في القرآن آية أوسع من قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. وبه عن ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور عن الشعبي عن شتير بن شكل قال: سمعت ابن مسعود يقول: إن أكثر آية فرجا في القرآن يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية «1» . أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي حدثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي حدثنا علي بن محمّد بن ماهان حدثنا سلمة بن شبيب قال: قريء على عبد الرزاق وأنا أسمع عن معمر عن الزهري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟» . قال: يا رسول الله إن بالباب شابا قد أخرق فؤادي وهو يبكي. فقال له رسول الله: «أدخله عليّ» . فدخل وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شأنك يا شاب؟» . قال: يا رسول الله أبكاني ذنوب كثيرة وخفت من جبار غضبان عليّ. قال: «أشركت بالله يا شاب؟» . قال: لا. قال: «أقتلت نفسا بغير حقها؟» . قال: لا. قال: «فإن الله يغفر لك ذنبك ولو مثل السماوات السبع والأرضين السبع والجبال الرواسي» . قال: يا رسول الله ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع ومن الأرضين السبع. قال: «ذنبك أعظم أم العرش؟» قال: ذنبي. قال: «ذنبك أعظم أم الكرسي؟» . قال: ذنبي. قال: «ذنبك أعظم أم إلهك؟» . قال: بل الله أجلّ وأعظم.
فقال: «إن ربّنا لعظيم ولا يغفر الذنب العظيم إلّا الإله العظيم» . قال: «أخبرني عن ذنبك» . قال: إني مستحيي من وجهك يا رسول الله. قال: «أخبرني ما ذنبك؟» . قال: إني كنت رجلا نباشا أنبش القبور منذ سبع سنين، حتّى ماتت جارية من بنات الأنصار فنبشت قبرها فأخرجتها من كفنها، ومضيت غير بعيد إذ غلبني الشيطان على نفسي، فرجعت فجامعتها ومضيت غير بعيد إذ قامت الجارية فقالت: الويل لك يا شاب من ديّان يوم الدين يوم يضع كرسيّه للقضاء، يأخذ للمظلوم من الظالم تركتني عريانة في عسكر الموتى ووقفتني جنبا بين يدي الله تعالى. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضرب في قفاه ويقول: «يا فاسق أخرج ما أقربك من النار» . قال: فخرج الشاب تائبا إلى الله تعالى حتّى أتى عليه ما شاء الله ثم قال: يا إله محمّد وآدم وحواء إن كنت غفرت لي فاعلم محمدا وأصحابه وإلّا فأرسل نارا من السماء فأحرقني بها ونجني من عذاب الآخرة. قال: فجاء جبرئيل وله جناحان جناح بالمشرق وجناح بالمغرب قال: السلام يقرؤك السلام. قال: «هو السلام وإليه يعود السلام» . قال: يقول: أنت خلقت خلقي؟. قال: «لا، بل هو الذي خلقني» . قال: يقول: أنت ترزقهم؟ قال: «لا، بل هو يرزقني» . قال: أنت تتوب عليهم؟ قال: «لا، بل هو الذي يتوب عليّ» . قال: فتب على عبدي. قال: فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم الشاب فتاب عليه وقال: «أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» «1» . وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ أي واقبلوا وارجعوا إليه بالطاعة. وَأَسْلِمُوا لَهُ واخضعوا له مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الحافظ حدثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السنّي حدثنا أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو خيثمة حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا كثير بن زيد عن الحرث بن أبي يزيد قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله تعالى الإنابة» [138] «1» . وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ والقرآن كله حسن وانما معنى الآية ما قال الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه: ذكر القبيح لنجتنبه، وذكر الأدون لئلا نرغب فيه، وذكر الحسن لنؤثره. وكذلك قال السدي: الأحسن ما أمر الله به في الكتاب. وقال ابن زيد (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني المحكمات وكلوا علم المتشابهات إلى عالمها. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يعني لأن لا تقول كقوله: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «2» وَأَنْ تَصُومُوا «3» ونحوهما. يا حَسْرَتى يا ندامتا وحزني، والتحسر الاغتمام على ما فات، سمّي بذلك لانحساره عن صاحبه بما يمنع عليه استدراكه وتلا في الأمر فيه، والألف في قوله: (يا حَسْرَتى) هي بالكناية للمتكلم وإنما أريد يا حسرتي على الاضافة، ولكن العرب تحوّل الياء التي هي كناية اسم المتكلم في الاستغاثة ألفا فتقول: يا ويلتا ويا ندامتا، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء، وربّما لحقوا بها الهاء. أنشد الفراء: يا مرحباه بحمار ناجية ... إذا أتى قربته للسانية «4» وربّما الحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة. وكذلك قرأ أبو جعفر: يا حسرتاي. عَلى ما فَرَّطْتُ قصّرت فِي جَنْبِ اللَّهِ قال الحسن: في طاعة الله. سعيد بن جبير: في حق الله في أمر الله. قاله مجاهد. قال أهل المعاني: هذا كما يقال هذا صغير في جنب ذلك الماضي، أي في أمره.
وقيل: في سبيل الله ودينه. والعرب تسمّي السبب والطريق الى الشيء جنبا تقول: تجرعت في جنبك غصصا وبلاء، أي بسببك ولأجلك. قال الشاعر: أفي جنب بكر قطعتني ملامة ... لعمري لقد كانت ملامتها ثنى «1» وقال في الجانب الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى وثوابه، والعرب تسمّي الجانب جنبا. قال الشاعر: الناس جنب والأمير جنب «2» يعني الناس من جانب والأمير من جانب. وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ المستهزئين بدين الله تعالى وكتابه ورسوله والمؤمنين. قال قتادة: في هذه الآية لم يكفه ان ضيع طاعة الله تعالى، حتّى جعل يسخر بأهل طاعة الله. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه حدثنا هارون بن محمّد حدثنا محمّد بن عبد العزيز حدثنا سلمة حدثنا أبو الورد الوزان عن إسماعيل عن أبي صالح: (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) قال: كان رجل عالم في بني إسرائيل ترك علمه وأخذ في الفسق، أتاه إبليس فقال له: لك عمر طويل فتمتع من الدّنيا ثم تب. فأخذ في الفسق، وكان عنده مال فأنفق ماله في الفجور، فأتاه مالك الموت في ألذّ ما كان. فقال: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت جئت لأقبض روحك. فقال: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ، ذهب عمري في طاعة الشيطان وأسخطت ربّي. فندم حين لم تنفعه الندامة، قال: فأنزل الله سبحانه وتعالى خبره في القرآن. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً رجعة إلى الدّنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وفي نصب قوله: (فَأَكُونَ) وجهان:
أحدهما: على جواب لو. والثاني: على الرد على موضع الكرّة، وتوجيه الكرّة في المعنى لو أنّ لي أن أكر. كقول الشاعر: أنشده الفراء: فمالك منها غير ذكرى وحسرة ... وتسأل عن ركبانها أين يمموا» فنصب تسأل عطفا على موضع الذكرى، لأن معنى الكلام: فمالك منها إلّا أن يذكر، ومنه قول الله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا «2» عطف يرسل على موضع الوحي في قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً. بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ. قرأ العامة: بفتح الكاف والتاء. وقرأت عائشة: بكسرها أجمع، ردتها إلى النفس. وروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن فنجويه حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل أخبرنا سعيد بن نصير قال: سمعت إسحاق بن سلمة الرازي قال: سمعت أبا جعفر الرازي يذكر عن الربيع بن أنس أنبأني عبد الله بن حامد أخبرتنا سعيدة بنت حفص بن المهتدي ببخارى قالت: حدثنا صالح بن محمّد البغدادي حدثنا عبد الله بن يونس بن بكر حدثنا أبي حدثنا عيسى بن عبد الله بن ماهان أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سمعت رسول الله (عليه السلام) يقول: «بَلى قَدْ جاءَتْكِ آياتِي فَكَذَّبْتِ بِها وَاسْتَكْبَرْتِ وَكُنْتِ مِنَ الْكافِرِينَ» [139] «3» على مخاطبة النفس. قال المروزي: وهي رواية السريحي عن الكسائي. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ فزعم أن له ولدا وشريكا وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ. قال الأخفش: تَرَى غير عاملة في قوله: (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) إنما ابتداء وخبر. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ. قرأ أهل الكوفة: بالألف على الجمع.
وقرأ الباقون: بغير ألف على الواحد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم والأخفش، لأن المفازة هاهنا الفوز، ومعنى الآية: بنجاتهم من العذاب بأعمالهم الحسنة. لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ لا يصيبهم المكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أيّ مفاتيح خزائن السماوات والأرض، واحدها مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح، ومقليد مثل منديل ومناديل وفيه لغة أخرى أقاليد. واحدها إقليد، وقيل: هي فارسية معربة اكليل. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري بقرائتي عليه حدثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه حدثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي حدثنا عمر بن أحمد بن شنبه حدثنا إسماعيل بن سعيد الخدري حدثنا أغلب بن تميم عن مخلد أبي الهذيل عن عبد الرحمن أخيه قال ابن عيينة: عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه انه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير هذه الآية (مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) . فقال: «يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلّا الله والله اكبر وسبحان الله وبحمده واستغفر الله لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، بيده الخير يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يا عثمان من قالها إذا أصبح أو أمسى عشر مرات أعطاه الله تعالى ست خصال: أما أولها: فيحرس من إبليس وجنده، والثانية: يحضره إثنا عشر ملكا، والثالثة: يعطى قنطاران من الجنّة، والرابعة: يرفع له درجة، والخامسة: يزوجه الله تعالى زوجة من الحور العين، والسادسة: يكون له من الأجر كمن قرأ القرآن والتوراة والإنجيل، وله أيضا من الأجر كمن حج أو اعتمر فقبلت حجته وعمرته، فإن مات من ليلته مات شهيدا» [140] «1» . أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمّد بن العدل بقرائتي عليه حدثنا أحمد بن محمّد بن يحيى أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن زكريا الجرجاني الفقيه حدثنا أحمد بن جعفر بن نصر الرازي حدثنا محمّد بن يزيد النوفلي حدثنا حماد بن محمّد المروزي حدثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تفسير المقاليد. فقال: «يا عليّ سألت عظيما، المقاليد هو أن تقول عشرا إذا أصبحت وعشرا إذا أمسيت: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ والله أكبر سبحان الله والحمد لله واستغفر الله ولا حول ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ... ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ... يُحْيِي وَيُمِيتُ بيده الخير وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، من قالها عشرا إذا أصبح وعشرا إذا امسى أعطاه الله تعالى خصالا ستا أولهن:
[سورة الزمر (39) : الآيات 65 إلى 75]
يحرسه من إبليس وجنده فلا يكون لهم عليهم سلطان، والثانية: يعطى قنطارا في الجنّة أثقل في ميزانه من جبل أحد، والثالثة: يرفع الله له درجة لا ينالها إلّا الأبرار، والرابعة: يزوجه الله من الحور العين، والخامسة: يشهده إثنا عشر ألف ملك يكتبونها فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ يشهدون له بها يوم القيامة، والسادسة: كمن قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وكان كمن حج واعتمر فقبل الله حجة وعمرته، وإن مات من يومه أو ليلته أو شهره طبع بطابع الشهداء، فهذا تفسير المقاليد» [141] «1» . وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وذلك حين دعا إلى دين آبائه. واختلف القرّاء في قوله: تَأْمُرُونِّي فقرأ أهل المدينة: بنون واحدة مخففة على الحذف والتحقيق. وقرأ أهل الشام: بنونين على الأصل. وقرأ الآخرون: بنون واحدة مشددة على الإدغام. [سورة الزمر (39) : الآيات 65 الى 75] وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الذي عملته قبل الشرك. وقال أهل الإشارة: معناه لئن طالعت غيري في السر لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ.
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ثم دلّه على التوحيد فقال عز من قائل: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله تعالى على نعمة الايمان وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حين أشركوا به غيره، ثم خبر عن عظمته فقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ أيّ ملكه يَوْمَ الْقِيامَةِ بلا مانع ولا منازع ولا مدّع، وهي اليوم أيضا ملكه، ونظيره قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «1» ولِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «2» . قال الأخفش: هذا كما يقال خراسان في قبض فلان، ليس أنها في كفّه وإنما معناه ملكه. وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ للطي معان منها: الإدراج كطي القرطاس والثوب بيانه يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، ومنه الإخفاء كما تقول: طويت فلانا عن الأعين، وأطو هذا الحديث عني أي استره. ومنه: الإعراض يقال: طويت عن فلان أو أعرضت عنه. ومنه: الافناء، تقول العرب: طويت فلانا بسيفي، أي أفنيته. وقراءة العامة: مَطْوِيَّاتٌ بالرفع. وقرأ عيسى بن عمر: بالكسر ومحلها النصب على الحال والقطع، وإنما يذكر اليمين للمبالغة في الاقتدار. وقيل: هو معنى القوة، كقول الشاعر: تلقاها عرابة باليمين «3» وقيل: اليمين بمعنى القسم، لأنه حلف أنه يطويها ويفنيها. وهو اختيار علي بن مهدي الطبري قال: معناه مضنيات بقسمه. حكى لي أستاذنا أبو القاسم بن حبيب عنه ثم نزه نفسه، وقال تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم أتى ذاكر بعض ما ورد من الآثار في تفسير هذه الآية. أخبرنا عبد الله بن حامد بقرائتي عليه حدثنا محمّد بن جعفر المطري حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضيل حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول هكذا بيده. فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» «4» .
وأنبأني عبد الله بن حامد أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا العبّاس بن الفضل الاسقاطي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا فضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبيد الله قال: جاء حبر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقال: يا محمّد أو يا أبا القاسم إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، يهززهن فيقول: أنا الملك أنا الملك. فضحك النبي صلّى الله عليه وسلم تعجبا ممّا قال الحبر تصديقا له، ثم قرأ وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» . أخبرنا أحمد بن محمّد بن يوسف القصري بها أخبرنا إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل ببغداد حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمّد بن صالح الواسطي عن سليمان بن محمّد عن عمر بن نافع عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما على هذا المنبر- يعني منبر رسول الله (عليه السلام) . وهو يحكي عن ربّه تبارك وتعالى فقال: «إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته- ثم قال هكذا وشد قبضته ثم بسطها- ثم يقول: أنا الله، أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدّنيا ولم يك شيئا، أنا الذي أعدتها، أين الملوك أين الجبابرة» [142] . أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا عمر بن الخطاب حدثنا عبد الله بن الفضل حدثنا هدية ابن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ على المنبر (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) فبسط رسول الله صلّى الله عليه وسلم يديه ثم قال: «فيمجّد الله نفسه، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون» . قال: فرجف المنبر حتّى قلنا ليتحركنّ به، وقيل: ليخرنّ به «2» . أخبرنا الحسين بن محمّد حدثنا عمر عن عبد الله حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن عمر بن حمزة عن سالم بن عبد الله حدثني عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون» «3» .
أخبرنا عبد الله بن حامد إجازة أخبرنا محمّد بن الحسين حدثنا محمّد بن جعونة أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن ثوبان الكلاعي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلم: أنه أتاه حبر من أحبار اليهود فقال: إني سائلك عن أشياء فخبّرني بها. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «اسأل ذلك» . فقال الحبر: أرأيت قول الله تعالى في كتابه: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين الخلق عند ذلك؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هم أضياف الله تعالى فلن يعجزهم ما لديه» . فقال الحبر: فقوله سبحانه وتعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ فأين الخلق عند ذلك؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هم فيها كالرقيم في الكتاب» [143] «1» . وقال ابن عبّاس: في هذه الآية كل ذلك يمينه، وليس في يده الأخرى شيء، وإنما يستعين بشماله المشغولة يمينه، وما السماوات والأرضون السبع في يدي الله تعالى إلّا كخردلة في يد أحدكم «2» . أنبأني عقيل بن أحمد: أن المعافا بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة حدثني ابن إسحاق عن محمّد عن سعيد قال: اتى رهط من اليهود النبي صلّى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمّد هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم حتّى انتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربّه فجاءه جبرئيل (عليه السلام) فسكنه وقال: اخفض عليك جناحك وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه، قال يقول الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. فلما تلاها عليهم النبي صلّى الله عليه وسلم قالوا له: صف لنا ربك كيف خلقه وكيف عضده وكيف ذراعه؟ فغضب النبي صلّى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول ثم ساورهم فجاءه جبرئيل فقال: مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سألوه وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية «3» . وقال مجاهد: وكلتا يدي الرحمن يمين.
أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد الأصبهاني أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق أخبرنا بشير بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرنا عمرو بن أوس الثقفي: أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من منابر النور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» [144] «1» . وقال الحسين بن الفضل والأخفش معنى الآية وَالْأَرْضُ جَمِيعاً ... وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ أي مضبوطات مربوطات بِيَمِينِهِ، أي بقدرته وهي كلها في ملكه وقبضته، نحو قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «2» أي وما كانت لكم قدرة، وليس الملك لليمين دون سائر الجسد والله أعلم. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ. أخبرنا أبو محمّد الحسين بن أحمد المخلدي إملاء وقراءة أخبرنا عبد الله بن محمّد بن مسلم حدثنا أحمد بن محمّد بن أبي رجاء المصيصي حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أسلم العجلي عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الصور. فقال: «قرن ينفخ فيه» [145] «3» . فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أيّ ماتوا وهي النفخة الثانية إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ اختلفوا في الذين استثناهم الله تعالى. أخبرنا أبو علي الحسين بن محمّد بن محمّد الروذبادي حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن محمّد ابن عبد الرحيم الشروطي حدثنا عبدان بن عبد الله بن أحمد حدثنا محمّد بن مصفي حدثنا بقية عن محمّد عن عمرو بن محمّد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جبرئيل عن هذه الآية فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ: «من أولئك الذين لم يشاء الله أن يصعقهم؟» . فقال: هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش «4» . أخبرنا الحسين بن فنجويه بقرائتي عليه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ قال: قرأ عليّ
أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي وأنا أسمع حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمّد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه سأل جبرئيل (عليهما السلام) عن هذه الآية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ: «من الذين لم يشاء الله تعالى أن يصعقهم؟» . قال: هم الشهداء متقلدون حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت أزمتها الدرّ برحائل السندس والإستبرق نمارها ألين من الحرير، مدّ خطاها مدّ أبصار الرجال يسيرون في الجنّة يقولون عند طول البرهة: انطلقوا إلى ربنا لننظر كيف يقضي بين خلقه، فيضحك إليهم إلهي عزّ وجلّ، فإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه «1» . أخبرنا ابن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الحسن بن يحيويه حدثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالا: حدثنا محمّد بن يوسف الفربابي حدثنا سليمان بن حيان عن محمّد بن إسحاق عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: تلا رسول الله (عليه السلام) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين استثنى الله تعالى؟ قال: «هو جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت- قال: فيقول يا ملك الموت خذ نفس اسرافيل. فيقول: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: سبحانك ربّي وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وملك الموت. فيقول: يا ملك الموت خذ نفس ميكائيل. فيأخذ نفس ميكائيل فيقع كالطود العظيم. فيقول: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: سبحانك ربّي تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وملك الموت. فيقول: مت يا ملك الموت فيموت. فيقول: يا جبرئيل من بقي؟ فيقول: تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام وجهك الباقي الدائم وجبرئيل الميت الفاني- قال-: فيقول: يا جبرئيل لا بدّ من موتك، فيقع ساجدا يخفق بجناحيه فيقول: سبحانك ربّي تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على الضرب من الضراب» [146] «2» . أخبرنا عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر حدثنا حاجب بن أحمد بن يرحم حدثنا محمّد بن حماد حدثنا محمّد بن الفضيل عن سليمان التيمي عن أبي نصرة عن جابر في قوله تعالى:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال: موسى ممّن استثنى الله تعالى، وذلك بأنه قد صعق مرة. يدل عليه ما أخبرنا عقيل بن أحمد: أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا محمّد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قال يهودي بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، قال: فرفع رجل من الأنصار يده فصك بها وجهه فقال: تقول هذا وفينا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فأكون أنا أول من يرفع رأسه، فإذا موسى أخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممّن استثنى الله تعالى» [147] «1» . وقال كعب الأحبار: هم إثنا عشر، حملت العرش وجبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت. الضحاك: هم رضوان والحور ومالك والزبانية. قتادة: الله أعلم بثنياه «2» . الحسن: (إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ) يعني الله وحده. وقيل: عقارب النار وحياتها، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور أُخْرى مرة أخرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ من قبورهم يَنْظُرُونَ يعني ينظرون إلى البعث. وقيل: ينتظرون أمر الله تعالى فيهم. قالت العلماء: ووجه النفخ في الصور أنه علامة جعلها الله تعالى ليتصوّر بها العاقل وأخذ الأمر، ثم تجديد الخلق. وَأَشْرَقَتِ وأضاءت الْأَرْضُ. وقرأ عبيد بن عمير: (وَأُشْرِقَتِ) على لفظ ما لم يسم فاعله كأنها جعلت مضيئة. بِنُورِ رَبِّها قال أكثر المفسرين: بضوء ربّها، وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه فما يتضارون في نوره إلّا كما يتضارون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه «3» . وقال الضحاك: بحكم ربّها.
وقال السدي: بعدل ربّها. ويقال: إن الله تعالى خلق في القيامة نورا يلبسه وجه الأرض فتشرق الأرض به، ويقال: ان الله يتجلى للملائكة فتشرق الأرض بنوره، وأراد بالأرض عرصات القيامة. وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ. قال ابن عبّاس: يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة. وقال السدي: الذين استشهدوا في طاعة الله. وقيل: هم الحفظة، يدل عليه قوله تعالى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ «1» . وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا سوقا عنيفا يسحبون على وجوههم إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أفواجا بعضها على أثر بعض، كل أمة على حدة. وقال أبو عبيد والأخفش: يعني جماعات في تفرقة، واحدتها زمرة. حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة. واختلف القراء في قوله: (فُتِحَتْ) و (فُتِّحَتْ) فخففها أهل الكوفة، وشددهما الآخرون على التكثير. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها توبيخا وتقريعا لهم أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ وجبت كَلِمَةُ الْعَذابِ وهي قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» . عَلَى الْكافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ وحشر الذين اتَّقَوْا رَبَّهُمْ فأطاعوه ولم يشركوا به إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ركبانا حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ الواو فيه واو الحال ومجازه وقد فتحت أبوابها، فأدخل الواو هاهنا لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم، وحذفها من الآية الأولى لبيان أنها كانت مغلقة قبل مجيئهم، ويقال: زيدت الواو هاهنا، لأن أبواب الجنّة ثمانية وأبواب الجحيم سبعة، فزيدت الواو هاهنا فرقا بينهما. حكى شيخنا عبد الله بن حامد عن أبي بكر بن عبدش أنها تسمى واو ثمانية. قال: وذلك أن من عادة قريش أنهم يعدون العدد من الواحد إلى الثمانية، فإذا بلغوا
الثمانية زادوا فيها واوا فيقولون: خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، يدل عليه قول الله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «1» وقال سبحانه: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «2» ، فلما بلغ الثامن من الأوصاف قال وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ «3» ، وقال سبحانه وتعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «4» ، وقال تعالى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «5» . وقيل: زيادة الواو في صفة الجنّة علامة لزيادة رحمة الله على غضبه وعقوبته. وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ قال قتادة فإذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنّة والنار، فيقتص بعضهم من بعض، حتّى إذا هدءوا واطمئنوا قال لهم رضوان وأصحابه: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ. أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمّد البيهقي أخبرنا أبو حاتم مكي بن عبدان التميمي حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر السليطي حدثنا روح بن عبادة القيسي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه: أنه سئل عن هذه الآية وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً الآية. فقال: سيقودهم إلى أبواب الجنّة حتّى إذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة تخرج من تحت ساقها عينان، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا فيها فجرت عليهم بنضرة النعيم، فلن تغير أجسادهم بعدها أبدا ولن تشعث أشعارهم بعدها أبدا كأنما دهنوا بالدهان، ثم عمدوا إلى الأخرى فشربوا منها فأذهبت ما في بطونهم من أذى أو قذى، وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنّة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، ويلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم إذا جاء من الغيبة يقولون: ابشر قد أعدّ الله لك كذا وكذا وأعد لك كذا وكذا، وينطلق غلام من غلمانه يسعى إلى أزواجه من الحور العين فيقول: هذا فلان- باسمه في الدّنيا- قد قدم. فيقلن: أنت رأيته؟ فيقول: نعم. فيستخفهن الفرح حتّى يخرجن إلى أسكفة الباب ويجيء ويدخل، فإذا سرر موضونة، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه، فإذا هو قد
أسس على جندل اللؤلؤ بين أخضر وأحمر وأبيض وأصفر من كل لون، ثم يتكئ على أريكة من أرائكه، ثم يرفع طرفه إلى سقفه، فلولا أن الله تعالى قدر له لألمّ أن يذهب بصره، أنه مثل البرق فيقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ «1» قال: فيناديهم الملائكة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . واختلف أهل العربية في جواب قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها. فقال بعضهم: جوابه: (فُتِحَتْ) والواو فيه [مثبتة] مجازها حتّى إذا جاؤها فتحت أبوابها كقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً «3» أي ضياء. وقيل: جوابه: قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها والواو فيه ملغاة تقديره: حتّى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها. كقول الشاعر: فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ... إلّا توهم حالم بخيال «4» أراد فإذا ذلك لم يكن. وقال بعضهم: جوابه مضمر ومعنى الكلام: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ، فدخلوها. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ قال أبو عبيدة: جوابه محذوف مكفوف عن خبره، والعرب تفعل هذا لدلالة الكلام عليه. قال الأخطل في آخر قصيدة له: خلا أن حيا من قريش تفضلوا ... على الناس أو ان الأكارم نهشلا «5» وقال عبد مناف بن ربيع في آخر قصيدة: حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة ... شلاء كما تطرد الجمالة الشردا «6»
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يعني أرض الجنّة، وهو قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ «1» . نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ثواب المطيعين وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدقين محيطين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ودخول (من) للتوكيد يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ متلذذين بذلك لا متعبدين به، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين أهل الجنّة والنار بالحق وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. أخبرنا أبو صالح شعيب بن محمّد البيهقي الفقيه أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر حدثنا روح بن عبادة حدثنا سعيد عن قتادة في هذه الآية قال: فتح أول الخلق بالحمد وقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «2» وختم بالحمد فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمّد بن عبد الكريم الفزاري حدثنا نصر بن علي حدثنا عبد الرحمن بن عثمان عن عبادة بن ميسرة عن محمّد بن المنكدر عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر آخر سورة الزمر فتحرك المنبر مرتين.
سورة المؤمن
سورة المؤمن قال الثمالي: إنما سميت بذلك من أجل حزقيل مؤمن آل فرعون مكية، وهي خمس وثمانون آية، وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة، وأربعة ألف وتسع مائة وستون حرفا في فضل الحواميم: أخبرنا الأستاذ أبو الحسين علي بن محمّد بن الحسن الجنازي قراءة عليه حدثنا أبو الشيخ الأصبهاني حدثنا محمّد بن أبي عصام حدثنا إبراهيم بن سليمان الحرّاني حدثنا عثمان المزني حدثنا عبد القدوس بن حبيب عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحواميم ديباج القرآن» [148] «1» . أخبرنا أبو محمّد ابن الرومي أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عبّاس قال: لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم. أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن يعقوب القصري بها أخبرنا أبو علي الصفار ببغداد حدثنا سعدان بن نصر وأخبرنا أبو الحسين الخبازي أخبرنا الشدائي وهو أبو بكر أحمد بن نصر حدثنا ابن المنادي عن سعدان بن نصر: أن المعتمر بن سليمان الرقي حدثهم عن الخليل بن مرة مرسلا قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الحواميم سبع وأبواب جهنّم سبع: جهنم، والحطمة، ولظى، والسعير، وسقر، والهاوية، والجحيم، فتجيء كل حاء ميم منهن يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فيقول: لا يدخل الباب من كان يؤمن بي ويقرأني» [149] «2» . أخبرنا علي بن محمّد بن الحسن حدثنا أبو جعفر محمّد بن عبد الله بن بذرة حدثنا أبو علي أحمد ابن بشر المرثدي حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني حدثنا جعفر بن عون عن مسعر عن سعيد بن إبراهيم قال: كنّ الحواميم يسمون العرائس.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل شيء ثمرة، وأن ثمرة القرآن ذوات حسم هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنّة فليقرأ الحواميم» [150] «1» . وقال ابن مسعود: إذا وقعت في أل حم وقعت في روضات أتأنق فيهن. وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب» [151] «2» . وقال ابن سيرين: رأى رجل في المنام سبع جوار حسان في مكان واحد لم ير أحسن منهن فقال لهن: لمن أنتن؟ قلن: لمن قرأ أل حم. فأما فضائل هذه السورة خاصة. فأخبرنا أبو عبد الله حدثنا ظفران حدثنا أبو محمّد بن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمّد ابن الصباح وأخبرنا أبو الحسين الخبازي حدثنا ظفران حدثنا ابن أبي داود حدثنا محمّد بن عاصم وأخبرنا الخبازي حدثنا ابن حبش المقرئ حدثني أبو العبّاس محمّد بن موسى الدقاق حدثنا عبد الله بن روح المدائني حدثنا نشابة بن سوار حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد وعن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حم المؤمن لم تبق روح نبيّ ولا صدّيق ولا شهيد ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه واستغفروا له» [152] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة غافر (40) : الآيات 1 إلى 12]
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) حم أنبأنا أبو عبد الله بن فنجويه حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ حدثنا أبو القاسم ابن الفضل حدثنا علي بن الحسن حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا يحيى بن حسان حدثنا رشد عن الحسن بن ثوبان عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حم اسم من أسماء الله تعالى وهي مفاتيح خزائن ربّك تعالى» [153] «1» . أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبرنا مكي بن عبدان حدثنا عبد الله بن هاشم حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي حدثنا شعبة قال: سألت السدي عن حم؟ فقال: قال ابن عبّاس: هو اسم الله الأعظم. وروى عكرمة عن ابن عبّاس قال: (الر) و (حم) و (ن) حروف الرَّحْمنُ مقطوعة. الوالبي عنه: «2» قسم أقسم الله تعالى به، وهو اسم من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: حم اسم من أسماء القرآن. مجاهد: فواتح السور. القرظي: أقسم الله تعالى بحلمه وملكه أن لا يعذب أحدا عاد إليه يقول لا إله إلّا الله مخلصا من قلبه. الشعبي: شعار السورة. وقال عطاء بن أبي مسلم الخراساني: الحاء افتتاح أسماء الله تعالى: حليم، وحميد، وحيّ، وحنّان، وحكيم، والميم افتتاح أسمائه: ملك، ومجيد، ومنّان. يدل عليه ما روى عن أنس بن مالك أنه قال: سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حم، فإنا لا نعرفها في لغتنا؟ فقال: «بدء أسماء وفواتح سور» [154] . وقال الضحاك والكسائي: معناه قضى ما هو كائن، كأنه أراد الإشارة إلى حمّ بضم الحاء وتشديد الميم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ واختلف القراء في قوله: (حم) فكسر الحاء حيث كان، عيسى وحمزة والكسائي وخلف، ومثله روى يحيى وحماد عن أبي بكر عن عاصم.
وقرأ أبو جعفر وأبو عبيد وأبو حاتم وابن ذكوان بين الفتح والكسر. ومثله روى بكر بن سهل الدمياطي وإسماعيل النخاس عن ورش عن نافع. وقرأ الباقون: بالفتح. غافِرِ الذَّنْبِ قال ابن عبّاس: لمن قال: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ... وَقابِلِ التَّوْبِ ممّن قال: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ... شَدِيدِ الْعِقابِ لمن لا يقول: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ ... ذِي الطَّوْلِ ذي الغنى عمّن لا يقول: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ. وقال الضحاك: ذي المنن. قتادة: ذي النعم. السدي: ذي السعة. الحسن: ذي الفضل. ابن زيد: ذي القدرة، وأصل الطول: الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه، يقال: اللهم طلّ علينا، أي أنعم علينا وتفضل، ومنه قيل للمنفع: طائل، ويقال في الكلام: ما خليت من فلان بطائل وما حظيت منه بنائل، أي لم أجد منه منفعة. حدثنا الحسن بن محمّد بن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا يوسف بن عبد الله ابن ماهان حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن ثابت قال: كنت إلى جانب سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا يمر فيه الدواب، وقد استفتحت حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إذ مرّ رجل على دابة فلما قلت: (غافِرِ الذَّنْبِ) . قال: قل: يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي. قلت: (وَقابِلِ التَّوْبِ) . قال: قل: يا قابل التوب اقبل توبتي. قلت: (شَدِيدِ الْعِقابِ) . قال: قل: يا شديد العقاب اعف عني عقابي. قلت: (ذِي الطَّوْلِ) . قال: قل يا ذي الطول طلّ عليّ بخير. قال: ثم التفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا. وقال أهل الإشارة: (غافِرِ الذَّنْبِ) فضلا (وَقابِلِ التَّوْبِ) وعدا (شَدِيدِ الْعِقابِ) عدلا. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فردا. و (التَّوْبِ) يجوز أن يكون مصدرا، ويحتمل أن يكون جمع التوبة، مثل دومة ودوّم وعومة وعوّم.
أخبرنا عبد الله بن حامد قرأه عليه حدثنا محمّد بن خالد بن الحسن أخبرنا داود بن سليمان حدثنا عبد بن حميد حدثنا كثير بن هشام أخبرنا جعفر بن مرقان حدثنا يزيد بن الأصم: أن رجلا كان ذا بأس، وكان يوفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبأسه، وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده فسأل عنه فقيل له: يتابع في هذا الشراب فدعا عمر كاتبه فقال: اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. وختم على الكتاب ثم دفعه إلى رسوله وقال: لا تدفعن الكتاب إليه حتّى تجده صحوان. ثم أمر من عنده فدعوا له أن يقبل الله تعالى عليه بقلبه، وأن يتوب عليه، فلما أتت الصحيفة الرجل جعل يقرأها ويقول قد وعدني الله تعالى أن يغفر لي وحذّرني عقابه، فلم يزل يرددها على نفسه حتّى بكى ثم نزع، فأحسن النزع وحسنت توبته وحاله، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم زل زلة فسدّدوه ووفقوه وادعوا الله تعالى له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه «1» . ما يُجادِلُ ما يخاصم ويمادي فِي آياتِ اللَّهِ بالإنكار لها إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمّد بن يعقوب حدثنا محمّد بن إسحاق حدثنا خالد بن الوليد حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: آيتان ما أشدّهما على الذين يجادلون في القرآن ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ «2» . أخبرنا عبد الله بن حامد حدثنا محمّد بن خالد حدثنا داود بن سليمان أخبرنا عبد بن حميد حدثنا الحسين بن علي الجعفي عن زائد عن ليث عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن جدالا في القرآن كفر» [155] «3» . فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ تصرفهم فِي الْبِلادِ للتجارات وبقائهم فيها مع كفرهم، فإن الله تعالى يمهلهم ولا يهملهم، نظيره: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ «4» ، ثم قال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ والكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالمخالفة والعداوة مِنْ بَعْدِهِمْ، أي من بعد قوم نوح وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ويقتلوه.
قال الفراء: كان حقه أن يقول برسولها وكذلك هي في قراءة عبد الله، ولكنه أراد بالأمة الرجال فكذلك قال: (بِرَسُولِهِمْ) ... وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا ليبطلوا ويزيلوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ من الملائكة. قال ابن عبّاس: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام. وقال: مسيرة أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش، وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفا من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفا من أهل السماء التي تليها، والتي تليها أشد خوفا من التي تليها. قال مجاهد: بين الملائكة وبين العرش سبعون حجابا من نور. أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا مخلد بن جعفر حدثنا الحسن بن علوية حدثنا إسماعيل ابن عيسى حدثنا إسحاق أخبرني مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: لمّا خلق الله حملة العرش قال لهم: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فخلق مع كل ملك منهم من أعوانهم مثل جنود من في السماوات من الملائكة ومن في الأرض من الخلق، فقال: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فخلق مع كل واحد منهم جنود سبع سماوات وسبع أرضين وما في الأرض من عدد الحصى والثرى فقال: احملوا عرشي. فلم يطيقوا، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلّا بالله. فقالوا: لا حول ولا قوة إلّا بالله استقلينا عرش ربّنا. قال: فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستقر، فكتب على قدم كل ملك اسم من أسمائه تعالى، فاستقرت أقدامهم. وروى شهر بن حوشب عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتفكروا في عظمته ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة، فإن خلقا من الملائكة يقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات وأنه ليتضاءل من عظمة الله تعالى حتّى يصير كأنه الوضيع» [156] «1» . وروى موسى بن عقبة عن محمّد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله من حملة عرشه ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مائة عام» [157] «2» .
وفي الخبر: أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة عرشه، تفضيلا لهم على سائر الملائكة، فهذه صفة حملة العرش. وأما صفة العرش: فروى لقمان بن عامر عن أبيه قال: ان الله تعالى خلق العرش من جوهرة خضراء، للعرش ألف ألف رأس زاجون ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلّا وهو يسبح بتحميده لا يسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربع مائة عام، واحتجب الله تعالى بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش بسبعين حجابا من نار، وسبعين حجابا من ظلمة، وسبعين حجابا من نور، وسبعين حجابا من در أبيض، وسبعين حجابا من ياقوت أحمر، وسبعين حجابا من زبر جد أخضر، وسبعين حجابا من ثلج، وسبعين حجابا من ماء، وسبعين حجابا من برد وما لا يعلمه إلّا الله تعالى. قال: ولكل واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه: وجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه إنسان، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة: أما جناحان فعلى وجه من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وأما جناحان فيتبوأ فيقوى بهما، ليس لهم كلام إلّا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد. وقال يزيد الرقاشي: ان لله تعالى ملائكة حول العرش يسمّون المخلصين، تجري أعينهم مثل الأنهار إلى يوم القيامة يميدون كأنما ينفضهم من خشية الله، فيقول لهم الربّ جلّ جلاله: يا ملائكتي مخافة تخيفكم؟ فيقولون: يا ربّنا لو أن أهل الأرض أطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا عليه، ما أساغوا طعاما ولا شرابا ولا انبسطوا في فرشهم، ولخرجوا إلى الصحارى يخورون كما يخور البقر «1» . يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا وهذا تفسير لقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ «2» ... رَبَّنا أي ويقولون: ربّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً نصبا على التفسير، وقيل: نصبا على النقل، أي وسعت رحمتك وعلمك كل شيء فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ دينك وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ. روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يقولون الملائكة خير من ابن
الكواء، يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ وابن الكواء يشهد عليهم بالكفر، وابن الكواء رجل من الخوارج قال: وكانوا لا يحبون الاستغفار على أحد من أهل هذه القبلة. وقال: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله للعباد الشيطان. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول: سمعت محمّد بن علي بن محمّد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول لأصحابه إذ قرأ هذه الآية: افهموا فما في العالم خيرا أرجى منه. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ في محل نصب عطفا على الهاء والميم صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. قال سعيد بن جبير: يدخل الرجل الجنّة فيقول: أين أبي أين أمي أين ولدي أين زوجي؟ فيقال: لم يعملوا مثل عملك. فيقول: كنت أعمل لي ولهم. فيقال: أدخلوهم الجنّة. وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أنواع العذاب وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم في الدّنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ اليوم أَنْفُسَكُمْ عند حلول العذاب بكم إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ. قال ابن عبّاس وقتادة والضحاك: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله تعالى في الدّنيا ثم أماتهم الموتة التي لا بدّ منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان، وهذا مثل قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «1» الآية. وقال السدي: أميتوا في الدّنيا ثم أحيوا في قبورهم، فسئلوا ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ فنصلح أعمالنا، نظيرها قوله: هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ «2» ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ في الكلام متروك استغنى بدلالة الظاهر عليه، مجازه: فأجيبوا أن لا سبيل إلى ذلك وهو العذاب والخلود في النار، بأنه إِذا دُعِيَ اللَّهُ
[سورة غافر (40) : الآيات 13 إلى 28]
وَحْدَهُ في الدّنيا كَفَرْتُمْ به وأنكرتم أن لا تكون الإلهية له خالصة، وقلتم أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ غيره. تُؤْمِنُوا تصدقوا ذلك المشرك. وسمعت بعض العلماء يقول: وإن يشرك به بعد الرد إلى الدّنيا لو كان تؤمنوا تصدقوا المشرك ذكره بلفظ الاستفهام. نظيره قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «1» فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. [سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 28] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً بإدرار الغيث وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ العبادة والطاعة وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ رَفِيعُ أيّ هو رفيع الدَّرَجاتِ يعني رافع طبقات الثواب للأنبياء والمؤمنين في الجنّة. قال ابن عبّاس: رافع السماوات وهو فوق كل شيء وليس فوقه شيء.
ذُو الْعَرْشِ خالقه ومالكه يُلْقِي الرُّوحَ ينزل الوحي، سمّاه وحيا، لأنه يحيى به القلوب كما يحيي بالأرواح الأبدان مِنْ أَمْرِهِ من قوله وقيل بأمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. قراءة العامة: بالياء أي ينذر الله تعالى. وقرأ الحسن: بالتاء، يعني لتنذر أنت يا محمّد يَوْمَ التَّلاقِ. أخبرنا أبو الحسين بن الفضل الفقيه حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا محمّد بن عبيد الله حدثنا أبو أسامة حدثنا المبرك بن فضالة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عبّاس في قوله تعالى: لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ قال: يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض. وقال قتادة ومقاتل: يلتقي فيه الخلق والخالق. ابن زيد: يتلاقى العباد. ميمون بن مهران: يلتقي الظالم والمظلوم والخصوم. وقيل: يلتقي العابدون والمعبودون. وقيل: يلتقي فيه المرء مع عمله يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ خارجون من قبورهم، ظاهرون لا يسترهم شيء لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ من أعمالهم وأحوالهم شَيْءٌ ومحل (هُمْ) رفع على الابتداء و (بارِزُونَ) خبره لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ وذلك عند فناء الخلق، وقد ذكرنا الأخبار فيه. قال الحسن: هو السائل وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه فيقول: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الذي قهر الخلق بالموت. أخبرنا شعيب أخبرنا مكي حدثنا أبو الأزهر حدثنا روح حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد، بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضّة لم يعص الله تعالى فيها قط، فأول ما تتكلم به أن ينادي مناد لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فأول ما يبدءون به من الخصومات الدماء وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي بيوم القيامة، سمّيت بذلك لأنها قريبة، إذ كل ما هو آت قريب. قال النابغة: أزف الترحل غير أن ركابنا ... لمّا تزل برحالنا وكأن قد «1»
أي: قرب، ونظيرها هذه الآية قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «1» أيّ قربت القيامة. إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ من الخوف قد زالت وشخصت من صدورهم، فتعلقت بحلوقهم فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا فليسوا سواء «2» نظيره قوله: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ «3» ... كاظِمِينَ مكروبين ممتلئين خوفا وحزنا، والكاظم الممسك للشيء على ما فيه، ومنه كظم قربته إذا شد رأسها، فهم قد أطبقوا أفواههم على ما في قلوبهم من شدة الخوف، والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن في القلب حين يضيق به. يقول العرب للبئر الضيقة وللسقاية المملوءة: ماء كظامة وكاظمة، ومنه الحديث: كيف بكم [إذا] بعجت مكة كظائم. قال الشاعر: يخرجن من كاظمة الح صن الخرب ... يحملن عبّاس بن عبد المطلب «4» ونصب كاظِمِينَ على الحال والقطع. ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ قريب وصديق، ومنه قيل للأقرباء والخاصة حامّة وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فيشفع فيهم يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ. وقال المؤرخ: فيه تقديم وتأخير مجازه أي الأعين الخائنة قال ابن عبّاس: هو الرجل يكون جالسا مع القوم، فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها. وقال مجاهد: هي نظر الأعين إلى ما نهى الله تعالى عنه. قتادة: هي همزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى ولا يرضاه. وَما تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ لأنها لا تعلم شيء ولا تقدر على شي. وقرأ أهل المدينة وأيوب: تدعون بالتاء، ومثله روى هشام عن أهل الشام والباقون: بالياء. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
قرأه العامة: بالهاء. وقرأ ابن عامر: منكم بالكاف. وكذلك هو في مصاحفهم. وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فلم ينفعهم ذلك حين أخذهم الله بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ يعني من عذاب الله من واق ينفعهم ويدفع عنهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا يعني فرعون وقومه اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث إليه موسى أعاد القتل عليهم. وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ ليصدوهم بقتل الأبناء واستحياء النساء عن متابعة موسى ومظاهرته وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إِلَّا فِي ضَلالٍ وَقالَ فِرْعَوْنُ لملائه ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منّا إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ يغير دِينَكُمْ الذي أنتم عليه بسحر أَوْ أَنْ. قرأ أبو عمر وأهل المدينة وأهل الشام وأهل مكة: وأن بغير ألف، وكذلك هي في مصاحف أهل الحرمين والشام. وقرأ الكوفيون وبعض البصريين: (أَوْ أَنْ) بالألف، وكذلك هي في مصاحف أهل العراق. وقال أبو عبيد: وبها يقرأ للزيادة التي فيها، ولأن (أو) ربما كانت في تأويل الواو، ولا تكون الواو في معنى أو. يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ. قرأ أهل المدينة والبصرة: (يُظْهِرَ) بضم الياء وكسر الهاء، و (الْفَسادَ) بنصب الدال على التعدية. ومثله روى حفص عن عاصم وهي اختيار أبي عبيد قال لقومه: يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، فكذلك يُظْهِرَ ليكون الفعلان على نسق واحد. وقرأ الآخرون: بفتح الياء والهاء ورفع الدال على اللزوم، وهي اختيار أبي حاتم. والفساد انتقاص الأمر، وأراد فرعون به تبديل الدين وعبادة غيره. وَقالَ مُوسى لما توّعده فرعون بالقتل: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ اختلفوا في هذا المؤمن.
فقال بعضهم: كان من آل فرعون، غير أنه كان آمن بموسى، وكان يكتم إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه. قال السدّي ومقاتل: كان ابن عم فرعون وهو الذي أخبر الله تعالى عنه فقال: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «1» . وقال آخرون: كان إسرائيليا، ومجاز الآية: وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون. واختلفوا أيضا في اسمه. فقال ابن عبّاس وأكثر العلماء: اسمه حزبيل. وهب بن منبه: اسمه حزيقال. ابن إسحاق: خبرل. أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمّد بن خالد أخبرنا داود بن سليمان أخبرنا عبد الواحد أخبرنا أحمد بن يونس حدثنا خديج بن معاوية عن أبي إسحاق قال: كان اسم الرجل الذي آمن من آل فرعون (حبيب) . أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ أي لأن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ من العذاب. وقال بعض أهل المعاني: أراد يصبكم كل الذي يعدكم. والعرب تذكر البعض وتريد الكل، كقول لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها «2» أي كل النفوس. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مشرك. وقال السدي: قتّال. كَذَّابٌ على الله. أخبرنا الامام أبو منصور محمّد بن عبد الله الجمشاذي حدثنا أبو العبّاس الأصم حدثنا العبّاس بن محمّد الثوري حدثنا خالد بن مخلد القطواني حدثنا سليمان بن بلال حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص قال: ما تؤول من رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيء كان أشد من أن طاف
[سورة غافر (40) : الآيات 29 إلى 37]
بالبيت فلقوه حين فرغ فأخذوا بمجامع ردائه فقالوا: أنت الذي تنهانا عمّا كان يعبد آباؤنا؟ فقال: «أنا ذاك» . فقام أبو بكر رضي الله عنه فالتزمه من ورائه وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية رافع صوته بذلك، وعيناه تسفحان حتّى أرسلوه «1» . [سورة غافر (40) : الآيات 29 الى 37] يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ غالبين مستعلين على بني إسرائيل فِي الْأَرْضِ أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ عذاب الله إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ من الرأي والنصيحة إِلَّا ما أَرى لنفسي. وقال الضحاك: ما أعلمكم إلّا ما أعلم نظيره بِما أَراكَ اللَّهُ «2» . وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مثل ما أصابهم من العذاب وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. قرأه العامة: بتخفيف الدال، بمعنى يوم ينادي المناد بالشقاوة والسعادة، إلّا أن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، إلّا أن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدا، وينادي الناس بعضهم بعضا، وينادي أصحاب الأعراف، وأهل الجنّة أهل النار، وأهل النار أهل الجنّة، وينادي حين يذبح الموت: يا أهل الجنّة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، وينادي كل قوم بأعمالهم. وقرأ الحسن: (التنادي) بتخفيف الدال واثبات الياء على الأصل.
وقرأ ابن عبّاس والضحاك: بتشديد الدال، على معنى يوم التنافر، وذلك إذا ندّوا في الأرض كما تند الإبل إذا شردت على أربابها. قال الضحاك: وذلك إذا سمعوا زفير النار ندّوا هرابا، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلّا وجدوا ملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: يَوْمَ التَّنادِ وقوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا «1» وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها «2» . يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أيّ منصرفين عن موقف الحساب إلى النار. وقال مجاهد: يعني فارّين غير معجزين. ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ناصر يمنعكم من عذابه وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب (عليه السلام) مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ أي من قبل موسى بالبينات. قال وهب: إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمّر إلى زمن موسى. وقال الباقون: هو غيره. فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مشرك مُرْتابٌ شاك الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً أي كبر ذلك الجدال مقتا كقوله: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا «3» وكَبُرَتْ كَلِمَةً «4» عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ يختم الله بالكفر عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ. وقرأ أبو عمرو وابن عامر: (قَلْبٍ) منوّنا. وقرأ الآخرون: بالإضافة «5» . [واختاره أبو حاتم وأبو عبيد] «6» ، وفي قراءة ابن مسعود: (على قلب كل متكبر جبار) . وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً قصرا. والصرح البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد، وأصله من التصريح وهو الإظهار.
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ أي طرقها وأبوابها فَأَطَّلِعَ. قرأه العامة: برفع العين نسقا على قوله: (أَبْلُغُ) . وقرأ حميد الأعرج: بنصب العين. ومثله روى حفص عن عاصم على جواب (لَعَلِّي) بالفاء. وأنشد الفراء عن بعض العرب: على صروف الدهر أو دولاتها ... يدلننا اللمّة من لماتها فتستريح النفس من زفراتها «1» بنصب الحاء على جواب حرف التمني. إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعني موسى كاذِباً فيما يقول: إن له ربّا غيري أرسله إلينا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ خسار وضلال. نظيره: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «2» .
[سورة غافر (40) : الآيات 38 إلى 57]
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 57] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ طريق الصواب يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ متعة وبلاغ، تنتفعون بها مدة ثم تزول عنكم وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ ينتفع بها. وقال السديّ: يعني لا يستجيب لأحد في الدّنيا ولا في الآخرة، فكان معنى الكلام: ليست له استجابة دعوة. وقال قتادة: ليست له دعوة مستجابة. وقيل: ليس له دعوة في الدّنيا ولا في الآخرة إلّا عبدوها، لأن الأوثان لم تأمر بعبادتها في الدّنيا، ولم تدع الربوبية وفي الآخرة تتبرأ من عابديها وَأَنَّ مَرَدَّنا مرجعنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ. قال ابن عبّاس وقتادة: يعني المشركين. وقال مجاهد: هم السفّاكون الدماء بغير حقها. وقال عكرمة: الجبارين المتكبرين. فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ إذا عاينتم العذاب حين لا ينفعكم الذكر وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ وذلك انهم توعدوه لمخالفة دينهم إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ عالم بأمورهم من المحق منهم ومن المبطل فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا. قال قتادة: نجا مع موسى وكان قبطيا. وَحاقَ نزل بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ في الدّنيا الغرق وفي الآخرة النار وذلك قوله: النَّارُ وهي رفع على البدل من السوء يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وأصل العرض اظهار الشيء.
قال قتادة: يعرضون عليها صباحا ومساء، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخا ونقمة وصغارا لهم. وقال السدي وهذيل بن شرحبيل: هو أنهم لما هلكوا جعلت أرواحهم في أجواف طير سود، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار حتى تقوم الساعة. أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الجرجاني: أن أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمّد الفزاري قال: سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال: يرحمك الله رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا، لا يعلم عددها إلّا الله تعالى، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا. قال: وفطنتم لذلك؟ قال: نعم. قال: إن تلك الطيور في حواصلها أزواج آل فرعون يعرضون على النار غُدُوًّا وَعَشِيًّا، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سودا، فنبت عليها أرياش من الليل بيض وتناثر السود، ثم تغدوا فيعرضون على النار غدوا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها، فذلك دأبهم في الدّنيا، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ. قال: وكانوا يقولون: إنهم ستمائة ألف مقاتل «1» . قال عكرمة ومحمّد بن كعب: هذه الآية تدل على عذاب القبر، لأن الله تعالى ميّز عذاب الآخرة فقال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «2» ادخلوا. قرأ أهل المدينة والكوفة إلّا أبا بكر ويعقوب: بقطع الألف وكسر الخاء من الإدخال. وقرأ الباقون: بوصل الألف وضم الخاء من الدخول «3» . وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدّنيا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ والتبع يكون واحدا وجمعا. وقال نحويو البصرة: وواحده تابع. وقال أهل الكوفة: هو جمع لا واحد له، لأنه كالمصدر وجمعه أتباع. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها.
[سورة غافر (40) : الآيات 58 إلى 74]
وقرأ ابن السميقع: (إنا كلا فيها) بالنصب، جعلها نعتا وتأكيدا ل (إِنَّا) .. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ إذا اشتد. الشعبي قال: كنية الدجال أبو يوسف «1» . [سورة غافر (40) : الآيات 58 الى 74] وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ بالتاء أهل الكوفة وغيرهم: بالياء. واختاره أبو عبيد قال: لأن أول الآيات وآخرها خبر عن قوم. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لجائية لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بها وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي وحدوني واعبدوني دون غيري أجبكم وآجركم واثيبكم واغفر لكم، هذا قول أكثر المفسرين. يدل عليه سياق الآية.
وقال بعضهم: هو الذكر والدعاء والسؤال. أخبرنا ابن فنجويه حدثنا محمّد بن الحسن حدثنا أبو بكر بن أبي الخصيب حدثني عثمان ابن خرداد حدثنا قطر بن بشير حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلها حتّى شسع نعله إذا انقطع» [158] «1» . إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي توحيدي وطاعتي، عن أكثر المفسرين. وقال السديّ: عن دعائي. أخبرنا عقيل بن محمّد أبو المعافا بن زكريا أخبرنا محمّد بن جرير حدثنا محمّد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن منصور والأعمش عن ذر عن سبع الحضرمي عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة- ثم تلا هذه الآية-: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي» [159] «2» عن دعائي. وباسناده عن ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام بن القاسم عن الأشجع قال: قيل لسفيان: ادع الله. قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء سَيَدْخُلُونَ. قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو حاتم: بضم الياء وفتح الخاء. واختلف فيه. عن أبي عمرو وعاصم غير هم ضده. جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذلِكَ كما أفكتم عن الحق مع قيام الدلائل، كذلك يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. قرأ العامة: بضم الصاد. وقرأ أبو رزين العقيلي: وَأَحْسَنَ صِوَرَكُمْ بكسر الصاد، وهي لغة. قرأه العامة: بضم الصاد. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وذلك حين دعي إلى الكفر [فأمر أن يقول هذا] .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي أطفالا، نظيره: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ «1» . ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أن يصير شيخا وَلِتَبْلُغُوا جميعا أَجَلًا مُسَمًّى وقتا محدودا لا تجاوزونه ولا تسبقونه وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ذلك فتعرفوا أن لا إله غيره فعل ذلك هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ. قال ابن زيد: هم المشركون. وقال أكثر المفسرين: نزلت في القدريّة. أخبرني عقيل بن محمّد إجازة أخبرنا المعافا بن زكريا أخبرنا محمّد بن جرير أخبرنا محمّد ابن بشار ومحمّد بن المثنى حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن داود بن أبي هند عن محمّد بن سيرين قال: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدريّة فأنا لا أدري فيمن نزلت. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ إلى قوله بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً إلى آخر الآية. وبه عن ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أبي الخير الزيادي عن أبي قبيل عن عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللين» . فقال عقبة: يا رسول الله وما أهل الكتاب؟ قال: «قوم يتعلمون كتاب الله يجادلون الذين آمنوا» . فقال: وما أهل اللين؟ فقال: «قوم يتبعون الشهوات ويضيّعون الصلوات» [160] «2» . قال أبو قتيل: لا أحسب المكذبين بالقدر إلّا الذين يجادلون الذين آمنوا، وأما أهل اللين فلا أحسبهم إلّا أهل العمود ليس عليهم إمام جماعة ولا يعرفون شهر رمضان «3» . قال محمّد بن جرير: أهل العمود الحي العظيم «4» . الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ.
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا ابن حبش المقرئ حدثنا ابن فنجويه حدثنا سلمة حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن التيمي عن أبيه قال: لو أن غلا من أغلال جهنّم وضع على جبل لوهصه حتّى يبلغ الماء الأسود. وَالسَّلاسِلُ. قرأه العامة: بالرفع، عطفا على الْأَغْلالُ. أخبرنا ابن فنجويه الدينوري حدثنا أبو علي بن حبش المقرئ حدثنا أبو القاسم بن الفضل حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي حدثني أبي عن هارون عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عبّاس أنه قرأ: وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ بنصب اللام والياء. يقول: إذا كانوا يسحبونها كان أشد عليهم. أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي حدثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي حدثنا عبد الله ابن محمّد بن عبد العزيز البغوي حدثني جدي حدثني منصور بن عمار حدثنا بشر بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منبه رفعه قال: ينشئ الله تعالى لأهل النار سحابة سوداء مظلمة فيقال يا أهل النار ما تشتهون؟ فيسألون بارد الشراب. فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم وسلاسلا تزيد في سلاسلهم وجمرا يلتهب النار عليهم. ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ أي توقد بهم النار. قال مجاهد: يصيرون وقودا للنار. ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام قالُوا ضَلُّوا عَنَّا فلا نراهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أنكروا. وقيل: جهلوا. وقال بعضهم: فيه إضمار، أي لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً ببصر وبسمع وبضر وبنفع. وقال الحسين بن الفضل: يعني لم نكن نصنع من قبل شيئا، أي ضاعت عبادتنا لها فلم نكن نصنع شيئا. قال الله سبحانه وتعالى كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ.
[سورة غافر (40) : الآيات 75 إلى 85]
[سورة غافر (40) : الآيات 75 الى 85] ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ تبطرون وتأمرون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تفخرون وتختالون وتنشطون ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن يحل بهم ذلك فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ خبرهم في القرآن وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ اللَّهُ الَّذِي تحق له العبادة هو الذي جَعَلَ خلق لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ تحمل أثقالكم في أسفاركم من بلد إلى بلد وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ نظيره وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ «1» . وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ يعني مصانعهم وقصورهم فَما أَغْنى عَنْهُمْ أيّ لم ينفعهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ وقيل: هو بمعنى الاستفهام، ومجازه: أي شيء أغنى عنهم كسبهم. فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا يعني الأمم بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ. قال مجاهد: قولهم نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث، وقيل: أشروا بما عندهم من العلم، بما كان عندهم أنه علم وهو جهل. وقال الضحاك: رضوا بالشرك الذي كانوا عليه. وقال بعضهم: هو الفرح راجع إلى الرسل يعني فرح الرسل بما عندهم من العلم بنجاتهم وهلاك أعدائهم.
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ أيّ تبرأنا ممّا كنا نعدل بالله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا عذابنا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي في نصبها ثلاثة أوجه أحدها: بنزع الخافض أيّ كسنّة الله. والثاني: على المصدر، لأن العرب تقول سنّ يسنّ سنّا وسنّة. والثالث: على التحذير والإغراء، أي احذروا سنّة الله كقوله: (ناقَةُ اللَّهِ وسُنَّةَ اللَّهِ) . قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وهي أنهم إذا عاينوا عذاب الله لم ينفعهم أيمانهم وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ بذهاب الدارين.
سورة فصلت
سورة فصّلت سورة حم السجدة: مكّية، وهي أربع وخمسون آية، وسبعمائة وست وتسعون كلمة، وثلاث آلاف وثلاثمائة وخمسون حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ بينت آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ولو كان غير عربي لما علموه. وفي نصب القرآن وجوه: أحدها: إنّه شغل الفعل علامات حتّى صارت بمنزلة الفاعل، فنصب القرآن وقوع البيان عليه. الثاني: على المدح. والثالث: على إعادة الفعل، أي فصّلنا قرآنا. والرابع: على إضمار فعل، أي ذكرنا قرآنا. والخامس: على الحال. والسادس: على القطع.
بَشِيراً وَنَذِيراً نعتان للقرآن فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يسمعونه ولا يصغون إليه وَقالُوا يعني مشركي مكّة قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ فلا نفقه ما يقول، قال مجاهد: كالجعبة للنبل وَفِي آذانِنا وَقْرٌ فلا نسمع ما يقول، وإنّما قالوا ذلك ليؤيّسوه من قبولهم لدينه وهو على التمثيل. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ خلاف في الدين، فجعل خلافهم ذلك ساترا وحاجزا لا يجتمعون ولا يوافقون من أجله ولا يرى بعضهم بعضا. فَاعْمَلْ بما يقتضيه دينك. إِنَّنا عامِلُونَ بما يقتضيه ديننا. قال مقاتل: فأعبد أنت إلهك، وإنّا عابدون آلهتنا. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ قال الحسن: علمه الله التواضع فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وجهوا وجوهكم إليه بالطاعة والإخلاص وَاسْتَغْفِرُوهُ من ذنوبكم الّتي سلفت. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ قال ابن عباس: لا يشهدون لا إله إلّا الله وهي زكاة الأنفس، وقال الحسن وقتادة: لا يقرّون بالزكاة ولا يؤمنون بها، ولا يرون إيتاءها واجبا، وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون ولا ينفقون في الطاعة. وكان يقال: الزّكاة قنطرة الإسلام، فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك، وقد كان أهل الردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: أما الصلاة فنصلي، وأما الزّكاة فو الله لا تغصب أموالنا. وقال أبو بكر «رضي الله عنه» : والله لا أفرق بين شيء جمع الله تعالى بينه والله لو منعوني عقالا ممّا فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه. وقال مجاهد والربيع: يعني لا يزكّون أعمالهم، وقال الفراء: هو أنّ قريشا كانت تطعم الحاج، فحرموا ذلك على من آمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلم. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال ابن عباس: غير مقطوع. مقاتل: غير منقوص، ومنه المنون لأنّه ينقص منه الإنسان أي قوته. مجاهد: غير محسوب، وقيل: غير ممنون به. قال السدي: نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعلمون فيه «1» . قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ الأحد والإثنين. وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها أي في الأرض بما خلق فيها من المنافع، قال السدي: أنبت شجرها. وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها قال الحسن والسدي: يعني أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وقال مجاهد وقتادة: وخلق فيها بحارها، وأنهارها، وأشجارها، ودوابها في يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، روى ابن نجيح عن مجاهد، قال: هو المطر.
قال عكرمة والضحاك: يعنيو قدر في كل بلدة منها، ما لم يجعله في الأخرى، ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد، فالسابري من سابور، والطيالسة من الري، والحبر واليمانية من اليمن، وهي رواية حصين، عن مجاهد. وروى حيان، عن الكلبي، قال: الخبز لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والذرة لأهل قطر، والسمك لأهل قطر، وكذلك أخواتها. فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يعني إنّ هذا مع الأول أربعة أيّام، كما يقول: تزوجت أمس امرأة واليوم اثنتين وأحدهما الّتي تزوجتها أمس، ويقال: أتيت واسط في خمسة والبصرة في عشرة، فالخمسة من جملة العشرة. فرد الله سبحانه الآخر على الأوّل، وأجمله في الذكر. سَواءً رفعه أبو جعفر على الابتداء، أي هي سواء، وخفضه الحسن ويعقوب على نعت قوله: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ونصبه الباقون على المصدر، أي استوت استواء، وقيل: على الحال والقطع، ومعنى الآية: سَواءً لِلسَّائِلِينَ عن ذلك، قال قتادة والسدي: من سأله عنه، فهكذا الأمر، وقيل: للسّائلين الله حوائجهم. قال ابن زيد: قدر ذلك على قدر مسائلهم، لأنّه لا يكون من مسائلهم شيء إلّا قد علمه قبل أن يكون. قال أهل المعاني: معناه سَواءً لِلسَّائِلِينَ وغير السائلين، يعني إنّه بيّن أمر خلق الأرض وما فيها لمن سأل ومن لم يسأل، ويعطي من سأل ومن لم يسأل. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي عمد إلى خلق السماء وقصد، تسويتها، والإستواء من صفة الأفعال على أكثر الأقوال، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ بخار الماء. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي جيئا بما خلقت فيكما من المنافع، وأخرجاها، وأظهراها بمصالح خلقي. قال ابن عباس: قال الله تعالى للسّماوات: اطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شقي أنهارك واخرجي ثمارك. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ولم يقل طائعتين، لأنّه ذهب به إلى السّماوات والأرض ومن فيهنّ، مجازه: أَتَيْنا بمن فينا طائِعِينَ، فلمّا وصفهما بالقول أخرجهما في الجمع مجرى ما يعقل، وبلغنا أنّ بعض الأنبياء، قال: يا ربّ لو إنّ السّماوات والأرض حين قلت لهما ائتيا طوعا أو كرها عصيناك، ما كنت صانعا بهما؟ قال: كنت آمر دابة من دوابي فتبتلعهما. قال: وأين تلك الدابة؟. قال: في مرج من مروجي. قال: وأين ذلك المرج؟ قال: في علم من علمي. وقرأ ابن عباس: آتيا وآتينا بالمد، أي أعطينا الطاعة من أنفسكما. قالتا: أعطينا.
[سورة فصلت (41) : الآيات 12 إلى 20]
[سورة فصلت (41) : الآيات 12 الى 20] فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ أي أتمهنّ وفرغ من خلقهنّ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها قال قتادة والسدي: يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها، وخلق في كلّ سماء خلقها من الملائكة والخلق الّذي فيها من البحار وجبال البرد، وما لا يعلم، وقيل: معناه وأوحى إلى أهل كلّ سماء من الأمر والنهي ما أراد. وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ كواكب. وَحِفْظاً لها من الشياطين الّذين يسترقون السمع، ونصب حفظها على المعنى، كأنّه قال: جعلها زينة وحفظا، وقيل: معناه وحفظا زيّنّاها- على توهم سقوط الواو- أي وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح حفظا لها، وقيل: معناه وحفظها حفظا. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا يعني هؤلاء المشركين، فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ خوفتكم. صاعِقَةً وقيعة وعقوبة مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ يعني عادا وثمودا الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني قبلهم وبعدهم. وأراد بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الرّسل الّذين أرسلوا إلى آباءهم من قبلهم ومن خلفهم، يعني من بعد الرّسل الّذين أرسلوا إلى آباءهم، وهو الرسول الّذي أرسل إليهم، هود وصالح (عليهما السلام) ، والكناية في قوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ راجعة إلى عاد وثمود، وفي قوله تعالى: وَمِنْ خَلْفِهِمْ، راجعة إلى الرسل. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً بدل هؤلاء الرّسل ملائكة. فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد بن محمد الأصبهاني، قرأه عليه في شوال سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، حدثنا أحمد بن نجدة بن العريان، حدثنا الجماني حدثنا ابن فضيل، عن الأجلح من الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله،
قال: قال الملأ من قريش وأبو جهل: قد التبس علينا أمر محمّد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه ثمّ أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيع: والله لقد سمعت بالشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى عليّ إن كان ذلك. فأتاه، فلما خرج إليه، قال: يا محمّد، أنت خير أم هاشم؟، أنت خير أم عبد المطلب؟، أنت خير أم عبد الله؟، فبم تشتم آلهتنا، ونضلك إيانا، فإن تتمنى الرئاسة عقدنا لك ألويتنا، فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كانت بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فلما فرغ، قرأ رسول الله (عليه السلام) : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ... إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فاحتبس عنهم عتبة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلّا قد [صبأ] إلى محمّد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلّا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فانطلقوا إليه. فأتاه أبو جهل فقال: والله يا عتبة، ما حبسك عنّا إلّا إنّك صبوت إلى محمّد، وأعجبك طعامه، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمّد. فغضب عتبة وأقسم ألّا يكلم محمّدا أبدا، وقال: والله لقد علمتم إنّي من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة، فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ... إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم إنّ محمّدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب. فَأَمَّا عادٌ يعني قوم هود. فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً وذلك إنّهم كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً أي باردة شديدة الصوت والهبوب وأصله من الصرير، فضوعف كما يقال: نهنهت وكفكفت، وقد قيل: إنّ النهر الّذي يسمّى صرصرا إنّما سمي بذلك لصوت الماء الجاري فيه. فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ متتابعات شديدات نكدات مشؤومات عليهم ليس فيها من الخير شيء، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأهل الكوفة نَحِساتٍ بكسر الحاء، غيرهم بجزمه. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا مخلد بن جعفر، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثنا مقاتل عن الضحاك في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً، قال: أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين ودامت الرياح عليهم من
غير مطر، وبه عن مقاتل، عن إبراهيم التيمي وعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: إذا أراد الله بقوم خيرا، أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح، وإذا أراد الله بقوم شرّا حبس عنهم المطر وأرسل عليهم كثرة الرياح. لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى لهم وأشد إذلالا وإهانة. وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب، ثمود بالرفع والتنوين، وكانا يجران ثمودا في القرآن كله إلّا قوله: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ «1» ، فإنّهما كانا لا يجرانه هاهنا من أجل إنّه مكتوب في المصحف هاهنا بغير ألف، وقرأ ابن أبي إسحاق وَأَمَّا ثَمُودَ منصوبا غير منون، وقرأ الباقون مرفوعا غير منون. فَهَدَيْناهُمْ دعوناهم وبيّنا لهم. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فاختاروا الكفر على الإيمان. فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ مهلكة. الْعَذابِ الْهُونِ أي الهوان، ومجازه: ذي هون. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ يبعث ويجمع، وقرأ نافع ويعقوب نَحْشُرُ بنون مفتوحة وضم الشين. أَعْداءَ اللَّهِ نصبا. إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يساقون ويدفعون إلى النّار، وقال قتادة والسدي: يحبس أولهم على آخرهم. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ أي بشراتهم. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وقال السدي وعبيد الله ابن أبي جعفر: أراد بالجلود الفروج. وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوين: المرء يسعى للسلامة والسلامة حسبه ... أو سالم من قد تثنى جلده وأبيض رأسه «2» وقال: جلده كناية عن فرجه.
[سورة فصلت (41) : الآيات 21 إلى 32]
[سورة فصلت (41) : الآيات 21 الى 32] وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَقالُوا يعني الكفّار الّذين يحشرون إلى النّار. لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ حدثنا عقيل بن محمّد: إنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمّد بن جرير، حدثنا أحمد بن حازم الغفاري، أخبرنا علي بن قادم الفزاري، أخبرنا شريك، عن عبيد المكيت، عن الشعبي، عن أنس، قال: ضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم حتّى بدت نواجذه، ثمّ قال: «ألّا تسألوني ممّ ضحكت» . قالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: «عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، قال: يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: فإنّ لك ذاك. قال: فإنّي لا أقبل عليّ شاهدا، إلّا من نفسي. قال: أو ليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال: فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل» . قال: «فيقول لهنّ بعدا لكنّ وسحقا عنكنّ كنت أجادل» [161] «1» . قال الله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أي تستخفون في قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد: تتقون. قتادة: تظنون. أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أخبرنا الحسين بن محمّد ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون وعبد الله بن عبد الرّحمن الوراق، قالا: حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن كثير وأبو حذيفة، قالا: حدثنا سفيان عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود، قال: إنّي لمستتر بأستار الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر، ثقفي وختناه قريشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فحدّثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر: إذا رفعنا يسمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا فإنّه يسمع إذا خفضنا. فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك، فأنزل الله تعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ... إلى قوله: فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ والثقفي عبد ياليل وختناه القريشيان ربيعة وصفوان بن أمية. وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ أهلككم. فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ قال قتادة: الظنّ هاهنا بمعنى العلم، وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا يموتنّ أحدكم، إلّا وهو يحسن الظنّ بالله، وإنّ قوما أساءوا
الظنّ بربّهم فأهلكهم» [162] «1» فذلك قوله: وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ ... الآية. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه الدينوري، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا عبد الله بن العباس الطيالسي، حدثنا أحمد بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزياد عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني» [163] «2» . وقال قتادة: من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظنّ بربّه فليفعل، فإنّ الظنّ اثنان: ظنّ ينجي، وظنّ يردي، وقال محمّد بن حازم الباهلي: الحسن الظنّ مستريح ... يهتم من ظنّه قبيح من روح الله عنه ... هبّت من كلّ وجه ريح لم يخب المرء عن منح ... سخاء وإنّما يهلك الشحيح فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يسترضوا ويطلبوا العتبى. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المرضيين، والمعتّب الّذي قبل عتابة وأجيب إلى ما يسأل، وقرأ عبيد بن عمير وَإِنْ تُسْتَعْتَبُوا على لفظ المجهول فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ بكسر التاء، يعني إن سألوا أن يعملوا ما يرضون به ربّهم فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي ما هم بقادرين على إرضاء ربّهم لأنهم فارقوا دار العمل. وَقَيَّضْنا سلّطنا وبعثنا ووكلنا. لَهُمْ قُرَناءَ نظراء من الشياطين. فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدّنيا حتّى آثروه على الآخرة. وَما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث. وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ مع أمم. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من مشركي قريش. لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ قال ابن عباس: يعني والغطوا فيه، كان بعضهم يوصي إلى بعض، إذا رأيتم محمدا يقرأ، فعارضوه بالزجر والابتعاد. مجاهد وَالْغَوْا فِيهِ بالمكاء والصفير وتخليط في المنطق على رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قرأ. قال الضحاك: أكثروا الكلام فيختلط عليه القول. السدي: صيحوا في وجهه.
مقاتل: ارفعوا أصواتكم بالأشعار والكلام في وجوههم حتّى تلبسوا عليهم قولهم، فيسكتوا. أبو العالية: قعوا فيه وعيبوه. وقرأ عيسى بن عمرو الْغُوا فِيهِ بضم الغين. قال الأخفش: فتح الغين، كان من لغا يلغا مثل طغا يطغا، ومن ضم الغين من لغا يلغوا مثل دعا يدعوا. لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ محمدا على قراءته. فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ أقبح. الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ في الدّنيا. ذلِكَ الّذي ذكرت. جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ ثمّ بيّن ذلك الجزاء ما هو، فقال: النَّارُ أي هو النّار لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ فقد ذكر إنّها في قراءة ابن عباس ذلك جزاء أعداء الله النّار دار الخلد، ترجم بالدار عن النّار، وهو مجاز الآية. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وهو إبليس الأبالسة. وَالْإِنْسِ وهو ابن آدم الّذي قتل أخاه. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا في النّار. لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ في الدرك الأسفل لأنهما سنا المعصية. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أخبرنا الحسين بن محمد الثقفي بقراءتي عليه، حدثنا الفضل الكندي، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الزيدي العسكري، حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبو قتيبة سلمة بن قتيبة، حدثنا سهل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قال: من مات عليها، فهو ممّن استقام «1» . أخبرنا الحسين بن محمد بن الثقفي بقراءتي عليه، حدثنا عبيد بن محمد بن شنبه، حدثنا جعفر ابن الفربابي، حدثنا محمد بن الحسن البلخي، أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن عمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثُمَّ اسْتَقامُوا قال: لم يشركوا بالله شيئا. أخبرنا ابن فنجويه الثقفي، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا يونس، عن الزهري إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال وهو يخطب النّاس على المنبر: الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فقال: استقاموا على طريقة الله بطاعته، ثمّ لم يروغوا روّغان الثعالب، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: يعني أخلصوا العمل الله، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أدّوا الفرائض. ابن عباس استقاموا على أداء فرائضه. أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا
محمد بن موسى الحلواني، حدثنا إسماعيل بن بشر بن منصور، حدثنا مسكين أبو فاطمة عن شهر بن حوشب، قال: قال الحسن: وتلا هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فقال: استقاموا على أمر الله تعالى، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته. مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلّا الله، حتّى لحقوا به. قتادة وابن زيد: استقاموا على عبادة الله وطاعته، ابن سيرين: لم يعوجوا، سفيان الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. مقاتل بن حيان: استقاموا على المعرفة ولم يرتدوا. مقاتل بن سليمان: استقاموا على إنّ الله ربّهم. ربيع: أعرضوا عما سوى الله تعالى. فضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. بعضهم: استقاموا إسرارا كما استقاموا إقرار، وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا. روى ثابت عن أنس إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم، قال لما نزلت هذه الآية: «أمتي وربّ الكعبة» [164] «1» . أخبرنا الحسن بن محمد الثقفي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي وأحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم السني، قالا: حدثنا أبو خليفة الفضل بن حيان الجمحي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، عن سفيان بن عبد الله الثقفي. قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به، فقال: «قل ربّي الله ثمّ استقم» قال: قلت: ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلسان نفسه، وقال: «هذا» [165] «2» . وروي إنّ وفدا أقدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم القرآن، ثمّ بكى، فقالوا: أمن خوف الّذي بعثك تبكي؟ قال: «نعم، إنّي قد بعثت على طريق مثل حد السيف، إن استقمت نجوت، وإن زغت عنه هلكت» [166] «3» . وقال قتادة: كان الحسن إذا تلا هذه الآية، قال: اللهم أنت ربّنا فارزقنا الاستقامة. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا قال قتادة: إذا قاموا من قبورهم. قال وكيع بن الجراح البسري: تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وفي البعث، ألّا يخافوا ولا يحزنوا. قال أبو العالية: لا تَخافُوا على صنيعكم وَلا تَحْزَنُوا على مخلفكم. مجاهد: لا تَخافُوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتم في دنياكم من أهل وولد ونشيء، فإنّا نخلفكم في ذلك كله. السدي: لا تَخافُوا ما أمامكم، وَلا تَحْزَنُوا على ما بعدكم. عطاء بن رباح: لا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا على ذنوبكم، فإنّي أغفرها لكم. وقال أهل اللسان في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا بالوفاء على ترك
الجفاء تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ بالرضا أَلَّا تَخافُوا من العناء وَلا تَحْزَنُوا على الفناء، وَأَبْشِرُوا بالبقاء مع الّذين كنتم توعدون من اللقاء، لا تَخافُوا فلا خوف على أهل الاستقامة، وَلا تَحْزَنُوا فإن لكم أنواع الكرامة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار السلامة. لا تَخافُوا فعلى دين الله استقمتم، وَلا تَحْزَنُوا فبحبل الله اعتصمتم، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ وإن ارتبتم وأحزنتم، لا تَحْزَنُوا فطالما رهبتم، وَلا تَحْزَنُوا فقد نلتم ما طلبتم، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي فيها رغبتم، لا تَخافُوا فأنتم أهل الإيمان، وَلا تَحْزَنُوا فأنتم أهل الغفران، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الرضوان، لا تَخافُوا فأنتم أهل الشهادة، وَلا تَحْزَنُوا فأنتم أهل السعادة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الزيادة، لا تَخافُوا فأنتم أهل النوال، وَلا تَحْزَنُوا فأنتم أهل الوصال، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الجلال، لا تَخافُوا فقد أمنتم الثبور وَلا تَحْزَنُوا فقد آن لكم الحبور وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار السرور، لا تَخافُوا فسعيكم مشكور وَلا تَحْزَنُوا فذنبكم مغفور، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار النون، لا تَخافُوا فطالما كنتم من الخائفين، وَلا تَحْزَنُوا فقد كنتم من العارفين، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي عجز عنها وصف الواصفين، لا تَخافُوا فلا خوف على أهل الإيمان، وَلا تَحْزَنُوا فلستم من أهل الحرمان، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الإيمان، لا تَخافُوا فلستم من أهل الجحيم، وَلا تَحْزَنُوا فقد وصلتم إلى الربّ الرحيم، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار النعيم، لا تَخافُوا فقد زالت عنكم المخافة، وَلا تَحْزَنُوا فقد سلمتم من كلّ آفة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الضيافة، لا تَحْزَنُوا العزل عن الولاية، وَلا تَحْزَنُوا على ما قدمتم من الخيانة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي هي دار الهداية، لا تَخافُوا حلول العذاب، وَلا تَحْزَنُوا من هول الحساب وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي دار الثواب. لا تَخافُوا فأنتم سالمون من العقاب، وَلا تَحْزَنُوا فأنتم واصلون إلى الثواب، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ فإنها نعم المآب. لا تَخافُوا فأنتم أهل الوفاء وَلا تَحْزَنُوا على ما كسبتم من الجفاء وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ فإنها دار الصفاء لا تَخافُوا فقد سلمتم من العطب، وَلا تَحْزَنُوا فقد نجوتم من النصب، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ فإنّها دار الطرب. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ تقول لهم الملائكة الّذين تتنزل عليهم بالبشارة: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ وأنصاركم وأحبّاءكم، فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قال السدي: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ يعني نحن الحفظة الّذين كنا معكم في الدّنيا، ونَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ ... فِي الْآخِرَةِ. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا ابن خالد، أخبرنا داود بن عمرو الضبّي أخبرنا إبراهيم ابن الأشعث عن الفضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ . قال: قرناؤهم الّذين كانوا معهم في الدّنيا، فإذا كان يوم القيامة، قالوا: لن نفارقكم حتّى ندخلكم الجنّة. وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ تريدون وتسألون وتتمنون، وأصل الكلمة إنّ ما تدّعون إنّه لكم، فهو لكم بحكم ربّكم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 33 إلى 54]
نُزُلًا أي جعل ذلك رزقا. مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ. [سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 54] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ إلى طاعة الله. وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال ابن سيرين والسدي وابن زيد: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال مقاتل: هو جميع الأئمّة والدعاة إلى الله تعالى، وقال عكرمة: هو المؤذن. قال أبو أمامة الباهلي: وَعَمِلَ صالِحاً يعني صلّى ركعتين بين الآذان والإقامة.
أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا حاجب بن أحمد بن يرحم بن سفيان، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا وكيع، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصاني عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنّي لأرى هذه الآية نزلت وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ.. الآية في المؤذنين. وروى جرير بن عبد الحميد عن فضيل بن رفيدة، قال: كنت مؤذنا في زمن أصحاب عبد الله، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أذّنت وفرغت من آذانك، فقل: الله أكبر الله أكبر لا إله إلّا الله، وأنا من المسلمين، ثمّ أقرأ هذه الآية: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ قال الفراء: ولا هاهنا صلة معناه ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، وأنشده: ما كان يرضي رسول الله فعلهما ... والطيبان أبو بكر وعمر «1» أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ قريب صديق، قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان مؤذيا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فصار له وليّا، بعد أن كان عدوا. نظيره قوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً «2» ، قال ابن عباس: أمر الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها يعني هذه الخصلة والفعلة. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ في الخير والثواب، وقيل: ذو حظ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك وأقوالك. الْعَلِيمُ بأفعالك وأحوالك. وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إنما قال خلقهنّ بالتأنيث لأنّه أجرى على طريق جمع التكسير، ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث لأنّه فيما لا يعقل. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن السجود. فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني الملائكة. يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ. لقوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ «3» . وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة دارسة لا نبات فيها. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا أي يميلون عن الحقّ في أدلتنا.
قال ابن عباس: هو تبديل الكلام ووضعه في غير موضعه، وقال مجاهد: يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط. قتادة: يعني يكذبون في آياتنا. السدي: يعاندون ويشاققون. ابن زيد: يشركون ويكذبون. قال مقاتل: نزلت في أبي جهل لعنه الله. لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ أبو جهل. خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ عثمان بن عفان وقيل: عمار بن ياسر اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أمر وعيد وتهديد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم فيجازيكم به. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بالقرآن. لَمَّا جاءَهُمْ حين جاءهم. وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ كريم على الله عن ابن عباس، وقال مقاتل: منيع من الشّيطان والباطل. السدي: غير مخلوق. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ قال قتادة والسدي: يعني الشيطان. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. فلا يستطيع أن يغيّر أو يزيد أو ينقص، وقال سعيد بن جبير: يعني لا يَأْتِيهِ النكير مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، وقيل: لا يأتيه ما يبطله أو يكذّبه من الكتب المتقدّمة، بل هو موافق لها مصدّق ولا يجيء بعده كتاب يبطله وينسخه، بل هو موافق لها مصدق. عن الكلبي. تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ما يُقالُ لَكَ من الأذى. إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلم إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لمن تاب. وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لمن أصر. وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا بغير لغة العرب. لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ بيّنت. آياتُهُ بلغتنا حتّى نفقهها، فإنّا قوم عرب، ما لنا وللأعجمية. ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ يعني أكتاب أعجميّ ونبي عربي. قال مقاتل: وذلك إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كان يدخل على يسار غلام ابن الحضرمي وكان يهوديا أعجميّا ويكنى (أبا فكيهة) ، فقال المشركون: إنّما يعلّمه يسار، فأخذه سيده عامر بن الحضرمي، وضربه، وقال: إنّك تعلم محمدا. فقال يسار: هو يعلمني. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقرأ الحسن: أعجمي بهمزة واحدة على الخبر، وكذلك رواه هشام عن أهل الشام. ووجهه ما روى جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميّا وعربيّا حتّى تكون بعض آياته أعجميّا وبعضها عربيّا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل في القرآن بكلّ لسان، فمنه السجيل، وهي فارسية عربت سنك وكل، والقراءة الصحيحة قراءة العامة بالاستفهام على التأويل الأول. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن سلام، حدثنا حجاج بن أيوب، عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سلمان بن قتيبة، عن ابن عباس ومعاوية وعمرو ابن العاص، إنّهم كانوا يقرءون هذه الحروف بكسر الميم
وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، وقرأه الباقين بفتح الميم على المصدر، واختاره أبو عبيد، قال: لقوله: هُدىً وَشِفاءٌ فكذلك عَمًى مصدر مثلها، ولو إنّها هاد وشاف لكان الكسر في عمى أجود ليكون نعتا مثلهما. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال بعض أهل المعاني: قوله: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ خبر لقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، وحديث عن محمد بن جرير، قال: حدثني شيخ من أهل العلم، قال: سمعت عيسى بن عمر سأل عمرو بن عبيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ، أين خبره؟ فقال عمرو: معناه في التفسير إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ كفروا به وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ فقال عيسى بن عمر: أجدت يا أبا عثمان. وقوله تعالى: يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ مثل لقلت استماعهم وانتفاعهم بما يوعظون به، كأنهم ينادون إلى الإيمان وبالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فمؤمن به وكافر، ومصدّق ومكذّب. كما أختلف قومك في كتابك. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ من عذابهم وعجل إهلاكهم. وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ فإنّه لا يعلمه غيره، وذلك إنّ المشركين، قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: لئن كنت نبيا، فأخبرنا عن الساعة متى قيامها؟، ولئن كنت لا تعلم ذلك فإنّك لست بنبيّ. فانزل الله تعالى هذه الآية. وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ من صلة ثمرات، بالجمع أهل المدينة والشام، غيرهم ثمرة على واحدة. مِنْ أَكْمامِها أوعيتها، واحدتها كمة، وهي كلّ ظرف لمال أو وغيره، وكذلك سمّي قشرة الكفري، أي الذي ينشق عن الثمرة كمه. قال ابن عباس: يعني الكفري قبل أن ينشق، فإذا انشقت فليست بأكمام. وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ يقول إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ كما يردّ إليه علم الثمار والنتاج. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ يعني ينادي الله تعالى المشركين. أَيْنَ شُرَكائِي الّذين تزعمون في الدّنيا إنّها آلهة. قالُوا يعني المشركين، وقيل: الأصنام، يحتمل أن يكون القول راجعا إلى العابدين وإلى المعبودين أيضا آذَنَّاكَ أعلمناك وقيل: أسمعناك. ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ شاهد إنّ لك شريك لما عاينوا القيامة تبرؤا من الأصنام، وتبرأ الأصنام منهم وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ في الدنيا. وَظَنُّوا أيقنوا. ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب، و (ما) هاهنا حرف وليس باسم، فلذلك لم يعمل فيه الظنّ، وجعل الفعل ملقى.
لا يَسْأَمُ يمل. الْإِنْسانُ يعني الكافر. مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ أي من دعائه بالخير ومسألته ربّه، ودليل هذا التأويل، قراءة عبد الله لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ من دعائه بالخير، أي بالصحّة والمال. وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ من روح الله. قَنُوطٌ من رحمته. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً عافية ونعمة. مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ شدة وبلاء أصابته. لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي بعملي، وأنا محقوق بهذا. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا عبد الله بن ثابت، حدثنا أبو سعيد الكندي، حدثنا أحمد بن بشر، عن أبي شرمة، عن الحسن بن محمد بن علي أبي طالب، قال: الكافر في أمنيتين، أما في الدّنيا، فيقول: لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى، وأما في الآخرة، فيقول الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً .. فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شديد. وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض كلاهما في الكثرة، يقال: أطال فلان الكلام والدعاء، وأعرض إذا أكثر. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ القرآن. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ قال ابن عباس: يعني منازل الأمم الخالية. وَفِي أَنْفُسِهِمْ بالبلاء والأمراض، وقال المنهال والسدي: فِي الْآفاقِ يعني ما يفتح لمحمد صلّى الله عليه وسلم من الآفاق، وَفِي أَنْفُسِهِمْ: مكّة، وقال قتادة: فِي الْآفاقِ يعني وقائع الله تعالى في الأمم، وَفِي أَنْفُسِهِمْ، يوم بدر. عطاء وابن زيد: فِي الْآفاقِ يعني أقطار الأرض والسّماء من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار والبحار والأمطار، وَفِي أَنْفُسِهِمْ من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وسبيل الغائط والبول، حتّى إنّ الرجل ليأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج ما يأكل ويشرب من مكانين. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ يعني إنّ ما نريهم ونفعل من ذلك هو الحقّ، وقيل: إنّه يعني الإسلام، وقيل: محمد صلّى الله عليه وسلم، وقيل: القرآن أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.
سورة الشورى
سورة الشّورى سورة حم عسق مكّية، وهي ثلاث وخمسون آية، وثمانمائة وستّ وستّون كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفا أخبرنا سعيد بن محمد بن محمد المقري، أخبرنا محمد بن جعفر بن محمد الحبري، حدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي، حدثنا سلام بن سليم المدائني، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة الباهلي عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة حم. عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له» [167] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) حم عسق سمعت أبا إسحاق يقول: سمعت أبا عثمان بن أبي بكر المقري الزعفراني، يقول: سمعت شيخي يقول: سمعت أبا بكر المؤمن يقول: سألت الحسين بن الفضل لم قطّع حم عسق ولم تقطّع كهيعص، والمر والمص؟. قال: لكونها من سور أوائلها حم، فجرت مجرى نظائرها، قبلها وبعدها، وكان حم مبتدأ، وعسق خبره، ولأنّها آيتان، وعدت أخواتها الّتي كتبت موصولة آية واحدة. وقيل: لأنّ أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها، إنّها حروف التهجي لا غيره، واختلفوا في حم، فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلوها فعلا، وقالوا، معناه حم، أي قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فأمّا تفسيرها أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه: إنّ أبا الفرج المعافى بن زكريا القاضي، أخبرهم عن محمد بن جرير، حدثني أحمد، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، عن أرطأة بن المنذر، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له وعنده حذيفة بن اليمان: أخبرني عن تفسير قول الله تعالى: حم عسق قال: فأطرق ثمّ أعرض عنه، ثمّ كرّر مقالته، فلم يجيبه بشيء، وكرّر مقالته، ثمّ كرّر الثالثة، فلم يجيبه شيئا، فقال له حذيفة: أنا أنبئك بها، قد عرفت لم كرهها، نزلت في رجل من أهل بيته، يقال له: عبد الإله أو عبد الله، ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا، فإذا أذن الله تعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدّتهم، بعث الله تعالى على إحداهما نارا ليلا، فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كلّها لم تكن مكانها، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت، فما هو إلّا بياض يومها ذلك حتّى يجمع فيها كلّ جبّار عنيد منهم، ثمّ يخسف الله تعالى بها وبهم جميعا، فذلك قوله تعالى: حم عسق. يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء حم عسق عدلا منه، سين سيكون فتنة، قاف واقع بهما- بهاتين المدينتين. ونظير هذا التفسير ما أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن مخلة، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي، حدثنا عمار بن سيف الضبي أبو عبد الرّحمن، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي عن جرير بن عبد الله، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصّراة تجتمع فيها جبابرة أهل الأرض، تجبى إليها الخزائن، يخسف بها، وقال مرة: يخسف بأهلها، فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الحديد في الأرض الرخوة. وذكر عن ابن عباس إنّه كان يقرأ (حم سق) بغير عين، ويقال: إنّ السين فيها كلّ فرقة كائنة، وإنّ القاف كلّ جماعة كائنة، ويقول: إنّ عليا إنّما كان يعلم الفتن بهما ، وكذلك هو في مصحف عبد الله (حم سق) . وقال عكرمة: سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: حم عسق. فقال: (ح) حلمه، (م) مجده، (عين) علمه، (سين) سناه، (ق) قدرته، أقسم الله تعالى بها. وفي رواية أبي الجوزاء إنّ ابن عباس، قال لنافع: (عين) فيها عذاب، (سين) فيها مسخ، (ق) فيها قذف. يدلّ عليه ما روي في حديث مرفوع إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجهه، فقيل له: ما هذه الكآبة يا رسول الله؟ قال: أخبرت ببلاء ينزل في أمتي. من خسف ومسخ وقذف، ونار تحشرهم وريح تقذفهم في اليم، وآيات متتابعات متصلة بنزول عيسى (عليه السلام) ، وخروج الدجال.
وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح: (ح) حرب يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش، ثمّ تقضى إلى العرب، ثمّ تقضى إلى العجم، ثمّ تمتد إلى خروج الدجال. وقال عطاء: (ح) حرب في أهل مكّة يجحف بهم حتّى يأكلون الجيف وعظام الموتى، (م) ملك يتحول من قوم إلى قوم (ع) عدو لقريش قصدهم، (س) سيء يكون فيهم، (ق) قدرة الله النافذة في خلقه. وقال بكر بن عبد الله المزني: (ح) حرب تكون بين قريش والموالي، فتكون الغلبة لقريش على الموالي، (م) ملك بني أمية، (ع) علو ولد العبّاس، (سين) سناء المهدي (ق) قوة عيسى (عليه السلام) حين ينزل، فيقتل النصارى ويخرب البيع «1» . وقال محمد بن كعب: أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناءه وقدرته، أن لا يعذب من عاد إليه بلا إله إلّا الله مخلصا له من قلبه، وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير: (ح) من رحمن، (م) من مجيد، (عين) من عالم، (سين) من قدوس، (ق) من قاهر. السدي: هو من الهجاء المقطع، (عين) من العزيز، (سين) من السلام، (ق) من القادر. وقيل: هذا في شأن محمد صلّى الله عليه وسلم (فالحاء) حوضه المورود، و (الميم) ملكة الممدود، و (العين) عزه الموجود، و (السين) سناؤه المشهود، و (القاف) قيامه في المقام المحمود، وقربه في الكرامة إلى المعبود. وقال ابن عباس: ليس من نبيّ صاحب كتاب إلّا وقد أوحيت حم عسق إليه، فلذلك، قال: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ قرأ ابن كثير بفتح الحاء ومثله روى عباس، عن ابن عمرو ورفع الاسم بالبيان، كأنّه قال: يوحي إليك. قيل: من الّذي يوحي؟ قال: الله، وهي كقراءة من قرأ يُسَبَّحُ لَهُ فِيها «2» بفتح الباء، الباقون بكسره. وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وقال مقاتل: نزل حكمها على الأنبياء (عليهما السلام) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ أي من عظمة الله وجلاله فوقهنّ. قال ابن عباس: تَكادُ السَّماواتُ كلّ واحدة منها تتفطّر فوق الّتي تليها من قول المشركين، اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً «3» : نظيره قوله: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «1» . وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من المؤمنين بيانها ويستغفرون للّذين آمنوا أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قال الحكماء: وعظّم في الابتداء، ثمّ بشّر وألطف في الانتهاء. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ يحفظ أعمالهم ويحصي عليهم أفعالهم ليجازيهم بها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ إن عليك إلّا البلاغ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى مكّة، يعني أهلها. وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي بيوم الجمع. لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ أي منهم فريق فِي الْجَنَّةِ فضلا وهم المؤمنون. وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ عدلا وهم الكافرون. أخبرنا الإمام أبو منصور الجمشاذي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو عثمان سعيد ابن عثمان بن حبيب السوحي، حدثنا بشر بن مطر، حدثني سعيد بن عثمان، عن أبي راهويه جدير بن كريب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص- وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يفضّل عبد الله على أبيه- أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبي، حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا ليث، حدثني أبو قبيل حيّ بن هانئ المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو، قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ذات يوم، قابضا على كفيه ومعه كتابان، فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان» ؟، قلنا: لا يا رسول الله. فقال للّذي في يده اليمنى: هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنّة وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم، ولا ناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة» [168] ، ثمّ قال للّذي في يساره: «هذا كتاب من ربّ العالمين، بأسماء أهل النار وأسماء آباءهم وعشائرهم وعدتهم، قبل أن يستقروا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقروا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة» . فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل؟، إذ قال: «اعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنّة يختم له بعمل أهل الجنّة وأن عمل أي عمل، وإنّ صاحب النّار يختم له بعمل أهل النّار وإن عمل، أي عمل» [169] «2» . ثمّ قال: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ عدل من الله تعالى.
[سورة الشورى (42) : الآيات 8 إلى 22]
[سورة الشورى (42) : الآيات 8 الى 22] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً على ملّة واحدة. وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ الكافرون. ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ لا سواه. وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى مجازه: لأنّه يحيي الموتى. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ في الدين. قَدِيرٌ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ في الدين. فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً حلائل- وإنّما قال مِنْ أَنْفُسِكُمْ لأنّه خلق حواء من ضلع آدم- وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ يخلقكم ويعيشكم فِيهِ أي في الرحم، وقيل: في البطن، وقيل: في الروح، وقيل: في هذا الوجه من الخليقة. قال مجاهد: نسلا بعد نسل، ومن الأنعام، وقيل: (في) بمعنى الباء، أي يذرؤكم به، قال ابن كيسان: يكثركم. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ المثل صلة ومجازه: ليس كهو شيء، فأدخل المثل توكيدا للكلام،
كقوله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ «1» وفي حرف ابن مسعود، فإن آمنوا بما آمنتم به وقال أوس بن حجر: وقتلى كمثل جذوع النخيل ... يغشاهم مطر منهمر «2» أي كجذوع، وقال [آخر] «3» سعد بن زيد: إذا أبصرت فضلهم ... كمثلهم في النّاس من أحد «4» وقال آخر: ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل «5» وقيل: (الكاف) صلة مجازه: ليس مثله، كقول الراجز: وصاليات ككما [يؤثفين] فأدخل على الكاف كافا تأكيدا للتشبيه، وقال آخر: [تنفي الغياديق على الطريق ... قلص عن كبيضة في نيق] «6» فأدخل الكاف مع عن. وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وهو أول أنبياء الشريعة. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى فاختلفوا في وجه الآية، فقال قتادة: تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم: تحريم الأخوات والأمهات والبنات، وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبيا إلّا أوصاه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة. فذلك دينه الذي شرع لهم، وهي رواية الوالي عن ابن عباس، وقيل: الدين التوحيد، وقيل: هو قوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ بعث الأنبياء كلّهم بإقامة الدّين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ من التوحيد ورفض الأوثان. ثمّ قال عزّ من قائل: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فيستخلصه لدينه. وَما تَفَرَّقُوا يعني أهل الأديان المختلفة، وقال ابن عباس: يعني أهل الكتاب. دليله
ونظيره في سورة المنفكّين إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ «1» . إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ من قبل بعث محمد وصفته. بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ تأخير العذاب. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعذاب. وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد الأمم الخالية، وقال مجاهد: معناه من قبلهم أي من قبل مشركي مكّة وهم اليهود والنصارى. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذلِكَ أي فإلى ذلك الّذين أوتوا الكتاب. فَادْعُ كقوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «2» أي إليها وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ اثبت على الدين الذي به أمرت وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي أن أعدل أو كي أعدل، كقوله: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «3» . قال ابن عباس: لأسوي بينكم في الدّين، وأؤمن بكلّ كتاب وكلّ رسول، وقال غيره: لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في جميع الأحوال والأشياء. قال قتادة: أمر نبي الله صلّى الله عليه وسلم أن يعدل، فعدل حتّى مات، والعدل ميزان الله تعالى في الأرض ، وذكر لنا إنّ داود (عليه السلام) ، قال: ثلاث من كنّ فيه فهو الفائز: القصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب، والحسنة في السرّ والعلانية، وثلاث من كنّ فيه أهانته: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه، وأربع من أعطيهنّ، فقد أعطي خير الدّنيا والآخرة: لسان ذاكر، وقلب شاكر، وبدن صابر، وزوجة مؤمنة. اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ لا خصومة. بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ نسختها آية القتال. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا لفصل القضاء. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ يخاصمون. فِي اللَّهِ في دين الله نبيه. مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب له النّاس، فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته، وقيام حجته. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ باطلة زائلة. عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ قال مجاهد: نزلت في اليهود والنصارى. قالوا: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى بالحقّ. اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ أي العدل عن ابن عباس وأكثر المفسرين. مجاهد: هو الّذي يوزن به، ومعنى إنزال الميزان: إلهامه الخلق للعمل به، وأمره بالعدل والإنصاف، كقوله: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً «4» . وقال علقمة: الميزان محمد صلّى الله عليه وسلم، يقضي بينهم بالكتاب. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ
ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي، ومجازها الوقت، وقال الكسائي: إيتائها قريب. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها ظنّا منهم إنها غير جائية. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون منها. وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ قال ابن عباس: حفي بهم. عكرمة: بارّ بهم. السدي: رقيق. مقاتل: لطيف بالبر والفاجر منهم، حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم. القرظي: لطيف بهم في العرض والمحاسبة. قال الخوافي: غدا عند مولى الخلق، للخلق موقف يسألهم فيه الجليل، فيلطف بهم الصادق في الرزق من وجهين: أحدهما: إنّه جعل رزقك من الطيبات، والثاني: إنّه لم يدفعه إليك بمرة واحدة، وقيل: الرضا بالتضعيف. الحسين بن الفضل: في القرآن وتيسيره. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عاد البغدادي يقول: سئل جنيد عن اللطيف، فقال: هو الّذي لطف بأوليائه حتّى عرفوه، فعبدوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه. وقال محمد بن علي الكتاني: اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا أيس من الخلق، توكل عليه ورجع إليه فحينئذ يقبله ويقبل عليه، وفي هذا المعنى أنشدنا أبو إسحاق الثعلبي، قال: أنشدني أبو القاسم الحبيبي. قال أنشدني أبي، قال: أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهّاب الثقفي: أمر بافناء القبور كأنّني ... أخو فطنة والثواب فيه نحيف ومن شق فاه الله قدّر رزقه ... وربّي بمن يلجأ إليه لطيف «1» وقيل: اللطيف الّذي ينشر من عباده المناقب، ويستر عليه المثالب، وقيل: هو الّذي يقبل القليل، ويبذل الجزيل، وقيل: هو الّذي يجبر الكسير، وييسر العسير، وقيل: هو الّذي لا ييأس أحد في الدنيا من رزقه، ولا ييأس مؤمن في العفو من رحمته. وقيل: هو الّذي لا يخاف إلّا عدله، ولا يرجى إلّا فضله، وقيل: هو الّذي يبذل لعبده النعمة، فوق الهمّة ويكلفه الطاعة دون الطاقة، وقيل: هو الّذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه، وقيل: هو الّذي لا يرد سائله ولا يؤيّس آمله، وقيل: هو الّذي يعفو عمن يهفو، وقيل: هو الّذي يرحم من لا يرحم نفسه، وقيل: هو الّذي يعين على الخدمة، ثم يكثر المدحة، وقيل: هو الّذي أوقد في أسرار عارفيه من المشاهدة سراجا، وجعل الصراط المستقيم لها منهاجا، وأنزل عليهم من سحائب بره ماءا ثجاجا.
[سورة الشورى (42) : آية 23]
يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ كما يشاء من شاء موسعا، ومن شاء مقترا، ومن شاء قليلا ومن شاء كثيرا، ومن شاء حلالا، ومن شاء حراما، ومن شاء في خفض ودعه، ومن شاء في كد وعناء، ومن شاء في بلده ومن شاء في الغربة، ومن شاء بحساب ومن شاء بغير حساب. وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ يعني يريد بعمله الآخرة. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ بالتضعيف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة. وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا يعني يريد بعمله الدّنيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ. قال قتادة: يقول: من عمل لآخرته نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، ومن آثر دنياه على آخرته، لم يجعل الله له نصيبا في الآخرة إلّا النّار، ولم يصب من الدّنيا إلّا رزق قد فرغ منه وقسم له. أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان، حدثنا الحسين بن إدريس، حدثنا سويد بن نصير، أخبرنا عبد بن المبارك عن أبي سنان الشيباني، إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: الأعمال على أربعة وجوه: عامل صالح في سبيل هدى يريد به دنيا، فليس له في الآخرة شيء، ذلك بأنّ تعالى، قال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها.. «1» الآية، وعامل الرياء ليس له ثواب في الدّنيا والآخرة إلّا الويل، وعامل صالح في سبيل هدى يبتغي به وجه الله والدار الآخرة، فله الجنّة في الآخرة، معها [نعاته] «2» في الدّنيا، وعامل خطأ وذنوب ثوابه عقوبة الله، إلّا أن يعفوا فإنّه أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.. أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ يوم القيامة، حيث قال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «3» .. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ المشركين يوم القيامة مُشْفِقِينَ وجلين. مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي نازل بهم لا محالة. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. [سورة الشورى (42) : آية 23] ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) ذلِكَ الَّذِي ذكرت من نعيم الجنّات. يُبَشِّرُ اللَّهُ به. عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنّهم أهله.
قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق، وليس في يديه سعة لذلك، قالت الأنصار: إنّ هذا الرجل قد هداكم الله به، وهو ابن أختكم، منوبة به. فقالوا له: يا رسول الله إنّك ابن أختنا، وقد هدانا الله على يديك، وتنوبك نوائب وحقوق، ولست لك عندها سعة، فرأينا أن نجمع لك من أموالنا، فنأتيك به، فتستعين به على ما ينوبك وها هو ذا، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة: اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمّدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يحثهم على مودته، ومودّة أقربائه ، وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية والتنزيل لأنّ هذه السورة مكّية، واختلف العلماء في معنى الآية. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه بقراءتي عليه، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، حدثنا أبو بكر الأزدي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا قزعة بن سويد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «لا أسألكم على ما أتيتكم من البينات والهدى أجرا إلّا أن تودّوا الله تعالى، وتقرّبوا إليه بطاعته» [170] «1» . وإلى هذا ذهب الحسن البصري، فقال: هو القربى إلى الله تعالى، يقول إلّا التقرب إلى الله تعالى والتودّد إليه بالطاعة والعمل الصالح، وروى طاوس والشعبي والوالبي والعوفي عن ابن عباس، قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلّا وبين رسول الله وبينهم قرابة، فلما كذّبوه وأبوا أن يبايعوه، أنزل الله تعالى، قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يعني أن تحفظوني وتودّوني وتصلوا رحمي، فقال رسول الله: «إذا أبيتم أن تبايعوني، فاحفظوا قرابتي فيكم ولا تؤذوني، فإنّكم قومي وأحق من أطاعني وأجابني «2» » [171] . وإليه ذهب أبو مالك وعكرمة ومجاهد والسدي والضحاك وابن زيد وقتادة، وقال بعضهم: معناه إلّا أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم، وهو قول سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب. ثمّ اختلفوا في قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، الّذين أمر الله تعالى بمودتهم. أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه الثقفي العدل، حدثنا برهان بن علي الصوفي، حدثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، حدثنا حرب بن الحسن الطحان، حدثنا حسين الأشقر، عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «علي وفاطمة وأبناءهما «3» » [172] ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو منصور
الجمشاذي، قال: حدثني أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر بن مالك، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبيد الله بن عائشة، حدثنا إسماعيل بن عمرو، عن عمر بن موسى، عن زيد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: «شكوت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حسد النّاس لي» . فقال: «أما ترضى أن تكون رابع أربعة، أول من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمالنا، وذريتنا خلف أزواجنا وشيعتنا من ورائنا» [173] «1» . حدثنا أبو منصور الجمشاذي، حدثنا أبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد، حدثنا أبو العباس محمد بن همام، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن رزين، حدثنا حسان بن حسان، حدثنا حماد بن سلمة ابن أخت حميد الطويل، عن علي بن زيد بن جدعان، عن شهر بن حوشب، عن أمّ سلمة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنّه قال لفاطمة: «ائتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم، فالقى عليهم كساء فدكيا، ثمّ رفع يديه عليهم، فقال: اللهم هؤلاء آل محمد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد، فإنك حميد مجيد» . قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فاجتذبه وقال: «إنّك على خير» [174] «2» .. وروى أبو حازم عن أبي هريرة، قال: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: «أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم «3» » [175] . أخبرنا عقيل بن محمّد، أخبرنا المعافا بن زكريا بن المبتلي، حدثنا محمّد بن جرير، حدثني محمّد بن عمارة، حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا الصياح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم، قال: لما جيء بعلي بن الحسين أسيرا فأقيم على درج دمشق، وقام رجل من أهل الشام، فقال: الحمد لله الّذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة، فقال علي بن الحسين: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: قرأت أل حم؟ قال: قرأت القرآن، ولم أقرأ أل حم. قال: ما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. قال: وإنّكم لأنتم هم؟ قال: نعم» [176] . أخبرنا الحسين بن العلوي الوصي، حدثنا أحمد بن علي بن مهدي، حدثني أبي، حدثنا علي بن موسى الرّضا، حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثنا أبي جعفر بن محمد الصادق، قال: كان نقش خاتم أبي محمد بن علي: ظنّي بالله حسن ... وبالنبي المؤتمن وبالوصي ذي المنن ... والحسين والحسن. أنشدنا محمد بن القاسم الماوردي، أنشدني محمد بن عبد الرّحمن
الزعفراني، أنشدني أحمد بن إبراهيم الجرجاني، قال: أنشدني منصور الفقيه لنفسه: إن كان حبّي خمسة ... زكت بهم فرائضي وبغض من عاداهم ... رفضا فإنّي رافضي «1» وقيل: هم ولد عبد المطلب. يدلّ عليه ما حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي، حدثنا أبو الحسن المحمودي، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمران الأرسابندي حدثنا هديّة بن عبد الوهّاب، حدثنا سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن زياد اليمامي، عن إسحاق بن أبي عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنّة، أنا وحمزة وجعفر وعلي والحسن والحسين والمهدي «2» » [177] . علي بن موسى الرضا: حدثني أبي موسى بن جعفر، حدثني أبي جعفر بن محمد، حدثني أبي محمد بن علي، حدثني أبي علي بن الحسين، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها، فأنا أجازيه غدا إذا لقيني في يوم القيامة» [178] «3» . وقيل: الّذين تحرم عليهم الصدقة ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب الّذين لم يقترفوا في جاهلية ولا إسلام. يدل عليه قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى «4» ، وقوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى «5» ، وقوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ «6» . أخبرنا عقيل بن محمّد إجازة، أخبرنا أبو الفرج البغدادي، حدثنا محمّد بن جدير، حدثنا أبو كرير، حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلم حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس، قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا فكأنهم مخزوك، فقال ابن عباس أو العباس: شل عبد السلم لنا الفضل عليكم. [فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم. فقال: «يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟» . قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟» . قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «أفلا تجيبوني؟» . قالوا: ما نقول يا رسول
الله؟. فقال: «ألا تقولون، ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذّبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك؟» . قال: فما زال يقول حتّى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله تعالى ولرسوله. قال: فنزلت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [179] «1» . أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن حمزة، حدثنا عبيد بن شريك البزاز، حدثنا سلمان بن عبد الرّحمن بن بنت شرحبيل، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا يحيى بن بشير الأسدي، عن صالح بن حيان الفزاري عبد الله بن شداد بن الهاد عن العباس ابن عبد المطلب إنّه، قال: يا رسول الله ما بال قريش يلقى بعضهم بعضا بوجوه تكاد أن تسايل من الود، ويلقوننا بوجوه قاطبة، تعني باسرة عابسة، فقال رسول الله (عليه السلام) : «أويفعلون ذلك؟» . قال: نعم، والّذي بعثك بالحقّ. فقال: «أمّا والّذي بعثني بالحقّ، لا يؤمنوا حتّى يحبّوكم لي» [180] «2» . وقال قوم: هذه الآية منسوخة فإنّما نزلت بمكّة وكان المشركون يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمرهم فيها بمودة رسول الله وصلة رحمه. فلما هاجر إلى المدينة وآواه الأنصار وعزروه ونصروه أحبّ الله تعالى أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء (عليهم السلام) حيث قالوا: وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ «3» ، فأنزل الله تعالى عليه قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ «4» ، فهي منسوخة بهذه الآية وبقوله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «5» ، وقوله: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ «6» ، وقوله: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ «7» ، وقوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ «8» وإلى هذا ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل. وهذا قول غير قوي ولا مرضي، لأنّ ما حكينا من أقاويل أهل التأويل في هذه الآية لا يجوز أن يكون واحد منها منسوخا، وكفى فتحا بقول من زعم إنّ التقرب الى الله تعالى بطاعته ومودة نبيه وأهل بيته منسوخ.
[سورة الشورى (42) : الآيات 24 إلى 28]
والدليل على صحة مذهبنا فيه، ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الأصبهاني، أخبرنا أبو عبد الله بن محمّد بن علي بن الحسين البلخي، حدثنا يعقوب بن يوسف بن إسحاق، حدثنا محمد بن أسلم الطوسي، حدثنا يعلي بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيد، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له، ألّا ومات على حبّ آل محمّد مات تائبا، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد بشره ملك الموت بالجنّة ثم منكرا ونكيرا، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله تعالى زوار قبره ملائكة الرحمن، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان من الجنّة. ألّا ومن مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله، ألّا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا، ألّا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشم رائحة الجنّة» [181] «1» . وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً يكتسب طاعة. نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً بالضعف. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا ابن حنش المقري، حدثنا أبو القاسم بن الفضل، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا الحكم بن طهر، عن السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً، قال: المودة لآل محمّد صلّى الله عليه وسلم «2» . [سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 28] أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) أَمْ يَقُولُونَ يعني كفّار مكّة. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ. قال مجاهد: يعني يربط عليه بالصبر حتّى لا يشق عليك أذاهم، وقال قتادة: يعني يطبع على قلبك فينسيك للقرآن، فأخبرهم إنّه لو افترى على الله لفعل به ما أخبرهم في الآية. ثمّ ابتدأ، فقال عزّ من قائل: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير.
مجازه: الله يمحو الباطل. فحذفت منه الواو في المصحف، وهو في وضع رفع كما حذفت من قوله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ «1» سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «2» على اللفظ. وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ. [.......] «3» . إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قال ابن عباس: لما نزلت لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ... وقع في قلوب قوم منها شيء، وقالوا: ما يريد إلّا أن يحثنا على أقاربه من بعده. ثمّ خرجوا، فنزل جبريل (عليه السلام) فأخبره إنّهم اتهموه وأنزل هذه الآية، فقال القوم: يا رسول الله فإنّا نشهد إنّك صادق، فنزل وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ واختلفت عبارات العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها. أخبرنا الإمام أبو القاسم الحسن بن محمّد بن حبيب بقراءته عليّ. في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، حدثنا محمّد بن سليمان بن منصور، حدثنا محمّد مسكان بن جبلة بساوة. أخبرنا عبد الله بن عبد العزيز بن أبي داود عن إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله، قال: دخل إعرابي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال: اللهمّ إنّي استغفرك وأتوب إليك، سريعا وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علي: يا هذا إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، قال: يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معاني: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما أذبتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كلّ ضحك ضحكته. وسمعت الحسن بن محمّد بن الحسن، يقول: سمعت إبراهيم بن يزيد، يقول: سمعت حسن بن محمّد الترمذي يقول: قيل لأبي بكر محمّد بن عمر الوراق: متى يكون الرجل تائبا؟ فقال: إذا رجع إلى الله فراقبه واستحياه وخاف نقمته فيما عصاه، والتجاء إلى رحمته فرجاه، وذكر حلمه في ستره فأبكاه، وندم على مكروه أتاه، وشكر ربّه على ما أتاه، وفهم عن الله وعظه فوعاه، وحفظ عهده فيما أوصاه. وسمعت الحسن بن محمّد بن حبيب، يقول: سمعت أبا منصور محمّد بن محمّد بن سمعان المذكر، يقول: سمعت أبا بكر بن الشاه الصوفي الفارسي، يقول: سئل الحرب بن أسد المحاسبي: من التائب؟ فقال: من رأى نفسه من الذنوب معصوما، وللخيرات موفقا، ورأى الفرح من قلبه غائبا والحزن فيه باقيا، وأحبّه أهل الخير، وهابه أهل الشّر، ورأى القليل من الدّنيا كثيرا، ورأى الكثير من عمل الآخرة قليلا، ورأى قلبه فارغا من كلّ ما ضمن له، مشتغلا
بكلّ ما أمر به. وقال السري بن المغلس السقطي: التوبة صدق العزيمة على ترك الذنوب، والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب، والندامة على ما فرط من العيوب، والاستقصاء في المحاسبة مع النفس بالاستكانة والخضوع. وقال عمرو بن عثمان: ملاك التوبة إصلاح القوت. وسمعت أبا القاسم بن أبي بكر بن عبد الله البابي، يقول: سمعت أبا يعلي حمزة بن وهب الطبري، يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني، يقول: سمعت يحيى بن معاذ، وسئل: من التائب؟ فقال: من كسر شبابه على رأسه وكسر الدّنيا على رأس الشيطان، ولزم الفطام حتّى أتاه الحمام. وقال سهل بن عبد الله: التوبة، الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة، وسئل ابن الحسن البوشيخي: عن التوبة؟ فقال: إذا ذكرت الذنب فلا تجد حلاوته في قلبك. وقال الراعي: التوبة ترك المعاصي نية وفعلا، والإقبال على الطاعة نية وفعلا، وسمعت أبا القاسم الحبيبي، يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عماد البغدادي، يقول: سئل جنيد: من التائب؟ فقال: من تاب عما دون الله. وقال شاه الكرماني «1» : اترك الدّنيا وقد تبت وخالف هواك وقد وصلت، ويعفو عن السيئات إذا تابوا فيمحوها. أخبرنا الحسن بن محمّد بن الحسن بن جعفر، حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن سواد، حدثنا عطية بن لفته، حدثنا أبي، حدثنا الزبيري، عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد، ومن العقيم الوالد، ومن الظمآن الوارد. فمن تاب إلى الله تعالى توبة نصوحا أنسى الله حافظيه وبقاع الأرض خطاياه وذنوبه «2» » . أو قال: «ذنوبه وخطاياه» [182] . وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ. قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف بالتاء، وهي قراءة عبد الله وأصحابه، ورواية حفص عن عاصم غيرهم بالياء، وهي اختيار أبي عبيد، قال: لأنّه لمن خبرني عن قوم. قال قبله: عَنْ عِبادِهِ، وقال بعده: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يطيع الّذين آمنوا ربّهم في قول بعضهم. جعل الفعل للّذين آمنوا، وقال الآخرون: وَيَسْتَجِيبُ الله الَّذِينَ آمَنُوا جعلوا الإجابة فعل الله تعالى، وهو الأصوب والأعجب إليّ لأنّه وقع بين فعلين لله تعالى: الأول قوله: يَقْبَلُ والثاني وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، ومعنى الآية: ويجيب الله المؤمنين إذا دعوه، وقيل: معناه نجيب دعاء المؤمنين بعضهم لبعض. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا أبو معاوية بن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن سلمة بن سبره، قال: خطبنا معاذ بالشام، فقال: أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنّة والله إنّي لأرجو أن يدخل الجنّة من تسبون من فارس والرّوم وذلك بأن أحدهم إذا عمل لأحدكم العمل، قال: أحسنت يرحمك الله أحسنت بارك الله فيك ويقول الله سبحانه وتعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. أخبرنا الحسين بن محمّد الثقفي، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدثني أبو أحمد عبد الله بن أحمد الزعفراني الهمذاني، حدثنا محمد بن الحسين بن قتيبة بعسقلان، حدثنا محمد بن أيوب بن سويد، حدثني أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، قال: تشفّعهم في إخوانهم. وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. قال: في إخوان إخوانهم. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ. الآية نزلت في قوم من أهل الصفّة تمنوا سعة الدّنيا والغنى. قال خباب بن لادن: فينا نزلت هذه الآية وذلك إنّا نظرنا إلى بني قريظة والنضير وبني القينقاع، فتمنيناها فأنزل الله تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ أي وسع الرزق لعباده. لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي لطغوا وعصوا. قال ابن عباس: بغيهم ظلما، منزلة بعد منزلة ودابة بعد دابة ومركبا بعد مركب وملبسا بعد ملبس. أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم التبستاني الإصبهاني، حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن العباس العصمي الهروي، أخبرني محمد بن علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن صالح الكرابيسي، يقول: سمعت قصير بن يحيى يقول: قال: شقيق بن إبراهيم في قول الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا، قال: لو رزق الله العباد من غير كسب وتفرغوا عن المعاش والكسب لطغوا في الأرض وبغوا وسعوا في الأرض فسادا، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش رحمة منه وامتنانا. وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ أرزاقهم بِقَدَرٍ ما يَشاءُ لكفايتهم. قال مقاتل: وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ فجعل واحدا فقيرا وآخرا غنيا.
إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ. قال قتادة: في هذه الآية كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك، وذكر لنا إنّ نبي الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف على أمتي، زهرة الدّنيا وكثرتها «1» » [183] . أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا أبو جعفر محمد بن الغفار الزرقاني، حدثنا محمد بن يحيى الأزدي، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد الدمشقي، حدثنا صدقة بن عبد الله، حدثنا عبد الكريم الجزري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عن جبريل (عليه السلام) ، عن ربّه عزّ وجلّ قال: «من أهان لي وليّا، فقد بارزني بالمحاربة، وإنّي لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإنّي لأغضب لهم كما يغضب الليث الحرد، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره إساءته، ولا بد له منه، «2» فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا، إن سألني أعطيته وإن دعاني استجبت له وإنّ من عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، ولو أعطيته إياه دخله العجب فأفسده، وإنّ من عبادي المؤمنين، لمن لا يصلحه إلّا السقم ولو صححته لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلّا الصحّة، ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك. إنّي أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم إنّي عليم خبير» «3» . قال صدقة: وسمعت أبان بن أبي عياش يحدث بهذا الحديث، عن أنس بن مالك ثمّ يقول: اللهمّ إنّي من عبادك المؤمنين الّذين لا يصلحهم إلّا الغنى فلا تفقرني. وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ يعني المطر، سمي بذلك لأنّه يغيث النّاس أي يجيرهم ويصلح حالهم. قال الأصمعي: مررت ببعض قبائل العرب وقد مطروا، فسألت عجوز منهم، كم أتاكم المطر؟ فقالت: غثنا ما شئنا. مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ويبسط مطره نظيره قوله: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ «4» . أخبرنا شعيب بن محمد، أخبرنا أبو الأزهر، حدثنا روح، حدثنا سعيد، عن قتادة قال:
[سورة الشورى (42) : الآيات 29 إلى 37]
ذكر لنا أنّ رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط النّاس. قال: مطرتم، ثمّ قال: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ. وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ. [سورة الشورى (42) : الآيات 29 الى 37] وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ من الإجرام والآثام. وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ منها فلا يؤاخذكم بها. وقرأ أهل المدينة والشام (بما) بغير (فاء) ، وكذلك هي في مصاحفهم، وقرأ الباقون فَبِما، بالفاء، وكذلك في مصاحفهم وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم. أخبرنا الحسين بن محمد المقري، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب، حدثنا رضوان بن أحمد، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا أبو معاوية الضرير عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلّا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر» [184] «1» . أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا بشر بن موسى الأسدي، حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا مروان بن معاوية، حدثني الأزهر بن راشد الكاهلي، عن الخضر بن القواس العجلي، عن أبي سخيلة، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، قال: «وسأفسرها لك يا عليّ: ما أصابكم في الدنيا من بلاء أو
مرض أو عقوبة فالله أكرم من أن يثنّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه» [185] «1» . قال: بإسناده عن خلف بن الوليد، عن المبرك بن فضالة، عن الحسن، قال: دخلنا على عمران بن الحصين في مرضه الشديد الّذي أصابه، فقال رجل منّا: إنّي لا بد أن أسألك عما أرى من الوجع بك، فقال عمران: يا أخي لا تفعل فو الله أن أحبّه إليّ أحبّه إلى الله تعالى. قال الله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. هذا بما كسبت يداي وعفو ربّي تعالى فيما بقي. أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا موسى بن محمّد بن علي، حدثنا جعفر بن محمد الفرماني، حدثنا أبو خثيمه مصعب بن سعيد، حدثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن مرة الهمذاني، قال: رأيت على ظهر كف شريح قرحة، قلت: يا أبا أمامة ما هذا؟ قال: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ. أخبرنا الحسين بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني إبراهيم بن الحسن الباهلي المقري، حدثنا حمّاد بن زيد أبو إسماعيل عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: لما ركبه الدّين اغتمّ لذلك، فقال: إنّي لأعرف هذا العلم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا موسى بن محمد، حدثنا أبو بشر أحمد بن بشر الطيالسي، حدثني بعض أصحابنا، عن أحمد بن الحواري، قال: قيل لأبي سلمان الدارابي: ما بال العقلاء أزالوا اللّوم عمن أساء إليهم؟ قال: لأنّهم علموا أنّ الله تعالى إنّما ابتلاهم بذنوبهم، قال الله تعالى: ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «2» . أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا محمد بن عبد الله بن [برزة] ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: «إذا أراد الله تعالى بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدّنيا، وإذا أراد الله بعبده الشّر أمسك عليه بذنبه حتّى يوافي به يوم القيامة» [186] «3» . وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلّا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلّا بها، أو درجة لم يكن الله ليبلّغه إلّا بها.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن رجاء، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن ابن أبي داود «1» ، عن الضحاك، قال: ما تعلّم رجل القرآن ثمّ نسيه إلّا بذنب، ثمّ قرأ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، ثمّ قال: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن «2» . وقال الحسن في هذه الآية: هذا في الحدود. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هربا. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ يعني السّفن، واحدتها جارية وهي السائرة في البحر، قال الله تعالى: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ «3» . فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي الجبال، مجاهد: القصور، واحدها علم. وقال الخليل بن أحمد: كلّ شيء مرتفع عند العرب فهو علم. قالت الخنساء ترثي أخاها صخرا: وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار «4» إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ ثوابت وقوفا عَلى ظَهْرِهِ أي على ظهر الماء. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ يهلكهنّ. بِما كَسَبُوا أي بما كسب أصحابها وركبانها من الذنوب. وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ فلا يعاقب عليها ويعلم. قرأ أهل المدينة والشام بالرفع على الاستئناف كقوله في سورة براءة: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ «5» ، وقرأها الآخرون نصبا على الصرف كقوله تعالى: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «6» صرف من حال الجزم إلى النصب استحقاقا وكراهة لعوال الجزم، كقول النابغة: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع النّاس والشهر الحرام ونمسك بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر له سنام «7» وقال آخر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم «8»
[سورة الشورى (42) : الآيات 38 إلى 50]
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ محيد عن عقاب الله تعالى. فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من رياش الدّنيا وقماشها. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وليس من زاد المعاد. وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب. خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ. قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي وخلف هاهنا وفي سورة النجم (كبير) على التوحيد وفسروه الشرك عن ابن عباس، وقرأ الباقون كَبائِرَ بالجمع في السورتين، وقد بينا اختلاف العلماء في معنى «الكبائر» والفواحش. قال السدّي: يعني الزنا، وقال مقاتل: موجبات الخلود. وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ يتجاوزون ويتحملون. [سورة الشورى (42) : الآيات 38 الى 50] وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وقيل هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. حين لامه النّاس على إنفاق ماله كلّه، وحين شتم فحلم. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا إسحاق بن صدقة، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا سيف بن عمر، عن عطية، عن أيوب، عن علي رضي الله عنه قال: اجتمع لأبي بكر رضي الله عنهما مال مرة فتصدق به كلّه في سبيل الخير، فلامه المسلمون وخطّأه الكافرون، فأنزل الله تعالى: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ... إلى قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ
خص به أبا بكر وعم به من اتبعه. وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ينتقمون من ظالميهم من غير أن يعتدوا. وقال مقاتل: هذا في المجروح ينتصر من الجارح فيقتص منه. قال إبراهيم: في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفو له. وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها سمي الجزاء باسم الابتداء وإن لم يكن سيئة لتشابههما في الصورة. قال ابن نجيح: هو أن يجاب قائل الكلمة القبيحة بمثلها، فإذا قال: أخزاه الله. يقول له: أخزاه الله، وقال السدّي: إذا شتمك بشتمة فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا ابن حنش المقري، حدثنا أبو القاسم بن الفضل، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال سفيان بن عيينة: قلت لسفيان الثوري: ما قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها أن يشتمك رجل فتشتمه؟، أو أن يفعل بك فتفعل به؟ فلم أجد عنده شيئا فسألت هشام بن حجير عن هذه الآية، فقال: الجارح إذا جرح تقتص منه وليس هو أن يسبك فتسبه. وقال سفيان: وكان ابن شبرمة يقول: أليس بمكّة مثل هشام بن حجير فَمَنْ عَفا فلم ينتقم. قال ابن عباس: فمن ترك القصاص وَأَصْلَحَ، وقال مقاتل: وكان العفو من الأعمال الصالحة فأجره على الله. قال ابن فنجويه العدل، حدثنا محمد بن الحسن بن بشر، أخبرنا أبو العباس محمد بن جعفر بن ملاس الدمشقي، حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن بشر القريشي، حدثنا زهير بن عباد المدائني، حدثنا سفيان بن عينية عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة، نادى مناد من كان له على الله أجر، فليقم، قال: فيقوم عنق كثير. قال: فقال: ما أجركم على الله، فيقولون: نحن الّذين عفونا عمّن ظلمنا، وذلك قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بإذن الله» [187] «1» . إِنَّهُ إنّ الله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. قال ابن عباس: الّذين يبدءون بالظلم. لقوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ. فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ. مبتدئين به. وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ. فلم يكاف. إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وحزمها. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ يهديه أو يمنعه من عذاب الله.
وَتَرَى الظَّالِمِينَ الكافرين. لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ رجوع إلى الدّنيا. مِنْ سَبِيلٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النّار خاشِعِينَ خاضعين متواضعين مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ذليل قد خفي من الذّلّ. قاله ابن عباس، وقال مجاهد وقتادة والسدّي والقرظي: سارقو النظر. واختلف العلماء باللغة في وجه هذه الآية، فقال يونس: من بمعنى الياء، مجازه: بطرف خفيّ، أي ضعيف من الذل والخوف، وقال الأخفش: الطرف العين، أي ينظرون من عين ضعيفة، وقيل: إنّما قال: مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ لأنه لا يفتح عينه إنّما ينظر ببعضها، وقيل معناه: ينظرون إلى النّار بقلوبهم لأنّهم يحشرون عميا، والنظر بالقلب خفيّ. وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ دائم. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ طريق للوصول «1» إلى الحقّ في الدّنيا والجنّة في العقبى، قد انسدت عليه طرق الخير. اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ بالإيمان والطاعة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ. ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ معقل. يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ منكم يغير ما بكم. فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً فلا يكون له ولد ذكر. أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدثنا محمد بن الحسين الفرج، حدثنا أحمد بن الخليل القومي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا حكيم بن حزام أبو سمير، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذّكر، وذلك إنّ الله تعالى يقول: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ . ألا ترى إنّه بدأ بالإناث قبل الذّكور» [188] «2» . وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فلا يكون له أنثى. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يجمع بينهما فيولد له الذّكور والإناث. تقول العرب: زوّجت وزوجت الصغار بالكبار. أي قرنت بعضها ببعض. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا طلحة وعبيد، قالا: حدثنا ابن مجاهد، حدثنا الحسين بن علي ابن العباس، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا عبيد الله، عن إسماعيل بن سلمان، عن أبي عمر،
[سورة الشورى (42) : الآيات 51 إلى 53]
عن ابن الحنيفة في قوله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً. قال: التوائم. وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً فلا يلد ولا يولد له. أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا إسحاق بن بشر، في قول الله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً قال: نزلت في الأنبياء (عليهم السلام) ثمّ عمّت، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً يعني لوطا (عليه السلام) لم يولد له ذكر إنّما ولد له ابنتان. وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ويعنى إبراهيم (عليه السلام) لم يولد له أنثى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً يعني النبي صلّى الله عليه وسلم ولد له بنون وبنات وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً يعني يحيى وعيسى (عليهم السلام) . إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ. أخبرنا أبو محمد الحسين بن أحمد بن محمد المخلدي إملاء، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك ابن محمد بن عدي، حدثنا عمار بن رجاء وعلي بن سهل بن المغيرة، قالا: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا ابن وهب، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبو حمزة السّكري المروزي، عن إبراهيم الصائغ عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة «رضي الله عنها» . قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أولادكم هبة [الله] لكم يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [فهم] وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها» [189] «1» . قال علي بن الحسن: سألني يحيى بن معين عن هذا الحديث «2» . [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الآية وذلك إنّ اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فإنّا لا نؤمن لك حتّى تفعل ذلك. فقال صلّى الله عليه وسلم: «لم «3»
ينظر موسى إلى الله» [190] فأنزل الله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ. إِلَّا وَحْياً يوحي إليه كيف يشاء إما بالإلهام أو في المنام. أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ بحيث يسمع كلامه ولا يراه كما كلم موسى (عليه السلام) أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. إليه من ملائكة، إما جبريل وإما غيره. فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ. قرأ شيبة ونافع وهشام (أَوْ يُرْسِلُ) برفع اللام على الابتداء (فَيُوحِي) بإسكان الياء، وقرأ الباقون بنصب اللام والياء عطفا بهما على محلّ الوحي لأنّ معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلّا أن يوحي أو يرسل. إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَكَذلِكَ أي وما أوحينا إلى سائر رسلنا كذلك. أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. قال الحسن: رحمة. ابن عباس: نبوة. السدّي: وحيا. الكلبي: كتابا. ربيع: جبريل. ملك بن دينار: يعني القرآن، وكان يقول: يا أصحاب القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم فإنّ القرآن ربيع القلوب كما الغيث ربيع الأرض. ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحي. مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني شرائع الإيمان ومعالمه. وقال أبو العالية: يعني الدعوة إلى الإيمان، وقال الحسين بن الفضل: يعني أهل الإيمان من يؤمن ومن لا يؤمن، وقال محمد بن إسحاق بن جرير: الإيمان في هذا الموضع الصلاة. دليله قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «1» . وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً وحّد الكتابة وهما اثنان: الإيمان والقرآن لأن الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل، ألا ترى إنّك تقول إقبالك وإدبارك يعجبني فيوحّدوه وهما اثنان. وقال ابن عباس: (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) يعني الإيمان، وقال السدّي: يعني القرآن. نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي لترشد وتدعوا. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، حدثنا أحمد بن محمد بن شاذان، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا صالح بن محمد، قال: سمعت أبا معشر يحدّث، عن سهل بن أبي الجعداء وغيره. قال: احترق مصحف فلم يبق إلّا قوله سبحانه وتعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وغرق مصحف فامتحى كلّ شيء فيه إلّا قوله: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.
سورة الزخرف
سورة الزخرف مكّية، وهي تسع وثمانون آية، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف أخبرنا ابن المقري، أخبرنا ابن مطر، حدثنا ابن شريك، حدثنا ابن يونس، حدثنا سلام بن سليم، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي أمامة الباهلي، عن أبي بن كعب. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الزّخرف كان ممن يقال له يوم القيامة: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ادخلوا الجنّة بِغَيْرِ حِسابٍ» [191] «1» . قوله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا. أي أنزلناه وسميناه وبيّناه ووصفناه. كقوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ «2» ، وقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «3» ، وقوله: جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ «4» ، وقوله تعالى:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ «1» . كلّها بمعنى الوصف والتسمية ويستحيل أن يكون بمعنى الخلق. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ يعني هذا الكتاب. فِي أُمِّ الْكِتابِ يعني اللوح المحفوظ الّذي عند الله تعالى منه ينسخ، وقال قتادة: أصل الكتاب وجملته. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا مكي بن عيدان، حدثنا عبد الله بن هاشم بن حيان، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا هاشم الدستوائي، حدثني القاسم بن أبي يزه، حدثني عروة بن عامر القريشي، قال: سمعت ابن عباس يقول: إنّ أول ما خلق الله تعالى القلم وأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق والكتاب عنده ثمّ قرأ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً . اختلفوا في معناه. فقال قوم: أفنضرب عنكم العذاب ونمسك ونعرض عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم، وهذا قول مجاهد والسدي، ورواية الوالبي عن ابن عباس. قال: أفحسبتم إنّه يصفح عنكم ولما تعقلوا ما أمرتم به، وقال آخرون: معناه أفنمسك عن إنزال القرآن ونتركه من أجل أنّكم لا تؤمنون به فلا ننزله ولا نكرره عليكم، وهذا قول قتادة وابن زيد. وقال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة. أو ما شاء الله من ذلك. وقال الكلبي: أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم. الكسائي: أفنطوي عنكم الذكر طيّا، فلا تدعون ولا توعظون. وهذا من فصيحات القرآن، والعرب تقول لمن أمسك عن الشيء وأعرض عنه: ضرب عنه صفحا، والأصل في ذلك إنّك إذا أعرضت عنه ولّيته صفحة عنقك، قال كثير: صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ... فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت «2» أي معرضة بوجهها، وضربت عن كذا وأضربت، إذا تركته وأمسكت عنه. أَنْ كُنْتُمْ قرأ أهل المدينة والكوفة إلّا عاصما أن تكتب الألف على معنى إذ. كقوله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «3» ، وقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «4» . وقرأ الآخرون بالفتح على معنى لأنّ كنتم أرادوا على معنى المضي كما يقول في الكلام: أسبّك إن حرمتني، يريد إذا حرمتني. قال أبو عبيدة: والنّصب أحبّ إليّ لأنّ الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم وعلمه قبل ذلك من فعلهم.
قَوْماً مُسْرِفِينَ مشركين متجاوزين أمر الله. وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ. أي وما كان يأتيهم. مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كاستهزاء قومك بك. يعزّي نبيه صلّى الله عليه وسلم فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة. وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ صفتهم وسنتهم وعقوبتهم. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار حاجتكم إليه. فَأَنْشَرْنا فأحيينا. بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. كَذلِكَ أي كما أحيينا هذه البلدة الميتة بالمطر كذلك. تُخْرَجُونَ من قبوركم أحياء. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ الأصناف. كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ذكر الكناية لأنّه ردها إلى ما، وقال الفراء: أضاف الظهور إلى الواحد لأنّه ذلك الواحد في معنى الجمع كالجند والجيش والرهط والخيل ونحوها من أسماء الجيش. ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطبقين ضابطين قاهرين وهو من القرآن، كأنّه أراد وما كنا مقاومين له في القوة. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ لمنصرفون في المعاد. أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شنبه، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن علي بن ربيعة، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلم، إنّه كان إذا وضع رجله في الركاب، قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة. قال: «الحمد لله على كلّ حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» [192] ، وكبّر ثلاثا وهلل ثلاثا «1» . وقال قتادة: في هذه الآية يعلمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك والأنعام تقولون: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «2» . وَجَعَلُوا يعني هؤلاء المشركين لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أي نصيبا وبعضا. وقال مقاتل وقتادة: عدلا وذلك قولهم للملائكة هم بنات الله تعالى. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 16 إلى 35]
[سورة الزخرف (43) : الآيات 16 الى 35] أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ أخلصكم وخصصكم. بِالْبَنِينَ نظيره قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً «1» . وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا يعني البنات. دليلها في النّحل ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ من الحزن والغيظ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا قرأها أهل الكوفة بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على غير تسمية الفاعل. أي يربي غيرهم يَنْشَؤُا بفتح الياء وجزم النون وتخفيف الشين، أي ينبت ويكبر. فِي الْحِلْيَةِ في الزينة، يعني النساء. قال مجاهد: رخّص للنساء في الحرير والذهب، وقرأ هذه الآية. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني، حدثنا يحيى بن جعفر بن أبي طالب، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي، حلّ لأناثهم» [193] «2» .
وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ للحجة من ضعفهنّ وسفههنّ. قال قتادة في هذه الآية: قلما تتكلم امرأة بحجّتها إلّا تكلمت الحجة عليها، وفي مصحف عبد الله (وهو في الكلام غير مبين) . وقال بعض المفسرين: عني بهذه الآية أوثانهم الّتي كانوا يعبدونها ويجلّونها ويزينونها وهي لا تتكلم ولا تنبس. قال ابن زيد: هذه تماثيلهم الّتي يضربونها من فضة وذهب، وينشئونها في الحلية يتعبدونها. في محلّ من ثلاثة وجوه: الرفع على الابتداء. والنصب على الإضمار، مجازه: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا يجعلونه ربّا أو بنات الله، والخفض ردّا على قوله: مِمَّا يَخْلُقُ وقوله: بما صرت ... وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة عباد الرحمن بالألف والياء!، وأختاره أبو عبيد قال: لأن الإسناد فيها أعلى ولأنّ الله تعالى إنما كذبهم في قوله: «بنات الله» فأخبر إنّهم عبيده وليسوا بناته، وهي قراءة ابن عباس. أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا القاسم بن سلام، حدثنا هيثم عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، إنّه قرأها عِبادُ الرَّحْمنِ. قال سعيد: فقلت لابن عباس: إنّ في مصحفي عبد الرّحمن. فقال: امسحها واكتبها عِبادُ الرَّحْمنِ، وتصديق هذه القراءة، قوله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «1» ، وقرأ الآخرون عند الرّحمن بالنون واختاره أبو حاتم، قال: لأن هذا مدح، وإذا قلت: عِبادُ الرَّحْمنِ وتصديقها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «2» . أَشَهِدُوا أحضروا خَلْقَهُمْ حتّى يعرفوا إنّهم أناث، وقرأ أهل المدينة أُشْهِدُوا على غير تسمية الفاعل أي أحضروا. خَلْقَهُمْ حين خلقوا. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على الملائكة إنّهم بنات الله وَيُسْئَلُونَ عنها. وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ يعني الملائكة في قول قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد: يعني الأوثان، وإنّما لم يعجل عقوبتنا على عبادتنا إياها لرضا منا بعبادتها. قال الله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ فيما يقولون إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل هذا القرآن. فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ دين. وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ وقراءة العامة (أُمَّةٍ) بضم الألف، وهي
الدين والملة، وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد أِمَّةٍ بكسر الألف واختلفوا في معناها، فقيل: هي الطريقة والمقصد من قولهم أممت، وقيل: هي النعمة. قال عدي بن زيد: ثمّ بعد الفلاح والملك والأمة وأريهم هناك القبور، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ مستنون متبعون. قالَ قراءة العامة على الأمر، وقرأ ابن عامر على الخبر ومثله روى حفص بن عاصم. أَوَلَوْ جاءَكُمْ بالألف أبو جعفر. الباقون جِئْتُكُمْ على الواحد. بِأَهْدى بدين أصوب. مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ أي بريء، ولا يثنّى البراء ولا يجمع ولا يؤنث لأنّه مصدر وضع موضع النعت، وفي قراءة عبد الله (بريء) بالياء. مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي خلقني، ومجاز الآية: إِنَّنِي بَراءٌ من كلّ معبود إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ إلى دينه. وَجَعَلَها يعني هذه الكلمة والمقالة كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ قال مجاهد وقتادة: يعني لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وقال القرظي: يعني وجعل وصية إبراهيم الّتي أوصى بها بنيه باقية في نسله وذريته وهي الّتي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ «1» ، وقال ابن زيد: يعني قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» وقرأ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «3» . لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من كفرهم إلى الطاعة ويتوبون بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ في الدّنيا فلم أهلكهم ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم. حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن، وقال الضحاك: الإسلام. وَرَسُولٌ مُبِينٌ يبين لهم الأعلام والأحكام وهو محمد صلّى الله عليه وسلم. وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ القرآن قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. يعني من إحدى القريتين ولم يختلفوا في القريتين إنّهما مكّة والطائف، واختلفوا في الرجلين من هما. قال ابن عباس: الوليد بن المغيرة من مكّة وكان يسمى ريحانة قريش، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من الطائف. وقال مجاهد: عتبة بن الربيع من مكّة وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف. قتادة: هما الوليد بن المغيرة المخزومي، وأبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي، وقال السدي: الوليد بن المغيرة وكنانة بن عبد عمرو بن عمير.
قال الله سبحانه وتعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نبوته وكرامته فيجعلونها لمن شاءوا. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فجعلنا هذا غنيا وهذا فقيرا وهذا ملكا وهذا مملوكا، وقرأ ابن عباس وابن يحيى (معايشهم) وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي ليسخّر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل ويستخدمونهم ليكون بعضهم لبعض سبب المعاش في الدّنيا، هذا بماله وهذا بأعماله هذا قول السدي وابن زيد، وقال قتادة والضحاك: يعني ليملك بعضهم بعضا فهذا عبد هذا، وقيل: يسخر بعضهم من بعض، وقيل: يتسخر بعضهم بعضا. وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يعني الجنّة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ في الدنيا من الأموال وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الكفر فيصيروا كلّهم كفّارا. هذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن زيد: يعني: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً في طلب الدّنيا واختيارها على العقبى. لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وحميد ويحيى بن وثاب سَقْفاً بفتح السين على الواحد ومعناه الجمع اعتبارا بقوله: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ «1» ، وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع. يقال سقف وسقّف مثل رهن ورهّن. قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما، وقيل: هو جمع سقيف، وقيل: هو جمع سقوف وجمع الجمع. وَمَعارِجَ أي مصاعد ومراقي ودرجا وسلاليم، وقرأ أبو رجاء العطاردي (ومعاريج) وهما لغتان واحدهما معراج مثل مفاتح ومفاتيح. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون ويرتقون ويصعدون بها، ظهرت على السطح إذا علوته. قال النابغة الجعدي: بلّغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنّا لنرجو فوق ذلك مظهرا «2» أي مصعدا. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً من فضة وَسُرُراً من فضة عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً أي ولجعلنا لهم مع ذلك وَزُخْرُفاً وهو الذهب نظير بيت مزخرف، ويجوز أن يكون معناه من فضة وزخرف فلما نزع الخافض نصب. وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا شدده عاصم وحمزة على معنى وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «3» ، وخففه الآخرون على معنى. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «4» فتكون [لغة] الواصلة وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ للمؤمنين.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 إلى 50]
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا أحمد بن شاذان، أخبرنا جيغويه بن محمد، حدثنا صالح بن محمد، حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبان، عن سليمان بن القيس العامري، عن كعب. قال: إنّي لأجد في بعض الكتب: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس الكافر بأكاليل فلا يصدع ولا ينبض منه عرق يوجع. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا الفربابي، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزيدي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن مسلم بن أبي المجرد، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّه كان يقول: لو أنّ رجلا هرب من رزقه لاتبعه حتّى يدركه، كما إنّ الموت يدرك من هرب منه له أجل هو بالغه، أو أثر هو واطئة ورزق هو آكله وحرف هو قائله فاتقوا الله واجملوا في الطلب، فلا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله تعالى، فإنّ الله لا ينال ما عنده إلّا بطاعته، ولن يدرك ما عنده بمعصيته. فاتقوا الله واجملوا في الطلب. [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 50] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَمَنْ يَعْشُ يعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ فلم يخف عقابه ولم يرج ثوابه. وقال الضحاك: يمض قدما. القرظي: يولّ ظهره على ذكر الرّحمن وهو القرآن. أبو عبيدة والأخفش: أي تظلم عينه، الخليل بن أحمد: أصل العشو النظر ببصر ضعيف، وأنشد في معناه: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس إنّه قرأ وَمَنْ يَعْشَ بفتح الشين ومعناه: «من يعم» . يقال منه: عشي يعشي عشيا إذا عمي، ورجل أعشى وامرأة عشواء، ومنه قول الأعشى:
رأت رجلا غائب الوافدين ... مختلف الخلق أعشى ضريرا «1» نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أي نظمه إليه ونسلّطه عليه فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ فلا يفارقه. وَإِنَّهُمْ يعني الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ يعني الكافرين. عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذا جاءَنا قرأ أهل العراق وابن محيص على الواحد يعنون الكافر، واختاره أبو عبيد وقرأ الآخرون جاءَنا على التشبيه يعنون الكافر وقرينه. قالَ الكافر للشيطان. يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي المشرق والمغرب، فقلب اسم أحدهما على الآخر، كما قال الشاعر: أخذنا بآفاق السّماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع «2» يعني الشمس والقمر، ويقال للغداة والعشي: العصرات، قال حميد بن ثور: ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما «3» وقال آخر: وبصرة الأزد منا والعراق لنا ... والموصلان ومنا المصر والحرم «4» أراد الموصل والجزيرة، ويقال للكوفة والبصرة: البصرتان، ولأبي بكر وعمر «رضي الله عنهما» : العمران، وللسبطين: الحسنان، وقال بعضهم: أراد بالمشرقين، مشرق الصيف ومشرق الشتاء. كقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «5» . فَبِئْسَ الْقَرِينُ قال أبو سعيد الخدري: إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشيطان فلا يفارقه حتّى يصير إلى النّار. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ في الآخرة إِذْ ظَلَمْتُمْ أشركتم في الدّنيا أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ يعني لن ينفعكم إشراككم في العذاب لأنّ لكلّ واحد نصيبه الأوفر منه فلا يخفف عنكم العذاب لأجل قرنائكم. وقال مقاتل: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الاعتذار والندم الْيَوْمَ لأنّكم أنتم وقرناؤكم مشتركون اليوم في العذاب كما كنتم مشتركين في الكفر. أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني الكافرين الّذين حقّت عليهم كلمة العذاب فلا يؤمنون.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فنميتك قبل أن نعذبهم. فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فنعذبهم في حياتك. فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قال أكثر المفسرين: أراد به المشركين من أهل مكّة فانتقم منهم يوم بدر، وقال الحسن وقتادة: عني به أهل الإسلام من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم وقد كان بعد نبي الرحمة نقمة شديدة فأكرم الله نبيه وذهب به، ولم يره في أمته إلّا الّذي تقر عينه، وأبقى النقمة بعده، وليس من نبي إلّا أرى في أمته العقوبة، وذكر لنا إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتّى قبضه الله تعالى. فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ يعني القرآن. لَذِكْرٌ لَكَ لشرف لك وَلِقَوْمِكَ من قريش، نظيره قوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ «1» أي شرفكم. وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عن حقّه وأداء شكره. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو علي بن حبش المقري، حدثنا أبو بكر ابن محمد بن أحمد بن إبراهيم الجوهري، حدثنا عمي، حدثنا سيف بن عمر الكوفي، عن وائل أبي بكر، عن الزهيري، عن عبد الله وعطية بن الحسن، عن أبي أيوب، عن علي، عن الضحاك، عن ابن عباس. قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكّة، ويعدهم الظهور، فإذا قالوا لمن الملك بعدك، أمسك، فلم يخبرهم بشيء، لأنّه لم يؤمر في ذلك بشيء حتّى نزل وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ. فكان بعد ذلك إذا سئل، فقال: لقريش، فلا يجيبونه، وقبلته الأنصار على ذلك. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا نصر بن منصور بن جعفر النهاوندي، حدثنا أحمد بن يحيى بن الجاورد، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من النّاس اثنان» [194] «2» . أخبرنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد الناهد، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، حدثنا الحسن بن ناصح ومحمد بن يحيى، قالا: حدثنا نعيم بن عماد، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن محمد بن حسن بن مطعم، عن معاوية، قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلّا كبّ على وجهه ما أقاموا الدّين «3» » [195] .
أخبرنا عبيد الله بن محمد الزاهد، أخبرنا أبو العباس السراج، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن زياد بن محراق، عن أبي كنانة، عن أبي موسى، قال: قام النبي صلّى الله عليه وسلم على باب البيت وفيه نفر من قريش، فأخذ بعضادي الباب، ثمّ قال: «هل في البيت إلّا قريشي؟» قالوا: لا يا رسول الله. إلّا ابن أخت لنا، قال: «ابن أخت القوم منهم» ثم قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما داموا إذا حكموا فعدلوا، واسترحموا فرحموا، وعاهدوا فوفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» [196] «1» . أخبرنا عبيد الله الزاهد، حدثنا أبي العباس السراج، حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، حدثني موسى بن داود وخالد بن خداش، قالا: حدثنا بكير بن عبد العزيز، عن يسار بن سلامة، عن أبي بردة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الأمراء من قريش، لي عليهم حقّ ولهم عليكم حقّ ما فعلوا ثلاثا: ما حكموا فعدلوا، واسترحموا فرحموا، وعاهدوا فوفوا» «2» . زاد خالد: «فمن لم يفعل ذلك فعليه لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» [197] . أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، قال: سمعت أبي يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: في قول الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قال: قول الرجل: حدثني أبي، عن جدي. وَسْئَلْ يا محمد. مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. اختلف العلماء في هؤلاء المسؤولين. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطاء بن أبي رياح والحسن والمقاتلان: هم المؤمنون أهل الكتابين، وقالوا: هي في قراءة عبد الله وأبي (وأسئل الّذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا) ، وقال ابن جبير وابن زيد: هم الأنبياء الّذين جمعوا له ليلة أسري به ببيت المقدس. أخبرنا ابن فنجويه حدثنا موسى بن محمد، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا المسيب، قال: قال: أبو جعفر الدمشقي: سمعت الزهري يقول: لما أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلم صلّى خلفه تلك الليلة كلّ نبي كان أرسل فقيل للنبي (عليه السلام) : وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ. أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري، حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين بن محمد بن
الحسين الأزدي الموصلي، حدثنا عبد الله بن محمد بن غزوان البغدادي. حدثنا علي بن جابر، حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله ومحمد بن إسماعيل، قالا: حدثنا محمد بن فضل، عن محمد ابن سوقة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلم «أتاني ملك فقال: يا محمد وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا على ما بعثوا، قال: قلت: على ما بعثوا، قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب «1» » [198] . وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ وبها يستهزؤن ويكذبون. وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها قرينتها وصاحبتها الّتي كانت قبلها. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ بالسنين والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقالُوا لما عاينوا العذاب. يا أَيُّهَا السَّاحِرُ يا أيّها العالم الكامل الحاذق، وإنّما قالوا هذا توقيرا وتعظيما منهم، لأنّ السحر كان عندهم علما عظيما وصفة ممدوحه، وقيل: معناه يا أيّها الّذي غلبنا بسحره، كقول العرب: خاصمته فخصمته، ونحوها. ويحتمل إنّهم أرادوا به الساحر على الحقيقة عيبا منهم إياه، فلم يناقشهم موسى (عليه السلام) في مخاطبتهم إياه بذلك رجاء أن يؤمنوا. ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما أخبرتنا عن عهده إليك إنّا إن آمنا كشف عنا، فاسأله يكشف عنا. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ مؤمنون. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ ينقضون عهدهم ويصرّون على كفرهم ويتمارون في غيهم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 إلى 67]
[سورة الزخرف (43) : الآيات 51 الى 67] وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ يعني أنهار النيل ومعظمها أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس. تَجْرِي مِنْ تَحْتِي بين يدي وجناتي وبساتيني، وقال ابن عباس: حولي. عطاء: في قبضتي وملكي. الحسن: بأمري. أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ بل أنا بخير. (أم) بمعنى بل، وليس بحرف على قول أكثر المفسرين، وقال الفراء: وقوم من أهل المعاني الوقوف على قوله (أم) ، وعنده تمام الكلام. وفي الآية إضمار ومجازها: أَفَلا تُبْصِرُونَ أم لا تبصرون أَمْ ابتداء، فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير يعني موسى (عليه السلام) . وَلا يَكادُ يُبِينُ يفصح بكلامه وحجته، لعيّه ولعقدته والرنة الّتي في لسانه. فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ إن كان صادقا أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ قرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم وحفص أَسْوِرَةٌ على جمع السوار، وقرأ أبي: أساور «1» ، وقرأ ابن مسعود: أساوير، وقرأ العامة: أساورة بالألف على جمع الأسورة وهو جمع الجمع. وقال أبو عمرو بن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير أساور، وهي لغة في السوار. قال مجاهد: كانوا إذا استودوا رجلا سوّروه بسوار، وطوّقوه بطوق من ذهب يكون ذلك دلالة لسيادته وعلامة لرئاسته. فقال فرعون: هلا ألقى ربّ موسى أسورة من ذهب «2» . أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ متابعين يقارن بعضهم بعضا يمشون معه شاهدين له «3» . قال الله تعالى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ القبط وجدهم جهالا. فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا ابن مالك، حدثنا ابن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: قال الضحاك بن عبد الرحيم بن أبى حوشب: سمعت بلال بن سعد يقول: قال أبو الدرداء: لو كانت الدّنيا تزن عند الله جناح ذباب ما سقي فرعون منها شرابا.
فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا، وقال الحسين بن الفضل: خالفونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قرأ علي وابن مسعود بضم السين وفتح اللام، وقال المؤرخ والنضر بن شميل: هي جمع سلفة، مثل طرقة وطرق، وغرفة وغرف، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي بضم السين واللام، قال الفراء: هو جمع سليف، وحكي عن القاسم بن معين إنّه سمع العرب تقول: مضى سليف من الناس، وقال أبو حاتم: سلف وسلف واحد، مثل خشب وخشب، وثمر وثمر وقرأ الباقون فتح السين واللام على جمع السالف مثل حارس وحرس، وراصد ورّصد، وهم جميعا: الماضون المتقدمون من الأمم. وَمَثَلًا عبرة. لِلْآخِرِينَ لمن يجيء بعدهم، قال المفسرون: سلفا لكفّار هذه الأمة إلى النّار. وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا في خلقه من غير أب. فشبه بآدم من غير أب ولا أم. إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ويقولون ما يريد محمد منا إلّا أن نعبده ونتخذه إلها كما عبدت النصارى عيسى. قاله قتادة. وقال ابن عباس: أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعري مع النبي صلّى الله عليه وسلم وشأن عيسى (عليه السلام) ، وقد ذكرناها في الأنبياء (عليهم السلام) وأختلف القرّاء في قوله: يَصِدُّونَ فقرأ أهل المدينة والشام وجماعة من الكوفيين بضم الصاد، وهي قراءة علي والنخعي ومعناه يعرضون، ونظيره قوله: رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً «1» . وقرأ الباقون بكسر الصاد، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم واختلفوا في معناه، فقال الكسائي: هما لغتان مثل يَعْرِشُونَ ويعرشون، ويَعْكُفُونَ ويعكفون، ودرّت الشاة تدر وتدر، وشذ عليه يشذ ويشد، ونمّ الحديث ينمه وينمه، وقال ابن عباس: معناه يضجون. سعيد بن المسيب: يصيحون ضحاك: يعجون. قتادة: يجزعون ويضحكون، وقال القرظي: يضجرون. وقال الفراء: حدثني أبو بكر بن عياش أنّ عاصما قرأ يَصِدُّونَ من قراءة أبي عبد الرحمن، وقرأ يَصُدُّونَ، وفي حديث آخر إنّ ابن عباس لقي أخي عبيد بن عمير، فقال: إنّ عمك لعربي، فماله يلحن في قوله سبحانه وتعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ؟. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم فنعبد إلهه ونطيعه ونترك آلهتنا، هذا قول قتادة، وقال السدي وابن زيد: أَمْ هُوَ يعنون عيسى (عليه السلام) ، قالوا: يزعم محمد إنّ كلّ ما عبد من دون الله في النّار، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عزير وعيسى والملائكة في النّار. قال الله تعالى: ما ضَرَبُوهُ يعني هذا المثل. لَكَ إِلَّا جَدَلًا خصومة بالباطل.
بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي الجمشاذي الفقيه، بقراءتي عليه، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل. حدثني أبي، حدثنا عبد الله بن نمير الكوفي، حدثنا حجاج بن دينار الواسطي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون، حدثنا السريّ، حدثنا أبو النضر، حدثنا عنبسة بن عبد الواحد القريشي، عن الحجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه، إلّا أتوا الجدل، ثمّ قرأ: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» [199] «1» . إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ يعني آية أو عبرة وعظه لبني إسرائيل. وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لأهلكناكم وجعلنا بدلا منكم. مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يعني يكونون خلفا منكم فيعمرون الأرض ويعبدونني ويطيعونني. وَإِنَّهُ يعني عيسى (عليه السلام) . لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ بنزوله يعلم قيام الساعة ويستدل على ذهاب الدّنيا وإقبال الآخرة. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد، قالا: حدثنا أبو بشر بن مجاهد، حدثنا فضل بن الحسن، حدثنا عبيد الله بن معاد، حدثنا أبي، عن عمران بن جرير، قال: سمعت أبا نضرة يقرأ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، قال: هو عيسى، وبإسناده عن ابن مجاهد، حدثني عبد الله بن [عمر] بن سعد، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا خالد بن الحرث، حدثنا أبو مكي، عن عكرمة وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، قال: ذلك عيسى (عليه السلام) . وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ بفتح العين واللام، أي إمارة وعلامة، وفي الحديث: ينزل عيسى بن مريم على ثنية بالأرض المقدسة، يقال لها: أفيق، بين ممصّرتين وشعر رأسه دهين وبيده حربة يقتل بها الدجال. فيأتي بيت المقدس والنّاس في صلاة العصر، والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام، فيتقدّمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلّى الله عليه وسلم، ثمّ يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى. إلّا من آمن به. وقال قوم: الهاء في قوله: وَإِنَّهُ كناية عن القرآن، ومعنى الآية وإنّ القرآن لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يعلمكم قيامها ويخبركم بأحوالها وأهوالها، وإليه ذهب الحسن. فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكنّ بها أي فيها. وَاتَّبِعُونِ. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ
[سورة الزخرف (43) : الآيات 68 إلى 80]
ولا يصرفنّكم الشَّيْطانُ عن دين الله. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَ عِيسى بني إسرائيل. بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بالنبوة. وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أحكام التوراة. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ اليهود والنصارى. مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا وأشركوا كما في سورة مريم. مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاءُ على المعصية في الدنيا. يَوْمَئِذٍ يوم القيامة. بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ. المتحابين في الله على طاعة الله. أخبرنا عقيل بن محمد إنّ أبا الهرج البغدادي القاضي أخبرهم، عن محمد بن جرير، حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن أبي إسحاق، إنّ عليا رضي الله عنه قال في هذه الآية: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين، فقال: يا ربّ إنّ فلان كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير، وينهاني عن الشرّ، ويخبرني إنّي ملاقيك. يا ربّ فلا تضلّه بعدي واهده، كما هديتني، وأكرمه كما أكرمتني. وإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما، فيقول: ليثني أحدكما على صاحبه. فيقول: يا ربّ انه كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالخير وينهاني عن الشرّ، ويخبرني أنّي ملاقيك، فيقول: نعم الأخ، ونعم الخليل، ونعم الصاحب. قال: ويموت أحد الكافرين، فيقول: إنّ فلان كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشّر، وينهاني عن الخير ويخبرني إنّي غير ملاقيك. فيقول: بئس الأخ، وبئس الخليل، وبئس الصاحب. [سورة الزخرف (43) : الآيات 68 الى 80] يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) يا عِبادِ أي فيقال لهم يا عبادي. لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أخبرنا عقيل بن محمد، أخبرنا المعافا بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير. أخبرنا ابن عبد الأعلى،
حدثنا المعتمر، عن أبيه، قال: سمعت إنّ الناس حتّى يبعثون ليس منهم أحد إلّا فزع، فينادي مناد: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فيرجوها الناس كلّهم. قال: فيتبعها. الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فينكس اهل الأديان رؤسهم غير المسلمين. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ تسرون وتنعمون. يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ بقصاع واحدتها صفحة. مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ أباريق مستديرة الرؤوس ليست لها آذان ولا خراطم، واحدها كوب. قال الأعشى: صريفيّة طيّب طعمها ... لها زبد بين كوب ودنّ «1» أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبي، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا السكوني عبد الحميد بن عبد العزيز، حدثنا الأشعث الضرير، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة لمن له سبع درجات هو على السادسة وفوق السابعة، وإنّ له لثلاثمائة خادم، ويغدي ويراح عليه كل يوم ثلاثمائة صحيفة» ، ولا أعلمه إلّا قال: «من ذهب في كل صحيفة لون ليس في الأخرى، وإنّه ليلذ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء، في كلّ إناء لون ليس في الأخرى، وإنّه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنّه ليقول يا ربّ لو أذنتني لأطعمت أهل الجنّة، وسقيتهم لا ينقص مما عندي شيء إنّ له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة، سوى زوجته في الدّنيا، وإنّ الواحدة منهنّ ليأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض» [200] «2» . أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا ابن حبش المقري، حدثنا ابن رنجويه، حدثنا سلمة، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن إسماعيل بن أبي سعيد، إنّ عكرمة أخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة وأسفلهم درجة، رجل لا يدخل الجنّة بعده أحد، يفتح له بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس منها موضع شبر، إلّا معمور يغدى عليه ويراح سبعين ألف صحيفة من ذهب، ليس منها صحيفة إلّا وفيها لون ليس في الأخرى مثله» [201] «3» . «شهوته في آخرها كشهوته في أولها، لو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا» [202] «4» .
وَفِيها في الجنّة. ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم تَشْتَهِيهِ بالهاء وكذلك هي في مصاحفهم. وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ أخبرنا عقيل بن محمد، أخبرنا المعافا بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا ابن يسار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن سابط، إنّ رجلا قال: يا رسول الله إنّي أحبّ الخيل، فهل في الجنة خيل؟. فقال: «إنّ يدخلك الله الجنّة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء تطير بك في أي الجنّة شئت، إلّا ركبت» [203] «1» . فقال: إعرابي يا رسول الله إنّي أحبّ الإبل، فهل في الجنّة إبل؟. فقال: «يا إعرابي إن يدخلك الله الجنّة إن شاء الله. كان لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عيناك» [204] «2» . وبه عن ابن جرير، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأياد، عن محمد ابن سعد الأنصاري، عن أبي ظبية السلمي، قال: إنّ السرب من أهل الجنّة لتظلهم السحابة، فتقول: ما أمطركم؟. فما يدعو داع من القوم بشيء إلّا مطرتهم، حتّى إنّ القائل منهم ليقول: أمطرينا كَواعِبَ أَتْراباً. وبه عن ابن جرير، حدثنا موسى بن عبد الرحمن، حدثنا زيد بن الحبان بن الرّيان، أخبرنا معاوية بن صالح، حدثني سليمان بن عامر، قال: سمعت أبا أمامة يقول: إنّ الرجل من أهل الجنّة ليشتهي الطائر وهو يطير، فيقع منفلقا نضيجا في كفه، فيأكل منه حتّى تنتهي نفسه، ثمّ يطير، ويشتهي الشراب فيقع الإبريق في يده فيشرب منه ما يريد ثمّ يرجع إلى مكانه. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا محمد بن إبراهيم ابن زياد الطيالسي الرازي، حدثنا محمد بن حسان الأزرق، حدثنا ريحان بن سعيد، حدثنا عباد ابن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، إنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا ينزع رجل من أهل الجنّة من ثمرها إلّا أعيد في مكانها مثلاها «3» » . إِنَّ الْمُجْرِمِينَ المشركين. فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ليمتنا ربّك فنستريح، فيجيبهم مالك بعد ألف سنة: قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ مقيمون في العذاب.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 إلى 89]
أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا ابن حبش المقري، حدثنا ابن الفضل، حدثنا جعفر ابن محمد الدنقاي الضبي، حدثنا عاصم بن يوسف اليربوعي، حدثنا قطبة بن عبد العزيز السعدي، عن الأعمش، عن سمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أمّ الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يلقى على أهل النّار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام نْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم، فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون ألم تك تأتكم رسلكم بالبينات؟ قالُوا: بَلى، قالُوا: فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ، قال: فيقولون ادعوا مالكا، فيدعون: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، فيجيبهم إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» ! [205] «1» . قال: فقال الأعمش: أنبئت إنّ بين دعائهم وبين إجابته إياهم ألف عام. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا هارون بن محمد بن هارون، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا القاسم بن يونس الهلالي، حدثنا قطبة بن عبد العزيز يعني السعدي، عن الأعمش، عن سمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «ونادوا يا مال ليقض علينا ربّك» [206] . باللام «2» . لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أحكموا. أَمْراً في المكر برسول الله صلّى الله عليه وسلم. فَإِنَّا مُبْرِمُونَ محكمون. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ. بَلى نسمع ونعقل وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ يعني الحفظة. [سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ يعني إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ في قولكم وبزعمكم، فأنا أول الموحدين المؤمنين بالله في تكذيبكم والجاحدين لما قلتم من إنّ له ولدا. قاله مجاهد. وقال ابن عباس: يعني ما كان للرّحمن ولد وأنا أول الشاهدين له بذلك والعابدين له، جعل بمعنى النفي والجحد، يعني ما كان وما ينبغي له ولد. ثمّ ابتداء فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ، وقال السدي: معناه، قُلْ: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أول من عبده بأنّ له ولد، ولكن لا ولد له، وقال قوم من أهل المعاني: معناه، قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ. فَأَنَا أَوَّلُ الآنفين من عبادته. ويحتمل أن يكون معناه ما كان للرحمن ولد. ثم قال: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ الآنفين من هذا القول المنكرين إنّ له ولدا. يقال عبد إذا أنف وغضب عبدا. قال الشاعر: ألا هويت أم الوليد وأصحبت ... لما أبصرت في الرأس مني تعبد «1» وقال آخر: متى ما يشاء ذو الود يصرّم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما «2» أخبرنا عقيل بن محمد إجازة، أخبرنا أبو الفرج، أخبرنا محمد بن جرير، حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، حدثنا ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، عن ابن قشط، عن نعجة بن بدر الجهني إنّ امرأة منهم دخلت على زوجها- وهو رجل منهم أيضا- فولدت في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان رضي الله عنه وأمر بها ترجم، فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إنّ الله تعالى يقول في كتابه: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «3» وقال: (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) قال: فو الله ما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها ترد. قال عبد الله بن وهب: ما استنكف ولا أنف «4» سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ يكذبون. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم. وَيَلْعَبُوا في دنياهم. حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ يعني يعبد في السّماء ويعبد في الأرض. وَهُوَ الْحَكِيمُ في تدبير خلقه. الْعَلِيمُ بصلاحهم.
وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ. اختلف العلماء في معنى هذه الآية. فقال قوم: (مِنْ) في محل النصب وأراد ب الَّذِينَ يَدْعُونَ عيسى وعزير والملائكة، ومعنى الآية: ولا يملك عيسى وعزير والملائكة الشّفاعة إلّا ل مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ فآمن على علم وبصيرة، وقال آخرون: (مِنْ) في وضع رفع والَّذِينَ يَدْعُونَ الأوثان والمعبودين من دون الله. يقول: ولا يملك المعبودون من دون الله الشفاعة إلّا ل مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وهم عيسى وعزير والملائكة يشهدون بالحقّ. وَهُمْ يَعْلَمُونَ حقيقة ما شهدوا. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ عن عبادته. وَقِيلِهِ يعني قول محمد صلّى الله عليه وسلم شاكيا إلى ربّه. يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. واختلف القراء في قوله: قِيلِهِ، فقرأ عاصم وحمزة وَقِيلِهِ بكسر اللام على معنى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وعلم قيله، وقرأ الأعرج بالرفع، أي وعنده قيله، وقرأ الباقون بالنصب وله وجهان: أحدهما: أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ونسمع قِيلَهُ والثاني: وقال: قِيلَهُ. فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ نسختها آية القتال، ثمّ هددهم. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ بالتاء أهل المدينة والشام وحفص، واختاره أيوب وأبو عبيد، الباقون بالياء.
سورة الدخان
سورة الدخان مكّية، وهي تسع وخمسون آية، وثلاثمائة وست وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وواحد وثمانون حرفا أخبرنا محمّد بن القاسم، حدثنا محمّد بن عبد الله، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمّد بن يزيد، حدثنا زيد بن حباب، أخبرنا الحسين بن محمّد بن فنجويه، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا أبو عيسى بن علي الختلي، حدثنا أبو هاشم الرفاعي، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عمر بن عبد الله بن أبي السري عن يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الدّخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» [207] «1» . أخبرنا محمد بن القاسم، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي، حدثنا السّراج، حدثنا أبو يحيى، حدثنا كثير بن هشام، عن هشام بن المقدام، عن الحسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الّتي يذكر فيها الدّخان في ليلة الجمعة، أصبح مغفورا له» [208] «2» . أخبرنا عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها، حدثنا أبو علي الرقاء، أخبرنا أبو منصور سليمان بن محمد بن الفضل، حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا فضال بن كثير حي، قال: أتيت أبا أمامة، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ حم الدّخان ليلة الجمعة- يوم الجمعة- بنى الله له بيتا في الجنّة» [209] «3» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 إلى 16]
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ. إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ قال قتادة وابن زيد: هي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، أنزل الله تعالى القرآن فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ من أم الكتاب إلى السّماء الدّنيا، ثمّ أنزله على نبيه صلّى الله عليه وسلم في الليالي والأيام، وقال الآخرون: هي ليلة النصف من شعبان. أخبرنا الحسين بن محمّد فنجويه، حدثنا عمر بن أحمد بن القاسم، حدثنا إبراهيم المستملي الهستجاني، حدثنا أبو حصين بن يحيى بن سليمان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا أبو بكر بن أبي سبره، عن إبراهيم بن محمد، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب «رضي الله عنه» قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان ليلة النصف من شعبان، قوموا ليلتها وصوموا يومها، فإنّ الله تعالى ينزل لغروب الشمس إلى سمّاه الدّنيا فيقول: ألّا مستغفر فأغفر له، ألّا مسترزق فأرزقه، ألّا مبتلى فأعافيه، ألّا مبتلى فأعافيه، ألّا كذا، ألّا كذا، ألّا كذا، حتّى يطلع الفجر ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» [210] «1» . فِيها يُفْرَقُ يفصل. كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ محكم. قال الحسن ومجاهد وقتادة: يبرم في ليلة القدر من شهر رمضان كلّ أجل وعمل وخلق ورزق، وما يكون في تلك السنة، وقال أبو عبد الرّحمن السلمي: يدبر أمر السنة في ليلة القدر، وقال هلال بن نساف: كان يقال: انتظروا القضاء في شهر رمضان. وقال عكرمة: في ليلة النصف من شعبان، يبرم فيه أمر السنة، وينسخ الأحياء من الأموات، ويكتب الحاج، فلا يزاد فيهم أحد، ولا ينقص منهم أحد. يدل عليه ما أخبرنا عقيل بن محمد، أخبرنا أبو الفرج القاضي، أخبرنا محمد بن جبير، حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس، حدثني أبي، حدثنا الليث، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان. حتّى أنّ الرجل لينكح ويولد له، وقد خرج أسمه في الموتى» [211] «2» . أَمْراً أي أنزلنا أمرا. مِنْ عِنْدِنا من لدنا، وقال الفراء: نصب على معنى نفرق كل
أمر فرق وأمرا. إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ محمد صلّى الله عليه وسلم إلى عبادنا. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وقيل: أنزلناه رحمة، وقيل: أرسلناه رحمة، وقيل: الرحمة. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كسر أهل الكوفة (بائه) ردا على قوله مِنْ رَبِّكَ، ورفعه الآخرون ردا على قوله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وإن شئت على الابتداء. إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ إنّ الله رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فأيقنوا إنّ محمدا رسوله، وإنّ القرآن تنزيله. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ. رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فَارْتَقِبْ فانتظر. يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. اختلفوا في هذا الدّخان، ما هو، ومتى هو، فروى الأعمش ومسلم بن صبيح، عن مسروق، قال: كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الرّحمن، إنّ قاصا عند أبواب كنده، يقص ويقول في قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ إنّه دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ بأنفاس الكفّار والمنافقين وأسماعهم وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، فقام عبد الله وجلس، وهو غضبان، فقال: يا أيّها الناس اتقوا الله، من علم شيئا فليقل ما يعلم، ومن لا يعلم، فليقل الله أعلم، فأن الله تعالى، قال لنبيه صلّى الله عليه وسلم قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «1» وسأحدثكم عن ذلك: أنّ قريشا لما أبطأت عن الإسلام، واستعصت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: «اللهم سبع سنين كسني يوسف «2» » [212] . فأصابهم من الجهد والجوع ما أكلوا الجيف والعظام والميتة والجلود، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلّا الدخان من ظلمة أبصارهم من شدة الجوع، فأتاه أبو سفيان بن حرب، فقال: يا محمد إنّك حيث تأمر بالطاعة وصلة الرحم، وإنّ قومك قد هلكوا فادع الله لهم فإنّهم لك مطيعون. فقال الله تعالى: فقالوا: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ فدعا فكشف عنهم، فقال الله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى كفركم. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر، فهذه خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والرّوم. وقال الآخرون: بل هو دخان يجيء قبل قيام السّاعة، فيدخل في أسماع الكفّار والمنافقين، حتّى تكون كالرأس الحنيذ، ويعتري المؤمن منهم كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلّها كبيت أوقد فيه وليس فيه خصاص.
قالوا: ولم يأت بعد، وهو آت وهذا قول ابن عباس وابن عمير والحسن وزيد بن علي، يدل عليه ما أنبأني عقيل بن محمد، أخبرنا المعافا بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا عصام بن داود الجراح، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن سعيد، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي ابن حراش، قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق النّاس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا» [213] «1» . قال حذيفة: يا رسول الله ما الدخان؟ فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة. أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره. وبه عن ابن جرير، حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عليه، عن ابن جريح، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: غدوت على ابن عباس ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتّى أصبحت. قلت: لم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدّخان قد طرق فما نمت حتّى أصبحت. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى من أين لهم للتذكير والاتعاظ بعد نزول البلاء وحلول العذاب. وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ محمّد صلّى الله عليه وسلم. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ يعلمه بشر. مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى كفركم، وقال قتادة: عائدون في عذاب الله. يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى وهو يوم بدر. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ هذا قول أكثر العلماء، وقال الحسن: هو يوم القيامة. وروي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال ابن مسعود: الْكُبْرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة.
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 إلى 37]
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 37] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على الله وهو موسى بن عمران (عليه السلام) ، وقيل: شريف وبسيط في قومه. أَنْ أَدُّوا أن ادفعوا. إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ يعني بني إسرائيل فلا يعذبهم. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ على الوحي. وَأَنْ لا تَعْلُوا تطغوا وتبغوا. عَلَى اللَّهِ فتعصوه وتخالفوا أمره. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ برهان مبين فتوعدوه بالقتل. فقال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ يقتلون، وقال قتادة: تَرْجُمُونِ بالحجارة. ابن عباس: يشتمون ويقولون هو ساحر. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فخلوا سبيلي غير مرجوم باللسان ولا باليد. فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ مشركون، فقال سبحانه: فَأَسْرِ بِعِبادِي بني إسرائيل. لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وقومه. وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إذا قطعته أنت وأصحابك رهوا ساكنا على حالته وهيئته الّتي كان عليها حين دخلته. إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ. واختلفت عبارات المفسرين عن معنى الرهو فروى الوالبي عن ابن عباس رَهْواً، قال: سمتا. العوفي عنه: هو أن يترك كما كان. كعب: طريقا. ربيع: سهلا. ضحاك: دمثا. عكرمة: يابسا جزرا، وقيل جذاذا. قتادة: طريقا يابسا، وأصل الرهو في كلام العرب السكون. قال الشاعر: كأنما أهل حجر ينظرون متى ... يرونني خارجا طيرا يناديد «1» طيرا رأت بازيا نضح الدماء به ... وأمه خرجت رهوا إلى عيد يعني عليها سكون. كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ مجلس كَرِيمٍ شريف وإنّما سماه كريما لأنّه مجلس الملوك، قاله مجاهد وسعيد بن جبير، وقالا: هي المنابر، وقال قتادة: الكريم الحسن.
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ ناعمين فاكهين أشرين بطرين معجبين. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ بني إسرائيل. نظيره قوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ «1» الآية. فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وذلك إن المؤمن إذا مات بكت عليه السّماء والأرض أربعين صباحا، وقال عطاء: في هذه الآية بكاءها حمرة أطرافها، وقال السدي: لما قتل الحسين بن علي «رضي الله عنهما» بكت عليه السّماء، وبكاؤها حمرتها «2» . حدثنا خالد بن خداش، عن حماد بن زيد، عن هشام، عن محمد بن سيرين. قال: أخبرونا إنّ الحمرة الّتي مع الشفق لم تكن، حتّى قتل الحسين رضي الله عنه «3» . أخبرنا ابن بكر الخوارزمي، حدثنا أبو العياض الدعولي، حدثنا أبي بكر بن أبي خثيمة، وبه عن أبي خثيمة، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سليم القاضي، قال: مطرنا دما أيام قتل الحسين «4» . أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا أبو علي المقري، حدثنا أبو بكر الموصلي، حدثنا أحمد بن إسحاق البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة الرمدني، أخبرني يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلّى الله عليه وسلم إنّه قال: «ما من عبد إلّا له في السّماء بابان: باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ» «5» ، وذلك إنّهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم، ولم يصعد إلى السّماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي. أخبرنا عقيل بن محمد: إنّ المعافا بن زكريا أخبره، عن محمد بن جرير، حدثنا يحيى بن طلحة، حدثنا عيسى بن يونس، عن صفوان بن عمر، عن شريح بن عبيد الحضرمي: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، ألّا لا غربة على مؤمن، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه، إلّا بكت عليه السّماء والأرض» . ثمّ قرأ رسول الله (عليه السلام) : فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ، ثمّ قال: «إنّهما لا تبكيان على الكافر» [214] «6» . وَما كانُوا مُنْظَرِينَ وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ قتل الأبناء واستحياء
النساء. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ يعني مؤمني بني إسرائيل. عَلى عِلْمٍ منّا لهم. عَلَى الْعالَمِينَ يعني عالمي زمانهم وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ قال قتادة: نعمة بيّنة حين فلق لهم البحر وظلّل عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وأنزل «1» عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى. وقال ابن زيد: ابتلاهم بالرخاء والشدة، وقرأ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ «2» . إِنَّ هؤُلاءِ يعني مشركي مكّة. لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين بعد موتنا. فَأْتُوا بِآبائِنا الّذين ماتوا. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّا نبعث أحياء بعد الموت. أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ قال قتادة: هو تبّع الحميري، وكان سار بالجيوش حتّى حيّر الحيرة، وبنى سمرقند، وكان إذا كتب، كتب باسم الّذي يملك برا وبحرا وضحا وريحا. وذكر لنا إنّ كعبا يقول: ذمّ الله قومه ولم يذمّه، وكانت عائشة «رضي الله عنها» تقول: لا تسبوا تبّعا فإنه كان رجلا صالحا، وقال سعيد بن جبير: هو الّذي كسا البيت. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن محمد القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو زرعة عمرو بن جابر، عن سهل بن سعد، قال: سمعت النبي (عليه السلام) يقول: «لا تسبوا تبّعا، فإنّه قد كان أسلم» [215] «3» . أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا محمد بن علي سالم الهمذاني، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن أبي ذيب، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما أدري تبّع نبيا كان أم غير نبي» [216] «4» . وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الخالية الكافرة. أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ.
[سورة الدخان (44) : الآيات 38 إلى 59]
[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 59] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً لا يدفع ابن عم عن ابن عمه ولا صديق عن صديقه. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ اختلف النحاة في محل (مَنْ) فقال بعضهم: محله رفع بدلا من الاسم المضمر في يُنْصَرُونَ، وإن شئت جعلته ابتداء وأضمرت خبره، يزيد إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ فنغني عنه ونشفع له، وإن شئت جعلته نصبا على الاستثناء والانقطاع، عن أول الكلام يريد اللهم إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ الفاجر وهو أبو جهل بن هشام. أنبأني عقيل بن حمد، أخبرنا المعافا بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثني أبو السائب، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، قال: كان أبو الدرداء يقرئ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ فجعل الرجل يقول: طعام اليتيم، فلما أكثر عليه أبو الدرداء فرآه لا يفهم. قال: قل إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طعام الفاجر. كَالْمُهْلِ يَغْلِي بالياء ابن كثير وحفص، ورويس جعل الفعل غيرهم بالتاء لتأنيث الشجرة. فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ يعني الأثيم. فَاعْتِلُوهُ فأدخلوه وادفعوه وسوقوه الى النّار. يقال: عتله يعتله عتلا إذا ساقه بالعنف والدفع والجذب. قال الفرزدق: ليس الكرام بنا حليك أباهم ... حتّى تردّ إلى عطية تعتل «1» أي ساق دفعا وسحبا، وفيه لغتان: كسر التاء، وهي قراءة أبي جعفر وأبي مرو وأهل الكوفة، وضمها وهي قراءة الباقي.
إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ وهو الماء الّذي قال الله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ «1» ثمّ يقال له: ذُقْ هذا العذاب. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ في قومك. الْكَرِيمُ بزعمك، وذلك إنّ أبا جهل. قال: ما بين حبليها رجل أعز ولا أكرم مني. فيقول له الخزنة هذا على طريق الاستخفاف والتحقيق. وقراءة العامة إِنَّكَ بكسر الألف على الابتداء، وقرأ الكسائي بالنصب على معنى لأنّك. إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكون ولا تؤمنون به فقد لقيتموه فذوقوه. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ قرأ أهل المدينة والشام بضم (الميم) من المقام على المصدر أي في إقامة، وقرأ غيرهم بالفتح أي في مكان كريم. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وهو ما رقّ من الديباج. وَإِسْتَبْرَقٍ وهو ما غلظ منه معرّب. مُتَقابِلِينَ كَذلِكَ وكما أكرمناهم بالجنان والعيون واللباس كذلك أكرمناهم بأن. وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ وهي النساء النقيات البياض، قال مجاهد: يحار فيهن الطرف من بياضهنّ وصفاء لونهنّ، بادية سوقهنّ من وراء ثيابهنّ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون. ودليل هذا التأويل إنّها في حرف ابن مسعود (بعيس عين) وهي البيض ومنه قيل للإبل البيض عيس، وواحده بعير أعيس، وناقة عيساء، وقيل: الحور الشديدات بياض الأعين، الشديدات سوادها، واحدها أحور، والعين جمع العيناء، وهي العظيمة العينين. أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الطبري الحاجّي، حدثنا أبو علي الحسن ابن إسماعيل بن خلف الخياط، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين بن الفرج، حدثنا محمد بن عبيد بن عبد الملك، حدثنا محمد بن يعلي أبو علي الكوفي، حدثنا عمر بن صبيح، عن مقاتل بن حيان، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مهور الحور العين قبضات التمر وفلق الخبز» [217] «2» . أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، حدثنا محمد بن عمر بن إسحاق، عن حبش، حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا أيوب بن علي- يعني الصباحي- حدثنا زياد بن سيار- مولى لي- عن عزة بنت أبي قرصافة، عن أبيها قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين» [218] «3» . يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ اشتهوها. آمِنِينَ من نفادها وعدمها في بعض الأزمنة ومن
غائلتها ومضرّتها، وقال قتادة: آمِنِينَ من الموت والأوصاب والشيطان. لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى يعني سوى الموتة الأولى وبعدها وضع (إلا) موضع بعد كقوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «1» . يعني بعد ما قد فعل آباؤكم وسواه، وهذا كما يقول في الكلام: ما ذقت اليوم طعاما سوى ما أكلته أمس. وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فَإِنَّما يَسَّرْناهُ سهلناه، كناية عن غير مذكور. بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ فانتظر الفتح والنصر من ربّك. إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ بزعمهم قهرك.
سورة الجاثية
سورة الجاثية مكيّة، وهي سبع وثلاثون آية، وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة، وألفان ومائة وواحد وتسعون حرفا أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه، أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر العدل، حدثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا سلام بن سليم، حدثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته عند الحساب» [219] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ. قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بكسر التاء من آيات وكذلك الّتي بعدها ردا على قوله: لَآياتٍ وقرأ الباقون برفعها على خبر حرف الصفة. لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ يعني الغيث سماه رزقا لأنّه سبب أرزاق العباد وأقواتهم فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ. أي بعد حديث الله وكلامه. وَآياتِهِ وحججه ودليله. يُؤْمِنُونَ قرأ أهل الكوفة بالتاء، وأختلف فيه عن عاصم ويعقوب عنهم بالياء. وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذّاب. أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذا عَلِمَ يعني قوله مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً. أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ نزلت في أبي جهل وأصحابه. مِنْ وَرائِهِمْ أمامهم. جَهَنَّمُ نظيره في سورة إبراهيم (عليه السلام) . وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا من الأموال. شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني الأوثان. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا القرآن. هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ من عذاب موجع. اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ... فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدثنا طلحة وعبد الله، قالا: حدثنا ابن مجاهد، حدثني ابن أبي مهران، حدثني أحمد بن يزيد، حدثنا شبابة، عن أبي سمبلة، عن عبد العزيز بن علي القريشي، حدثنا محمد بن عبد الله بن أيوب الثقفي، عن عثمان بن بشير، قال: سمعت ابن عباس يقرأ: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَنُّهُ مفتوحة (الميم) ، مرفوعة (النون) ، وبه رواية، عن ابن عمر، قال: سمعت مسلمة يقرأ: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَنُّهُ مفتوحة (الميم) مرفوعة (النون) وهي مشددة، (والهاء) مضمومة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون نقمه، قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في عمر بن الخطاب صلّى الله عليه وسلم، وذلك أنّ رجلا من بني غفار كان يشتمه فهمّ عمر أن يبطش به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره بالعفو. أخبرنا الحسين بن محمد بن عبد الله، حدثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا محمد بن زياد الشكري، عن ميمون ابن مهران، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» .
قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج ربّ محمد. قال: فلما سمع بذلك عمر بن الخطاب اشتمل على سيفه وخرج في طلبه. فجاء جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم، فقال: إنّ ربّك يقول: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ، وأعلم إنّ عمر بن الخطاب قد اشتمل على سيفه وخرج في طلب اليهودي» . فبعث النبي صلّى الله عليه وسلم في طلبه، فلما جاءه، قال: «يا عمر خرج سيفك؟» . قال: صدقت يا رسول الله، أشهد أنّك أرسلت بالحقّ، قال: «فإنّ ربّك يقول: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ «1» » [220] . قال: لا جرم والّذي بعثك بالحقّ لا يرى الغضب في وجهي. قال القرظي والسدي: نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أهل مكّة كانوا في أذى شديد من المشركين، قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى هذه الآية ثمّ نسختها آية القتال. لِيَجْزِيَ قَوْماً بفتح الياءين وكسر الزاء، وقرأ أبو جعفر بضم الياء الأولى وجزم الثانية، قال أبو عمرو: وهو لحن ظاهر، وقال الكسائي: وهذه ليجري الجزاء قوما، وقرأ الباقون بفتح الياءين على وجه الخبر عن الله تعالى، واختاره أبو عبيده وأبو حاتم لذكر الله تعالى قبل ذلك. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الحلالات، يعني المن والسلوى. وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ يعني أحكام التوراة. فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ سنة وطريقة. مِنَ الْأَمْرِ من الدّين. فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يعني مراد الكافرين الجاهلين، وذلك حين دعي إلى دين آبائه. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إن اتبعت أهواءهم. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ هذا يعني هذا القرآن. بَصائِرُ معالم. لِلنَّاسِ في الحدود والأحكام يبصرون بها. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا اكتسبوا. السَّيِّئاتِ يعني الكفر والمعاصي. أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً قرأ أهل الكوفة نصبا واختاره أبو عبيدة، وقال: معناه نجعلهم سواء، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء والخبر، واختاره أبو حاتم، وقرأ الأعمش وَمَماتَهُمْ بنصب التاء على الظرف، أي في. مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس ما يقضون، قال المفسرون: معناه المؤمن في
[سورة الجاثية (45) : الآيات 22 إلى 37]
الدّنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدّنيا والآخرة كافر. نزلت هذه الآية في نفر من مشركي مكّة قالوا للمؤمنين: لئن كان ما تقولون حقا لنفضلنّ عليكم في الآخرة، كما فضلنا عليكم في الدّنيا. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا جعفر بن محمّد الفرماني، حدثنا محمّد بن الحسين البلخي، حدثنا عبد الله بن المبرك، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال لي رجل من أهل مكّة: هذا مقام أخيك تميم الداري، لقد رأيته ذات ليلة، حتّى أصبح أو كاد أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله، ويركع، ويسجد، ويبكي أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ ... الآية. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل، حدثني أبو هشام زياد بن أيوب، حدثنا علي بن يزيد، حدثنا عبد الرحمن بن عجلان، عن بشير بن أبي طعمة، قال: بتّ عند الربيع بن خيثم ذات ليلة، فقام يصلي فمر بهذه الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فمكث ليله حتّى أصبح ما يجوز هذه الآية إلى غيرها، ببكاء شديد، وقال إبراهيم بن الأشعث: كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض، يردد من أول الليلة إلى آخرها هذه الآية ونظائرها أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ثمّ يقول: يا فضيل ليت شعري من أي الفريقين أنت. [سورة الجاثية (45) : الآيات 22 الى 37] وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ.
قال ابن عباس والحسين وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئا إلّا ركبه، إنّه لا يؤمن بالله ولا يخافه ولا يحرم ما حرم الله ولا يحل ما أحل الله، إنّما دينه ما هويت نفسه يعمل به ولا يحجزه عن ذلك تقوى. وقال آخرون: معناه أفرأيت من اتّخذ معبوده هواه، فيعبد ما يهوى. قال سعيد بن جبير: كانت قريش تعبد العزي- وهو حجر أبيض- حينا من الدهر، وكانت العرب تعبد الحجارة والذهب والفضة، فإذا وجدوا شيئا أحسن من الأول رموه أو كسروه أو ألقوه في بئر، وعبدوا الآخر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس التميمي أحد المستهترين، وذلك إنّه كان يعبد ما تهواه نفسه. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا طلحة وعبيد الله، قالا: حدثنا ابن مجاهد، حدثني ابن أبي مهران، حدثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، قال: قال سفيان بن عيينة: إنّما عبدوا الحجارة لإنّ البيت حجارة. وقال الحسين بن الفضل: في هذه الآية تقديم وتأخير مجازها: أفرأيت من أتخذ هواه إلهه. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدثنا محمد بن عمران بن هارون، حدثنا أبو عبيد الله المخزومي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: إنّما سمي الهوى لأنّه يهوي بصاحبه في النّار. وبه عن سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: ما ذكر الله عز وجل هوى في القرآن إلّا ذمه. فروى أبو أمامة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم إنّه، قال: «ما عبد تحت السّماء إله أبغض إلى الله من هوى» [221] «1» . وقال صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه «2» » [222] . وروى ضمرة بن حبيب، عن شداد بن أوس إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفاجر من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله» [223] «3» . وقال مضر القاضي: لنحت الجبال بالأظافير حتّى تتقطع الأوصال، أهون من مخالفة الهوى إذا تمكن في النفوس. وسئل ابن المقفع عن الهوى، فقال: هوان سرقت نونه، فنظمه الشاعر: نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقال آخر:
إنّ الهوى لهو الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد كسبت هوانا «1» وإذا هويت فقد تعبدك الهوى ... فاخضع لحبّك كائنا من كانا أنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا أبو حاتم محمّد بن حيان المسني، قال: ولم أر أكمل منه. قال: وأنشدنا محمد بن علي الحلاري لعبد الله المبرك: ومن البلاء للبلاء علامة ... أن لا يرى لك عن هواك نزوع «2» العبد عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع تارة ويجوع وأنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي، أنشدنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي، أنشدنا أبو المثنى معاذ بن المثنى العنبري، عن أبيه لأبي العتاهية: فاعص هوى النفس ولا ترضها ... إنك إن أسخطتها زانكا حتّى متى تطلب مرضاتها ... وإنّها تطلب عدوانكا وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا أبو عبيد الطوسي: والنفس إن أعطيتها مناها ... فاغرة نحو هواها فاها «3» وسمعت أبا القاسم يقول: سمعت أبا نصر بن منصور بن عبد الله الأصبهاني بهراة يقول: سمعت أبا الحسن عمرو بن واصل البحتري يقول: سئل سهل بن عبد الله التستري عن الهوى فقال للسائل: هواك يأمرك فإن خالفته فرّط بك، وقال: إذا عرض لك أمران شككت خيرها فانظر أبعدهما من هواك فإنه. وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا الإمام أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال المشاشي بمرو وأنشدني أبو بكر الزيدي: إذا طالبتك النفس يوما بشهوة ... وكان إليها للخلاف طريق «4» فدعها وخالف ما هويت فإنما ... هواك عدوّ والخلاف صديق «5» قوله سبحانه وتعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ منه بعاقبة أمره. وَخَتَمَ طبع. عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً قرأ حمزة والكسائي وخلف غَشْوَةً بفتح (الغين) من غير (ألف) والباقون غِشاوَةً (بالألف) وكسر (الغين) . فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَقالُوا يعني المشركين.
ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا يموت الآباء ويحيا الأبناء. وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وما يفنينا إلّا الزمان وطول العمر وفي حرف عبد الله وما يهلكنا الدهر يمر. وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ أخبرنا الحسين بن فنجويه بقراءتي حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي الدينوري، حدثنا أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب القاضي، حدثنا أحمد بن المقدام العجلي، حدثنا سفيان بن عيينة بن ابي عمران، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم، قال: «كان أهل الجاهلية يقولون: إنّما الليل والنهار هو الّذي يهلكنا يميتنا ويحيينا» فقال الله تعالى في كتابه: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فيسبون الدّهر. فقال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدّهر وأنا الدّهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» [224] «1» . أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة فاقرّ به، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن، حدثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأحمد بن يوسف، قالوا: حدثنا عبد الرزاق بن همام، أخبرنا معمر بن راشد، عن همام بن منبه بن كامل بن سيج، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة، عن محمد صلّى الله عليه وسلم، قال: «قال الله تعالى: لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما» [225] «2» . أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة، حدثنا عبد الملك بن أحمد البغدادي، حدثنا محمود بن خداش، حدثنا سفيان بن محمد الثوري، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «لا تسبوا الدهر فإنّ الله تعالى هو الدهر» [226] «3» . قال أبو عبيد القاسم بن سلام في تفسير هذا الحديث: إنّ هذا مما لا ينبغي لأحد من أهل الإسلام أن يجهل وجهه وذلك أن من شأن العرب أن يذموا الدهر عند المصائب والنوائب [.......] «4» اجتاحهم الدهر وتخوفتهم الأيام وأتى عليهم الزمان وما أشبه ذلك حتّى ذكروها في أشعارهم، [ونسبوا الأحداث إليه] «5» . قال عمرو بن قميئة:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمي وليس برام «1» فلو أنّها نبل إذا لاتقيتها ... ولكنّني أرمي بغير سهام على الراحتين مرة وعلى العصا ... أنوء ثلاثا بعدهن من قيامي وروي إنّ الشعبي دخل على عبد الملك بن مروان وقد ضعف. فسأله عن حاله، فأنشده هذه الأبيات: فاستأثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني ولا أرمي يا دهر قد أكثرت فجعتنا ... بسراتنا ووقرت في العظم وتركتنا لحم على وضم ... لو كنت تستبقي من اللحم «2» وسلبتنا ما لست تعقبنا ... يا دهر ما أنصفت في الحكم وأنشدنا أبو القاسم السدوسي، أنشدنا عبد السميع بن محمد الهاشمي، أخبرنا أبو الحسن العبسي لابن لنكك في هذا المعنى: قل لدهر عن المكارم عطل ... يا قبيح الفعال جهم المحيا كم كريم حططته من بقاع ... ولئيم ألحقته بالثريا قال أبو عبيده: وناظرت بعض الملاحدة. فقال: إلّا تراه يقول: فإنّ الله هو الدهر. فقلت له: وهل كان أحد يسب الله في أياد الدهر، بل كانوا يقولون كما قال الأعشى: استأثر الله بالوفاء وبالعدل ... وولى الملامة الرجلا «3» قال: فتأويل قوله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله هو الدهر» [227] ، إن الله جل ذكره هو الّذي يأتي بالدهر والشدائد والمصائب فإذا سببت الدهر وقع السب على الله تعالى لأنّه فاعل هذه الأشياء وقاضيها ومدبرها. وقال الحسين بن الفضل: مجازه: فإنّ الله هو مدهّر الدهور. وروي عن علي رضي الله عنه في خطبة له: مدهّر الدهور، ومن عنده الميسور، ومن لدنه المعسور. ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري، حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن الكارزي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن القاسم الجمحي، حدثنا عسر بن أحمد، قال: بلغني إنّ سالم بن عبد الله بن عمر كان كثيرا ما يذكر الدهر، فزجره أبو عبد الله بن عمر، وقال له: يا بني إياك وذكر الدهر، وأنشد: فما الدهر بالجاني لشيء لحينه ... ولا جالب البلوى فلا تشتم الدهرا
ولكن متى ما يبعث الله باعثا ... على معشر يجعل مياسيرهم عسرا وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي، أنشدنا الشيخ أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني، أنشدنا معاذ بن نجدة بن العريان: دار الزمان على الأمور فإنّه ... [إن لحدا أزراك] بالآلام وذو الزمان على الملام فإنما ... يحكي الزمان مجاري الأقلام يشكى الزمان ويستزاد وإنّما ... بيد المليك ساند الأحكام وأنشدنا الأستاذ أبو القاسم، أنشدني أبي، أنشدني أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي: يا عاتب الدهر إذا نابه ... لا تلم الدّهر على عذره الدهر مأمور له آمر ... وينتهي الدهر إلى أمره كم كافر أمواله جمة ... تزداد أضعافا على كفره «1» ومؤمن ليس له درهم ... يزدادا ايمانا على فقره وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني ليوم القيامة. لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً مجتمعة مستوفرة على ركبها من هول ذلك اليوم، وأصل الجثوة الجماعة من كلّ شيء. قال طرفة يصف قبرين: ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح مصمد «2» أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا موسى بن محمد الحلواني، حدثنا يعقوب بن إسحاق العلوي. حدثنا عبد الله بن يحيى الثقفي، حدثنا أبو عران، عن عاصم الأحول، عن ابن عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي، قال: في القيامة ساعة هي عشر سنين يكون الناس فيها جثاة على ركبهم حتّى إبراهيم (عليه السلام) لينادي «لا أسألك اليوم إلا نفسي» . كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الّذي فيه أعمالها. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ فيه ديوان الحفظة وقيل اللوح المحفوظ. أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عمر بن نوح البجلي، حدثنا أبو خليفة، حدثنا عثمان بن عبد
الله الشامي، حدثنا عقبة بن الوليد، عن أرطأة بن المنذر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أول شيء خلق الله القلم من نور مسيره خمسمائة عام، واللوح من نور مسيره خمسمائة عام، فقال للقلم: اجر فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، بردها وحرها، ورطبها ويابسها، ثمّ قرأ هذه الآية هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» [228] «1» . إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قال: وهل يكون النسخ إلّا من كتاب قد فرغ منه، ومعنى نستنسخ يأمر بالنسخ، وقال الضحاك: نثبث. السدي نكتب. الحسن: نحفظ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ جنّته ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظفر الطاهر. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فيقال لهم: أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قرأه العامة بالرفع على الابتداء وخبره فيما بعده ودليلهم قوله: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «2» . قرأ أبو رجاء وحمزة وَالسَّاعَةَ نصبا عطفا بها على الوعد لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ إنّها كائنة. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي جزاؤها. وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في النّار. كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا كما تركتم الإيمان بيومكم هذا. وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ. ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ. قرأه العامة بضم الياء، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصم بفتحه. مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يسترضون. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ قرأه العامة بكسر (الباء) في ثلاثتها، وقرأ ابن محيصن رفعا على معنى هو ربّ. وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
محتوى الجزء الثامن من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء الثامن من كتاب تفسير الثعلبي سورة الأحزاب 5 سورة سبأ 69 سورة الملائكة (فاطر) 97 سورة يس 118 سورة الصافات 138 سورة ص 175 سورة الزمر 220 سورة المؤمن 261 سورة فصّلت 285 سورة الشّورى 301 سورة الزخرف 327 سورة الدّخان 348 سورة الجاثية 358 طبع على مطابع دار احياء التراث العربي
الجزء التاسع
الجزء التاسع سورة الأحقاف مكّية. وهي خمسة وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة. وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا أخبرنا أبو جعفر كامل بن أحمد المفيد، أخبرنا أبو عمرو محمّد بن جعفر بن محمّد الحبري، حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي، حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدّثنا سلام بن سليم، حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة الباهلي، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الأحقاف أعطي من الأجر بعدد كلّ نمل في الدّنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيّئات ويرفع له عشر درجات» [1] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ في مصحف عبد الله (أرأيتكم) . ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ من عند الله جاءكم. مِنْ قَبْلِ هذا القرآن فيه بيان ما تقولون. أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قرأه العامّة بالألف واختلف العلماء في تأويلها، أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا عبد الله بن هاشم، حدّثنا يحيى بن سعيد، عن صفوان بن سليم، عن أبي سلمة، عن ابن عبّاس
وأظنّه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: [الخط] «1» ، وقال ميمون بن مهران وأبو سلمة بن عبد الرحمن وقتادة: خاصّة من علم. الحسن: أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ يستخرجوه فيثير «2» . مجاهد: رواية تأثرونها عمّن كان قبلهم. عكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء (عليهم السّلام) . محمّد بن كعب القرضي: الإسناد وأصل الكلمة من الأثر وهي الرواية. يقال: نموت الحديث «3» أثره، أثرا وأثارة، كالشجاعة، والجلادة، والصلابة، فما آثروا، ومنه قيل للخبر: أثر. قال الأعشى: إنّ الّذي فيه تماريتما ... بيّن للسامع والآثر «4» وقال الكلبي: بقية من علم. قال الأخفش: تقول العرب: لهذه الناقة أثارة من سمن، أي بقيّة. قال الراعي: وذات أثارة أكلت عليها ... بناتا في أكمّتها قصارا وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَوْ أَثْرَةٍ بفتح (الألف) وسكون (الثاء) من غير (ألف) . وقرأ السلمي أَوْ أَثَرَةٍ بفتح (الهمزة) و (الثاء) من غير (ألف) ، أي خاصة من علم أوتيتموه وأوثرتم بها على غيركم. وقول عكرمة: أو ميراث من علم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ أجهل. مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ يعني الأوثان. عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ لا يسمعون ولا يفهمون. فأخرجها وهي جماد مخرج ذكور بني آدم إذ كانت قد مثّلتها عبدتها بالملوك والأمراء التي تخدم. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ جاحدين وعنهم متبرّئين. بيانه قوله: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «5» . وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إن عذّبني على افترائي.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 9 إلى 12]
هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ تخوضون. فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 9 الى 12] قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ بديعا مثل نصف ونصيف، من الرسل، لست بأوّل مرسل، فلم تنكرون نبوّتي؟ هل أنا إلّا كالأنبياء قبلي؟ وجمع البدع: أبداع، قال عدي بن زيد: فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالا عرت من بعد بؤسي وأسعدي «1» وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ اختلف العلماء في معنى هذه الآية وحكمها، فقال بعضهم: معناها وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ يوم القيامة. فلمّا نزلت هذه الآية فرح المشركون فرحا شديدا، وقالوا: واللات والعزّى ما أمرنا وأمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم عند الله إلّا واحد، وما له علينا من مزية وفضل، ولولا إنّه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به. فأنزل الله تعالى لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «2» . فبيّن له أمره ونسخت هذه الآية، فقالت الصحابة: هنيئا لك يا نبيّ الله، قد علمنا ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «3» الآية. وأنزل وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً «4» فبيّن الله تعالى ما يفعل به وبهم. وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة. أخبرني الحسين بن محمّد بن الحسين الدينوري، حدّثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني، حدّثنا إسماعيل بن داود، حدّثنا هارون بن سعيد، حدّثنا ابن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن أبي شهاب إنّ خارجة بن زيد بن ثابت أخبره أنّ أمّ العلاء- امرأة من الأنصار قد بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- أخبرته أنّهم اقتسموا والمهاجرين سكناهم قرعة.
قالت: فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه أبياتنا موضعه الّذي توفي فيه، فلمّا توفي غسّل وكفّن في أثوابه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت لعثمان بن مظعون: رحمة الله عليك أبا السائب، لقد أكرمك الله، فقال رسول الله: «وما يدريك إنّ الله تعالى «1» أكرمه» . قالت: فقلت: بأبي أنت وأمي لا أدري. قال: «أما هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلّا خيرا. فو الله إنّي لأرجو له الجنّة، فو الله ما أدري- وأنا رسول الله-ماذا يفعل بي» [2] «2» . قالت: فو الله لا أزكّي بعده أحدا. قالوا: وإنّما قال هذا حين لم يخبر بغفران ذنبه، وإنّما غفر الله له ذنبه في غزوة الحديبية قبل موته بسنتين وشيء، وقال ابن عبّاس: لمّا اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رسول الله فيما يرى النائم وهو بمكّة أرضا ذات سباخ ونخل رفعت له، يهاجر إليها. فقال له أصحابه وهم بمكّه: إلى متى نكون في هذا البلاء الّذي نحن فيه؟ ومتى نهاجر إلى الأرض التي أريت. فسكت. فأنزل الله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أترك في مكاني أو أخرج إلى الأرض التي رفعت لي، وقال بعضهم: معناها: ولا أدري ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ، إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدّنيا؟ أنبأني عقيل بن محمّد، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمّد بن جرير، أخبرنا ابن حميد، حدّثنا يحيى بن واضح، حدّثنا أبو بكر الهذل، عن الحسن. في قوله تعالى: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ، فقال: أمّا في الآخرة فمعاذ الله قد علم إنّه في الجنّة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ في الدّنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي ولا أدري ما يفعل بكم، أمّتي المكذّبة أم المصدّقة، أم أمّتي المرميّة بالحجارة من السّماء قذفا أم مخسوف بها خسفا. ثمّ أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «3» . يقول: سيظهر دينكم على الأديان. ثمّ قال في أمّته: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «4» فأخبره الله تعالى ما يصنع به وبأمّته. وهذا قول السدي واليماني، وقال الضحّاك: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي ما تؤمرون وما تنهون عنه.
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ. قال قتادة والضحاك وابن زيد: هو عبد الله بن سلام شهد على نبوّة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ اليهود، فلم يؤمنوا. أخبرنا عبد الرّحمن بن إبراهيم بن محمّد بن يحيى، أخبرنا عبدوس بن الحسين بن منصور، حدّثنا محمّد بن إدريس يعني الحنظلي، وأخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا أبو جعفر محمّد بن محمّد بن عبد الله البغدادي، حدّثنا إسماعيل بن محمّد بن إسحاق، حدّثنا عمر بن محمّد بن عبد الله الأنصاري. حدّثني حميد الطويل، عن أنس، قال: جاء عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدمه المدينة، فقال: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبي، ما أوّل أشراط السّاعة؟، وما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟، والولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟. قال: «أخبرني جبريل بهنّ آنفا» قال عبد الله: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة. قال: «أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة مرارة «1» كبد حوت، فأمّا الولد، فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت الولد» [3] «2» . فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّك رسول الله. ثمّ قال: يا رسول الله إنّ اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسائلهم عنّي بهتوا عليّ عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أي رجل عبد الله فيكم؟» قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيّدنا وابن سيّدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: «أرأيتم إن أسلم عبد الله» . قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله. فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله. قالوا: شرّنا وابن شرّنا. وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر. ودليل هذا التأويل أنبأني عقيل بن محمّد أنّ المعافى بن زكريا أخبرهم، عن محمّد بن جرير، أخبرنا يونس، أخبرنا عبد الله بن يوسف السبكي قال: سمعت مالك بن أنس يحدّث، عن أبي النضر، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنّه من أهل الجنّة، إلّا لعبد الله بن سلام [4] «3» .
قال: وفيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ. وقال آخرون: هو موسى بن عمران (عليه السّلام) . وروى الشعبي، عن مسروق في هذه الآية، قال: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأنّ ل حم نزلت بمكّة، وإنّما أسلم عبد الله بالمدينة، وإنّما كانت محاجّة من رسول الله لقومه، فأنزل الله تعالى هذه الآية ومثل القرآن التوراة، فشهد موسى على التوراة، ومحمّد على القرآن، وكلاهما مصدّق أحدهما الآخر، وقيل: هو ابن يامين. وقيل: هو نبي من بني إسرائيل فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ فلم يؤمنوا. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لدينه وحجّته، وقال أهل المعاني: هذه الآية محذوفة الجواب مجازها قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ من المحقّ منّا ومنكم، ومن المبطل؟ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من اليهود. لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ دين محمّد خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ يعني عبد الله بن سلام وأصحابه، قاله أكثر المفسّرين، وقال قتادة: نزلت هذه الآية في ناس من مشركي قريش، قالوا: لو كان ما يدعونا إليه محمّد خيرا ما سبقنا إليه فلان، وفلان يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ «1» . وقال الكلبي: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أسدا وغطفان لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني جهينة ومزينة. لَوْ كانَ ما جاء به محمّد خَيْراً ما سبقنا إليه رعاء البهم ورذال الناس. قال الله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان. فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ كما قالوا: أساطير الأوّلين. وَمِنْ قَبْلِهِ أي ومن قبل القرآن. كِتابُ مُوسى إِماماً يؤتم به. وَرَحْمَةً لمن آمن وعمل به، ونصبا على الحال، عن الكسائي، وقال أبو عبيدة: فيه إضمار أي أنزلناه أو جعلناه إماما ورحمة. الأخفش على القطع لأنّ قوله: كِتابُ مُوسى معرفة بالإضافة، والنكرة إذا أعيدت وأضيفت أو أدخلت عليها الألف واللام، صارت معرفة. وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا نصب على الحال، وقيل: أعني لسانا. وقيل: بلسان. لِيُنْذِرَ (بالتاء) مدني وشامي ويعقوب وأيوب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على خطاب النبي (عليه السّلام) ، وقرأ الباقون (بالياء) على الخبر عنه. وقيل: عن الكتاب. الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر والمعصية. وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ وجهان من الإعراب:
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 إلى 25]
الرفع على العطف على الكتاب مجازه وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ وبشرى، والنصب على معنى لتنذر الّذين ظلموا أو تبشّر. فلمّا جعل مكان وتبشر وَبُشْرى أو وبشارة نصب كما يقال: أتيتك لأزورك وكرامة لك، وقضاء حقّك يعني لأزورك وأكرمك وأقضي حقّك، فنصبت الكرامة والقضاء بفعل مضمر. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 13 الى 25] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً قرأ العامّة: «حُسْناً» بدون ألف، وقرأ أهل الكوفة: (إِحْساناً) وهي قراءة ابن عبّاس «1» . حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً بكره ومشقّة. وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ وفطامه، وقرأ الحسن
ويعقوب: «وفصله» بغير ألف. ثَلاثُونَ شَهْراً قال المفسّرون: حمله ستّة أشهر ورضاعه أربعة وعشرون شهرا. وقال ابن إسحاق: حمله تسعة أشهر وفصاله من اللبن لأحد وعشرين شهرا. حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ نهاية قوّته وقامته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة، فذلك قوله تعالى: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قال السدي والضحاك: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقّاص. وقد مضت القصة، وقال الآخرون: نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرة، وأمّه أمّ الخير بنت صخر بن عمرو بن عامر، فلمّا بلغ أبو بكر أربعين سنة آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقال لربّه: إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه، حدّثنا إسحاق بن صدقة، حدّثنا عبد الله بن هاشم، عن سيف بن عمر، عن عطية، عن أبي أيّوب، عن علي رضي الله عنه في قوله: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً نزلت في أبي بكر، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من أصحاب رسول الله [من] المهاجرين [أسلم] أبواه غيره، أوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ألهمني وأوسعني. أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أن تجعلهم مؤمنين صالحين. قالوا: فأجاب الله تعالى أبا بكر في أولاده فأسلموا، ولم يكن أحد من الصحابة أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته إلّا أبو بكر رضي الله عنه. إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني أعمالهم الصالحة فيثيبهم عليها. وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فلا يعاقبهم بها. فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي مع أصحاب الجنّة، و (فِي) بمعنى مع وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ وهو قوله: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «1» وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ إذا دعوه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث والجزاء. أُفٍّ لَكُما وهي كلمة كراهية. أَتَعِدانِنِي قراءة العامة (بنونين) حقيقيتين، وروى أهل الشام (بنون) واحدة مشدّدة أَنْ أُخْرَجَ من قبري حيّا بعد فنائي وبلائي. وَقَدْ خَلَتِ مضت الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فلم يبعث منهم أحد. وقرأ الحسن والأعمش وأبو معمر أَنْ أَخْرُجَ بفتح وضم (الراء) . وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يستصرخان الله ويستغيثانه عليه ويقولان له:
وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا الذي تعدانني وتدعوانني إليه. إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ قال ابن عبّاس وأبو العالية والسدي ومجاهد: نزلت هذه الآية في عبد الله. وقيل: في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصدّيق. قال له أبواه: أسلم وألحّا عليه في دعائه إلى الإيمان. فقال: أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتّى أسألهم عمّا يقولون. قال محمّد بن زياد: كتب معاوية إلى مروان حتّى يبايع الناس ليزيد، فقال عبد الرّحمن بن أبي بكر: لقد جئتم بها هرقلية، أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: هذا الذي يقول الله تعالى فيه: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي ... الآية. فسمعت عائشة رضي الله عنها بذلك فغضبت، وقالت: والله ما هي به، ولو شئت لسمّيته ولكنّ الله لعن أباك وأنت في صلبه فأنت نضض «1» من لعنة الله. أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وجب عليهم العذاب. قالوا: يعني الّذين أشار عليهم ابن أبي بكر، وقال أحيوهم إليّ، هم الّذين حقّ عليهم القول، وهم الماضون بقوله: وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي، فإمّا ابن أبي بكر فقد أجاب الله تعالى فيه دعاء أبيه بقوله: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فأسلم وحسن إسلامه. وقال الحسن وقتادة: هذه الآية مرسلة عامة، وهي نعت عبد كافر فاجر عاق لوالديه. فِي أُمَمٍ مع أمم. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ وَلِكُلٍّ واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين. دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بإعمالهم فيجازيهم عليها، وقال ابن زيد: في هذه الآية درج أهل النار تذهب سفالا، ودرج أهل الجنّة تذهب علوّا. وَلِيُوَفِّيَهُمْ أجورهم (بالياء) مكي وبصري وهشام، والباقون (بالنون) . أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ فيقال لهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها قرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب (أذهبتم طيباتكم) بالاستفهام، واختلف فيه عن أهل الشام، وغيرهم بالخبر، وهما صحيحتان فصيحتان لأنّ العرب تستفهم بالتوبيخ وتترك الاستفهام فيه. فتقول: أذهبت ففعلت كذا وكذا؟، وذهبت ففعلت وفعلت؟ فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أخبرنا ابن محمّد بن الحسين بن منجويه، حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن علي بن عبد الله، حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي، حدّثنا حميد بن الربيع، حدّثنا أبو معمر،
حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا محمّد بن حجارة، عن حميد الشامي، عن سليمان، عن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: كان رسول الله إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله وأوّل من يدخل عليه إذا قدم فاطمة عليها السلام. فلمّا قدم من غزوة فأتاها فإذا لمح وقيل: لمح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضّة، فرجع ولم يدخل عليها، فلمّا رأت ذلك فاطمة ظنّت إنّه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصّبيين، فقطعتهما، فبكى الصبيّان، فقسمته بينهما نصفين، فانطلقا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهما يبكيان، فأخذه رسول الله منهما، وقال: «يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان- أهل بيت بالمدينة- واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج» قال: «فإنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أحبّ أن يأكلوا طيّباتهم في الحياة الدّنيا» [5] «1» . أنبأني عقيل بن محمّد، قال: أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمّد بن جرير، حدّثنا كثير، حدّثنا يزيد، حدّثنا سعيد، عن قتادة، قال: حدّثنا صاحب لنا، عن أبي هريرة، قال: إنّما كان طعامنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأسودان: الماء، والتمر، والله ما كنا نرى سمراكم هذه ولا ندري ما هي. وبه عن قتادة، عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس الأشعري، عن أبيه، قال: أي بني لو شهدتنا ونحن مع نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابتنا السماء حسبت إنّ ريحنا ريح الضأن، إنّما كان لباسنا الصوف. وبه عن قتادة، قال: ذكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان يقول: لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا، ولكنّي أستبقي طيباتي. وذكر لنا أنّه لما قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله. قال: هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟! قال خالد ابن الوليد: لهم الجنّة. فاغرورقت عينا عمر، وقال: لئن كان حظّنا في الحطام وذهبوا فيما أرى أنا بالجنّة لقد باينونا بونا بعيدا. وذكر لنا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على أهل الصفة، مكانا يجتمع فيه فقراء المسلمين- وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا. قال: أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما يستر الكعبة؟ قالوا: نحن يومئذ خير. أخبرنا الحسين بن منجويه، حدّثنا محمّد بن أحمد بن نصرويه، حدّثنا أبو العبّاس أحمد ابن موسى الجوهري، حدّثنا علي بن سهل الرملي، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثني رزق أبو الهذيل، حدّثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه حدّثه أنّه دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين هجر نساءه فوافاه على سرير رميل، يعني مرمولا مشدودا، قد أثّر الحصير في جنبه، متوسّد وسادة من أدم محشوة ليف.
فقال عمر: والتفتّ في البيت فو الله ما رأيت شيئا يردّ البصر إلّا أهب- يعني جلدا معطوبة- قد سطع ريحها، فبكيت، فقلت: يا رسول الله أنت رسول الله وخيرته، فيما أرى وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحرير؟! فاستوى رسول الله جالسا، وقال: «أوفي شك أنت يا ابن الخطّاب؟» «أولئك قوم عجلت لهم طيّباتهم في حياتهم الدّنيا» [6] «1» . أخبرنا ابن منجويه الدينوري، حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن عتبة، حدّثنا الفرماني، حدّثنا أبو أمية الواسطي، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا مبارك بن فضالة، حدّثنا حفص بن أبي العاص، قال: كنت أتغدى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتغدينا الخبز والزيت والخل، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقلّ ذلك اللحم العريض، وكان يقول: «لا تنخلوا الدقيق فإنّه كلّه طعام» [7] . فيجيء بخبز منقلع غليظ، فجعل يأكل ويقول لنا: كلوا. فجعلنا نعتذر، فقال: ما لكم لا تأكلون؟! فقلت: لا نأكله والله يا أمير المؤمنين، نرجع إلى طعام ألين من طعامك. قال: بخ يا بن أبي العاص، ألا ترى أنّي عالم بأن آمر بدقيق أن ينخل بخرقة فيخبز في كذا، وكذا؟ أما ترى أنّي عالم إنّ آمر إلى عناق سمينة فيلقى عنها شعرها، ثمّ تخرج صلاء كأنّه كذا وكذا؟ أما ترى أنّي عالم أن أعمل إليّ صاع أو صاعين من زبيب فاجعله في سقاء ثمّ أرش عليه من الماء فيطبخ كأنّه دم غزال؟ قال: قلت: والله يا أمير المؤمنين إني لأراك عالما بطيب العيش، فقال عمر: أجل، والله الذي لا إله إلّا هو لولا إنّي أخاف أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في العيش، ولكنّي سمعت الله يقول لقوم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها «2» . أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز، حدّثنا محمّد بن بكار الريان، حدّثنا أبو معشر، عن محمّد بن قيس، عن جابر بن عبد الله. قال: اشتهى أهلي لحما، فمررت بعمر بن الخطّاب رضي الله عنه، فقال: ما هذا يا جابر؟ فقلت: أشتهى أهلي لحما، فاشتريت لحما بدرهم. فقال: أوكلّما اشتهى أحدكم شيئا جعله في بطنه؟ أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا؟ أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا محمّد بن الحسين، حدّثنا بشر، حدّثنا ابن أبي الخصيب، أخبرني أحمد بن محمّد بن أبي موسى، حدّثنا أحمد بن أبي الحواري، حدّثنا أبي، قال: قال وهب بن الورد: خلق ابن آدم والخبز معه، فما زاد على الخبز ينمو شهوة. قال: فحدّثت به أبا سليمان. فقال: صدق، الملح مع الخبز شهوة. وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هود (عليه السّلام) .
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ قال ابن عبّاس: الأحقاف واد بين عمان ومهرة. مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له: مهرة إليها تنسب الجمال، فيقال: إبل مهرية ومهاري، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم، وكانوا من قبيلة إرم. وقال الضحّاك: الأحقاف جبل بالشام. مجاهد: هي أرض جساق من حسمى. قتادة: ذكر لنا أنّ عادا كانوا حيّا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها: الشحر. ابن زيد: هي ما استطال من الرمل كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلا «1» . الكلبي: الأحقاف ما نضب عنه الماء زمان الغرق، كان ينضب الماء من الأرض ويبقى أثره. الخليل: هي الرمال العظام. الكسائي: هي ما استدار من الرمل، وواحدها حقف وحقاف، مثل دبغ ودباغ، ولبس ولباس. وقيل: الحقاف جمع الحقف، والأحقاف جمع الجمع. ونظير حقف أحقاف شبر وأشبار. قال الأعشى: فبات إلى أرطاة حقف تلفّه ... حريق شمال يترك الوجه أقتما «2» وقال: بنا بطن حرّى ذي حقاف عقنقل. ويقال: حقف أحقف أي رمل متناه في الاستدار. قال العجاج: بات إلى إرطاة حقف أحقفا ، والفعل منه أحقف. قال الراجز: سماوة الهلال حتّى احقوقفا . أي انحنى واستدار. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مضت الرسل. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي قبل هود. وَمِنْ خَلْفِهِ وهي في قراءة عبد الله ومن بعده. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا لتصرفنا. عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت مجيء العذاب. عِنْدَ اللَّهِ لا عندي وإنّما أنا مبلّغ. وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يعني العذاب. عارِضاً نصب على الحال، وإن شئت بالتكرير أي رأوه عارضا وهو السحاب، سمّي بذلك لأنّه يعرض أي يبدو في عرض السماء. قال مجاهد: استعرض بهم الوادي. قال الأعشى: يا من يرى عارضا قد بتّ أرمقه ... كإنّما البرق في حافاته الشعل «3» قال المفسّرون: ساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختار قيل بن عنز رأسه وقد عاد بما
فيها من النقمة إلى عاد فخرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث. وكانوا قد حبس عنهم المطر أيّاما، فلمّا رأوها. [قالُوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها مهدر فصاحت وصعقت، فلمّا أفاقت قيل لها: ما رأيت؟ قالت: ريحا فيها كشهب النار] «1» . مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ استبشروا بها. قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا يقول الله تعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ فجعلت تحمل الفسطاط، وتحمل الظعينة، فترفعها حتّى ترى كأنّها جرادة. أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا عبيد الله بن محمّد بن شنبه، حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن منصور الكسائي، حدّثنا الحارث بن عبد الله، حدّثنا هشيم، عن جويبر، حدّثنا أبو داود الأعمى، عن ابن عبّاس في قول الله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ الآية، قال: لمّا دنا العارض قاموا فمدّوا أيديهم، فأوّل ما عرفوا أنّها عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم، من رحالهم، ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض، مثل الرشا، قالوا: فدخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فغلّقت أبوابهم وصرعتهم، وأمر الله تعالى الريح فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سَبْعَ لَيالٍ، وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً لهم أنين، ثمّ أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال ثمّ أمرها فاحتملتهم، فرمت بهم في البحر. فهم الذين يقول الله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها مرّت به من رجال عاد وأموالها بأذن ربّها. أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا عمر بن الخطّاب، حدّثنا عبد الله بن الفضل، حدّثنا أبو هشام، حدّثنا حفص، عن ابن جريح، عن عطاء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى الريح فزع، وقال: «اللهم إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشر ما فيها، وشرّ ما أرسلت به» [8] «2» . فإذا رأى مخيلة قام، وقعد، وجاء، وذهب، وتغيّر لونه، فنقول: يا رسول الله، فيقول: «إنّي أخاف أن يكون مثل قوم عاد، حيث قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» [9] «3» . فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ قرأ الحسن (لا تُرى) بتاء مضمومة إِلَّا مَساكِنُهُمْ برفع (النون) . ومثله روى شعيب بن أيّوب، عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عيّاش، عن عاصم. قال أبو حاتم: هذا لا يستقيم في اللغة إلّا إن أوّل فيه إضمار كما تقول في الكلام: لا ترى
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 إلى 32]
النساء إلّا زينب، ولا يجوز لا ترى إلّا زينب، وقال سيبويه: معناه (لا ترى) أشخاصهم. إِلَّا مَساكِنُهُمْ وأجرى الفرّاء هذه الآية على الاستكراه، وذكر أنّ المفضل أنشده: نارنا لم تر نارا مثلها ... قد علمت ذاك معدّ كرما «1» فأنّث فعل مثل لأنّه للنّار، قال: وأجود الكلام أن يقول: لم تر مثلها نار. وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة ويعقوب وخلف (بياء) مضمومة مَساكِنُهُمْ رفعا واختاره أبو عبيدة رفعا وأبو حاتم. قال الكسائي: معناه لا يُرى شيء إِلَّا مَساكِنُهُمْ. وقال الفرّاء: لا يرى الناس لأنّهم كانوا تحت الرمل، فإنّما يرى مساكنهم لأنّها قائمة. وقرأ الباقون (تَرى) (بتاء) مفتوحة (مساكنَهم) نصبا على معنى (لا ترى) يا محمّد (إلّا مساكنَهم) . كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 26 الى 32] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي فيما لا يمكنكم فيه من بسطة الأجسام، وقوّة الأبدان، وطول العمر، وكثرة المال. وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكّة. مِنَ الْقُرى كحجر ثمود، وأرض سدوم ونحوهما. وَصَرَّفْنَا الْآياتِ الحجج والبيّنات وأنواع العبر والعظات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن كفرهم، فلم يرجعوا، فأهلكناهم، يخوّف مشركي قريش. فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً
يعني الأوثان، قال الكسائي: القربان كلّ ما يتقرّب به إلى الله تعالى من طاعة، ونسكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين. بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ أي كذبهم الذي كانوا يقولون: إنّها تقرّبهم إلى الله تعالى، وتشفع لهم عنده. وقرأ ابن عبّاس وابن الزبير ذلِكَ إَفَكَهُمْ بفتح (الألف) و (الفاء) على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة إَفَّكَهُمْ بتشديد (الفاء) على التأكيد والتفسير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عمّا كانوا عليه من النعيم. ودليل قراءة العامّة قوله: وَما كانُوا يَفْتَرُونَ. وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية. قال المفسّرون: لمّا مات أبو طالب خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحده إلى الطائف يلتمس ثقيف النصرة، والمنعة له من قومه ، فروى محمّد بن أحمد عن يزيد بن زياد عن محمّد بن كعب القرظي، قال: لمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحده إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم اخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمر بن عمير، عندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال أحدهم، هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله تعالى أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحد يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلّمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلّمك. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: «إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموه» [10] . وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيديرهم عليه ذلك، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم، وعبيدهم يسبّونه، ويصيحون به، حتّى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة، وشيبة ابني ربيعة، هما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف. ولقد لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك المرأة من بني جمح، فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك؟» . فلمّا اطمئن رسول الله، قال: «اللهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدوّ ملّكته أمري. إن لم يكن بك عليّ غضب، فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع، وأعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، ويحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتّى ترضى، لا حول، ولا قوّة إلّا بك» [11] «1» .
فلمّا رأى أبناء ربيعة ما لقي تحرّكت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له: عداس. فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثمّ اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، ففعل عداس ثمّ أقبل به حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا وضع رسول الله يده، قال: «بسم الله» . ثمّ أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثمّ قال: والله إنّ هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. قال له رسول الله: «ومن أي أهل البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟» . قال: أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى. فقال له رسول الله: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متّى» . قال له: وما يدريك ما يونس بن متّى؟! قال له رسول الله: «ذاك أخي، كان نبيّا وأنا نبيّ» . فأكبّ عداس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقبّل رأسه، ويديه، ورجليه [12] «1» . قال: فيقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه، أما غلامك فقد أفسده عليك. فلمّا جاءهم عداس، قالا له: ويلك يا عداس ما لك تقبّل رأس هذا الرجل، ويديه، ورجليه؟! قال: يا سيّدي ما في الأرض خير من هذا، لقد خبّرني بأمر ما يعلمه إلّا نبي. فقال: ويحك يا عداس لا يصرفنّك عن دينك، فإنّ دينك خير من دينه. ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف من الطائف راجعا إلى مكّة حتّى يئس من خير ثقيف، حتّى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلّي، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين اليمن، وكان سبب ذلك أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلمّا حرست السماء ورجموا بالشهب. قال إبليس: إنّ هذا الذي حدث في السماء لشيء في الأرض، فبعث سراياه لتعرف الخبر، فكان أوّل بعث بعث ركب من أهل نصيبين وهم أشراف الجنّ وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة، فاندفعوا حتّى بلغوا وادي نخلة، فوجدوا رسول الله صلّى الله عليه يصلّي صلاة الغداة، ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا إليه، وقالُوا: أَنْصِتُوا. هذا معنى قول سعيد بن جبير وجماعة من أئمّة الخبر، ورواية العوفي عن ابن عباس، وقال آخرون: بل أمر رسول الله أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى، ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نَفَراً مِنَ الْجِنِّ من نينوى وجمعهم له، فقال رسول الله: «إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة فأيّكم يتبعني؟» فأطرقوا ثمّ استتبعهم فأطرقوا، ثمّ استتبعهم الثالثة، فاتبعه عبد الله بن مسعود، قال عبد الله: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة دخل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شعبا يقال له: شعب الحجون وخط إليّ خطّا، ثمّ أمرني أن أجلس فيه. قال: «لا تخرج منه حتّى أعود إليك» . ثمّ انطلق حتّى قام وافتتح القرآن فجعلت أرى أمثال
النسور تهوي تمشي في رفوفها، وسمعت لغطا شديدا، حتّى خفت على نبي الله، وغشيته أسورة كثيرة حالت بيني وبينه، حتّى ما أسمع صوته، ثمّ طفقوا ينقطعون مثل قطع السحاب داهنين، ففزع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع الفجر، ثمّ انطلق إليّ، وقال: «أنمت؟» فقلت: لا والله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتّى سمعتك تقرعهم بعصاك. تقول: «اجلسوا» . قال: «لو خرجت لم آمن أن يتخطّفك بعضهم» . ثمّ قال: «هل رأيت شيئا؟» . قلت: نعم رأيت رجالا سودا مسفري ثياب بيض. فقال: «أولئك جنّ نصيبين سألوني المتاع» - والمتاع الزاد- «فمتعتهم بكلّ عظم حائل وبعرة وروثة» . فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يستنجى بالعظم والروث. قال: فقلت: يا رسول الله وما يعني ذلك عنهم؟ قال: «إنّهم لا يجدون عظما إلّا وجدوا عليه لحمة يوم أكل، ولا روثة إلّا وجدوا فيها حبّها يوم أكلت» . فقلت: يا رسول الله، لغطا شديدا. فقال: «إنّ الجنّ يدارك في قتيل قتل بينهم» - وقيل: قتل- «فتحاكموا إليّ، فقضيت بينهم بالحقّ» . قال: ثمّ تبرّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ أتاني فقال: «هل معك ماء؟» . قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه فصببت على يديه فتوضّأ. وقال: «تمرة طيبة وماء طهور» . قال قتادة: فذكر لنا ابن مسعود لمّا قدم الكوفة رأى شيوخا شمطا من الزط، فأفزعوه حين رآهم. وقال: أظهروا. فقيل له: إنّ هؤلاء قوم من الزط، فقال: ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يريد الجنّ [13] «1» . قال: أخبرنيه ابن منجويه، حدّثنا ابن حنش المقري، حدّثنا ابن زنجويه، حدّثنا سلمة، حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن قتادة بمثل معناه إلّا إنّه لم يذكر قصة نبيذ التمر. أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي، حدّثنا محمّد بن الحسن الصوفي، حدّثنا أبو جعفر محمّد بن صالح بن ذريح، حدّثنا مسروق بن المرزبان، حدّثنا ابن أبي زائدة، حدّثنا داود بن أبي هند، عن علقمة، قال: سألت عبد الله بن مسعود، هل كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد من الجنّ؟. فقال: لا لم يصحبه منّا أحد. ولكنّا فقدناه ذات ليلة، فقلنا استطير أو اغتيل، فتفرّقنا في الشعاب والأودية نلتمسه، فلمّا أصبحنا رأيناه مقبلا من نحو حراء. فقلنا: يا رسول الله، بتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، نقول: استطير أو اغتيل. فقال: «إنّه أتاني داع من الجنّ، فذهبت أقرئهم القرآن» . قال: وأراني آثارهم وآثار نيرانهم. قال: «فسألوه ليلتئذ الزاد» .
فقال: «فكلّ عظم لم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما، والبعر لدوابكم» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تستنجوا بالعظام ولا بالبعر فإنّه زاد إخوانكم من الجنّ» [14] «1» . أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه، حدّثنا أبو بكر بن خرجه، حدّثنا محمّد بن أيّوب، أخبرنا سلمان بن داود الشاذكوي، عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن خالد الحذّاء، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: لم أكن مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ وودت أنّي كنت معه. أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا موسى بن محمّد بن علي، حدّثنا يوسف بن يعقوب القاضي، حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت أبا عبيدة بن عبد الله، أكان عبد الله مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ قال: لا. قال: وسألت إبراهيم. فقال: ليت صاحبنا كان ذاك. قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ اختلفوا في مبلغ عددهم، فقال ابن عبّاس: كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم. أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا طلحة بن محمّد بن جعفر، وعبيد الله بن أحمد بن يعقوب، قالا: أخبرنا أبو بكر بن مجاهد، حدّثني أحمد بن حرب، حدّثنا سنيد، حدّثنا حجاج، قال: قال ابن جريح: أخبرني وهب بن سلمان، عن شعيب الحماني. إنّ أسماء الجنّ الّذين صرفهم الله تعالى إلى رسوله شاصر، وماصر، ومنشي، وماشي، والأحقب «2» وقال آخرون: كانوا تسعة. أخبرني أبو علي السراج، أخبرنا أبو بكر القطان، حدّثنا أحمد بن يوسف السّلمي، حدّثنا محمّد بن يوسف الفريابي، قال: ذكر سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، قال: كان زوبعة من التسعة الّذين استمعوا القرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم. فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا قالوا: صه. وبإسناده عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن ثابت بن قطبة الثقفي، قال: جاء أناس إلى عبد الله بن مسعود، قالوا: كنّا في سفر فرأينا حيّة متشحّطة في دمها مقتولة، فأخذها رجل منّا، فواريناها، فلمّا ولّوا جاءهم ناس، فقالوا: إنّكم دفنتم عمرا، فقالوا ومن عمر؟ قالوا: الحيّة التي دفنتم في مكان كذا وكذا. أمّا إنّه كان من النفر
الّذين استمعوا القرآن من النبي (عليه السّلام) وكان بين حيّتين من الجنّ من المسلمين وغيرهم، فزال، فقتل. أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا عمر بن الخطّاب، حدّثنا عبد الله بن الفضل، حدّثنا سهل بن حمزة، حدّثنا عبد الله بن صالح، حدّثني معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن أبي ثعلبة الخشني إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «الجنّ على «1» ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلّون ويظعنون» [15] «2» . فَلَمَّا حَضَرُوهُ، قالُوا: قال: بعضهم لبعض أَنْصِتُوا، فأنصتوا واستمعوا القرآن، حتّى كاد يقع بعضهم على بعض من شدّة حرصهم، نظير ما في سورة الجنّ. فَلَمَّا قُضِيَ فرغ من تلاوة القرآن واستماع الجان. وقرأ لاحق بن حميد (قَضَى) بفتح (القاف) و (الضاد) ، يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ مخوّفين داعين بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعني محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قال ابن عبّاس: فاستجاب لهم من فوقهم نحو من سبعين رجلا من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله فوافقوه بالبطحاء. فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم. واختلف العلماء في حكم مؤمني الجنّ، فقال قوم: ليس لمؤمني الجنّ ثواب إلّا نجاتهم من النار، وتأوّلوا قوله تعالى: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة. أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه، حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدّثنا الحسن بن نجيويه، حدّثنا عمرو بن ثور، وإبراهيم بن أبي سفيان، قالا: حدّثنا محمّد بن يوسف الفرباني، حدّثنا سفيان، عن ليث، قال: الجنّ ثوابهم أن يجاروا من النار، ثمّ يقال لهم: كونوا ترابا مثل البهائم. وقال آخرون: إن كان عليهم العقاب في الإساءة وجب أن يكون لهم الثواب في الإحسان مثل الإنس. وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى. أخبرنا أبو عبد الله الثقفي الدينوري، حدّثنا أبو علي بن حبش المقري، حدّثنا محمّد بن عمران، حدّثنا ابن المقري وأبو عبيد الله. قالا: حدّثنا العبدي، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحّاك، قال: الجنّ يدخلون الجنّة ويأكلون ويشربون.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 إلى 35]
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ لم يضعف عن إبداعهن، ولم يعجز عن اختراعهن. بِقادِرٍ قراءة العامة (بالباء) و (الألف) على الاسم واختلفوا في وجه دخول (الباء) فيه، فقال أبو عبيدة والأخفش: هي صلة، كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» وقال الحارث بن حلزة: قيل ما اليوم بيّضت بعيون ... النّاس فيها تغيّظ وإباء «2» أراد بيضت عيون النّاس. وقال الكسائي والفراء: (الباء) فيه جلبت الاستفهام والجحد في أوّل الكلام، كقوله: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ «3» . والعرب تدخلها في الجحود، إذا كانت رافعة لما قبلها، كقول الشاعر: فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيّب منتهاها «4» وقرأ الأعرج وعاصم الجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب بن إسحاق يقدر (بالياء) من غير (ألف) على الفعل، واختار أبو عبيد قراءة العامّة لأنّها في قراءة عبد الله خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ بغير (باء) . عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ فيقال لهم: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ لهم المقرّر بذلك فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. قال ابن عبّاس: ذوو الحزم. ضحّاك: ذوو الجدّ والصّبر. القرظي: ذوو الرأي
والصواب. واختلفوا فيهم، فقال ابن زيد: كلّ الرسل كانوا أولي عزم، ولم يتّخذ الله رسولا، إلّا كان ذا عزم، وهو اختيار علي بن مهدي الطبري، قال: وإنّما دخلت (مِنَ) للتجنيس لا للتبعيض، كما يقال: اشتريت أكسية من الخزّ، وأردية من البز. حكاها شيخنا أبو القاسم بن حبيب عنه. وقال بعضهم: كلّ الأنبياء (عليهم السّلام) أولوا عزم، إلّا يونس، ألا ترى إنّ نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم نهى عن أن يكون مثله، لخفّة وعجلة ظهرت منه حين ولّى من قومه مغاضبا، فابتلاه الله بثلاث: سلّط عليه العمالقة حتى أغاروا على أهله وماله، وسلّط الذئب على ولده فأكلهم، وسلّط الحوت عليه حتّى ابتلعه. سمعت أبا منصور الجمشاذي يحكيها، عن أبي بكر الرازي، عن أبي القاسم الحكيم. وقيل: هم نجباء الرّسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر، وهو اختيار الحسين بن الفضل، قال: لقوله في عقبه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «1» . وقال الكلبي: هم الّذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة، وجاهدوا الكفرة بالبراءة، وجاهدوهم. أخبرنا ابن منجويه الدينوري، عن أبي علي حبش المقري، قال: قال بعض أهل العلم: أُولُوا الْعَزْمِ اثنا عشر نبيّا أرسلوا إلى بني إسرائيل بالشام فعصوهم، فأوحى الله تعالى إلى الأنبياء (عليهم السّلام) : «إنّي مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل» ، فشقّ ذلك عليهم، فأوحى الله تعالى إليهم أن اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلت بكم العذاب وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل. فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجي بني إسرائيل، فأنجى الله بني إسرائيل وأنزل بأولئك العذاب، وذلك إنّه سلّط عليهم ملوك الأرض، فمنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سلخ جلد رأسه ووجهه، ومنهم من رفع على الخشب، ومنهم من أحرق بالنّار، وقيل هم ستّة: نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى. وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراب «2» والشعراء. وقيل أصحاب الشرائع، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقال مقاتل: أُولُوا الْعَزْمِ ستّة: نوح صبر على أذى قومه فكانوا يضربونه حتّى يغشى عليه، وإبراهيم صبر على النّار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف صبر في البئر وفي السجن، وأيّوب صبر على ضرّه.
وقال الحسن البصري: هم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى. فقال: إبراهيم فعزمه قيل له: أَسْلِمْ، قالَ: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. ثمّ ابتلي في ماله، وولده، ووطنه، ونفسه، فوجد صادقا وافيا في جميع ما أبتلي به، وأمّا موسى، فعزمه قوله حين قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ «1» قال: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «2» . وأمّا داود، فعزمه أنّه أخطأ خطيئة، فنبّه عليها، فبلي أربعين سنة على خطيئته حتّى نبتت من دموعه شجرة، وقعد تحت ظلّها، وأمّا عيسى فعزمه أنّه لم يضع في الدّنيا لبنة على لبنة، وقال: إنّها معبر فاعبروها، ولا تعمروها. فكان الله تعالى يقول لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي كن صادقا فيما ابتليت به مثل صدق إبراهيم، واثقا بنصرة مولاك مثل ثقة موسى، مهتمّا لما سلف من هفواتك مثل اهتمام داود، زاهدا في الدنيا مثل زهد عيسى (عليه السّلام) . حدّثنا الإمام أبو منصور محمّد بن عبد الله الجمشاذي لفظا، أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمّد بن أحمد القاضي، أخبرنا أبو عبد الرحمن، أخبرنا ابن أبي الربيع، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، قال: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى (عليهم السلام) . أخبرنا أبو منصور الجمشاذي، أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن يوسف الدقّاق، أخبرنا الحسن ابن محمّد بن جابر، حدّثنا عبد الله بن هاشم، حدّثنا وكيع، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع ابن أنس، عن أبي العالية في قوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، قال: كانوا ثلاثة: نوح، وإبراهيم، وهود، ومحمّد رابعهم، أمر أن يصبر كما صبروا. أخبرني أبو عبد الله بن منجويه، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن برزة، حدّثنا الحارث بن أبي أسامة، حدّثنا داود بن المخبر، حدّثنا سليمان بن الحكم، عن الأحوص بن حكيم بن كعب الحبر، قال: في جنّة عدن مدينة من لؤلؤ بيضاء، تكلّ عنها الأبصار، لم يرها نبي مرسل ولا ملك مقرّب، أعدّها الله سبحانه وتعالى لأولي العزم من الرّسل والشهداء والمجاهدين، لأنّهم فضّلوا الناس عقلا وحلما وإنابة ولبّا. وَلا تَسْتَعْجِلْ العذاب. لَهُمْ فإنّه نازل بهم لا محالة. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا في الدّنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ يعني في جنب يوم القيامة، وقيل: لأنّه ينسيهم هول ما عاينوا قدر مكثهم في الدّنيا. ثمّ قال: بَلاغٌ أي هذا
القرآن وما ذكر فيه من البيان بلاغ بلغكم محمّد صلّى الله عليه وسلّم عن الله تعالى، دليله ونظيره في سورة إبراهيم. (عليه السلام) فَهَلْ يُهْلَكُ بالعذاب إذا نزل إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن أمر الله تعالى. أخبرنا الحسين بن محمّد الحديثي، حدّثنا سعد بن محمّد بن إسحاق الصيرفي، حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شنبه، حدّثنا منجاب بن الحارث، حدّثنا علي بن مهير، حدّثنا ابن أبي ليلى، عن الحكيم عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: إذا عسر على المرأة ولدها، فلتكتب هاتين الآيتين والكلمتين في صحيفة، ثمّ تغسّل، ثمّ تسقى منها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا إله إلّا الله الحليم الكريم سبحان الله رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ «1» . كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ.
سورة محمد
سورة محمّد مدنية، وهي ثمان وثلاثون آية وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا أخبرنا أبو الحسن محمّد بن القاسم بن أحمد الفارسي بقراءتي عليه، أخبرنا أبو عمر، وإسماعيل بن مجيد بن أحمد بن يوسف السلمي، أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن إبراهيم بن سعيد البوشيخي، حدّثنا سعيد بن حفص، قال: قرأت على معقل بن عبد الله، عن عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة محمّد كان حقّا على الله تعالى أن يسقيه من أنهار الجنّة» [16] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أبطلها فلم يقبلها، وقال الضحّاك: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجعل الديرة عليهم.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ حالهم، وجمعه بالات. قال سفيان الثوري: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ لم يخالفوه في شيء. قال ابن عبّاس: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا أهل مكّة. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأنصار. ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ يعني الشياطين. وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ يعني القرآن. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ يبيّن الله للنّاس. أَمْثالَهُمْ أشكالهم. فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الحرب. فَضَرْبَ نصب على الإغراء الرِّقابِ الأعناق، واحدتها رقبة. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي غلبتموهم، وقهرتموهم، وصاروا أسرى في أيديكم. فَشُدُّوا الْوَثاقَ كي لا يفلتوا منكم، فيهربوا. فَإِمَّا مَنًّا عليهم بَعْدُ الأسر، بإطلاقكم إيّاهم من غير عوض، ولا فدية. وَإِمَّا فِداءً (و) نصبا بإضمار الفعل، مجازه: فإمّا أن تمنّوا عليهم منّا، وإمّا أن تفادوهم، واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هي منسوخة بقوله: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ «1» ... الآية. وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» ، وإلى هذا القول ذهب قتادة، والضحاك، والسدي، وابن جريج، وهي رواية العوفي، عن ابن عبّاس. أخبرنا عقيل بن محمّد أنّ أبا الفرج البغدادي أخبرهم، عن محمّد بن جرير، حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا ابن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، قال: كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أسر، فذكر أنّهم التمسوه بفداء كذا، وكذا، فقال أبو بكر: اقتلوه، لقتل رجل من المشركين أحبّ إليّ من كذا، وكذا. وقال آخرون: هي محكمة والإمام مخيّر بين القتل، والمنّ، والفداء. وإليه ذهب ابن عمر، والحسن، وعطاء، وهو الاختيار لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين كلّ ذلك فعلوا، فقتل رسول الله عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، يوم بدر صبرا فادى سائر أسارى بدر. وقيل: بني قريظة، وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلما ومنّ على أمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده. أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج القاضي البغدادي أخبرهم، عن محمّد بن جرير، حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا ابن ثور، عن معمر، عن رجل من أهل الشام ممّن كان يحرس عمر بن عبد العزيز، قال: ما رأيت عمر قتل أسيرا إلّا واحدا من الترك، كان جيء بأسارى من الترك، فأمر
بهم أن يسترقوا، فقال رجل ممّن جاء بهم: يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا- لأحدهم- وهو يقتل المسلمين، لكثر بكاؤك عليهم فقال عمر: قد فدك، فاقتله، فقام إليه فقتله. حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» أثقالها وأحمالها فلا تكون حرب، وقيل: حتّى تضع الحرب آثامها، وأجرامها، فيرتفع، وينقطع، لأنّ الحرب لا تخلو من الإثم في أحد الجانبين والفريقين. وقيل: معناه حتّى يضع أهل الحرب آلتها وعدّتها أو آلتهم وأسلحتهم فيمسكوا عن الحرب. والحرب القوم المحاربون كالشرب والركب، وقيل حتّى يضع الأعداء المتحاربون أوزارها وآثامها بأن يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا بالله ورسوله. ويقال للكراع: أوزار، قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا «2» ومعنى الآية أثخنوا المشركين بالقتل، والأسر حتّى يظهر الإسلام على الأديان كلّها، ويدخل فيه أهل كلّ ملّة طوعا أو كرها وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ «3» فلا نحتاج إلى قتال وجهاد، وذلك عند نزول عيسى (عليه السلام) . وقال الحسن: معناه حتّى لا يعبد إلّا الله. الكلبي: حتّى يسلموا أو يسالموا. ذلِكَ الذي ذكرت وبيّنت من حكم الكفّار وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ فأهلكهم وكفاكم أمرهم بغير قتال. وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ من حكم الكفّار ونَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ... وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قرأ الحسن بضم (القاف) وكسر (التاء) مشدّدا من غير (ألف) ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وحفص بضمّ (القاف) وكسر (التاء) مخفّفا من غير (ألف) ، واختاره أبو حاتم يعني الشهداء، وقرأ عاصم الجحدري قَتَلُوا بفتح (القاف) و (التاء) من غير (ألف) ، يعني والذين قتلوا المشركين. وقرأ الباقون قاتلوا (بالألف) من المقاتلة، وهم المجاهدون، واختاره أبو عبيد. فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ قال قتادة: ذكر لنا إنّ هذه الآية أنزلت يوم أحد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: أعل هبل، فنادى المسلمون: الله أعلى وأجلّ. فنادى المشركون: يوم بيوم والحرب سجال، لنا عزّى ولا عزّى لكم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، إنّ القتال مختلفة، إما قتلانا ف أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، وإمّا قتلاكم ففي النّار يعذّبون» [17] «4» .
سَيَهْدِيهِمْ في الدّنيا إلى الطاعة وفي العقبى إلى الدرجات. وَيُصْلِحُ بالَهُمْ يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ أي بيّن لهم منازلهم فيها حتّى يهتدوا إلى مساكنهم، ودرجاتهم التي قسم الله لهم، لا يخطئون، ولا يستدلّون عليها أحد، كأنّهم سكّانها منذ خلقوا، وإنّ الرجل ليأتي منزله منها إذا دخلها كما كان يأتي منزله في الدّنيا، لا يشكل ذلك عليه. وإنّه أهدى إلى درجته وزوجته وخدمه ونعمه منه إلى أهله ومنزله في الدّنيا. هذا قول أكثر المفسّرين، وقال المؤرّخ: يعني طيبها، والعرف: الريح الطيّبة، تقول العرب: عرّفت المرقة إذا طيّبتها بالملح والأبازير، قال الشاعر: وتدخل أيد في حناجر أقنعت ... لعادتها من الحزير المعرّف «1» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي رسوله ودينه. يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ على الإسلام، وفي القتال وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ قال ابن عبّاس: بعدا لهم، وقال أبو العالية: سقوطا، وقال الضحّاك: خيبة، وقال ابن زيد: شقا، وقال ابن جرير: حزنا، وقال الفراء: هو نصب على المصدر على سبيل الدعاء، وأصل التعس في النّاس والدواب، وهو أن يقال للعاثر: تعسا، إذا لم يريدوا قيامه، ويقال: أتعسه الله، فتعس وهو متعس، وضدّه لعاء إذا أرادوا قيامه، وقد جمعها الأعمش في بيت واحد يصف ناقته: بذات لوث غفرناه إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا «2» وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ لأنّها كانت في طاعة الشيطان خالية عن الإيمان. ذلِكَ الإضلال، والإبعاد. بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي أهلكهم ودمّر عليهم منازلهم، ثمّ توعّد مشركي قريش. وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها إن لم يؤمنوا ذلِكَ الذي ذكرت، وفعلت بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وليّهم، وناصرهم، وحافظهم، وفي حرف ابن مسعود ذلك بأنّ الله ولي الّذين آمنوا. وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا محلّه رفع على الابتداء يَتَمَتَّعُونَ في الدّنيا وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ليس لهم همّة إلّا بطونهم، وفروجهم، وهم لاهون ساهون عمّا في غدهم، وقيل: المؤمن في الدّنيا يتزوّد، والمنافق يتزيّن، والكافر يتمتّع. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ.
[سورة محمد (47) : الآيات 13 إلى 23]
[سورة محمد (47) : الآيات 13 الى 23] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أي أخرجك أهلها يدلّ عليه أَهْلَكْناهُمْ ولم يقل: أهلكناها فَلا ناصِرَ لَهُمْ عن ابن عبّاس: لما خرج رسول الله عليه السلام من مكّة إلى الغار، التفت إلى مكّة، وقال: «أنت أحبّ بلاد الله إلى الله، وأحبّ بلاد الله إليّ، ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» [18] . فأنزل الله تعالى هذه الآية. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وهم أبو جهل والمشركون. مَثَلُ شبه وصفة الْجَنَّةِ الَّتِي وقرأ علي بن أبي طالب أمثال الجنّة التي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ آجن متغيّر منتن، يقال: آسن الماء يأسن، وآجن يأجن، وأسن يأسن ويأسن، وأجن يأجن، ويأجن، أسونا، وأجونا، إذا تغيّر، ويقال: أسن الرجل: بكسر السين لا غير، إذا أصابته ريح منتنة، فغشى عليه قال زهير: يغادر القرن مصفرا أنا مله «1» ... يميد في الرمح ميل المائح الأسن وقرأ العامّة آسِنٍ بالمد، وقرأ ابن كثير بالقصر وهما لغتان. وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لم تدنسها الأيدي، ولم تدنسها الأرجل، ونظير لذّ ولذيذ، طب وطبيب. وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى قال كعب الأحبار:
نهر دجلة نهر ماء الجنّة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر. وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ يعني المتّقين الّذين هم أهل الجنّة، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، فاستغنى بدلالة للكلام عليه، وقال ابن كيسان: مثل الجنّة التي فيها هذه الأنهار، والثمار، كمثل النّار التي فيها الحميم، ومثل أهل الجنّة في النعيم المقيم، كمثل أهل النّار في العذاب الأليم. وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ إذا أدني منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطّع أَمْعاءَهُمْ وَمِنْهُمْ يعني ومن هؤلاء الكفّار مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وهم المنافقون يستمعون قولك، فلا يعونه، ولا يفهمونه تهاونا منهم بذلك، وتغافلا حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الصحابة ماذا قالَ آنِفاً (الآن) وأصله الابتداء. قال مقاتل: وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان صلّى الله عليه وسلّم يخطب ويحث المنافقين، فسمع المنافقون قوله، فلمّا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود عمّا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء وتهاونا منهم بقوله. قال ابن عبّاس في قوله: قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: أنا منهم وقد سئلت فيمن سئل. قال قتادة: هؤلاء المنافقون، دخل رجلان: رجل عقل عن الله تعالى وانتفع بما سمع، ورجل لم يعقل عن الله، فلم ينتفع بما سمع، وكان يقال: النّاس ثلاثة: سامع عاقل، وسامع عامل، وسامع غافل تارك. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلم يؤمنوا. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا يعني المؤمنين. زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ وقرأ ابن مسعود والأعمش وأنطاهم! وأعطاهم تَقْواهُمْ ألهمهم ذلك، ووفّقهم، وقال سعيد بن جبير: وَآتاهُمْ ثواب تَقْواهُمْ. فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون. إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أماراتها وعلاماتها، وبعث [النبي] صلّى الله عليه وسلّم منها وقيل: أدلّتها وحجج كونها، واحدها شرط، وأصل الأشراط الإعلام، ومنه الشرط، لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، ومنه الشرط في البيع وغيره. ويقال: أشرط نفسه في عمل كذا، وأعلمها وجعلا له. قال أوس بن حجر يصف رجلا وقد تدلّى بحبل من رأس جبل إلى نبعة ليقطعها ويتخذ منها قوسا: فأشرط فيها نفسه وهو معصم ... وألقى بأسباب له وتوكلا «1»
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ يعني فمن أين لهم التذكّر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم السّاعة، نظيره قوله تعالى: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ «1» . فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ قال بعضهم: الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره وأخواتها كثيرة، وقيل: فاثبت عليه، وقال الحسين بن الفضل: فازدد علما على علمك، وقال عبد العزيز ابن يحيى الكناني: هو أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يضجر، ويضيق صدره من طعن الكافرين، والمنافقين فيه، فأنزل الله هذه الآية، يعني فاعلم إنّه لا كاشف يكشف ما بك إلّا الله، فلا تعلق قلبك على أحد سواه. وقال أبو العالية وابن عيينة: هذا متصل بما قبله، معناه فاعلم إنّه لا ملجأ، ولا مفزع عند قيام السّاعة، إلّا الله. سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عدش يقول: معناه فاعلم إنّه لا قاضي في ذلك اليوم إلّا الله، نظيره مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «2» . وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ليتسنّ أمّتك بسنّتك، وقيل: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ من التقصير الواقع لك في معرفة الله. وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أخبرني عقيل بن محمّد أنّ أبا الفرج القاضي أخبرهم، عن محمّد بن جرير، حدّثنا أبو كريب، حدّثنا عثمان بن سعيد، حدّثنا إبراهيم بن سليمان، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرخس، قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: غفر الله لك يا رسول الله، فقال رجل من القوم: استغفر لك يا رسول الله؟! قال: «نعم ولك» [19] . ثمّ قرأ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ. أخبرنا ابن منجويه الدينوري، حدّثنا أحمد بن علي بن عمر بن حبش الرازي، حدّثنا أبو بكر محمّد بن عيّاش العتبي، حدّثنا أبو عثمان سعيد بن عنبسة الحراز، حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّد، عن بكر بن حنيس، عن محمّد بن يحيى، عن يحيى بن وردان، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يكن عنده مال يتصدّق به، فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنّها صدقة» [20] «3» . وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ قال عكرمة: يعني منقلبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات، وَمَثْواكُمْ: مقامكم في الأرض. ابن كيسان: مُتَقَلَّبَكُمْ من ظهر إلى بطن، وَمَثْواكُمْ: مقامكم في القبور. ابن عبّاس والضحّاك: منصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدّنيا،
وَمَثْواكُمْ: مصيركم إلى الجنّة وإلى النّار. ابن جرير: مُتَقَلَّبَكُمْ: منصرفكم لأشغالكم بالنهار، وَمَثْواكُمْ: مضجعكم للنوم بالليل، لا يخفى عليه شيء من ذلك. وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا اشتياقا منهم إلى الوحي وحرصا على الجهاد. لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ تأمرنا بالجهاد. فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ بالأمر والنهي، قال قتادة: كلّ سورة ذكر فيها الجهاد، فهي محكمة، وهي أشدّ للقرآن على المنافقين. وفي حرف عبد الله (سورة محدثة) وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني المنافقين يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ شزرا، بتحديق شديد كراهة منهم للجهاد، وجبنا منهم على لقاء العدوّ نَظَرَ كنظر الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ وعيد وتهديد، قال: طاعَةٌ مجازه، ويقول هؤلاء المنافقون قبل نزول الآية المحكمة (طاعَةٌ) رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منّا طاعة. وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ حسن وقيل: هو متصل بالكلام الأوّل، (واللام) في قوله (لَهُمْ) بمعنى (الباء) مجازه فأولى بهم طاعة لله ورسوله وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ بالإجابة والطاعة. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جدّ الأمر وعزم عليه وأمروا بالقتال. فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ في إظهار الإيمان والطاعة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ فلعلّكم إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الإيمان، وعن القرآن، وفارقتم أحكامه. أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالمعصية، والبغي، وسفك الدماء، وتعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الفرقة، بعد ما جمعكم الله تعالى بالإسلام، وأكرمكم بالألفة. قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولّوا عن كتاب الله؟ ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرّحمن؟، وقال بعضهم: هو من الآية. قال المسيب بن شريك والفراء: يقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ إن ولّيتم أمر الناس أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالظلم، نزلت في بني أمية، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين، حدّثنا هارون بن محمّد بن هارون، حدّثنا محمّد بن عبد العزيز، حدّثنا القاسم بن يونس الهلالي، عن سعيد بن الحكم الورّاق، عن ابن داود، عن عبد الله بن مغفل، قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فهل عسيتم إن وليتم أن تفسدوا في الأرض ثم قال: «هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألّا يفسدوا في الأرض ولا يقطّعوا أرحامهم» «1» . وقرأ علي بن أبي طالب إِنْ تُوُلِّيتُمْ بضمّ (التاء) و (الواو) وكسر (اللام) ، يقول «2» : إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة، وعاونتموهم «3» . ومثله روى رويس عن يعقوب.
[سورة محمد (47) : الآيات 24 إلى 38]
وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ قرأ يعقوب، وأبو حاتم، وسلام (وَتَقْطَعُوا) خفيفة من القطع اعتبارا بقوله: وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «1» وقرأ الحسن يقطّعوا مفتوحة الحروف، اعتبارا بقوله: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ «2» . وقرأ غيرهم وَتُقَطِّعُوا بضم (التاء) مشدّدا من التقطيع على التكثير لأجل الأرحام. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ عن الحقّ. [سورة محمد (47) : الآيات 24 الى 38] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها تفهم مواعظ القرآن، وأحكامه، أخبرنا عقيل ابن محمّد، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمّد بن جرير، حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يحيى بن واضح، حدّثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، قال: ما من النّاس أحد إلّا وله أربع أعين: عينان في وجهه لدنياه، ومعيشته، وعينان في قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب. وما من أحد إلّا وله شيطان متبطّن فقار ظهره، عاطف عنقه على عاتقه، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللّتان في قلبه ما وعد الله تعالى من الغيب، فيعمل به، وإذا أراد الله بعبد شرّا طمس عليهما، فذلك قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها.
وبه عن ابن جرير، حدّثنا بشير، حدّثنا حمّاد بن زيد، حدّثنا هشام بن عبده عن أبيه، قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتّى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتّى ولي فاستعان به. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى قال قتادة: هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد وهم يعرفونه ويجدون نعته مكتوبا عندهم، وقال ابن عبّاس والضحّاك والسدي: هم المنافقون. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ زيّن لهم وَأَمْلى لَهُمْ قرأ أبو عمرو بضم (الألف) وفتح (الياء) على وجه ما لم يسمّ فاعله. وقرأ مجاهد، ويعقوب بضمّ (الألف) وإرسال (الياء) على وجه الخبر من الله تعالى عن نفسه أنّه يفعل ذلك بهم وهو اختيار أبي حاتم. وقرأ الآخرون وَأَمْلى بفتح (الألف) بمعنى وأملى الله لهم وهو اختيار أبي عبيدة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني هؤلاء المنافقين أو اليهود قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ وهم المشركون. سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في مخالفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والقعود عن الجهاد. وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ قرأ أهل الكوفة إلّا أبو بكر بكسر (الألف) على الفعل، غيرهم بفتحها على جمع السر. فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ (بالتاء) قراءة العامّة، وقرأ عيسى بن عمر (توفّيهم) (بالياء) . الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ عند الموت، نظيرها في الأنفال والنحل. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك، يعني المنافقين أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ أحقادهم على المؤمنين، واحدها ضغن، فيبديها لهم حتّى يعرفوا نفاقهم. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ أي لأعلمناكهم، وعرفناكهم، ودللناك عليهم، تقول العرب: سأريك ما أصنع بمعنى سأعلمك، ومنه قوله تعالى: بِما أَراكَ اللَّهُ «1» . فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامتهم، قال أنس بن مالك: ما أخفي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم، ولقد كنّا معه في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشكوهم النّاس، فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى كلّ واحد منهم مكتوب هذا منافق. فذلك قوله: بِسِيماهُمْ. وقال ابن زيد: قد أراد الله إظهار نفاقهم، وأمر بهم أن يخرجوا من المسجد، فأبوا إلّا أن
يمسكوا بلا إله إلّا الله، فلمّا أبوا أن يمسكوا إلّا بلا إله إلّا الله، حقنت دماؤهم، ونكحوا، ونكحوا بها. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ قال ابن عبّاس: في معنى القول: الحسن في فحواه. القرظي: في مقصده ومغزاه. واللحن وجهان: صواب، وخطأ، فأمّا الصواب فالفعل منه لحن يلحن لحنا، فهو لحن إذا فطن للشيء، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض» [21] «1» ، والفعل من الخطأ لحن يلحن لحنا، فهو لاحن، والأصل فيه إزالة الكلام عن جهته، وفي الخبر أنّه قيل لمعاوية: إنّ عبيد الله بن زياد يتكلّم بالفارسية، فقال: أليس طريفا من ابن أخي أن يلحن في كلامه أي يعدل به من لغة إلى لغة، قال الشاعر: وحديث الذه هو ممّا ... ينعت الناعتون يوزن وزنا «2» منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الحديث ما كان لحنا يعني ترتل حديثها. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالجهاد حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ قرأ العامّة كلّها بالنون لقوله: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ «3» . وروى أبو بكر والمفضل، عن عاصم كلّها (بالياء) . وقرأ يعقوب، (وَنَبْلُوا) ساكنة (الواو) ردّا على قوله: (نَعْلَمَ) . قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضل إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبلنا، فإنّك إن بلوتنا هتكت أستارنا، وفضحتنا. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ قال ابن عبّاس: هم المطعمون يوم بدر، نظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «4» ... الآية. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بمعصيتها، قال مقاتل والثمالي: لا تمنوا على رسول الله فتبطلوا أعمالكم، نزلت في بني أسد. وسنذكر القصة في سورة الحجرات إن شاء الله. وقيل: بالعجب والرياء. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قيل: هم أصحاب القليب، وحكمها عام فَلا تَهِنُوا تضعفوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ إلى الصلح وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
لأنّكم مؤمنون محقّون. وَاللَّهُ مَعَكُمْ قال قتادة: لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال ابن عبّاس وقتادة والضحّاك وابن زيد: لن يظلمكم. مجاهد: لن ينقصكم أعمالكم بل يثيبكم عليها، ويزيدكم من فضله، ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من فاته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله» [22] «1» أي ذهب بهما. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ ربّكم. أَمْوالَكُمْ لا يسألكم الأجر، بل يأمركم بالإيمان، والطاعة ليثيبكم عليها الجنّة، نظيره قوله: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ «2» .. الآية، وقيل: (وَلا يَسْئَلْكُمْ) محمّد صدقة أموالكم، نظيره قوله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ... «3» وقيل: معنى الآية وَلا يَسْئَلْكُمْ الله ورسوله أَمْوالَكُمْ كلّها إنّما يسألانكم غيضا من فيض، ربع العشر فطيبوا بها نفسا، وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة وهو اختيار أبي بكر بن عبدش، قال: حكى لنا ابن حبيب عنه، يدلّ عليه سياق الآية. إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم ويلحّ ويلحفكم عليها، وقال ابن زيد: الإحفاء أن تأخذ كلّ شيء بيدك. تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ قال قتادة: قد علم الله تعالى أنّ في مسألة المال خروج الأضغان ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ عن صدقاتكم وطاعتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ إليها وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في الطواعية، بل يكونوا أطوع لله تعالى وأمثل منكم، قال الكلبي: هم كندة والنخع. الحسن: هم العجم. عكرمة: فارس والروم. أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد ابن الحسين بن عبد الله بن منجويه الدينوري، حدّثنا عمر بن الخطّاب، حدّثنا عبد الله بن الفضل، حدّثنا يحيى بن أيّوب، حدّثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عبد الله بن نجيح، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن إن تولّينا استبدلوا، ثمّ لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان إلى جانب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخذ سلمان وقال: «هذا وقومه «4» ، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان معلّقا «5» بالثريا لناله لتناوله رجال من فارس» [23] «6» .
سورة الفتح
سورة الفتح مدنية، وهي تسع وعشرون آية، وخمسمائة وستّون كلمة، وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد بقراءتي عليه، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا أبو الأشعث، حدّثنا أبو المعتمر، قال: سمعت أبي يحدث عن قتادة، عن أنس، قال: لمّا رجعنا من غزوة الحديبية، قد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فأنزل الله تعالى عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الآية كلّها. فقال رسول الله: «لقد نزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدّنيا جميعا» [24] «1» . أخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل القهندري بقراءتي عليه، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا محمّد بن يحيى، قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع وحدّثني مطرف، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطّاب رضي الله عنه يسير معه ليلا، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثمّ سأله فلم يجبه، قال عمر: فحرّكت بعيري حتّى تقدّمت أمام الناس، وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن، فجئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس» [25] «2» ، ثمّ قرأ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ. أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه الثقفي، حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدّثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي، حدّثنا محمّد بن عبد الملك، قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: سمعت المسعودي يذكر، قال: بلغني أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً في التطوّع حفظ ذلك العام. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا هنّاد بن السري، حدّثنا يونس بن بكير، حدّثنا علي بن عبد الله التيمي يعني أبا جعفر الرازي، عن قتادة، عن أنس إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: فتح مكّة، وقال مجاهد والعوفي: فتح خيبر، وقال الآخرون: فتح الحديبية. روى الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: ما كنّا نعدّ فتح مكّة إلّا يوم الحديبية. وروى إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكّة، وقد كان فتح مكّة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر. أخبرنا عقيل بن محمّد الفقيه أنّ أبا الفرج القاضي البغدادي، أخبرهم، عن محمّد بن جرير، حدّثنا موسى بن سهل الرملي، حدّثنا محمّد بن عيسى، حدّثنا مجمع بن يعقوب الأنصاري، قال: سمعت أبي يحدّث، عن عمّه عبد الرّحمن بن يزيد، عن عمّه، مجمع بن حارثة الأنصاري- وكان أحد القرّاء الذين قرءوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا انصرفنا عنها، إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض النّاس لبعض: ما بال النّاس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فخرجنا نوجف، فوجدنا النبي (عليه السلام) واقفا على راحلته عند كراع العميم، فلمّا اجتمع إليه الناس، قرأ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. فقال عمر: أوفتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم والّذي نفسي «1» بيده إنّه لفتح» [26] «2» . فقسم صلّى الله عليه وسلّم الخمس بخيبر على أهل الحديبية، لم يدخل فيها أحد إلّا من شهد الحديبية. أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه العدل، حدّثنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن شنبه، حدّثنا عبيد الله بن أحمد الكسائي، حدّثنا الحارث بن عبد الله، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن
الشعبي في قوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: فتح الحديبية، غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقال مقاتل بن حيان: يسّرنا لك يسرا بيّنا، وقال مقاتل بن سليمان: لمّا نزل قوله: ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ «1» فرح بذلك المشركون، والمنافقون، وقالوا: كيف نتّبع رجلا لا يدري ما يفعل به وبأصحابه، ما أمرنا وأمره إلّا واحد، فأنزل الله تعالى بعد ما رجع من الحديبية إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي قضينا لك قضاء بيّنا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فنسخت هذه الآية تلك الآية، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لقد نزلت عليّ آية ما يسرّني بها حمر النعم» [27] «2» . وقال الضحاك: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وقال الحسن: فتح الله عليه بالإسلام. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال أبو حاتم: هذه (لام) القسم، لما حذفت (النون) من فعله كسرت اللام ونصب فعلها بسببها بلام كي، وقال الحسين بن الفضيل: هو مردود إلى قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ولِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي وقال محمّد بن جرير: هو راجع إلى قوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ «3» لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قبل الرسالة وَما تَأَخَّرَ إلى وقت نزول هذه السورة. أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو عمرو عثمان بن عمر ابن حقيف الدرّاج، حدّثنا حامد بن شعيب، حدّثنا شريح بن يونس، حدّثنا محمّد بن حميد، عن سفيان الثوري ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ما عملت في الجاهلية وَما تَأَخَّرَ كلّ شيء لم تعمله. وقال عطاء بن أبي مسلم الخرساني: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك وَما تَأَخَّرَ ديوان أمّتك بدعوتك. سمعت الطرازي يقول: سمعت أبا القاسم النصرآبادي يقول: سمعت أبا علي الرودباري بمصر يقول: في قول الله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ، قال: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ويثبتك عليه، وقيل: يهدي بك.
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً غالبا. وقيل: معزّا. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الرحمة، والطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ قال ابن عبّاس: كلّ سكينة في القرآن فهي الطمأنينة إلّا التي في البقرة. لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ قال ابن عبّاس: بعث الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلّا الله، فلمّا صدّقوا فيها زادهم الصلاة، فلمّا صدّقوا زادهم الصيام، فلمّا صدّقوا زادهم الزّكاة، فلمّا صدّقوا زادهم الحجّ، ثمّ زادهم الجهاد، ثمّ أكمل لهم دينهم بذلك، وقوله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان. وقال الضحاك: يقينا مع يقينهم، وقال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ... وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن المبارك، حدّثنا يونس بن محمّد، حدّثنا شيبان، عن قتادة في قوله سبحانه: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال أنس بن مالك: إنّها نزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا بالحديبية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدّنيا جميعا» [28] «1» فقرأها على أصحابه، فقالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله، قد بيّن الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قال أهل المعاني: وإنّما كرّر (اللام) في قوله: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بتأويل تكرير الكلام مجازه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ إنّا فتحنا لك لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي لن ينصر الله محمّدا صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ بالذلّ والعذاب وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو أربعتها (بالياء) واختاره أبو عبيد، قال: لذكر الله المؤمنين قبله، وبعده، فأمّا قبله فقوله تعالى: فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وبعده قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ وقرأها الآخرون (بالتاء) واختاره أبو حاتم. وَتُعَزِّرُوهُ وقرأ محمّد بن السميقع (بزاءين) ، وغيره (بالراء) أي لتعينوه، وتنصروه. قال
[سورة الفتح (48) : الآيات 10 إلى 21]
عكرمة: تقاتلون معه بالسيف، أخبرنا علي بن محمّد بن محمّد بن أحمد البغدادي، أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد الشيباني، أخبرنا عيسى بن عبد الله البصري بهراة، حدّثنا أحمد بن حرب الموصلي، حدّثنا القاسم بن يزيد الحرمي، حدّثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن يحيى بن سعيد القطان، حدّثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: لمّا نزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَتُعَزِّرُوهُ، قال لنا: ماذا كم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: لتنصروه وتوقّروه وتعظّموه وتفخموه. وهاهنا وقف تام. وَتُسَبِّحُوهُ أي وتسبحوا الله بالتنزيه والصلاة. بُكْرَةً وَأَصِيلًا. [سورة الفتح (48) : الآيات 10 الى 21] إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يا محمّد بالحديبية على أن لا يفروا إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ. أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا ابن حبش المقري، حدّثنا محمّد بن عمران، حدّثنا أبو عبد الله المخزومي، حدّثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار إنّه سمع جابرا يقول: كنّا يوم الحديبية ألف وأربعمائة، فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» [29] «1» . قال: وقال لنا
جابر: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة، وقال: بايعنا رسول الله تحت السّمرة على الموت على أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة، إلّا جد بن قيس وكان منافقا، اختبأ تحت أبط بعيره، ولم يسر مع القوم. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عبّاس: يَدُ اللَّهِ بالوفاء لما وعدهم من الخير فَوْقَ أَيْدِيهِمْ بالوفاء. وقال السدي: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وذلك إنّهم كانوا يأخذون بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويبايعونه، ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ عند المبايعة. وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة، وقال ابن كيسان: قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم. فَمَنْ نَكَثَ يعني البيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ عليه وباله وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ قرأ أهل العراق (بالياء) ، وغيرهم (بالنون) . أَجْراً عَظِيماً وهو الجنّة سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال ابن عبّاس ومجاهد: يعني أعراب غفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، والديك، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرا استنفر من حول المدينة من الأعراب، وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ويصدّوه عن البيت، وأحرم هو صلّى الله عليه وسلّم، وساق معه الهدي ليعلم النّاس أنّه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وقالوا: نذهب معه إلى قوم، قد جاءوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم، فتخلّفوا عنه. واعتلّوا بالشغل ، فأنزل الله تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ الّذين خلّفهم الله عن صحبتك، وخدمتك في حجّتك، وعمرتك إذا انصرفت إليهم، فعاتبتهم على التخلّف عنك. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ثمّ كذّبهم في اعتذارهم واستغفارهم وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم، فقال: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا قرأ حمزة والكسائي وخلف بضمّ (الضادّ) والباقون بالفتح، واختاره أبو عبيد، وأبو حاتم، قالا: لأنّه قابله بالنفع ضدّ الضرّ. أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وذلك بأنّهم قالوا: إنّ محمّدا وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون، فأين تذهبون؟ انتظروا ما يكون من أمرهم. وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين، فاسدين، لا تصلحون لشيء من الخير. وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ يعني غنائم خيبر لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر فنشهد معكم، فقال أهلها: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا
كَلامَ اللَّهِ قرأ حمزة والكسائي (كلم الله) بغير (ألف) ، وغيرهم (كَلامَ اللَّهِ) ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال الفرّاء: الكلام مصدر، والكلم جمع الكلمة، ومعنى الآية يريدون أن يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أنّ الله تعالى جعل غنائم خيبر لهم عوضا من غنائم أهل مكّة، إذا انصرفوا عنهم على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئا، وقال ابن زيد: هو قوله تعالى: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا «1» . والقول الأوّل أصوب، وإلى الحقّ أقرب، لأنّ عليه عامّة أهل التأويل، وهو أشبه بظاهر التنزيل لأنّ قوله: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً نزلت في غزوة تبوك. قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا إلى خيبر. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل مرجعنا إليكم: إنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب. فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نصيب معكم من الغنائم. بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال ابن عبّاس، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومجاهد: هم فارس. كعب: الروم. الحسن: فارس، والروم. عكرمة: هوازن. سعيد بن جبير: هوازن، وثقيف. قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. الزهري، ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة، أصحاب مسيلمة الكذّاب. قال رافع بن جريج: والله لقد كنّا نقرأ هذه الآية فيما مضى سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فلا نعلم من هم حتّى دعا أبو بكر رضي الله عنه إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنّهم هم، وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد. تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ قرأ العامّة يسالمون في محل الرفع عطفا على قوله: تُقاتِلُونَهُمْ، وفي حرف أبي (أو يسلموا) بمعنى حتّى يسلموا، كقول امرئ القيس: أو يموت فنعذرا. فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يعني عام الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو النّار. قال ابن عبّاس: فلمّا نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: فكيف بنا رسول الله؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ في التخلّف عن الجهاد، والقعود عن الغزو. وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ في ذلك. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً قرأ أهل المدينة والشام (ندخله) (ونعذّبه) فيهما (بالنون) فيهما وقرأ الباقون (بالياء) فيهما، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لذكر الله تعالى قبل ذلك.
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ بالحديبية على أن يناجزوا قريشا، ولا يفروا. تَحْتَ الشَّجَرَةِ وكانت سمرة، ويروى أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هاهنا، وبعضهم هاهنا، فلمّا كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلف، وقد ذهبت الشجرة، أما ذهب بها سيل وأمّا شيء سوى ذلك. وكان سبب هذه البيعة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكّة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، وذلك حين نزل الحديبية. فعقروا له جمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش، فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول الله، فدعا رسول الله (عليه السلام) عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكّة، فقال: يا رسول الله إنّي أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكّة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها، وغلظتي عليهم، ولكنّي أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي، عثمان بن عفّان، فدعا رسول الله عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائرا لهذا البيت، معظّما لحرمته، فخرج عثمان إلى مكّة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكّة، أو قبل أن يدخلها، فنزل عن دابّته وحمله بين يديه، ثمّ ردفه وأجازه حتّى بلّغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول الله. فاحتبسته قريش عندهم، فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال رسول الله: «لا نبرح حتّى نناجز القوم» «1» . ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله على الموت، وقال بكير بن الأشج: بايعوه على الموت، فقال رسول الله (عليه السلام) : «بل على ما استطعتم» [30] «2» . وقال عبد الله بن معقل: كنت قائما على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك اليوم، وبيدي غصن من السمرة، أذبّ عنه، وهو يبايع النّاس، فلم يبايعهم على الموت، وإنّما بايعهم على أن لا يفرّوا، وقال جابر بن عبد الله: فبايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم النّاس ولم يتخلّف عنه أحد من المسلمين حضرها إلّا الجد بن قيس أخو بني سلمة، لكأنّي أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته مستتر بها من النّاس. وكان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له: أبو سنان بن وهب. ثمّ أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الّذي ذكر من أمر عثمان باطل ، واختلفوا في مبلغ عدد أهل بيعة الرضوان، فروى شعبة، عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: كنّا يوم الشجرة ألف وثلاثمائة، وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين.
وقال قتادة: كانوا خمسة عشر ومائة. وروى العوفي عن ابن عبّاس، قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون. وقال آخرون: كانوا ألفا وأربعمائة. أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه، حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه، حدّثنا أبو عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الخولي، حدّثنا محمّد بن رمح، حدّثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: «لا يدخل النّار أحد ممّن بايع تحت الشجرة» [31] «1» . فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الصدق، والصبر، والوفاء. فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وهو خيبر وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وكانت خيبر ذات عقار وأموال. فاقتسمها رسول الله بينهم. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني يوم خيبر. وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أهل مكّة عنكم بالصلح، وقال قتادة: يعني وكفّ اليهود من خيبر، وحلفاءهم من أسد، وغطفان، عن بيضتكم، وعيالكم، وأموالكم بالمدينة، وذلك أنّ مالك بن عوف النصري، وعيينة بن حصن الفزاري، ومن معهما من بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة أهل خيبر فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانصرفوا. وَلِتَكُونَ هزيمتهم، وسلامتكم آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ليعلموا أنّ الله هو المتولّي حياطتهم، وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم. وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً طريق التوكّل، والتفويض حتّى تتقوا في أموركم كلّها بربّكم، وتتوكّلوا عليه، وقيل: يثبتكم على الإسلام، ويزيدكم بصيرة ويقينا بصلح الحديبية، وفتح خيبر، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة الحديبية إلى المدينة، أقام بها بقيّة ذي الحجّة، وبعض المحرم، ثمّ خرج في بقيّة المحرم سنة سبع إلى خيبر، واستخلف على المدينة سماع بن عرفطة الغفاري. أخبرنا عبد الله بن محمّد بن عبد الله الزاهد، قرأه عليه، أخبرنا أبو العبّاس محمّد بن إسحاق السرّاج، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا عثمان بن عمر، أخبرنا ابن عون، عن عمرو ابن سعيد، عن أنس بن مالك، أخبرنا عبيد الله بن محمّد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا عبد الأعلى بن حمّاد أبو يحيى الباهلي، حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا عن ابن أبي عروبة، قال: أخبرنا عبيد الله بن محمّد، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدّثنا روح، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: كنت رديف أبي طلحة يوم أتينا خيبر، فصبّحهم
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أخذوا مساحيهم، وفؤوسهم، وغدوا على حرثهم، وقالوا: محمّد والخميس. فقال رسول الله: «الله أكبر هلكت «1» خيبر، إنّا إذا نزلنا ساحة «2» قوم فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ» [32] «3» . ثمّ نكصوا، فرجعوا إلى حصونهم. أخبرنا عبيد الله بن محمّد بن عبد الله بن محمّد، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع. وأخبرنا عبيد الله بن محمّد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي، حدّثنا النضر بن محمّد، حدّثنا عكرمة بن عمّار، حدّثنا سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: وحدّثت عن محمّد بن جرير، عن محمّد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن رحالة، قال: وعن ابن جرير، حدّثنا ابن بشار، حدّثنا محمّد بن جعفر، حدّثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خيبر يسير بنا ليلا، وعامر بن الأكوع معنا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هينهاتك؟ وكان عامر شاعرا فنزل يحدو بالقوم وهو يرجز لهم: اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا انّ الذين هم بغوا علينا ... ونحن عن فضلك ما استغنينا فاغفر فداء لك ما اقتفينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا وألقين سكينة علينا ... إنّا إذا صيح بنا أتينا «4» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من هذا؟» . قالوا: عامر بن الأكوع. فقال: «غفر لك ربّك» . فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لو أمتعتنا به. وذلك أنّ رسول الله (عليه السلام) ما استغفر قطّ لرجل يخصّه إلّا استشهد. قالوا: فلمّا قدمنا خيبر وتصافّ القوم، خرج يهودي، فبرز إليه عامر، وقال: قد علمت خيبر إنّي عامر ... شاك السلاح بطل مغامر «5» فاختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهودي في ترس عامر، ووقع سيف عامر عليه، وأصاب ركبة نفسه، وساقه، فمات منها، قال سلمة بن الأكوع: فمررت على نفر من أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم وهم يقولون: بطل عمل عامر، فأتيت نبي الله وأنا شاحب أبكي، فقلت: يا رسول الله أبطل عمل عامر؟ فقال: «ومن قال ذاك؟» قلت: بعض أصحابك. قال: «كذب من قال، بل له أجره مرّتين، إنّه لجاهد مجاهد» [33] . قال: فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة ثمّ إنّ الله تعالى فتحها علينا، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى اللواء عمر بن الخطّاب، ونهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر، وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحينه أصحابه، ويحينهم، وكان رسول الله قد أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى النّاس، فأخذ أبو بكر راية رسول الله، ثمّ نهض فقاتل قتالا شديدا، ثمّ رجع، فأخذها عمر، فقاتل قتالا شديدا، وهو أشدّ من القتال الأوّل، ثمّ رجع، فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما والله لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله، ورسوله، ويحبّه الله، ورسوله يأخذها عنوة» [34] «1» . وليس ثمّ علي، فلمّا كان الغد تطاول لها أبو بكر وعمر وقريش رجاء كلّ واحد منهم أن يكون صاحب ذلك، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلمة بن الأكوع إلى علي، فدعاه، فجاء علي على بعير له حتّى أناخ قريبا من خباء رسول الله، وهو أرمد قد عصب عينيه بشقة برد قطري، قال سلمة: فجئت به أقوده إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فقال رسول الله: «ما لك؟» . قال: رمدت. فقال: «ادن منّي» [35] . فدنا منه فتفل في عينيه، فما وجعهما بعد حتّى مضى لسبيله، ثمّ أعطاه الراية، فنهض بالراية وعليه حلّة أرجوان حمراء، قد أخرج حملها، فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يقول: قد علمت خيبر أنّي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرّب «2» أطعن أحيانا وحينا أضرب ... إذا الحروب أقبلت تلهّب كان حمائي كالحمى لا يقرب فبرز إليه علي رضي الله عنه، وقال: أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره ... كليث غابات شديد قسوره «3» أكيلكم بالسيف كيل السندره فاختلفا ضربتين، فبدره علي، فضربه، فقدّ الحجر والمغفرة، وفلق رأسه حتّى أخذ السيف
في الأضراس، وأخذ المدينة، وكان الفتح على يديه، ثمّ خرج بعد مرحب أخوه ياسر بن نحر، وهو يقول: قد علمت خيبر أنّي ياسر ... شاكي السلاح بطل مغاور «1» إذا الليوث أقبلت تبادر ... وأحجمت عن صولتي المغاور إنّ حمائي فيه موت حاضر وهو يقول: هل من مبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوّام، وهو يقول: قد علمت خيبر أنّي زبار ... قرم لقرم غير نكس فرار «2» ابن حماة المجد ابن الأخيار ... ياسر لا يغررك جمع الكفّار وجمعهم مثل السراب الحبار فقالت أمّه صفية بنت عبد المطّلب: أيقتل ابني يا رسول الله؟ فقال: «بل ابنك يقتله إن شاء الله» ثمّ التقيا، فقتله الزبير، فقال أبو رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله (عليه السلام) برايته، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي بابا كان عند الحصن، فتترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده، وهو يقاتل حتّى فتح الله تعالى عليه، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه «3» . ثمّ لم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتح الحصون حصنا حصنا، ويجوز الأموال حتّى انتهوا إلى حصن الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتح، فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضع عشرة ليلة، فلمّا أمسى النّاس يوم الفتح أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال رسول الله: «على أيّ شيء توقدون؟» قالوا: على لحم، قال: «على أيّ لحم؟» قالوا: لحم الحمر الإنسية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اهريقوها واكسروها «4» » . فقال رجل: أو نهرّقها ونغسلها؟ فقال: «أوذاك» [36] «5» . قال ابن إسحاق: ولمّا افتتح رسول الله (عليه السلام) القموص حصن بني أبي الحقيق أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصفية بنت حيي بن أخطب، وبأخرى معها، فمرّ بهما بلال، وهو الذي جاء بهما على قتلى من قتل من اليهود، فلمّا رأتهما التي مع صفية، صاحت، وصكّت وجهها، وحثت
التراب على رأسها، فلمّا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: أغربوا عنّي هذه الشيطانة» . وأمر بصفية، فجرت خلفه وألقى عليها رداءه، فعلم المسلمون أنّ رسول الله قد اصطفاها لنفسه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبلال لمّا رأى من تلك اليهودية ما رأى: «أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟» وكانت صفية قد رأت في المنام، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أنّ قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤيتها على زوجها، فقال: ما هذا إلّا أنّك تمنين ملك الحجاز محمّدا، فلطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبها أثر منها. فسألها: «ما هو؟» فأخبرته هذا الخبر، وأتى رسول الله بزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله، فجحده أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله برجل من اليهود، فقال لرسول الله (عليه السلام) : إنّي قد رأيت كنانة يطيف هذه الخزنة كلّ غداة، فقال رسول الله لكنانة: «أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك» . قال: نعم. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخزنة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثمّ سأله ما بقي، فأبى أن يؤدّيه، فأمر به رسول الله الزبير بن العوّام. فقال: «عذّبه حتّى تستأصل ما عنده» [37] «1» . فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتّى أشرف على نفسه، ثمّ دفعه رسول الله إلى محمّد ابن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة، وكانت اليهود ألقت عليه حجرا عند حصن ناعم، فقتله، كان أوّل حصن افتتح من حصون خيبر. قالوا: فلمّا سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر، بعثوا إلى رسول الله أن يسترهم ويحقن لهم دماءهم ويخلّوا له الأموال، ففعل، ثمّ إنّ أهل خيبر سألوا رسول الله أن يعاطيهم الأموال على النصف ففعل على إنّا إن شئنا فخرجنا أخرجناكم، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، وكانت خيبر فيئا للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله (عليه السلام) لم يجلبوا عليها ب خَيْلٍ وَلا رِكابٍ. فلما اطمأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم، شاة مصلية، وقد سألت، أي عضو من الشاة أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السمّ، وسمّت سائر الشاة، ثمّ جاءت بها، فلمّا وضعتها بين يدي رسول الله، تناول الذراع، فأخذها، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، وقد أخذ منها كما أخذ منها رسول الله، فأما بشر فأساغها، وأمّا رسول الله فلفظها، ثمّ قال: «إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم» . ثمّ دعاها، فاعترفت، فقال: «ما حملك على ذلك؟» قالت: بلغت من
[سورة الفتح (48) : الآيات 22 إلى 27]
قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبيّا فسيخبر، وإن كان ملكا استرحت منه. قال: فتجاوز عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل. قال: ودخلت أم بشر بن البراء على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعوده في مرضه الذي توفى فيه، فقال: «يا أمّ بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعادني، فهذا أوان انقطاع أبهري» [38] «1» . وكان المسلمون يرون أنّ رسول الله مات شهيدا مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوّة. وَأُخْرى أي وعدكم فتح بلدة أخرى. لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها حتّى يفتحها عليكم، وقال ابن عبّاس: علم الله أنّه يفتحها لكم. واختلفوا فيها، فقال ابن عبّاس وعبد الرّحمن بن أبي ليلى والحسن ومقاتل: هي فارس والروم. وقال الضحّاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله تعالى نبيّه قبل أن يصيبها، ولم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها، حتّى أخبرهم الله تعالى بها. وهي رواية عطية، وماذان، عن ابن عبّاس، وقال قتادة: هي مكّة. عكرمة: هي خيبر. مجاهد: ما فتحوا حتّى اليوم. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً. [سورة الفتح (48) : الآيات 22 الى 27] وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أسد، وغطفان، وأهل خيبر، وقال قتادة: يعني كفّار قريش لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ أي كسنّة الله الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ في نصرة أوليائه، وقهر أعدائه وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ وهو الحديبية مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً
(الياء) أبو عمرو، وغيره (بالتاء) ، واختلفوا فيهم، فقال أنس: إنّ ثمانين رجلا من أهل مكّة هبطوا على رسول الله وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله سلما، وأعتقهم، فأنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... الآية. عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: إنّ قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله عام الحديبية ليصيبوا من أصحابه أحدا، وأخذوا أخذا، فأتى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانوا يرمون عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة، والنّبل فأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... الآية. وقال عبد الله بن المغفل: كنّا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة، فرفعته عن ظهره، وعليّ بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح، وسهيل بن عمرو، فخرج علينا ثلاثون شابّا عليهم السّلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا رسول الله (عليه السلام) ، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم، فأخذناهم، فخلّى عنهم رسول الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية [39] «1» . وقال مجاهد: أقبل نبي الله صلّى الله عليه وسلّم معتمرا، وأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذلك الإظفار بِبَطْنِ مَكَّةَ ، وقال قتادة: ذكر لنا أنّ رجلا من أصحاب رسول الله يقال له: زنيم اطّلع الثنية من الحديبيّة، فرماه المشركون بسهم، فقتلوه، فبعث رسول الله خيلا، فأتوا باثني عشر فارسا من الكفّار، فقال لهم نبيّ الله: «هل لكم عليّ عهد؟ هل لكم عليّ ذمّة؟» [40] . قالوا: لا، فأرسلهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن ايزي، والكلبي: هم أهل الحديبية، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمّا خرج بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة، فقال له عمر رضي الله عنه: يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح، ولا كراع؟ قال: فبعث إلى المدينة، فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلّا حمله، فلمّا دنا من مكّة منعوه أن يدخل، فسار حتّى أتى منى، فنزل منى، فأتاه عينه أنّ عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال لخالد بن الوليد: «يا خالد هذا ابن عمّك قد أتاك في الخيل» [41] . فقال خالد: أنا سيف الله، وسيف رسوله، يا رسول الله، أرم بي حيث شئت، فيومئذ سمّي سيف الله، فبعثه على خيل، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة، ثمّ عادوا في الثانية، فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة، ثمّ عاد في الثالثة فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ إلى قوله: عَذاباً أَلِيماً فكفّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية، أن تطأهم
الخيل بغير علم ، وذلك قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً محبوسا. أي وصدّوا الهدي معكوفا محبوسا [42] «1» . أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ منحره، وكان سبعين بدنة، روى الزهيري، عن عروة بن الزبير، عن المسوّر بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا، وساق معه سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كلّ بدنة عن عشرة نفر، فلمّا بلغ ذا الحليفة، تنامى إليه النّاس، فخرج في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد الهدي، وأشعره، وأحرم بالعمرة، وكشف بين يديه عينا من خزاعة يخبره عن قريش. وسار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى إذا كان بغدير الأشطاط، قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي، فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادّوك عن البيت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أشيروا عليّ، أترون أن نميل على ذراري هؤلاء الّذين عاونوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين، وان نجوا تكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نأمّ البيت، فمن صدّنا عنه قاتلناه» . فقام أبو بكر رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله إنّا لم نأت لقتال أحد، ولكن من حال بيننا، وبين البيت قاتلناه، فقال رسول الله (عليه السّلام) : «فروحوا إذا» . وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط أكثر مشاورة لأصحابه من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فراحوا حتّى إذا كانوا بعسفان، لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال له: يا رسول الله هذه قريش، قد سمعوا بسيرك، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود المنون، ونزلوا بذي طوى، يحلفون بالله لا يدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدّموها إلى كراع العميم. وقد ذكرت قول من قال: إنّ خالد بن الوليد يومئذ كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسلما، فقال رسول الله (عليه السّلام) : «يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب؟ فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوّة، فما تظنّ قريش، فو الله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتّى يظهره الله، أو تنفرد هذه السّالفة» [43] «2» . ثمّ قال: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها» ، فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله. فخرج على طريق وعر حزن بين شعاب، فلمّا خرجوا منه، وقد شقّ ذلك على المسلمين وأفضى إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس: «قولوا:
نستغفر الله، ونتوب إليه» . ففعلوا، فقال: «والله إنّها للحطّة التي عرضت على بني إسرائيل، فلم يقولوها» [44] «1» . ثمّ قال رسول الله للنّاس: «اسلكوا ذات اليمين» في طريق يخرجه على ثنية المرار على مهبط الحديبية من أسفل مكّة. فسلك الجيش ذلك الطريق، فلمّا رأت خيل قريش فترة قريش وأنّ رسول الله قد خالفهم عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش ينذرونهم، وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى إذا سلك ثنية المرار بركت به ناقته، فقال النّاس: حل حل. فقال: «ما حل؟» قالوا: حلأت الفضول. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما حلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل» . ثمّ قال: «والّذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون بها حرمات الله، وفيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إيّاها» ، ثمّ قال للناس: «انزلوا» فنزلوا بأقصى الحديبية على بئر قليلة الماء، إنّما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن ترجوه، فشكا الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العطش فنزع سهما من كنانته، وأعطاه رجلا من أصحابه يقال له: ناجية بن عمير بن يعمر بن دارم، وهو سائق بدن رسول الله [45] «2» ، فنزل في ذلك البئر، فغرزه في جوفه، فجاش الماء بالريّ، حتّى صدروا عنه، ويقال: إنّ جارية من الأنصار أقبلت بدلوها، وناجية في القليب يمتح على الناس، فقالت: يا أيّها الماتح دلوي دونكا ... إنّي رأيت الناس يحمدونكا «3» يثنون خيرا ويمجّدونكا ... أرجوك للخير كما يرجونكا فقال: قد علمت جارية يمانية ... أنّي أنا الماتح واسمي ناجية وطعنة ذات رشاش واهية ... طعنتها عند صدور العادية قال: فبينا هم كذلك، إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة، فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد نزلوا بعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادّوك عن البيت. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا لم نأت لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإنّ قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددناهم مدة، ويخلّوا بيني وبين الناس، فإن أظهر، وإن
شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلّا فقد حموا، فو الله لأقاتلنّهم على أمري هذا، حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذنّ الله أمره» [46] «1» . فقال بديل: سنبلغهم ما تقول. فانطلق حتّى أتى قريشا، فقال: إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤوهم: لا حاجة لنا في أن تحدّثنا بشيء عنه، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول. قال: سمعته يقول كذا، وكذا. فحدّثهم بما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقام عروة بن مسعود الثقفي، فقال: أي قوم، ألستم بال الوالد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتّهموني؟ قالوا: لا. قال: أفلستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عكاظ، فلمّا ألحّوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإنّ هذا الرجل، قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته، قالوا: آتيه. فأتاه، فجعل يكلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي نحوا من مقالته لبديل، فقال عروة عند ذلك: يا محمّد، أرأيت إن استأصلت قومك، فهل سمعت بأحد من العرب استباح، - وقيل اجتاح- أصله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فو الله إنّي لأرى وجوها وأشوابا من الناس خلقا أن يفرّوا ويدعوك. فقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه: امصص بظر اللات- واللات طاغية ثقيف التي كانوا يعبدون- أنحن نفرّ وندعه؟ فقال: من هذا؟ قالوا: أبو بكر. فقال: أما والّذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك، وجعل يكلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكلّما كلّمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله، ومعه السيف وعلى رأسه المغفر، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخّر يدك عن لحيته، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. قال: أي غدّار، أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة قد صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثمّ جاء فأسلم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «امّا الإسلام فقد قبلنا، وأمّا المال، فإنّه مال غدر لا حاجة لنا فيه» [47] «2» . وإنّ عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله بعينه، فقال: والله لن يتنخم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه، وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّمه أصحاب محمّد محمّدا، والله
إن يتنجم نخامة إلّا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه، وجلده، وإذا أمرهم أمرا ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم، وما يحدّون النظر تعظيما له، وإنّه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من كنانة: دعوني آتيه. قالوا: أتيه. فلمّا أشرف على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قال النبي: «هذا فلان من قوم يعظّمون البدن، فابعثوها له» «1» فبعثت له، واستقبله قوم يلبّون، فلمّا رأى ذلك، قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت، ثمّ بعثوا إليه الجليس بن علقمة بن ريان، وكان يومئذ سيّد الأحابيش، فلمّا رآه رسول الله قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذا من قوم يتألّهون، فابعثوا بالهدي في وجهه حتّى يراه» «2» . فلمّا رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، قد أكل أوتاده من طول الحبس، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إعظاما لما رأى، فقال: يا معشر قريش، إنّي قد رأيت ما لا يحل صدّه، الهدي في قلائده، قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محلّه، فقالوا له: اجلس، فإنّما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب الجليس عند ذلك، فقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم أن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظّما له، والذي نفس الجليس بيده، لتخلنّ بين محمّد، وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: كفّ عنّا يا جليس حتّى نأخذ لأنفسنا بما نرضى به. فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلمّا أشرف عليهم، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر» ، فجعل يكلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إذ جاء سهيل بن عمرو فلمّا رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «قد سهل لكم أمركم، القوم يأتون إليكم بأرحامكم، وسائلوكم الصلح، فابعثوا الهدي وأظهروا التلبية لعلّ ذلك يليّن قلوبهم» «3» فلبّوا من نواحي العسكر حتّى ارتجّت أصواتهم بالتلبية، فجاءوا، فسألوا الصلح، وقال سهيل: هات نكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: «اكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» . فقال سهيل: أما الرّحمن فلا أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: «اكتب باسمك اللهم» ، ثمّ قال: «اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله» . فقال سهيل: والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والله إنّي لرسول الله وإن كذّبتموني» . ثمّ قال لعلي: «امح رسول الله» ،
فقال: والله لا أمحوك أبدا، فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب، فمحاه، ثمّ قال: «اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم من بعض، وعلى أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبغي من فضل الله، فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل الله، فهو آمن على دمه وماله، وعلى إنّه من أتى رسول الله من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممّن مع رسول الله لم يردّوه عليه» . فاشتدّ ذلك على المسلمين، فقال رسول الله (عليه السلام) : «من جاءهم منّا فأبعده الله، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا، وإنّ بيننا عيبة مكفوفة، وإنّه لا إسلال، ولا أغلال، وإنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد، وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش، وعهدهم دخل فيه» [48] «1» . فتواثبت خزاعة، فقالوا: نحن في عقد محمّد وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وعلى أن يخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به» . فقال سهيل: ولا يتحدّث العرب إنّا أخذتنا ضغطة، ولكن لك ذلك من العام المقبل، فكتب: وعلى إنّك ترجع عنّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكّة، فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت فيها ثلاثا، ولا تدخلها بالسّلاح إلّا السيوف في القراب، وسلاح الراكب، وعلى أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه، ولا تقدمه علينا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نحن نسوقه، وأنتم تردون وجوهه» «2» . قال: فبينا رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، وإذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو، يرسف في قيوده، قد انفلت، وخرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فلمّا رأى سهيل أبا جندل، قام إليه، فضرب وجهه، وأخذ سلسلته، وقال: يا محمّد قد تمّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، وهذا أوّل من أقاضيك عليه، أترده إلينا؟ ثمّ جعل يجرّه ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أردّ إلى المشركين، وقد جئت مسلما لتنفرني عن ديني؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا في الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا جندل احتسب، فإنّ الله جاعل لك، ولمن معك من المستضعفين فرجا، ومخرجا، إنّا قد عقدنا بيننا، وبين القوم عقدا، وصلحا، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهدا، وإنّا لا نغدر» «3» .
فوثب عمر بن الخطّاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنّما هم المشركون وإنّما دم أحدهم دم كلب، ويدني قائم السيف منه، قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضنّ الرجل بأبيه. قالوا: وقد كان أصحاب رسول الله خرجوا، وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رأوا ذلك دخل الناس أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، وزادهم أمر أبي جندل شرّا إلى ما بهم، فقال عمر: والله ما شككت منذ أسلمت إلى يومئذ، فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ألست رسول الله؟ قال: «بلى» . قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى» . قلت: فلم نعطي الدّنية في ديننا إذا؟ قال: «إنّي رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري» [49] «1» . قلت: ألست تحدّثنا أنّا سنأتي البيت، فنطوف به؟ قال: «بلى» . قال: «هل أخبرتك أنّا نأتيه العام؟» . قلت: لا، قال: «فإنّك آتيه ومطوّف به» ، قال: ثمّ أتيت أبا بكر، وقلت: أليس هذا نبيّ الله حقّا؟ قال: بلى. قلت: أفلسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قلت: فلم يعطي الدّنية في ديننا إذا؟ قال: أيّها الرجل إنّه رسول الله، وليس يعصي ربّه، فاستمسك بغرزه حتّى تموت، فو الله إنّه لعلى الحقّ. قلت: أو ليس كان يحدّث أنّا سنأتي البيت، ونطوّف به؟ قال: بلى. قال: أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنّك آتيه وتطوف به. قال عمر: فما زلت أصوم وأتصدّق، وأصلّي، وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به. قالوا: فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب أشهد رجالا على الصلح من المسلمين، ورجالا من المشركين، أبا بكر، وعمر، وعبد الرّحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة أخا بني عبد الأشهل، ومكرز بن حفص بن الأحنف، وهو مشرك، وعلي بن أبي طالب، وكان هو كاتب الصحيفة. فلمّا فرغ رسول الله من قصّته سار مع الهدي، وسار الناس، فلمّا كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية، عرض له المشركون فردوا وجوهه، فوقف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حيث حبسوه، وهي الحديبية وقال لأصحابه: «قوموا، فانحروا، ثمّ احلقوا» . قال: فو الله ما قام منهم رجل. حتّى قال ذلك ثلاث مرّات فلمّا لم يقم منهم أحد. قام فدخل على أمّ سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أمّ سلمة: يا نبيّ الله اخرج، ثمّ لا تكلّم أحدا منهم كلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو
حلّاقك فيحلقك. فقام فخرج، فلم يكلّم أحدا منهم كلمة حتى نحر بدنته، ودعا حالقه، فحلقه، وكان الذي حلقه ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فأما يوم الحديبية فحلق رجال وقصّر آخرون، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يرحم الله المحلّقين» . قالوا: والمقصّرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلّقين» ، قالوا: والمقصّرين يا رسول الله؟ قالوا: فلم ظاهرت الترحم للمحلّقين دون المقصّرين؟. قال: «لأنّهم لم يشكّوا» . قال ابن عمر: وذلك أنّه تربض القوم، قالوا: لعلّنا نطوف بالبيت. قال ابن عبّاس: وأهدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضّة، ليغيظ المشركين بذلك، ثمّ جاءه صلّى الله عليه وسلّم نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ «1» ... الآية، قال: فطلّق عمر امرأتين كانتا له في الشرك. قال: فنهاهم أن يردونهنّ وأمرهم أن ترد الصدقات، حينئذ، قال رجل للزهري: أمن أجل الفروج؟ قال: نعم، فتزوّج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية، ثمّ رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة فجاءه أبو نصير عتبة بن أسيد بن حارثة وهو مسلم، وكان ممّن جلس بمكّة، فكتب فيه أزهر بن عبد عوف، والأخنس بن شريق الثقفي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعثا رجلا من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابهما، وقالا: العهد الذي جعلت لنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإنّ الله تعالى جاعل لك، ولمن معك من المستضعفين فرجا، ومخرجا» [50] «2» . ثمّ دفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتّى إذا بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو نصير لأحد الرجلين: والله إنّي لأرى سيفك هذا جيّدا، فاستلّه الآخر، فقال: أجل والله إنّه لجيد. قال: أرني أنظر إليه. فأخذه وعلا به أخا بني عامر حتّى قتله، وفرّ المولى وخرج سريعا حتّى أتى رسول الله (عليه السلام) ، وهو جالس في المسجد، فلمّا رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طالعا قال: «إنّ هذا الرجل قد رأى فزعا» . فلمّا انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ويلك ما لك؟» قال: قتل صاحبكم صاحبي. فو الله ما برح حتّى طلع أبو نصير متوشّحا بالسيف، حتّى وقف على رسول الله، فقال: يا رسول الله وفت ذمّتك أسلمتني ورددتني- وقيل: وذريتني إليهم- ثمّ نجّاني الله منهم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «ويل أمّه مستعر حرب لو كان معه رجال» . فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم، فخرج أبو نصير حتّى أتى سيف البحر، ونزل بالغيّض من ناحية ذي المروة، على ساحل البحر بطريق قريش، الذي كانوا يأخذون إلى الشام،
وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكّة قول رسول الله (عليه السلام) لأبي نصير: «ويل أمّه مستعر حرب لو كان معه رجال» . فخرج عصابة منهم إليه، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي نصير حتّى اجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلّا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، حتّى ضيّقوا على قريش، فأرسلت قريش إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) يناشدونه الله، والرحم، لمّا أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقدموا عليه المدينة [51] «1» . قال الله تعالى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ بأن يقتلوهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ قال ابن زيد: إثم، وقال ابن إسحاق: غرم الدّية. وقيل: الكفّارة لأنّ الله تعالى إنّما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها، ولم يعلم قاتله إيمانه الكفّارة دون الدّية، فقال جلّ ثناؤه: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ «2» . ولم يوجب على قاتل خطأ دية، وقيل: هو أنّ المشركين يعيبونكم ويقولون: قتلوا أهل دينهم. (والمعرّة) المشقّة، وأصلها من العرّ وهو الحرب لإذن ذلك في دخولها، ولكنّه حال بينكم، وبين ذلك لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ دينه الإسلام مَنْ يَشاءُ من أهل مكّة قبل أن تدخلوها، هكذا نظم الآية وحكمها، فحذف جواب (لولا) استغناء بدلالة الكلام عليه، وقال بعض العلماء: قوله: (لَعَذَّبْنَا) جواب لكلامين: أحدهما لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ، والثاني: لَوْ تَزَيَّلُوا أي تميّزوا. ثمّ قال: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ يعني المؤمنين، والمؤمنات فِي رَحْمَتِهِ لكن جنّته. قال قتادة: في هذه الآية إنّ الله يدفع بالمؤمنين عن الكفّار، كما يدفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكّة. أخبرنا أبو عبد الله بن منجويه الدينوري، حدّثنا أبو علي بن حبش المقري، حدّثنا أبو الطيّب أحمد بن عبد الله بن بجلي الدارمي بأنطاكية، حدّثني أحمد بن يعقوب الدينوري، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن محمّد الأنصاري، حدّثني محمّد بن الحسن الجعفري، قال: سمعت جعفر ابن محمّد يحدّث، عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنّه سأل [رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] عن قول الله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً قال: «هم المشركون من أجداد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ممّن كان بعده في عصره، كان في أصلابهم المؤمنون، فلو تزيّل المؤمنون عن أصلاب الكفّار يعذب الله عذابا أليما» [52] . إذ من صلة قوله تعالى:
لَعَذَّبْنَا إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ حين صدّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن البيت، ولم يقرّوا ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، ولا برسالة رسول الله، (والحميّة) فعيلة من قول القائل: حمي فلان أنفه، يحمي حميّة، وتحمية. قال المتلمس: ألا إنّني منهم وعرضي عرضهم ... كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشّما «1» أي يمنع. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى يعني الإخلاص، نظيرها قوله تعالى: وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ «2» وقوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «3» . أخبرنا أبو بكر محمّد بن أحمد بن شاذان الرازي بقراءتي عليه، حدّثنا أبو عبد الله الحسين ابن علي بن أبي الربيع القطان، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمّد بن حنبل، وهيثم- أو وهضيم- ابن همام الآملي، وعلي بن الحسين بن الجنيد، قالوا: حدّثنا الحسن بن قزعة، حدّثنا سفيان بن حبيب، حدّثنا شعبة، عن يزيد بن أبي ناجية، عن الطفيل بن أبي، عن أبيه، عن أبي بن كعب أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: في قول الله تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» [53] «4» . وهو قول ابن عبّاس، وعمرو بن ميمون، ومجاهد، وقتادة، والضحّاك، وسلمة بن كهيل، وعبيد بن عمير، وعكرمة، وطلحة بن مصرف، والربيع، والسّدي، وابن زيد، وقال عطاء الخراساني: هي لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ محمّد رسول الله. أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق، أخبرنا أبو بكر بن حبيب، حدّثنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن عيسى المزني، حدّثنا أبو نعيم، وأبو حذيفة، قالا: حدّثنا سفيان، عن سلمة ابن كهيل، عن عباية بن ربعي، عن عليّ رضي الله عنه وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ والله أكبر. وهو قول ابن عمر، وقال عطاء بن رباح: هي لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وحده لا شَرِيكَ لَهُ، ... لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. أخبرنا أبو سعيد محمّد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمدون بن خالد، حدّثنا أحمد بن منصور المروزي بنيشابور، حدّثنا سلمة بن سليم السلمي، حدّثنا عبد الله ابن المبارك عن معمر عن ابن شهاب الزهري وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
[سورة الفتح (48) : الآيات 28 إلى 29]
وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ محمّدا عليه السلام. الرُّؤْيا التي أراها إيّاه في مخرجه إلى الحديبية، أنّه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام. بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ كلّها وَمُقَصِّرِينَ بعض رؤوسكم لا تَخافُونَ وقوله: لَتَدْخُلُنَّ يعني وقال: لَتَدْخُلُنَّ لأنّ عبارة (الرُّؤْيا) قول، وقال ابن كيسان: قوله: لَتَدْخُلُنَّ من قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه حكاية عن رؤياه، فأخبر الله تعالى، عن رسوله أنّه قال ذلك، ولهذا استثنى تأدّبا بأدب الله تعالى حيث قال له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» ، وقال أبو عبيدة: (إن) بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله كقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «2» . وقال الحسين بن الفضل: يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأنّ بين (الرؤيا) وتصديقها سنة، ومات منهم في السنة أناس، فمجاز الآية لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ كلّكم إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. ويجوز أن يكون الاستثناء واقعا على الخوف، والأمن لا على الدخول، لأنّ الدخول لم يكن فيه شك، لقوله صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المقبرة: «وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» [54] «3» فالاستثناء واقع على اللحوق دون الموت. فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنّ الصلاح كان في الصلح، وهو قوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ.. الآية. فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من دون دخولهما المسجد الحرام، وتحقيق رؤيا رسول الله فَتْحاً قَرِيباً وهو صلح الحديبية عن أكثر المفسّرين، قال الزهري: ما فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية، لأنّه إنّما كان القتال حيث التقى النّاس، فلمّا كانت الهدنة وضعت الحرب، وأمن النّاس بعضهم بعضا، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث، والمناظرة، فلم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلّا دخل فيه في تينك السنتين في الإسلام، مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر، وقال ابن زيد: هو فتح خيبر فتحها الله تعالى عليهم حين رجعوا من الحديبية، فقسّمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل الحديبية كلّهم إلّا رجلا واحدا من الأنصار، وهو أبو دجانة سماك بن خرشة كان قد شهد الحديبية، وغاب عن خيبر. [سورة الفتح (48) : الآيات 28 الى 29] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أنّك نبي صادق فيما تخبر، ونصب شَهِيداً على التفسير وقيل: على الحال، والقطع، ثمّ قال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ تمّ الكلام هاهنا، ثمّ قال مبتدئا: وَالَّذِينَ مَعَهُ (الواو) فيه (واو) الاستئناف وَالَّذِينَ في محل الرفع على الابتداء أَشِدَّاءُ غلاظ عَلَى الْكُفَّارِ لا تأخذهم فيهم رأفة. رُحَماءُ بَيْنَهُمْ متعاطفون متوادّون بعضهم على بعض كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «1» . تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ أن يدخلهم جنّته وَرِضْواناً أن يرضى عنهم. سِيماهُمْ علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ واختلف العلماء في هذه السيماء، فقال قوم: هو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة، أنّهم سجدوا في الدّنيا، وهي رواية العوفي، عن ابن عبّاس، وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس: استنارت وجوههم من كثرة ما صلّوا. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم، كالقمر ليلة البدر. قال آخرون: السمت الحسن، والخشوع، والتواضع، وهو رواية الوالبي عن ابن عبّاس، قال: أما إنّه ليس بالذي ترون، ولكنّه سيماء الإسلام وسجيّته، وسمته وخشوعه، وقال منصور: سألت مجاهدا عن قوله سبحانه وتعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ، أهو الأثر يكون بين عينيّ الرجل؟ قال: لا ربّما يكون بين عينيّ الرجل، مثل ركبة العنز، وهو أقسى قلبا من الحجارة، ولكنّه نور في وجوههم من الخشوع، وقال ابن جريج: هو الوقار، والبهاء، وقال سمرة بن عطية: هو البهج، والصفرة في الوجوه، وأثر السهرة. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما هم بمرضى، وقال الضحّاك: أمّا إنّه ليس بالندب في الوجوه، ولكنّه الصفرة. وقال عكرمة، وسعيد بن جبير: هو أثر التراب على جباههم. قال أبو العالية: يسجدون على التراب لا على الأثواب، وقال سفيان الثوري: يصلّون بالليل، فإذا أصبحوا رؤي ذلك في وجوههم، بيانه قوله: صلّى الله عليه وسلّم: «من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» [55] «2» . قال الزهري: يكون ذلك يوم القيامة، وقال بعضهم: هو ندب السجود، وعلته في الجبهة من كثرة السجود.
وبلغنا في بعض الأخبار إنّ الله تعالى يقول يوم القيامة: يا نار أنضجي، يا نار أحرقي، وموضع السجود فلا تقربي ، وقال عطاء الخراساني: دخل في هذه الآية كلّ من حافظ على الصلوات الخمسة. ذلِكَ الذي ذكرت مَثَلُهُمْ صفتهم فِي التَّوْراةِ وهاهنا تمّ الكلام، ثمّ قال: وَمَثَلُهُمْ صفتهم فِي الْإِنْجِيلِ فهما مثلان كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ قرأه العامّة بجزم (الطاء) ، وقرأ بعض أهل مكّة، والشام بفتحه، وقرأ أنس، والحسن، ويحيى بن وثاب (شطاه) مثل عصاه. وقرأ الجحدري (شطه) بلا همزة، وكلّها لغات. قال أنس: (شَطْأَهُ) نباته، وقال ابن عبّاس: سنبلة حين يلسع نباته عن جنانه. ابن زيد: أولاده. مجاهد، والضحّاك: ما يخرج بجنب الحقلة فينمو ويتمّ عطاء جوانبه. مقاتل: هو نبت واحد، فإذا خرج ما بعده، فهو (شطأه) . السدّي: هو أن يخرج معه ألطافه الأخرى. الكسائي: طرفه. الفراء: شطأ الزرع أن ينبت سبعا، أو ثمانيا، أو عشرا. قال الأخفش: فراخة يقال: أشطأ الزرع، فهو مشطي إذا أفرخ، وقال الشاعر: أخرج الشطأ على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر «1» وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمّد (عليه السلام) يعني أنّهم يكونون قليلا، ثمّ يزدادون، ويكثرون، ويقوون، وقال قتادة: مثل أصحاب محمّد (عليه السلام) في الإنجيل مكتوب أنّه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. فَآزَرَهُ قوّاه وأعانه وشد أزره فَاسْتَغْلَظَ فغلظ، وقوى فَاسْتَوى نما وتلاحق نباته، وقام عَلى سُوقِهِ أصوله يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ يعني أنّ الله تعالى فعل ذلك بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق، أخبرنا أبو بكر محمّد بن يوسف بن حاتم بن نصر، حدّثنا الحسن بن عثمان، حدّثنا أحمد بن منصور الحنظلي، المعروف بزاج المروزي، حدّثنا سلمة بن سليمان، حدّثنا عبد الله بن المبارك، حدّثنا مبارك بن فضلة، عن الحسن في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ قال: هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ مَعَهُ أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه رُحَماءُ بَيْنَهُمْ عثمان بن عفّان رضي الله عنه تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً علي بن أبي طالب رضي الله عنه يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة الجرّاح سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قال: المبشّرون عشرة أوّلهم أبو بكر، وآخرهم أبو عبيدة الجراح ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ قال: نعتهم في التوراة والإنجيل كمثل زرع قال: الزرع
محمّد صلّى الله عليه وسلّم أَخْرَجَ شَطْأَهُ أبو بكر الصدّيق، فَآزَرَهُ عمر بن الخطّاب فَاسْتَغْلَظَ عثمان بن عفّان، يعني استغلظ بعثمان الإسلام فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ علي بن أبي طالب يعني استقام الإسلام بسيفه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ قال: المؤمنون لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ قال: قول عمر لأهل مكّة: لا نعبد الله سرّا بعد هذا اليوم. أخبرنا ابن منجويه الدينوري، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن شنبه، حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدّثنا محمّد بن مسلم بن واره، حدّثنا الحسين بن الربيع، قال: قال ابن إدريس ما آمن بأن يكونوا قد ضارعوا الكفّار، يعني الرافضة!، لأنّ الله تعالى يقول: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ. أخبرنا الحسين بن محمّد العدل، حدّثنا محمّد بن عمر بن عبد الله بن مهران، حدّثنا أبو مسلم الكجي، حدّثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا عمران، عن الحجّاج، عن ميمون بن مهران، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يكون في آخر الزمان قوم ينبزون أو يلمزون الرافضة يرفضون الإسلام ويلفظونه، فاقتلوهم فإنّهم مشركون!» [56] «1» . أخبرنا الحسين بن محمّد، حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي، حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، حدّثنا أبي، حدّثنا أبو العوام أحمد بن يزيد الديباجي، حدّثنا المدني، عن زيد، عن ابن عمر، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: «يا علي أنت في الجنّة وشيعتك في الجنّة، وسيجيء بعدي قوم يدّعون ولايتك، لهم لقب يقال له: الرافضة «2» ، فإن أدركتهم فاقتلوهم فإنّهم مشركون» . قال: يا رسول الله ما علامتهم؟ قال: «يا علي إنّهم ليست لهم جمعة، ولا جماعة يسبّون أبا بكر، وعمر» [57] «3» . وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات، وقد مرّ تأويله، وقال أبو العالية في هذه الآية: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني الذين أحبّوا أصحاب رسول الله المذكورين فيها فبلغ ذلك الحسن، فارتضاه، فاستصوبه منهم، قال ابن جرير: يعني من الشطأ الذي أخرجه الزرع، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع إلى يوم القيامة رد (الهاء) و (الميم) على معنى الشطأ لا على لفظه، لذلك قال: مِنْهُمْ ولم يقل: منه. مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. (في فضل المفضل) ، حدّثنا الشيخ أبو محمّد المخلدي، إملاء يوم الجمعة في شعبان سنة
أربع وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو بكر محمّد بن حمدون بن خالد، وعبد الله بن محمّد بن مسلم، قالا: حدّثنا هلال بن العلاء، قال: حدّثنا حجّاج بن محمّد، عن أيّوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن شداد بن عبد الله، عن أبي أسماء الرجبي، عن ثوبان، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضّلني بالمفضل» [58] «1» . وأخبرنا أبو الحسن الحباري، قال: حدّثنا أبو الشيخ الإصبهاني، قال: أخبرنا ابن أبي عاصم، قال: حدّثنا هشام بن عمّار، قال: حدّثنا محمّد بن شعيب بن شابور، قال: حدّثنا سعد ابن قيس، عن قتادة، عن أبي الملح الهذلي، عن واثلة بن الأسقع، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت السبع الطوال مكان التوراة، وأعطيت المثاني مكان الإنجيل، وأعطيت المئين مكان الزبور، وفضلت بالمفضل» [59] «2» .
سورة الحجرات
سورة الحجرات مدنية. وهي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون حرفا، وثلاثمائة وثلاثة وأربعون كلمة، وثماني عشرة آية أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم العبدوي قرأه عليه سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عمر ومحمّد بن جعفر بن محمّد العدل، قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل، قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدّثنا سلام بن سليم المدائني، قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ الحجرات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومن عصاه» [60] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قرأ العامة (تُقَدِّمُوا) بضم (التاء) وكسر (الدال) من التقديم، وقرأ الضحّاك، ويعقوب بفتحهما من التقدّم. واختلف المفسّرون في معنى الآية، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة. عطية عنه: لا تتكلّموا بين يدي كلامه. وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن مالك الشيباني، قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد بن عثمان الخزاز. قال: حدّثنا حسين بن محارق أبو جنادة، عن عبد الله بن سلامة، عن السبعي، عن جابر بن عبد الله لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
قال: في الذبح يوم الأضحى، وإليه ذهب الحسن، قال: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن ناسا من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وأخبرنا عبد الخالق، قال: أخبرنا ابن حيي قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي العوام الرياحي، قال: حدّثنا أبي. قال: حدّثنا النعمان بن عبد السّلم التيمي، عن زفر بن الهذيل، عن يحيى بن عبد الله التيمي عن حبّال بن رفيدة، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم. وروي عن مسروق أيضا، قال: دخلت على عائشة في اليوم الذي جئت فيه، فقالت للجارية: اسقيه عسلا، فقلت: إنّي صائم. فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم، وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل. قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم. قال: حدّثني هشام بن يوسف، عن ابن جريح، قال: أخبرني ابن أبي مليكة أنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم، قال: قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد زرارة، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلّا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية [61] «1» . وقال قتادة: نزلت في ناس كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لوضع كذا. فكره الله ذلك وقدّم فيه. مجاهد: لا تفتاتوا «2» على رسول الله بشيء حتّى يقضيه الله على لسانه «3» . الضحّاك: يعني في القتال وشرائع الدين يقول: لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله. حيان، عن الكلبي لا تستبقوا رسول الله بقول، ولا فعل حتّى يكون هو الذي يأمركم. وبه قال السدّي، وقال عطاء الخراساني: نزلت في قصة بئر معونة، وقيل في الثلاثة الذين نجّوا الرجلين السّلميين، اللذين اعتزما إلى بني عامر وأخذهم مالهما وكانا من أهل العهد، فلمّا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد سبق الخبر إليه، فقال: «بئس ما صنعتم، هما من أهل ميثاقي وهذا الذي معكم من نسوتي «4» » ، قالا: يا رسول الله إنّهما زعما أنّهما من بني عامر، فقلنا: رجلان ممّن قتل إخواننا. فقلنا: هما لذلك. وأتاه السّلميون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قود لهما لأنّهما اعتزما إلى
عدوّنا» [62] «1» . ولكنّه أيدهما «2» ، فوادّهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله سبحانه في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حين قتلوا الرجلين ، وهذه رواية ماذان عن ابن عبّاس. وقال ابن زيد: لا تقطعوا أمرا دون رسول الله، وقيل: لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين أيدي العلماء فإنّهم ورثة الأنبياء. ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن الخبازي، قال: حدّثنا أبو القاسم موسى بن محمّد الدينوري بها، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى، قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدّثنا رجل بمكّة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي الدرداء، قال: رآني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمشي أمام أبي بكر، فقال: «تمشي أمام من هو خير منك في الدّنيا والآخرة، ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحد بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمرسلين خيرا وأفضل من أبي بكر!!» [63] «3» . وقيل: إنّها نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا سئل الرسول عن شيء، خاضوا فيه، وتقدّموا بالقول، والفتوى، فنهوا عن ذلك، وزجروا عن أن يقول أحد في شيء من دين الله سبحانه، قبل أن يقول فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: لا تطلبوا منزلة وراء منزلته. قال الأخفش: تقول العرب: فلان تقدّم بين يدي أبيه، وأمّه، ويتقدّم إذا استبدّ بالأمر دونهما. وَاتَّقُوا اللَّهَ في تضييع حقّه، ومخالفة أمره. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم، وأحوالكم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية نزلت في ثابت بن قيس ابن شماس، كان في أذنه وقر، وكان جهوري الصّوت، فإذا كلّم إنسانا جهر بصوته، فربّما كان يكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينادي بصوته، فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي لا تغلظوا له في الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمّد، يا أحمد، كما ينادي بعضكم بعضا، ولكن فخّموه، واحترموه، وقولوا له قولا ليّنا، وخطابا حسنا، بتعظيم، وتوقير: يا نبي الله، يا رسول الله، نظيره قوله سبحانه: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «4» . أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ كي لا تبطل حسناتكم. تقول العرب: أسند الحائط أن يميل وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ فلمّا نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق، فمرّ به عاصم بن عدي، فقال: ما
يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوّف أن تكون نزلت فيّ، وأنا رفيع الصوت، أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغلب ثابتا البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي، فشدّي على الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفه، وقال: لا أخرج حتّى يتوفّاني الله، أو يرضى عنّي رسول الله، فأتى عاصم رسول الله، فأخبره بخبره. فقال: «اذهب، فادعه لي» . فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إنّ رسول الله يدعوك، فقال: أكسر الصبّة، فأتيا رسول الله، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال: أنا صيّت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضى أن تعيش سعيدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنّة» [64] «1» ، فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله، فأنزل الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية «2» . قال أنس: فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنّة، يمشي بين أيدينا، فلمّا كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة، رأى ثابت في المسلمين بعض الانكسار، وانهزمت طائفة منهم، فقال: أف لهؤلاء، وما يصنعون. ثمّ قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله مثل هذا، ثمّ ثبتا، ولم يزالا يقاتلان حتّى قتلا. وثابت بن قيس عليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنّه قال له: اعلم أنّ فلانا- رجل من المسلمين- نزع درعي، فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عنده فرس تستر في طوله، وقد وضع على درعي لرمه «3» ، فأت خالد بن الوليد، فأخبره حتّى يسترد درعي وأت أبا بكر خليفة رسول الله وقل له: إنّ عليّ دينا حتّى يقضي، وفلان من رقيقي عتيق. فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر تلك الرؤيا، فأجاز أبو بكر وصيّته. قال مالك بن أنس: لا أعلم أجيزت بعد موت صاحبها إلّا هذه. حدّثنا أبو محمّد المخلدي، قال: أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، قال: حدّثنا زياد بن أيّوب، قال: حدّثنا عباد بن العوّام، ويزيد بن هارون وسعيد بن عادر، عن محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة، قال: حدّثنا سعيد، عن أبي هريرة. قال: لمّا نزلت لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ... الآية، قال أبو بكر: والله لا أرفع صوتي إلّا كأخي السرار «4» .
وروى ابن أبي مليكة عن أبي الزبير، قال: لمّا نزلت هذه الآية، ما حدّث عمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، فيسمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلامه حتّى يستفهمه ممّا يخفض صوته، فأنزل الله سبحانه فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إجلالا له أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي اختبرها، فأخلصها، واصطفاها كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج خالصه، وقال ابن عبّاس: أكرمها. وأخبرنا أبو سعيد محمّد بن موسى بن الفضل النيسابوري، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمّد ابن عبد الله بن أحمد الإصبهاني، قال: حدّثنا أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبد القريشي، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى بن أبي خاتم، قال: حدّثني جعفر بن أبي جعفر، عن أحمد بن أبي الخولدي، قال: سمعت أبا سلمان يقول: قال عمر بن الخطّاب في قوله: الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال: أذهب الشهوات منها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ويقال: إنّ هذه الآيات الأربع من قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ إلى قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت في وفد تميم. وهو ما أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمّد، قال: حدّثني أبو جعفر محمّد بن صالح بن هاني الورّاق سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، قال: حدّثنا الفضل بن محمّد بن المسيب بن موسى الشعراني، قال: حدّثنا القاسم بن أبي شيبة، قال: حدّثنا معلّى بن عبد الرّحمن، قال: حدّثنا عبد الحميد بن جعفر بن عمر بن الحكم، عن جابر بن عبد الله، قال: جاءت بنو تميم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنادوا على الباب: يا محمّد اخرج علينا، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين. قال: فسمعها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فخرج عليهم، وهو يقول: «إنّما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمّه شين» «1» . قالوا: نحن ناس من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا» [65] «2» . فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك، وفضل قومك. فقام، فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عدّة، ومالا، وسلاحا، فمن أنكر علينا قولنا، فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعال هي خير من فعالنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب رسول الله: «قم فأجبه» .
فقام، فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، ثمّ دعا المهاجرين من بني عمّه أحسن الناس وجوها وأعظمهم أحلاما. فأجابوه، فقالوا: الحمد لله الذي جعلنا أنصاره، ووزراء رسوله، وعزّا لدينه، فنحن نقاتل الناس، حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله، فمن قالها منع منّا ماله، ونفسه، ومن أبى قتلناه، وكان زعمه في الله علينا هينا، أقول قولي وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم يا فلان، فقل أبياتا تذكر فيها فضلك، وفضل قومك. فقام الشاب، فقال: نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا «1» ... فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع ونطعم الناس عند القحط كلّهم ... من السديف إذا لم يؤنس القزع إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حسّان بن ثابت، فانطلق إليه الرّسول، فقال: وما تريد منّي وكنت عنده؟ قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم، وخطيبهم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثابت بن قيس، فأجابه، وتكلّم شاعرهم، فأرسل إليك لتجيبه. وذكر له قول شاعرهم. قال: فجاء حسّان، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبه فقال: يا رسول الله مره، فليسمعني ما قال، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اسمعه ما قلت» ، فأنشده ما قال، فقال حسّان: إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم ... قد شرّعوا سنّة للنّاس تتبّع يرضى بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع ثمّ قال حسّان: نصرنا رسول الله والدين عنوة ... على رغم عات من معد وحاضر بضرب كإيزاغ المخاض مشاشه ... وطعن كأفواه اللقاح الصوادر وسل أحدا يوم استقلت شعابه ... بضرب لنا مثل الليوث الجواذر ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى ... إذا طاب ورد الموت بين العساكر ونضرب هام الدارعين وننتمي ... إلى حسب من جذم غسان قاهر فلولا حياء الله قلنا تكرّما ... على النّاس بالخيفين هل من منافر فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى ... وأمواتنا من خير أهل المقابر
[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 إلى 10]
قال: فقام الأقرع بن حابس، فقال: إنّي والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، وإنّي قد قلت شعرا، فاسمعه منّي، فقال: هات، فقال: أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر المكارم وإنّا رؤس الناس من كلّ معشر ... وأنّ ليس في أرض الحجاز كدارم وإنّ لنا المرباع في كلّ غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهائم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قم يا حسّان فأجبه» . فقام حسّان، فقال: بني دارم لا تفخروا إنّ فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كنت غنيا يا أخا دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أنّ الناس قد نسوه» . قال: فكان قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ عليهم من قول حسّان. ثمّ رجع حسّان إلى شعره. فقال: كأفضل ما نلتم من المجد والعلى ... ردافتنا من بعد ذكر الأكارم فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا ... ولا تفخروا عند النبيّ بدارم وإلّا وربّ البيت مالت أكفّنا ... على هامكم بالمرهفات الصوارم قال: فقام الأقرع بن حابس، فقال: إنّ محمّدا المولى، إنه والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلّم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلّم شاعرنا، فكان شاعرهم أشعر، وأحسن قولا. ثمّ دنا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسوله. فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما يضرّك ما كان قبل هذا» . ثمّ أعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكساهم، وقد كان يخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم، وكان قيس بن عاصم يبغضه لحداثة سنه، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطى القوم، فأزرى به قيس، وقال فيه أبيات شعر وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إلى قوله وَأَجْرٌ عَظِيمٌ يعني جزاء وافرا، وهو الجنّة «1» . [سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ يعني أعراب تميم، حيث نادوا: يا محمّد اخرج علينا، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين، قاله قتادة. قال ابن عبّاس: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى حي من بني العنبر وأمّر عليهم عيينة بن حصين الفزاري، فلمّا علموا أنّه توجّه نحوهم، هربوا، وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، وقدم بهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة، وواقفوا رسول الله في أهله قائلا، فلمّا رأتهم الذراري جهشوا إلى آبائهم يبكون، وكان لكلّ امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت، وحجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعلوا ينادون: يا محمّد اخرج إلينا حتّى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمّد فادنا عيالنا. فنزل جبريل، فقال: يا محمّد إنّ الله يأمرك أن تجعل بينك، وبينهم رجلا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أترضون أن يكون بيني وبينكم سمرة بن عمرو، وهو على دينكم؟» . فقالوا: نعم. قال سمرة: أنا لا أحكم بينهم وعمّي شاهد، وهو الأعور بن شامة فرضوا به. فقال الأعور: أرى أن يفادي نصفهم، ويعتق نصفهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «قد رضيت» . ففادى نصفهم وأعتق نصفهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان عليه محرر من ولد إسماعيل، فليعتق منهم» [66] «1» . فأنزل الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ ... الآية ، وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من الغرف إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيّا فنحن أسعد الناس به، وأن يكن ملكا نعش في جناحه. فجاءوا إلى حجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فجعلوا ينادونه: يا محمّد، يا محمّد، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ وهي جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع، وفيه لغتان: فتح (الجيم) وهي قراءة أبي جعفر، كقول الشاعر:
أما كان عباد كفيا لدارم ... يلي ولأبيات بها الحجرات يعني يلي ولبني هاشم. أَكْثَرُهُمْ جهلاء لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لأنّك كنت تعتقهم جميعا، وتطلقهم بلا فداء. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي، قال: حدّثني هاشم بن القاسم الحراني، قال: حدّثني يعلى بن الأشدق، قال: حدّثني سعد بن عبد الله، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قول الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ قال: «هم الجفاة من بني تميم، لولا أنّهم من أشدّ الناس قتالا للأعور الدجّال، لدعوت الله عزّ وجلّ أن يهلكهم» [67] «1» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدّقا، وكان بينه، وبينهم عداوة في الجاهلية، فلمّا سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحدّثه الشيطان أنّهم يريدون قتله، فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ بني المصطلق، قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله، وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقّاه، ونكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من حقّ الله، فبدا له في الرجوع، فخشينا أن يكون إنّما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنّا نعوذ بالله من غضبه، وغضب رسوله، فأبهمهم «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر، وأمره أن يخفي عليهم قدومه «3» . وقال له: «انظر، فإن رأيت منهم ما يدلّ على إيمانهم، فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك، فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفّار» . ففعل ذلك خالد ووافاهم، فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلّا الطاعة، والخير، فانصرف خالد إلى رسول الله، وأخبره الخبر، فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ يعني الوليد بن عقبة بن أبي معيط سمّاه الله فاسقا، نظيره أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «4» ، قال سهل بن عبد الله وابن زيد: الفاسق الكذّاب. أبو الحسين الورّاق: هو المعلن بالذنب، وقال ابن طاهر وابن زيد: الفاسق الذي لا يستحي من الله سبحانه.
بنبإ: بخبر فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا كي لا تصيبوا بالقتل، والقتال. قَوْماً براء بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فاتقوا أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإنّ الله سبحانه يخبره أنباءكم، ويعرّفه أحوالكم، فتفتضحوا. لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ فيحكم برأيكم، ويقبل قولكم. لَعَنِتُّمْ لأثمتم وهلكتم. وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ فأنتم تطيعون رسول الله وتأتمّون به، فيقيكم الله بذلك العنت. وَزَيَّنَهُ وحسّنه فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ. ثمّ انتقل من الخطاب إلى الخبر، فقال عزّ من قائل: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ نظيرها قوله سبحانه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ «1» ، قال النابغة: يا دارميّة بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد «2» فَضْلًا أي كان هذا فضلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا قال أكثر المفسّرين: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم على مجلس من مجالس الأنصار وهو على حماره، فبال حماره، فأمسك عبد الله بن أبي بأنفه وقال: إليك عنّا بحمارك، فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك. فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه، وغضب لعبد الله بن رواحة رجل من قومه، فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه حتّى استسبّوا، وتجالدوا بالأيدي، والجريد، والنعال، ولم يقدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على إمساكهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، فلمّا نزلت قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاصطلحوا، وكفّ بعضهم عن بعض، وأقبل بشير بن النعمان الأنصاري مشتملا على سيفه، فوجدهم قد اصطلحوا، فقال عبد الله بن أبي: أعليّ تشتمل بالسيف يا بشير؟ قال: نعم، والّذي أحلف به لو جئت قبل أن تصطلحوا لضربتك حتّى أقتلك، فأنشأ عبد الله بن أبي يقول: متى ما يكن مولاك خصمك جاهدا ... تظلم «3» ويصرعك الذين تصارع «4» قال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مداراة في حقّ بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقّي منك عنوة، لكثرة عشيرته، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما، حتّى تدافعوا، وقد تناول بعضهم بعضا بالأيدي، والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف. وروى محمّد بن الفضيل، عن الكلبي أنّها نزلت في حرب
سمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطبا، فجعل الأوس والخزرج يقتتلون إلى أن أتاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وأمر نبيّه، والمؤمنين أن يصلحوا بينهم. وروى سفيان عن السدّي، قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أمّ زيد تحت رجل، وكان بينها، وبين زوجها شيء، فرمى بها إلى علية، وحبسها فيها، فبلغ ذلك قومها فجاءوا، وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي، والنعال، فأنزل الله سبحانه تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الآية. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالدعاء إلى حكم كتاب الله سبحانه، والرضا بما فيه لهما، وعليهما. فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى له، وعليه في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه. فَإِنْ فاءَتْ رجعت إلى الحقّ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بحملهما على الإنصاف والرضى بحكم الله، وهو العدل، وَأَقْسِطُوا واعدلوا. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين، والولاية فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إذا اختلفا، واقتتلا، وقرأ ابن سيرين، ويعقوب. بين إخوتكم (بالتاء) على الجمع، وقرأ الحسن (إخوانكم) (بالألف) و (النون) . وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. قال أبو عثمان البصري: أخوة الدّين أثبت من أخوّة النسب، فإنّ اخوّة النسب تنقطع لمخالفة الدين، وأخوّة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وسئل الجنيد عن الأخ، فقال: هو أنت في الحقيقة إلّا إنّه غيرك في الشخص. أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق المسوحي. قال: حدّثنا عمرو بن علي، قال: حدّثنا أبو عاصم. قال: حدّثنا إسماعيل بن رافع، عن ابن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يعيبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه في البنيان، فيستر عليه الريح إلّا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره إلّا أن يعرف له، ولا يشتري لبنيه الفاكهة، فيخرجون بها إلى صبيان جاره، ولا يطعمونهم منها» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احفظوا، ولا يحفظه منكم إلّا قليل» [68] «1» . وفي هاتين الآيتين دليل على انّ البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأنّ الله سبحانه وتعالى سمّاهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين، عاصين. يدلّ عليه ما روى الأعور أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي، عن أهل الجمل، وصفّين، أمشركون هم؟ فقال: لا، من الشرك فرّوا. فقيل: أهم منافقون؟ فقال: إنّ المنافقين لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 11 إلى 12]
وقد أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي قال: حدّثنا أبو نصر التمّار، قال: حدّثنا كوثر، عن نافع، عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا عبد الله هل تدري كيف حكم الله سبحانه فيمن بغى من هذه الأمّة؟» . قال: الله ورسوله أعلم. قال: «لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها» [69] «1» . وسئل محمّد بن كعب القرظي عن هاتين الآيتين، فقال: جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجر المصلح بين الناس، كأجر المجاهد عند الناس ، وقال بكر بن عبد الله: امش ميلا، وعد مريضا، امش ميلين، وأصلح بين اثنين، امش ثلاثة أميال، وزر أخاك في الله. [سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 12] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الآية، قال ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس، وذلك أنّه كان في أذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد سبقوه بالمجلس، أوسعوا له حتّى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم، وقد فاته من صلاة الفجر ركعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا انصرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم [منه، فربض] كلّ رجل بمجلسه، فلا يكاد يوسع أحد لأحد، فكان الرجل إذا جاء، فلم يجد مجلسا، قام قائما، كما هو، فلمّا فرغ ثابت من الصلاة، وقام منها، أقبل نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يتخطّى رقاب الناس، ويقول: تفسحوا تفسحوا، فجعلوا يتفسحون له حتّى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينه وبينه رجل. فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد أصبت مجلسا، فاجلس، فجلس ثابت من خلفه مغضبا، فلمّا أبينت الظلمة، غمز ثابت الرجل، وقال: من هذا؟ قال: أنا فلان. فقال له ثابت: ابن فلانة. ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه واستحيا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية. وقال الضحّاك: نزلت في وفد تميم الذين ذكرناهم في صدر السورة، استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل عمّار، وخباب، وبلال، وصهيب، وسلمان، وسالم مولى أبي حذيفة، لما رأوا من رثاثة حالهم، فأنزل الله سبحانه في الذين آمنوا منهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
أي رجال من رجال، والقوم اسم يجمع الرجال والنساء «1» ، وقد يختص بجمع الرجال، كقول زهير: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء «2» عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ نزلت في امرأتين من أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سخرتا من أمّ سلمة، وذلك أنّها ربطت خصريها بسبيبة- وهي ثوب أبيض ومثلها السب- وسدلت طرفيها خلفها. فكانت تجرها. فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب. فهذا كان سخريتهما «3» . وقال أنس: نزلت في نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيّرن أمّ سلمة بالقصر. ويقال: نزلت في عائشة، أشارت بيدها في أمّ سلمة أنّها قصيرة ، وروى عكرمة، عن ابن عبّاس أنّ صفية بنت حي بن أخطب أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إنّ النساء يعيّرني فيقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلّا قلت: إنّ أبي هارون، وابن عمّي موسى، وإنّ زوجي محمّد» [70] «4» ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعيب بعضكم بعضا، ولا يطعن بعضكم على بعض. وقيل: اللمز العيب في المشهد، والهمز في المغيب، وقال محمّد بن يزيد: اللمز باللسان، والعين، والإشارة، والهمز لا يكون إلّا باللسان، قال الشاعر: إذا لقيتك عن شحط تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة «5» وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال أبو جبير بن الضحّاك: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة، قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وما منّا رجل إلّا له اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا الرجل الرجل باسم، قلنا: يا رسول الله، إنّه يغضب من هذا. فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. قال قتادة، وعكرمة: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق، يا كافر، وقال الحسن: كان اليهودي، والنصراني يسلم، فيقال له بعد إسلامه: يا يهودي، يا نصراني، فنهوا عن ذلك، وقال ابن عبّاس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيّئات، ثمّ تاب منها، وراجع الحقّ، فنهى الله أن يعيّر بما سلف من عمله.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يقول: من فعل ما نهيت عنه من السخرية، واللمز والنبز، فهو فاسق، وبِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ فلا تفعلوا ذلك، فتستحقّوا (اسم الفسوق) وقيل: معناه بئس الاسم الذي تسميه، بقولك فاسق، بعد أن علمت أنّه آمن. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... الآية نزلت في رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اغتابا رفيقيهما، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا غزا أو سافر، ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسورين يخدمهما، ويحقب حوائجهما، ويتقدّم لهما إلى المنزل، فيهيّئ لهما ما يصلحهما من الطعام، والشراب، فضم سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدّم سلمان، فغلبته عيناه، فلم يهيّئ لهما شيئا، فلمّا قدما، قالا له: ما صنعت شيئا؟ قال: لا. قالا: ولم؟ قال: غلبتني عيناي، فقالا له: انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واطلب لنا منه طعاما وإداما، فجاء سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله طعاما، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عنده فضل من طعام، وإدام، فليعطك» . وكان أسامة خازن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى رحله، فأتاه، فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما، وأخبرهما بذلك، فقالا: كان عند أسامة، ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلمّا رجع سلمان، قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثمّ انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا جاءا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهما: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما» قالا: يا رسول الله، والله ما تناولنا يومنا هذا لحما، فقال: «ظللتم تأكلون لحم سلمان، وأسامة» [71] «1» . فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا قرأه العامّة (بالجيم) وقرأ ابن عبّاس، وأبو رجاء العطاردي (ولا تحسّسوا) (بالحاء) ، قال الأخفش: ليس يبعد أحدهما عن الآخر. إلّا أنّ التجسّس لما يكتم، ويوارى، ومنه الجاسوس، والتحسس (بالحاء) تخبر الأخبار، والبحث عنها، ومعنى الآية خذوا ما ظهر، ودعوا ما ستر الله، ولا تتّبعوا عورات المسلمين. أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا قتيبة بن سعد، عن مالك، عن أبي الزياد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إيّاكم
والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، وَلا تَجَسَّسُوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» [72] «1» . وأخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن حبش، قال: أخبرنا علي بن زنجويه. قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن زرارة بن مصعب بن عبد الرّحمن بن عوف، عن المسوّر بن مخرمة، عن عبد الرّحمن بن عوف، أنّه حرس ليلة عمر بن الخطّاب بالمدينة، فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمّونه، فلمّا دنوا منه، إذا باب يجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة، ولغط، فقال عمر، وأخذ بيد عبد الرّحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: قلت: لا. قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن بيثرب، فما ترى؟ قال عبد الرّحمن: أرى أنّا قد أتينا ما قد نهى الله سبحانه، فقال: وَلا تَجَسَّسُوا فقد تجسسنا، فانصرف عمر عنهم، وتركهم. وبه عن معمر، قال: أخبرني أيّوب، عن أبي قلابة أنّ عمر بن الخطّاب، حدّث أنّ أبا محجن الثقفي شرب الخمر في بيته هو وأصحابه، فانطلق عمر حتّى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلّا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك، فقد نهاك الله عزّ وجلّ عن التجسّس، فقال عمر: ما يقول هذا؟ فقال زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين، هذا التجسّس، قال: فخرج عمر رضي الله عنه، وتركه. وروى زيد بن أسلم أنّ عمر بن الخطّاب خرج ذات ليلة، ومعه عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنهما يعسّان إذ شبّ لهما نار، فأتيا الباب، فاستأذنا، ففتح الباب، فدخلا، فإذا رجل، وامرأة تغنّي، وعلى يد الرجل قدح، وقال عمر للرجل: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: فمن هذه منك؟ قال: امرأتي. قال: وما في القدح؟ قال: ماء زلال. فقال للمرأة: وما الّذي تغنّين؟ فقالت: أقول: تطاول هذا الليل واسودّ جانبه ... وأرّقني ألّا حبيب ألاعبه «2» فو الله لولا خشية الله والتقى ... لزعزع من هذا السرير جوانبه ولكن عقلي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه ثمّ قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين، قال الله: وَلا تَجَسَّسُوا فقال عمر: صدقت، وانصرف. وأخبرنا الحسين، قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي. قال: حدّثنا
الحسين بن علوية. قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدّثنا المسيب، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: قيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال: إنّا قد نهينا عن التجسّس، فإن يظهر لنا شيئا نأخذه به. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أخبرنا الحسين، قال: حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري. قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن زيد أبو بكر السطوي، قال: حدّثنا علي بن إشكاب، قال: حدّثنا عمر بن يونس اليمامي، قال: حدّثنا جهضم بن عبد الله، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الغيبة فقال: «أن يذكر أخاك بما يكره، فإمّا إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» [73] «1» . وقال معاذ بن جبل: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر القوم رجلا، فقالوا: ما يأكل إلّا ما أطعم، ولا يرحل إلّا ما رحّل، فما أضعفه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغتبتم أخاكم» . قالوا: يا رسول الله وغيبة أن نحدّث بما فيه؟ فقال: «بحسبكم أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه» [74] «2» . وروى موسى بن وردان عن أبي هريرة أنّ رجلا قام من عند رسول الله، فرأوا في قيامه عجزا، فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أكلتم أخاكم واغتبتموه» [75] «3» . أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً، قال قتادة: يقول: كما أنت كاره أن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها، فكذلك فاكره لحم أخيك وهو حيّ، فَكَرِهْتُمُوهُ قال الكسائي، والفراء: معناه، فقد كرهتموه. وقرأ أبو سعيد الخدري (فَكُرِّهْتُمُوهُ) بالتشديد على غير تسمية الفاعل. أخبرني الحسن، قال: حدّثنا عمر بن نوح البجلي، قال: حدّثنا أبو صالح عبد الوهاب بن أبي عصمة. قال: حدّثنا إسماعيل بن يزيد الأصفهاني. قال: حدّثنا يحيى بن سليم، عن كهمس، عن ميمون بن سباه، وكان يفضل على الحسن، ويقال: قد لقي من لم يلق، قال: بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي: كل، قلت: يا عبد الله، ولم آكل؟ قال: بما اغتبت عبد فلان، قلت: والله ما ذكرت منه خيرا، ولا شرّا، قال: لكنّك استمعت، ورضيت، فكان
ميمون بعد ذلك لا يغتاب أحدا، ولا يدع أن يغتاب عنده أحد، وحكي عن بعض الصالحين أنّه قال: كنت قاعدا في المقبرة الفلانية، فاجتازني شاب جلد، فقلت: هذا، وأمثاله، وبال على الناس، فلمّا كانت تلك الليلة رأيت في المنام أنّه قدّم إليّ جنازة عليها ميّت، وقيل لي كل من لحم هذا، وكشف عن وجهه، فإذا ذلك الشاب، فقلت: أنا لم آكل من لحم الحيوان الحلال منذ سنين، فكيف آكل هذا؟ فقيل: فلم اغتبته إذا؟ فانتبهت حزينا، فكنت آوي إلى تلك المقبرة سنة واحدة، فرأيت الرجل، فقمت إليه لأستحلّ منه، فنظر إليّ من بعيد، فقال: تبت. قلت: نعم، قال: ارجع إلى مكانك. وقد أخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل. قال: أخبرنا علي بن محمّد. قال: حدّثنا يحيى بن آدم. قال: حدّثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن ابن عمر، لأبي هريرة، قال: جاء ماعز إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إنّه زنى، فأعرض عنه، حتّى أقرّ أربع مرّات، فأمر برجمه، فمرّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على رجلين يذكران ماعزا، فقال أحدهما: هذا الذي ستر عليه، فلم تدعه نفسه حتّى رجم برجم الكلب. قال: فسكت عنهما حتّى مرّا معه على جيفة حمار شائل رجله، فقال صلى الله عليه وسلّم لهما: «انزلا فأصيبا منه» . فقالا: يا رسول الله غفر الله لك، وتؤكل هذه الجيفة؟ قال: «ما أصبتما من لحم أخيكما آنفا أعظم عليكما، أما إنّه الآن في أنهار الجنّة منغمس فيها» [76] . وأخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الفريابي، قال: حدّثنا محمّد بن المصفى، قال: حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا عبد القدوس بن الحجّاج، قال: حدّثني صفوان بن عمرو، قال: حدّثنا راشد بن سعد، وعبد الرّحمن بن جبير، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس، ويقعون في أعراضهم» [77] «1» . وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أخبرني الحسين، قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدّثنا يحيى بن أيّوب، قال: حدّثنا أسباط، عن أبي رجاء الخراساني، عن عبّاد بن كثير، عن الحريري، عن أبي نصرة، عن جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الغيبة أشدّ من الزنا» . قيل: وكيف؟ قال: «إنّ الرجل يزني، ثمّ يتوب، فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه» [78] «2» .
[سورة الحجرات (49) : الآيات 13 إلى 18]
وأخبرني الحسين، قال: حدّثنا الفضل. قال: حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر البزاز البغدادي، قال: حدّثنا محمّد بن علي الورّاق. قال: حدّثنا هارون بن معروق، قال: حدّثنا ضمرة، عن ابن شوذي، قال: قال رجل لابن سيرين: إنّي قد اغتبتك، فاجعلني في حلّ، قال: إنّي أكره أن أحلّ ما حرّم الله. وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه، قال: حدّثنا عبد الله بن جامع. قال: قرأت على أحمد بن سعيد، حدّثنا سعيد، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسّان عن خالد الربعي، قال: قال عيسى ابن مريم لأصحابه: أرأيتم لو أنّ أحدكم رأى أخاه المسلم قد كشف الريح عن ثيابه؟ قالوا: سبحان الله إذا كنّا نردّه. قال: لا، بل كنتم تكشفون ما بقي، مثلا ضربه لهم يسمعون للرجل سيئة أو حسنة، فيذكرون أكثر من ذلك. [سورة الحجرات (49) : الآيات 13 الى 18] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ الآية. قال ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يفسح له: ابن فلانة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من الذاكر فلانة؟» . فقام ثابت، فقال: أنا يا رسول الله. فقال: «انظر في وجوه القوم» . فنظر إليهم، فقال: «ما رأيت يا ثابت؟» . قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: «فإنّك لا تفضلهم إلّا في الدّين والتقوى» [79] «1» ، فأنزل الله سبحانه في ثابت هذه الآية وبالّذي لم يفسح له: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ، فَافْسَحُوا ... «2» الآية. وقال مقاتل: لمّا كان يوم فتح مكّة، أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا حتّى علا على ظهر الكعبة وأذّن، فقال عتاب بن أسد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم، وقال الحرث بن هاشم: أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذّنا؟ وقال سهيل بن عمرو:
إن يرد الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان بن حرب: إنّي لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به ربّ السماء. فأتى جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما قالوا، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسألهم عمّا قالوا، فأقرّوا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وزجرهم، عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء للفقراء ، وقال يزيد بن سخرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم يمرّ ببعض أسواق المدينة، فإذا غلام أسود قائم، ينادى عليه ليباع، فمن يريد. وكان الغلام قال: من اشتراني فعلي شرط، قيل: ما هو، قال: ألا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاشتراه رجل على هذا الشرط، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراه عند كلّ صلاة مكتوبة، ففقده ذات يوم، فقال لصاحبه: «أين الغلام؟» . فقال: محموم يا رسول الله، فقال لأصحابه: «قوموا بنا نعوده» . فقاموا معه فعادوه، فلما كان بعد أيّام قال لصاحبه: «ما حال الغلام؟» [80] «1» . قال: يا رسول الله، إنّ الغلام لما به، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليه وهو في ذهابه، فقبض على تلك الحال، فتولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غسله، وتكفينه، ودفنه، فدخل على المهاجرين، والأنصار من ذلك أمر عظيم، فقال المهاجرون: هاجرنا ديارنا، وأموالنا، وأهالينا، فلم ير أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي منه هذا الغلام، وقال الأنصار: آويناه، ونصرناه، وواسيناه فآثر علينا عبدا حبشيّا، فعذر الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فيما تعاطاه من أمر الغلام، وأراهم فضل التقوى، فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وهي رؤوس القبائل وجمهورها مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج. واحدها شعب بفتح الشين، سمّوا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم، كتشعّب أغصان الشجر، والشعب من الأضداد يقال: شعبته إذا جمعته، وشعبته إذا فرّقته، ومنه قيل للموت: شعوب. وَقَبائِلَ وهي دون الشعوب، واحدها قبيلة، وهم كندة من ربيعة، وتميم من مضر، ودون القبائل العمائر، واحدها عمارة بفتح العين كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ودون العمائر البطون، واحدها بطن، وهم كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون الأفخاذ، واحدها فخذ، وهم كبني هاشم، وأمية من بني لؤي، ثمّ الفصائل، والعشائر، واحدتها فصيلة، وعشيرة، وقيل: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل، وقال أبو رزين وأبو روق: الشعوب الذين لا يصيرون إلى أحد، بل ينسبون إلى المدائن، والقرى، والأرضين، والقبائل العرب الذين ينسبون إلى آبائهم.
لِتَعارَفُوا يعرف بعضكم بعضا في قرب النسب، وبعده لا لتفاخروا. وقرأ الأعمش (ليتعارفوا) ، وقرأ ابن عبّاس (ليعرفوا) بغير (ألف) . إِنَّ أَكْرَمَكُمْ بفتح (الألف) ، وقرأه العامة (إِنَّ) بكسر (الألف) على الاستئناف، والوقوف على قوله لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ قال قتادة: في هذه الآية أكرم الكرم التقوى. وألأم اللوم الفجور، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكون أكرم الناس، فليتّق الله» «1» . وقال: «كرم الرجل دينه، وتقواه، وأصله عقله، وحسبه خلقه» «2» ، وقال ابن عبّاس: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. أخبرنا الحسن، قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي، قال: حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله المقري، قال: حدّثنا ابن رجاء، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته القصواء يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه، فما وجد لها مناخ في المسجد، حتّى أخرجنا إلى بطن الوادي، فأناخت فيه، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أمّا بعد أيّها الناس، قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وفخرها بالآباء- وفي بعض الألفاظ: وتعظمها بآبائها- إنّما الناس رجلان، برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقيّ هيّن على الله» . ثمّ تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ ... الآية، وقال: «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» [81] «3» . وأخبرني الحسين، قال: حدّثنا محمّد بن علي بن الحسين الصوفي. قال: حدّثنا أبو شعيب الحراني. قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله الكابلي. قال: حدّثنا الأوزاعي، قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم، وإنّما أنتم بنو آدم أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» [82] «4» . وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن حفصويه، قال: حدّثنا عبد الله بن جامع المقري، قال: حدّثنا أحمد بن خادم. قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا طلحة، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: الله سبحانه يقول يوم القيامة: إنّي جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فأنتم تقولون: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع أنسابكم، أين المتّقون؟ أين المتّقون؟ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «5» .
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيّوب. قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب. قال: حدّثنا محمّد بن أبي بكر. قال: حدّثني يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عمر، قال: حدّثني سعيد بن أبي سعيد المقري، عن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم» . وأنشدني ابن حبيب، قال: أنشدنا ابن رميح، قال: أنشدنا عمر بن الفرحان: ما يصنع العبد بعزّ الغنى ... والعزّ كلّ العزّ للمتّقي من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذاك الشقي «1» قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا الآية نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة، ثمّ من بني الحلاف بن الحارث بن سعيد، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة في سنة جدبة، وأظهروا شهادة أن لا إله إلّا الله، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وأفسدوا طرق المدينة بالعدوان، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون، ويروحون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأفعال، والعيال والذراري، يمنون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، وبنو فلان، ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية. وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح، وهم أعراب مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، كانوا يقولون: آمنّا بالله، ليأمنوا على أنفسهم، وأموالهم، فلمّا استنفروا إلى الحديبية تخلّفوا، فأنزل الله سبحانه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فأخبر أنّ حقيقة الإيمان التصديق بالقلب، وأنّ الإقرار به باللسان، وإظهار شرائعه بالأبدان، لا يكون إيمانا دون الإخلاص الذي محلّه القلب، وأنّ الإسلام غير الإيمان. يدلّ عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي، قرأه عليه محمّد بن زكريا في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو العبّاس محمد بن الدغولي، قال: حدّثنا محمّد بن الليث المروزي، قال: حدّثنا عبد الله بن عثمان بن عبدان، قال: حدّثنا عبد الله ابن المبارك، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري. قال: أخبرني عامر، عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطي رهطا، وسعد جالس فيهم، فقال سعد: فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم، فلم يعطه، وهو أعجبهم إليّ. فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فو الله إنّي لأراه مؤمنا، فقال رسول الله: «أو مسلما» . فسكت قليلا، ثمّ غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان، فو الله إنّي لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسلما» .
فسكت قليلا، ثمّ غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان، فو الله إنّي لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسلما، فإنّي لأعطي الرجل، وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النار على وجهه» [83] «1» . فاعلم أنّ الإسلام الدخول في السلم، وهو الطاعة والانقياد، والمتابعة، يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم وهو الطاعة والانقياد والمتابعة. يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم، كما يقال: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأصاف إذا دخل في الصيف، وأربع إذا دخل في الربيع، وأقحط إذا دخل في القحط، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان فالجنان، كقوله عزّ وجلّ لإبراهيم: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ «2» ، وقوله: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «3» . ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا بيانه قوله سبحانه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ظاهرا وباطنا، سرّا وعلانيّة لا يَلِتْكُمْ (بالألف) أبو عمر، ويعقوب، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله: وَما أَلَتْناهُمْ «4» يقال ألت يألت ألتا، قال الشاعر: أبلغ بني ثعل عني مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا «5» وقرأ الآخرون (يَلَتْكَمْ) من لات يليت ليتا، كقول رؤبة: وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت «6» ومعناهما جميعا لا ينقصكم، ولا يظلمكم. مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثمّ بيّن حقيقة الإيمان، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا في وحدانية الله، ولا بنبوّة أنبيائه ولا فيما آمنوا به، بل أيقنوا وأخلصوا «7» . وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم، لا من أسلم خوف السيف ورجاء الكسب، فلمّا نزلت هاتان الآيتان، أتت الأعراب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فحلفوا بالله إنّهم مؤمنون في السرّ، والعلانية، وعرف الله غير ذلك منهم «1» ، فأنزل الله سبحانه قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ الذي أنتم عليه. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي بإسلامكم. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ وفي مصحف عبد الله (إذ هداكم للإيمان) إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّكم مؤمنون. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قرأ ابن كثير، والأعمش، وطلحة، وعيسى (بالياء) ، غيرهم (بالتاء) .
سورة ق
سورة ق مكّية، وهي ألف وأربعمائة وأربع وتسعون حرفا، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وخمسة وأربعون آية أخبرنا أبو الحسين محمد بن القاسم بن أحمد الماوردي، قال: أخبرنا أبو الحسين محمد ابن محمد بن سادة الكرابيسي، قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة، عن سعيد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حش، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة ق، هوّن الله عليه تارات الموت، وسكراته» [84] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) ق قال ابن عبّاس: هو اسم من أسماء الله سبحانه، أقسم به. قتادة: اسم من أسماء القرآن، القرظي: افتتاح أسماء الله، قدير، وقادر، وقاهر، وقاضي، وقابض. الشعبي: فاتحة السّورة. بريد، وعكرمة، والضحّاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء، خضرة السماء منه، وعليه كتفا السماء، وما أصاب الناس من زمرد، فهو ما يسقط من الجبل، وهي رواية أبي
الحوراء، عن ابن عبّاس. قال وهب بن منبه: إنّ ذا القرنين أتى على جبل قاف، فرأى حوله جبالا صغارا، فقال له: ما أنت؟ قال: أنا قاف، قال: وما هذه الجبال حولك؟ قال: هي عروقي، وليست مدينة من المدائن إلّا وفيها عرق منها، فإذا أراد الله أن يزلزل تلك الأرض أمرني، فحرّكت عرقي ذلك، فتزلزلت تلك الأرض، فقال له: يا قاف، فأخبرني بشيء من عظمة الله، قال: إنّ شأن ربّنا لعظيم، تقصر عنه الصفات، وتنقضي دونه الأوهام. قال: فأخبرني بأدنى ما يوصف منها. قال: إنّ ورائي لأرضا مسيرة خمسمائة عام في عرض خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم بعضه بعضا، لولا ذاك الثلج لاحترقت من حرّ جهنّم. قال: زدني، قال: إنّ جبريل عليه السّلام واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه، يخلق الله من كلّ رعدة مائة ألف ملك، وأولئك الملائكة صفوف بين يدي الله سبحانه، منكّسو رؤوسهم، فإذا أذن الله لهم في الكلام، قالوا: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وهو قوله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ، وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً «1» يعني لا إله إلّا الله. وقال الفرّاء: وسمعت من يقول: (ق) : قضي ما هو كائن، وقال أبو بكر الورّاق: معناه قف عند أمرنا، ونهينا، ولا تعدهما. وقيل: معناه قل يا محمّد. أحمد بن عاصم الأنطاكي، هو قرب الله سبحانه من عباده، بيانه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «2» وقال ابن عطاء: أقسم بقوّة قلب حبيبه محمّد صلّى الله عليه وسلّم حيث حمل الخطاب، ولم يؤثر ذلك فيه لعلوّ حاله. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الشريف، الكريم على الله الكبير، الخبير. واختلف العلماء في جواب هذا القسم، فقال أهل الكوفة: بَلْ عَجِبُوا، وقال الأخفش: جوابه محذوف مجازه ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لتبعثن، وقال ابن كيسان: جوابه قوله: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ الآية، وقيل: قد علمنا، وجوابات القسم سبعة: (إن) الشديدة، كقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «3» و (ما) النفي كقوله: وَالضُّحى ... ما وَدَّعَكَ «4» و (اللام) المفتوحة، كقوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «5» و (إن) الخفيفة كقوله سبحانه: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي «6» ، و (لا) كقوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ «7» ، لا يبعث الله من يموت، وقد
كقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها «1» وبل كقوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ يعرفون حسبه، ونسبه، وصدقه، وأمانته. فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ غريب. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً نبعث، فترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه. ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ يقال: رجعته رجعا، فرجع هو رجوعا، قال الله سبحانه: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ «2» قال الله سبحانه: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكله من عظامهم، وأجسامهم، وقيل: معناه قد علمنا ما يبلى منهم، وما يبقى لأنّ العصعص لا تأكله الأرض كما جاء في الحديث: «كلّ ابن آدم يبلى، إلّا عجب الذنب، منه خلق ومنه يركب» [85] «3» وأبدان الأنبياء والشهداء أيضا لا تبلى. وقال السدي: والموت يقول: قد علمنا من يموت منهم، ومن يبقى. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ محفوظ من الشياطين، ومن أن يدرس، ويبعثر، وهو اللوح المحفوظ، المكتوب فيه جميع الأشياء المقدّرة. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ بالقرآن. لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ قال أبو حمزة: سئل ابن عبّاس عن المريج، فقال: هو الشيء المكر، أما سمعت قول الشاعر: فجالت فالتمست به حشاها ... فخر كأنه خوط مريج «4» الوالبي عنه: أمر مختلف. العوفي عنه: أمر ضلالة. سعيد بن جبير، ومجاهد: ملتبس، قال قتادة: في هذه الآية من نزل الحقّ مرج أمره عليه، والتبس دينه عليه. ابن زيد: مختلط، وقيل: فاسد، وقيل: متغير. وكلّ هذه الأقاويل متقاربة، وأصل المرج الاضطراب، والقلق، يقال: مرج أمر الناس، ومرج الدّين، ومرج الخاتم في إصبعي وخرج إذا قلق من الهزال، قال الشاعر: مرج الدّين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد «5» وفي الحديث: «مرجت عهودهم، وأمانيهم» . أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي شقوق، وفتوق، واحدها فرج، وقال ابن زيد: الفروج الشيء المتفرّق المتبري بعضه من بعض، وقال
الكسائي: ليس فيها تفاوت، ولا اختلاف وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها على وجه الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ لون بَهِيجٍ حسن كريم يبهج به أي يسر. تَبْصِرَةً أي جعلنا ذلك تبصرة، وقال أبو حاتم: نصبت على المصدر. وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ يعني تبصر أو تذكّر إنابتها له، لأنّ من قدر على خلق السماوات، والأرض، والنبات، قدر على بعثهم، ونظير التبصرة من المصادر التكملة، والتفضلة، ومن المضاعف النخلة، والبعرة. وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ يعني البر، والشعير، وسائر الحبوب التي تحصد وتدّخر وتقتات، وأضاف الحبّ إلى الحصيد، وهما واحد، لاختلاف اللفظين، كما يقال: مسجد الجامع، وربيع الأوّل، وحَقُّ الْيَقِينِ، وحَبْلِ الْوَرِيدِ، ونحوها. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة: طوالا، وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: سوقها لاستقامتها في الطول. سعيد بن جبير: مستويات. الحسن والفرّاء: مواقير حوامل، يقال للشاة إذا ولدت: أبسقت، ومحلّها نصب على الحال، والقطع. أخبرني الحسن، قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي، قال: حدّثنا عبيد بن محمد بن صبح الكناني. قال: حدّثنا هشام بن يونس النهشلي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك. قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ: (والنّخل باصقات) بالصاد «1» . لَها طَلْعٌ تمر، وحمل سمّي بذلك لأنّه يطلع. نَضِيدٌ متراكب متراكم، قد نضد بعضه على بعض. قال بن الأجدع: نخل الجنّة نضيد من أصلها إلى فرعها، وثمرها أمثال [القلال] «2» والدلاء، وأنهارها تجري في [عبر] «3» أخدود رِزْقاً أي جعلناه رزقا لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً. أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن صقلاب. قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب، قال: حدّثني ابن أبي الجوادي، قال: حدّثنا [عتيق] بن يعقوب، عن إبراهيم بن قدامة، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا جاءهم المطر، فسالت الميازيب، قال: «لا محل عليكم العام» [86] «4» أي الجدب. كَذلِكَ الْخُرُوجُ من القبور. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ وهو ملك اليمن، ويسمّى تبّعا لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار فأسلم، ودعا
قومه إلى الإسلام، وهم من حمير، فكذّبوه، وكان خبره وخبر قومه ما أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرني أبو علي إسماعيل بن سعدان، قال: أخبرني علي بن أحمد، قال: حدّثنا محمد ابن جرير، وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا محمد بن إسحاق، قال: كان تبّع الآخر، وهو أسعد أبو كرب بن ملكي كرب، حين أقبل من المشرق، جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها لم يهيج أهلها، وخلّف بين أظهرهم ابنا له، فقتل غيلة، فقدمها، وهو مجمع لإخراجها، واستئصال أهلها، وقطع نخيلها، فجمع له هذا الحيّ من الأنصار، حين سمعوا ذلك من أمره امتنعوا منه، ورئيسهم يومئذ عمرو بن ظلم أخو بني النجار أحد بني عمرو، فخرجوا لقتاله، وكان تبّع نزل بهم قبل ذلك، فقتل رجل منهم، من بني عدي بن النجّار، يقال له: أحمر، رجلا من صحابة تبّع، وجده في عذق له بجدة فضربه بنخلة فقتله. وقال: إنّما التمرة لمن أبره، ثمّ ألقاه حين قتله في بئر من آبارهم معروفة، يقال لها: ذات تومان، فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم، فبينا تبّع على ذلك من حربهم يقاتلهم ويقاتلونه، قال: فيزعم الأنصار أنّهم كانوا يقاتلونه بالنهار، ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك، ويقول: والله إنّ قومنا هؤلاء لكرام، إذ جاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة، عالمان راسخان، وكانا ابني عمرو، وكانا أعلم أهل زمانهما، فجاءا تبّعا حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة، وأهلها، فقالا له: أيّها الملك لا تفعل، فإنّك إن أتيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها، ولم يأمن عليك عاجل العقوبة، فقال لهما: ولم ذاك؟ قالا: هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر الزمان، تكون داره وقراره، فتناهى لقولهما عمّا كان يريد بالمدينة، ورأى أنّ لهما علما، وأعجبه ما سمع منهما، أنّهما دعواه إلى دينهما، فليتبعهما على دينهما، فقال تبع في ذلك: ما بال نومك مثل نوم الأرمد ... أرقا كأنك لا تزال تسهد حنقا على سبطين حلّا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم مفسد ولقد هبطنا يثربا وصدورنا ... تغلي بلابلها بقتل محصد ولقد حلفت يمين صبر مؤليا ... قسما لعمرك ليس بالتمردد أن جئت يثرب لا أغادر وسطها ... عذقا ولا بسرا بيثرب يخلد حتى أتاني من قريظة عالم ... خبر لعمرك في اليهود مسود قال ازدجر عن قرية محفوظة ... لنبي مكّة من قريش مهتد فعفوت عنهم عفو غير مثرب ... وتركتهم لعقاب يوم سرمد وتركتهم لله أرجو عفوه ... يوم الحساب من الجحيم الموقد ولقد تركت بها له من قومنا ... نفرا أولي حسب وبأس يحمد
نفرا يكون النصر في أعقابهم ... أرجو بذاك ثواب ربّ محمّد «1» فلمّا [......] «2» تبع إلى دينهما أكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما إلى اليمن ولمّا [دنا من] اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا، وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دين خير من دينكم. قالوا: فحاكمنا إلى النار. وكانت باليمن نار في أسفل جبل يقال له: ندا «3» ، يتحاكمون إليها، فيما يختلفون فيه، فتحكم بينهم، تأكل الظالم، ولا تضرّ المظلوم، فلمّا قالوا ذلك لتبّع، قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم، وما يتقرّبون به في دينهم، وخرج الحبران، مصاحفهما في أعناقهما متقلّداهما، حتّى قعدوا للنّار عند مخرجها التي تخرج منه، فخرجت النار إليهم، ولمّا أقبلت نحو حمير، حادوا عنها، وهابوها فدعاهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتّى غشيتهم، فأكلت الأوثان، وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران ومصاحفهما في أعناقهما، يتلون التوراة، تعرق جباههما، لم تضرّهما، ونكصت النار حتّى رجعت إلى مخرجها الذي خرجت منه، فأطبقت حمير عند ذلك على دينهما. فمن هناك كان أصل اليهودية باليمن «4» . وكان لهم بيت يعظمونه، وينحرون عنده، ويكلّمون منه، إذا كانوا على شركهم، فقال الحبران القرظيان، واسماهما كعب وأسد لتبّع: إنّما هو شيطان [يفنيهم ويلغيهم] «5» ، فخلّ بيننا وبينه. قال: فشأنكما به. فاستخرجا منه كلبا أسود، فذبحاه، ثمّ هدما ذلك البيت، فبقاياه اليوم باليمن كما ذكر لي. وروى أبي دريد، عن أبي حاتم، عن الرياشي، قال: كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة، آمن بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم محمّد صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقال في ذلك شعرا: شهدت على أحمد أنّه ... رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت صهرا له وابن عمّ «6» كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وجب وَعِيدِ لهم بالعذاب يخوف كفّار مكّة، قال قتادة: دمر الله سبحانه وتعالى قوم تبّع، ولم يدمّره، وكان من ملوك اليمن، فسار بالجيوش، وافتتح البلاد،
[سورة ق (50) : الآيات 16 إلى 26]
وقصد مكّة ليهدم البيت، فقيل له: إنّ لهذا البيت ربّا يحميه، فندم وأحرم، ودخل مكّة، وطاف بالبيت، وكساه، فهو أوّل من كسا البيت أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي عجزنا عنه، وتعذر علينا [الأول فهم في شك الإعادة للخلق] الثاني. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو البعث. [سورة ق (50) : الآيات 16 الى 26] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ يحدّثه قلبه، فلا يخفى علينا أسراره، وضمائره وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي أعلم به، وأقدر عليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ لأنّ أبعاضه، وأجزاءه يحجب بعضها بعضا، ولا يحجب علم الله سبحانه عن جميع ذلك شيء، وحبل الوريد: عرق العنق، وهو عرق بين الحلقوم، والعلباوين، وجمعه أوردة، والحبل من الوريد وأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين، قال الشاعر: فقرت للفجار فجاء سعيا ... إذا ما جاش وانتفخ الوريد إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ أي يتلقّى، ويأخذ الملكان الموكلان عليك، وكّل الله سبحانه بالإنسان مع علمه بأحواله، ملكين بالليل، وملكين بالنهار يحفظان عمله، ويكتبان أثره، إلزاما للحجّة، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيّئات، فذلك قوله سبحانه: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ولم يقل: قعيدان. قال أهل البصرة: لأنّه أراد عن اليمين قعيد، وعن الشمال قعيد، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، كقول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما عندك ... راض والرأي مختلف وقول الفرزدق: إنّي ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبى فكان وكنت غير غدور «1» ولم يقل: غدورين، والقعيد، والقاعد كالسميع، والعليم، والقدير، فقال أهل الكوفة: أراد قعودا رده إلى الجنس، فوضع الواحد موضع الجمع، كالرسول في الاثنين يجعل للاثنين، والجمع، قال الله سبحانه في الاثنين: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال الشاعر: ألكني إليها وخير الرسول ... أعلمهم بنواحي الخبر «2»
أخبرنا الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن سالم الختلي. قال: حدّثنا أحمد بن أيّوب الرخاني. قال: حدّثنا جميل بن الحسن، قال: حدّثنا أرطأة بن الأشعث العدوي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مقعد ملكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري- أظنّه قال: - فيما لا يعنيك لا تستحي من الله، ولا منهما» [87] «1» . وأخبرنا الحسين بن محمد بن منجويه الدينوري، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدّثنا الفضل بن العبّاس بن مهران. قال: حدّثنا طالوت. قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة. قال: أخبرنا جعفر بن الزبير، عن القاسم بن محمد، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، وكاتب السيّئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر» [88] «2» . قال الحسن: إنّ الملائكة يجتنبون الإنسان على حالين: عند غائطه، وعند جماعه، وقال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كلّ شيء حتّى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: لا يكتبان عليه إلّا ما يؤجر عليه أو يؤزر فيه، وقال الضحّاك: مجلسهما تحت الشعر على الحنك. ومثله روى عوف عن الحسن، قال: وكان الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته «3» . وقال عطية ومجاهد: القعيد الرصيد. أخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، قال: حدّثنا أبو محمد البلاذري. قال: حدّثنا محمد بن أيّوب الرازي. قال: حدّثنا أبو التقى هشام بن عبد الملك. قال: حدّثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي، عن تمام بن نجيح، عن الحسن، عن أبي هريرة، وأنس، قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من حافظين يرفعان إلى الله سبحانه ما حفظا فيرى الله سبحانه في أوّل الصحيفة خيرا، وفي آخرها خيرا، إلّا قال لملائكته: اشهدوا أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة» [89] «4» . وأخبرنا أبو سهل بن حبيب بقراءتي عليه، قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن موسى، قال: حدّثنا زنجويه بن محمد. قال: حدّثنا إسماعيل بن قتيبة. قال: حدّثنا يحيى بن يحيى. قال: حدّثنا عثمان بن مطر الشيباني، عن ثابت عن أنس. أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «بأنّ الله سبحانه
وكّل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله، فإذا مات، قال الملكان اللّذان وكّلا به يكتبان عمله: قد مات فلان، فيأذن لنا، فنصعد إلى السماء، فيقول الله سبحانه: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبّحون، فيقولان: نقيم في الأرض. فيقول الله سبحانه: أرضي مملوءة من خلقي يسبّحون. فيقولان: فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي. فكبّراني، وهللاني، واكتبا ذلك لعبدي ليوم القيامة» [90] «1» . ما يَلْفِظُ يتكلّم. مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ عنده رَقِيبٌ حافظ عَتِيدٌ حاضر، وهو بمعنى المعتد من قوله: أَعْتَدْنا والعرب تعاقب بين (التاء) و (الذال) لقرب مخرجهما، فيقول: اعتددت، وأعذدت، وهرذ، وهرت، وكبذ، وكبت، ونحوهما، قال الشاعر: لئن كنت مني في العيان مغيبا ... فذكرك عندي في الفؤاد عتيد «2» وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أي وجاءت سكرة الحقّ بالموت لأنّ السكرة هي الحقّ، فأضيفت إلى نفسه لاختلاف الاسمين وقيل: الحقّ هو الله عزّ وجلّ، مجازه وجاء سكرة أمر الله بالموت. أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا جوير. قال: حدّثنا ابن المثنى، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة، عن واصل، عن أبي وائل قال: لما كان أبو بكر يقضي، قالت عائشة: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر «3» فقال أبو بكر: يا بنية لا هو لي، ولكنّه كما قال الله سبحانه: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تكره، عن ابن عبّاس، وقال الحسن: تهرب. الضحّاك: تروغ. عطاء الخراساني: تميل. مقاتل بن حيان: تنكص. وأصل الحيد الميل، يقال: حدت عن الشيء أحيد حيدا، ومحيدا إذا ملت عنه. قال طرفة: أبا منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض «4» وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ الذي وعده الله سبحانه للكفّار يلعنهم فيه. وَجاءَتْ ذلك اليوم كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ يسوقها إلى المحشر وَشَهِيدٌ شهد عليه بما عملت في الدّنيا من خير أو شرّ. وروي أنّ عثمان بن عفّان خطب، وقرأ هذه الآية،
فقال: السائق يسوقها إلى الله سبحانه، والشاهد يشهد عليه بما عملت، وقال الضحّاك: السائق الملائكة، والشاهد من أنفسهم الأيدي، والأرجل. وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وقال أبو هريرة: السائق الملك، والشهيد العمل، وقال الباقون: هما جميعا من الملائكة، فيقول الله سبحانه لها: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ ورفعنا عنك عماك، وخلّينا عنك سترك، حتّى عاينته. فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ قوي، نافذ، ثابت، ترى ما كان محجوبا عنك. وروى عبد الوهاب، عن مجاهد، عن أبيه فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ قال: نظرك إليّ لبيان ميزانك حين توزن حسناتك، وسيّئاتك. وقيل: أراد بالبصر العلم، علم حين لم ينفعه العلم، وأبصر حين لم ينفعه البصر. وقرأ عاصم الجحدري لَقَدْ كُنْتَ بكسر (التاء) ، وبكسر (الكاف) ، رد الكتابة إلى النفس. وَقالَ قَرِينُهُ الملك الموكّل به هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ معد محفوظ محضر، قال مجاهد: هذا الذي وكّلني به من بني آدم، قد أحضرته، وأحضرت ديوان أعماله، فيقول الله سبحانه لقرينه: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ قال الخليل، والأخفش: هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين، وهو جيد حسن، فيقول: ويلك أرحلاها، وازجراها، وخذاه واطلقاه للواحد. قال الفراء: وأصل ذلك إذا دنا أعوان الرجل في إبله، وغنمه، وبقره، اثنان، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ومنه قولهم للواحد في الشعر: خليلي [ثم يقول: يا صاح] . قال امرؤ القيس: خليلي مرّا بي على أمّ جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذّب وقال: قفا نبك عن ذكرى حبيب ومنزل وقال: قفا نبك من ذكرى حبيب وعروان «1» . قال الآخر: فقلت لصاحبي لا تعجلانا ... بنزع أصوله واجتز شيحا وأنشد أبو ثروان: فإن تزجرني يا ابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا «2» وقيل: يشبه أن يكون عني به تكرار القول فيه، فكأنّه يقول: الق الق، فناب ألقيا مناب التكرار، ويجوز أن تكون ألقيا تثنية على الحقيقة، ويكون الخطاب للمتلقيين معا أو السائق والشاهد جميعا، وقرأ الحسن (ألقين) بنون التأكيد الخفيفة، كقوله: لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ
[سورة ق (50) : الآيات 27 إلى 35]
.. كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ عاص معرض عن الحقّ، قال مجاهد وعكرمة: مجانب للحقّ معاند لله. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي للزكاة المفروضة، وكلّ حقّ واجب في ماله. مُعْتَدٍ ظالم. مُرِيبٍ مشكّك، وقال قتادة: شاك ومعناه: إنّه داخل في الريب الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ والنار وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، فأراد بقوله: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أنّه كان يمنع بني أخيه عن الإسلام، ويقول: لئن دخل أحدكم في دين محمّد لا أنفعه بخير ما عشت. [سورة ق (50) : الآيات 27 الى 35] قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) قالَ قَرِينُهُ يعني الشيطان الذي قيّض لهذا الكافر العنيد رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ما أضللته، وما أغويته. وقال القرظي: ما أكرهته على الطغيان. وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحقّ فتبرأ شيطانه عنه، وقال ابن عبّاس، ومقاتل: قالَ قَرِينُهُ يعني الملك، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة يقول للملك الذي كان يكتب السيئات: ربّ إنّه أعجلني، فيقول الملك رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ، ما أعجلته، وقال سعيد بن جبير: يقول الكافر: ربّ إنّ الملك زاد عليّ في الكتابة، فيقول الملك: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ، يعني ما زدت عليه، وما كتبت إلّا ما قال وعمل، فحينئذ يقول الله سبحانه: قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ فقد قضيت ما أنا قاض. وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ في القرآن حذّرتكم، وأنذرتكم، فلا تبديل لقولي ولوعيدي. قال ابن عبّاس: إنّهم اعتذروا بغير عذر، فأبطل الله حجّتهم، ورد عليهم قولهم ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «1» ، وقال الفرّاء: معناه ما يكذب عندي لعلمي بالغيب وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأعاقبهم بغير جرم أو أجزي بالحسن سيّئا. يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ قرأ قتادة، والأعرج، وشيبة، ونافع (تقول) (بالتاء) ، ومثله روى أبو بكر عن عاصم، اعتبارا بقوله، قالَ: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ،
وقرأ الحسن يوم يقال وقرأ الباقون يَوْمَ نَقُولُ (بالنون) لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ لما سبق من وعده إيّاها أنّه يملأها مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهذا السؤال منه على طريق التصديق بخبره، والتحقيق لوعده والتقريع لأهل عذابه، والتنبيه لجميع عباده. وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ يحتمل أن يكون جحدا مجازه ما من مزيد، ويحتمل أن يكون استفهاما، بمعنى هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، فأزاده وإنّما صلح (هل) للوجهين جميعا، لأنّ في الاستفهام ضربا من الجحد، وطرفا من النفي، قال ابن عبّاس: إنّ الله سبحانه وتعالى، قد سبقت كلمته لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فلمّا بعث للنّاس، وسبق أعداء الله إلى النار زمرا، جعلوا يقحمون في جهنّم فوجا فوجا، لا يلقى في جهنّم شيء إلّا ذهب فيها، ولا يملأها شيء. فقالت: ألست قد أقمت لتملأني؟ فوضع قدمه عليها، ثمّ يقول لها: هل امتلأت؟ فتقول: قط قط، قد امتلأت، فليس من مزيد. قال ابن عبّاس: ولم يكن يملأها شيء حتّى مس قدم الله فتضايقت فما فيها موضع إبرة، ودليل هذا التأويل ما أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا ابن جرير، قال: حدّثنا بشر، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال جهنّم يلقى فيها، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حتّى يضع ربّ العالمين فيها قدمه، فتتزاوي بعضها إلى بعض، وتقول: قد قد بعزّتك، وكرمك، ولا يزال في الجنّة فضل، حتّى ينشئ الله سبحانه لها خلقا، فيسكنهم فضل الجنّة» [91] «1» . وأخبرنا ابن حمدون، قال: أخبرنا ابن الشرقي، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى، وعبد الرّحمن بن بشر، وأحمد بن يوسف، قالوا: حدّثنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن همام ابن منبه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، عن محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تحاجت الجنّة والنّار، فقالت النّار: أوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين، وقالت الجنّة: فما لي لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقطهم؟ فقال الله سبحانه للجنّة: إنّما أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنّار: إنّما أنت عذابي، أعذّب بك من أشاء من عبادي، ولكلّ واحدة منكما ملأها، فأمّا النار، فإنّهم يلقون فيها وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ فلا تمتلئ حتّى يضع الله سبحانه وتعالى فيها رجله فتقول: قط قط، فهناك تمتلأ وتزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا، وأمّا الجنّة، فإنّ الله عزّ وجلّ ينشئ لها خلقا» [92] «2» . قلت: هذان الحديثان في ذكر القدم، والرجل، صحيحان مشهوران، ولهما طرق من حديث أبي هريرة، وأنس، تركت ذكرهما كراهة الإطالة، ومعنى القدم المذكور في هذا الحديث المأثور قوم يقدمهم الله إلى جهنّم، يملأها بهم، قد سبق في عمله إنّهم صائرون إليها وخالدون
فيها، وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن معنى هذا الحديث، فقال: هم قوم قدمهم الله للنار، وقال عبد الرّحمن بن المبارك: هم من قد سبق في علمه أنّه من أهل النّار. وكلّ ما يقدم، فهو قدم. قال الله سبحانه: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، يعني أعمال صالحة قدّموها، وقال الشاعر يذمّ رجلا: قعدت به قدم الفجار وغودرت ... وعود ربّ أسبابه من فتنة من خالق يعني ليس له ما يفتخر بهم. على انّ الأوزاعي روى هذا الحديث عن حسّان بن عطية، حتى يضع الجبّار قدمه بكسر القاف، وكذلك روى وهب بن منبه، وقال: إنّ الله سبحانه كان قد خلق قوما قبل آدم، يقال لهم: القدم، رؤوسهم كرؤوس الكلاب والذباب، وسائر أعضائهم كأعضاء بني آدم، فعصوا ربّهم، وأهلكهم الله، يملأ الله بهم جهنّم حين تستزيد. وأمّا الرجل فهو العدد الكبير من الناس وغيرهم. يقال: رأيت رجلا من الناس، ومرّ بنا رجل من جياد، وقال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب تقول: ما هلك على رجل نبيّ من الأنبياء ما هلك على رجل موسى، يعني القبط، وقال الشاعر: فمرّ بنا رجل من النّاس وانزوى ... إليهم من الحيّ اليمانين أرجل قبائل من لخم وحمير ... على ابني نزار بالعداوة أحفل «1» ويصدق هذا التأويل قوله صلّى الله عليه وسلّم في سياق الحديث: «ولا يظلم الله من خلقه أحدا» ، فدلّ أنّ الموضوع الملقى في النّار خلق من خلقه، وقال بعضهم: أراد قدم بعض ملائكته ورجله، وأضاف إليه كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ. والله أعلم. وَأُزْلِفَتِ وأدنيت الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ حتّى يروها قبل أن يدخلوها. غَيْرَ بَعِيدٍ منهم وهو تأكيد، ويقال لهم: هذا ما تُوعَدُونَ في الدنيا على ألسنة الأنبياء. لِكُلِّ أَوَّابٍ توّاب، عن الضحّاك. وقيل: رجّاع إلى الطاعة عن ابن زيد، وقال ابن عبّاس وعطاء: الأوّاب المسبّح من قوله سبحانه: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ. الحكم بن عيينة: هو الذاكر لله في الخلاء. الشعبي ومجاهد: الذي يذكر ذنوبه في الخلاء، فيستغفر منها. قتادة: المصلّي. مقاتل بن حيان: المطيع. عبيد بن عسر: هو الذي لا يقوم من مجلسه حتى يستغفر الله تعالى. أبو بكر الورّاق: المتوكّل على الله سبحانه في السراء والضراء لا يهتدي إلى غير الله. المحاسني: هو الراجع بقلبه إلى ربّه. القاسم: هو الذي لا ينشغل إلّا بالله.
[سورة ق (50) : الآيات 36 إلى 45]
حَفِيظٍ قال ابن عبّاس: هو الذي حفظ ذنوبه حتّى يرجع عنها. قتادة: حَفِيظٍ لما استودعه الله سبحانه من حقّه ونعمته. وعن ابن عبّاس أيضا: الحافظ لأمر الله. الضحّاك: المحافظ على نفسه المتعهّد لها. عطاء: هو الذي يذكر الله في الأرض القفر. الشعبي: هو المراقب. أبو بكر الورّاق: الحافظ لأوقاته وهماته وخطواته. سهل: المحافظ على الطاعات والأوامر. مَنْ خَشِيَ في محلّ من وجهان من الإعراب: الخفض على نعت الأوّاب، والرفع على الاستئناف، وخبره في قوله ادخلوها، ومعنى الآية من خاف الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ولم يره، وقال الضحّاك والسدّي: يعني في الخلاء حيث لا أحد، وقال الحسن: إذا أرخى الستر وأغلق الباب. وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ مقبل إلى طاعة الله. قال أبو بكر الورّاق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته، مواليا له، متواضعا لحلاله تاركا لهوى نفسه. ادْخُلُوها أي يقال لأهل هذه الصفة: ادْخُلُوها بِسَلامٍ بسلامة من العذاب وسلام الله وملائكته عليهم، وقيل: السلامة من زوال النعيم وحلول النقم. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ يعني الزيادة لهم في النعم ممّا لم يخطر ببالهم، وقال جابر وأنس: هو النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى بلا كيف. [سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ قال ابن عبّاس: أثروا. مجاهد: ضربوا. الضحّاك: طافوا. النضر بن شميل: دوحوا. الفرّاء: خرقوا. المؤرخ: تباعدوا. ومنه قول امرئ القيس: لقد نقبّت في الأفاق حتّى ... رضيت من الغنيمة بالإياب «1» وقرأ الحسن فَنَقَبُوا بفتح القاف مخفّفة. وقرأ السلمي ويحيى بن معمر بكسر القاف مشدّدا
على التهديد والوعيد أي طوّفوا في البلاد، وسيروا في الأرض، فانظروا هَلْ مِنْ مَحِيصٍ من الموت وأمر الله سبحانه. إِنَّ فِي ذلِكَ أي في القرى التي أهلكت والعبر التي ذكرت لَذِكْرى التذكرة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي عقل، فكنّي عن العقل بالقلب لأنّه موضعه ومتبعه. قال قتادة: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ حيّ، نظيره لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا، وقال الشبلي: قلب حاضر مع الله لا يغفل عنه طرفة عين، وقال يحيى بن معاذ: القلب قلبان: قلب قد احتشى بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من أمور الآخرة لم يدر ما يصنع من شغل قلبه بالدنيا. وقلب قد احتشى بأهوال الآخرة، حتّى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سألت أبا الحسن علي بن عبد الرّحمن العباد عن هذه الآية، فقال: معناها إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ مستقرّ لا يتقلّب عن الله في السراء والضراء. أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي استمع القرآن، يقول العرب: ألق إليّ سمعك أي استمع، وقال الحسين بن الفضل: يعني وجه سامعه وحولها إلى الذكر كما يقال اتبعي إليه. وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر القلب، وقال قتادة: وهو شاهد على ما يقرأ ويسمع في كتاب الله سبحانه من حبّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم وذكره. وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ إعياء وتعب. نزلت في اليهود حيث قالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيّام الستّة؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين، والجبال يوم الثلاثاء والمدائن والأنهار والأقوات يوم الأربعاء، والسماوات والملائكة يوم الخميس، إلى ثلاث ساعات من يوم الجمعة وخلق في أوّل الثلاث ساعات الآجال، وفي الثانية الآفة، وفي الثالثة آدم» . قال: قالوا: صدقت إن أتممت. فقال: وما ذاك؟ فقالوا: ثمّ استراح يوم السبت واستلقى على العرش فأنزل الله سبحانه هذه الآية [93] «1» . فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فإنّ الله سبحانه لهم بالمرصاد، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يعني قل: سبحان الله والحمد لله. عن عطاء الخراساني، وقال الآخرون: وصلّ بأمر ربّك وتوفيقه، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني صلاة الصبح، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ صلاة العصر، وروي عن ابن عباس، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ: يعني الظهر والعصر، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني صلاة العشاءين، وقال مجاهد: من الليل كلّه، يعني: صلاة الليل، في أي وقت صلّى، وَأَدْبارَ السُّجُودِ قال
عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة والحسن بن علي والحسن البصري والنخعي والشعبي والأوزاعي: أَدْبارَ السُّجُودِ: الركعتان بعد المغرب، وإِدْبارَ النُّجُومِ: الركعتان قبل الفجر ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وقد روي عنه مرفوعا أخبرنيه عقيل قال: أخبرنا المعافى، قال حدثنا ابن جرير، قال: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن فضيل عن رشيد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس قال: قال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا بن عباس ركعتان بعد المغرب أدبار السجود» . وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم كتبت صلاته في عليّين» «1» ، قال أنس: يقرأ في الركعة الأولى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وفي الأخرى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. قال مقاتل: وقتهما ما لم يغب الشفق، وقال مجاهد: هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات، ورواه عن ابن عباس. وقال ابن زيد: هو النوافل أدبار المكتوبات. واختلف القرّاء في قوله: وَأَدْبارَ، فقرأ الحسن والأعرج وخارجة وأبو عمر ويعقوب وعاصم والكسائي: بفتح الألف، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الآخرون: بالكسر، وهي قراءة عليّ وابن عباس. وقال بعض العلماء في قوله سبحانه: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قال: ركعتي الفجر، وَقَبْلَ الْغُرُوبِ قال: الركعتين قبل المغرب. روى عمارة بن زاذان عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك قال: كان ذوو الألباب من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يصلّون الركعتين قبل المغرب «2» . وروى شعبة عن يزيد بن جبير عن خالد بن معدان عن رغبان مولى حبيب بن مسلمة قال: رأيت أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يهبّون إليها كما يهبّون إلى المكتوبة- يعني الركعتين قبل المغرب «3» . وقال قتادة: ما أدركت أحدا يصلّي الركعتين قبل المغرب إلّا أنس وأبا برزة. وَاسْتَمِعْ يا محمد صيحة القيامة يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إسرافيل عليهم السّلام تأتيه العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة: إن الله [يأمركن] أن تجتمعن بفصل القضاء. مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ صخرة بيت المقدس، وهي وسط الأرض وأقرب الأرض الى السماء بثمانية عشر ميلا، يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ وهي النفخة الأخيرة، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ
من القبور. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً جمع سريع، وهو نصب على الحال، مجازه: فيخرجون سراعا، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ: بمسلط قهّار يجبرهم على الإسلام، إنما بعثت مذكّرا مجدّدا. قال ثعلب: قد جاءت أحرف فعّال بمعنى مفعل وهي شاذة، جبّار بمعنى مجبر، ودرّاك بمعنى مدرك، وسرّاع بمعنى مسرع، وبكّاء بمعنى مبك، وعدّاء بمعنى معد، وقد قريء: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «1» بمعنى المرشد، وسمعت أبا منصور الجمشاذي يقول: سمعت أبا حامد الجازرنجي يقول: [العون] سيف سقّاط، بمعنى مسقط. وقال بعضهم: الجبّار من قولهم جبرته على الأمر بمعنى أجبرته، وهي لغة كنانة وهما لغتان. وقال الفرّاء: وضع الجبّار في موضع السلطان من الجبرية. قال: وأنشدني المفضّل: ويوم الحزن إذ حشدت معد ... وكان الناس إلا نحن دينا «2» عصتنا عزمة الجبّار حتى ... صبحنا الجوف ألفا معلمينا «3» قال: أراد بالجبّار المنذر بن النعمان لولايته. فَذَكِّرْ يا محمّد بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ قال ابن عباس: قالوا يا رسول الله لو خوّفتنا؟ فنزلت فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.
سورة الذاريات
سورة الذاريات مكية، وهي ألف ومائتان وسبعة وثمانون حرفا، وثلاثمائة وستون كلمة، وستون آية أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار الناجي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي قال: حدّثنا عمرو بن محمد قال: حدّثنا أسباط بن اليسع قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال: حدّثنا نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن خنيس عن أبىّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة والذاريات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ ريح هبت وجرت في الدنيا» [94] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَالذَّارِياتِ ذَرْواً الرياح التي تذرو التراب ذروا، يقال: ذرت الريح التراب وأذرته. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا الحسن بن أيوب، قال: حدّثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدّثنا سيار بن حاتم قال: حدّثنا أيوب بن خوط قال: حدّثنا عمر الأعرج قال: بلغنا أنّ مساكن الرياح تحت أجنحة الكروبيّين حملة الكرسي، فتهيج من ثمّ فتقع بعجلة الشمس، ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع برءوس الجبال، ثم تهيج من رؤوس الجبال فتقع في البر. فأمّا الشمال فإنّها تمرّ بجنّة عدن، فتأخذ من عرق طيبها فتمرّ على أرواح
الصدّيقين، ثمّ تأخذ حدّها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس، ويأتي الدبور حدّها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل، ويأتي الجنوب حدّها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس، ويأتي الصبا حدّها من مطلع الشمس إلى كرسيّ بنات نعش، فلا تدخل هذه في حدّ هذه، ولا هذه في حدّ هذه. أخبرني الحسن قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن الحسين بن ديزيل، قال: حدّثنا الحكم «1» سليمان، قال: حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحرث عن علي رضي الله عنه وَالذَّارِياتِ ذَرْواً، قال: «الرياح» . فَالْحامِلاتِ وِقْراً قال: «السحاب» . فَالْجارِياتِ يُسْراً قال: «السفن» . فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً، قال: «الملائكة» . إِنَّ ما تُوعَدُونَ من الخير والشر والثواب والعقاب لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ الحساب والجزاء لَواقِعٌ لنازل كائن. [ثم] ابتدأ قسما آخر فقال عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ قال ابن عباس وقتادة والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي، وإليه ذهب عكرمة، قال: ألم تر إلى النّسّاج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، قيل: ما أحسن حبكه وقال سعيد بن جبير: ذات الزينة، وقال الحسن: حبكت النجوم. مجاهد: هو المتقن البنيان، الضحاك: ذات الطرائق، ولكنّها بعيد من العباد فلا يرونها، قال: ومنه حبك الرمل والماء إذا ضربهما الريح، وحبك الشعر الجعد والدرع، وهو جمع حباك وحبيكة، قال الراجز: كأنما جلّلها الحوّاك ... طنفسة في وشيها حباك «2» ومنه الحديث في صفة الجبال: «راسية حبك حبك» يعني الجعودة، وقال ابن زيد: ذات الشدّة، وقرأ قول الله سبحانه: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً، وقال عبد الله بن عمرو: هي السماء السابعة. إِنَّكُمْ يا أهل مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في القرآن ومحمد عليه السلام، فمن مصدّق ومكذّب، ومقرّ ومنكر، وقيل: نزلت في المقتسمين. يُؤْفَكُ يصرف عَنْهُ أي عن الإيمان بهما مَنْ أُفِكَ صرف فنجويه، وقيل: يصرف
عن هذا القول، أي من أجله وسببه عن الإيمان من صرف، وذلك أنّهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون له: إنّه ساحر وكاهن ومجنون، فيصرفونه عن الإيمان، وهذا معنى قول مجاهد. وقد يكون (عن) بمعنى (أجل) . أنشد العبسي: عن ذات أولية أساود ربّها ... وكأن لون الملح فوق شفارها «1» أي من أجل ناقة ذات أوليه. قُتِلَ لعن الْخَرَّاصُونَ الكذابون. وقال ابن عباس: المرتابون، وهم المقتسمون الذين اقتسموا عقاب الله، واقتسموا القول في النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصرفوا الناس عن دين الإسلام. وقال مجاهد: الكهنة. الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ: شبهة وغفلة ساهُونَ: لا هون. يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ متى يوم القيامة استهزاء منهم بذلك وتكذيبا. قال الله سبحانه وتعالى: يَوْمَ هُمْ أي يكون هذا الجزاء في يوم هم عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يعذّبون ويحرقون وينضجون بالنار كما يفتن الذهب بالنار. ومجازه بكلمة (عَلَى) هاهنا: أنهم موقوفون على النار، وقيل: هو بمعنى الباء. ويقول لهم الخزنة: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا ولم يقل هذه لأنّ الفتنة هاهنا بمعنى العذاب، فردّ الإشارة إلى المعنى الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الثواب وأنواع الكرامات. وقال سعيد بن جبير: تعني آخذين بما أمرهم ربّهم، عاملين بالفرائض التي أوجبها عليهم. إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ قبل دخولهم الجنة مُحْسِنِينَ في الدنيا، وقيل: قبل نزول الفرائض محسنين في أعمالهم. كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ اختلف العلماء في حكم (ما) ، فجعله بعضهم جحدا، وقال: تمام الكلام عند قوله: كانُوا قَلِيلًا أي كانوا قليلا من الناس، ثم ابتدأ ما يَهْجَعُونَ أي لا ينامون بالليل، بل يقومون للصلاة والعبادة، وجعله بعضهم بمعنى (الذي) ، والكلام متّصل
بعضه ببعض، ومعناه: كانوا قليلا من الليل الذي يهجعون، أي كانوا قليلا من الليل هجوعهم لأنّ (ما) إذا اتصل به الفعل، صار في تأويل المصدر كقوله: بِما ظَلَمُوا أي بظلمهم، وجعله بعضهم صلة، أي كانوا قليلا من الليل يهجعون. قال محمد بن علي: «كانوا لا ينامون حتى يصلّوا العتمة» ، وقال أنس بن مالك: يصلّون ما بين المغرب والعشاء، وقال مطرف: قلّ ليلة تأتي عليهم لا يصلّون فيها لله سبحانه، إما من أوّلها، وإما من أوسطها، وقال الحسن: لا ينامون من الليل إلّا أقلّه، وربما نشطوا فمدّوا إلى السحر. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، قال ابن عباس وسعيد بن المسيب: السائل: الذي يسأل الناس، والمحروم: المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقال قتادة والزهري: السائل الذي يسألك، والمحروم: المتعفف الذي لا يسألك، وقال إبراهيم: هو الذي لا سهم له في الغنيمة، يدلّ عليه ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسين بن محمد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سريّة فغنموا، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة، فنزلت هذه الآية ، وقال عكرمة: المحروم: الذي لا ينمي له مال، وقال زيد بن أسلم: هو المصاب بثمره أو زرعه أو نسل ماشيته. أخبرني الحسن بن محمد، قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا الحسن بن علي الفارسي قال: حدّثنا عمرو بن محمد الناقد قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: حدّثنا محمد بن مسلم الطائفي عن أيوب بن موسى عن محمد بن كعب القرظي: المحروم صاحب الحاجة، ثم قرأ: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ «1» ، ونظيره في قصة ضروان «2» بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ «3» ، وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدّثنا عبد [ ... ] «4» عن شعبة عن عاصم- يعني الأحول- عن أبي قلابة، قال: كان رجل من أهل اليمامة له مال، فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا المحروم فاقسموا له. وقال الشعبي: أعناني أن أعلم ما المحروم، لقد سألت عن المحروم منذ سبعين سنة، فما أنا اليوم بأعلم مني من يومئذ.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 20 إلى 23]
وأصله في اللغة الممنوع، من الحرمان، وهو المنع. أخبرنا أبو سهيل بن حبيب قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن موسى قال: حدّثنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا علي بن عثمان النفيلي الحراني، قال: حدّثنا علي بن عباس الحمصي، قال: حدّثنا سعيد بن عمارة بن صفوان الكلاعي عن الحرث بن النعمان- ابن أخت سعيد بن جبير- قال: سمعت أنس بن مالك يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أنس ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: يا ربّ ظلمونا حقوقنا التي فرضتها عليهم. قال: فيقول: وعزّتي وجلالي لأقربنّكم ولأبعدنّهم» [95] «1» . قال: فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه هذه الآية: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. [سورة الذاريات (51) : الآيات 20 الى 23] وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ عبر وعظات إذا ساروا فيها. لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أيضا آيات أَفَلا تُبْصِرُونَ. أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب الكلماباذي بقراءتي عليه، قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص، قال: حدّثنا السري بن خزيمة الأبيوردي، قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا سفيان عن ابن جريج عن محمد بن المرتفع عن الزبير وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ، قال: سبيل الغائط والبول، وقال المسيب بن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد، ويخرج من مكانين، ولو شرب لبنا محضا خرج ماء، فتلك الآية في النفس. وقال أبو بكر الوراق: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ يعني في تحويل الحالات وضعف القوة وقهر المنّة وعجز الأركاب وفسخ الصريمة ونقض العزيمة، ثم أخبر سبحانه وتعالى أنّه وضع رزقك حيث لا يأكله السوس ولا يناله اللصوص، فقال سبحانه: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ يعني المطر والثلج اللذين بهما تخرج الأرض النبات الذي هو سبب الأقوات، وقال بعض أهل المعاني: معناه: وفي المطر والنبات سبب رزقكم، فسمّي المطر سماء لأنّه عن السماء ينزل، قال الشاعر: إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا «2» وقال ابن كيسان: يعني وعلى ربّ السماء رزقكم (في) بمعنى (على) كقوله:
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ «1» ، وذكر الربّ مختصرا، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» ، ونظيره قوله: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «3» . وأخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا ابن حميد، قال: حدّثنا هارون بن المعتز من أهل الري عن سفيان الثوري قال: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ فقال: ألا أرى رزقي في السماء، وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا، فلمّا أن كان اليوم الثالث إذا هو يرى جلّة من رطب، وكان له أخ أحسن نيّة منه فدخل معه [فصارتا جلّتين] «4» ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرّق بينهما الموت. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خميس قال: حدّثنا ابن مجاهد قال: حدّثنا إبراهيم بن هاشم البغوي قال: حدّثنا ابن أبي بزّة، قال: حدّثنا حسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد عن شبل بن عبّاد عن ابن [أبي نجيح] «5» أنّه قرأ (وفي السماء رازقكم وما توعدون) بالألف يعني الله. قال مجاهد: وَما تُوعَدُونَ من خير أو شر، وقال الضحاك وَما تُوعَدُونَ من الجنة والنار، وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا الحسن بن علويّة قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا المسيب بن شريك قال: قال أبو بكر بن عبد الله: سمعت ابن سيرين يقول: وَما تُوعَدُونَ: الساعة. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ يعني أن الذي ذكرت من أمر الرزق لَحَقٌّ مِثْلَ بالرفع قرأه أهل الكوفة بدلا من (الحق) ، وغيرهم بالنصب أي كمثل. ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ فتقولون: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وقيل: كما أنّكم ذوو نطق خصصتم بالقوة الناطقة العاقلة فتتكلمون، هذا حق كما حق أنّ الآدمي ناطق، وقال بعض الحكماء: كما أنّ كلّ انسان ينطق بلسان نفسه، ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كلّ إنسان يأكل رزقه الذي قسم له، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره، وقال الحسن في هذه الآية: بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربّهم بنفسه فلم يصدّقوه» [96] «6» . حدّثنا أبو القاسم بن حبيب قال: أخبرنا أبو الحسن الكائيني وأبو الطيّب الخياط وأبو
محمد يحيى بن منصور- الحاكم في القسطنطينية- قالوا: حدّثنا أبو رجاء محمد بن أحمد القاضي، قال: حدّثنا أبو الفضل العباس بن الفرج الرياسي البصري، قال: سمعت الأصمعي يقول: أقبلت ذات يوم من المسجد الجامع في البصرة فبينا أنا في بعض سككها إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلد سيفه وبيده قوس، فدنا وسلّم وقال لي: من الرجل؟، قلت: من بني الأصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم، قال: ومن أين أقبلت؟، قلت من موضع مليء بكلام الرّحمن، قال: وللرّحمن كلام يتلوه [الآدمين] . قلت: نعم، قال: اتل عليّ شيئا منه، فقلت له: انزل عن قعودك. فنزل، وابتدأت بسورة وَالذَّارِياتِ، فلمّا انتهيت إلى قوله سبحانه: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ. قال: يا أصمعي هذا كلام الرّحمن؟، قلت: أي والذي بعث محمدا بالحق، إنّه لكلامه أنزله على نبيّه محمد، فقال لي: حسبك، ثم قام إلى الناقة فنحرها وقطعها كلّها، وقال: أعنّي على توزيعها ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وجعلهما تحت الرمل وولّى مدبرا نحو البادية وهو يقول: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ. فأقبلت على نفسي باللوم وقلت: لم تنتبهي لما انتبه له الأعرابي، فلمّا حججت مع الرشيد دخلت مكة، فبينا أنا أطوف بالكعبة إذ هتف بي هاتف بصوت دقيق فالتفّت فإذا أنا بالأعرابي نحيلا مصفارا فسلّم علىّ وأخذ بيدي وأجلسني من وراء المقام وقال لي: اتل كلام الرّحمن، فأخذت في سورة وَالذَّارِياتِ، فلمّا انتهيت الى قوله: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ، صاح الاعرابي فقال: وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، ثم قال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم يقول الله سبحانه فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ، فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟، ألم يصدّقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا وخرجت فيها نفسه «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدّثنا أبو حاتم قال: حدّثنا شبانة، قال حدّثنا صدقة، قال حدّثنا الوضين بن عطاء عن زيد بن جرير أنّ رجلا جاع في مكان ليس فيه شيء، فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، قال: فشبع وروى من غير طعام ولا شراب. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن القاسم الخطيب. قال: حدّثنا إسماعيل بن العباس بن محمد الوراق، قال: حدّثنا الحسين بن سعيد بن محمد المحرمي، قال: حدّثنا علي ابن يزيد العبداني قال: حدّثنا فضيل بن مسروق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، قال:
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 إلى 45]
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أنّ أحدكم فرّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» [97] «1» وأنشدت في معناه: الرزق في القرب وفي البعد ... أطلب للعبد من العبد لو قصّر الطالب في سعيه ... أتاه ما قدّر في قصد وقال دعبل: أسعى لأطلب رزقي وهو يطلبني ... والرزق أكثر لي مني له طلبا «2» [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 45] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) هَلْ أَتاكَ يا محمد حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ اختلفوا في عددهم فقال ابن عباس ومقاتل: كانوا اثني عشر ملكا، وقال محمد بن كعب: كان جبريل ومعه سبعة، وقال عطاء وجماعة: كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر الْمُكْرَمِينَ قال ابن عباس: سمّاهم مكرمين لأنّهم كانوا غير مدعوّين. وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال: حدّثني عبد الله بن أحمد الشعراني، قال: أخبرنا عبد الواحد بن محمد بن سعيد الأرعيالي قال: سمعت محمد بن عبد الوهاب يقول: قال لي علي بن غنام: عندي هريسة، ما رأيك فيها؟ قلت: ما أحسن رأيي!، قال: امض، فدخلت الدار فجعل ينادي يا غلام يا غلام، والغلام غائب، فأدخلني بيتا فجلست فيه، فما راعني [إلّا معه] «3» القمقمة والطست وعلى عاتقه المنديل، فقلت: إنّا لله يا أبا الحسن لو علمت أن الأمر
عندك هكذا ما دخلت. قال: هوّن عليك، حدّثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله سبحانه: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ قال: خدمته إياهم بنفسه، وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: كانوا مكرمين عند الله، نظيره في سورة الأنبياء بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. قال أبو بكر الوراق وابن عطاء: سمّاهم مكرمين، لأنّ أضياف الكرام مكرمون، وكان إبراهيم عليهم السّلام أكرم الخليقة وأطهرهم فتوة. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ أي أنتم قوم مُنْكَرُونَ غرباء لا نعرفكم، وقيل: إنّما أنكر أمرهم، لأنّهم دخلوا عليه من غير استئذان، وقال أبو العاليه: أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض. فَراغَ فعدل ومال إبراهيم إِلى أَهْلِهِ قال الفرّاء: لا ينطق بالروغ حتى يكون صاحبه محتفيا لذهابه ومجيئه فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أي صيحة، ولم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان وإنّما هو كقول القائل: أقبل يشتمني، بمعنى أخذ في شتمي. فَصَكَّتْ قال ابن عباس: لطمت وَجْهَها وقال الآخرون: ضربت يدها على جبهتها تعجبا، كعادة النساء إذا أنكرن شيئا أو تعجبن منه، وأصل الصكّ الضرب وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ مجازه: أتلد عجوز عقيم؟ وكانت سارة لم تلد قبل ذلك وكان بين البشارة والولادة سنة، فولدت له سارة وهي بنت سبع وتسعين، وإبراهيم ابن مائة سنة. قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ حدّثنا أبو بكر بن عبدوس- إملاء- قال: أخبرنا أبو سهل القطان ببغداد، قال: حدّثنا يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف، قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب، قال حدّثنا نصر بن علي، قال: أخبرنا نوح بن قيس، قال: حدّثنا عون بن أبي شداد أنّ ضيف إبراهيم المكرمين لمّا دخلوا عليه فقرّب إليهم العجل فسحه جبريل عليه السّلام بجناحه، فقام العجل يدرج في الدار حتى لحق بأمّه. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ قال الكلبي من سنك، وكل بيانه قوله سبحانه مِنْ سِجِّيلٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 46 إلى 60]
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً عبرة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ. وَفِي مُوسى أي وتركنا في إرسال موسى أيضا عبرة- وقال الفرّاء: هو معطوف على قوله: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ ... ، وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى فأعرض وأدبر عن الإيمان بِرُكْنِهِ بقوته وقومه، نظيره أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ يعني المنعة والعشيرة، وقال المؤرخ: بجانبه وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ قال أبو عبيدة: (أو) بمعنى (الواو) لأنهم قد قالوهما جميعا، وأنشد بيت جرير: أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا «1» وقد يوضع (أو) بمعنى (الواو) كقوله: آثِماً أَوْ كَفُوراً و (الواو) بمعنى (أو) كقوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ قد أتى بما يلام عليه. وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وهي التي لا تلقّح شجرا ولا تنشئ سحابا ولا رحمة فيها [ولا] «2» بركة. ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالنبت الذي قد يبس وديس. قال ابن عباس كالشيء الهالك. مقاتل: كالبالي. مجاهد: كالتبن اليابس. قتادة: كرميم الشجر. أبو العالية: كالتراب المدقوق. [قال] يمان: ما رمته الماشية بمرمتها من [الكلأ] «3» ، ويقال للنسفة: المرمة والمقمة، وقيل: أصله من العظم البالي. وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ يعني وقت فناء آجالهم. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ قال الحسين بن واقد: كلّ صاعقة في القرآن فهي عذاب وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها نهارا. فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض به ولا دفاع وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ منتقمين منّا. قال قتادة: وما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من الله. [سورة الذاريات (51) : الآيات 46 الى 60] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
وَقَوْمَ نُوحٍ قرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف (وَقَوْمِ) بجرّ الميم في قَوْمَ نُوحٍ، وقرأ الباقون بالنصب، وله وجوه: أحدهما: أن يكون مردودا على الهاء والميم في قوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي وأخذت قوم نوح، والثاني: وأهلكنا قوم نوح، والثالث: واذكر قوم نوح مِنْ قَبْلُ أي من قبل عاد وثمود وقوم فرعون إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ قال ابن عباس قادرون، وعنه أيضا: لَمُوسِعُونَ الرزق على خلقنا. الضحاك: أغنياء، دليله قوله سبحانه عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ القتيبي: ذوو سعة على خلقنا. الحسين بن الفضل: أحاط علمنا بكل شيء. الحسن: مطبقون. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها بسطنا ومهّدنا لكم فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الباسطون، والمعنى في الجمع التعظيم. وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والانس، والكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والحق والباطل، والذكر والأنثى، والجنة والنار. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أنّ خالق الأزواج فرد. فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي: فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان ومجانبة العصيان. قال ابن عباس: فرّوا منه إليه، واعملوا بطاعته، وقال أبو بكر الورّاق: فرّوا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرّحمن، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف قال: حدّثنا محمد بن حمدان بن سفيان، قال: حدّثنا محمد بن زياد قال: حدّثنا يعقوب بن القاسم، قال: حدّثنا محمد بن معز عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان في قوله سبحانه فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ قال: اخرجوا إلى مكة. الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء دونه، فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه. قال الجنيد: الشيطان داع إلى الباطل، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ يمنعكم منه. ذو النون: ففرّوا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. عمرو بن عثمان: فرّوا من أنفسكم إلى ربّكم.
الواسطي: فرّوا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. سهل بن عبد الله: فرّوا مما سوى الله إلى الله. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ. كَذلِكَ أي: كما كفر بك قومك، وقالوا ساحر ومجنون كذلك ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ أوصى بعضهم بعضا بالتكذيب وتواطؤوا عليه، والألف فيه ألف التوبيخ. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ عاصون. فَتَوَلَّ فأعرض عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ فقد بلّغت ما أرسلت به وما قصّرت فيما أمرت. قال المفسرون: فلمّا نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واشتدّ ذلك على أصحابه، ورأوا أن الوحي قد انقطع وأنّ العذاب قد حضر، فأنزل الله سبحانه ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ قال علي بن أبي طالب: معناه إلّا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي ، واعتمد الزجاج هذا القول، ويؤيده قوله وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً وقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. قال ابن عباس: ليقرّوا لي بالعبودية طوعا أو كرها. فإن قيل: فكيف كفروا وقد خلقهم للإقرار بربوبيته والتذلّل لأمره ومشيئته، وأنهم قد تذللوا لقضائه الذي قضى عليهم؟ [قلنا:] لأنّ قضاءه جار عليهم ولا يقدرون الامتناع منه إذا نزل بهم، وإنّما خالفه من كفر به في العمل بما أمره به، فأمّا التذلّل لقضائه فإنّه غير ممتنع فيه، وقال مجاهد: إلّا ليعرفون. ولقد أحسن في هذا القول لأنّه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده، ودليل هذا التأويل قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآيات. وروى حيّان عن الكلبي: إلّا ليوحّدون، فأمّا المؤمن فيوحّده في الشدّة والرخاء، وأمّا الكافر فيوحده في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله سبحانه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الآية. وقال عكرمة: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ويطيعون. فأثيب العابد وأعاقب الجاحد، وقال الضحاك وسفيان: هذا خاص لأهل عبادته وطاعته. يدلّ عليه [ما] قرأه ابن عباس: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ من المؤمنين إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. قال في آية أخرى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وقال بعضهم: معناه وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلّا لعبادتي، والأشقياء
منهم إلّا لمعصيتي، وهذا معنى قول زيد بن أسلم، قال: ما جبلوا عليه من الشقاء والسعادة، وقال الحسين بن الفضل: هو الاستعباد الظاهر. وليس على هذا القدر لأنّه لو قدر عليهم عبادته لما عصوه ولما عبدوا غيره وإنمّا هو كقوله: جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثم قال: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ. ووجه الآية في الجملة أنّ الله تعالى لم يخلقهم للعبادة خلق جبلة وإجبار وإنّما خلقه لهم خلق تكليف واختيار، فمن وفّقه وسدّده أقام العبادة التي خلق لها، ومن خذله وطرده حرمها وعمل بما خلق لها. كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» [98] «1» والله أعلم. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي رزقا وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ قراءة العامّة برفع النون على نعت الله سبحانه وتعالى، وهو القوي المقتدر المبالغ في القوّة والقدرة. قال ابن عباس: المتين الصلب الشديد، وقرأ يحيى والأعمش الْمَتِينِ خفضا على نعت القوّة. قال الفرّاء: كان حقّه التأنيث «2» فذكّره لأنّه ذهب به إلى الشيء المبرم المحكم الفتل، كما يقال: حبل متين، وأنشد الفرّاء: لكلّ دهر قد لبست أثوبا ... حتى اكتسى الرأس قناعا أشيبا «3» من ريطة واليمنة المعصّبا «4» فذكّر المعصب لأنّ اليمنة صنف من الثياب. ومن هذا الباب قوله سبحانه: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي وعظ، وقوله: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي الصياح والصوت. وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، قال: حدّثنا القطيفي، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي كثير قالا: حدّثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرّحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّي أنا الرزاق ذو القوة المتين. فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا من أهل مكة ذَنُوباً قال ابن عباس وسعيد بن جبير: سجّلا.
مجاهد: سبيلا. النخعي: طرفا. عطاء وقتادة: عذابا. الحسن: دولة. الكسائي: حظا. الأخفش: نصيبا. وأصل الذّنوب في اللغة الدلو الكبيرة العظيمة المملوءة ماء. قال الراجز: لها ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب «1» ثم يستعمل في الحظ والنصيب كقول علقمة بن عبيدة. وفي كل قوم قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب «2» لعمرك والمنايا طارقات ... لكل بني أب منهم ذنوب «3» مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ من كفار الأمم الخالية فَلا يَسْتَعْجِلُونِ بالعذاب، فإنّما أمهلوا مع ذنوبهم لأجل ذنوبهم. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وهو يوم بدر، وقيل: يوم القيامة.
سورة الطور
سورة الطور مكية، وهي ألف وخمسمائة حرف، وثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة، وتسع وأربعون آية أخبرني أبو الحسن الفارسي قال: حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الصبهاني، قال: حدّثنا المؤمل بن إسماعيل، قال: حدّثنا سفيان الثوري، قال: حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن ايزي عن أبيه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الطور كان حقّا على الله عزّ وجلّ أن يؤمنه من عذابه وأن ينعّمه في جنته» [99] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) وَالطُّورِ كل جبل طور، لكنّه سبحانه عنى بالطور هاهنا الجبل الذي كلّم عليه موسى بالأرض المقدّسة، وهي بمدين واسمه زبير، وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما: طور تينا، وللآخر طور زيتونا لأنهما ينبتان التين والزيتون. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ مكتوب. فِي رَقٍّ جلد مَنْشُورٍ وهو الصحيفة، واختلفوا في هذا الكتاب ما هو؟ فقال الكلبي: هو كتاب الله سبحانه بيد موسى عليه السّلام من التوراة، وموسى يسمع صرير القلم، وكان كلّما مرّ القلم بمكان خرقه إلى الجانب الآخر، فكان كتابا له وجهان، وقيل: اللوح المحفوظ [وهو] «2» دواوين الحفظة، تخرج إليهم يوم القيامة منشورة فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، دليله ونظيره قوله سبحانه: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً وقوله سبحانه: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ،
وقيل: هو ما كتب الله تعالى في قلوب أوليائه من الإيمان، بيانه: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وقيل: هو ما كتب الله تعالى للخلق من السابقة والعاقبة. وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ بكثرة الحاشية والأهل، وهو بيت في السماء السابعة، حذاء العرش، حيال الكعبة، يقال له: الضراح، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف من الملائكة، يطوفون به ويصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدا «1» ، وخازنه ملك يقال له: [الجن] . وقيل: كان البيت المعمور من الجنّة، حمل إلى الأرض لأجل آدم عليه السّلام، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان. أخبرنا الحسين بن محمد، قال: حدّثنا هارون بن محمد بن هارون، قال: حدّثنا إبراهيم ابن الحسين بن دربل، قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدّثني سفيان بن نسيط عن أبي محمد عن الزبير عن عائشة أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قدم مكة فأرادت عائشة أن تدخل البيت- يعني ليلا- فقال لها بنو شيبة: أنّ أحدا لا يدخله ليلا ولكنا نخليه لك نهارا، فدخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم فشكت إليه أنّهم منعوها أن تدخل البيت، فقال: «إنّه ليس لأحد أن يدخل البيت ليلا، إن هذه الكعبة بحيال البيت المعمور الذي في السماء، يدخل ذاك المعمور سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبدا الى يوم القيامة، لو وقع حجر منه لوقع على ظهر الكعبة، ولكن انطلقي أنت وصواحبك فصلّين في الحجر» [100] «2» ففعلت فأصبحت وهي تقول: قد دخلت البيت على رغم من رغم. وأخبرنا الحسين بن محمد، قال: حدّثنا هارون بن محمد، قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدّثنا كثير بن يحيى بن كثير، قال: حدّثنا أبي عن عمرو عن الحسن في قوله سبحانه: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ قال: هو الكعبة البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كلّ سنة، أوّل مسجد وضع للعبادة في الأرض. وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني السماء، سمّاها سقفا لأنها للأرض كالسقف للبيت، دليله ونظيره قوله سبحانه: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً. وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قال مجاهد والضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش: يعني الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور، ومنه قيل للمسعر مسجر، ودليل هذا التأويل ما
روي أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يركبنّ البحر إلّا حاجّ أو معتمر أو مجاهد في سبيل الله، فإنّ تحت البحر نارا وتحت النار بحرا، وتحت البحر نارا [101] «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم «البحر نار في نار» [102] «2» ، وروى سعيد بن المسيب أنّ عليا كرم الله وجهه قال لرجل من اليهود: أين جهنم؟ فقال: البحر. فقال: ما أراه إلّا صادقا ثم قرأ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِرَتْ مخفّفة. وتفسير هذه الأخبار ما روي في الحديث: «إنّ الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلّها نارا فيسجر بها نار جهنم» [103] «3» . وقال قتادة: المسجور: المملوء. ابن كيسان: المجموع ماؤه بضعه إلى بعض، ومنه قول لبيد: فتوسّطا عرض السرى وصدّعا ... مسجورة متجاور أقلامها «4» وقال النمر بن تولب: إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع والسماسما وقال أبو العالية: هو اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب، وفي رواية عطية وذي الرمّة الشاعر: أخبرنيه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن الدينوري. قال: حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة، قال: حدّثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، قال: حدّثنا السدوسي أبو جعفر، قال: حدّثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمّة عن ابن عباس وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ الفارغ. قال: خرجت أمة تسقي فرجعت فقالت: إنّ الحوض مسجور. تعني فارغا. قال ابن أبي داود: ليس لذي الرمّة حديث غير هذا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: المسجور: المحبوس، وقال الربيع بن أنس: المختلط العذب بالملح. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا مخلد بن جعفر، قال: حدّثنا الحسن بن علوية، قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدّثنا إسحاق بن بسر، قال: أخبرني جويبر عن الضحاك، ومقاتل بن سليمان عن الضحاك عن النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالب أنّه قال في الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ: «هو بحر تحت العرش، غمره كما بين سبع سماوات إلى سبع أرضين، وهو ماء
[سورة الطور (52) : الآيات 9 إلى 24]
غليظ يقال له: بحر الحيوان، يمطر العباد بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون من قبورهم» [104] «1» . إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ نازل ما لَهُ مِنْ دافِعٍ مانع. قال جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله في أسارى بدر [فذهبت] «2» إليه وهو يصلّي بأصحابه المغرب، وصوته يخرج من المسجد، فسمعته يقرأ وَالطُّورِ الى قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ فكأنما صدع قلبي، وكان أوّل ما دخل قلبي الإسلام، فأسلمت خوفا من نزول العذاب، وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب. وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: أخبرت عن [محمد] بن الحرث المكي، عن عبد الله بن رجاء المكي، عن هشام بن حسان، قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن فانتهينا إليه وعنده رجل يقرأ، فلمّا بلغ هذه الآية إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ بكى الحسن وبكى أصحابه، وجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. [سورة الطور (52) : الآيات 9 الى 24] يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أي تدور كدوران الرحى، وتتكفّأ بأهلها تكفّأ السفينة، ويموج بعضها في بعض. واختلفت عبارات المفسرين فيها: قال ابن عباس: تدور دورانا. قتادة: تتحرك. الضحاك: تحرك. عطاء الخراساني: تختلف إحداها بعضها في بعض. قطرب: تضطرب. عطية: تختلف. المؤرخ: يتحول بعضهم تحولا. الأخفش: تتكفّأ، وكلّها متقاربة.
وأصل المور الاختلاف والاضطراب، قال رؤبة: مسودّة الأعضاد من وشم العرق ... مائرة الضبعين مصلات العنق أي مضطربة العضدين. وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً فتزول عن أماكنها وتصير هباء منبثّا. فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وإنّما أدخل الفاء في قوله فَوَيْلٌ لأن في الكلام معنى المجاراة مجازه: إذا كان هذا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ باطل يَلْعَبُونَ غافلين جاهلين ساهين لاهين. يَوْمَ يُدَعُّونَ يدفعون إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا دفعا ويزعجون إليها إزعاجا، وذلك أنّ خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، وتجافى أقفيتهم حتى يردوا النار. وقرأ أبو رجاء العطاردي يوم يدعون إلى النار دعاء بالتخفيف من الدعاء. قالوا: فإذا دنوا من النار قالت لهم الخزنة: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْها ادخلوها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ ذوي «1» فاكهة كثيرة، وفكهين: معجبين ناعمين. بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ثم يقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ قد صفّ بعضها إلى بعض، وقوبل بعضها ببعض وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ قرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بالنون والألف «ذرياتهم» بالألف فيهما، وكسر التائين لقوله: أَلْحَقْنا ... وَما أَلَتْناهُمْ ليكون الكلام على نسق واحد، وقرأ الآخرون وَاتَّبَعَتْهُمْ بالتاء من غير ألف ثم اختلفوا في قوله: ذُرِّيَّتُهُمْ، وقرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء، والثانية بالألف وكسر التاء، وقرأ أهل الشام بالألف فيهما وكسر تاء الثانية، وهو اختيار يعقوب وأبي حاتم، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما وفتح تاء الثانية، وهو اختيار أبي عبيد. واختلف المفسّرون في معنى الآية، فقال قوم: معناها وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ التي بلغت الإيمان بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان، وهو قول الضحّاك ورواية العوفي عن ابن عباس. فأخبر الله سبحانه وتعالى أنّه يجمع لعبده المؤمن ذرّيته في الجنة
كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا له، ويدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته، بعمل الأب «1» من غير أن ينقص الآباء من أجور أعمالهم شيئا فذلك قوله سبحانه: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني الآباء، والهاء والميم راجعان إلى قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا، والألت: النقص والبخس. أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله الحديثي، قال: حدّثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي قال: حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا جنادة بن المفلس، قال: حدّثنا قيس بن الربيع، قال: حدّثنا عمرو بن المسرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه» «2» [105] ثم قرأ والذين آمنوا واتّبعتهم ذرياتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء قال: «ما نقصنا الآباء بما أعطينا [البنين] » [106] «3» . وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسن الهمداني، قال: حدّثنا أبو عبد الله عمر بن نصر البغدادي ببردعة، قال: حدّثنا محمد بن عبد الرّحمن بن غزوان، قال: حدّثنا شريك بن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أظنّه ذكره عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة فسأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنّهم لم يدركوا ما أدركت، فيقول: عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به» «4» [107] وتلا ابن عباس: والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم. وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني عثمان بن أبي شيبة، قال: حدّثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال: سألت خديجة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن ولدين ماتا في الجاهلية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هما في النار» قال: فلمّا رأى الكراهية في وجهها قال: «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت: يا رسول الله فولداي منك؟ قال: «في الجنة» . قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار» «5» [108] ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا واتّبعتهم ذرّيتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريّاتهم
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ من الخير والشر رَهِينٌ مرهون فيؤخذ بذنبه ولا يؤخذ بذنب غيره. وَأَمْدَدْناهُمْ وأعطيناهم بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ من أنواع اللحمان يَتَنازَعُونَ يتعاطون فيتناولون ويتداولون فِيها كَأْساً إناء فيها خمر لا لَغْوٌ فِيها وهو الباطل. عن قتادة. مقاتل بن حيان: لا فضول فيها. سعيد بن المسيّب: لا رفث فيها. ابن زيد: لا سباب ولا تخاصم فيها. القتيبي: لا يذهب بعقولهم فيلغوا ويرفثوا، وقال ابن عطاء: أي لغو يكون في مجلس محلّه جنة عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربهم على ذكر الله، وريحانهم تحية من عند الله مباركة طيبة، والقوم أضياف الله وَلا تَأْثِيمٌ أي فعل يؤثمهم، وهو تفعيل من الإثم، يعني: إنّهم لا يأثمون في شربها. وقال ابن عباس: يعني ولا كذب، وقال الضحّاك: يعني لا يكذب بعضهم بعضا «1» . وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ بالخدمة غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ من بياضهم وصفاء لونهم لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مخزون مصون، قال سعيد بن جبير: يعني في الصدف. أخبرني الحسن بن محمد، قال: حدّثنا أحمد بن علي بن عمر بن خنيس، قال: حدّثنا محمد بن أحمد بن عصام، قال: حدّثنا عمر بن عبد العزيز المصري، قال: حدّثنا يوسف بن أبي طيبة عن وكيع بن الجراح عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدمه فيجيبه ألف، يناديه كلّهم: لبيك» «2» [109] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي المقرئ، قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا هاني بن المسري، قال: حدّثنا عبيده بن سعيد عن قتادة بن عبد الله بن عمر قال: ما من أحد من أهل الجنة إلّا سعى له ألف غلام، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب المنوي قال: حدّثنا الحسن ابن الكميت الموصلي قال: حدّثنا المعلى بن مهدي، قال: أخبرنا مسكين عن حوشب عن الحسن أنّه كان إذا تلا هذه الآية يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ قالوا: يا رسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ قال «ما بينهما كما بين القمر ليلة البدر وبين أصغر الكواكب» «3» [110] .
[سورة الطور (52) : الآيات 25 إلى 49]
[سورة الطور (52) : الآيات 25 الى 49] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا قال ابن عباس: إذا بعثوا من قبورهم، وقال غيره: في الجنة وهو الأصوب لقوله سبحانه قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ خائفين من عذاب الله فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ قال الحسن: السّموم: اسم من أسماء جهنم. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك، قال: حدّثنا عبد الله، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا أنس بن عياض، قال: حدّثني شيبة بن نصاح عن القاسم بن محمد قال: غدوت يوما وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلّم عليها، فوجدتها ذات يوم تصلّي السبحة «1» وهي تقرأ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ وتردّدها وتبكي، فقمت حتى مللت ثم ذهبت إلى السوق بحاجتي ثم رجعت فإذا هي تقرأ وترددها وتبكي وتدعو. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في الدنيا نَدْعُوهُ نخلص له العبادة إِنَّهُ قرأ الحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي بفتح الألف، أي لأنّه، وهو اختيار أبي حاتم، وقرأ الآخرون بالكسر على الابتداء، وهو اختيار أبي عبيدة هُوَ الْبَرُّ قال ابن عباس: اللطيف، وقال الضحاك: الصادق فيما وعد الرَّحِيمُ. فَذَكِّرْ يا محمد فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي برحمته وعصمته بِكاهِنٍ يبتدع القول ويخبر بما في غد من غير وحي، والكاهن: الذي يقول: إنّ معي قرينا من الجن.
وَلا مَجْنُونٍ نزلت هذه الآية في الخرّاصين الذين اقتسموا عقاب مكة، يصدون الناس عن الإيمان، ويرمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكهانة والجنون والسحر والشعر. فذلك قوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ يعني هؤلاء المقتسمين الخرّاصين شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ حوادث الدهر فيكفينا أمره بموت أو حادثة متلفة فيموت ويتفرق أصحابه، وذلك أنهم قالوا: ننتظر به ملك الموت فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة وفلان وفلان، إنّما هو كأحدهم، وإنّ أباه توفي شابا، ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه. والمنون يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى الموت، سمّيا بذلك لأنّهما ينقصان ويقطعان الأجل، قال الأخفش: لأنّهما يمنيان قوى الإنسان ومنيه أي ينقصان، وأنشد ابن عباس: تربّص بها ريب المنون لعلّها ... تطلّق يوما أو يموت حليلها «1» قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ حتى يأتي أمر الله فيكم. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ عقولهم بِهذا وأنّهم كانوا يعدون في الجاهلية أهل الأحلام ويوصفون بالعقل، وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله سبحانه بالعقول؟. فقال: تلك عقول كادها الله، أي لم يصحبها التوفيق. أَمْ هُمْ بل هم قَوْمٌ طاغُونَ. أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ استكبارا. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أي مثل هذا القرآن يشبهه إِنْ كانُوا صادِقِينَ أنّ محمدا تقوّله من تلقاء نفسه، فإنّ اللسان لسانهم، وهم مستوون في البشرية واللغة والقوة. أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قال ابن عباس: من غير ربّ، وقيل: من غير أب ولا أم، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا يقوم لله عليهم حجة، أليسوا خلقوا من نطفة ثم علقة ثم مضغة؟ قاله ابن عطاء، وقال ابن كيسان: أم خلقوا عبثا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون، وهذا كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء يعني لغير شيء. أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ لأنفسهم. أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ قال ابن عباس: المطر والرزق، وقال عكرمة: يعني النبوّة، وقيل: علم ما يكون أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ المسلطون الجبّارون. قاله أكثر المفسّرين، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس، وقال عطاء: أرباب قاهرون، وقال أبو عبيدة: يقال: خولا تسيطرت عليّ: اتّخذتني، وروى العوفي عن ابن عباس: أم هم المنزلون.
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ [يدّعون أن لهم] مصعدا ومرقاة يرتقون به إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ الوحي فيدّعون أنّهم سمعوا هناك أنّ الذي هم عليه حق، فهم مستمسكون به لذلك. فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ إن ادّعوا ذلك بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة بيّنة. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً جعلا على ما جئتهم به ودعوتهم إليه فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ غرم مُثْقَلُونَ مجهودون. أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي علم ما غاب عنهم حتى علموا أنّ ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث والحساب والثواب والعقاب باطل غير كائن، وقال قتادة: لمّا قالوا نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أنزل الله سبحانه أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فهم يعلمون حتى بموت محمد، وإلى ماذا يؤول أمره؟ وقال ابن عباس: يعني أم عندهم اللوح المحفوظ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه، ويخبرون الناس به، وقال القتيبي فَهُمْ يَكْتُبُونَ أي يحكمون. والكتاب: الحكم، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجلين اللذين تخاصما «لأقضين بينكم بكتاب الله» [111] «1» . أي بحكم الله. أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً مكرا في دار الندوة فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ الممكور بهم يعود الضرر عليهم، ويحيق المكر بهم، وكل ذلك أنّهم قتلوا ببدر. أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ قال الخليل بن أحمد: ما في سورة الطور من ذكر أَمْ كلّه استفهام وليس بعطف. وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً كسفا قطعة وقيل: قطعا واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر مِنَ السَّماءِ ساقِطاً ذكره على لفظ الكسف يَقُولُوا بمعاندتهم وفرط غباوتهم ودرك شقاوتهم هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ موضوع بعضه على بعض. هذا جواب لقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ وقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً فقال: لو فعلنا هذا لقالوا: سَحابٌ مَرْكُومٌ. فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يَصْعُقُونَ أي يموتون، وقرأ الأعمش وعاصم وابن عامر يُصْعَقُونَ بضم الياء وفتح العين، أي يهلكون، وقال الفرّاء: هما لغتان مثل سعد وسعد. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا كفروا عَذاباً دُونَ ذلِكَ قال البراء بن عازب: هو عذاب القبر، وقال ابن عباس: هو القتل ببدر، وقال مجاهد:
الجوع والقحط سبع سنين، وقال ابن زيد: المصائب التي تصيبهم من الأوجاع وذهاب الأموال والأولاد. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن العذاب نازل بهم. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا بمرأى ومنظر منا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ قال أبو الأحوص عوف بن مالك وعطاء وسعيد بن جبير: قل سبحانك اللهم وبحمدك حين تقوم من مجلسك، فإن كان المجلس خيرا ازددت احتسابا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له. ودليل هذا التأويل ما أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب، قال: حدّثنا ابن الحسن أحمد بن عيسى بن حمدون الناقد بطرطوس. قال: حدّثنا أبو أمية، قال: حدّثنا حجاج، قال: حدّثنا ابن جريج، قال: أخبرني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من جلس في مجلس كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك غفر له ما كان في مجلسه ذلك» [112] «1» . وقال ابن زيد: [سبّح] بأمر ربّك حِينَ تَقُومُ من منامك، وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك: ولا إله غيرك، وعن الضحاك أيضا يعني: قل حِينَ تَقُومُ إلى الصلاة: (الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا) ، وقال الكلبي: يعني ذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة، وقيل: هي صلاة الفجر. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي وصلّ له، يعني صلاتي العشاء، وَإِدْبارَ النُّجُومِ. قال علي بن أبي طالب وابن عباس وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك يعني: ركعتي الفجر. انبأني عقيل، قال: أخبرنا المقابي، قال: أخبرنا ابن جرير، قال: أخبرنا بسر قال: حدّثنا سعيد بن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في ركعتي الفجر «هما خير من الدنيا جميعا» [113] «2» . وقال الضحاك وابن زيد: هي صلاة الصبح الفريضة. قرأ سالم بن أبي الجعد (وَأَدْبارِ) بفتح الألف، ومثله روى زيد عن يعقوب يعني: بعد غروب النجوم.
سورة النجم
سورة النجم مكية، وهي ألف وأربعمائة وخمسة أحرف، وثلاثمائة وستون كلمة، واثنتان وستون آية. أخبرني أبو الحسن بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه، قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر، قال: أخبرنا أبو عمرو الحيري وعمر بن عبد الله البصري، قالا: حدّثنا محمد ابن عبد الوهاب قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة النجم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمد ومن جحد به» [114] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قال ابن عباس- في رواية الوالبي والعوفي ومجاهد برواية ابن أبي نجح-: يعني والثريّا إذا سقطت وغابت، والعرب تسمّي الثريّا نجما، وإن كانت في العدد نجوما. قال أبو بكر محمد بن الحسن الدربندي: هي سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة، وواحد منها خفي، يختبر الناس به أبصارهم، ومنه قول العرب إذا طلع النجم عشاء: ابتغى الراعي كساء- وعن مجاهد أيضا: يعني نجوم السماء كلها حتى تغرب، لفظه واحد ومعناه الجمع، كقول الراعي: فباتت تعدّ النجم في مستحيره ... سريع بأيدي الآكلين جمودها «2»
وسمّي الكوكب نجما لطلوعه، وكلّ طالع نجم، ويقال: نجم السر والقرب والندب إذا طلع. وروى عكرمة عن ابن عباس أنّه الرجم من النجوم، يعني ما يرمى به الشياطين عند استراقهم السمع، وقال الضحاك: يعني القرآن إذا نزل ثلاث آيات وأربع وسورة، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة، وهي رواية الأعمش عن مجاهد وحيان عن الكلبي، والعرب تسمّي التفريق تنجيما والمفرق نجوما ومنه نجوم الدّين. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي بن علي قال: حدّثني أبو حمزة الثمالي وَالنَّجْمِ إِذا هَوى قال: يقال: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة، وقال الأخفش هي النبت، ومنه قوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وهويّه: سقوطه على الأرض، لأنه ما ليس له ساق، وقال جعفر الصادق: يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل من السماء ليلة المعراج. فالهويّ: النزول والسقوط، يقال: هوى يهوى هويّا: مضى يمضي مضيّا، قال زهير: يشج بها الأماعز وهي تهوي ... هوي الدلو أسلمها الرشاء «1» وروى عروة بن الزبير عن رجال من أهل بيته قالوا: كانت بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند عتبة بن أبي لهب فأراد الخروج إلى الشام فقال: الأبتر محمد فلأوذينّه في جابنتهج؟؟؟ فأتاه فقال: يا محمد هو يكفر ب النَّجْمِ إِذا هَوى وبالذي دَنا فَتَدَلَّى، ثم تفل في وجهه ورد عليه ابنته وطلّقها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» «2» [115] قال: وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة. فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره بذلك ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه: أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتبة في أعلاها وناموا حوله، فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب وضرب عتبة بيده ضربة، وأخذه فخدشه، فقال: قتلني ومات مكانه. فقال في ذلك حسان بن ثابت: سائل بني الأصغر إن جئتهم ... ما كان أنباء أبي واسع لا وسّع الله له قبره ... بل ضيّق الله على القاطع رمى رسول الله من بينهم ... دون قريش رمية القاذع
واستوجب الدعوة منه بما ... بيّن للنّاظر والسامع فسلّط الله به كلبه ... يمشي الهوينا مشية الخادع حتى أتاه وسط أصحابه ... وقد عليهم سمة الهاجع فالتقم الرأس بيافوخه ... والنحر منه قفرة الجائع ثم علا بعد بأسنانه ... منعفرا وسط دم ناقع قد كان هذا لكم عبرة ... للسيّد المتبوع والتابع من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع «1» ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ محمد وَما غَوى وهذا جواب القسم. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى أي بالهوى يعاقب بين عن وبين الباء، فيقيم أحدهما مكان الآخر. إِنْ هُوَ ما ينطقه في الدّين إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إليه. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل. ذُو مِرَّةٍ قوة وشدّة، ورجل ممرّ أي قوي، قال الشاعر: ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وفي أثوابه رجل مزير «2» وأصله من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله، ومنه قول النبىّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سويّ» [116] «3» . قال الكلبي: وكانت شدّته أنّه اقتلع قريات قوم لوط من الماء الأسود، وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وكانت شدّته أيضا أنّه أبصر إبليس وهو يكلّم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه في أقصى جبل بالهند، وكانت شدّته أيضا صيحته بثمود فأصبحوا جاثمين خامدين، وكانت شدّته أيضا هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف، وقال قطرب: يقول العرب لكل حرك الرأي حصف العقل: ذو مرة، قال الشاعر: قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة ... عندي لكل مخاصم ميزانه «4»
وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على تبليغ وحيه إلى جميع رسله. وقال ابن عباس: ذُو مِرَّةٍ، أي ذو منظر حسن، وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن. فَاسْتَوى يعني جبريل وَهُوَ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأكثر كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه فيقولون: استوى هو وفلان، ما يقولون: استوى وفلان، وأنشد الفرّاء: ألم تر أنّ النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف «1» والمعنى: لا يستوي هو والخروع. ونظير هذه الآية قوله سبحانه: إِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا فعطف بالآباء على الكنى في كُنَّا من غير إظهار نحن، ومعنى الآية: استوى جبريل ومحمد ليلة المعراج بِالْأُفُقِ الْأَعْلى وهو أقصى الدنيا عند مطلع الشمس في السماء، وقيل: استويا في القوة والصعود إلى السماء، وقيل: استويا في العلم بالوحي، وقال بعضهم: معنى الآية: استوى جبريل أي ارتفع وعلا في السماء بعد أن علّم محمدا، عن سعيد بن المسيب، وقيل: فَاسْتَوى أي قام في صورته التي خلقه الله سبحانه عليها، وذلك أنه كان يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صورة الآدميين كما كان يأتي النبيين، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يريه نفسه على صورته التي جبل عليها، وأراه نفسه مرّتين: مرة في الأرض، ومرّة في السماء فأمّا في الأرض ففي الأفق الأعلى، وذلك أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كان بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مغشيا عليه، ونزل جبريل في صورة الآدميين وضمّه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه [117] «2» . يدل عليه قوله سبحانه: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلّا محمد المصطفى صلوات الله عليه. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال بعضهم: معناها ثُمَّ دَنا جبرئيل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض، فَتَدَلَّى فنزل إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم بالوحي وهوى عليه فَكانَ منه قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي: بل أدنى، وبه قال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع. قال أهل المعاني: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ثم تدلّى فدنا لأن التدلّي: الدنوّ، ولكنه سامع حسن لأن التدلّي يدل على الدنوّ، والدنو يدل على التدلّي، وإنمّا تدلى للدنوّ ودنا للتدلّي، وقال آخرون: معناه ثُمَّ دَنا الرب سبحانه من محمد صلّى الله عليه وسلّم فَتَدَلَّى فقرب منه حتى كان قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، وأصل التدلي: النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، فوضع موضع القرب، قال لبيد: فتدلّيت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيابات الطفل «1» وهذا معنى قول أنس ورواية أبي سلمة عن ابن عباس. وأخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج البغدادي، أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثنا الربيع قال: حدّثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدّثنا عن ليلة المسرى أنّه عرج جبريل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى السماء السابعة، ثم علا به بما لا يعلمه إلّا الله (عز وجل) حتى جاء سدرة المنتهى، ودَنا الجبار ربّ العزة فَتَدَلَّى، حتى كان منه قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فَأَوْحى إليه ما شاء ، ودنوّ الله من العبد ودنوّ العبد منه بالرتبة والمكانة والمنزلة وإجابة الدعوة وإعطاء المنية، لا بالمكان والمسافة والنقلة، كقوله سبحانه: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. وقال بعضهم: معناه: ثُمَّ دَنا جبريل من ربّه عزّ وجل فَكانَ منه قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، وهذا قول مجاهد، يدلّ عليه ما روي في الحديث: «إنه أقرب الملائكة من جبرائيل الى الله سبحانه» «2» [118] . وقال الضحاك: ثُمَّ دَنا محمد من ربّه عز وجل فَتَدَلَّى فأهوى للسجود، فَكانَ منه قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، وقيل: ثُمَّ دَنا محمد من ساق العرش فَتَدَلَّى، أي: جاور الحجب والسرادقات، لا نقلة مكان، وهو قائم بإذن الله كالمتعلق بالشيء لا يثبت قدمه على مكان، وهذا معنى قول الحسين بن الفضل. ومعنى قوله قابَ قَوْسَيْنِ قدر قوسين عربيتين عن ابن عباس وعطاء، والقاب والقيب والقاد والقيد عبارة عن مقدار الشيء، ونظيره من الكلام زير وزار. قال صلّى الله عليه وسلّم: «لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها» [119] «3» . وقال مجاهد: معناه حيث الوتر من القوس، وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد، فأخبر أنّ قرب جبرئيل من محمد صلّى الله عليه وسلّم عند الوحي كقرب قاب قوسين. وقال أهل المعاني: هذا إشارة إلى تأكيد المحبة والقربة ورفع المنزلة والرتبة، وأصله أنّ
الحليفين والمحبّين في الجاهلية كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد والوفاء خرجا بقوسيهما- والصفا بينهما- يريدان بذلك أنّهما متظاهران متحاميان يحامي كل واحد منهما عن صاحبه. وقيل: هذا تمثيل في تقريب الشيء من الشيء، وهو مستعمل في أمثال العرب وأشعارهم، وقال سفيان بن سلمة وسعيد بن جبير وعطاء وابن إسحاق الهمداني: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ قدر ذراعين، والقوس: الذراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض أهل الحجاز. أَوْ أَدْنى بل أقرب. وقال بعض: إنّما قال أَوْ أَدْنى لأنه لم يرد أن يجعل لذلك حدّا محصورا. وسئل أبو العباس بن عطاء عن هذه الآية فقال: كيف أصف لكم مقاما انقطع عنه جبريل وميكائيل وإسرافيل، ولم يكن إلّا محمد وربّه؟ وقال الكسائي: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أراد قوسا واحدا كقول الشاعر: ومهمهين قذقين مرتين ... قطعته بالسّمت لا بالسّمتين «1» أراد مهمها واحدا. وقال بعض أهل المعاني: معنى قوله: فَتَدَلَّى فتدلّل من الدلال كقولهم: [تظني بمعنى تظنن] وأملى وأملل بمعنى واحد. فَأَوْحى يعني فأوحى الله سبحانه وتعالى إِلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم ما أَوْحى قال الحسن والربيع وابن زيد: معناه فَأَوْحى جبريل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أَوْحى إليه ربّه، قال سعيد: أوحى إليه أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً إلى قوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، وقيل: أوحى إليه أن الجنة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمّتك، وسئل أبو الحسن الثوري عنه فقال: أوحى إليه سرّا بسرّ من سرّ في سرّ وفي ذلك يقول القائل: بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه «2» سرّ يمازجه أنس يقابله ... نور تحيّر في بحر من التّيه ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قرأ الحسن وأبو جعفر [والجحدري] وقتادة (كَذَّبَ) بتشديد الذال، أي: ما كذّب قلب محمد ما رَأى بعينه تلك الليلة، بل صدّقه وحقّقه، وقرأ الباقون بالتخفيف، أي ما كَذَبَ فؤاد محمد محمدا الذي رأى بل صدّقه، ومجاز الآية: ما كذب الفؤاد فيما رأى، فأسقط الصفة، كقول الشاعر:
ذكر من قال: إنه رآه بعينه
لو كنت صادقة الذي حدثتني ... لنجوت منجى الحارث بن هشام «1» أي: في التي حدّثتني، وقال بندار بن الحسن: الفؤاد وعاء القلب فيما ارتاب الفؤاد فيما أرى الأصل وهو القلب. واختلفوا في الذي رآه. فقال قوم: رأى جبريل، وإليه ذهب ابن مسعود، وقال آخرون: هو الله سبحانه، ثم اختلفوا في معنى الرؤية، فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده، فرآه في فؤاده ولم يره بعينه، وقال قوم: بل رآه بعينه. ذكر من قال: إنّه رآه بعينه أخبرني الحسن بن الحسين قال: حدّثنا الفضل بن الفضل، قال: حدّثنا أبو يعلى محمد بن زهير الأبلي، قال: حدّثنا بن نحويه، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: حدّثنا ابن التيمي عن المبرك بن فضالة، قال: كان الحسن يحلف بالله عز وجل لقد رأى محمد ربّه. وانبأني عقيل بن محمد قال: أخبرنا المعافي بن زكريا قال: حدّثنا محمد بن جرير قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عمّن سمع ابن عباس يقول: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى محمد ربّه. وبإسناده عن ابن حميد قال: حدّثنا يحيى بن واضح قال: حدّثنا عيسى بن عبيد سمعت عكرمة و [قد] سئل: هل رأى محمد ربّه؟ فقال: نعم، قد رأى ربّه. وبه عن ابن حميد قال: حدّثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: رأى ربّه عز وجل. ذكر من قال: لم يره أخبرنا أبو عبيد الله الحسين بن محمد الحافظ- بقراءتي عليه في داري- قال: حدّثنا موسى ابن محمد بن علي، قال: حدّثنا إبراهيم بن زهير، قال: حدّثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدّثنا موسى بن عبيده عن محمد بن كعب قال: قال بعض أصحاب رسول الله: يا رسول الله، أرأيت ربّك؟ قال: «رأيته مرّتين، بفؤادي ولم أره بعيني» «2» [120] ثم تلا هذه الآية ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ومثله روي عن ابن الحنفية عن أبيه، وأبو العالية عن ابن عباس. وأخبرني الحسن، قال: حدّثنا أبو القاسم عن بن محمد بن عبد الله بن حاتم الترمذي،
قال: حدّثنا جدي لأمي محمد بن عبد الله بن مرزوق، قال: حدّثنا عفان بن مسلم قال: حدّثنا همان بن عبد الله بن شفيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسألته، قال: وعما كنت تسأله؟ قلت: كنت أسأله: هل رأى ربّه عز وجل؟ قال: فإني قد سألته فقال: «قد رأيت نورا، أنى أراه؟» «1» [121] . وكذلك روي عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: «رأيت نورا» «2» [122] ، ومثله روى مجاهد وعكرمه عن ابن عباس. وقد ورد في هذا الباب حديث جامع وهو ما أخبرني الحسين بن الحسن، قال: حدّثنا ابن حبش، قال: أخبرنا علي بن زنجويه، قال: حدّثنا سلمة بن عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة عن مجالد عن سعيد عن الشعبي عن عبد الله بن الحرث قال: اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس: أمّا نحن بنو هاشم فنقول: إنّ محمدا رأى ربّه مرتين، وقال ابن عباس يحبّون أن تكون الخلّة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد. قال: فكبّر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله سبحانه قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليه السلام، فكلّمه موسى ورآه محمد. قال مجالد: وقال الشعبي: فأخبرني مسروق أنّه قال لعائشة رضي الله عنها: يا أمتاه، هل رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربّه تعالى قط؟، قالت: إنك لتقول قولا، إنّه ليقف منه شعري، قال: قلت: رويدا فقرأت عليها: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى حتى قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فقالت: رويدا، أين يذهب بك؟ إنّما رأى جبريل في صورته. من حدّثك أن محمدا رأى ربّه فقد كذب، والله عز وجل يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، ومن حدّثك أنّه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب، والله سبحانه يقول: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية، ومن حدّثك أنّ محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب، والله عز وجلّ يقول: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الآية. قال عبد الرزاق: فذكرت هذا الحديث لعمر، فقال: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي: رأى. قرأ علي وابن مسعود وابن عباس وعائشة ومسروق والنخعي وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب أفتَمرونه بفتح الباء من غير ألف على معنى أفتجحدونه، واختاره أبو عبيد، قال: لأنهم لم يماروه وإنّما يجحدونه، يقول العرب: مريت الرجل حقّه إذا جحدته. قال الشاعر: لئن هجرت أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا «3»
[سورة النجم (53) : الآيات 13 إلى 23]
أي جحدته. وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مسرف أفتُمرونه بضم التاء بلا ألف، أي تريبونه وتشككونه، وقرأ الباقون أَفَتُمارُونَهُ بالألف وضم التاء على معنى أفتجادلونه، وهو اختيار أبي حاتم، وفي الحديث «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر» [123] «1» . [سورة النجم (53) : الآيات 13 الى 23] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى مرة أخرى، فسمّاها نزلة على الاستعارة، وذلك أنّ جبريل رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة بالأفق الأعلى في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى في السماء، وهذا قول عائشة وأكثر العلماء وهو الاختيار، لأنه قرن الرؤية بالمكان فقال عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، ولأنه قال: نَزْلَةً أُخْرى وتقديرها: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى، ووصف الله سبحانه بالمكان والنزول الذي هو الانتقال محال ولأنه قال: نَزْلَةً أُخْرى ولم يرو في الحديث أنّه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه عزّ وجل قبل ليلة المعراج فيراه تلك الليلة مرة أخرى، يدل عليها ما أخبرني عقيل بن محمد أنّ أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير عن محمد بن المثنى قال: حدّثنا عبد الوهاب الثقفي. قال: حدّثنا داود بن عامر عن مسروق أن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أنّ محمدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجلي، أرأيت قول الله سبحانه وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ. قالت: إنّما هو جبريل رآه على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة حين هبط من السماء إلى الأرض سادّا أعظم حلقة ما بين السماء إلى الأرض، ومرة عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. قالت: وأنا أوّل من سأل النبي «عن هذه الآية فقال: «هو جبريل» [124] . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (عند) صلة من قوله: رَآهُ والسدرة: شجرة النبق، وقيل لها سدرة المنتهى لأنه إليها ينتهي علم كل عالم. وقال هلال بن سياف: سأل ابن عباس كعبا عن سِدْرَةِ الْمُنْتَهى وأنا حاضر فقال كعب:
إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلّا الله سبحانه. وقال ابن مسعود: سمّيت بذلك لأنّه ينتهى إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله سبحانه وتعالى إذا انتهى من يصعد إليها من الأرض قبض منها، وقيل: لأنّه ينتهى إليها ما عرج من أرواح المؤمنين، وقيل: لأنّه ينتهي إليها كل من مات على سنّة رسول الله ومنهاجه. روى الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة قال: لمّا أسري بالنبي «انتهى إلى السدرة، فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك، فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ إلى قوله: مُصَفًّى، وهي شجرة يسير الراكب في ظلّها سبعين عاما لا يقطعها، والورقة منها مغطّية الأمة كلها. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا بن شيبة، قال: حدّثنا التنوخي قال: حدّثنا عبيد بن يعيش، قال: حدّثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قال: سمعت النبي «يذكر سدرة المنتهى قال: «يسير الراكب في ظلّ الفنن منها مائة عام، ويستظلّ في الفنن منها مائة راكب. فيها فراش من ذهب، كأنّ ثمارها القلال» [125] «1» . وقال مقاتل: هي شجرة لو أنّ ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت لأهل الأرض، تحمل الحليّ والحلل والثمار من جميع الألوان، ولو أنّ رجلا ركب حقّة فطاف على ساقها ما بلغ المكان الذي ركب منه حتى يقتله الهرم، وهي طوى التي ذكرها الله سبحانه في سورة الرعد، وقد تقصيت وصفها في قصة المسرى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى قال ابن مسعود وأصحابه: فراش من ذهب، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس، ورفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال الحسن: غشيها نور ربّ العزة فاستنارت، وقيل: الملائكة، ويروى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت على كلّ ورقة من ورقها ملكا قائما يسبّح الله عزّ وجل» «2» [126] ، وروى الربيع عن أبي هريرة أو غيره قال: لمّا أسري بالنبي صلّى الله عليه وسلّم انتهى إلى السدرة، قال: فغشيها نور الخلائق وغشيها الملائكة من حب الله مثل الغربان حين يقعن على الشجر. قال: فكلّمه عند ذلك وقال له: سل.
وفي الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «فغشيها «1» رفرف من طير خضر» [127] «2» . قال السدي: من الطيور فوقها، وروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «انتهيت إلى السدرة وأنا لأعرف أنّها سدرة، أعرف ورقها وثمرها، وإذا ينعها مثل الجرار، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. فلمّا «3» غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت ياقوتا وزمردا حتى ما يستطيع أحد يصفها، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى» [128] «4» . قال ابن عباس: هي يمين العرش، وهي منزلة الشهداء، نظيره فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى وأخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا أبو عبد الله عمر بن أحمد بن محمد بن الحرث القضباني. قال: حدّثنا علي بن العباس المقانعي، قال: حدّثنا ميمون بن الأصبع، قال: حدّثنا يحيى بن صالح الوحاطي قال: حدّثنا محمد بن سليمان بن حمزة البصري، قال: حدّثنا عبد الله بن أبي قيس، قال سمعت عبد الله بن الزبير يقرأ هذه الآية عِنْدَها جَنَّهُ بالهاء الْمَأْوى يعني جنّه المبيت، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد، قال: حدّثني أبو صدقة قال: حدّثنا أبو الأسباط قال: حدّثنا عبد الرّحمن عن علي بن القاسم الكندي عن موسى بن عبيدة، قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقرأ جَنَّهُ الْمَأْوى وقال مجاهد: يريد أجنّه، والهاء في هذه القراءة كناية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو حاتم: وهي قراءة علي وأنس يعني ستره، وقال الأخفش: أدركه. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى أي: ما جاور ما أمر به، ولا مال عمّا قصد له. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي الآية الكبرى. قال ابن مسعود: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق، وقال الضحاك: سدرة المنتهى، وقال عبد الرّحمن بن يزيد ومقاتل بن حيان: رأى جبريل في صورته التي تكون في السماوات، وقيل: المعراج، وما أري تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه. دليله قوله سبحانه لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى ... أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ قراءة العامة بتخفيف التاء، وهي من (الله) ألحقت بها التاء فاثبت. كما قيل: عمر للذكر، ثم قيل: للأنثى عمرة، وكما قيل عباس وعباسة، وكذلك سمّى المشركون أوثانهم بأسماء الله فقالوا: من الله (اللات) ، ومن العزيز (العزّى) .
قال قتادة: أمّا اللات فكانت بالطائف. ابن زيد: اللات بيت بنخلة كانت قريش تعبده «1» . وقرأ ابن عباس ومجاهد وأبو صالح اللاتَّ بتشديد التاء، وقالوا: كان رجلا يلتّ «2» السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه، وروى السدي عن أبي صالح أنّه كان بالطائف، وكان يقوم على آلهتهم ويلتّ لهم السويق، فلمّا مات عبدوه. وقال مجاهد: كان رجلا في رأس جبل له غنم يسلى منها السمن، ويأخذ منها الأقط، ويجمع رسلها ثم يتخذ منها [حيسا] «3» فيطعم الحاج، وكان ببطن نخلة، فلما مات عبدوه، وهو اللات، وقال الكلبي: كان رجلا من ثقيف يقال له: (صرمة) بن غنم كان يسلأ السمن فيضعها على صخرة ثم تأتيه العرب فتلتّ به سيوفهم، فلمّا مات الرجل [أخذت] «4» ثقيف الصخرة الى منازلها فعبدتها فمدرة الطائف على وضع اللات. وَالْعُزَّى اختلفوا فيها فقال مجاهد: هي شجرة لغطفان يعبدونها، وهي التي بعث إليها رسول الله خالد بن الوليد فقطعها، وجعل خالد يضربها بالفأس ويقول: يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك «5» فخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، ويقال: إن خالدا رجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال قد قطعتها، فقال: «ما رأيت؟» ، قال: لم أر شيئا، قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما قطعت» . فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتثّ أصلها، فخرجت جمنهاج امرأة عريانة فقتلها، ثم رجع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك فقال: «تلك العزى ولن تعبد أبدا» «6» [129] . وقال الضحاك: وهي صنم لغطفان وضعها لهم سعد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنّه قدم مكة فرأى الصفا والمروة، ورأى أهل مكة يطوفون بينهما، فعاد إلى [بطن نخلة] «7» وقال لقومه: إنّ لأهل مكة الصفا والمروة وليست لكم، ولهم اله يعبدونه وليس لكم، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: أنا أصنع لكم كذلك، فأخذ حجرا من الصفا وحجرا من المروة فنقلهما إلى بطن نخلة، فوضع الذي من الصفا، فقال: هذا الصفا، ثم وضع الذي أخذ من المروة، فقال: هذه المروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة وقال: هذا ربّكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين وعبدون
الحجارة حتى افتتح رسول الله مكة فأمر برفع الحجارة، وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعهما ، وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كانت تعبده ثقيف. وَمَناةَ قرأ ابن كثير بالمد، ومثله روى الشموني عن أبي بكر عن عاصم وأنشد: ألا هل أتى التيم بن عبد مناءة ... على الشنئ فيما بيننا ابن تميم «1» والباقون بالقصر. قال قتادة: هي حجارة كانت تعبد. ابن زيد: بيت كان بالمشلل يعبده بنو كعب. الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبدها أهل مكة، وقيل: إن اشتقاقه من ناء النجم ينوء نوءا، وقال بعضهم: اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها «2» . واختلف القراء في الوقف على اللات ومناة، فوقف بعضهم عليهما بالهاء وبعضهم بالتاء، وقال بعضهم: كل شيء في القرآن مكتوب بالتاء فإنه يوقف عليه بالتاء نحو بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وشَجَرَةُ الزَّقُّومِ ونحوهما، وما كان منها مكتوبا بالهاء فالوقف عليه بالهاء، وقال بعضهم: الاختيار في كل ما لم يضف ان يكون بالهاء، نحو رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي وشَجَرَةً تَخْرُجُ وما كان مضافا فجائز بالهاء والتاء، فالتاء للإضافة والهاء لأنه تفرد دون التاء. وأما قوله سبحانه الثَّالِثَةَ الْأُخْرى قال: العرب لا تقول للثالثة أخرى وأنّما الأخرى نعت للثانية، واختلفوا في وجهها فقال الخليل: إنّما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله: مَآرِبُ أُخْرى ولم يقل: أخر، وقال الحسين بن الفضل: في الآية تقديم وتأخير، مجازها: أفرأيتم اللات والعزى الاخرى ومناة الثالثة، ومعنى الآية: أَفَرَأَيْتُمُ أيها الزاعمون أن اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ بنات الله. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى روى القواس والبزي عن ابن كثير بالهمز. الباقون بغير همز، وقال ابن عباس وقتادة: يعني قسمة جائرة حيث جعلتم لربّكم من الولد ما تكرهون لأنفسكم. مجاهد ومقاتل: عوجا. الحسن: غير معتدلة. ابن سيرين: غير مستوية أن يكون لهم الذكور ولله الإناث. الضحاك: ناقصة. سفيان منقوصة. ابن زيد: مخالفة. قال الكسائي: يقال فيه: ضاز يضيز ضيزا. ضاز يضوز ضوزا. ضاز يضاز ضأزا إذا ظلم ونقص. قال الشاعر: ضازت بنو أسد بحكمهم ... إذ يجعلون الرأس كالذّنب «3»
[سورة النجم (53) : الآيات 24 إلى 32]
وأنشد الأخفش: فإن تنأ عنا ننتقصك وإن تغب ... فسهمك مضئوز وأنفك راغم «1» وتقدير ضِيزى من الكلام فعلى بضم الفاء لأنها صفة من الصفات، والصفات لا تكون إلّا (فعلى) بضم الفاء، نحو: حبلى وأنثى ويسرى، أو (فعلى) بفتح الفاء نحو: غضبى وسكرى وعطشى، وليس في كلام العرب (فعلى) بكسر الفاء في النعوت، إنّما يكون في الأسماء نحو: دفرى، وذكرى وشعري. قال المؤرخ: كرهوا ضم الضاد وخافوا انقلاب الياء واوا وهو من بنات الياء فكسروا الضاد لهذه العلّة، كما قالوا في جمع أبيض: بيض، والأصل بوض مثل: حمر وصفر، وأما من قال: ضاز يضوز فالاسم منه ضوزى مثل شورى. إِنْ هِيَ يعني هذه الأوثان إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ قرأ العامة بالياء، وقرأ عيسى بالتاء إِلَّا الظَّنَّ في قولهم: إنّها آلهة وإنّها شفعاؤهم وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى لبيان أنّها ليست بآلهة وأن العبادة لا تصلح إلّا لله الواحد القهار. [سورة النجم (53) : الآيات 24 الى 32] أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى اشتهى، وهم الكفار وزعموا أن الأصنام تشفع لهم عند الله، يعني: أتظنون أنّ لهم ما يتمنون من شفاعة الأصنام، ليس كما ظنوا أو تمنوا، بل لله الْآخِرَةُ وَالْأُولى، يعني الدنيا، يعطي ما يشاء ويمنع ما يشاء، لا ما تمنّى الإنسان واشتهى، وهذا كقوله: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي لا إله مع الله، وقال ابن زيد: إن كان محمد تمنّى شيئا فأعطاه الله ذلك فلا تنكروه. فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى يعطي من يشاء ما يشاء، ويحرم من يشاء ما يشاء. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ ممن يعبدونهم هؤلاء الكفار ويزعمون أنهم بنات الله
ويرجون شفاعتهم عند الله. لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى قال الأخفش: الملك موحّد ومعناه الجمع، وهو مثل قوله: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ أي كتسمية أو بتسمية الْأُنْثى وَما لَهُمْ وذلك حين قالوا: إنهم بنات الله سبحانه، تعالى الله عن افترائهم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ أي من العذاب شَيْئاً نظيره ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ. يعني أنها لا تشفع لهم، وأن ظنهم لا ينقذهم من العذاب. فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا يعني القرآن، وقيل: الإيمان، وقيل محمد صلّى الله عليه وسلّم. وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ قال الفرّاء: وذلك حين قالوا: إنهم بنات الله، تعالى الله عن افترائهم وازرى بهم بعد ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ دينه وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ اختلفوا في معنى إِلَّا فقال قوم: هو استثناء صحيح، واللمم من الكبائر والفواحش، ومعنى الآية: إلّا ان يلم بالفاحشة ثم يتوب وتقع الوقعة ثم ينتهي، وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن وأبي صالح، ورواية عطاء عن ابن عباس قال: هو الرجل يلمّ بالفاحشة ثم يتوب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأي عبد لك لا ألمّا «1» وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم: ما دون الشرك. وقال آخرون: هو استثناء منقطع مجازه: لكن اللمم، ولم يجعل اللمم من الكبائر والفواحش، ثم اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كانوا بالأمس يعملون معنا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه، وروى الوالبي عن ابن عباس، وقال بعضهم: هو صغار الذنوب مثل النظرة والغمزة والقبلة، وهو من ألمّ بالشيء إذا لم يتعمق فيه ولم يلزمه، وهو قول ابن مسعود ومسروق والشعبي وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان، ورواية طاوس عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظّه من الزنا أدركه ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان المنطق، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق أو يكذبه، فإن تقدّم بفرجه كان زانيا وإلّا فهو اللمم» [130] «2» .
وقال ابن الزبير وعكرمة وقتادة والضحاك: هو ما بين الحدّين: حدّ الدنيا وعذاب الآخرة، وهي رواية العوفي والحكم بن عيينة عن ابن عباس، وقال الكلبي: اللمم على وجهين، كل ذنب لم يذكر عليه حدّا في الدنيا ولا عذابا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلمّ به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه، وقال مقاتل: اللمم ما بين الحدّين من الذنوب. نزلت في نبهان التمار وقد مضت القصة في سورة آل عمران، وقال عطاء بن أبي رياح: اللمم عباده النفس الحين بن الحين، وقال سعيد بن المسيب: هو ما لمّ على القلب، اي حظر، وقال محمد بن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شرّ فهو لمم. ودليل هذا التأويل الخبر المروي «إنّ للشيطان لمّة، وللملك لمّة، فلمّة الشيطان الوسوسة، ولمّة الملك الإلهام» «1» [131] وقال الحسين بن الفضل: اللمم: النظرة من غير تعمد، وهو مغفور، فإن أعاد النظر فليس بلمم وهو ذنب، وقال الفرّاء: اللمم: المتقارب من صغار الذنوب، وأصل اللمم والإلمام هو ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة، والحين بعد الحين ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه. يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت، إلمام الخيال، قال الأعشى: ألمّ خيال من قتيلة بعد ما ... وهي حبلها من حبلنا فتصرّما «2» وقال آخر: أنى ألمّ بك الخيال يطيف ... ومطافه لك ذكرة وشغوف إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ لا يتعاظمه ذنب، نظيره وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن النعمان بن عبد السلام الأصفهاني قال: حدّثنا محمد بن عاصم، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوام بن حوشب عن عمرو بن مرة عن أبي وائل قال: رأى أبو مسيرة عمرو بن شرحبيل، وكان من أفاضل أصحاب عبد الله في المنام قال: رأيت كأني دخلت الجنة فإذا قباب مضروبة فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب- وكانا ممن قتل مع معاوية- فقلت فأين عمار وأصحابه؟ فقالوا: أمامك، قلت: وقد قتل بعضهم بعضا؟: إنهم لقوا الله سبحانه فوجدوه واسع المغفرة.
[سورة النجم (53) : الآيات 33 إلى 44]
قال أبو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثنتي عشر ألف بنت. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي خلق أباكم من التراب وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ جمع جنين، وهو الولد ما دام في البطن، سمّي جنينا لاجتنانه أي استتاره. روى مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت اليهود إذا هلك لهم صديق قالوا: هو صديق. فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «كذبوا ما من نسمة يخلقها الله سبحانه في بطن أمها إلّا شقي أو سعيد» [132] «1» فأنزل الله سبحانه هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ. فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عباس: لا تمدحوها. مجاهد وزيد بن أسلم: فلا تبرّئوها، وقال الكلبي ومقاتل: كان أناس يعملون أعمالا خبيثة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجّنا. فأنزل الله سبحانه هذه، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا في وجوههم التراب [133] «2» . هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى الشرك فآمن، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يعني عمل حسنة وارعوى عن سيئة ، وقال الحسن: أخلص العمل لله. [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 44] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ... الآيات، قال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب بن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضوان الله عليه كان يتصدق وينفق في الخير، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك شيء. فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله وأرجو عفوه. فقال له عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن بعض ما كان يصنع من الصدقة والنفقة فأنزل الله سبحانه أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى يعني يوم أحد حين نزل ترك المركز «3» . وَأَعْطى يعني صاحبه قَلِيلًا وَأَكْدى ثم قطع نفقته فعاد عثمان رضي الله عنه إلى أحسن ذلك وأجمله.
وقال مجاهد وابن زيد: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على دينه فعيّره بعض المشركين وقال له: أتركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار، كان ينبغي لك ان تنصرهم. قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له الذي عاتبه ان هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله، ففعل وأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له، ثم بخل ومنحه تمام ما ضمن له فأنزل الله سبحانه أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أدبر عن الإيمان وَأَعْطى يعني صاحبه الضامن قَلِيلًا وَأَكْدى بخل بالباقي، وقال مقاتل: يعني أَعْطى الوليد قَلِيلًا من الخير بلسانه ثم أَكْدى اي قطعه ولم يقم عليه. وروى موسى بن عبيدة الزبيدي عن عطاء بن يسار قال: نزلت في رجل قال لأهله: جهّزوني انطلق إلى هذا الرجل- يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم- فتجهّز وخرج، فلقيه رجل من الكفار فقال له: أين تريد؟ قال: محمدا، لعلّي أصيب من خيره، فقال له الرجل: أعطني جهازك وأحمل عنك إثمك، فنزلت فيه هذه الآية. وروي عن السدّي أيضا قال: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وذلك أنّه كان ربما يوافق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأمور، وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد إلّا بمكارم الأخلاق فذلك قوله: أَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أي لم يؤمن. قال المفسّرون: أَكْدى أي قطعه ولم يقم عليه، وأصله من الكدية وهي حجر يظهر في البئر ويمنع من الحفر ويؤيس من الماء. قال الكسائي: تقول العرب: أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في الحفر الكدية والجبل، وقال: كديت أصابعه إذا محلت، وكديت يده إذا كلّت فلم يعمل شيئا، وكدى النبت إذا قلّ ريعه، وقال المؤرخ: أَكْدى أي منع الخير، قال الحطيئة: فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه ... ومن يبذل المعروف في الناس يحمد «1» أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى يعني أسفار التوراة وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ما أرسل به من تبليغ رسالة الله وهي قوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى روى عكرمة وطاوس عن ابن عباس قال: كانوا قبل إبراهيم صلوات الله عليه يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الولي بالولي في القتل، حتى أنّ الرجل يقتل بأبيه وأخيه وابنه وعمه وخاله، والزوج يقتل بامرأته، والسيد يقتل بعبده، حتى كان إبراهيم عليه السّلام فنهاهم عن ذلك وبلّغهم عن الله أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
وقال الحسن وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد: عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربّه الى خلقه مجاهد: وفّى بما فرض عليه. ربيع: وفّى رؤياه وقام بذبح ابنه. عطاء الخراساني: استعمل الطاعة. أبو العالية: وفّى بتمام الإسلام وهو قوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، وما ابتلى بهذا الدين أحد فأقام سهامه كلها إلّا إبراهيم، والتوفية: الإتمام. فقال: وفيت عليه حقّه ووفرته، قال الله سبحانه: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ. سفيان بن عيينة: أدّى الأمانة. الضحّاك: وفّى بشأن المناسك. عطاء بن السائب: بلغني أن إبراهيم كان عهد أن لا يسأل مخلوقا شيئا، فلمّا قذف في النار وأتاه جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، فأثنى الله سبحانه وتعالى عليه بقيامه بما قال ووفائه بما عهد فقال عز من قائل: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. الحسين ابن الفضل: وَفَّى بشأن الأضياف حتى سمّي أبا الأضياف. أبو بكر الورّاق: قام بشرط ما ادّعى، وذلك ان الله سبحانه قال له: أسلم قال: أسلمت، فطالبه الله سبحانه بصحة دعواه، فابتلاه في ماله وولده ونفسه، فوجده في ذلك كلّه وافيا، فقال سبحانه وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي ادعى الإسلام ثم صحح دعواه. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في تفسير هذه الآية قولان: أحدهما: ما أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا حسين، قال: حدّثنا ابن لهيعة قال: حدّثنا ريان بن فائد عن سهل عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «ألا أخبركم لم سمّى تعالى إبراهيم خليله الذي وفّى لأنه كان يقول كلّما أصبح وأمسى: سُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ حتى تختم الآية» [134] «1» . والآخر: ما أخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، قال: حدّثنا أحمد بن الفرج المقري، قال: حدّثنا أبو عمر، قال: حدّثنا نصر بن علي قال: أخبرنا معمر بن سليمان عن جعفر عن القاسم عن أبي أمانة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى قال: «أتدرون بما وفّى؟» [135] قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وَفَّى: يعني عمل يومه بأربع ركعات «2» كان يصلّيهن من أول النهار [136] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ملك قال: حدّثنا ابن حنبل، قال: حدّثنا أبي: قال: حدّثنا ابن مهدي، قال: حدّثنا معاوية عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همار أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «قال الله تعالى: يا بن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» [137] . وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة قال: حدّثنا أبو طلحة أحمد بن
محمد بن عبد الكريم قال: حدّثنا نصر بن علي قال: حدّثنا المعمر بن سليمان، قال: حدّثنا محمد بن المعتصم ابو جميل عن أبي يزيد عن سعيد بن جبير أنه قرأ وإبراهيم الذي وفى خفيفة. فأما الجامع بين قوله سبحانه: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وبين قوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ فهو ما قال الحسين بن الفضل: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى طوعا، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ كرها. أخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد، قال: حدّثنا عبد الله بن أياد بن لقيط عن أبي رمتة، قال: انطلقت مع أبي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما رأيته قال لي أبي: أتدري من هذا؟، هذا رسول الله. قال: فاقشعررت عن ذلك حين قال لي، وكنت أظن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا لا يشبه الناس، فإذا هو بشر ذا وفرة بها ردع من حناء وعليه ثوبان أخضران، فسلّم عليه أبي، ثم جلسنا فتحدّثنا ساعة ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي: «هذا ابنك؟» قال أبي: ورب الكعبة حقا أشهد به، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا من تثبيت شبهي في أبي، ومن حلف أبي عليّ قال: «أما إنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى. ثم نظر أبي إلى مثل السلعة بين كتفيه، فقال: يا رسول الله إني أطبّب «1» الرجال، ألا أعالجها لك؟ قال: «لا طبيبها الذي خلقها» [138] «2» . وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي عمل. نظيره قوله سبحانه: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى. قال ابن عباس: هذه الآية منسوخة، فأنزل الله بعدها وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذريّاتهم وما ألتناهم فادخل الأبناء بصلاح الآباء الجنة، وقال عكرمة: كان ذلك لقوم إبراهيم وموسى، فأما هذه الأمّة فلهم ما سعوا وما سعى غيرهم. بخير سعد حين سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لأمّي إن تطوعت عنها؟ قال: «نعم» [139] ، وخبر المرأة التي سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن أبي مات ولم يحجّ، قال: «فحجي عنه» [140] . وقال الربيع بن أنس: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ يعني الكافر، فأمّا المؤمن فله ما سعى وما سعي، وقيل: ليس للكافر من الخير إلّا ما عمله فيثاب عليه في دار الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير. ويروى أن عبد الله بن أبيّ كان أعطى العباس قميصا ألبسه إياه، فلمّا مات عبد الله أرسل رسول الله قميصه ليكفّن فيه. فلم تبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها.
وسمعت ابن حبيب يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب يقول: سمعت أبي يقول: دعا عبد الله بن طاهر والي خراسان الحسين بن الفضل قال: أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي، قال: وما هي أيّها الأمير؟، قال: قوله تعالى في وصف ابني آدم فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وصحّ الخبر بأن «الندم توبة» [141] ، وقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، وصحّ الخبر «جف القلم بما هو كائن الى يوم القيامة» [142] ، وقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فما بال الأضعاف فقال الحسين: يجوز ان لا يكون ندم قابيل توبة له، ويكون ندم هذه الأمة توبة لها، إن الله سبحانه خص هذه الأمة بخصائص لم يشركهم فيها الأمم. وفيه قول آخر: وهو أن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، وإنما كان على حمله، وأما قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى يعني عن طريق العدل، ومجاز الآية: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى عدلا، [ولى أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا] ، وأمّا قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فإنّها شؤون يعيدها لا شؤون يبديها، ومجاز الآية سوق المقادير إلى المواقيت. قال: فقام عبد الله بن طاهر وقبّل رأسه وسوّغ خراجه. قال أبو بكر الوراق: إِلَّا ما سَعى أي نوى، بيانه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يبعث الناس على نيّاتهم» [143] «1» . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى قال الأخفش: يقال: جزيته الجزاء وجزيته بالجزاء لا فرق بينهما، قال الشاعر: إن أجز علقمة بن سعد سعيه ... لم أجزه ببلاء يوم واحد «2» فجمع بين اللغتين. وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي منتهى الخلق ومصيرهم، وهو مجازيهم بأعمالهم، وقيل: منه ابتداء المنّة وإليه انتهاء الآمال. أخبرني الحسن بن محمد السفياني قال: حدّثنا محمد بن سماء بن فتح الحنبلي، قال: حدّثنا علي بن محمد المصري قال: حدّثنا اسحق بن منصور الصعدي، قال: حدّثنا العباس بن زفر عن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى قال: «لا فكرة في الله «3» » [144] . والشاهد لهذا الحديث ما أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا عمير بن
مرداس قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم السلمي، قال: حدّثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا ذكر الله عز وجل فانتهوا» [145] «1» . [أخبرنا] أبو منصور محمد بن عبد الله الجمشاذي لفظا سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، قال: حدّثنا أبو محمد عبد الرّحمن بن محمد بن مجبور قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثني محمد ابن زكريا، قال: حدّثني إبراهيم بن الجنيد، قال: محمد بن يحيى المغني، قال: حدّثنا داود عم الحسين بن قابيل عن قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه وهم يتفكرون، فقال: «فيم أنتم؟» قالوا: نتفكر في الخالق. فقال: «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفكرة، تفكّروا أنّ الله خلق السموات والأرض سبعا غلظ كل أرض خمسمائة عام، وما بين كلّ أرضين خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض خمسمائة عام، غلظ كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سمائين خمسمائة عام، وفي السماء السابعة بحر عمقه مثل ذلك كلّه، فيه ملك لم يجاور الماء كعبه» [146] «2» . وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ من شاء من خلقه وَأَبْكى من شاء منهم. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب، قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل، قال: حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، قال: حدّثتنا دلال بنت أبي المدل، قالت: حدّثتنا الصهباء، عن عائشة رضي الله عنها قالت: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على قوم يضحكون فقال: «لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا» [147] فنزل عليه جبريل فقال: إن الله تعالى يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى فرجع إليهم فقال «ما خطوت أربعين خطوة حتى أتى جبريل وقال: أئت هؤلاء فقل لهم: إن الله عز وجل يقول: هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى» [148] «3» . وقال عطاء بن أبي أسلم: يعني: أفرح وأحزن، لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. سمعت أبا منصور الحمساذي يقول: سمعت أبا بكر بن عبد الله الرازي يقول: سمعت يوسف بن جبير يقول: سئل طاهر المقدسي: أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحك من دون العرش منذ خلقت جهنم، وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحكون؟ قال: نعم والله، والإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي، وقال مجاهد: أَضْحَكَ اهل الجنة في الجنة، وَأَبْكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أَضْحَكَ الأرض بالنبات وَأَبْكى السماء بالمطر، وقيل: أَضْحَكَ الأسحار بالأنوار وَأَبْكى السماء بالأمطار. ذو النون: أَضْحَكَ قلوب
[سورة النجم (53) : الآيات 45 إلى 62]
المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وَأَبْكى قلوب الكافرين العاصين بظلمة نكرته ومعصيته. سهل: أَضْحَكَ المطيع بالرحمة وَأَبْكى العاصي بالسخط. محمد بن علي الترمذي: أَضْحَكَ المؤمن في الآخرة، وأبكاه في الدنيا. قسام بن عبد الله: أَضْحَكَ أسنانهم وَأَبْكى قلوبهم وأنشد في معناه: اللسن تضحك والأحشاء تحترق ... وإنما ضحكها زور ومختلق يا ربّ باك بعين لا دموع لها ... وربّ ضاحك سنّ ما به رمق «1» وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ أفنى في الدنيا وَأَحْيا للبعث، وقيل: أَماتَ الآباء وَأَحْيا الأبناء، وقيل: أَماتَ النطفة وَأَحْيا النسمة، وقيل: أَماتَ الكافر بالنكرة والقطيعة، وَأَحْيا المؤمن بالمعرفة والوصلة، قال سبحانه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وقال القاسم: أَماتَ عن ذكره وَأَحْيا بذكره. ابن عطاء: أَماتَ بعدله وَأَحْيا بفضله، وقيل: أَماتَ بالمنع والبخل وَأَحْيا بالجود والبذل. [سورة النجم (53) : الآيات 45 الى 62] وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى تصبّ في الرحم، يقال: مني الرجل وأمنى، قاله الضحاك، وعطاء بن أبي رياح، وقال آخرون: تقدّر، يقال: منيت الشيء إذا قدّرته، ويقال: ارض بما يمنى لك الماني، ومنه سمّيت المنية لأنها مقدّرة، وأصلها ممنيّة. وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى الخلق الآخر، يعيدهم أحياء. وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى قال أبو الصلاح: أَغْنى الناس بالمال، وَأَقْنى: أعطى القينة وأصول الأموال. الضحّاك: أَغْنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وَأَقْنى بالإبل والغنم والبقر. مجاهد والحسن وقتادة: أخدم. ابن عباس: أرضى بما أعطى، وهي رواية بن أبي نجيح وليث عن مجاهد. سليمان التيمي عن الحضرمي: أَغْنى نفسه وأفقر الخلائق إليه. ابن زيد: أَغْنى: أكثر وأفقر: أقل، وقرأ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. الأخفش أَقْنى: أفقر. ابن كيسان: أولد.
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهي كوكب خلف الجوزاء تتبعه، يقال له مرزم الجوزاء، وهما شعريان يقال لأحدهما: العبور، وللأخرى: الغميضاء. وقالت العرب في خرافاتها: إن سهيلا والشعرتين كانت مجتمعة فأخذ سهيل فصار يمانيا فتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة، فسمّيت العبور، فأقامت الغميضاء فبكت لفقد سهيل حتى غمضت عينها لأنه أخفى من الآخر، وأراد هاهنا الشعرى العبور، وكانت خزاعة تعبده، وأول من سنّ لهم ذلك رجل من أشرافهم يقال له: أبو كبشة عبد الشعرى العبور وقال: لأن النجوم تقطع السماء عرضا والشعرى طولا فهي مخالفة لها، فعبدتها خزاعة جميعا، فلمّا خرج رسول الله على خلاف العرب في الدين شبّهوه بأبي كبشة فسمّوه بأبي كبشة، بخلافه إياهم كخلاف أبي كبشة في عبادة الشعرى. وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وهم قوم هود. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب عادا الأولى مدرجا مدغما، وهمز واوه نافع برواية المسيبي، وقال بطريق الحلواني:، والعرب تفعل ذلك فتقول: قم لان عنّا. يريدون جقم الآن عنّاج وضمّ لثنين يريدون: ضم الإثنين. وَثَمُودَ يعني قوم صالح فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ المنقلبة، وهي قرى لوط الأربع: صنواهم، وداذوما، وعامورا، وسدوم. أَهْوى يعني اهواها جبريل إلى الأرض بعد ما رفعها إلى السماء. فَغَشَّاها ما غَشَّى يعني الحجارة المنضودة المسوّمة. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ أي نعمائه عليك تَتَمارى تشك وتجادل. هذا يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم نَذِيرٌ رسول مِنَ النُّذُرِ الرسل الْأُولى أرسل إليكم كما أرسلوا الى أقوامهم، وهذا كما يقال: فلان واحد من بني آدم، وواحد من الناس، وقال أبو ملك: يعني هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية العاصية في صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى. أَزِفَتِ الْآزِفَةُ قربت القيامة. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ مطهرة مقيمة، و (الهاء) فيه للمبالغة، بيانه قوله: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، وقال قتادة: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ رادّ، وقيل: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كشف وقيام، ولا تقوم إلّا بإقامة الله إياها، وهي على هذا القول اسم و (الهاء) فيه كالهاء في الباقية والعافية والراهية. ثم قال لمشركي العرب: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ساهون لاهون غافلون. يقال: دع عنك سمودك أي لهوك، وهي رواية الوالبي والعوفي عن ابن عباس، وقال عكرمة: عنه هو الغناء وكانوا إذا سمعوا القرآن سمدوا ولعبوا، وهي لغة أهل اليمن يقولون: اسمد لنا أي تغنّ.
قال الكلبي: السامد: الحزين بلسان طيئ، وبلسان أهل اليمن: اللاهي. الضحّاك: أشرون بطرون. قال: وقال ابن عباس: كانوا يمرّون على النبي صلّى الله عليه وسلّم شامخين، ألم تر إلى الفحل يخطر شامخا. عكرمة: هو الغناء باللغة الحميرية. قال أبو عبيدة: يقال للجارية: اسمدي لنا أي غنّي. مجاهد: غضاب مبرطمون، فقيل له: ما البرطمة قال الإعراض. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن صقلاب، قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب. قال: حدّثنا محمد بن يونس، قال: حدّثنا عبد الله بن عمرو الباهلي قال: حدّثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت هذه الآية أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلمّا سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية، ولو لم تذنبوا لجاء الله سبحانه بقوم يذنبون ثم يغفر لهم» [149] «1» . وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد قال: حدّثنا أبي. قال: حدّثنا إبراهيم بن خالد، قال: حدّثنا رباح قال: حدّثنا أبو الجراح عن رجل من أصحابهم يقال له: حارم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي فقال له: من هذا؟ قال: «فلان» [150] «2» قال: إنّا نزن أعمال بني آدم كلها إلّا البكاء فإن الله سبحانه ليطفئ بالدمعة بحورا من نيران جهنم. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا ابن حمدان بن عبد الله، قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا جعفر بن محمد أبو بكر الجرار، قال: حدّثنا سعيد بن يعقوب والطالقاني، قال: حدّثنا الوليد بن مسلم، قال: حدّثنا إسماعيل بن رافع، قال: حدّثني ابن أبي مليكة الأحول عن عبد الله بن السائب، قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص بعد ما كفّ بصره، فأتيته مسلّما عليه، فانتسبني فانتسبت، فقال: مرحبا بابن أخي بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «هذا القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» [151] «3» . وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا القطيعي، قال: حدّثنا عبد الله، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا وكيع، قال: حدّثنا زياد بن أبي مسلم عن صالح أبي الخليل، قال: لما نزل أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ما رأي النبي صلّى الله عليه وسلّم ضاحكا.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أخبرنا الحسين قال: حدّثنا ابن حمدان، قال: حدّثنا ابن ماهان، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن محبوب بن حسان البصري، قال: حدّثنا عبد الوارث ابن سعيد قال: حدّثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة النجم فسجد فيها، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف، قال: أخبرنا مكي بن عبدان، قال: حدّثنا محمد بن يحيى، قال: وفيما قرأت على عبد الله بن نافع، وحدّثني مطرف بن عبد الله، عن ملك، عن ابن شهاب، عن عبد الرّحمن الأعرج عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قرأ لهم وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فسجد فيها. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا بن حمدان، قال: حدّثنا بن ماهان، قال: حدّثنا عبد الله ابن مسلمة عن ابن أبي ذيب عن زيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت أنه قرأ عند النبي بالنجم صلّى الله عليه وسلّم فلم يسجد فيها.
سورة القمر
سورة القمر مكية، وهي ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا، وثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة وخمس وخمسون آية أخبرني أبو الحسين محمد بن القاسم الفقيه، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن زيد العدل، قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز، قال: حدّثنا محمد بن منصور، قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرّحمن بن ابي ليلى، قال: حدّثني أبي عن مجالد بن عبد الواحد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الخليل، وعن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمون عن زيد بن حبيش عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ في كل غداة بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ومن قرأها كل ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق» [152] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ دنت القيامة وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قال ابن كيسان: في الآية تقديم وتأخير، مجازها: انْشَقَّ الْقَمَرُ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ، يدل عليه قراءة حذيفة (اقتربت الساعة وقد انشق القمر) ، وروى عثمان بن عطاء عن أبيه أن معناه: (وسينشقّ القمر) ، والعلماء على خلافه والأخبار الصحاح ناطقة بأن هذه الآية قد مضت. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي، قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا روح عن شعبة قال: سمعت سليمان قال: سمعت إبراهيم يحدث عن أبي معمر عن عبد الله أن القمر انشقّ
على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرقتين، فكانت إحداهما فوق الجبل والأخرى أسفل من الجبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اشهد» [153] «1» ، وقال أيضا: «اشهدوا» [154] «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك القاضي قال: حدّثنا أحمد بن الحسين بن سعيد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا حصين عن الأعمش وعبدة الضبي عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: انْشَقَّ الْقَمَرُ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى رأيت فلقتيه. وأخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا مكي، قال: حدّثنا أبو الأزهر قال: حدّثنا روح عن شعبة عن سليمان عن مجاهد عن ابن عمر نحو حديث ابن مسعود. وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن زيد الصيرفي قال: حدّثنا علي بن حرب، قال: حدّثنا ابن فضيل، قال: حدّثنا حصين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، قال: انْشَقَّ الْقَمَرُ ونحن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة. وأخبرنا عبد الله قال: أخبر عمر بن الحسن الشيباني قال: حدّثنا أحمد بن الحسن قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا حصين عن سعد عن عكرمة عن ابن عباس والحكم عن مجاهد عن ابن عباس ومقسم عن ابن عباس قال: انْشَقَّ الْقَمَرُ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باثنين: شطره على السويداء، وشطره على الجندمة. وأخبرني عقيل بن محمد أن أبا الفرج القاضي حدّثهم عن محمد بن جرير قال: حدّثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدّثنا بشر بن المفضل. قال: حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا الجبل «3» بينهما. وبه عن محمد بن جرير قال: حدّثنا علي بن سهل قال: حدّثنا حجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: انْشَقَّ الْقَمَرُ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّتين. وبه عن محمد بن جرير قال: حدّثني يعقوب قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: حدّثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: نزلنا المدائن فكنّا منها على فرسخ، فجاءت الجمعة فحضر أبي فحضرنا معه فخطبنا حذيفة، فقال: ألا إنّ الله سبحانه يقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، ألا فإنّ الساعة قد اقتربت، ألا وإنّ القمر قد انشقّ، ألا وإنّ الدنيا قد أذنت بفراق،.
ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السباق، فقلت لأبي أيستبق الناس غدا؟ فقال: يا بني إنك لجاهل، إنّما هو السباق بالأعمال، ثم جاءت الجمعة الأخرى فحضرنا فخطب حذيفة فقال: ألا إنّ الله يقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ألا وإنّ الساعة قد اقتربت، ألا وإنّ القمر قد انشقّ، ألا وإنّ الدنيا قد أذنت بفراق، ألا وإنّ المضمار اليوم وغدا السباق، ألا وإنّ الغاية النار والسابق من سبق إلى الجنة. وبه عن ابن جرير قال: حدّثنا الحسن بن أبي يحيى المقدسي قال: حدّثنا يحيى بن حماد، قال: حدّثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انْشَقَّ الْقَمَرُ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم، فسألوا السفار فسألوهم، فقالوا: نعم قد رأينا. فأنزل الله سبحانه اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم: مرّ الشيء واستمر إذا ذهب، ونظيره: قرّ واستقر، هذا قول مجاهد وقتادة والفرّاء والكسائي. وقال أبو العالية والضحاك: محكم شديد قوي. سيان عن قتادة: غالب، وهو من قولهم: مرّ الحبل إذا صلب واشتد وقوي، وامررته أنا إذا أحكمت فتله. ربيع: نافذ. يمان: ماض. أبو عبيدة: باطل، وقيل: يشبه بعضه بعضا. وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ يقول: وكل أمر من خير أو شر مستقر قراره، ومتناه نهايته، فالخير مستقر بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار. قال قتادة: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ: أي بأهل الخير الخير، وبأهل الشر الشر، وقال مقاتل: لكل امرئ منتهى، وقيل: لكل أمر حقيقته، وقال الحسن بن الفضل: يعني يستقر قرار تكذيبهم وقرار تصديق المؤمنين حتى يعرفوا حقيقته في الثواب والعقاب، وقيل: مجازه: كلّ ما قدّر كائن واقع لا محالة، وقيل: لكل أمر من أموري التي أمضيتها في خلقي مستقر قراره لا يزول، وحكى أبو حاتم عن شيبة ونافع مستقرّ بفتح القاف، وذكر الفضل بن شاذان عن أبي جعفر بكسر الراء، ولا وجه لهما. قال مقاتل: انْشَقَّ الْقَمَرُ ثم التأم بعد ذلك. وَلَقَدْ جاءَهُمْ يعني أهل مكة مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ متناهي. قاله مجاهد. سفيان: منتهى، وهو مفتعل من الزجر، وأصله مزتجر. فقلبت التاء دالا. حِكْمَةٌ بالِغَةٌ تامة ليس فيها نقصان وهي القرآن فَما تُغْنِ النُّذُرُ إذا كذّبوهم وخالفوهم. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ نسختها آية القتال يَوْمَ الى يوم يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ منكر فظيع
[سورة القمر (54) : الآيات 9 إلى 21]
عظيم وهو النار، وقيل: القيامة، وخفّف الحسن وابن كثير كافه. غير هما مثقّل، وقرأ مجاهد (نُكِرَ) على الفعل المجهول أي أنكر. خُشَّعاً ذليلة أَبْصارُهُمْ وهو نصب على الحال مجازه يخرجون من الأجداث خشعا، وقرأ ابن عباس ويعقوب وحمزة والكسائي وخلف (خاشعا) بالألف على الواحد، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا بقراءة عبد الله وأبي رجاء خاشعة أبصارهم، وقرأ الباقون (خُشَّعاً) بلا ألف على الجمع. قال الفرّاء وأبو عبيدة: إذا تأخرت الأسماء عن فعلها فلك فيه التوحيد والجمع والتأنيث والتذكير تقول من ذلك: مررت برجال حسن وجوههم، وحسنة وجوههم وحسان وجوههم. قال الشاعر: وشباب حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد «1» فمن وحّد فلأنّه في معنى الجمع، ومن جمع فلأنّه صفات، والصفات اسماء، ومن أنّث فلتأنيث الجماعة، وقال الآخر: يرمي الفجاج بها الركبان معترضا ... أعناق بزلها مزجى لها الجدل «2» قال الفرّاء: لو قال: معترضة أو معترضات أو مزجاة أو مزجيات كان كل ذلك جائزا. يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ القبور كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ حيارى، وذكر المنتشر على لفظ الجراد، نظيره كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ. مُهْطِعِينَ مسرعين منقلبين عامدين إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ. [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 21] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا عليه السّلام وَقالُوا مَجْنُونٌ أي هو مجنون وَازْدُجِرَ أي زجروه عن دعوته ومقالته، وقال مجاهد: استطر جنونا، وقال ابن زيد: اتهموه وزجروه وواعدوه «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ... لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» .
فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ مقهور فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف، قال: حدّثنا الراوندي، قال: حدّثنا يوسف ابن موسى، قال: حدّثنا وكيع عن الأعمش عن مجاهد عن عبد بن عمير، قال: إن الرجل من قوم نوح ليلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا، فيفيق حين يفيق وهو يقول: رب اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون. فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصبّ مندفق ولم يقلع ولم ينقطع أربعين يوما. قال ابن عباس والقرظي: منفجر من الأرض. يمان: طبق ما بين السماء والأرض. أبو عبيدة: هايل. الكسائي: سائل. قال امرؤ القيس يصف غيثا: راح تمريه الصبا ثم انتحى ... فيه شؤبوب جنوب منهمر «1» وقال سلامة بن جندل يصف فرسا: والماء منهمر والشدّ منحدر ... والقصب مضطمر واللون غربيب «2» وَفَجَّرْنَا شققنا الْأَرْضَ بالماء عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ يعني ماء السماء وماء الأرض، وانما قال: التقى الماء، والالتقاء لا يكون من واحد وانما يكون من اثنين فصاعدا، لأن الماء جمعا وواحدا. وقرأ عاصم الجحدري (فالتقى الماءان) ، وقرأ الحسن (فالتقى الماوان) بجعل إحدى الألفين واوا. عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ قضي عليهم في أم الكتاب. قال محمد بن كعب القرظي: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء، وتلا هذه الآية. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ ذكر النعت وترك الاسم، مجازه: على سفينة ذات ألواح من الخشب وَدُسُرٍ مسامير، واحدها دسار، يقال منه: دسرت السفينة إذا شددتها بالمسامير، وهذا قول القرظي وقتادة، وابن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس وشهر بن حوشب: هي صدر السفينة سمّيت بذلك لأنها تدسر الماء بجؤجئها، اي تدفع، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، قال: الدسر: كلكل السفينة، وأصل الدسر الجر والدفع، ومنه الحديث في العنبر «إنما هو شيء دسّره البحر» ، أي دفعه ورمى به، وقال مجاهد: هي عوارض السفينة. الضحّاك: ألواح جانبها، والدسر أصلها وطرفها. ليث بن أبي نجيح عن مجاهد: أضلاعها.
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي بمرأى منّا. مقاتل بن حيان: بحفظنا، ومنه قول الناس للدموع: عين الله عليك. مقاتل بن سليمان: بوحينا. سفيان: بأمرنا. جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ يعني فعلنا ذلك ثوابا لنوح، ومجاز الآية: لمن جحد وأنكر وكفر بالله فيه، وجعل بعضهم (من) هاهنا بمعنى (ما) ، وقال معناه: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ من أيادي الله ونعمائه عند الذين غرقهم، وإليه ذهب ابن زيد، وقيل: معناه عاقبناهم لله ولأجل كفرهم به. وقرأ مجاهد جَزاءً لِمَنْ كانَ كَفَرَ بفتح الكاف والفاء يعني كان الغرق جزاء لمن يكفر بالله، وكذب رسوله فأهلكهم الله. وما نجا من الكفّار من الغرق غير عوج بن عنق كان الماء إلى حجزته، وكان السبب في نجاته على ما ذكر أن نوحا عليه السّلام احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقلها، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام. فشكر الله تعالى ذلك له ونجّاه من الغرق. وَلَقَدْ تَرَكْناها يعني السفينة آيَةً عبرة. قال قتادة: أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة نظرا، وكم من سفينة كانت بعدها قد صارت رمدا. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متّعظ معتبر وخائف مثل عقوبتهم. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ أي إنذاري. قال الفرّاء: الإنذار والنذر مصدران تقول العرب: أنذرت إنذارا ونذرا، كقولك: أنفقت إنفاقا ونفقة، وأيقنت إيقانا ويقينا. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا سهّلنا وهوّنّا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ اي ليتذكر ويعتبر به ويتفكر فيه، وقال سعيد ابن جبير: يسّرنا للحفظ ظاهرا، وليس من كتب الله كتابا يقرأ كله ظاهرا إلّا القرآن. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متّعظ بمواعظه. أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين، قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي، قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن راهويه قال: حدّثنا أبو عمير بن النحاس ببيت المقدس، قال: حدّثنا ضمرة بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب عن مطر الوراق في قول الله سبحانه فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ قال: هل من طالب علم فيعان عليه. كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم وشرّ مُسْتَمِرٍّ وكان يوم الأربعاء، مستمر: شديد ماض على الصغير والكبير فلم تبق منهم أحدا إلّا أهلكته، وقرأ هارون الأعور نَحْسٍ بكسر الحاء. تَنْزِعُ النَّاسَ تقلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدقّ رقابهم، قال ابن إسحاق: لمّا هاجت الريح قام نفر من عاد سبعة يسمى لنا منهم ستّة من أشدّ عاد وأجسمها منهم: عمرو بن
[سورة القمر (54) : الآيات 22 إلى 49]
الحلي، والحرث بن شداد والهلقام وابنا تيقن، وخلجان بن سعد فأولجوا العيال في شعب بين جبلين، ثم اصطفوا على باب الشعب ليردّوا الريح عمن في الشعب من العيال، فجعلت الريح تخفقهم رجلا رجلا، فقالت امرأة من عاد: ذهب الدهر بعمر بن حلي والهنيات ... ثم بالحرث والهلقام طلاع الثنيات والذي سدّ مهب الريح أيام البليات «1» وبإسناد أبي حمزة الثمالي قال: حدّثني محمد بن سفيان عن محمد بن قرظة بن كعب عن أبيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «انتزعت الريح الناس من قبورهم» [155] «2» . كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ قال ابن عباس: أصول، وقال الضحّاك: أوراك. نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ منقلع من مكانه، ساقط على الأرض، وواحد الأعجاز عجز مثل عضد وأعضاد، وإنّما قال: أَعْجازُ نَخْلٍ وهي أصولها التي تقطعت فروعها، لأن الريح كانت ترمي رؤوسهم من أجسادهم، فتبقى أجسام بلا رؤوس. سمعت أبا القاسم الجنيني يقول: سمعت أبا علي الحسين بن أحمد القاضي البيهقي. يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن القاسم بن سياب الأنباري يقول: سئل المبرّد بحضرة إسماعيل بن إسحاق القاضي عن ألف مسألة هذه من جملتها، وهو أن السائل قال: ما الفرق بين قوله: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً وقوله: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ وكَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ؟ فقال: كل ما ورد عليك من هذا الباب فلك أن تردّه إلى اللفظ تذكيرا، ولك أن ترده إلى المعنى تأنيثا. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. [سورة القمر (54) : الآيات 22 الى 49] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)
لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقالُوا أَبَشَراً آدميّا واحدا منّا نَتَّبِعُهُ ونحن جماعة كثيرة وهو واحد، وقرأ أبو السماك العدوي بالرفع، وكلا الوجهين سائغ في عايد الذكر إِنَّا إِذاً إن فعلنا ذلك وتركنا دين آبائنا وتابعناه على دينه، وهو واحد منا آدمي مثلنا لَفِي ضَلالٍ ذهاب عن الصواب وَسُعُرٍ قال ابن عباس: يعني وعذاب، قال الحسن: شدة العذاب. قتادة: عناء. سفيان بن عيينة: هو جمع سعيرة. الفرّاء: جنون، يقال: ناقة مسعورة إذا كانت خفيفة الرأس هايمة على وجهها. قال الشاعر يصف ناقة: تخال بها سعرا إذا السفر هزها ... ذميل وإيقاع من السير متعب «1» وقال وهب: وَسُعُرٍ: أي بعد من الحق. أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ أأنزل الوحي عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ترح مرح بطر متكبر يريد أن يتعظّم علينا بادّعائه النبوّة. وقال عبد الرّحمن بن أبي حماد: الأشر الذي لا يبالي ما قال، وقرأ مجاهد أَشُرٌ بفتح الألف وضم الشين وهما لغتان مثل حذر وحذر ويقظ ويقظ وعجل وعجل ومجد ومجد الشجاع. سَيَعْلَمُونَ غَداً بالتاء شامي، والأعمش ويحيى وابن ثوبان وحمزة وغيره بالياء، فمن قرأ بالتاء فهو من قول صالح لهم، ومن قرأ بالياء فهو من قول الله سبحانه، ومعنى الكلام: في الغد القريب على عادة الناس في قولهم للعواقب: إنّ مع اليوم غدا، وإنّ مع اليوم أخاه غدا، وأراد به وقت نزول العذاب بهم مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ قرأ أبو قلامة: مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشَرُّ بفتح الشين وتشديد الراء على وزن أفعل من الشر، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة. قال أبو حاتم: لا يكاد العربي يتكلم بالأشرّ والأخير إلا في ضرورة الشعر كقول رؤبة:
بلال خير الناس وابن الأخير إنّما يقولون: خير وشر. قال الله عز وجل كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وقال سبحانه أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً. إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ باعثوها ومخرجوها من الهضبة التي سألوا فِتْنَةً محنة لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وانتظرهم وننظر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ واصبر على ظلمهم وأذاهم، ولا تعجل حتى يأتيهم أمري، وَاصْطَبِرْ: افتعل من الصبر، وأصل (الطاء) فيه (تاء) فحوّلت (طاء) لأجل (الصاد) . وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وبين الناقة بالسويّة لها يوم ولهم يوم، وإنّما قال: بَيْنَهُمْ لأن العرب إذا أخبرت عن بني آدم وعن البهائم غلّبوا بني آدم على البهائم. كُلُّ شِرْبٍ نصيب من الماء مُحْتَضَرٌ يحضره من كانت نوبته، فإذا كان يوم الناقة حضرت شربها، وإذا كان يومهم حضروا شربهم، وقال مجاهد: يعني يحضرون الماء إذا غابت الناقة، وإذا جاءت حضروا اللبن. فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قدار بن سالف وكان أشقر ولذلك قيل له: أشقر ثمود فَعَقَرَ فتناول الناقة بسيفه فعقرها، ولذلك سمّيت العرب الجزار قدارا تشبيها به، وقال الشاعر: إنّا لنضرب بالسيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدام «1» فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ثم بيّن عذابهم فقال عز من قائل: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ قرأ الحسن وقتادة بفتح (الظاء) أراد الحظيرة، وقرأ الباقون بكسر (الظاء) أرادوا صاحب الحظيرة. قال ابن عباس: هو أن الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك دون السباع، فما سقط من ذلك فداسته الغنم فهو الهشيم، وقال قتادة: يعني كالعظام النخرة المحترقة وهي رواية العوفي عن ابن عباس ورواية أبي ظبيان عنه أيضا، كحشيش يأكله الغنم، وقال سعيد بن جبير: هو التراب الذي يتناثر من الحائط. ابن زيد: هو الشجر البالي الذي تهشّم حتى ذرّته الريح، والعرب تسمّي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا هوّنا عليهم الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصى، وقال بعضهم: هو الحجر نفسه. قال الضحّاك: يعني صغار الحصى، والحاصب والحصب والحصباء هي الحجر الذي
دون ملء الكف، والمحصب الموضع الذي يرمى فيه الجمار، وقال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأهل المدينة: حصّبوا المسجد، أي صبّوا فيه الحجارة. ثم استنثى فقال: إِلَّا آلَ لُوطٍ أي أتباعه على دينه من أهله وأمته نَجَّيْناهُمْ من العذاب بِسَحَرٍ قال الأخفش: إنّما أجراه، لأنه نكرة، ومجازه: بسحر من الأسحار، ولو أراد بسحر يوم بعينه لقال: سحر غير مجرى، ونظيره قوله: اهْبِطُوا مِصْراً. نِعْمَةً يعني كان ذلك أو جعلناه نعمة مِنْ عِنْدِنا عليهم حيث أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم كَذلِكَ كما جزيناهم، لوطا وآله نَجْزِي مَنْ شَكَرَ فآمن بالله وأطاعه. وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط بَطْشَتَنا أخذنا لهم بالعقوبة قبل حلولها بهم فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ فكذبوا بإنذاره شكا منهم فيه وهو تفاعل من المرية. وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ طالبوه وسألوه أن يخلّي بينهم وبينهم. يقول العرب: راده تروده وارتاده وراوده يراوده نظيرها وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أي أعميناهم، وصيّرناها كسائر الوجه لا يرى لها شق، وذلك أنّهم لما قصدوا دار لوط عليه السّلام وعالجوا بابه ليدخلوا، قالت الرسل للوط: خلّ بينهم وبين الدخول ف إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فدخلوا الدار فاستأذن جبريل ربّه عزّ وجل في عقوبتهم فأذن له فصفقهم بجناحه، فتركهم عميا يترددون متحيرين لا يهتدون إلى الباب، وأخرجهم لوط عميا لا يبصرون. هذا قول عامة المفسّرين، وقال الضحّاك: طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل وقالوا: قد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا؟، فلم يروهم ورجعوا فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ جاءهم العذاب وقت الصبح بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ دائم عام استقر فيهم حتى يقضى بهم الى عذاب الآخرة. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ يعني موسى وهارون عليه السّلام. كَذَّبُوا بِآياتِنا التسع كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ قادر لا يعجزه ما أراد، ثم خوّف أهل مكة فقال عز من قائل: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ من العذاب فِي الزُّبُرِ الكتب تأمنون. أَمْ يَقُولُونَ يعني كفار مكة نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ أي جماعة لا ترام ولا تضام، ولا يقصدنا أحد بسوء، ولا يريد حربنا وتفريق جمعنا إلا انتقمنا منهم، وكان حقّه: منتصرون فتبع رؤوس الآي.
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ قراءة العامة على غير تسمية الفاعل، وقرأ يعقوب بالنون والنصب وكسر الزاي، وفتح العين على التعظيم وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار، فوحّد والمراد الجمع لأجل رؤوس الآي، كما يقال: ضربنا منهم الرؤوس، وضربنا منهم الرأس، إذا كان الواحد يؤدي عن معنى جميعه، فصدق الله سبحانه وتعالى وعده وهزمهم يوم بدر. قال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه فتقدم يوم بدر في الصف وقال: نحن منتصر اليوم من محمد وأصحابه. قال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب لمّا نزلت سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ: كنت لا أدري أي جمع نهزم، فلمّا كان يوم بدر رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم ثبت في درعه ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ جميعا وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أعظم بليّة وأشدّ مرارة من عذاب يوم بدر. أخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم بن زياد، قال حدّثنا أبو مصعب قال: حدّثنا مجرد بن هارون عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بادروا بالأعمال- سبعا- ما ينتظرون هل هو إلّا فقر منسي أو غنى مطغ «1» أو مرض مفسد أو كبر معند أو موت مجهز، والدجال شر مستطر، والساعة وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» [156] . إِنَّ الْمُجْرِمِينَ المشركين فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ قال الضحاك: يعني نارا ستعرض عليهم. قال الحسين بن الفضل: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ في الدنيا ونار في الآخرة، وقال ابن كيسان: بعد من الحق، وقيل: جنون، وقال قتادة في عناء وعذاب، ثم بيّن عذابهم، فقال: يَوْمَ يُسْحَبُونَ يجرّون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ويقال لهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ وإنّما هو كقولك: ذق المر السياط. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ بالنصب قراءة العامة، وقرأ أبو السماك العدوي «2» بالرفع خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال الحسن: قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له، وقال الربيع: هو كقوله: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي أجلا لا يتقدم ولا يتأخر، وقال ابن عباس: إنّا كل شيء جعلنا له شكلا يوافقه ويصلح له، فالمرأة للرجل، والأتان للحمار، والرمكة للفرس، وثياب الرجال للرجال لا تصلح للنساء، وثياب النساء لا تصلح للرجال وكذلك ما شاكلها على هذا.
[سورة القمر (54) : الآيات 50 إلى 55]
وروى علي بن أبي طلحة عنه قال: خلق الله سبحانه الخلق كلّهم بقدر، وخلق لهم الخير والشر فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاوة. [سورة القمر (54) : الآيات 50 الى 55] وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ وحقّه واحد، قال أبو عبيدة هو نعت للمعنى دون اللفظ مجازها: وَما أَمْرُنا إِلَّا مرة واحِدَةٌ، يعني الساعة وقيل: معناه وما أمرنا الشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة (كُنْ فَيَكُونُ) لا مراجعة فيها. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وذكر أن هذه الآيات نزلت في القدرية. أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه في داري قال: حدّثنا الفضل ابن الفضل الكندي، قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن النعمان قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسين بن حفص قال: حدّثنا الحسن بن حفص قال: حدّثنا سفيان عن زياد ابن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد المخزومي عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ الى آخر السورة. وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا القرماني قال: حدّثنا عبد الأعلى بن حماد قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان قال حدّثني أبو مخزوم عن سيار أبي الحكم قال: بلغنا أنّ وفد نجران قالوا: أمّا الأرزاق والأقدار فبقدر الله، وأما الأعمال فليس بقدر، فأنزل الله سبحانه فيهم إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ الى آخر الآية. وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي قال: حدّثنا ابن أبي العوام قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا الصباح بن سهل البصري أبو سهل قال: حدّثنا جعفر بن سليمان عن خالد بن سلمة عن سعيد بن عمر عن عمر بن زرارة عن أبيه قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ الى آخر السورة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نزلت هذه الآيات في ناس يكونون في آخر أمتي يكذبون بقدر الله» [157] «1» . وأخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب بن محمويه الفقيه بالقصر قال: حدّثنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل قال: حدّثنا الحسين بن عرفه العبدي قال: حدّثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج عن عطاء بن أبي رياح قال: أتيت ابن عباس وهو ينزع
في زمزم قد ابتلّت أسافل ثيابه، فقلت له: قد تكلّم في القدر، فقال: أو قد فعلوها؟، قلت: نعم، قال: فو الله ما نزلت هذه الآية إلّا فيهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ، أولئك شرار هذه الأمة، لا تعودوا مرضاهم ولا تصلّوا على موتاهم. إن أريتني أحدا منهم فقأت عينيه بإصبعيّ هاتين. وأخبرني عقيل بن محمد الفقيه أن أبا الفرج البغدادي أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا حصين عن سعيد بن عبيده عن أبي عبد الرّحمن السلمي قال: لمّا نزلت هذه الآية إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال رجل: يا رسول الله ففيم العمل في شيء يستأنفه أو في شيء قد فرغ منه؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اعملوا فكل ميسّر، سنيسره لِلْيُسْرى وسنيسره لِلْعُسْرى» [158] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن الحسين بن صقلاب قال: حدّثنا أبو الحسن احمد بن محمد بن عبيد الطوابيقي قال: حدّثنا علي بن حرب الطائي قال: حدّثنا أبو مسعود يعني الزجاج. قال: حدّثنا أبو سعد عن طلق بن حبيب عن كعب قال: نجد في التوراة أن القدرية يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثني موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد ابن سنان قال: حدّثنا عمرو بن منصور أبو عثمان العيسي قال: حدّثني أبو أسيد الثقفي، قال: حدّثني ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: تمارينا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القدر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كل شيء بقدر حتى هذه» وأشار بإصبعه السبابة حتى ضرب على ذراعه الأيسر» [159] «2» . وأخبرني ابن السري النحوي في (درب حاجب) قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن محمد العماني قال: أخبرنا عبد الله بن احمد بن عامر قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني علي بن موسى الرضا قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدّثني أبي محمد بن علي قال: حدّثني أبي علي بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجل قدّر المقادير ودبر التدبر قبل أن يخلق آدم بألفي عام» [160] «3» . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عمر بن احمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثني أحمد بن حماد بن سفيان قال: حدّثنا السري بن عاصم الهمداني قال: حدّثنا محمد بن مصعب القرقساني
عن الأوزاعي عن عبده بن أبي لبابة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الإيمان بالقدر يذهب الهمّ والحزن» [161] «1» . وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا زكريا بن يحيى الساجي قال: حدّثنا محمد بن المثنى قال: حدّثني إبراهيم بن أبي الوزير قال: حدّثنا مروان بن معاوية الفزاري عن سيف «2» الكوفي عن أبي فزارة قال: قال ابن عباس: إذا كثرت القدرية بالبصرة ائتفكت بأهلها، وإذا كثرت السبائية بالكوفة «3» ائتفكت بأهلها «4» . وبه عن الساجي قال: حدّثنا الحسن بن حميد قال: حدّثني عبد الله بن الحسن بن عبد الملك بن حسان الكلبي قال: حدّثني سعيد بن محمد الغساني قال: لما أخذ أبو شاكر الديصاني بالبصرة فأقرّ أنه ديصاني، وكان يجهر القول بالرفض والقدر، فقيل له: لم اخترت القول بالقدر والرفض؟، قال: اخترت القول بالقدر لأخرج أفعال العباد من قدرة الله، وأنه ليس بخالقها، فإذا جاز أن يخرج من قدرته شيء جاز أن تخرج الأشياء من قدرته كلها، واخترت القول بالرفض لأتصول بالطعن الى نقلة هذا الدين، فإذا بطل النقلة بطل المنقول. وأخبرني الحسين بن محمد قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرّحمن الدقاق قال: حدّثنا محمد ابن عبد العزيز قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدّثنا الدراوردي قال: قال لي أبو سهيل: إذا سلم عليك القدرية فردّ عليهم كما ترد على اليهود قل: وعليك. وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ من خير أو شرع يعني الأشياع فِي الزُّبُرِ في كتب الحفظة، وقيل: في اللوح المحفوظ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ منهم ومن أعمالهم مُسْتَطَرٌ مكتوب محفوظ عليهم. يقال: كتبت واكتتبت وسطرت واستطرت، وقرأ واقترأت. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ بساتين وَنَهَرٍ أنهار، ووحّده لأجل رؤوس الآي. كقوله سبحانه: وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «5» ، وقال الضحاك: يعني في ضياء وسعة، ومنه النهار قال الشاعر: ملكت بها كفي وانهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها «6»
أي وسعت خرقها. وقرأ الأعرج وطلحة (وَنُهُرٍ) بضمتين كأنها جمع نهار يعني لا ليل لهم. قال الفراء: أنشدني بعض العرب: إن تك ليليا فإني نهر ... متى أتى الصبح فلا أنتظر «1» أي صاحب نهار، وقال الآخر: لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر «2» فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مجلس حق لا لغو فيه ولا مأثم وهو الجنة عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ملك قادر و (عِنْدَ) إشارة إلى القربة والرتبة. قال الصادق: مدح الله المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلّا أهل الصدق. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا الحسن بن علويه قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا المسيب بن إبراهيم البكري عن صالح بن حيان عن عبد الله بن بريده أنّه قال في قوله سبحانه وتعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ: إنّ أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى فيقرءون عليه القرآن، وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو يجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بأعمالهم، فلم تقرّ أعينهم بشيء قط كما تقرّ أعينهم بذلك، ولم يسمعوا شيئا أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون الى رحالهم ناعمين، قريرة أعينهم الى مثلها من الغد. وأخبرني الحسين قال: حدّثنا سعد بن محمد بن أبي إسحاق الصيرفي قال: حدّثنا محمد ابن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا زكريا بن يحيى قال: حدّثنا عمرو بن ثابت عن أبيه عن عاصم بن ضمرة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما في مسجد المدينة، فذكر بعض أصحابه الجنة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله لواء من نور وعمودا من زبرجد خلقهما قبل أن يخلق السماوات بألفي عام، مكتوب على رداء ذلك اللواء: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، محمد رسول الله، محمد خير البرية، صاحب اللواء أمام القوم» فقال علي: الحمد لله الذي هدانا بك وكرّمنا وشرفنا، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا علي أما علمت أن من أحبنا وانتحل محبتنا أسكنه الله تعالى معنا» [162] «3» وتلا هذه الآية فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا الحسن بن أيوب. قال: حدّثنا
عبد الله بن أبي زياد. قال: حدّثنا سيار قال: حدّثنا رياح القيسي عن ثور قال: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله انطلقوا، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: إنكم لتذهبون بنا الى غير بغيتنا، فيقال لهم: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد مع الحبيب. وسمعت أبا القاسم يقول: سمعت أبا محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم البلاذري يقول: سمعت بكر بن عبد الرّحمن يقول: كان ذو النون المصري يحضّ أصحابه على التهجّد وقيام الليل. فإذا أحسّ منهم فتره قال: كدّوا يا أولياء الله، فإن للأولياء [في الجنة] مقعد صدق يكشف حجب يوم يرون الجليل حقّا.
سورة الرحمن
سورة الرّحمن مكية، وهي ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، وثمان وسبعون آية أخبرنا الأستاذ أبو الحسين الجباري قال: حدّثت عن أحمد بن الحسن المقري قال: حدّثنا محمد بن يحيى الكيساني قال: حدّثنا هشام البربري قال: حدّثنا علي بن حمزة الكسائي قال: حدّثنا موسى بن جعفر عن أبيه جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لكلّ شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرّحمن جلّ ذكره» [163] «1» . وأخبرني أبو الحسين أحمد بن إبراهيم العبدي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد الحبري قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل الكوفي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الرّحمن رحم الله ضعفه، وأدّى شكر ما أنعم الله عليه» [164] «2» . روى هشام بن عروة عن أبيه قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله ابن مسعود، وذلك أن أصحاب رسول الله اجتمعوا فقالوا: ما سمعت قريش القرآن يجهر به، فمن رجل يسمعهم؟ فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنّا نخشى عليك منهم، وإنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فقال: دعوني فإنّ الله سيمنعني، ثم قام عند المقام فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ، رافعا بها صوته، وقريش في أنديتها فتأمّلوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ ثم قاموا إليه فجعلوا يضربونه وهو يقرأ حتى يبلغ منها ما شاء، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثّروا في وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 إلى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ نزلت حين قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ؟، وقيل: هو جواب لأهل مكة حين قالوا: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. خَلَقَ الْإِنْسانَ قال ابن عباس وقتادة: يعني آدم عليه السّلام. عَلَّمَهُ الْبَيانَ أسماء كل شيء، وقيل: علّمه اللغات كلّها، وكان آدم عليه السّلام يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية، وقال آخرون: أراد جميع الناس لأن الإنسان اسم الجنس ثم اختلفوا في معنى البيان، فروي عن قتادة أنّه قال: علّمه بيان الحلال والحرام، وبيّن له الخير والشر، وما يأتي وما يذر ليحتج بذلك عليه. وقال أبو العالية ومرّة الهمذاني وابن زيد: يعني الكلام. الحسن: النطق والتمييز. محمد ابن كعب: ما يقول وما يقال له. السدي: علّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. ابن كيسان: خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، عَلَّمَهُ الْبَيانَ يعني بيان ما كان وما يكون لأنه كان يبيّن عن الأولين والآخرين وعن يوم الدين. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ أي بحساب ومنازل لا تعدّونها، قاله ابن عباس وقتادة وأبو ملك. قال ابن زيد وابن كيسان: يعني بهما بحسب الأوقات والأعمار والآجال، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف نحسب شيئا، لو كان الدهر كلّه ليلا كيف نحسب؟ أو كلّه نهارا كيف نحسب؟ وقال الضحاك: يجريان بعدد. مجاهد: كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحا. السدي: بأجل كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا. نظيره كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى. يمان: يجريان بأهل الدنيا وقضائها وفنائها. والحسبان قد يكون مصدر حسبت حسابا وحسبانا مثل الغفران والكفران والرجحان والنقصان، وقد تكون جمع الحساب كالشهبان والرهبان والقضبان والركبان. وارتفاع الشمس والقمر بإضمار فعل مجازه الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يجريان بِحُسْبانٍ، وقيل: مبتدأ وخبره فيما بعده.
ونظم الآية الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ وقدر الشمس والقمر، وقيل: هو مردود على البيان، أي عَلَّمَهُ الْبَيانَ، إن الشمس والقمر بحسبان. ويقال: سعة الشمس ستة آلاف فرسخ وأربعمائة فرسخ في مثلها، وسعة القمر ألف فرسخ في ألف فرسخ. مكتوب في وجه الشمس: لا إله إلّا الله، محمد رسول الله، خلق الشمس بقدرته، وأجراها بأمره، وفي بطنها مكتوب: لا إله إلّا الله، رضاه كلام، وغضبه كلام، ورحمته كلام، وعذابه كلام، وفي وجه القمر مكتوب: لا إله إلّا الله، محمد رسول الله، خلق الله القمر، وخلق الظلمات والنور، وفي بطنه مكتوب: لا إله إلّا الله خلق الخير والشر بقدرته، يبتلي بهما من يشاء من خلقه، فطوبى لمن أجرى الله الخير على يديه، والويل لمن أجرى الله الشر على يديه. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ. قيل: هو ما ليس له ساق من الأشجار، وينبسط على وجه الأرض، وقال السدّي: هو جمع النبات سمّي نجما لطلوعه من الأرض، وسجودها سجود ظلها، وقال مجاهد وقتادة: هو الكوكب، وسجوده طلوعه. وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ قال مجاهد: العدل، وقال الحسن والضحاك وقتادة: هو الذي يوزن به ليوصل به الإنصاف والانتصاف، وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن، وأصل الوزن التقدير. أَلَّا تَطْغَوْا يعني لئلّا تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ بالعدل، وقال أبو الدرداء: أقيموا لسان الميزان بالقسط، وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب وَلا تُخْسِرُوا ولا تنقصوا الْمِيزانَ ولا تطففوا في الكيل والوزن. قال قتادة في هذه الآية: اعدل يا بن آدم كما تحب أن يعدل عليك، وأوف كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس. وقراءة العامة تُخْسِرُوا بضم التاء وكسر السين، وقرأ بلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين وهما لغتان. وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ للخلق، وقال الحسن: للجن والإنس، وقال ابن عباس والشعبي: لكلّ ذي روح. فِيها فاكِهَةٌ يعني [ألوان] الفواكه، وقال ابن كيسان: يعني ما يفكههم به من النعم التي لا تحصى، وكل النعم يتفكه بها وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ أوعية التمر، واحدها: كم، وكل ما يسترنا فهو كم وكمة، ومنه كمّ القميص، ويقال: للقلنسوة: كمّة، قال الشاعر:
فقلت لهم كيلوا بكمّة بعضكم ... دراهمكم إني كذاك أكيل «1» قال الضحاك: ذاتُ الْأَكْمامِ أي ذات الغلف. الحسن: أكمامها: ليفها. قتادة: رقابها. ابن زيد: الطلع قبل أن يتفتق. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ قال مجاهد: هو ورق الزرع، قال ابن السكّيت: يقول العرب لورق الزرع: العصف والعصيفة والجل بكسر الجيم، قال علقمة بن عبدة: تسقي مذانب قد مالت عصيفتها ... حدورها من أتيّ الماء مطموم «2» العصف: ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس. نظيره كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ. وَالرَّيْحانُ قال مجاهد: هو الرزق، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: كل ريحان في القرآن فهو رزق. قال مقاتل بن حيان: الرَّيْحانُ: الرزق بلغة حمير. قال الشاعر: سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر «3» سعيد بن جبير عن ابن عباس: الرَّيْحانُ: الريع. الضحّاك: هو الطعام. قال: فالعصف هو التين وَالرَّيْحانُ ثمرته. الحسن وابن زيد: هو ريحانكم هذا الذي يشم. الوالبي عن ابن عباس: هو خضرة الزرع. سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق. وقراءة العامة (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) كلّها مرفوعا بالرد على الفاكهة، ونصبها كلّها ابن عامر على معنى خلق هذا الإنسان وخلق هذه الأشياء، وقرأ أهل الكوفة إلّا عاصم (وَالرَّيْحانِ) بالجر عطفا على العصف. فَبِأَيِّ آلاءِ نعم رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أيها الثقلان. يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن مسلم الحنبلي قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عبد الخالق قال: حدّثنا عبد الوهاب الوراق قال: حدّثنا أبو إبراهيم الترجماني قال: حدّثنا هشام بن عمار الدمشقي، قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا وهب ابن محمد عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة الرّحمن حتى ختمها. ثم قال: «ما لي أراكم سكوتا؟ للجن أحسن منكم ردّا، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلّا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذب» [165] «4» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 إلى 30]
وقيل: خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب، وقد مضت هذه المسألة في قوله سبحانه: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ. وأما الحكمة من تكرارها فقال القتيبي: إن الله سبحانه وتعالى عدّد في هذه السورة نعماه، وذكّر خلقه آلاءه. ثم أتبع ذكر كلّ كلمة وضعها، ونعمة ذكرها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقرّرهم بها، وهو كقولك لرجل «1» : أحسنت إليه وتابعت بالأيادي، وهو في كل ذلك ينكرك ويكفرك: ألم تكن فقيرا فأغنيتك؟ أفتنكر؟ ألم تكن عريانا فكسوتك؟، أفتنكر هذا؟ ألم أحملك وأنت راحل؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك؟، أفتنكر هذا؟ ألم تكن صرورة فحججت بك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرار سائغ في كلام العرب، حسن في مثل هذا الموضع. قال الشاعر: المم سلومه المم «2» المم وقال الآخر: كم نعمة كانت لكم ... كم كم وكم «3» وقال آخر: فكادت فرارة تصلى بنا ... فاولى فرارة أولى فرارا وقال آخر: لا تقطعن الصديق ما طرفت ... عيناك من قول كاشح أشر «4» ولا تملّنّ من زيارته ... زره وزره وزر وزر وزر وقال الحسين بن الفضل: التكرار لطرد الغفلة وتأكيد الحجة. [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 30] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ وهو أب الجن، وقال الضحاك: هو إبليس، وقال أبو عبيدة: الجان واحد الجن مِنْ مارِجٍ لهب صاف وخالص لا دخان فيه. قال ابن عباس: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت. عكرمة: هو أحسنها. مجاهد: هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت، وهو من قولهم: مرج القوم إذا اختلطوا، ومرجت عهودهم وأماناتهم. مِنْ نارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الصيف والشتاء وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ مغرب الصيف والشتاء. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مَرَجَ أرسل الْبَحْرَيْنِ العذب والملح وخلّاهما وخلقهما يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز وحائل من قدرة الله وحكمته لا يَبْغِيانِ لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه، وقال قتادة: لا يَبْغِيانِ على الناس بالغرق، وقال الحسن: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) يعني بحر الروم وبحر الهند واسم الحاجز بينهما، وعن قتادة أيضا: يعني بحر فارس والروم، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) وهو الجزائر، وقال مجاهد والضحاك: يعني بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام. يَخْرُجُ قرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون على الضدّ. مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ أي من البحرين، قال أهل المعاني: إنّما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب، ولكن هذا جائز في كلام العرب ان يذكر شيئا ثم يخصّ أحدهما بفعل دون الآخر، كقول الله سبحانه: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ والرسل من الإنس دون الجن، قاله الكلبي. قال: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وإنما هو في واحدة منهما، وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر اللؤلؤ وهو أعظم من الدر، واحدتها لؤلؤة. وَالْمَرْجانُ وهو صغارها، وقال مرّة: المرجان جيّد اللؤلؤ، وروى السدّي عن أبي مالك أن المرجان الخرز الأحمر، وقال عطاء الخراساني هو البسذ «1» ، يدل عليه قول ابن مسعود: المرجان حجر، والذي حكينا من أن المراد بالبحرين القطر والبحر، وأن الكناية في قوله: (مِنْهُمَا) راجعة إليهما [وهو] قول الضحاك، ورواية عطية عن ابن عباس وليث عن مجاهد. وتصديقهم ما أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدّثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قرأ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال: إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها، فحيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة.
ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدف، فأصابت بعض النواة ولم يصب بعضها فكانت حيث القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة. وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: قرأ أبي على أبي محمد بن الحسن بن علويه القطان من كتابه وأنا اسمع، قال: حدّثنا بعض أصحابنا قال: حدّثني رجل من أهل مصر يقال له: طسم قال: حدّثنا أبو حذيفة عن أبيه عن سفيان الثوري في قول الله سبحانه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ قال: فاطمة وعلي يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال: الحسن والحسين «1» . وروي هذا القول أيضا عن سعيد بن جبير، وقال: بَيْنَهُما بَرْزَخٌ محمد صلّى الله عليه وسلّم ، والله أعلم «2» . وقال أهل الإشارة مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أحدهما معرفة القلب والثاني معصية النفس، بينهما برزخ الرحمة والعصمة. لا يَبْغِيانِ لا تؤثر معصية النفس في معرفة القلب، وقال ابن عطاء: بين العبد وبين الرب بحران: أحدهما بحر النجاة، وهو القرآن من تعلق به نجا، والثاني بحر الهلاك وهو الدنيا من تمسك بها وركن إليها هلك، وقيل: بحر الدنيا والعقبى، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ وهو القبر قال الله سبحانه: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. لا يَبْغِيانِ لا يحل أحدهما بالآخر، وقيل: بحر العقل والهوى بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لطف الله تعالى. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ التوفيق والعصمة، وقيل: بحر الحياة وبحر الوفاة، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ وهو الأجل، وقيل: بحر الحجة والشبهة، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ وهو النظر والاستدلال يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ الحق والصواب. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلَهُ الْجَوارِ السفن الكبار الْمُنْشَآتُ كسر حمزة سينها، وهي رواية المفضل عن عاصم تعني المقبلات المبتديات اللاتي أنشأن بجريهن وسيرهن، وقرأ الآخرون بفتحه أي المخلوقات المرفوعات المسخّرات فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض من حيوان كناية عن غير مذكور كقول الناس: (ما عليها أكرم من فلان) يعنون الأرض، وما بين لابتيها أفضل منه يريدون جزئي المدينة فانٍ هالك، قال ابن عباس: لمّا أنزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض فأنزل الله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فأيقنت الملائكة بالهلاك.
وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ قراءة العامة بالواو، وقرأ عبد الله ذي الجلال بالياء نعت الربّ. أخبرني الحسين احمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الكناني قال: حدّثنا الحرث بن عبد الله قال: أخبرنا عبد الرّحمن بن عثمان الوقاصي، قال: حدّثنا محمد بن كعب القرظي قال: قال عبد الله بن سلام: بعث إلي النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا بن سلام إنّ الله عز وجل يقول: ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فأمّا الإكرام فقد عرفت فما الجلال؟ فقال: بأبي أنت إنّا نجد في الكتب أنّها الجنة المحيطة بالعرش. قال: فكم بينهما وبين الجنات التي يسكن الله عباده؟ قال: مدى سبعمائة سنة، قال: فنزل جبرئيل بتصديقه «1» . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا بن ماهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال: حدّثنا سعيد الجزيري عمّن سمع اللجلاج يقول: سمعت معاذ بن جبل- وكان له أخا وصديقا- قال: سمعته يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرّ برجل يصلّي وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «قد استجيب لك» [166] «2» . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي الخصيب المصيصي قال: حدّثنا هلال بن العلاء قال: حدّثنا أبو الجرار قال: حدّثنا عمار بن زريق عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ألظوا ب (يا ذا الجلال والإكرام) » [167] «3» . واخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب. قال: حدّثنا محمد بن يونس عن بسر بن عمر قال: حدّثنا وهيب بن خالد عن ابن عجلان عن سعيد المنقري قال: الحح رجل فقعد ينادي: يا ذا الجلال والإكرام. فنودي: إني قد سمعت فما حاجتك؟ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من ملك وإنس وجنّ وغيرهم لا غنى لأحد منهم منه- قال ابن عباس: وأهل السموات يسألونه المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة.
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ قال مقاتل: أنزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا، فأنزل الله سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. أخبرني أبو القاسم عبد الرّحمن بن محمد إبراهيم الحوضي قال: أخبرنا أبو أحمد عبد الله ابن عدي الحافظ قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن طويط أبو القاسم البزاز قال: حدّثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي قال: حدّثنا عمر بن بكر قال: حدّثنا حارث بن عبيدة بن رياح الغسّاني عن أبيه عن عبدة بن أبي رياح عن مثبت بن عبد الله الأزدي عن أبيه عن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فقلنا: يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال: «يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين» [168] «1» . وحدّثنا أبو بكر محمد بن احمد بن عبدوس إملاء قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد ابن يحيى البزاز، قال: حدّثنا يحيى بن الربيع المكي قال: حدّثنا سفيان بن عيينة قال: حدّثنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن ممّا خلق الله سبحانه وتعالى لوحا من درّة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، ينظر الله سبحانه فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، فذلك قوله سبحانه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. وقال مجاهد وعبيدة بن عمير: من شأنه أن يجيب داعيا ويعطي سائلا ويفكّ غائبا ويشفي سقيما ويغفر ذنبا ويتوب على قوم، وقال سفيان بن عيينة: الدهر كله عند الله سبحانه يومان: أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة، والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا، الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت. ويقال: شأنه سبحانه أنّه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر: عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام، وعسكرا من الأرحام إلى الدنيا، وعسكرا من الدنيا إلى القبور، ثم يرحلون جميعا إلى الله سبحانه، وقال الربيع بن أنس: يخلق خلقا ويميت آخرين ويرزقهم ويكلؤهم. سويد بن جبلة الفراري: يعتق رقابا ويقحم عقابا ويعطي رغابا، وقال بعضهم: هو الجمع والتفريق. أبو سليمان الداراني: هو إيصاله المنافع إليك، ودفعه المضار عنك. فلم نغفل عن طاعة من لا يغفل عنا؟ وقال أيضا: في هذه الآية كل يوم له إلى العبيد برّ جديد. ويحكى أن بعض الأمراء سأل وزيره عن معنى هذه الآية فلم يعرفه واستمهله إلى الغد، فرجع الوزير إلى داره كئيبا، فقال له غلام أسود من غلمانه: يا مولاي ما أصابك؟ فزجره.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 إلى 38]
فقال: يا مولاي، أخبرني، فلعلّ الله سبحانه يسهّل لك الفرج على يديّ، فأخبره بذلك فقال له: عد إلى الأمير وقل له: إن لي غلاما أسود إن أذنت له فسّر لك هذه الآية، ففعل ذلك ودعا الأمير الغلام وسأله عن ذلك فقال: أيها الأمير شأن الله هو انه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، ويُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا ويغني فقيرا. فقال الأمير: أحسنت يا غلام، قد فرّجت عني. ثم أمر الوزير بخلع ثياب الوزارة وكساها الغلام، فقال: يا مولاي، هذا شأن الله عز وجل. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. [سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 38] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) سَنَفْرُغُ لَكُمْ قرأ عبد الله وأبي (سنفرغ إليكم) ، وقرأ الأعمش بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية، وقرأ الأعرج بفتح النون والراء. قال الكسائي: هي لغة تميم، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الياء وفتح الراء، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فاتبع الخبر الخبر، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الراء، واختاره أبو حاتم. فإن قيل: إن الفراغ لا يكون إلّا عن شغل والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن. قلنا: اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم: هذا وعيد وتهديد من الله سبحانه وتعالى لهم كقول القائل: لأتفرغنّ لك وما به شغل، وهذا قول ابن عباس والضحاك، وقال آخرون: معناه سنقصدكم بعد الترك والإمهال ونأخذ في أمركم، وقد يقول القائل للذي لا شغل له: قد فرغت لي وفرغت لشتمي، أي أخذت فيه وأقبلت عليه. قال جرير بن الخطفي: ولما التقى القين العراقي بأسته ... فرغت إلى القين المقيّد بالحجل «1» أي قصدته بما يسوؤه، وهذا القول اختيار الفندي والكسائي. وقال بعضهم: إن الله سبحانه وعد على التقوى وأوعد على الفجور، ثم قال: سَنَفْرُغُ لَكُمْ مما أوعدناكم وأخبرناكم فنحاسبكم ونجازيكم، وننجز لكم ما وعدناكم، ونوصل كلا إلى ما عدناه، فيتمّ ذلك ويفرغ منه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل وابن زيد، وقال ابن كيسان: الفراغ
للفعل هو التوفر عليه دون غيره. أَيُّهَ الثَّقَلانِ أي الجن والإنس، دليله قوله في عقبه يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ سمّيا ثقلين لأنهما ثقل أحياء وأمواتا، قال الله سبحانه: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قدر ينافس فيه فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النعام: ثقل لأن واجده وصائده يفرح إذا ظفر به قال الشاعر: فتذكّرا ثقلا رثيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر «1» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» [169] «2» فجعلهما ثقلين إعظاما لقدرهما، وقال جعفر الصادق: سمي الجن والانس ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ولم يقل: استطعتما لأنهما فريقان في حال جمع كقوله سبحانه: فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ وقوله سبحانه: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. أَنْ تَنْفُذُوا تجوزوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أطرافها فَانْفُذُوا ومعنى الآية إن استطعتم ان تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا، وانما يقال لهم هذا يوم القيامة، وقال الضحاك: يعني هاربين من الموت، فأخبر أنه لا يجيرهم من الموت ولا محيص لهم منه، ولو نفذوا من أقطار السماوات والأرض كانوا في سلطان الله عز وجل وملكه، وقال ابن عباس: يعني: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا، ولن تعلموه إلّا بسلطان يعني البيّنة من الله سبحانه. لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي حجة. قال ابن عباس وعطاء: لا تخرجون من سلطان، وقيل معناه إلّا إلى سلطاني كقوله وَقَدْ أَحْسَنَ بِي أي أحسن أليّ، وقال الشاعر: أسىء بنا أفأحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت وفي الخبر «يحاط على الخلق الملائكة وبلسان من نار ثم ينادون: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ... فذلك قوله تعالى ... » [170] . يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق بكسر الشين، غيرهما بضمّه، وهما لغتان مثل صوار من البقر، وصوار وهو اللهب، قال حسان بن ثابت يهجو أمية بن أبي الصلت: هجوتك فاختضعت لها بذلّ ... بقافية تأجج كالشواظ «3»
وقال رؤبة: إن لهم من وقعنا أقياظا ... ونار حرب تسعر الشواظا «1» وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب وَنُحاسٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر السين عطفا على النار، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون بالرفع عطفا على الشواظ، واختاره أبو عبيد. قال سعيد بن جبير: النحاس: الدخان، وهي رواية أبي صالح وابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال النابغة: يضيء كضوء سراج السليط ... لم يجعل الله فيه نحاسا «2» قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: السليط: دهن السنام ولا دخان له، وقال مجاهد وقتادة: هو الصفر المذاب يصب على رؤوسهم، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. قال مقاتل: هي خمسة أنهار من صفر ذائب تجري من تحت العرش على رؤوس أهل النار، ثلاثة أنهار على مقدار الليل ونهران على مقدار النهار، وقال عبد الله بن مسعود: النحاس: المهل. ربيع: القطر. الضحّاك: درديّ الزيت. الكسائي: هو الذي له ريح شديدة فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تنتقمان وتمتنعان. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَإِذَا انْشَقَّتِ انفرجت السَّماءُ فصارت أبوابا لنزول الملائكة، بيانه قوله سبحانه: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا فَكانَتْ صارت وَرْدَةً مشرقة، وقيل: متغيّرة، وقيل: بلون الورد. قال قتادة: إنها اليوم خضراء وسيكون لها يومئذ لون آخر كَالدِّهانِ اختلفوا فيه. قال ابن عباس والضحاك وقتادة والربيع: يعني كلون غرس الورد، يكون في الربيع كميتا أصفر، فإذا ضربه أول الشتاء يكون كميتا أحمر، فإذا اشتدّ الشتاء يكون كميتا أغبر، فشبه السماء في تلوّنها عند انشقاقها بهذا الغرس في تلوّنه، وقال مجاهد وأبو العالية: كالدّهن، وهي رواية شيبان عن قتادة، قال: الدهان جمع الدهن، وللدهن ألوان، شبّه السماء بألوانه. [وقال:] عطاء بن أبي رياح: كعصير الزيت يتلوّن في الساعة ألوانا. [وقال:] الحسين بن الفضل: كصبيب الدهن يتلوّن. [وقال:] ابن جريج: تذوب السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم، [وقال:] مقاتل: كدهن الورد الصافي. [وقال] مؤرخ: كالوردة الحمراء، [وقال:] الكلبي: كالأديم الأحمر، وجمعه أدهنة.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 39 إلى 67]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة، قال: حدّثنا ابن أيوب قال: حدّثنا لقمان الحنفي قال أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم على شاب في جوف الليل وهو يقرأ هذه الآية: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ويحي من يوم تنشق فيه السماء، ويحي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا فتى مثلها أو مثّلها، فو الذي نفسي بيده لقد بكت الملائكة يا فتى من بكائك» [171] «1» . [سورة الرحمن (55) : الآيات 39 الى 67] فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قال الحسين وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم، لأن الله سبحانه علمها منهم وحفظها [عليهم] «2» ، وكتبت الملائكة عليهم، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، وعنه أيضا لا يسأل الملائكة [المجرمين] «3» لأنهم يعرفونهم بسيماهم، دليله ما بعده، وإلى هذا القول ذهب مجاهد، وعن ابن عباس أيضا في قوله سبحانه: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله «4» : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قال: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا؟، وقال عكرمة أيضا: مواطن يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها، وعن ابن عباس أيضا: لا يسألون سؤال شفاء وراحة، وانما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ، وقال أبو العالية: لا يسأل غير المذنب عن ذنب المجرم. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ وهو سواد الوجه وزرقة العيون فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فيسحبون إلى النار ويقذفون فيها ثم يقال لهم: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ المشركون. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ قد انتهى خبره، وقال قتادة: آني طبخه منذ خلق الله السموات الأرض، ومعنى الآية أنهم يسعون بين الجحيم وبين الحميم. قال كعب الأحبار: «آن» [وادي] «5» من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم وهم في الأغلال فيغمسون في ذلك الوادي حتى تخلع أوصالهم، ثم يخرجون منها وقد أحدث
الله سبحانه لهم خلقا جديدا، فيلقون في النار فذلك قوله سبحانه: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يدي ربّه، وقيل: قيامه لربه، بيانه قوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وقيل: قيام ربّه عليه، بيانه قوله: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ قال إبراهيم ومجاهد: هو الرجل يهمّ بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافة الله. قال ذو النون: علامة خوف الله أن يؤمنك خوفه من كل خوف، وقال السدّي: شيئان مفقودان الخوف المزعج والشوق المقلق. جَنَّتانِ بستانان من الياقوت الأحمر، والزبرجد الأخضر، ترابهما الكافور والعنبر وحمأتهما المسك الأذفر، كل بستان منهما مسيرة مائة سنة، في وسط كلّ بستان دار من نور. قال محمد بن علي الترمذي: جنة بخوفه ربّه، وجنّة بتركه شهوته. قال مقاتل: هما جنّة عدن وجنّة النعيم، وقال أبو موسى الأشعري: جَنَّتانِ من ذهب للسابقين، وجَنَّتانِ من فضة للتابعين. وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: «هل تدرون ما هاتان الجنتان؟، هما بستانان في بساتين، قرارهما ثابت، وفرعهما ثابت، وشجرهما ثابت» [172] . وأخبرني عقيل إجازة قال: أخبرنا المعافى قراءة قال: أخبرنا محمد بن جرير الطبري قال: حدّثني محمد بن موسى الجرشي قال: حدّثنا عبد الله بن الحرث القرشي قال: حدّثنا شعبة بن الحجاج قال: حدّثنا سعيد الحريري عن محمد بن سعد عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق؟، قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء» [173] «1» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ قال ابن عباس: ألوان، وواحدها فن وهو من قولهم: افتنّ فلان في حديثه إذا أخذ في فنون منه وضروب، قال الضحاك: ألوان الفواكه. مجاهد: أغصان وواحدها فنن. عكرمة: ظل الأغصان على الحيطان. الحسن: ذواتا ظلال، وهو كقوله: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. [قال] الضحاك أيضا: ذواتا أغصان وفصول. قال: وغصونها كالمعروشات تمسّ بعضها بعضا، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. [قال] قتادة: ذواتا فضل وسعة على ما سواهما. [قال] ابن كيسان: ذواتا أصول. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ قال ابن عباس: بالكرامة والزيادة على أهل الجنة، وقال الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل.
عطية: إحداهما مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ والأخرى مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وقيل: إنهما تجريان من جبل من مسك، وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ لمن كانت له في الدنيا عينان تجريان بالبكاء. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان. قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة أو مرّة إلّا وهي في الجنة حتى الحنظل إلّا أنه حلو. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ حال عَلى فُرُشٍ جمع فراش بَطائِنُها جمع بطانة مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو ما غلظ من الديباج وحسن، وقيل: هو إستبر معرب. قال ابن مسعود وأبو هريرة: هذه البطائن فما ظنّكم بالظهائر؟، وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ قال: هذا مما قال الله سبحانه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. وعنه أيضا قال: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وظواهرها من نور جامد، وقال الفرّاء: أراد بالبطائن الظواهر. قال المؤرخ: هو بلغة القبط، وقد تكون البطانة ظهارة والظهارة بطانة لأن كل واحد منهما يكون وجها، تقول العرب: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء للذي يراه، وقال عبد الله ابن الزبير في قتلة عثمان: قتلهم الله شرّ قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب، يعني هربوا ليلا، فجعل ظهور الكواكب بطونا. قال القتيبي: هذا من عجيب التفسير، وكيف تكون البطانة ظهارة، والظهارة بطانة؟ والبطانة من بطن من الثوب، وكان من شأن الناس إخفاؤه، والظهارة ما ظهر منه، ومن شأن الناس إبداؤه، وهل يجوز لأحد ان يقول لوجه المصلي: هذا بطانته، ولما ولي الأرض: هذا ظهارته، لا والله لا يجوز هذا، وانما أراد الله سبحانه وتعالى ان يعرّفنا لطفه من حيث يعلم فضل هذه الفرش، وأن ما ولي الأرض منها إستبرق، وإذا كانت البطانة كذلك فالظهارة أعلى وأشرف، وكذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلّة» [174] «1» . فذكر المناديل دون غيرها لأنها أحسن ويصدّق قول القتيبي ما حكيناه عن ابن مسعود وأبي هريرة، والله أعلم. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ ثمرهما دانٍ قريب يناله القائم والقاعد والنائم
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ غاضات الأعين، قد قصر طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن الى غيرهم ولا يردن غيرهم، قال ابن زيد: تقول لزوجها: وعزّة ربي ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ لم يجامعهنّ ولم يفترعهنّ، وأصله من الدم، ومنه قيل للحائض: طامث، كأنه قال لم يدمهن بالجماع. إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. قال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسمّ انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه فذلك قوله سبحانه: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ أي لم يجامعهن، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا امرأة ماتت بجمع لم تطمث دخلت الجنة» «1» [175] وقال الشاعر: دفعن اليّ لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام «2» قال سهل: من أمسك طرفه في الدنيا عن اللذات عوّض في الآخرة القاصرات، وقال ارطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب: هل للجن من ثواب؟ قال: نعم، وقرأ هذه الآية، قال: فالإنسيّات للإنس والجنيّات للجنّ. كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ قال قتادة: صفاء الياقوت في بياض المرجان. أخبرنا الحسن بن محمد قال: حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال: حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال: حدّثنا سهل بن عثمان العسكري قال: حدّثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن المرأة من أهل الجنّة ليرى بياض ساقها من سبعين حلّة حتى يرى مخّها، إن الله سبحانه وتعالى يقول: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه» [176] «3» . وروى سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: إن المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلّة فيرى مخّ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء «4» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ، (هل) في كلام العرب على أربعة أوجه: الأول: بمعنى (قد) كقوله: هَلْ أَتى «5» وهَلْ أَتاكَ «6» .
والثاني: بمعنى الاستفهام، كقوله سبحانه: فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا «1» . والثالث: بمعنى الأمر، كقوله سبحانه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «2» . والرابع: بمعنى (ما) الجحد، كقوله سبحانه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ «3» ، وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة وابن حمدان والفضل بن الفضل والحسن بن علي ابن الفضل قالوا: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام قال: حدّثنا الحجاج بن يوسف المكتب قال: حدّثنا بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قال: «هل تدرون ما قال ربكم عزّ وجل؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلّا الجنّة» [177] «4» . وحدّثنا أبو العباس بن سهل بن محمد بن سعيد المروزي لفظا بها قال: حدّثنا جدي أبو الحسن محمد بن محمود بن عبيد الله، قال: أخبرنا عبد الله بن محمود، قال: حدّثنا محمّد بن مبشر، قال: حدثنا إسحاق بن زياد الأبلي قال: حدّثنا بشر بن عبد الله الدارمي، عن بشر بن عبادة عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: سمعت ابن عمر وابن عباس يقولان: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ يقول الله سبحانه: هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلّا أن أسكنه جنّتي وحظيرة قدسي برحمتي» [178] «5» . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عبد الملك بن محمد بن عدي قال: حدّثنا صالح بن شعيب الخواص ببيت المقدس قال: حدّثنا عبيدة بن بكار قال: حدّثنا محمد بن جابر اليمامي عن ابن المكندر هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ قال: هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام إلّا الجنّة، وقال ابن عباس: هل جزاء من عمل في الدنيا حسنا، وقال: لا إله إلّا الله، إلّا الجنّة في الآخرة، هل جزاء الذين أطاعوني في الدنيا إلّا الكرامة في الآخرة، وقال الصادق: «هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلّا حفظ الإحسان عليه إلى الأبد» ، وقال محمد ابن الحنفية والحسن: هي مسجلة للبر والفاجر [للفاجر] «6» في دنياه وللبرّ في آخرته. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وَمِنْ دُونِهِما يعني: ومن دون الجنتين الأولتين جَنَّتانِ
[سورة الرحمن (55) : الآيات 68 إلى 78]
أخريان، واختلف العلماء في معنى قوله وَمِنْ دُونِهِما، فقال ابن عباس: وَمِنْ دُونِهِما في الدرج، وقال ابن زيد: وَمِنْ دُونِهِما في الفضل، قال ابن زيد: هي أربع: جنتان للمقرّبين السابقين فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ، وجنّتان لأصحاب اليمين والتابعين، فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ، وقال أبو معاذ الفضل بن يحيى: أراد غيرهما لأنهما دون الأوليين، وقال الكسائي: يعني أمامهما وقبلهما، كقول الشاعر: رب خرق من دونها يخرس السفر ... وميل يفضي إلى أميال «1» أي قبل الفلاة الأولى، ودليل هذا التأويل قول الضحاك: الجنتان الأوليان من ذهب وفضة، والأخريان من ياقوت وزمرد، وهما أفضل من الأوليين. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُدْهامَّتانِ ناعمتان سوداوان من ريّهما وشدّة خضرتهما لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد، قال ذو الرمّة: كسا الأكم بهمي غضة حبشية ... تواما ونقعان الظهور الأقارع «2» فجعلها حبشية لما اشتدّت خضرتها، وقيل ملتقيان. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ ممتلئتان قبّاضتان فوّارتان بالماء لا ينقطعان، وقال الحسن بن أبي مسلمد ينبعان ثم يجريان، وقال ابن عباس: تنضحان بالخير والبركة على أهل الجنة، [وقال] ابن مسعود: تنضخان على أولياء الله بالمسك والكافور. سعيد ابن جبير: ضَّاخَتانِ بالماء وألوان الفواكه. أنس بن مالك: تنضخ المسك والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ طش المطر، وأصل النضخ الرش، وهو أكثر من النضخ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. [سورة الرحمن (55) : الآيات 68 الى 78] فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ كأنما أعاد ذكر النخل والرمان وهما من حملة الفاكهة للتخصيص والتفضيل، كقوله: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ثم قال: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة، قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا سحاب بن الحرث قال: أخبرنا علي بن مسير عن مسيعر عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة قال: إن نخل الجنّة نضدها ما بين أصله إلى فرعه، وثمره كأمثال القلال، كلّما نزعت عادت مكانها أخرى، العنقود منها اثنا عشر ذراعا، وأنهارها تجري في غير أخدود. قال: قلت: من حدّثك؟ قال: أما إنّي لم اخترعه، حدّثني مسروق. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كجلد البعير المقتب، وإذا طيرها كالبخت، وإذا فيها جارية، قلت: يا جارية، لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة، وإذا في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» [179] «1» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قال الكسائي: ذكر الله سبحانه وتعالى الجنتين والجنتين ثم جمعهن فقال: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ قرأ العامة بالتخفيف، وقرأ أبو رجاء العطاردي (خيّرات) بتشديد الياء. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خنيس قال: حدّثنا ابن مجاهد قال: حدّثنا الصاغاني قال: حدّثنا عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أنه قرأ (فيهن خيّرات) بالتشديد، وهما لغتان مثل (هين وهيّن، ولين وليّن) . وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثنا أحمد بن عبد الرّحمن
ابن وهب قال: حدّثنا محمد بن الفرج الصدفي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام ابن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قال: قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخبرني عن قوله سبحانه: خَيْراتٌ حِسانٌ قال صلّى الله عليه وسلّم: «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» [180] «1» . وقال الحسن: خيرات فاضلات. إسماعيل بن أبي خالد: عذارى. جرير بن عبد الله: مختارات. وقال المفسّرون: خيرات لسن بذربات ولا ذفرات ولا نجرات ولا متطلّعات ولا متشوّقات ولا متسلطات ولا طمّاحات ولا طوّافات في الطرق، ولا يغرن ولا يؤذين. وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا حامد بن شعيب البخلي قال: حدّثنا سريح بن يونس قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة عن سلام بن مسكر عن قتادة عن عقبة بن عبد الغفّار قال: نساء أهل الجنة يأخذ بعضهن بأيدي بعض ويتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها: نحن الراضيات فلا نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا، ونحن خَيْراتٌ حِسانٌ حبينا لأزواج كرام. وروى الأسود عن عائشة رضي الله عنها: أن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصلّيات وما صلّيتن، ونحن الصائمات وما صمتنّ، ونحن المتوضّئات وما توضأتنّ، ونحن المتصدّقات وما تصدقتنّ. قالت عائشة: فغلبتهنّ والله. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ محبوسات مستورات في الحجال. يقال للمرأة: قصيرة وقصورة ومقصورة إذا كانت مخدّرة مستورة لا تخرج. قال الشاعر: وأنت التي حببت كل قصيرة ... إليّ وما تدري بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطى شر النساء البحاتر «2» [الراجز] وقيل: قصر بهنّ على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا. أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن شاذان، حدّثنا القطان «3» ، حدّثنا ابن حسان حدّثني نصر
العطار، أخبرنا عمر بن سعد عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن حوراء بزقت في بحر [لجي] لعذب ذلك البحر من عذوبة ريقها» [181] «1» . فِي الْخِيامِ جمع الخيم، قال ابن مسعود: لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلا، وتصديق هذا التفسير، ما أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا ابن شنبه، حدّثنا الفراتي، حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا همام بن يحيى عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عبد أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون» [182] «2» . وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن يحيى بن طلحة اليربوعي، حدّثنا فضل بن [عياض] «3» ، عن هشام عن محمد عن ابن عباس في قوله: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ قال: الخيمة لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب «4» . أخبرني الحسين، حدّثنا عبد الله بن [....] «5» حدّثنا [....] «6» أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني، محمد بن موسى القرشي، حدّثنا حماد بن هلال السكري، حدّثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مررت ليلة أسري بي بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه: السلام عليك يا رسول الله. فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جوار من الحور العين استأذنّ ربهنّ في أن يسلّمن عليك فأذن لهن، فقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نيأس «7» [أبدا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا] أزواج رجال كرام ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. قال: «محبوسات» [183] «8» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ يمسسهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قرأه العامة بكسر الميم وهي إختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
وقرأ أبو يحيى الشامي وطلحة بن مصرف: بالضم فيهما، وكان الكسائي يكسر إحداهما ويضم الأخرى مخيّرا في ذلك، والعلة فيه ما أخبرني أبو محمد شيبة بن محمد المقري، أخبرني أبو عمرو محمد بن محمد بن عبدوس حدّثني ابن شنبوذ أخبرني عياش بن محمد الجوهري، حدّثنا أبو عمر الدوري عن الكسائي قال: إذا رفع الأول كسر الآخر، وإذا رفع الآخر كسر الأول. قال: وهي قراءة أبي إسحاق السبيعي. قال: قال أبو إسحاق: كنت أصلي خلف أصحاب علي بن أبي طالب فأسمعهم يقرءون (يَطْمِثْهُنَّ) بكسر الميم، وكان الكسائي يقرأ واحدة برفع الميم والأخرى بكسر الميم لئلا يخرج من هذين الأثرين، وهما لغتان. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ قال سعيد بن جبير: هي رياض الجنة خضر مخضّبة. وروي ذلك عن ابن عباس. واحدتها رفرفة والرفارف جمع الجمع. وروى العوفي عن ابن عباس قال: الرفرف: فضول المجالس البسط. عيره عنه: فضول الفرش والمجالس. قتادة والضحّاك: محابس خضر فوق الفرش. الحسن والقرظي: البسط. ابن عيينة: الزرابي. ابن كيسان: المرافق وهي رواية. قتادة عن الحسن وأبو عبيدة: حاشية الثوب وغبره: واكل ثوب عريض عند العرب فهو رفرف. قال ابن مقبل: وإنا لنزّالون نغشى نعالنا ... سواقط من أصناف ريط ورفرف وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ وهي الزرابي والطنافس الثخان وهي جمع، واحدتها عبقرية. وقد ذكر عن العرب أنها تسمى كل شيء من البسط عبقريا «1» . قال قتادة: العبقري عتاق الزرابي، وقال مجاهد: هو الديباج. أبو العالية: الطنافس المخمّلة إلى الرقة [ما هي] «2» . الحسن: الدرانيك يعني [الثخان] «3» ، القتيبيّ: كل ثوب موشى عند العرب عبقري. قال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي. قال ذو الرمّة:
حتى كأن رياض القف ألبسها ... من وشي عبقر تجليل وتنجيد «1» قال: ويقال: إن عبقر أرض يسكنها الجن. قال الشاعر [زهير] : بخيل عليها جنة عبقرية ... جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا «2» وقال قطرب: ليس هذا بمنسوب. وكل جليل فاضل فاخر من الرجال [وغيرهم] عند العرب عبقري، ومنه الحديث في عمر: فلم أر عبقريا يفري فرّيه. حدّثنا أبو محمد الحسن بن علي بن المؤمل بقراءتي عليه، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدّثنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصغاني «3» ، حدّثنا الحسين بن محمد، ح. وأخبرني الحسين، حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي، حدّثنا محمد بن إبراهيم بن ناصح، حدّثنا أحمد بن زهير بن حرب، حدّثنا أبو أحمد الحسين بن محمد الزوزني الأرطباني وهو ابن عم عبد الله بن عون عن عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ (متكئين على رفرف خضر وعباقري حسان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام) بالواو، شامي وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون: (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) .
سورة الواقعة
سورة الواقعة مكية، وهي ألف وسبعمائة وثلاثة أحرف وثلاثمائة وثمان وسبعون كلمة وست وتسعون آية أخبرنا أبو الحسين الخبازي عن مرة، عن الشيخ الحافظ ابن أبي عاصم، حدّثنا عمرو بن عثمان، حدّثنا أبو بكر العطار، حدّثنا السدي بن يحيى عن شجاع عن أبي طيبة الجرجاني قال: دخل عثمان بن عفان على عبد الله بن مسعود يعوده في مرضه الذي مات فيه فقال: ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: أشتهي رحمة ربي. قال: أفلا ندعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: أفلا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي به. قال: أندفعه إلى بناتك؟ قال: لا حاجة لهنّ بها قد أمرتهنّ أن يقرأن سورة الواقعة، وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» [184] «1» . وأخبرني محمد بن القاسم، حدّثنا عبد الله بن أحمد الشعراني، حدّثنا أحمد بن علي بن رزين، حدّثنا أحمد بن عبد الله العتكي، حدّثنا جرير عن منصور عن هلال بن سياف عن مسروق قال: من أراد أن يتعلم نبأ الأولين والآخرين، ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة فليقرأ سورة الواقعة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي إذا نزلت صبيحة القيامة وتلك النفخة الأخيرة لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ تكذيب ذكره سيبويه، وهو اسم كالعافية والنازلة والعاقبة، عن الفراء. قال الكسائي: هي
بمعنى الكذب كقوله لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي لغوا، ومنه قول العامة: عائذ بالله أي معاذ الله، وقم قائما أي قياما. ولبعض نساء العرب ترقص ابنها: قم قائما قم قائما ... أصبت عبدا نائما خافِضَةٌ أي هي خافضة رافِعَةٌ تخفض قوما إلى النار وترفع آخرين إلى الجنة. وقال عكرمة والسدي ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني أنها أسمعت القريب والبعيد، ورفعت قوما كانوا مذللين فرفعتهم إلى أعلى عليين ووضعت قوما كانوا في الدنيا مرتفعين فوضعتهم إلى أسفل سافلين. ابن عطاء: خفضت قوما بالعدل ورفعت قوما بالفضل. إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي رجفت وزلزلت وحركت تحريكا من قولهم: السهم يرتجّ في الغرض، بمعنى يهتز ويضطرب. قال الكلبي: وذلك أن الله عزّ وجل إذا أوحى إليها اضطربت فرقا. وقال المفسرون: ترجّ كما يرجّ الصبي في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها. وأصل الرجّ في اللغة التحريك يقال: رججته فارتجّ [فارتضى عنقه] ورجرجته فترجرج. وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي حثّت حثّا وفتت فتا فصارت كالدقيق المبسوس، وهو المبلول والبسبسة عند العرب الدقيق أو السويق يلتّ ويتخذ زادا. وذكر عن لصّ من غطفان أنه أراد أن يخبز فخاف أن يعجّل عن الخبز فقال لا تخبزا خبزا وبسّا بسّا ولا تطيلا بمناخ حبسا. وقال عطاء: أذهبت إذهابا قال سعيد بن المسيب والسدي: كسرت كسرا. الكلبي: سيّرت عن وجه الأرض تسييرا. مجاهد: لتّت لتّا. الحسن: قلعت من أصلها فذهبت بعد ما كانت صخرا صماء: نظيرها فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً «1» . عطية: بسطت بسطا كالرمل والتراب. ابن كيسان: جعلت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة طويلة.
فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا قال ابن عباس: شعاع الشمس حين يدخل من الكوّة. علي رضي الله عنه: رهج الدوابّ «1» . عطية: ما تطاير من شرر النار، قتادة: حطام الشجر. وقراءة العامة: مُنْبَثًّا بالثاء أي متفرقا، وقرأ النخعي بالتاء أي منقطعا. وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أصنافا ثَلاثَةً ثم بيّن من هم فقال عز من قائل: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وهم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. وقال ابن عباس: وهم الذين كانوا على يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه. وقال الله [إن] «2» هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الضحّاك: هم الذين يعطون كتبهم بإيمانهم. وقال الحسن والربيع: هم الذين كانوا ميامين مباركين على أنفسهم، وكانت أعمارهم في طاعة الله عزّ وجل، وهم التابعون بإحسان. ثم عجّب نبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وهذا كما يقال: زيد ما زيد، يراد زيد شديد. وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أي الشمال، والعرب تسمي اليد اليسرى شؤمى. قال الشاعر: السهم والشرى «3» في شؤمى يديك لهم ... وفي يمينك ماء المزن «4» والضرب «5» ومنه الشام واليمن لأن اليمن عن يمين الكعبة والشام عن شمالها إذا [دخل الحجر] «6» تحت الميزاب. وهم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. وقيل: هم الذين كانوا على شمال آدم عند إخراج الذرية، وقال الله لهم هؤلاء في النار ولا أبالي.
وقيل: هم الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. وقال الحسن: هم المشائيم على أنفسهم، وكانت أعمارهم في المعاصي. ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ قال ابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين دليله قوله وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ. أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن حمران، حدّثنا أبي، حدّثنا محمد بن داود الدينوري، حدّثنا [.....] «1» عن ابن بن الجارود عن عبد الغفور ابن أبي الصباح عن ابن علي، عن كعب في قول الله عزّ وجل: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ قال: هم أهل القرآن وهم المتوجون يوم القيامة. وأخبرني الحسين، حدّثنا موسى بن محمد بن علي، حدّثنا أبو شعيب، حدّثنا عبد الله بن الحسن الحراني، حدّثنا يحيى بن عبد الله البابلتي، حدّثنا الأوزاعي قال: سمعت عثمان بن أبي سودة يقول: السَّابِقُونَ أولهم رواحا إلى المسجد وأولهم خروجا في سبيل الله عزّ وجل. وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن ماجة، حدّثنا ابن أيوب، حدّثنا عبد الله بن أبي زياد، حدّثنا سياد بن حاتم، حدّثنا عبد الله بن شميط قال: سمعت أبي يقول: الناس ثلاثة: فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج عن الدنيا فهذا السابق المقري، ورجل ابتكر عمره بالذنوب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبة فهذا صاحب يمين، ورجل ابتكر الشر في حداثته ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال. وقال ابن عباس: السَّابِقُونَ إلى الهجرة هم السابقون في الآخرة. وقال علي بن أبي طالب: إلى الصلوات الخمس. عكرمة: إلى الإسلام. الضحاك: إلى الجهاد. القرظي: إلى كل خير. سعيد بن جبير: هم المسارعون إلى التوبة وإلى أعمال البر. نظيره وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2» سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «3» . ثم أثنى عليهم فقال عزّ من قائل أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ الربيع عن أنس: السَّابِقُونَ إلى إجابة الرسول في الدنيا، وهم السابقون إلى الجنة في العقبى. ابن كيسان: السَّابِقُونَ إلى كل ما دعا الله سبحانه وتعالى إليه. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ إلى الله فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 إلى 29]
أخبرني الحسين، حدّثنا علي بن إبراهيم بن موسى الموصلي، حدّثنا محمد بن مخلد العطار، محمد بن إسماعيل، حدّثنا وكيع، حدّثنا شعبة ومسعر عن سعد بن إبراهيم عن عروة بن الزبير قال: كان يقال «1» : تقدموا تقدموا. وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن ماجة، حدّثنا ابن أيوب، حدّثنا القطواني، حدّثنا سيار، حدّثنا جعفر حدّثني عوف حدّثني رجل من أهل الكوفة قال: بلغني أنه إذا خرج رجل من السابقين المقربين من مسكنه في الجنة كان له ضوء يعرفه من دونه فيقول: هذا ضوء رجل من السابقين المقربين. [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 29] ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) ثُلَّةٌ جماعة مِنَ الْأَوَّلِينَ أي الأمم الماضية وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مرمولة منسوجة مشبكة بالذهب والجواهر، قد اتّصل بعضها في بعض، كما توضن حلق الدرع [......] «2» بعضها في بعض مضاعفة. ومنه قول الأعشى: ومن نسج داود موضونة ... تساق مع الحيّ عيرا فعيرا «3» وقال أيضا: وبيضاء كالنهي موضونة لها ... قونس فوق جيب البدن «4» ومنه وضين الناقة وهو البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفا كحلق الدرع. قال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت. وقال الضحاك: مَوْضُونَةٍ مصفوفة، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. يقال: آجر موضون إذا صفّ بعضها على بعض.
مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ في الزيارة لا ينظر بعضهم في قفا بعض يَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة وِلْدانٌ غلمان مُخَلَّدُونَ أي لا يموتون عن مجاهد، وقال الكلبي: لا يهرمون ولا يكبرون ولا ينقصون ولا يتغيرون، وليس كخدم الدنيا يتغيرون من حال إلى حال. ابن كيسان: يعني [ولدانا مخلدين] «1» لا يتحولون من حالة إلى حالة، عكرمة: منعمون. سعيد بن جبير: مقرّطون. قال المؤرّخ: ويقال للقرط الخلد. قال الشاعر: ومخلدات باللجين كأنما ... أعجازهن أفاوز الكثبان «2» وقال علي والحسن: «هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها، لأن الجنة لا ولادة فيها» «3» . وفي الحديث: «أطفال الكفار خدم أهل الجنة» «4» . بِأَكْوابٍ جمع كوب وَأَبارِيقَ جمع إبريق، سمي بذلك لبريق لونه وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ خمر جارية لا يُصَدَّعُونَ عَنْها لا تصدّع رؤوسهم عن شربها وَلا يُنْزِفُونَ وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ يختارون ويشتهون. أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن حبش، حدّثنا ذكّار، حدّثنا هناد، حدّثنا أبو معونة عن عبيد الله بن الوليد عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة، فيجيء فيقع على صحيفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض، فيخرج من كل ريشة لون أبيض من الثلج والبرد وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه ثم يطير فيذهب» [185] «5» . وَحُورٌ عِينٌ قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي والمفضل بكسر الواو والنون أي وبحور عين، أتبعوا الآخر الأول في الا عراب على اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لأن الحور لا يطاف بهنّ، كقول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا «6»
والعين لا تزجج وإنما تكحل. وقال الآخر: متقلدا سيفا ورمحا، ومثله كثير. وقرأ إبراهيم النخعي واشهب العقيلي: (وحورا عينا) بالنصب، وكذلك هو في مصحف أبيّ، على معنى: ويزوّجون حورا عينا. وقال الأخفش: رفع بخبر الصفة، أي لهم حور عين. وقيل: هو ابتداء وخبره فيما بعده. أخبرنا الحسين، حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن بشير ابن يوسف بن النضر، حدّثنا بكر بن سهل الدمياطي، حدّثنا عمرو بن هاشم، حدّثنا سليمان بن أبي كرعة، عن هشام بن حسان، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزّ وجل حُورٌ عِينٌ؟ قال: «حور بيض عين ضخام العيون» [186] «1» . أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا ابن صقلاب، حدّثنا أبو بكر بن أبي الخصيب حدّثني محمد بن غالب حدّثنا الحرث بن خليفة، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلق الحور العين من الزعفران» [187] «2» . وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن يودة، حدّثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك البزاز، حدّثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن بنت شرحبيل، حدّثنا خالد بن يزيد، عن أبي مالك، عن أبيه عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد يدخل الجنة إلّا وهو يزوّج ثنتين وسبعين زوجة، ثنتين من الحور العين وسبعين من ميراثه من أهل النار، وليس منهن امرأة إلّا ولها قبل شهيّ وله ذكر لا ينثني» [188] «3» . وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن محمد بن علي، حدّثنا عثمان بن نصر البغدادي، حدّثنا محمد بن مهاجر أبو حنيف، حدّثنا حلبس بن محمد الكلابي، حدّثنا سفيان الثوري، عن منصور أو المغيرة، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يسطع نور في الجنة فقالوا: ما هذا؟ قالوا: ضوء ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها» [189] «4» . وروي أن الحوراء إن مشت سمع تقديس الخلاخيل من ساقيها وتمجيد الأسورة من ساعديها، وإن عقد الياقوت يضحك من نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكها من لؤلؤ تصرّان بالتسبيح.
وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول: اخطب زوجة [لا تسلبها] منك المنايا، وأعرس بها في دار لا يخربها دوران البلايا وشبّك لها حجلة لا تحرقها نيران الرزايا. وقال مجاهد: سميت حورا لأنه يحار فيهن الطرف. كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ المخزون في الصدف الذي لم تمسّه الأيدي جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً في نصبهما وجهان: أحدهما: إتباع للقيل. والثاني: على «1» (يسمعون سلاما) ، ثم رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة فقال وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ لا شوك فيه، كأنه خضّد شوكها أي قطع ونزع. ومنه الحديث في المدينة: «لا يخضد شوكها ولا يعصر شجرها» «2» وهذا قول ابن عباس وعكرمة وقسامة بن زهير. وقال الحسن: لا تعقر الأيدي. قتادة: هو الذي لا يرد اليد منها شوك ولا بعد. وقال الضحّاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: هو الموقر حملا. قال سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من الفلال. وقال ابن كيسان: هو الذي لا أذى فيه. قال: وليس شيء من ثمر الجنة في غلف كما تكون في الدنيا من الباقلاء وغيره، بل كلها مأكول ومشروب ومشموم ومنظور إليه. قال أبو العالية والضحّاك: نظر المسلمون إلى وجّ وهو واد مخصب بالطائف، وأعجبهم سدرها. وقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فأنزل الله عزّ وجل وَطَلْحٍ وموز واحدتها طلحة، عن أكثر المفسرين. وقال الحسن: ليس هو موزا ولكنه شجر له ظلّ بارد طيب. وقال الفراء وأبو عبيدة: الطلح عند العرب شجر عظام لها شوك. قال بعض الحداة: بشرها دليلها وقالا ... غدا ترين الطلح والجبالا
[سورة الواقعة (56) : الآيات 30 إلى 37]
وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن حيان، حدّثنا ابن مروان، حدّثنا أبي، حدّثنا إبراهيم بن عيسى، حدّثنا علي بن علي قال: زعم أبو حمزة الثمالي عن الحسن مولى الحسن بن علي أن عليا قرأ: وطلع منضود. وأنبأني عقيل، أنبأنا المعافي محمد بن جرير، حدّثنا سعيد بن يحيى، حدّثنا أبي، حدّثنا مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن سعد قال: قرأ رجل عند علي رضي الله عنه وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فقال علي: «وما شأن الطلح؟ إنما هو طلع منضود» «1» ثم قرأ «طَلْعٌ [نَضِيدٌ] منضود» . فقلت: إنها في المصحف بالحاء فلا تحوّلها؟ فقال: «إن القرآن لا يهاج [اليوم] ولا يحوّل» «2» . والمنضود: المتراكم الذي قد نضد بأكمله من أوله إلى آخره، ليست له سوق بارزة. قال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أغصانها ثمر كله. [سورة الواقعة (56) : الآيات 30 الى 37] وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ دائم لا تسخنه الشمس. قال الربيع: يعني ظل العرش. عمرو بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة. قال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل، وللشيء الذي لا ينقطع: ممدود. قال لبيد: غلب العزاء وكنت غير مقلب ... دهر طويل دائم ممدود «3» حدّثنا أبو محمد مهدي بن عبد الله بن القاسم بن الحسن العلوي إملاء في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، حدّثنا أبو بكر جعفر بن محمد الحجاج حدّثني محمد بن يونس الكديمي، حدّثنا أبو عامر العقدي، حدّثنا زمعة بن صالح عن سلمة عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَظِلٍّ مَمْدُودٍ قال: شجرة في الجنة على ساق يخرج إليها أهل الجنة، أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في أصلها ويتذكر بعضهم ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله عزّ وجل عليها ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا.
وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا محمد بن حبيش بن عمر المقرئ، حدّثنا ذكار بن الحسن، حدّثنا هناد بن السري، حدّثنا عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، اقرءوا إن شئتم قول الله عزّ وجل: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» [190] «1» . وَماءٍ مَسْكُوبٍ مصبوب يجري دائما في غير أخدود لا ينقطع. أخبرني الحسين، حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدّثنا محمد بن موسى الحلواني، حدّثنا خزيمة بن أحمد الباوردي، حدّثنا إسحاق بن إسماعيل، حدّثنا الحسين بن علي الجعفي، حدّثنا مزاحم بن داود بن علبة «2» قال: مات أخ لي وكان بارا بأمّه فرأيته فيما يرى النائم فقلت له: أي أخي إن أخاك يحب أن يعلم إلى أي شيء صرت؟ فقال لي: أنا فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ بالأزمان وَلا مَمْنُوعَةٍ بالأثمان. وقال القتيبي: لا محظور عليها كما يحظر على بساتين الدنيا. وقيل: لا تنقطع الثمرة إذا جنيت، بل تخرج مكانها مثلها. أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن شيبة، حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا محمد بن حسان الأزرق، حدّثنا ريحان بن سعيد، حدّثنا عباد بن كثير عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما قطعت من ثمار الجنة إلّا أبدل الله مكانها ضعفين» [191] . وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أخبرنا أبو علي بن أبي عمرو الجيري الجرشي، حدّثنا أبي، حدّثنا الحسن بن هارون، حدّثنا عمار بن عبد الجبار، حدّثنا رشيد، ح «3» . وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا ابن حبش، حدّثنا أبو عبد الرحمن الشائي، حدّثنا أبو كريب، حدّثنا رشد بن سعد عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قال: «إن ارتفاعها لكما بين السماء والأرض، وإن ما بين السماء والأرض لمسيرة خمسمائة عام» [192] «4» .
وقال أبو امامة الباهلي: لو طرح فراش من أعلاها إلى أسفلها لم يستقر إلّا بعد سبعين خريفا. وقال علي بن أبي طالب: مَرْفُوعَةٍ على الأسرة. وقيل: إنه أراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا على الاستعارة، لأن الفرش محل للنساء مَرْفُوعَةٍ رفعن بالجمال والفضل على نساء أهل الدنيا. ودليل هذا التأويل قوله في عقبه إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عذارى عُرُباً عرائس متحببات إلى أزواجهن. قاله الحسن وقتادة وسعيد بن جبير وهي رواية الوالبي عن ابن عباس وعكرمة عنه ملقة. وقال عكرمة: غنجة. ابن بريدة: الشركلة بلغة مكة. والمغنوجة بلغة المدينة. وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الحافظ، حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدّثنا عبيد الله بن ثابت بن أحمد، حدّثنا أبو سعيد الأشج، حدّثنا ابن يمان عن اسامة بن زيد عن أبيه عُرُباً قال: حسنات الكلام. وأخبرني أبو عبد الله الحافظ أحمد بن محمد بن إسحاق السنيّ، حدّثنا حامد بن شعيب البلخي، حدّثنا سريج بن يونس، هشام، حدّثنا مغيرة عن عثمان عن تيم بن حزام قال: هي الحسنة التبعل وكانت العرب تقول للمرأة إذا كانت حسنة التبعل إنها لعربة واحدتها عروب. أَتْراباً مستويات في السنّ. عن ابن فنجويه، حدّثنا ابن شنبه، الفراتي، حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم، طوله ستون ذراعا في سبعة أذرع» «1» [193] . قال المفسرون: هذه صفات نساء الدنيا ومعنى قوله أَنْشَأْناهُنَّ خلقناهن بعد الخلق الأول، وبهذا جاءت الأخبار. أخبرني الحسين، محمد بن الحسن الثقفي، حدّثنا محمد بن الحسن بن علي اليقطيني، حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي، حدّثنا صفوان بن صالح، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا عبد العزيز بن الحصين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عائشة وعندها عجوز من بني عامر فقال: «من هذه العجوز عندك يا عائشة؟» قالت: إحدى خالاتي يا رسول الله فقال: «إن الجنة لا تدخلها عجوز» فبلغ ذلك من
العجوز كل مبلغ، فلما رجع النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكرت له عائشة ما لقيت العجوز فقال: «إنها إذا دخلت الجنة أنشئت خلقا آخر» [194] «1» . وأخبرني الحسين، حدّثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي، حدّثنا أبو علي الحسين بن إسماعيل الفارسي نزيل بخارى، حدّثنا عيسى بن عمرو بن [ميمون] البخاري حدّثنا المسيب بن إسحاق، حدّثنا عيسى بن موسى غنجار، حدّثنا إسماعيل بن أبي زياد عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أم سلمة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم إنها قالت: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً. فقال: «يا أم سلمة، هن اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا عمشا رمصا جعلهن الله عزّ وجل بعد الكبر أَتْراباً على ميلاد واحد في الاستواء» [195] «2» . وأخبرني الحسين بن محمد، حدّثنا موسى بن محمد، حدّثنا الحسن بن علوية، حدّثنا إسماعيل بن عيسى، حدّثنا المسيب بن شريك إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. قال: هنّ عجائز الدنيا أنشأهن الله عزّ وجل خلقا جديدا، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا، فلما سمعت عائشة قالت: وا وجعا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس هناك وجع» [196] «3» . وأخبرني الحسين، حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي أبو مسلم الكجيّ، حدّثنا حجاج، حدّثنا مبارك، حدّثنا الحسن بن أبي الحسن إن امرأة عجوزا [كبيرة] «4» أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة. قال: «يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها العجائز» فولت وهي تبكي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخبروها ليست يومئذ بعجوز «5» فإن الله عزّ وجل قال إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً» [197] «6» . وبإسناد المسيب، حدّثنا عبد الرحمن الأفريقي عن سعد بن مسعود قال: إذا دخلت الجنة نساء الدنيا فضّلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا. وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن الطيب، حدّثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن
[سورة الواقعة (56) : الآيات 38 إلى 78]
منصور، حدّثنا أبو بكر محمد بن سليمان بن الحرث الواسطي ببغداد، حدّثنا خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي، حدّثنا سفيان الثوري عن يزيد بن ابان عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً قال: «عجائزكنّ في الدنيا عمشا رمصا فجعلهن إبكارا» «1» . وقيل هي الحور العين. أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا عمر بن الخطاب، حدّثنا محمد بن عبد العزيز بن عبد الملك العثماني، حدّثنا العباس، حدّثنا الوليد عبد الله بن هارون عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلق الحور العين من تسبيح الملائكة فليس فيهن أذى» «2» [198] قال الله عزّ وجل إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً عواشق لأزواجهن أَتْراباً. [سورة الواقعة (56) : الآيات 38 الى 78] لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني من الأمم الماضية وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. أخبرني الحسين، حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق، حدّثنا محمد بن الوليد القرشي وعيسى بن المساور واللفظ له قالا: حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا عيسى بن موسى أبو محمد وغيره، عن عروة بن دويم قال: لما أنزل الله عزّ وجل على رسوله ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ بكى عمر رضي الله عنه فقال: يا نبي الله ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ؟ آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منّا قليل فأنزل الله عزّ وجل ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فدعا رسول الله عمر فقال: «يا بن الخطاب قد أنزل الله عز وجل فيما قلت، فجعل: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ. فقال عمر: رضينا عن ربنا ونصدق نبينا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آدم إلينا ثلة ومني إلى [يوم] القيامة ثلة ولا يستتمها إلّا سودان من رعاة الإبل من قال لا إله إلّا الله» [199] «1» . وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن محمد بن جرير، حدّثنا بشر، حدّثنا يزيد، حدّثنا سعيد عن قتادة قال الحسن: حدّثني عمر بن أبي حصين عن عبد الله بن مسعود قال: تحدثنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة حتى أكرينا الحديث ثم رجعنا إلى أهلنا فلما أصبحنا غدونا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عرضت عليّ الأنبياء الليلة بأتباعها من أمتها، وكان النبي يجيء معه الثلاثة من أمته والنبي معه العصابة من أمّته والنبي معه النفر من أمّته والنبي معه الرجل من أمته والنبي ما معه من أمّته أحد حتى أتى موسى في كبكبة بني إسرائيل، فلما رأيتهم أعجبوني فقلت: أي رب من هؤلاء؟ قيل: هذا أخوك موسى بن عمران ومن حفه من بني إسرائيل. قلت: ربي فأين أمتي؟ قيل: انظر عن يمينك فإذا ظراب «2» مكة قد سدّت بوجوه الرجال. فقلت: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء أمّتك أرضيت؟ فقلت: رب رضيت، قيل: انظر عن يسارك فإذا الأفق قد سدّ بوجوه الرجال. فقلت: رب من هؤلاء؟ قيل: هؤلاء أمتك أرضيت؟ قلت: رب رضيت، فقيل: إن مع هؤلاء سبعين ألفا من أمتك يدخلون الجنة. لا حساب عليهم. قال: فأنشأ كاشة بن محصن- رجل من بني أسد بن خزيمة فقال: يا نبي الله ادع ربك أن يجعلني منهم فقال: «اللهم اجعله منهم» ثم أنشأ رجل آخر فقال: يا نبي الله ادع ربك أن يجعلني منهم. قال: «سبقك بهما عكاشة» . فقال صلّى الله عليه وسلّم: «فداكم أبي وامي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا، وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الأفق، فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون كثيرا» . قال: فقلت: من هؤلاء السبعون ألفا؟ فاتفق رأينا على أنهم أناس ولدوا في الإسلام فلم يزالوا يعملون به حتى ماتوا عليه فنهي حديثهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ليس كذلك ولكنهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأرجو أن يكون من تبعني من امتي ربع أهل الجنة» فكبّرنا ثم
قال: «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» فكبّرنا. ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [200] «1» . وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحّاك ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ يعني من سابقي هذه الأمة وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ من هذه الأمة في آخر الزمان. يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد، حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني، حدّثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب محمد بن كثير، حدّثنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هما جميعا من أمتي» [201] «2» . وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ ريح حارة وَحَمِيمٍ ماء حار وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ دخان شديد السواد. تقول العرب: أسود يحموم إذا كان شديد السواد. وأنشد قطرب: وما قد شربت ببطن [مكة] ... فراتا لمد كاليحموم جاري وقال ابن بريدة: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار «3» لا بارِدٍ بل حار لأنه من دخان سعير جهنم وَلا كَرِيمٍ ولا عذب عن الضحّاك، سعيد ابن المسيب والحسن: نظيره: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ «4» . مقاتل: طيب. قتادة: لا بارِدٍ المنزل وَلا كَرِيمٍ المنظر. قال الفراء: يجعل الكريم تابعا لكل شيء نفت عنه فعلا فيه ذم «5» . وقال ابن كيسان: اليحموم اسم من أسماء النار. وقال الضحّاك: النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود. إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُتْرَفِينَ منعّمين وَكانُوا يُصِرُّونَ يقيمون عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ على الذنب الكبير، وهو الشرك.
وقال أبو بكر الأصم: كانوا يقسمون أن لا بعث، وأن الأصنام أنداد لله وكانوا يقيمون عليه فذلك حنثهم. وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لحق أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثم يقال لهم: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ. قرأ أهل المدينة وعاصم وحمزة والأعمش وأيوب: (شُرْبَ) بضم الشين، واختاره أبو حاتم، وقرأ الباقون: بفتحه، واختاره أبو عبيد. وروي عن الكسائي عن يحيى بن سعيد عن جريج إنه قال: ذكرت لجعفر بن محمد قراءة أصحاب عبد الله (شَرْبَ الْهِيمِ) بفتح الشين، فقال: «أما بلغك إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث بديل بن ورقاء الخزاعي إلى أهل منى في أيام التشريق فقال: «إنها أيام أكل وشرب» [202] «1» . ويقال هي بفتح الشين [و.......] «2» وهما لغتان جيدتان. تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا بضمتين. وقال أبو زيد الأنصاري: سمعت العرب تقول: شربت شربا، بكسر الشين. وأما (الهيم) فالإبل العطاش. وقال عكرمة وقتادة: هو داء بالإبل لا تروى [معه] «3» ولا تزال تشرب حتى تهلك ويقال لذلك الداء الهيام، ويقال: حمل أهيم وناقة هيماء وإبل هيم. قال لبيد: أجزت على معارفها بشعث ... وأطلاح من المهري هيم «4» وقال الضحّاك وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. هذا نُزُلُهُمْ رزقهم وغذاؤهم وما أعدّ لهم يَوْمَ الدِّينِ نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ بالبعث أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ تصبون في الأرحام من النطف؟. وقرأ أبو السماك: (تَمْنُونَ) بفتح التاء وهما لغتان. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنا [قرأ مجاهد وحميد وابن محيصن (قَدَرْنا)
بتخفيف الدال] «1» ، الباقون بالتشديد بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ فمنكم من يعيش إلى أن يبلغ الهرم، ومنكم من يموت شابا وصبيا صغيرا وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عاجزين عن إهلاككم عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أو إبدالكم بامثالكم وَنُنْشِئَكُمْ ونخلقكم فِي ما لا تَعْلَمُونَ من الصور. قال مجاهد: في أي خلق شئنا. وقال سعيد بن المسيب فِي ما لا تَعْلَمُونَ يعني في حواصل طير تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد باليمن. وقال الحسن وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ أي نبدل صفاتكم ونجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بمن كان قبلكم. وقال السدي: نخلقكم في سوى خلقكم. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الخلقة الْأُولى ولم تكونوا شيئا، فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي قادر على إعادتكم كما قدرت على إبدائكم. وقال الحسين بن الفضل في هذه الوجوه: وإن كانت غير مردودة، فالذي عندي في هذه الآية وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي خلقتكم للبعث بعد الموت من حيث لا تعلمون كيف شئت وذلك أنكم علمتم النشأة الأولى كيف كانت في بطون الأمهات وليست الأخرى كذلك. أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أي تثيرون الأرض وتعملون فيها وتطرحون البذر أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟. أخبرني الحسين، حدّثنا عمر بن محمد بن علي الزيات، حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن مرزوق، حدّثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي، حدّثنا مخلد بن الحسين عن هشام ابن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقولن أحدكم: زرعت وليقل حرثت» [203] «2» . قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله عزّ وجل أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيما لا ينتفع به في مطعم وغذاء. وقال مرة: يعني نبتا لا قمح فيه. فَظَلْتُمْ قرأت العامة بفتح الظاء. وقرأ عبد الله بكسره: والأصل ظللتم، فحذف إحدى
اللامين تخفيفا، فمن فتحه فعلى الأصل ومن كسره نقل حركة اللام المحذوفة إلى الظاء. تَفَكَّهُونَ قال يمان: تندمون على نفقاتكم، نظيره فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها «1» . قتادة: تعجبون. عكرمة: تلاومون. الحسن: تندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت لكم عقوبته حتى نالكم في زرعكم ما نالكم. ابن زيد: تتفجّعون. ابن كيسان: تحزنون. قال: وهو من الأضداد. تقول العرب: تفكهت: أي تنعّمت، وتفكهت: أي حزنت. قال الفراء: تَفَكَّهُونَ وتفكنون واحد، والنون لغة عكل «2» . وقيل: التفكه التكلم فما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاح: فكاهة. إِنَّا قرأ عاصم برواية أبي بكر والمفضل بهمزتين. الباقون على الخبر. ومجاز الآية فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ وتقولون إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قال مجاهد وعكرمة: لمولع بنا. قال ابن عباس وقتادة: يعذبون، والغرام: العذاب. ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: ملقون للشر. مقاتل بن حيان: مهلكون. وقال الضحّاك: غرّمنا أموالنا وصار ما أنفقنا غرمنا عليه. مرة الهمداني: محاسبون. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ محدودون [ممنوعون] «3» محارفون، والمحروم ضد المرزوق. قال أنس بن مالك: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأرض الأنصار فقال: «ما يمنعكم من الحرث؟ قالوا: الجدوبة. قال: «فلا تفعلوا فإن الله عزّ وجل يقول: أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر» «4» [204] ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ الآيات. أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ السحاب، واحدتها مزنة. قال الشاعر: فنحن كماء المزن ما في نصابنا ... كهام ولا فينا يعدّ بخيل «5»
أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً قال ابن عباس: شديد الملوحة. وقال الحسن: قعاعا مرا. فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تقدحون وتستخرجون من زندكم أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها التي تقدح منها النار وهي المرخ والعفار أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ المخترعون؟ نَحْنُ جَعَلْناها يعني نار الدنيا تَذْكِرَةً للنار الكبرى. أخبرنا ابن سعيد بن حمدون، حدّثنا ابن الشرقي، حدّثنا محمد بن يحيى وعبد العزيز بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا: حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ناركم هذه التي توقد بنو آدم جزءا من سبعين جزءا من حرّ جهنم» . قالوا: والله إن كانت لكافيتنا برسول الله. قال: «فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرّها» «1» [205] . وَمَتاعاً بلغة ومنفعة لِلْمُقْوِينَ المسافرين النازلين في الأرض القيّ والقوى، وهي القفر الخالية البعيدة من العمران والأهلين، يقال: أقوت الدار إذا دخلت من سكانها. قال الشاعر: أقوى وأقفر من نعم وغيّرها ... هوج الرياح بهابي الترب موار «2» وقال النابغة: يا دارميّة بالعلياء فالسند ... بها أقوت وطال عليها سالف الأبد «3» هذا قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد لِلْمُقْوِينَ يعني للمستمتعين من الناس أجمعين، المسافرين والحاضرين يستضيء بها في الظلمة ويصطلي بها في البرد وينتفع بها في الطبخ والخبز ونتذكر بها نار جهنم فنستجير الله منها. وقال الحسن: بلغة المسافرين يبلغون بها إلى أسفارهم يحملونها في الخرق والجواليق. وقال الربيع والسدي: يعني للمرملين المعترين الذين لا زاد معهم، نارا يوقدون فيختبزون بها، وهي رواية العوفي عن ابن عباس. قال ابن زيد: للجائعين. تقول العرب: أقويت مذ كذا وكذا أي ما أكلت شيئا.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 79 إلى 96]
قال قطرب: المقوي من الأضداد «1» يكون بمعنى الفقر ويكون بمعنى الغنى. يقال: أقوى الرجل إذا قويت دوابّه، وإذا كثر ماله. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فَلا أُقْسِمُ قال أكثر المفسرين: معناه: أقسم، ولا صلة، وتصديقه قراءة عيسى بن عمر: (فلا أقسم) على التحقيق. وقال بعض أهل العربية: معناه فليس الأمر كما يقولون، ثم استأنف القسم فقال: أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ يعني نجوم القرآن التي كانت تنزل على «2» انكدارها وانتشارها يوم القيامة. واختلف القراء فيه فقرأ حمزة والكسائي وخلف: بموقع على الواحد، غيرهم: (بِمَواقِعِ) على الجمع. وهو الاختيار. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ يعني هذا الكتاب، وهو موضع القسم لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [حصين] «3» عزيز مكرم. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: غير مخلوق، وقيل: سمي كريما لأن يسره يغلب عسره. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ مصون. عند الله سبحانه محفوظ عن الشياطين وعن جميع ما يشين. [سورة الواقعة (56) : الآيات 79 الى 96] لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
لا يَمَسُّهُ أي ذلك الكتاب إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الذنوب وهم الملائكة. أخبرنا عبد الله بن حامد، أنبأنا ابن الشرقي، حدّثنا محمد بن الحسين بن طرحان، حدّثنا سعيد بن منصور، حدّثنا أبو الأحوص عن عاصم الأحول عن أنس في قوله عزّ وجل لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قال: الملائكة. وأخبرنا أبو بكر بن عبدوس، أنبأنا أبو الحسن بن محفوظ، حدّثنا عبد الله بن هاشم، حدّثنا عبد الرحمن عن سفيان عن الربيع عن سعيد بن جبير لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قال: الملائكة الذين في السماء. وقال أبو العالية وابن زيد: ليس أنتم أصحاب الذنوب إنما هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، فجبرئيل الذي ينزل به مطهّر والرسل الذين يجيئهم به مطهّرون. وقال ابن عباس: من الشرك. عكرمة: هم حملة التوراة والإنجيل. قتادة: لا يَمَسُّهُ عند الله إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فأما في الدنيا فيمسّه الكافر النجس والمنافق الرجس. حبان عن الكلبي: هم السفرة الكرام البررة. محمد بن فضيل عنه لا يقرؤه إلّا الموحدون. قال عكرمة: وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءة القرآن. الفراء: لا يجد طعمه ونفعه إلّا من آمن به. الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلّا من طهّره الله من الشرك والنفاق. أبو بكر الوراق: لا يوفق للعمل به إلّا السعداء. أبو العباس بن عطاء: لا يفهم حقائق القرآن إلّا من طهر سرّه عند الأنوار من الأقذار. جنيد: هم الذين طهر سرّهم عما سوى الله. وقال قوم: معناه لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من الأحداث والجنابات والنجاسات، وردّوا الكناية في قوله لا يَمَسُّهُ إلى القرآن. وقالوا: أراد بالقرآن المصحف، سماه قرآنا على قرب الجوار والاتساع، كالخبر الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو «1» . قالوا: وظاهر الآية نفي ومعناها نهي كقوله عزّ وجل: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ونحوها
واستدلوا بهذه الآية على منع الجنب والحائض والمحدث من مس المصحف وحمله، وقالوا: لا يجوز لأحد حمل المصحف ولا مسّه حتى يكون على صفة يجوز له الصلاة. قال: هذا مذهب جمهور الفقهاء إلّا إن أبا حنيفة لا يمنع من حمله بعلاقة ومسّه بحائل. والاختيار أنه ممنوع منه، لأنه إذا حمله في جلده فإنما حمله بحائل ومع هذا يمنع منه. وذهب الحكم وحماد وداود بن علي إلى أنه لا بأس بحمل المصحف ومسّه على أي صفة كانت سواء كان طاهرا أو غير طاهر، مؤمنا أو كافرا. إلّا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمل المصحف. والدليل على أنه لا يحمل المصحف ولا يمسّه إلّا طاهرا ما روى أبو بكر محمد بن عمرو ابن جرم عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بعثه إلى اليمن كتب في كتابه ألّا يحمل المصحف ولا يمسّه إلّا طاهر. وروى سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تمس القرآن إلّا وأنت طاهر» «1» [206] . ولأن به إجماع الصحابة. وروي أن عليا سئل: أيمس المحدث المصحف؟ قال: «لا» . وروي أن مصعب بن سعد بن أبي وقاص كان يقرأ من المصحف فأدخل يده فحك ذكره فأخذ أبوه المصحف من يده. وقال: قم فتوضأ ثم خذه، ولا مخالف لهما في الصحابة. وقال عطاء لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قال: لا يقلب الورق من المصحف إلّا المتوضئ. واستدل المبيحون بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى قيصر وفيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ الآية «2» . وأجاز الفقهاء ذلك إذا دعته ضرورة أو حمله عذر عليه، وأما الصبيان فلأصحابنا فيه وجهان: أحدهما: أنهم يمنعون منه كالبالغين. والثاني: أنهم لا يمنعون، لمعنيين: أحدهما: أن الصبي لو منع ذلك أدّى إلى ألّا يتلقن القرآن ولا يتعلمه ولا يحفظه، لأن وقت تعلمه وحفظه حال الصغر.
والثاني: أن الصبي وإن كانت له طهارة فليست بكاملة لأن النية لا تصحّ منه، فإذا جاز أن يحمله على طهر غير كامل جاز أن يحمله محدثا والله أعلم. تَنْزِيلٌ أي منزل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فسمي المنزّل تنزيلا على اتّساع اللغة، كما تقول للمقدور قدر وللمخلوق خلق، وهذا الدرهم ضرب الأمير ووزن سبعة، ونحوها أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ قال ابن عباس: مكذبون. مقاتل بن حيان: كافرون، ونظيره وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «1» . وقال ابن كيسان: المدهن الذي لا يفعل ما يحق عليه ويدفعه بالعلل. وقال المؤرخ: المدهن المنافق الذي ليّن جانبه ليخفي كفره. وادّهن وداهن واحد وأصله من الدهن. وقال مجاهد: تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم. وقال بعض أئمّة اللغة: مُدْهِنُونَ أي تاركون للحزم في قبول هذا القرآن والتهاون بأمره، ومداهنة العدو وملاينته مكان ما يجب من مغالظته، وأصله من اللين والضعف. قال أبو قيس بن الأسلت: الحزم والقوة خير من الإدهان ... والفكّة والهاع «2» وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ حظكم ونصيبكم من القرآن أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. قال الحسن: في هذه الآية خسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلّا التكذيب به. وقال آخرون: هذا في الاستسقاء بالأنواء. أنبأني عبد الله بن حامد، أنبأنا محمد بن الحسن، حدّثنا أحمد بن يوسف، حدّثنا النضر بن محمد، عكرمة، حدّثنا أبو زميل حدّثني ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة وضعها الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء «3» كذا وكذا» [207] «4» . قال: فنزلت هذه الآية. فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ حتى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، وشرح قول ابن عباس هذا في سبب نزول هذه الآية ما روي عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج في سفر فنزلوا فأصابهم
العطش وليس معهم ماء فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرأيتم إن دعوت لكم فسقيتم فلعلكم تقولون سقينا هذا المطر بنوء كذا» «1» [208] . فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. قال فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا حتى سالت الأودية وملئوا الأسقية فثم ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمرّ برجل يغترف بقدح له وهو يقول: سقينا بنوء فلان، ولم يقل: هذا من رزق الله، فأنزل الله عزّ وجل وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أي شكركم لله على رزقه إياكم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بالنعمة وتقولون: سقينا بنوء كذا ، وهذا كقول القائل: جعلت العطاء إليك إساءة منك إليّ، وجعلت شكر إكرامي لك أنك اتخذتني عدوا، فمجاز الآية: وتجعلون شكر رزقكم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «2» ونحوها. قال الشاعر: وكان شكر القوم عند المنن ... كنّ الصحيحات وقفا الأعين ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا عمر بن الحسن، حدّثنا أحمد، حدّثنا أبي، حدّثنا حصين عن هارون بن سعد عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرحمن عن علي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ: (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) . وذكر الهيثم عن عدي أن من لغة أزد شنوءة «3» : ما رزق فلان، بمعنى ما شكر «4» . وأنبأني عقيل، المعافي، محمد بن جرير حدّثني يونس، سفيان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ان الله سبحانه وتعالى ليصبح عباده «5» بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح قوم كافرين يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا» [209] «6» . قال محمد: فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال: ونحن قد سمعنا من أبي هريرة، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي فلما استسقى التفت إلى العباس فقال: يا عم رسول الله كم بقي من نوء الثريا؟
فقال: «العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا» قال: فما مضت سابعة حتى مطروا [210] «1» . أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن خالد، أخبرنا داود بن سليمان، حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا محمد بن طلحة، عن طلحة عن عبد الله بن محيريز قال: دعاه سليمان بن عبد الملك فقال: لو تعلّمت علم النجوم فازددت إلى علمك. فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ان أخوف ما أخاف على أمتي ثلاث: حيف الأئمة وتكذيبا بالقدر وإيمانا بالنجوم» «2» [211] . ثم خاطبهم خطاب التحذير والترهيب فقال عزّ من قائل: فَلَوْلا فهلّا إِذا بَلَغَتِ يعني النفس الْحُلْقُومَ عند خروجها من الجسد فاختزل النفس لدلالة الكلام عليه. كقول الشاعر: أماويّ ما يغني الثراء عن الفنى ... إذا حشرجت يوما وضاق به الصدر وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إلى أمري وسلطاني. وقال ابن عباس: يريد: من حضر الميت من أهله ينظرون إليه متى تخرج نفسه. قال الفراء: وذلك معروف من كلام العرب أن يخاطبوا الجماعة بالفعل كأنهم أهله وأصحابه، والمراد به بعضهم غائبا كان أو شاهدا فيقولوا: قتلتم فلانا والقاتل منهم واحد. ويقولون لأهل المسجد إذا آذوا رجلا بالازدحام: اتقوا الله فإنكم تؤذون المسلمين وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ بالقدرة والعلم ولا قدرة لكم على دفع شيء عنه. قال عامر بن عبد قيس: ما نظرت إلى شيء إلّا رأيت الله سبحانه أقرب إليّ منه. وقال بعضهم: أراد: ورسلنا الذين يقبضون. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ مملوكين ومحاسبين ومجزيين. فإن قيل: فأين جواب قوله فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ وقوله فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ؟ قلنا: قال الفراء: إنهما أجيبا بجواب واحد، وهو قوله تَرْجِعُونَها وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد فهذا من ذلك، ومنه قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
أجيبا بجواب واحد، وهما جزآن ومن ذلك قوله لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ «1» . وقيل: في الآية تقديم وتأخير مجازها فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها أي تردّون نفس هذا الميت إلى جسده إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت وفي البعث، وبيّن درجاتهم فقال فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وهم السابقون فَرَوْحٌ قرأ الحسن وقتادة ويعقوب: بضم الراء على معنى أن روحه تخرج في الريحان. قاله الحسن. وقال قتادة: الروح الرحمة، وقيل: معناه فحياة وبقاء لهم، وذكر أنها قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم. أخبرنا محمد بن نعيم، أخبرنا الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز، أخبرنا أبو عبيد، حدّثنا مروان بن معاوية عن أبي حماد الخراساني عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ هذا الحرف: (فَرُوحٌ وَرَيْحانٌ) بضم الراء. وباسناده عن أبي عبيد، حدّثنا حجاج عن هارون وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا عمر ابن الحسن، أخبرنا أحمد، حدّثنا أبي، حدّثنا الحسين عن عبيد الله البصري عن هارون بن موسى المعلم أخبرني بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ (فَرُوحٌ وَرَيْحانٌ) بضم الراء. وقرأ الآخرون: بفتح الراء. واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس ومجاهد: فراحة. سعيد بن جبير: فرح. الضحّاك: مغفرة ورحمة. وَرَيْحانٌ قال ابن عباس: مستراح. مجاهد وسعيد بن جبير: رزق. قال مقاتل: هو بلسان حمير، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي رزقه. قال الربيع بن خثيم وابن زيد: (فَرَوْحٌ) عند الموت (وَرَيْحانٌ) يخبّأ له في الآخرة. وقال الآخرون: هو الريحان المعروف الذي يشمّ. قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمّه ثم يقبض «2» . وَجَنَّةُ نَعِيمٍ قال أبو بكر الوراق: الرّوح: النجاة من النار، والريحان: دخول دار القرار.
الترمذي: الروح: الراحة في القبر، والريحان: دخول الجنة. بسام بن عبد الله: الروح: السلامة، والريحان: الكرامة. شعر: «1» الروح معانقة الأبكار والريحان موافقة الأبرار بحران الروح كشف الغطاء والريحان الروية واللقاء. وقيل: الروح: الراحة، والريحان: النجاة من الآفة، وقيل: الروح: الموت على الشهادة، والريحان: نداء السعادة، وقيل: الروح: كشف الكروب، والريحان: غفران الذنوب، وقيل: الروح: الثبات على الايمان، والريحان: نيل الأمن والأمان. وقيل: الروح فضلة، والريحان: [فضالة «2» ] . وقيل: الروح تخفيف الحساب، والريحان: تضعيف الثواب. وقيل: الروح عفو بلا عتاب، والريحان: رزق بلا حساب. ويقال: فَرَوْحٌ للسابقين وَرَيْحانٌ للمقتصدين وَجَنَّةُ نَعِيمٍ للطالبين. وقيل: الروح لأرواحهم، والريحان لقلوبهم والجنة لأبدانهم والحق لأسرارهم. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ رفع على معنى: فلك سلام، وهو سلام لك، أي سلامة لك يا محمد منهم فلا تهتمّ لهم فإنهم سلموا من عذاب الله. وقال الفراء: مسلّم لك أنهم من أصحاب اليمين. أو يقال لصاحب اليمين: إنه مسلم لك أنك مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وقيل: فسلام عليك مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ وهم أصحاب المشأمة فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وإدخال النار إِنَّ هذا الذي ذكروا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي الحق اليقين فأضافه إلى نفسه، وقد ذكرنا نظائره. قال قتادة: في هذه الآية: إن الله عزّ وجل ليس تاركا أحدا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن، فأما المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأما الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ فصلّ بذكر ربك وأمره. وقيل: فاذكر اسم ربك الْعَظِيمِ وسبّحه.
أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا ابن شنبه، حدّثنا حمزة بن محمد الكاتب، حدّثنا نعيم بن حماد، حدّثنا عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب الغافقي عن عمّه وهو إياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال: «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجعلوها في سجودكم» «1» [212] . أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ، حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد الحافظ أخبرنا أبو بكر بن أبي عاصم النبيل، حدّثنا الحوصي، حدّثنا بقية، عن يحيى بن سعيد، عن خالد بن معدان عن أبي بلال عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بالمسبّحات قبل أن يرقد ويقول: «إن فيهن آية أفضل من ألف آية» [213] «2» . قال: يعني بالمسبحات: الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.
سورة الحديد
سورة الحديد مدنية وهي ألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة وتسع وعشرون آية أخبرنا أبو الحسين المقرئ، حدّثنا أبو بكر الاسماعيلي، حدّثنا وأبو الشيخ الأصفهاني قالا، حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك، حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي، حدّثنا سلام بن سليم المدايني، حدّثنا هارون بن كثير، حدّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسوله» [214] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ يعني هُوَ الْأَوَّلُ قبل كل شيء بلا حد ولا ابتداء، كان هو ولا شيء موجود وَالْآخِرُ بعد فناء كل شيء وَالظَّاهِرُ الغالب العالي على كل شيء، وكل شيء دونه وَالْباطِنُ العالم بكل شيء، فلا أحد أعلم منه. وهذا معنى قول ابن عباس.
وقال ابن عمر: الْأَوَّلُ بالخلق وَالْآخِرُ بالرزق، وَالظَّاهِرُ بالاحياء وَالْباطِنُ بالإماتة. وقال الضحّاك: هو الذي أول الأول وآخر الاخر، وأظهر الظاهر وأبطن الباطن. مقاتل بن حيان: هُوَ الْأَوَّلُ بلا تأويل أحد، وَالْآخِرُ بلا تأخير أحد وَالظَّاهِرُ بلا إظهار أحد وَالْباطِنُ بلا إبطان أحد. وقال يمان: هُوَ الْأَوَّلُ القديم، وَالْآخِرُ الرحيم، وَالظَّاهِرُ الحليم، وَالْباطِنُ العليم. وقال محمد بن الفضل: الْأَوَّلُ ببرّه وَالْآخِرُ بعفوه، وَالظَّاهِرُ بإحسانه وَالْباطِنُ بسرّه. وقال أبو بكر الوراق: هُوَ الْأَوَّلُ بالأزلية وَالْآخِرُ بالأبدية، وَالظَّاهِرُ بالأحدية وَالْباطِنُ بالصمدية. عبد العزيز بن يحيى: هذه الواوات مقحمة والمعنى: هو الأول الآخر الظاهر الباطن، لأن من كان منا أولا لا يكون آخرا، ومن كان ظاهرا لا يكون باطنا. وقال الحسين بن الفضل: هُوَ الْأَوَّلُ بلا ابتداء، وَالْآخِرُ بلا انتهاء، وَالظَّاهِرُ بلا اقتراب، وَالْباطِنُ بلا احتجاب. وقال القناد: الْأَوَّلُ السابق إلى فعل الخير والمتقدم على كل محسن إلى فعل الإحسان، وَالْآخِرُ الباقي بعد فقد الخلق، والخاتم بفعل الإحسان، وَالظَّاهِرُ الغالب لكل أحد، ومن ظهر على شيء فقد غلبه، وَالظَّاهِرُ أيضا: الذي يعلم الظواهر ويشرف على السرائر، وَالظَّاهِرُ أيضا: ظهر للعقول بالإعلام وظهر للأرواح باليقين وإن خفي على أعين الناظرين، وَالْباطِنُ الذي عرف المغيّبات وأشرف على المستترات، وَالْباطِنُ أيضا: الذي خفي عن الظواهر فلم يدرك إلّا بالسرائر. وقال السدي: الْأَوَّلُ ببرّه إذ عرّفك توحيده، وَالْآخِرُ بجوده إذ عرّفك التوبة على ما جنيت، وَالظَّاهِرُ بتوفيقه إذ وفقك للسجود له، وَالْباطِنُ بستره إذ عصيته فستر عليك. وقال ابن عطاء: الْأَوَّلُ بكشف أحوال الدنيا حتى لا يرغبوا فيها، وَالْآخِرُ بكشف أحوال العقبى حتى لا يشكّوا فيها، وَالظَّاهِرُ على قلوب أوليائه حتى يعرفوه، وَالْباطِنُ عن قلوب أعدائه حتى ينكروه. وقيل: الْأَوَّلُ قبل كل معلوم، وَالْآخِرُ بعد كل مختوم، وَالظَّاهِرُ فوق كل مرسوم، وَالْباطِنُ محيط بكل مكتوم. وقيل هُوَ الْأَوَّلُ بإحاطة علمه بذنوبنا قبل وجود ذنوبنا، وَالْآخِرُ بسترها علينا في عقبانا، وَالظَّاهِرُ بحفظه إيانا في دنيانا، وَالْباطِنُ بتصفية أسرارنا وتنقية أذكارنا.
وقيل: هُوَ الْأَوَّلُ بالتكوين، بيانه قوله إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» وَالْآخِرُ بالتلقين، بيانه قوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا «2» الآية. وَالظَّاهِرُ بالتبيين بيانه يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «3» وَالْباطِنُ بالتزيين بيانه وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ «4» . وقال محمد بن علي الترمذي: الْأَوَّلُ بالتأليف وَالْآخِرُ بالتكليف وَالظَّاهِرُ بالتصريف، وَالْباطِنُ بالتعريف. وقال الجنيد: هُوَ الْأَوَّلُ بشرح القلوب، وَالْآخِرُ بغفران الذنوب، وَالظَّاهِرُ بكشف الكروب، وَالْباطِنُ بعلم الغيوب. وسأل عمر كعبا عن هذه الآية فقال: معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن. وقيل: هُوَ الْأَوَّلُ بالهيبة والسلطان، وَالْآخِرُ بالرحمة والإحسان، وَالظَّاهِرُ بالحجة والبرهان، وَالْباطِنُ بالعصمة والامتنان. وقيل: هُوَ الْأَوَّلُ بالعطاء، وَالْآخِرُ بالجزاء، وَالظَّاهِرُ بالثناء، وَالْباطِنُ بالوفاء. وقيل: هُوَ الْأَوَّلُ بالبرّ والكرم، وَالْآخِرُ بنحلة القسم، وَالظَّاهِرُ بإسباغ النعم، وَالْباطِنُ بدفع النقم. وقيل: هُوَ الْأَوَّلُ بالهداية، وَالْآخِرُ بالكفاية، وَالظَّاهِرُ بالولاية، وَالْباطِنُ بالرعاية. وقيل: هُوَ الْأَوَّلُ بالانعام، وَالْآخِرُ بالإتمام، وَالظَّاهِرُ بالإكرام، وَالْباطِنُ بالإلهام. وقيل: هُوَ الْأَوَّلُ بتسمية الأسماء، وَالْآخِرُ بتكملة النعماء، وَالظَّاهِرُ بتسوية الأعضاء، وَالْباطِنُ بصرف الأهواء. وقيل: هُوَ الْأَوَّلُ بإنشاء الخلائق، وَالْآخِرُ بافناء الخلائق، وَالظَّاهِرُ بإظهار الحقائق، وَالْباطِنُ بعلم الدقائق. وقال الواسطي: لم يدع للخلق نفسا «5» بعد ما أخبر عن نفسه أنه الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الشبلي يقول: في هذه الآية أشياء ساقطة فإني أول آخر ظاهر باطن. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أخبرنا شعيب بن محمد أخبرنا مكي بن عبدان أخبرنا أحمد بن الأزهر حدّثنا روح بن عبادة، حدّثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بينما هو جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال: «هل تدرون ما هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هذا العنان هذا روايا الأرض يسوقه الله عزّ وجل إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه» ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها الرقيع موج مكفوف وسقف محفوظ» . قال: «فكم تدرون بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة» قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن فوقها سماء أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عدّد سبع سماوات بين كل سماءين مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال: «هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء السابعة مثلما بين سماءين» . ثم قال: «هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها الأرض» . قال: «فهل تدرون ما تحتها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن تحتها أرضا أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدّد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة» ، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله» [215] ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومعناه بالعلم والقدرة والخلق والملك. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبا مكي، أخبرنا أحمد بن منصور المروزي، حدّثنا علي ابن الحسن، حدّثنا أبو حمزة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: دخلت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته خادما فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك أن تقولي: اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الْحَبِّ وَالنَّوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت أخذ بناصيته،
[سورة الحديد (57) : الآيات 9 إلى 11]
أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنّا الدين وأغننا من الفقر» «1» [216] . هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ (وَالْأَرْضَ) فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا عمر بن الخطاب، حدّثنا عبد الله بن الفضل حدّثني أحمد بن وركان، حدّثنا علي بن الحسن بن شقيق قال: قلت لعبد الله بن المبارك: كيف نعرف ربنا عزّ وجل؟ قال: في السماء السابعة على عرشه، ولا تقول كما قالت الجهمية: هاهنا في الأرض. وقد ذكرنا معنى الاستواء وحققنا الكلام فيه فأغنى عن الإعادة. يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ بالعلم والقدرة أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ مملّكين، معمرين فيه فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ في ظهر آدم بان الله ربكم لا إله لكم سواه. قاله مجاهد. وقيل: أَخَذَ مِيثاقَكُمْ بأن ركّب فيكم العقول وأقام الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول. وقراءة العامة: بفتح الهمزة والقاف. وقرأ أبو عمرو بضمّهما على وجه ما لم يسمى فاعله. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والأعلام على حقيقة الإسلام وصحة نبوة المصطفى (عليه السلام) . [سورة الحديد (57) : الآيات 9 الى 11] هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ الله بالقرآن، وقيل: لِيُخْرِجَكُمْ الرسول بالدعوة مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم بيّن سبحانه فضل السابقين في الانفاق والجهاد فقال عزّ من قائل لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ يعني: فتح مكة في قول أكثر المفسرين. وقال الشعبي: هو صلح الحديبية قال: وقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله أفتح هو؟ قال: «نعم عظيم» «1» . وَقاتَلَ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ أي من بعد الفتح وَقاتَلُوا. أخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير حدّثني ابن البرقي، حدّثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» . قال: من هم يا رسول الله؟ قريش. قال: «لا هم أرق أفئدة وألين قلوبا» وأشار بيده إلى اليمن فقال: «هم أهل اليمن، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية» فقلنا: يا رسول الله هم خير منّا؟ قال: «والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدرك مدّ أحدهم «2» ولا نصيفه» ثم جمع أصابعه ومدّ خنصره فقال: «ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ» «3» [217] . وروى محمد بن الفضل عن الكلبي أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي هذه الآية دلالة واضحة وحجة بيّنة على فضل أبي بكر بتقديمه لأنه أول من أسلم «4» .
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر، أخبرنا أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا محمد بن أيوب، أخبرنا أبو الوليد الطيالسي، حدّثنا عكرمة بن عماد، حدّثنا شداد بن عبد الله أبو عمار
وقد كان أدرك نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قال أبو امامة لعمرو بن عبسة بأي شيء تدّعي أنك ربع الإسلام؟ قال: إني كنت أرى الناس على الضلالة ولا أرى الأوثان شيئا، ثم
سمعت عن رجل يخبرنا أخبار مكة فركبت راحلتي حتى قدمت عليه، فإذا قومه عليه جرآء قال: قلت: ما أنت؟ قال: أنا نبي. قلت: وما نبي؟ قال: رسول الله. قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: «أوحد الله ولا أشرك به شيئا وكسر الأوثان وصلة الأرحام» . قلت: من معك على هذا؟ قال: حرّ وعبد. وإذا معه أبو بكر وبلال، فأسلمت عند ذلك فلقد رأيتني ربع الإسلام «1» . ولأنه أول من أظهر الإسلام: أخبرنا أبو محمد الأصبهاني، أخبرنا أبو بكر الصعي، أخبرنا عبد الله بن احمد بن حنبل، أخبرنا أبي، حدّثنا يحيى بن أبي كثير، حدّثنا زائدة عن عاصم بن أبي النجود عن زر عن عبد الله ابن مسعود قال: كان أول من أظهر الإسلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمار وأمّه سمية وصهيب وبلال والمقداد. ولأنه أول من قاتل على الإسلام: أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد الجرجاني بها، أخبرنا أبو الطاهر محمد بن الحسن
[سورة الحديد (57) : الآيات 12 إلى 16]
المحمدآبادي وحدّثنا أبو قلابة، حدّثنا يحيى بن أبي كثير، حدّثنا زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر رضي الله عنه. ولأنه أول من أنفق على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبيل الله. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن يونس، حدّثنا العلا بن عمرو الشيباني، حدّثنا أبو إسحاق الفزاري، حدّثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلّلها في صدره بخلال فقال: «أنفق ماله عليّ قبل الفتح» . قال: فإن الله عزّ وجل يقول: اقرأ عليه السلام وتقول له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أأسخط؟ إني عن ربي راض إني عن ربي راض. ولهذا قدّمه الصحابة على أنفسهم وأقروا له بالتقدم والسّبق. وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا محمد بن يونس عقبة بن سنان، حدّثنا أبو بشر، حدّثنا الهيصم بن شداخ عن الأعمش عن عمرو بن مرّة عن عبد الله بن سلمة عن علي رضي الله عنه قال: سبق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصلى أبو بكر وثلث عمر فلا أوتي برجل فضلني على أبي بكر وعمر إلّا جلدته جلد المفتري وطرح الشهادة!! «1» . وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ. [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 16] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ على الصراط بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ.
قال بعضهم: أراد جميع جوانبهم، فعبّر بالبعض عن الكل على مذهب العرب في الإيجاز، ومجازه: عن أيمانهم. وقال الضحّاك: أراد يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ كتبهم. وقرأ سهل بن سعد الساعدي: بِإِيْمانِهِمْ بكسر الهمزة، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة، وأراد بالنور: القرآن. قال عبد الله بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يأتي نوره كالنخلة ومنهم من يؤتي نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا على إبهامه فيطفأ مرة ويقد مرة. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره موضع قدميه، وتقول لهم الملائكة: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [218] «1» . يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا قراءة العامة: موصولة أي انتظرونا. وقرأ يحيى والأعمش وحمزة: (أَنْظِرُونا) بفتح الألف وكسر الظاء أي أمهلونا. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني أي انتظرني، وأنشد في ذلك بيت عمرو بن كلثوم: أبا هند فلا تعجل علينا ... وانظرنا نخبرك اليقينا «2» قال: يعني انتظرنا. نَقْتَبِسْ نستضيء مِنْ نُورِكُمْ قال المفسرون: إذا كان يوم القيامة أعطى الله تعالى المؤمنين نورا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، وأعطى المنافقين الضالّين كذلك خديعة لهم وهو قوله عزّ وجل وَهُوَ خادِعُهُمْ «3» . وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور «4» . قالوا فبينما هم يمشون إذ بعث الله تعالى ريحا وظلمة فأطفأ نور المنافقين، فذلك قوله عزّ وجل يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة قالوا
للمؤمنين انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ من حيث جئتم فَالْتَمِسُوا فاطلبوا هناك لأنفسكم نُوراً فإنه لا سبيل لكم إلى الاقتباس من نورنا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ أي سور والباء صلة، عن الكسائي. وهو حاجز بين الجنة والنار لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ يعني الجنة وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ أي من قبل ذلك الظاهر الْعَذابُ وهو النار. أخبرني ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن ماجة القزويني، حدّثنا محمد بن أيوب الرازي، حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: وأخبرني ابن حمدان، حدّثنا ابن ماهان، حدّثنا موسى بن إسماعيل حماد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم فحدّث عن أبيه وقرأ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ الآية ثم قال: أي هذا موضع السور، يعني وادي جهنم. وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني أخبرني أحمد بن عمير بن يوسف، حدّثنا عبد السلام بن عتيق، حدّثنا أبو مسهر، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس حدّثني أبو العوام مؤذن أهل بيت المقدس عن عبد الله بن عمرو قال: إن السور الذي ذكر الله عزّ وجل في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ سور مسجد بيت المقدس الشرقي باطنه من المسجد وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ الوادي: وادي جهنم. وأخبرني ابن فنجويه، حدّثنا السني، حدّثنا أبو يعلي الموصلي حدّثنا أبو نصر التمار، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز، عن زياد بن أبي سودة أن عبادة بن الصامت قام على سور بيت المقدس الشرقي فبكى. فقال بعضهم: ما يبكيك يا أبا الوليد؟ فقال: من هاهنا أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى جهنم. وأخبرني عقيل أن أبا الفرج حدثهم عن محمد بن جرير حدّثني محمد بن عوف، حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا صفوان، حدّثنا شريح أن كعبا يقول في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس أنه الباب الذي قال الله عزّ وجل فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ الآية. يُنادُونَهُمْ يعني ينادي المنافقون المؤمنين حين حجز بينهم بالسور، فبقوا في الظلمة والعذاب، وصار المؤمنون في النور والرحمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدنيا نصوم ونصلي ونناكحكم ونوارثكم؟ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أهلكتم أَنْفُسَكُمْ بالنفاق وَتَرَبَّصْتُمْ بالأيمان. وقال مقاتل: بل تَرَبَّصْتُمْ بمحمد الموت وقلتم: يوشك أن يموت محمد فتستريح وَارْتَبْتُمْ شككتم في التوحيد والنبوة وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ للأباطيل. وقال أبو بكر الورّاق: طول الأمل.
أخبرني الحسين، حدّثنا ابن حمدان، حدّثنا يوسف بن عبد الله، حدّثنا مسلم بن أدهم حدّثنا همام بن يحيى، حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خط خطوطا وخط خطا منها ناحية فقال: «تدرون ما هذا؟ هذا مثل ابن آدم ومثل التمني، وذلك الخط الأمل بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت» [219] «1» . وأخبرنا الحسين، حدّثنا الكندي، حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر، حدّثنا يحيى بن عبد الباقي، حدّثنا عمرو بن عثمان، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرّة. حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ يعني الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان. وقرأ سماك بن حرب: بضم الغين يعني الأباطيل. قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان وما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ بدل وعوض. قراءة العامة يُؤْخَذُ بالياء. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو جعفر ويعقوب بالتاء واختاره أبو حاتم. وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المشركين مَأْواكُمُ النَّارُ أي صاحبتكم وأولى بكم وأحق بإن تكون مسكنا لكم. قال لبيد: فعذب كلا الفريقين بحسب أنه ... مولى المخافة خلقها وإمامها «2» وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا الآية. قال الكلبي ومقاتل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدّثنا عمّا في التوراة فإن فيها العجائب، فنزلت الآية تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إلى قوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ «3» فخبّرهم بأن هذا القرآن أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم [عادوا] «4» فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزلت اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية «5» . فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم [عادوا] أيضا فسألوا فقالوا: حدّثنا عن التوراة فإن فيها العجائب، ونزلت هذه الآية.
فعلى هذا القول يكون تأويل الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا في العلانية واللسان. وقال غيرهما: نزلت في المؤمنين. قال عبد الله بن مسعود: ملّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله لو حدّثتنا! فأنزل الله عزّ وجل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الآية. فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا! فأنزل الله عزّ وجل نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ الآية. فقالوا: يا رسول الله لو ذكّرتنا ووعظتنا. فأنزل الله عزّ وجل هذه الآية. وقال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلّا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا. وقال ابن عباس: إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال أَلَمْ يَأْنِ يحن لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ ترق وتلين وتخضع قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ. قرأ شيبة ونافع وعاصم برواية المفضل وحفص: خفيفة الزاي، غيرهم: مشددة. مِنَ الْحَقِّ وهو القرآن، قال مجاهد: نزلت هذه الآية في المتعرّبين بعد الهجرة. أخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا محمد بن خالد، حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا الحسام بن المصك «1» عن الحسن عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أول ما يرفع من الناس الخشوع» [220] «2» . وَلا يَكُونُوا يعني وألّا يكونوا، محله نصب بالعطف على تَخْشَعَ قال الأخفش: وإن شئت جعلته نهيا فيكون مجازه: ولا يكونن، ودليل هذا التأويل رواية يونس عن يعقوب أنه قرأ: (ولا تكونوا) بالتاء. كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ وهم اليهود والنصارى. فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ الزمان والدهر والغاية بينهم وبين أنبيائهم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ. روى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن عميلة، حدّثنا عبد الله حدّثنا، ما سمعت «3» حدّثنا هو أحسن منه إلّا كتاب الله عزّ وجل أو رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن بني إسرائيل لما
طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ، فقالوا: اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فأتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، ثم قالوا: لا بل أرسلوا إلى فلان رجلا من علمائهم فاعرضوا عليه الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد. فأرسلوا إليه، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله عزّ وجل ثم جعلها في قرن ثم علّقها في عنقه، ثم لبس عليه الثياب، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا: أتؤمن بهذا؟ فأومأ إلى صدره فقال: آمنت بهذا، ومالي لا أومن بهذا؟ يعني الكتاب الذي في القرن، فخلّوا سبيله. وكان له أصحاب يغشونه، فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا فيه الكتاب، فقالوا: ألا ترون قوله: آمنت بهذا، ومالي لا أومن بهذا؟ إنما عني هذا الكتاب؟ فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة، وخير مللهم أصحاب ذي القرن. قال عبد الله: وإن من بقي منكم سيرى منكرا، وبحسب أمرى يرى منكرا لا تستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان: إنما يعني بذلك مؤمني أهل الكتاب قبل أن يبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ يعني خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع، ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به، ومنهم طائفة رجعت عن دينها وهم الذين فسّقهم «1» فكفروا بدين عيسى ولم يؤمنوا بمحمد (عليه السلام) . وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عمّا كانوا فيه، فقست قلوبهم، فينبغي للمؤمنين أن يزدادوا إيمانا ويقينا وإخلاصا في طول صحبة الكتاب. أنبأني عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس الضبّي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الله النيّري، حدّثنا أبو سعيد الأشج، حدّثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن وائل بن بكر قال: قال عيسى (عليه السلام) : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية» [221] .
[سورة الحديد (57) : الآيات 17 إلى 25]
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، حدّثنا أبو عبد الله المقرئ قال: سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث يقول: سمعت الفضل بن موسى السيناني يقول: كان سبب توبة الفضل بن عياض أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرقى الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فرجع القهقرى. وهو يقول: بلى فلان بلى والله فلان. فأواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وإذا بعضهم يقول لبعض بالفارسية: فضيل بدر أهست در ما راه برّذ. فقال الفضيل في نفسه: الا أراني أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني؟ اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام. ثم أقبل عليهم فقال لهم بالفارسية: منم فضيل كناه كار أز من ترسيديد اكنون مترسيد. قال الفضل بن موسى: ثم خرج فجاور. وحدّثنا أبو سعد بن أبي عثمان الزاهد، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران بمكة، حدّثنا أبو يعقوب البزاز، حدّثنا محمد بن حاتم السمرقندي، حدّثنا أحمد بن زيد، حدّثنا حسين ابن الحسن قال: سئل ابن المبارك وأنا حاضر عن أول زهده فقال: إني كنت في بستان، وأنا شاب مع جماعة من أترابي، وذلك في وقت الفواكه، فأكلنا وشربنا وكنت مولعا بضرب العود فقمت في بعض الليل، فإذا غصن يتحرك عند رأسي فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ قال: فضربت بالعود الأرض فكسرته وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شغلت عن الله، وجاء التوفيق من الله عزّ وجل فكان ما سهل لنا من الخير بفضل الله. [سورة الحديد (57) : الآيات 17 الى 25] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ. قرأ ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر والمفضل بتخفيف الصادين من التصديق مجازه: إن المؤمنين والمؤمنات. وقرأ الباقون: بتشديدهما بمعنى أن المتصدقين والمتصدقات، فأدغم التاء في الصاد كالمزمل والمدثر، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا لقراءة أبي: (إن المتصدقين والمتصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا) بالصدقة والنفقة في سبيله. قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع وإنما عطف بالفعل على الاسم لأنه في تقدير الفعل، مجازه: إن الذين صدقوا وأقرضوا يضاعف لهم أمثالها. قراءة العامة: بالألف وفتح العين. وقرأ الأعمش: (يضاعِفه) بكسر العين وزيادة هاء. وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو جعفر (يضعّف) بالتشديد. وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وهو الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ واحدهم: صديق وهو الكثير الصدق. قال الضحاك: هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر وعلي وزيد وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وحمزة بن عبد المطلب، تاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نبيّه. وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ اختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها، فقال قوم: تمام الكلام عند قوله: الصِّدِّيقُونَ ثم ابتدأ فقال: وَالشُّهَداءُ وأراد بهم شهداء المؤمنين خاصة، والواو فيه واو الاستثناء، وهذا قول ابن عباس ومسروق وجماعة من العلماء. وقال الآخرون: هي متصلة بما قبلها، والواو فيه واو النسق. ثم اختلفوا في معناها، فقال الضحّاك: نزلت في قوم مخصوصين من المؤمنين، وكانوا كلّهم شهداء، وقد مرّ ذكرهم. وقال غيره: نزلت في المؤمنين المخلصين كلّهم. أخبرني عبد الله بن حامد- إجازة- قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا عبد الله ابن غنام النخعي قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا عبيد بن سعيد، عن شعبة، عن أبي
قيس، عن الهرمل، عن عبد الله قال: إنّ الرجل ليقاتل الناس ليرى مكانه، وإنّ الرجل ليقاتل على الدنيا، وإنّ الرجل ليقاتل ابتغاء وجه الله، وإنّ الرجل ليموت على فراشه فيكون شهيدا، ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان بن ليث، عن مجاهد قال: كلّ مؤمن صدّيق شهيد، ثم قرأ هذه الآية، يعني موصولة. وقال ابن عباس في بعض الروايات: أراد بالشهداء الأنبياء خاصّة. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ في ظلمة القيامة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا: (ما) صلة مجازه اعْلَمُوا ... لَعِبٌ باطل لا حاصل له وَلَهْوٌ: فرح ثم ينقضي وَزِينَةٌ منظر يتزيّنون به، وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ: يفخر به بعضكم على بعض، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي يتاه بكثرة الأموال والأولاد. وقال بعض المتأوّلين من المتأخّرين: لعب كلعب الصبيان، ولهو كلهو الفتيان، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الأقران، وتكاثر كتكاثر الدهقان. وقال عليّ بن ابي طالب لعمار بن ياسر: «لا تحزن على الدنيا، فإن الدنيا ستّة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح. فأكبر طعامها العسل وهي بزقة ذبابة، وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأكبر الملبوس الديباج وهي نسجة دود، وأكبر المشموم المسك، وهي دم فأرة ظبية، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال. والله إن المرأة ليزيّن أحسنها يراد به أقبحها» «1» . ثم ضرب جلّ ذكره لها مثلا فقال عزّ من قائل: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي الزّرّاع نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً فيبلى ويفنى وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ، يعني: أو مغفرة مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ سابِقُوا: سارعوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها: سعتها كعرض السماوات والأرض لوصل بعضها ببعض. وقال ابن كيسان: عنى به جنّة واحدة من الجنان. أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ بالجدب والقحط وذهاب الزرع والثمر وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ بالأوصاب والأسقام.
وقال الشعبي: المصيبة: ما يكون من خير وشرّ وما يسيء ويسرّ. ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «1» فذكر الحالتين جميعا: إِلَّا فِي كِتابٍ يعني: اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها: من قبل أن نخلق الأرض والأنفس. وقال ابن عباس: يعني المصيبة. وقال أبو العالية: يعني النسمة. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إن خلق ذلك وحفظه على الله هيّن. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن مخلد قال: أخبرنا داود قال: حدّثنا عبيد قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم، فقال: ما يبكيك؟ قال: أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه. قال: فلا تبك، فإنّه كان في علم الله سبحانه أن يكون، ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ الآية. لِكَيْلا تَأْسَوْا: تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا: تبطروا بِما آتاكُمْ. قراءة العامّة بمدّ الألف، أي (أعطاكم) ، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي: (جاءكم) ، واختاره أبو عبيد، قال: لقوله سبحانه: فاتَكُمْ ولم يقل: (أفاتكم) فجعل له، فكذلك (أتاكم) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضا. قال عكرمة: ما من أحد إلّا وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكرا وللحزن صبرا. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: متكبّر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقال ابن مسعود: لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان: ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن: ليته كان. وقال جعفر الصادق: «يا بن آدم، ما لك تأسّف «2» على مفقود لا يردّه إليك الفوت؟ وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟» «3» . وقيل لبزرجمهر: ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة.
وقال الفضيل في هذا المعنى: الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد فقد أذن بالرحيل. وقال الحسين بن الفضل: حمل الله سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت، وترك الفرح بالآتي، والرضا بقضائه في الحالتين جميعا. وقال قتيبة بن سعيد: دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أحصي عددها، فسألت عجوزا: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفا، فقلت له: يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي. قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها. قلت: وهل قلت في ذلك شيئا؟ قال: نعم: لا والذي أخذ [ ... ] «1» من خلائقه ... والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن ما سرّني أنّ إبلي في مباركها ... وما جرى في قضاء الله لم يكن «2» وقال سلم الخوّاص: من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين ليضع الله سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه. قيل: وما مذهبكم؟ قال: الرضا بالقضا، ومخالفة الهوى. وأنشد: لا تطل الحزن على فائت ... فقلّما يجدي عليك الحزن سيّان محزون على ما مضى ... ومظهر حزنا لما لم يكن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، قيل: هو في محل الخفض على نعت (المختال) ، وقيل: هو رفع بالابتداء وخبره ما بعده. وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قرأ أهل المدينة والشام بإسقاط (هو) وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون بإثباته. لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ يعني له يعدل. وقال ابن زيد: ما يوزن به. لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ: ليعمل الناس بينهم بالعدل وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ، قال ابن عباس: نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من الحديد: السندان، والكلبتان، والمنقعة، والمطرقة، والإبرة. وقال أهل المعاني: يعني أنه أخرج لهم الحديد من المعادن، وعلمهم صنيعته بوحيه. وقال قطرب: هذا من النزل كما تقول: أنزل الأمر على فلان نزلا حسنا، فمعنى الآية أنه جعل ذلك نزلا لهم، ومثله قوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «3» .
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 إلى 29]
ودليل تأويل السلف من المفسرين ما أخبرنا أبو سفيان الحسن بن عبد الله الدهقان قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل بن خلف الخيّاط قال: حدّثنا أبو بكر محمّد بن الفرج المعدّل قال: حدّثنا محمّد بن عبيد بن عبد الملك قال: حدّثنا سفيان بن محمّد أبو محمّد (ابن أخت سفيان الثوري) عن عبد الملك بن ملك التميمي عن عبد الله بن خليفة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: فأنزل الحديد، والنّار، والماء والملح» «1» [222] . فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، قوّة شديدة، يعني: السلاح والكراع، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ممّا يستعملونها في مصالحهم ومعايشهم إذ هو آلة لكلّ صنعة. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، يعني: أرسلنا رسلنا، وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليعامل الناس بالحقّ والعدل وليرى سبحانه مَنْ يَنْصُرُهُ أي دينه وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 29] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ على دينه رَأْفَةً وَرَحْمَةً والرأفة أشد الرقّة وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها من قبل أنفسهم ما كَتَبْناها فرضناها وأوجبناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ يعني: ولكنهم ابتغوا رِضْوانِ اللَّهِ بتلك الرهبانية فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وهم أهل الرأفة والرحمة والرهبانية التي ابتدعوها طلبا لرضا الله وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يعني الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها وكفروا بدين عيسى وتهوّدوا وتنصّروا. وبنحو ما فسّرنا ورد فيه الآثار. وقال ابن مسعود: كنت رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حمار، فقال لي: «يا ابن أمّ عبد، هل تدري من أين اتّخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟» . قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (عليه السّلام) يعملون بمعاصي الله سبحانه، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلّا القليل، فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه، فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا عيسى- يعنون محمّدا- فتفرّقوا في غيران الجبال، وأحدثوا الرهبانية، فمنهم من تمسّك بدينه ومنهم من كفر» [223] . ثم تلا هذه الآية وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ- الآية. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ يعني: من ثبتوا عليها أَجْرَهُمْ، ثم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا ابن أم عبد، أتدري ما رهبانية أمتي؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة والتكبير على التلاع» «1» [224] . وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله ابن سليمان قال: حدّثنا شيبان بن فرّوخ قال: حدّثنا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا ابن مسعود، اختلف من كان قبلكم على ثنتين وسبعين فرقة ونجا منها ثلاث وهلك سائرهن، فرقة وازت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى فأخذوهم وقتلوهم، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم تدعوهم إلى دين الله سبحانه ودين عيسى، فساحوا في البلاد وترهّبوا وهم الذين قال الله سبحانه: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» . قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من آمن بي وصدّقني واتّبعني فقد رعاها حَقَّ رِعايَتِها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون» [225] «2» . وروى الضحّاك وعطّية عن ابن عباس قال: كتب الله سبحانه عليهم القتال قبل أن يبعث محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فلما استخرج أهل الإيمان ولم يبق منهم إلّا قليل وكثر أهل الشرك، وذهبت الرسل وقهروا، اعتزلوا في الغيران فلم يزل بهم ذلك حتى كفرت طائفة منهم، وتركوا أمر الله ودينه، وأخذوا بالبدعة وبالنصرانيّة وباليهودية، ولم يرعوها حقّ رعايتها، وثبتت طائفة على دين عيسى حتى جاءهم البيّنات، وبعث الله سبحانه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وهم كذلك. فذلك قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ إلى قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن جعفر قال: حدّثنا عليّ بن حرب قال: حدّثنا ابن فضيل قال: حدّثنا عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وحدّثت عن محمّد بن جرير، قال: حدّثنا أبو عمّار الحسين بن حريث قال: حدّثنا الفضل
ابن موسى عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى (عليه السّلام) بدّلوا التوراة والإنجيل. وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله ويأمرونهم بتقوى الله سبحانه، فقيل لملكهم: لو جمعت هؤلاء الذين شقّوا عليكم وآذوكم فقتلتموهم، أقرّوا بما نقرّ به، ودخلوا فيما نحن فيه. فدعاهم ملكهم وجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل. إلّا ما بدّلوا فيها، فقالوا: ما تريد منّا؟ نحن نكفيكم أنفسنا. فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نردّ عليكم. وقالت طائفة أخرى: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونسرب كما تسرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا. وقالت طائفة منهم: ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمرّ بكم. وليس أحد من أولئك إلّا له حميم منهم، ففعلوا ذلك بهم فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممّن قد غيّر الكتاب، فجعل الرجل يقول: نكون في مكان فلان فنتعبّد كما تعبّد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتّخذ دورا كما اتّخذ فلان، وهم على شركهم، ولا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله سبحانه: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ. قال: ابتدعها هؤلاء الصالحون فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها، يعني الآخرين الذين جاءوا من بعدهم، وفَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ يعني الذين: ابتدعوها وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ: الذين جاءوا من بعدهم. قال: فلمّا بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) ولم يبق منهم إلّا قليل، انحطّ رجل من صومعته، وجاء السائح من سياحته وصاحب الدير من ديره، وآمنوا به وصدّقوه فقال الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمّد (عليه السّلام) يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال: أجرين لإيمانهم بعيسى والإنجيل وإيمانهم بمحمّد والقرآن، وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني: القرآن لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الذين يتشبّهون بهم أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ إلى آخرها. وقال قوم: انقطع الكلام عند قوله: وَرَحْمَةً ثم قال: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ وذلك أنّهم تركوا الحقّ، وأكلوا لحم الخنزير، وشربوا الخمر، ولم يتوضّؤوا ولم يغتسلوا من جنابة، وتركوا الختان، فَما رَعَوْها يعني: الطاعة والملّة حَقَّ رِعايَتِها. كناية عن غير مذكور. فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وهم أهل الرأفة والرحمة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ، وهم أهل الرهبانية والبدعة، وإليه ذهب مجاهد. ومعنى قوله: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ: وما أمرناهم إلّا بذلك وما أمرناهم إلّا بالترهّب، أو يكون وجهه: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ بزعمهم وعندهم، والله أعلم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمّد (عليه السلام) يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ: نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بالأوّل وإيمانكم بالآخر.
وقال أبو موسى الأشعري: كِفْلَيْنِ: ضعفين بلسان الحبشة. قال ابن جبير: وأصله ما يكتفل به الراكب من الثياب والمتاع فيحبسه ويحفظه من السقوط، يقول: يحصنكم هذا الكفل من العذاب كما يحصن الراكب الكفل من السقوط. ومنه الكفالة لأنّها تحصن الحقّ. وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ في الناس، وعلى الصراط أحسن. وقال ابن عباس: النور القرآن. وقال مجاهد: الهدى والبيان، وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قال سعيد بن جبير: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم جعفرا رضي الله عنه في سبعين راكبا للنجاشي يدعوه، فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به، فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا: ايذن لنا فنأتي هذا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فنلمّ به ونجدّف بهؤلاء في البحر فإنا أعلم بالبحر منهم. فقدموا مع جعفر على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد تهيأ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السّلام) لوقعة أحد، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدّة الحال استأذنوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) فقالوا: يا رسول الله إنّ لنا أموالا، ونحن نرى ما بالمسلمين من خصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها. فأذن لهم فانصرفوا وأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله سبحانه فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «1» فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن قوله: يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ «2» ، فجروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين، أما من آمن منّا بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ، وهكذا قرأها سعيد بن جبير أَلَّا يَقْدِرُونَ الآية. وروى حنان عن الكلبي قال: كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكّة، لم يكونوا يهودا ولا نصارى، وكانوا على دين الأنبياء فأسلموا، فقال لهم أبو جهل: بئس القوم أنتم والوفد لقومكم. فردّوا عليه: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ، فجعل الله سبحانه لهم ولمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه أجرين اثنين، فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد، فأنزل الله سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن سفيان، عن صالح، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كانت له أمة فعلّمها فأحسن تعليمها، وأدّبها فأحسن تأديبها، وأعتقها وتزوّجها فله أجران، وعبد أدّى حقّ الله وحقّ مواليه، ورجل «1» من أهل الكتاب آمن بما جاء به موسى أو ما جاء به عيسى وما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم فله أجران» [226] «2» . وقال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل، فلمّا خرج من العرب كفروا، فأنزل الله سبحانه لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أي ليعلم (لا) صلة أَلَّا يَقْدِرُونَ يعني أنّهم لا يقدرون، كقوله: أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا «3» وأنشد الفرّاء: إنّي كفيتك ما توثق ... إن نجوت إلى الصباح وسلمت من عرض الجنون ... من الغدوّ إلى الرواح إن تهبطنّ بلاد قومي ... يرتعون من الطلاح أي: إنّك تهبطن. عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الآية. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثني أبو بكر بن خرجة قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدّثنا الحسن بن السكن البغدادي، قال: حدّثنا أبو زيد النحوي، عن قيس بن الربيع عن الأعمش، عن عطيّة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله عزّ وجلّ قسّم الأجر وقسّم العمل، فقيل لليهود: اعملوا، فعملوا إلى نصف النهار، فقيل: لكم نصف قيراط. وقيل للنصارى: اعملوا، فعملوا من نصف النهار إلى العصر، فقيل: لكم قيراط. وقيل للمسلمين: اعملوا، فعملوا من صلاة العصر إلى غروب الشمس بقيراطين. فتكلّم اليهود والنصارى في ذلك، فأنزل الله سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» [227] «4» .
سورة المجادلة
سورة المجادلة مدنيّة، وهي ألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفا، وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة، واثنتان وعشرون آية أخبرنا أبو الحسين عليّ بن محمّد بن الحسن المقرئ، عن مرّة قال: حدّثنا أبو بكر أحمد ابن إبراهيم الجرجاني وأبو الشيخ عبد الله بن محمّد الأصبهاني قالا: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم ابن شريك الكوفي قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبىّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة» [228] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ: تخاصمك وتحاورك وتراجعك فِي زَوْجِها وهي امرأة من الأنصار ثمّ من الخزرج، واختلفوا في اسمها ونسبها، فقال ابن عباس: هي خولة بنت
خولد. وقال أبو العالية: خويلة بنت الدليم. وقال قتادة: خويلة بنت ثعلبة. وقال المقاتلان: خولة بنت ثعلبة ابن مالك بن خزامة الخزرجية من بني عمرو بن عوف. عطية عن ابن عباس: خولة بنت الصامت. وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنّ اسمها جميلة «1» ، وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وذلك أنّها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة في صلاتها فنظر إلى عجزها، فلمّا انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها، وكان امرئا فيه سرعة ولمم. فقال لها: أنت عليّ كظهر أمّي. ثم ندم على ما قال، وكان الظهار والإيلاء من طلاق أهل الجاهلية. فقال لها: ما أظنك إلّا قد حرمت عليّ. قالت: لا تقل ذلك، ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسله. فقال: إني أجدني استحي منه أن أسأله عن هذا. قالت: فدعني أسأله. قال: سليه. فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم وعائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: يا رسول الله، إنّ زوجي أوس بن الصامت تزوّجني، وكنت شابّة جميلة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرّق وكبرت سنّي ظاهر منّي وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإيّاه ينعشني؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حرمت عليه» . فقالت: يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، وإنّه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حرمت عليه» . فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، قد طالت صحبتي ونقصت «2» له بطني. فقال رسول الله (عليه السّلام) : «ما أراك إلّا وقد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء» [229] «3» . فجعلت تراجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا قال لها رسول الله (عليه السّلام) : «حرمت عليه» هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي، اللهمّ، فأنزل على لسان نبيّك. وكان هذا أول ظهار في الإسلام. فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر فقالت: انظر في أمري، جعلني الله فداك يا نبيّ الله. فقالت عائشة: اقصري حديثك ومحادثتك، أما ترين وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أنزل عليه أخذه مثل السبات؟ فلمّا قضى الوحي قال: «ادعي زوجك» [230] . فجاء، فقرأ ما نزل عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ثم بيّن حكم الظهار، وجعل فيه الكفّارة، فقال سبحانه: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ إلى آخرها، قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلّها، إنّ المرأة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليّ بعضه، إذ أنزل سبحانه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآيات.
فلمّا نزلت هذه الآيات وتلاها عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «هل تستطيع أن تعتق رقبة؟» . قال: إذن يذهب مالي كلّه. الرقبة غالية وأنا قليل المال. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهل تستطيع أن تصوم شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ؟» . قال: والله يا رسول الله، إني إذا لم آكل في اليوم ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشو عيني. قال: «فهل تستطيع أن تطعم سِتِّينَ مِسْكِيناً؟» . قال: لا والله، إلّا أن تعينني على ذلك يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي معينك بخمسة عشر صاعا، وأنا داع لك بالبركة» [231] «1» . فأعانه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخمسة عشر صاعا واجتمع لهما أمرهما. فذلك قوله: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ، قد ذكرنا اختلاف القرّاء في هذا الحرف في سورة الأحزاب. ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ قرأ العامّة بخفض التاء ومحلّه نصب، كقوله سبحانه: ما هذا بَشَراً «2» . وقيل: (بأمهاتهم) . وقرأ المفضّل بضمّ التاء. إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أي كذبا، والمنكر: الذي لا تعرف صحّته. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ، اعلم أنّ الألفاظ التي يصير المرء بها مظاهرا على ضربين: صريح، وكناية. فالصريح هو أن يقول: أنت عليّ كظهر أمّي، وكذلك إذا قال: أنت عليّ كبطن أمّي أو كرأس أمّي أو كفرج أمّي، وهكذا إذا قال: فرجك أو رأسك أو ظهرك أو صدرك أو بطنك أو يدك أو رجلك عليّ كظهر أمّي، فإنّه يصير مظاهرا، وكلّ ذلك محلّ قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو بطنك طالق فإنّه تطلق، والخلاف في هذه المسألة بين الفريقين كالخلاف في الطلاق. ومتى ما شبّهها بأمّه أو بإحدى جدّاته من قبل أبيه وأمّه كان ذلك ظهارا بلا خلاف. وإن شبّهها بغير الأمّ والجدّة من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالابنة والأخت والعمّة والخالة ونحوها، كان مظاهرا على الصحيح من المذاهب. فصريح الظهار هو أن يشبّه زوجته أو عضوا من أعضائها بعضو من أعضاء أمّه، أو أعضاء واحدة من ذوات محارمه. والكناية أن يقول: أنت عليّ كأمّي، أو مثل أمّي أو نحوها، فإنّه يعتبر فيه نيّته. فإن أراد ظهارا كان مظاهرا وإن لم ينو الظهار لا يصر مظاهرا. وكلّ زوج صحّ طلاقه صحّ ظهاره، سواء كان عبدا أو حرا أو ذمّيا أو دخل بالمرأة أو لم يدخل بها، أو كان قادرا على جماعها أو عاجزا عنه. وكذلك يصحّ الظهار من كلّ زوجة، صغيرة كانت أو كبيرة، أو عاقلة أو مجنونة، أو رتقاء أو سليمة، أو صائمة أو محرمة، أو ذمّية، أو مسلمة، أو في عدّة يملك رجعتها.
وقال أبو حنيفة: لا يصحّ ظهار الذمّيّ. وقال مالك: لا يصحّ ظهار العبد، قال بعض العلماء: لا يصحّ ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: إذا طلّق الرجل امرأته طلقة رجعيّة ثم ظاهر فإنّه لا يصحّ. ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا اعلم أنّ الكفارة تلزم بالظهار وبالعود جميعا، ولا تلزم بأحدهما دون الآخر. كما أنّ الكفارة في باب اليمين تجب باليمين والحنث جميعا معا، فإذا عاد في ظهاره لزمته الكفّارة. واختلف العلماء والفقهاء في معنى العود فقال الشافعي: العود الموجب للكفّارة أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار وتمضي مدّة يمكنه أن يطلّقها فلم يطلّقها. وقال قتادة: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يريد أن يغشاها ويطأها بعد ما حرّمها. وإليه ذهب أبو حنيفة، قال: إن عزم على وطئها ونوى أن يغشاها كان عودا. وقال مالك: إن وطئها كان عودا، وإن لم يطأها لم يكن عودا. وقال أصحاب الظاهر: إن كرّر اللفظ كان عودا وإن لم يكرّر لم يكن عودا. وهو قول أبي العالية، وظاهر الآية يشهد له، وهو قوله: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أي إلى ما قالوا، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ «1» مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا لأنّ الله سبحانه قيّد الرقبة بالإيمان في كفّارة القتل وأطلق في هذا الموضع، ومن حكم المطلق أن يحمل على القيد. وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي يتجامعا، فالجماع نفسه محرّم على المظاهر حتى يكفّر، فإن وطئ قبل التكفير فقد فعل محرّما، ولا تسقط عنه الكفّارة بل يأتي بها على وجه القضاء، كما لو أخّر الصلاة عن وقتها، فإنّه لا يسقط عنه إتيانها بل يلزمه قضاؤها. وسواء كفّر بالإعتاق أو الصيام أو الإطعام فإنّه يجب عليه تقديم الكفّارة، ولا يجوز له أن يطأها قبل الكفّارة. وقال أبو حنيفة: إن كفّر بالإطعام جاز له أن يطأ ثم يطعم ولم يخالف في العتق والصيام. فهذا حكم وطء المظاهر قبل التكفير. وأمّا غير الوطء من التقبيل والتلذّذ فإنّه لا يحرم في قول أكثر العلماء. وهو قول الحسن وسفيان، والصحيح من مذهب الشافعي. وقال بعضهم: عنى به جميع معاني المسيس لأنّه عامّ وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه. ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ: تؤمرون به، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة ولا
ثمنها، أو يكون مالكا للرقبة إلّا إنّه محتاج إليها لخدمته، أو يكون مالكا للثمن ولكن يحتاج إليه لنفقته أو كان له مسكن يسكنه، فله الانتقال إلى الصوم. وقال أبو حنيفة: ليس له أن يصوم وعليه أن يعتق الرقبة وإن كان محتاجا إليها وإلى ثمنها، فإن عجر عن الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فإن أفطر في أثنائها بغير عذر قطع التتابع وعليه أن يستأنف شهرين متتابعين. وإن أفطر بعذر المرض أو السفر، فاختلف الفقهاء فيه، فقال قوم: لا ينقطع التتابع وله أن يبني ويقضي الباقي، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي، وهو أحد قولي الشافعي. وقال آخرون: ليس له أن يبني بل يلزمه أن يستأنف ويبتدئ، وهو قول النخعي وأصحابه، والأصحّ من قولي الشافعي. وإن تخلّل صوم الشهرين زمان لا يصحّ فيه الصوم عن الكفّارة كالعيدين وأيام التشريق وأيام شهر رمضان، فإنّ التتابع ينقطع بذلك ويجب الاستئناف. ولو وطئ المظاهر في الشهرين، نظر فإن وطئها نهارا بطل التتابع وعليه الابتداء، وإن وطئها ليلا لم يبطل التتابع. وقال أبو حنيفة: سواء وطئ ليلا أو نهارا فإنّه يبطل التتابع وعليه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين. فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام، وعدم الاستطاعة مثل أن يخاف من الصوم لعلة أو لحوق ومشقّة شديدة ومضرّة ظاهرة، فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكلّ مسكين مدّ من غالب قوت بلده، والخلاف فيه بين الفريقين كالاختلاف في زكاة الفطرة. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ: يخالفون ويعادون اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا: أهلكوا وأخّروا وأحربوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ قراءة العامّة بالياء لأجل الحائل، وقرأ أبو جعفر القارئ (تكون) - بالتاء- لتأنيث النجوى، والأول أفصح وأصحّ مِنْ نَجْوى متناجين ثَلاثَةٍ، قال الفراء: إن شئت خفضت الثلاثة على نعت النجوى وإن شئت أضفت النجوى إليها، ولو نصبت على أنّها [حال] «1» لكان صوابا. إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ بالعلم يسمع نجواهم ويعلم فحواهم، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ، قراءة العامّة بالنصب في محلّ الخفض عطفا. وقرأ يعقوب وأبو حاتم أكثر بالرفع على محلّ الكلام قبل دخول (من) ، وقرأ
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 إلى 11]
الزهري أكبر بالباء «1» ، إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. [سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 11] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى - الآية- قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنّهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلّا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم. فلمّا طال ذلك وكثر شكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم ألّا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال مقاتلان «2» : أنزلت في اليهود، وكانت بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم موادعة، فإذا مرّ بهم رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السّلام) جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى ينظر المؤمن أنّهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فينزل الطريق عليهم من المخافة، فبلغ ذلك النبي (عليه السلام) فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال ابن زيد: كان الرجل يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأله الحاجة ليري الناس أنّه قد ناجى فيقول لهم: إنّما يتناجون في حرب حضرت، أو جمع قد جمع لكم، أو أمر مهمّ قد وقع، فأنزل الله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى أي المناجاة. ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي يرجعون إلى المناجاة التي نهوا عنها وَيَتَناجَوْنَ، قرأ يحيى والأعمش وحمزة (ينتجون) على وزن (يفتعلون) ، وقرأ الباقون يَتَناجَوْنَ على وزن (يتفاعلون) ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: إِذا تَناجَيْتُمْ وتَناجَوْا ولم يقل (انتجيتم) و (انتجوا) . بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وقرأ الضحّاك: (ومعصيات الرسول) فيهما بالجمع وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: السام عليك. فيرد عليهم رسول الله: «وعليكم» . ولا يدري ما يقولون، والسام الموت، فإذا خرجوا قالوا: لو كان نبيّا لعذّبنا واستجيب فينا وعرف قولنا. فدخلوا عليه ذات يوم وقالوا: السام عليك. ففطنت عائشة رضي الله عنها إلى قولهم وقالت: وعليكم السام والذام
والداء واللعنة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مه يا عائشة، إنّ الله- عزّ وجلّ- يحبّ الرفق في الأمر كلّه ولا يحبّ الفحش والتفحّش» . فقالت: يا رسول الله، ألم تسمع ما قالوا؟، فقال رسول الله (عليه السّلام) : «ألم تسمعي ما رددت عليهم؟» . فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» [232] «1» . ثم نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا، قراءة العامّة بالألف، وروى أويس «2» عن يعقوب: (فلا تتنجوا) من الانتجاء. بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ كفعل المنافقين واليهود وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ التناجي بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن جعفر قال: حدّثنا حمّاد بن الحسن قال: حدّثنا عبيد الله قال: حدّثنا الأعمش، عن سفيان عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون [صاحبهما] «3» فإنّ ذلك يحزنه» [233] «4» . أخبرنا محمّد بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: أخبرنا عبد الله بن بشر قال: حدّثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتناج اثنان دون الثالث» [234] «5» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا الآية، قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السّلام) ، وكانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض. وقال [المقاتلان] «6» : كان النبي (عليه السّلام) في الصفّة وفي المكان ضيق وذلك يوم الجمعة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء أناس من أهل بدر وفيهم ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: السلام عليكم- أيّها النبيّ ورحمة الله. فردّ عليهم النبي (عليه السلام) ثم سلّموا على القوم بعد ذلك،
فردّوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم، فعرف النبي (عليه السلام) ما يحملهم على القيام فلم يفسحوا لهم، فشقّ ذلك على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار والتابعين من غير أهل بدر: «قم يا فلان وأنت يا فلان» [235] «1» . فأقام من المجلس بقدر النفر الذين قاموا بين يديه من أهل بدر، فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون للمسلمين: ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس؟ فو الله ما عدل على هؤلاء، أنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه مقامهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال الكلبي: نزلت في ثابت بن قيس بن الشماس- وقد ذكرت هذه القصّة في سورة الحجرات- فأنزل الله عزّ وجلّ في الرجل الذي لم يتفّسح له يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا: توسّعوا، ومنه قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعا في المجلس. قرأ السلمي والحسن وعاصم فِي الْمَجالِسِ- بالألف- على الجمع، وقرأ قتادة: (تفاسحوا) بالألف فيهما، وقرأ الآخرون تَفَسَّحُوا (في المجلس) يعنون مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد قال: لأنّه قراءة العامّة، مع أن المجلس يؤدي معناه عن المجالس كلّها من مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) وغيره. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدّثنا فليح، عن أيوب بن عبد الرحمن بن صعصعة [الأنصاري، عن يعقوب] «2» بن أبي يعقوب، عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» [236] «3» . وقال أبو العالية والقرظي: هذا في مجالس الحرب ومقاعد القتال، كان الرجل يأتي القوم في الصّف فيقول لهم: توسّعوا، فيأبون عليه لحرصهم على القتال، فأمرهم الله سبحانه أن يفسح بعضهم لبعض. وهذه رواية العوفي عن ابن عباس. قال الحسن: بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قاتل المشركين وصفّ أصحابه للقتال تشاحّوا على الصف الأوّل ليكونوا في أوّل غارة القوم، فكان الرجل منهم يجيء إلى الصّف الأوّل فيقول لإخوانه: توسّعوا لي ليلقى العدوّ ويصيب الشهادة، فلا يوسّعون له رغبة منهم في الجهاد والشهادة، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا قرأ عاصم وأهل المدينة والشام بضم الشينين، وقرأ الآخرون بكسرهما. وهما لغتان، يعني وإذا قيل لكم: قوموا وتحرّكوا وارتفعوا وتوسّعوا لإخوانكم فافعلوا. وقال أكثر المفسّرين: معناه: وإذا قيل لكم: انهضوا إلى الصلاة والجهاد والذكر وعمل الخير أي حق كان فَانْشُزُوا ولا تقصّروا. قال عكرمة والضحاك: يعني إذا نودي للصلاة فقوموا لها، وذلك أن رجالا تثاقلوا عن الصلاة إذا نودي لها، فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال ابن زيد: هذا في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك أن كلّ رجل منهم كان يحبّ أن يكون آخر عهده رسول الله، فقال الله سبحانه: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأنّ له حوائج فَانْشُزُوا ولا تطلبوا المكث عنده يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بطاعتهم رسول الله وقيامهم من مجالسهم وتفسّحهم لإخوانهم وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ منهم بفضل علمهم وسابقتهم دَرَجاتٍ فأخبر الله سبحانه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصيب فيما أمر وأنّ أولئك المؤمنين مثابون فيما ائتمروا، وأنّ النفر من أهل بدر مستحقّون لما عوملوا من الإكرام وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عامر البلخي قال: حدّثنا القاسم ابن عبّاد قال: حدّثنا صالح بن محمّد الترمذي قال: حدّثنا المسيّب بن شريح، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن قال: قرأ ابن مسعود هذه الآية يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فقال: أيّها الناس، افهموا هذه الآية ولترغّبكم في العلم فإن الله سبحانه يقول: يرفع الله المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم درجات «1» . وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه قال: أخبرنا صالح ابن مقاتل، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة، وفضل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على العالم درجة، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم» [237] «2» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة» [238] «3» .
[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 إلى 22]
[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 22] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال ابن عباس: وذلك أنّ الناس سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأكثروا، حتى شقّوا عليه وأحفوه بالمسألة فأدّبهم الله سبحانه وفطّنهم عن ذلك بهذه الآية، وأمرهم أن لا يناجوه حتى يقدّموا صدقة. وقال مقاتل بن حيّان: نزلت في الأغنياء، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على [المجالس] حتى كره النبي صلّى الله عليه وسلّم طول جلوسهم ومناجاتهم فأمر الله تعالى بالصدقة عند المناجاة، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن المناجاة، فأمّا أهل العسرة فلم يجدوا شيئا، وأمّا أهل الميسرة فبخلوا ومنعوا، فاشتدّ ذلك على أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الرخصة «1» ، قال مجاهد: نهوا عن مناجاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى يتصدّقوا، فلم يناجه إلّا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قدّم دينارا فتصدّق به ثمّ نزلت الرخصة. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها
أحد بعدي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فإنّها فرضت ثم نسخت «1» . أخبرني عبد الله بن حامد- إجازة- قال: أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه قال: أخبرنا علي بن صقر بن نصر قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد قال: حدّثنا أبو عبد الرحمن «2» الأشجعي، عن سفيان عن عثمان بن المغيرة، عن [سالم] بن أبي الجعد، عن عليّ بن علقمة الأنماري، عن علىّ بن أبي طالب قال: لمّا نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً دعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما ترى بذي دينار» ؟. قلت: لا يطيقونه. قال: «كم» ؟. قلت: حبّة أو شعيرة. قال: «إنك لزهيد» [239] . فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية. قال عليّ رضي الله عنه: فيّ خفّف الله سبحانه عن هذه الأمّة، ولم تنزل في أحد قبلي ولن تنزل في أحد بعدي [240] «3» . قال ابن عمر: كان لعليّ بن أبي طالب ثلاث لو كان لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى [241] «4» . ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعني للفقراء. أَأَشْفَقْتُمْ أبخلتم وخفتم بالصدقة الفاقة أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فتجاوز عنكم ولم يعاقبكم بترك الصدقة، وقيل: الواو صلة. مجازه (وإذ لم تفعلوا تاب الله عليكم) تجاوز عنكم وخفّف ونسخ الصدقة. قال مقاتل بن حيّان: إنّما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كانت إلّا ساعة من النهار. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نزلت في المنافقين تولّوا اليهود وناصحوهم ونقلوا إليهم أسرار المسلمين ما هُمْ مِنْكُمْ يا معشر المسلمين وَلا مِنْهُمْ يعني اليهود والكافرين. نظيره مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ «5» .
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. قال السدّي ومقاتل: خاصّة في عبد الله بن نبتل المنافق، كان يجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجرة من حجره إذ قال: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار وينظر بعيني شيطان» فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «على ما تشتمني أنت وأصحابك» ؟ فحلف بالله ما فعل، وقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فعلت» [242] «1» . وانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله سبحانه ذكر هذه الآية. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة، وقرأ الحسن بكسر الألف، أي إقرارهم جُنَّةً يستجنّون بها من القتل ويدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ يوم القيامة أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كارهين، ما كانوا كاذبين كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ، قال قتادة: إنّ المنافق يحلف له يوم القيامة كما حلف لأوليائه في الدنيا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ، أخبرنا الحسن بن محمّد قال: حدّثنا أحمد بن يعقوب الأنباري قال: حدّثنا أبو حنيفة محمّد بن حنيفة بن ماهان الواسطي قال: حدّثنا إبراهيم بن سليم الهجمي قال: حدّثنا ابراهيم بن سليمان الدبّاس قال: حدّثنا ابن أخي روّاد، عن الحكم عن عيينة عن مقسم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ينادي مناد يوم القيامة: أين خصماء الله؟ فيقوم القدرية وجوههم مسودّة، مزرقّة أعينهم، مائل شدقهم، يسيل لعابهم، فيقولون: والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا ولا اتّخذنا من دونك إلها» [243] «2» . فقال ابن عباس: صدقوا والله، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا ابن عباس هذه الآية وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ، هم والله القدريون، هم والله القدريون. اسْتَحْوَذَ: غلب واستولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ: الأسفلين. كَتَبَ اللَّهُ: قضى الله سبحانه لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، وذلك أنّ المؤمنين قالوا: لئن فتح الله لنا مكّة وخيبر وما حولها فإنّا لنرجو أن يظفرنا الله على الروم وفارس. فقال عبد الله بن أبىّ: أتظنّون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها؟ والله لهم أكثر عددا وأشدّ بطشا من ذلك. فأنزل الله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ نظيره قوله سبحانه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «1» . لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ- الآية- نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة. وسنذكر القصة في سورة الامتحان إن شاء الله. وقال السدّي: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي، وذلك أنّه كان جالسا إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشرب رسول الله (عليه السلام) الماء، فقال عبد الله: يا رسول الله، أبق فضلة من شرابك. قال: «وما تصنع بها» ؟ قال: أسقيها أبي لعلّ الله يطهّر قلبه. ففعل فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال من شراب رسول الله (عليه السلام) جئتك بها لتشربها لعلّ الله سبحانه وتعالى يطهّر قلبك. فقال أبوه: هلّا جئتني ببول أمّك. فرجع إلى النبي (عليه السلام) ، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في قتل أبي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل ترفّق به وتحسّن إليه» «2» . وقال ابن جريح: حدّثت أنّ أبا قحافة سبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم فصكّه أبو بكر صكّة سقط منها، ثم ذكر ذلك للنبيّ (عليه السلام) فقال: «أو فعلته؟» . فقال: نعم. قال: «فلا تعد إليه» [244] «3» فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو كان السيف منّي قريبا لقتلته، فأنزل الله سبحانه هذه الآية: يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ. وروى مقاتل بن حيّان، عن مرّة الهمذاني، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد أَوْ أَبْناءَهُمْ يعني أبا بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال: يا رسول الله: دعني أكرّ في الرعلة «4» الأولى. فقال له رسول الله: «متّعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنّك عندي بمنزلة سمعي وبصري؟» [245] «5» .
وإِخْوانَهُمْ يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد أَوْ عَشِيرَتَهُمْ يعني عمر قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليّا وحمزة وعبيدة قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ قراءة العامّة بفتح الكاف والنون، وروى المفضّل عن عاصم بضمّهما على المجهول، والأوّل أجود لقوله: وَأَيَّدَهُمْ وندخلهم. قال الربيع بن أنس: يعني أثبت الإيمان في قلوبهم فهي موقنة مخلصة. وقيل: معناه كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، كقوله: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ. وقيل: حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنّها موضعه. وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ: وقوّاهم بنصر منه، قاله الحسن، وقال السدّي: يعني بالإيمان. ربيع، بالقرآن وحجّته، نظيره: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. ابن جرير: بنور وبرهان وهدى. وقيل: برحمة. وقيل: أمدّهم بجبريل (عليه السلام) . وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا محمّد بن حمدان بن سفيان قال: حدّثنا محمّد بن يزيد بن عبد الله بن سلمان قال: حدّثنا المرداس أبو بلال قال: حدّثنا إسماعيل، عن سعد بن سعيد الجرجاني، عن بعض مشيخته قال: قال داود (عليه السلام) : «إلهي، من حزبك وحول عرشك؟» . فأوحى الله سبحانه إليه: «يا داود، الغاضّة أبصارهم، النقيّة قلوبهم، السليمة أكفّهم، أولئك حزبي وحول عرشي» [246] «1» .
سورة الحشر
سورة الحشر مدنية، وهي أربع وعشرون آية، وأربعمائة وخمس وأربعون كلمة، وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا أخبرنا أبو العبّاس سهل بن محمّد بن سعيد المروزي قال: حدّثني أبو الحسن المحمودي قراءة: حدثنا تميم بن محمود عن العبّاس بن [ ... ] «1» عن رجاله: قال: حدّثنا محمّد بن صالح عن زيد العجمي عن ابن عباس قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) : «من قرأ سورة (الحشر) لم يبق جنّة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا حجاب ولا السماوات السبع والأرضون السبع والهوام والريح والطير والشجر والدواب والجبال والشمس والقمر والملائكة إلّا صلّوا عليه، واستغفروا له، فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا» [247] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ الآيات، قال المفسرون: نزلت هذه الآيات بأسرها في بني النضير، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على ألّا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم ذلك، فلمّا غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدرا وظهر على المشركين قالت بنو النضير: والله إنّه للنبيّ الذي وجدنا نعته في التوراة: لا تردّ لهم راية. فلما
غزا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا وهزم المسلمون ارتابوا ونافقوا وأظهروا العداوة لرسول الله (عليه السلام) والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا من اليهود إلى مكّة، فأتوا قريشا فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمّد (عليه السلام) . ثم دخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة، ثم رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة، فنزل جبريل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بما تعاقد عليه كعب وأبو سفيان، وأمر (عليه السلام) بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمّد بن مسلمة الأنصاري، وكان أخاه من الرضاعة. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اطّلع منهم على خيانة ونقض عهد، حتى أتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعليّ (رضي الله عنهم) يستعينهم في دية الرجلين المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أميّة الضمري في منصرفه من بئر معونة حين أغربا إلى بني عامر، فأجابوه صلّى الله عليه وسلّم إلى ذلك، وأجلسوه وهمّوا بالفتك به وطرح حجر عليه من فوق الحصن، فأخبره الله سبحانه بذلك وعصمه. وقد مضت هذه القصة وقصة مقتل كعب بن الأشرف، فلمّا قتل كعب أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأمر الناس بالسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية لهم يقال لها: زهرة، فلمّا سار إليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجدهم ينوحون على كعب، وكان سيّدهم، فقالوا: يا محمّد، واعية على إثر واعية، وباكية على إثر باكية؟ قال: «نعم» . قالوا: ذرنا نبكي بشجونا ثم ائتمرنا أمرك. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اخرجوا من المدينة» [248] «1» . قالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك. فتنادوا بالحرب وأذنوا بالقتال، ودسّ المنافقون: عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم ألّا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ فدربوا على الأزقة وحصونها. ثم أجمعوا الغدر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسلوا إليه: اخرج في ثلاثين رجلا من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون رجلا حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينكم، فيسمعوا منك، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنّا كلّنا. فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثين من أصحابه وخرج إليه ثلاثون حبرا من اليهود، حتى إذا كانوا في براز من الأرض قال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون رجلا من أصحابه كلّهم يحبّ أن يموت قبله؟ فأرسلوا إليه: كيف نفهم ونحن ستون رجلا، اخرج في ثلاثة من أصحابك، ونخرج لك ثلاثة من علمائنا فيسمعوا منك، فإن آمنوا بك آمنّا كلّنا وصدّقناك.
فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في ثلاثة من أصحابه، وخرج ثلاثة من اليهود، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله (عليه السلام) ، فأقبل أخوها سريعا حتى أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم فسارّه بخبرهم قبل أن يصل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) . فلمّا كان الغد عدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فلمّا قذف الله سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وأيسوا من نصر المنافقين سألوا نبي الله (عليه السلام) الصلح فأبى عليهم [إلّا] «1» أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقبلوا ذلك، وصالحهم على الإجلاء، وعلى أنّ لهم ما أقلّت الإبل من أموالهم إلّا الحلقة وهي السلاح، وعلى أن يخلوا له ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم. وقال ابن عباس: صالحهم على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم، وللنبي صلّى الله عليه وسلّم ما بقي. وقال الضحاك: أعطى كلّ ثلاثة نفر بعيرا وسقاء، ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحا إلّا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب، فإنّهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة منهم بالحيرة، فذلك قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ التي كانت بيثرب. قال ابن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من أحد وكان فتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان. لِأَوَّلِ الْحَشْرِ قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما مضى، وكان الله سبحانه قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وكانوا أول حشر في الدنيا حشروا إلى الشام. قال ابن عباس: من شكّ أنّ المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) قال لهم يومئذ: «اخرجوا» . قالوا: إلى أين؟ فقال: «إلى أرض المحشر» [249] «2» ، فأنزل الله سبحانه لِأَوَّلِ الْحَشْرِ. وقال الكلبي: إنّما قال: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ لأنّهم أوّل من حشروا من أهل الكتاب ونفوا من الحجاز. وقال مرّة الهمداني: كان هذا أوّل الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع
جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى بدنه «1» . وقال قتادة: كان هذا أوّل الحشر، والحشر الثاني نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل منهم من تخلّف. قال يمان بن رباب: إنّما قال: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ لأنّ الله سبحانه فتح على نبيّه (عليه السلام) في أول ما قاتلهم. ما ظَنَنْتُمْ أيّها المؤمنون أَنْ يَخْرُجُوا من المدينة وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ حيث درّبوها وحصّنوها فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أمر الله وعدله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ بقتل سيّدهم كعب بن الأشرف. يُخْرِبُونَ قراءة العامّة بالتخفيف، من الإخراب، أي يهدمون، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وأبو عمرو بن العلاء بالتشديد، من التخريب، وقال أبو عمرو: إنّما اخترت التشديد لأنّ الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن، وأنّ بني النضير لم يتركوا منازلهم فيرتحلوا عنها ولكنّهم خرّبوها بالنقض والهدم. وقال الآخرون: التخريب والإخراب بمعنى واحد. قال الزهري: ذلك أنّهم لمّا صالحهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أنّ لهم ما أقلّت الإبل، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم ممّا يستحسنونه، أو العمود أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها منها ويحملونها على إبلهم ويخرّب المؤمنون باقيها. وقال ابن زيد: كانوا يقتلعون العمد وينقضون السقوف وينقبون الجدران ويقلعون الخشب حتى الأوتاد يخربونها لئلّا يسكنها المؤمنون، حسدا منهم وبغضا. وقال الضحاك: جعل المسلمون كلّما هدموا شيئا من حصونهم جعلوا هم ينقضون بيوتهم بأيديهم ويخربونها ثم يبغون ما خرب المسلمون. وقال ابن عباس: كلّما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتّسع لهم المقاتل، وجعل أعداء الله ينقبون دورهم من أدبارهم فيخرجون إلى التي بعدها فيتحصّنون فيها ويكسرون ما يليهم منها، ويرمون بالتي خرجوا منها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «2» . وقال قتادة: كان المسلمون يخربون ما يليهم من ظاهرها، ويخربها اليهود من داخلها فذلك قوله سبحانه يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا.
: فاتّعظوا يا أُولِي الْأَبْصارِ يا ذوي العقول. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ: الخروج عن الوطن لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ وقرأ طلحة بن مصرف: (ومن يشاقق الله) (كالتي في الأنفال) فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ الآية، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل ببني النضير وتحصّنوا في حصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمّد، زعمت أنّك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخيل؟ فهل وجدت فيما زعمت أنّه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشقّ ذلك على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم، وخشوا أن يكون ذلك فسادا، واختلف المسلمون في ذلك، فقال بعضهم: لا تقطعوا فإنّه ممّا أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعها، فأنزل الله سبحانه هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله سبحانه. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسن قال: حدّثنا محمّد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر وأبو الأزهر وحمدان وعلي قالوا: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريح قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أنّ النبي (عليه السلام) قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير «1» أخبرنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الله وأبو محمّد إسحاق بن إبراهيم وأبو علي الحسن بن محمّد وأبو القاسم الحسن بن محمّد قالوا: حدّثنا أبو العباس الأصمّ قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بإحراق نخل بني النضير، فقال فيه حسان بن ثابت: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير «2» وفي ذلك نزل قوله سبحانه: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ. اختلفوا فيها فقال قوم: هي ما دون العجوة من النخل، فالنخل كلّه لينة ما خلا العجوة، وهو قول عكرمة ويزيد بن رويان وقتادة. ورواية باذان عن ابن عباس قال: وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقطع نخلهم إلّا العجوة ، وأهل المدينة يسمّون ما خلا العجوة من التمر: الألوان، واحدها لون ولينة، وأصلها لونة فقلبت الواو بالكسرة ما قبلها.
وقال الزهري: اللينة ألوان النخل كلّها إلّا العجوة والبرنيّة، وقال مجاهد وعطية وابن زيد: هي النخل كلّه من غير استثناء. العوفي عن ابن عباس: هي لون من النخل. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا جعفر بن محمّد قال: حدّثنا عبد الله بن مبارك، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ قال: النخلة والشجرة. قال سفيان: هي كرام النخل. وقال مقاتل: هي ضرب من النخل يقال لثمرتها: اللون، وهو شديد الصفرة ترى نواه من خارج يغيب فيه الضرس. وكان من أجود تمرهم وأعجبها إليهم، وكانت النخلة الواحدة منها ثمن وصيف، وأحبّ إليهم من وصيف، فلما رأوا ذلك الضرب يقطع شقّ عليهم مشقّة شديدة، وقالوا للمؤمنين: تزعمون أنّكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون وتخربون وتقطعون الشجر، دعوا هذا النخل، فإنّما هي لمن غلب عليها. وقيل: هي النخلة القريبة من الأرض. وأنشد الأخفش: قد شجاني الحمام حين تغنّى ... بفراق الأحباب من فوق لينه «1» والعرب تسمّي ألوان النخل كلّها لينة، قال ذو الرمّة: كأنّ قتودي فوقها عش طائر ... على لينة فرواء «2» تهفو جنوبها وقال أيضا: طراق الخوافي واقعا فوق لينة ... لدى ليلة في ريشه يترقرق «3» وجمع اللينة لين، وقيل: ليان، قال امرؤ القيس يصف عنق فرس. وسالفة كسحوق الليان ... أضرم فيها الغوي السعر
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 إلى 7]
أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها: سوقها فلم تقطعوها ولم تحرقوها، وقرأ عبد الله: (ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوما على أصولها إلّا بإذن الله) . وقرأ الأعمش: (ما قطعتم من لينة أو تركتم قوّما على أصولها) . فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ أي وليذلّ اليهود، ويحزنهم ويغيظهم. [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 7] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) وَما أَفاءَ اللَّهُ: ردّ الله عَلى رَسُولِهِ ورجع إليه، ومنه فيء الظل مِنْهُمْ من بني النضير من الأموال فَما أَوْجَفْتُمْ: أوضعتم عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وهي الإبل، يقول: لم يقطعوا إليها شقة، ولم ينالوا فيها مشقّة ولم يكلّفوا مؤونة ولم يلقوا حربا وإنّما كانت بالمدينة فمشوا إليها مشيا، ولم يركبوا خيلا ولا إبلا إلّا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه ركب جملا فافتتحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلحا وأجلاهم عنها وأحرز أموالهم، فسأل المؤمنون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم القسمة، فأنزل الله سبحانه ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فجعل أموال بني النضير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصّة يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول الله (عليه السلام) بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئا إلّا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحرث بن الصمة، ولم يسلم من بني النضير إلّا رجلان: أحدهما سفيان بن عمير بن وهب، والثاني سعيد بن وهب وسلما على أموالهما فأحرزاها. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمّد قال: أخبرنا بشر بن موسى قال: حدّثنا الحميد قال: حدّثنا سفيان قال: حدّثنا عمرو بن دينار ومعمر بن راشد، عن ابن شهاب الزهري أنّه سمع مالك بن أوس بن الحدثان البصري يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إنّ أموال بني النضير كانت مما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ ممّا لم يوجف المسلمون عليه ب خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالصا، فكان رسول الله (عليه السلام) ينفق على أهله منه نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدّة في سبيل الله. أخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسن قال: حدّثنا محمّد ابن يحيى قال: حدّثنا محمّد بن يوسف قال: حدّثنا ابن عيينة، عن معمر، عن الزهري
قال: وأخبرت «1» عن محمّد بن جرير قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عبد الأعلى قال: حدّثنا أبو ثور، عن معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إليّ عمر بن الخطاب فدخلت عليه، فقال: إنّه قد حضر أهل ثبات من قومك، وأنّا قد أمرنا لهم برضخ فاقسمه بينهم. فقلت: يا أمير المؤمنين، مر بذلك غيري. قال: اقبضه أيّها المرء. فبينا أنا كذلك إذ جاء مولاه يرفأ فقال: عبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان وسعد يستأذنون. فقال: ايذن لهم. ثم مكث ساعة، ثم جاء فقال: هذا علي والعباس يستأذنان. فقال: ايذن لهما. فلمّا دخل العباس قال: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الغادر الفاجر الخائن!!! «2» . وهما حينئذ يختصمان في ما أَفاءَ اللَّهُ عزّ وجل عَلى رَسُولِهِ من أموال بني النضير. فقال القوم: اقض بينهما يا أمير المؤمنين وأرح كلّ واحد منهما من صاحبه، فقد طالت خصومتهما. فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماوات والأرض، أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورّث، ما تركناه صدقه» [250] «3» . قالوا: قد قال ذلك. ثم قال لهما: أتعلمان أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك؟ قالا: نعم. قال: فسأخبركم بهذا الفيء، إنّ الله سبحانه خصّ نبيّه (عليه السلام) بشيء لم يعط غيره فقال: عزّ من قائل: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ فكانت هذه لرسول الله (عليه السلام) خاصّة، فو الله ما اختارها دونكم ولا استأثرها دونكم، ولقد قسّمها عليكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينفق على أهله منها سنتهم ثم يجعل ما بقي في مال الله، عزّ وجل. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعني من أموال الكفار أهل القرى. قال ابن عباس: هي قريظة والنضير وهما بالمدينة، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر، وقرى عرينة، وينبع جعلها الله تعالى لرسوله يحكم فيها ما أراد فاحتواها كلّها. فقال ناس: هلّا قسّمها؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.
ذكر حكم هاتين الآيتين
فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى قرابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وهم بنو هاشم وبنو المطلب. واختلف الفقهاء في وجه استحقاقهم سهمهم من مال الفيء والغنيمة. فقال قوم: إنّهم يستحقّون ذلك بالقرابة ولا تعتبر فيهم الحاجة وعدم الحاجة، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه. وقال آخرون: إنّهم يستحقون ذلك بالحاجة لا القرابة، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، فإذا قسم ذلك بينهم فضل الذكور على الإناث كالحكم في الميراث، فيكون للذكر سهمان، وللأنثى سهم. وقال محمّد بن الحسن: سوّى بينهم، ولا يفضل الذكران على الإناث. ذكر حكم هاتين الآيتين اختلف العلماء فيه، فقال بعضهم: أراد بقوله: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى: الغنائم التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة وقهرا، وكانت الغنائم في بدء الإسلام لهؤلاء الذين سمّاهم الله سبحانه في سورة الحشر، دون الغانمين والموجفين عليها، ثم نسخ ذلك بقوله في سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ «1» الآية. وهذا قول يزيد بن رويان وقتادة. وقال بعضهم: الآية الأولى بيان حكم أموال بني النضير خاصّة لقوله سبحانه: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ، والآية الثانية بيان حكم سائر الأموال التي أصيبت بغير قتال، ولم يوجف عليها بالخيل والجمال. وقال الآخرون: هما واحد، والآية الثانية بيان قسمة المال الذي ذكر الله سبحانه في الآية الأولى. واعلم أنّ جملة الأموال التي للأئمّة والولاة فيها مدخل على ثلاثة أوجه: أحدها: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم كالصدقات. والثاني: الغنائم وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والعهد. والثالث: الفيء وهو ما رجع الى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أموال الكافرين عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف خيل وركاب مثل مال الصلح والجزية والخراج والعشور التي تؤخذ من تجّار الكفّار إذا دخلوا دار الإسلام، ومثل أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم أو يموت منهم في دار الإسلام أحد، ولا يكون له وارث.
وأمّا الصدقات، فمصرفها ما ذكر الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ «1» - الآية- وقد مضى البيان عن أهل السهمين. وأمّا الغنائم فإنّها كانت في بدء الإسلام لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنع بها ما يشاء، كما قال عزّ وجلّ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ «2» ثم نسخ ذلك بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية: فجعل أربعة أخماسها للغانمين تقسّم بينهم. فأما ما كان من النقود والعروض والأمتعة والثياب والدواب والكراع فإنّه يقسّم بينهم، ولا يحبس منهم. وأمّا العقار، فاختلف الفقهاء فيه، فقال مالك (رحمه الله) : للإمام أن يحبس الأراضي عنهم ويجعلها وقفا على مصالح المسلمين. وقال أبو حنيفة: الإمام مخيّر بين أن يقسّمها بينهم وبين أن يحبسها عنهم ويجعلها وقفا على مصالح المسلمين. وقال الشافعي رضي الله عنه: ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، وحكمها حكم سائر الأموال. وهو الاختيار لأنّ الله سبحانه أخرج الخمس منها بعد ما أضاف الجميع إليهم بقوله: غَنِمْتُمْ فدلّ أنّ الباقي لهم وحقّهم. وأما الخمس الباقي فيقسّم على خمسه أسهم: سهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل. وأمّا الفيء فإنّه كان يقسّم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على خمسة وعشرين سهما: أربعة أخماسها، وهي عشرون سهما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل بها ما شاء ويحكم فيها ما أراد، والخمس الباقي يقسّم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة. وأما بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد اختلف الفقهاء في الأربعة الأخماس التي كانت له صلّى الله عليه وسلّم من الفيء. فقال قوم: إنّها تصرف الى المجاهدين المتصدّين للقتال في الثغور، وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه. وقال آخرون: تصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الآبار وبناء القناطر ونحوها بدءا بالأهمّ فالأهمّ، وهو القول الآخر للشافعي رضي الله عنه. وأمّا السهم الذي كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خمس الفيء وخمس الغنيمة فإنّه يصرف بعده
الى مصالح المسلمين بلا خلاف، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «الخمس مردود فيكم» [251] «1» . وهكذا ما خلّفه من مال غير موروث عنه، بل هو صدقة تصرف عنه إلى مصالح المسلمين كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّا لا نورّث، ما تركناه صدقة» [252] «2» . فكانت صفايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مال الفيء الذي خصّه الله سبحانه بها له، ينفق منها على أهله نفقة سنة، فما فضل جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله كما ذكر. فلمّا توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليها أبو بكر رضي الله عنه فجعل يفعل بها ما كان يفعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم وليها عمر رضي الله عنه على ما ولي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر، فلما استخلف عثمان ولّاها عليّ بن أبي طالب على سبيل التولية وجعله القسيم فيها، يليها على ما وليها رسول الله (عليه السلام) وصاحباه، وبالله التوفيق. أخبرنا عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال: حدّثنا ابن عبد الأعلى قال: حدّثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر رضي الله عنه. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ «3» ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «4» - الآية- ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى حتى بلغ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ... وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ، ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامّة، فليس أحد إلّا له فيها حقّ. ثم قال: لئن عشت ليأتينّ الراعي وهو يسير حمره نصيبه «5» منها لم يعرق فيها جبينه. كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً قراءة العامة يَكُونَ- بالياء- دُولَةً بالنصب على معنى كي لا يكون الفيء دولة. وقرأ أبو جعفر بالتاء والرفع، أي كي لا تكون الغنيمة أو الأموال، ورفع دُولَةٌ فاعلا ل (كان) ، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع، وحينئذ لا خبر له. والقرّاء كلهم على ضمّ الدال من ال دُولَةً إلّا أبا عبد الرحمن السلمي فإنّه فتح دالها. قال عيسى بن عمر: الحالتان بمعنى واحد. وفرّق الآخرون بينهما، فقالوا: الدولة- بالفتح- الظفر والغلبة في الحرب وغيرها وهي مصدر، والدولة- بالضمّ- اسم الشيء الذي يتداوله الناس بينهم مثل العارية، ومعنى الآية: كي لا يكون الفيء دولة بين الرؤساء والأقوياء والأغنياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها
[سورة الحشر (59) : الآيات 8 إلى 10]
لنفسه وهو المرباع، ثم يصطفي منها أيضا- يعني «1» المرباع- ما شاء، وفيه يقول شاعرهم: لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول «2» فجعل الله سبحانه أمر الرسول (عليه السلام) بقسمته في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس، فإذا خمس رفع عن المسلمين جميعا. وَما آتاكُمُ: أعطاكم الرَّسُولُ من الفيء والغنيمة فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ من الغلول «3» وغيره فَانْتَهُوا. قال الحسن في هذه الآية: يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ قال: حدّثنا أبو محمّد عبيد بن أحمد بن عبيد الصفّار الحمصي قال: حدّثنا عطية بن بقيّة بن الوليد قال: حدّثنا عيسى ابن أبي عيسى قال: حدّثنا موسى بن أبي حبيب قال: سمعت الحكم بن عمير الثمالي- وكانت له صحبة- يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه، يسير لمن تبعه وطلبه. وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم، فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن. ومن تهاون بالقرآن وبحديثي خسر الدنيا والآخرة. وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي، فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن، ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن. قال الله سبحانه: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» [253] «4» . وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفريابي وعبيد الله بن أحمد الكناني قالا: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا معاوية بن هشام قال: حدّثنا سفيان الثوري، عن الأشتر، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك. فقال الرجل: أتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله؟ قال: نعم ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [254] . وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. [سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 10] لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
لِلْفُقَراءِ يعني كي لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الأغنياء منكم، ولكن يكون للفقراء الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذي تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر وخرجوا حبا لله ولرسوله، واختاروا الإسلام على ما كانت فيهم من شديدة، حتى ذكر لنا أنّ الرجل يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتّخذ الحفرة في الشتاء ماله دثار غيرها. وروى جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا: كان أناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو فنسبهم الله أنّهم فقراء، وجعل لهم سهما في الزكاة. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا: توطّنوا الدَّارَ اي اتّخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة، وهم الأنصار أسلموا في ديارهم وبنوا المساجد قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنتين فأخر الله عليهم البناء. ونظم الآية: والذين تبوّءوا الدار من قبلهم أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً حزازة وغيظا وحسدا مِمَّا أُوتُوا أي ممّا أعطوا المهاجرين من الفيء. وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلّا ثلاثة نفر كما ذكرناهم، فطابت أنفس الأنصار بذلك. وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ إخوانهم من المهاجرين بأموالهم وديارهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ: فاقة وحاجة إلى ما هو يزول وذلك أنّهم قاسموهم ديارهم وأموالهم. وأخبرنا أبو محمّد الحسن بن أحمد بن محمّد السيستاني قال: حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم الثقفي قال: أخبرنا محمود بن خداش- وسمعته يقول: ما أخذت شيئا أشتري قط «1» - قال: حدّثنا محمّد بن الحسن السيستاني قال: حدّثنا الفضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أصابه الجهد فقال: يا رسول الله، إني جائع فأطعمني. فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (عليه السلام) إلى أزواجه: «هل عندكنّ شيء؟» . فكلّهنّ قلن: والذي بعثك بالحقّ نبيّا ما عندنا إلّا الماء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما عند رسول الله ما يطعمك هذه الليلة» . ثم قال: «من يضف هذا هذه الليلة يرحمه الله» «2» [255] .
فقام رجل من الأنصار قال: أنا يا رسول الله. فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأكرميه ولا تدّخري عنه شيئا. فقالت: ما عندنا إلّا قوت الصبية. قال: قومي فعلّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا، ثم أسرجي فأبرزي، فإذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنّك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يشبع ضيف رسول الله. قال: فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئا، ثم قامت فأبرزت وأسرجت فلمّا أخذ الضيف ليأكل قامت كأنّها تصلح السراج فأطفأته، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله (عليه السلام) فظنّ الضيف أنّهما يأكلان معه، حتى شبع ضيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وباتا طاويين. فلمّا أصبحا عدوا إلى رسول الله (عليه السلام) ، فلمّا نظر إليهما تبسّم ثم قال: «لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة» [256] . فأنزل الله سبحانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ الآية. قال أنس بن مالك: أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي وكان مجهودا، فوجّهه إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ثم عاد إلى الأوّل، فأنزل الله سبحانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. ويحكى عن أبي الحسن الأنطاكي أنّه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لم تسع جميعهم ونشروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلمّا رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثارا لصاحبه. ويحكى عن حذيفة العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه، فإذا أنا به، قلت: أسقيك؟ فأشار أي نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر قال: آه، فأشار هشام أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات، ثم رجعت الى هشام فإذا هو قد مات، ثم رجعت الى ابن عمي فإذا قد مات رحمه الله. سمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد النيسابوري يقول: سمعت أبا عبد الله محمّد بن عبيد الله الجرجاني يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يحكي عن أبي يزيد البسطامي قال: ما غلبني أحد مثل ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجّا، فقال لي: يا أبا يزيد، ما حدّ الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا. فقال هكذا عندنا كلاب بلخ. فقلت: ما حدّ الزهد عندكم؟ فقال: إذا فقدنا صبرنا، وإذا وجدنا آثرنا. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا محمّد أحمد بن محمّد بن إبراهيم البلاذري يقول: سمعت بكر بن عبد الرحمن يقول: سئل ذو النون المصري عن علامة الزاهد المشروح صدره فقال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت.
قال ابن عباس: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة» [257] «1» . فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها. فأنزل الله سبحانه: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل، يقال: فلان شحيح من الشّح والشّحّ والشحّة والشحاحة، قال عمرو بن كلثوم: ترى اللحز الشحيح إذا أمرّت ... عليه لماله فيها مهينا «2» وفرّق العلماء من السلف بينهما. فأخبرني الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي قال: حدّثنا إدريس بن عبد الكريم الحدّاد قال: حدّثنا عاصم بن علي بن عاصم، وأخبرنا عبد الخالق قال: حدّثنا ابن حبيب قال: حدّثنا ابن شاكر قال: حدّثنا عاصم بن علي قال: حدّثنا المعادي، عن جامع بن شداد، عن أبي الشعثاء قال: قال رجل لعبد الله بن مسعود: يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله سبحانه يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء. فقال: ليس ذاك الشحّ الذي ذكر الله سبحانه في القرآن، ولكن الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل. الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ قال: يقول: هوى نفسه يتبع هواه فلم يقبل الإيمان. وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئا لشيء نهاه الله سبحانه ولم يدعه الشحّ الى أن يمنع شيئا من شيء أمره الله تعالى به فقد وقاه شحّ نفسه. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه، والشحّ أن يبخل بما في أيدي الناس. وأخبرني أبي قال: أخبرنا محمّد بن أحمد بن عبد الله النحوي قال: أخبرنا محمّد بن حمدون ابن خالد قال: حدّثنا محمّد بن عبد الوهاب بن أبي تمام العسقلاني قال: حدّثنا سليمان
ابن بنت شراحيل قال: حدّثنا إسماعيل بن عبّاس قال: حدّثنا عمارة بن عديّة الأنصاري، عن عمّه عمر بن جارية، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «برئ من الشحّ من أدّى الزكاة، وقرى الضيف وأعطى في النائبة» [258] «1» . أخبرني أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ بن عبد الله ابن محمّد الطائي قال: حدّثنا عبد الله بن زيد قال: حدّثنا إبراهيم بن العلاء قال: حدّثنا إسماعيل بن عباس عن هشام بن الغاد عن أبان عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يدعو: «اللهم إنّي أعوذ بك من شحّ نفسي وإسرافها ووسواسها» [259] «2» . وأخبرنا أبو عبد الله قال: حدّثنا هارون بن محمّد بن هارون قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد بن سنان قال: حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: حدّثنا داود بن قيس الفرّاء، عن عبد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتقوا الشحّ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم» [260] «3» . وروى سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شحّ نفسي. لا يزيد على ذلك. فقلت له فيه، فقال: إنّي إذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. ويحكى أنّ كسرى قال لأصحابه: أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كسرى: الشحّ أضرّ من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد اتّسع، والشحيح لا يتسع أبدا. وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرون، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ، ... وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فاجهد ألّا تكون خارجا من هذه المنازل. أخبرني الحسن قال: حدّثنا علي بن إبراهيم الموصلي قال: حدّثنا محمّد بن مخلد الدوري قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الحساني قال: حدّثني أبو يحيى الحماني، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عيينة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهو يعلم أنهم سيفتنون. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله
ابن سليمان قال: حدّثنا ابن نمير قال: حدّثنا أبي، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم فسببتموهم، سمعت نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن آخرها أوّلها» [261] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسن بن علي الطوسي قال: حدّثنا محمّد بن المؤمّل بن الصباح البصري قال: حدّثنا النصر بن حماد العتكي قال: حدّثنا سيف ابن عمر الأسدي قال: حدّثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الذين يسبّون أصحابي فقولوا: لعن الله شركم» [262] «2» . وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا ابن النعمان قال: حدّثنا هارون بن سليمان قال: حدّثنا عبد الله- يعني ابن داود- قال: حدّثنا كثير بن مروان الشامي، عن عبد الله بن يزيد الدمشقي قال: أتيت الحسن فذكر كلاما إلّا إنّه قال: أدركت ثلاثمائة من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم منهم سبعون بدريا كلّهم يحدّثونني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» [263] «3» . فالجماعة ألّا تسبّوا الصحابة، ولا تماروا في دين الله، ولا تكفّروا أحدا من أهل التوحيد بذنب. قال عبد الله بن زيد: فلقيت أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلة وأنس بن مالك، وكلّهم يحدّثونني بحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثل حديث الجماعة. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو الفضل صالح بن الأصبغ التنوخي قال: حدّثنا أبو الفضل الربيع بن محمّد بن عيسى الكندي قال: حدّثنا سعيد بن منصور قال: حدّثنا شهاب بن حراش، عن عمّه العوّام بن حوشب، قال: أدركت من أدركت من صدر هذه الأمّة وهم يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تأتلف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا الناس عليهم. وسمعت عبد الله بن حامد يقول: سمعت محمّد بن محمّد بن الحسن قال: سمعت أبا عبد الله محمّد بن القاسم الجمحي المكّي قال: سمعت محمّد بن سعدان المروزي قال: سمعت أحمد بن إسماعيل المروزي، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول، عن أبيه قال: قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك، تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 إلى 24]
خير أهل ملّتكم؟ فقالوا: أصحاب موسى. وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: حواريّو عيسى. وسئلت الرافضة: من شرّ أهل ملّتكم فقالوا: أصحاب محمّد، أمروا بالاستغفار إليهم فسبّوهم فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية ولا تثبت لهم قدم، ولا تجمع لهم كلمة، كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ بسفك دمائهم وتفريق شملهم، وإدحاض حجّتهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلّة. وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمّد المعدل قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس المقري قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن سالم قال: حدّثنا سوار بن عبد الله القاضي قال: حدّثنا أبي قال: قال مالك بن أنس: من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان في قلبه عليهم غلّ، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى حتى أتى على هذه الآية، ثم قرأ لِلْفُقَراءِ حتى أتى على هذه الآية، ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ حتى أتى على هذه الآية ثم قال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ إلى قوله: رَؤُفٌ رَحِيمٌ فمن ينتقصهم أو كان في قلبه عليهم غلّ فليس له من الفيء حقّ. [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 24] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا، أي أظهروا خلاف ما أضمروا، وهو مأخوذ من (نافقاء اليربوع) وهي أخذ جحرته، إذا أخذ عليه جحر أخذ من جحر آخر، فيقال عند ذلك: نفق ونافق،
فشبه فعل المنافق بفعل اليربوع لأنه يدخل من باب ويخرج من باب، فكذلك المنافق يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد. والنفاق لفظ إسلامي لم يكن يعرفه العرب قبل الإسلام. يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنو قريضة والنضير لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً سألنا خذلانكم وخلافكم أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لَأَنْتُمْ يا معشر المؤمنين أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ يقول: يرهبونكم أشدّ من رهبتهم من الله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يُقاتِلُونَكُمْ يعني اليهود جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ، ولا يبرزون لكم بالقتال أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ. قرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابو عمرو: (جدار) - بالألف- على الواحد. وروي عن بعض أهل مكّة: (جَدْرٍ) - بفتح الجيم وجزم الدال- وهي لغة في الجدار. وقرأ يحيى بن وثاب (جُدْرٍ) ، بضم الجيم وسكون الدال. وقرأ الباقون بضمّهما. بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يعني: بعضهم فظّ على بعض وبعضهم عدوّ لبعض، وعداوتهم بعضهم بعضا شديدة. وقيل: بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديدة، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله سبحانه. تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة مختلفة. قال قتادة: أهل الباطل مختلفة أهواؤهم، مختلفة شهاداتهم مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق، وقال مجاهد: أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني مثل هؤلاء كمثل الذين من قبلهم وهم مشركوا مكة. قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يوم بدر قاله مجاهد، وقال ابن عباس: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني بني قينقاع. وقيل: مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان، فربما ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ الجلاء والنفي. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود في تخاذلهم فقال عزّ من قائل: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الآية. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الباقرحي قال: حدّثنا الحسن بن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: حدّثنا مقاتل عن عطاء عن ابن عباس وعبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن عباس في قوله سبحانه: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ
فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ الآية قال: كان راهب في الفترة يقال له برصيصا «1» وكان قد تعبّد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل، فلم يستطيع له شيء فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال: ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا، فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء وهو الذي يتصدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوس إليه على وجه الوحي فجاءه جبرائيل حتى دخل بينهما فدفعه بيده دفعة هينة فوقع من دفعة جبرائيل إلى أقصى أرض الهند، فذلك قوله سبحانه: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ «2» . فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك فانطلق فتزيّن بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه ثم مضى حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه برصيصا وكان لا ينفتل عن صلاته إلّا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلّا في عشرة أيام مرّة، فكان يواصل الأيام العشرة والعشرين والأكثر، فلما رأى الأبيض أنّه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته فلما أنفتر برصيصا اطّلع من صومعته ورأى الأبيض قائما منتصبا يصلّي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لها عنه فلم يجبه، فقال له: إنّك ناديتني وكنت مشتغلا عنك فحاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأناديك وأقتبس من علمك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال: برصيصا: إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمنا فإن الله سبحانه سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين والمؤمنات نصيبا إن استجاب لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوما بعدها، فلمّا انفتل رآه قائما يصلي، فلمّا رأى برصيصا شدّة اجتهاده وكثرة تضرّعه وابتهاله الى الله سبحانه كلّمه وقال له: حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك، فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام الأبيض معه حولا يتعبد لا يفطر إلّا في كل أربعين يوما ولا ينفتل عن صلاته إلّا في كل أربعين يوما مرّة وربّما مدّ الى الثمانين، فلما رأى برصيصا اجتهاده تفاطرت إليه نفسه فأعجبه شأن الأبيض، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا: إني منطلق فإنّ لي صاحبا غيرك ظننت أنك أشدّ اجتهادا ممّا أرى، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت، قال: فدخل على برصيصا من ذلك أمر شديد وكره مفارفته للّذي رأى من شدّة اجتهاده، فلما ودّعه قال له الأبيض: إنّ عندي دعوات أعلّمكها أياك تدعو بهن فهي خير مما أنت فيه، يشفي الله بها السقيم، ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: إني أكره هذه المنزلة، لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إن علم بهذا الناس شغلوني عن العبادة، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه، ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال له: قد والله أهلكت
الرجل، قال: فانطلق الأبيض فتعرّض لرجل فخنقه ثم جاءه في صورة رجل متطبّب فقال لأهله: إنّ بصاحبكم جنونا فأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال لهم: إني لا أقوى على جنّيته ولكن سأرشدكم الى من يدعو الله عزّ وجلّ فيعافى، فقالوا له: دلّنا، فانطلقوا الى برصيصا فإنّ عنده أسم الله الذي إذا دعى به أجاب، قال: فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، وكان يفعل الأبيض بالناس مثل، من مكانك قال: وما هي؟ قال: تسجد لي، قال: أفعل، فسجد له، فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك الى أن كفرت بربّك فلما كفر قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ يقول الله سبحانه: فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني الشيطان وذلك الإنسان أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ. قال ابن عباس: فضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة، وذلك أن الله سبحانه أمر نبيّه (عليه السلام) أن يخلي بني النضير عن المدينة، فدسّ المنافقون إليهم، فقالوا: لا تجيبوا محمدا الى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم كنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم. قال: فأطاعوهم فدربوا على حصونهم وتحصّنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبي صلّى الله عليه وسلّم فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين فخذلوهم وتبرّؤوا منهم كما تبرّأ الشيطان من برصيصا وخذله. قال ابن عباس: فكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلّا بالتقية والكتمان وطمع اهل الفجور والفسق في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أمر جريج الراهب، فلمّا برّأ الله جريجا الراهب مما رموه به فانبسطت بعدها الرهبان وظهروا للناس «1» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بأداء فرائضه واجتناب معاصيه وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ يعني يوم القيامة وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حق الله وتركوا أمره فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ يعني حظ أنفسهم أن يقدّموا لها خيرا أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ وركّبنا فيه العقل لَرَأَيْتَهُ في صلابته ورزانته خاشِعاً ذليلا خاضعا مُتَصَدِّعاً يعني متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه وَالشَّهادَةِ وهي ما علموه وشاهدوه، وقال الحسن: يعني السرّ والعلانية. هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ وهو ذو الملك وقيل: القادر على
اختراع الأعيان الْقُدُّوسُ الظاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به. قال قتادة: المبارك، وقال ابن كيسان: الممجّد وهو بالسريانية قديشا. السَّلامُ الْمُؤْمِنُ قال بعضهم: المصدّق لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدّق للمؤمنين ما وعدهم من الثواب وقابل إيمانهم، ومصدق للكافرين ما أوعدهم من العقاب. قال ابن عباس ومقاتل: هو الذي آمن الناس من ظلمه وآمن من آمن به من عذابه من الإيمان الذي هو هذا التخويف كما قال: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» . وقال النابغة: والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند «2» وقال ابن زيد: هو الذي يصدّق المؤمنين إذا وحّدوه، وقال الحسين بن الفضل: هو الداعي الى الإيمان والآمر به والموجب لأهله اسمه. القرظي: هو المجير كما قال: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ «3» . الْمُهَيْمِنُ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: الشهيد. ضحاك: الأمين. ابن زيد: المصدّق. ابن كيسان: هو اسم من أسماء الله في الكتب، الله أعلم بتأويله. عطا: المأمون على خلقه. الخليل: هو الرقيب. يمان: هو المطّلع. سعيد بن المسيب: القاضي. المبرد: [الْمُهَيْمِنُ في معنى مؤيمن إلّا أن الهاء بدل من الهمزة] «4» . قال أبو عبيدة: هي خمسة أحرف في كلام العرب على هذا الوزن: المهيمن والمسيطر والمبيطر والمنيقر- وهو الذاهب في الأرض-، والمخيمر اسم جبل. الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ قال ابن عباس: هو العظيم، وجبروت الله عظمته، وهو على هذا القول صفة ذات، وقيل: هو من الجبر وهو الإصلاح، يقال: جبرت العظم إذا أصلحته بعد كسر، وجبرت الأمر، والجبر وجبرته فجبر تكون لازما ومتعديا قال العجاج: قد جبر الدين الإله فجبر «5» ونظيره في كلام العرب: دلع لسانه فدلع، وفغر فاه ففغر، وعمّر الدار فعمرت، وقال السدي: هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما أراد.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال: حدّثنا محمد بن بكار بن الريان. قال حدّثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: إنما يسمّى الجبار، لأنّه جبر الخلق على ما أراد والخلق أرق شأنا من أن يعصوا [له أمرا] «1» بل طرفة عين إلّا بما أراد، وسئل بعض الحكماء عن معنى الجبّار فقال: هو القهّار الذي إذا أراد أمرا فعله وحكم فيه بما يريد لا يحجزه عنه حاجز ولا يفكّر فيمن دونه. إن آدم اجتبي من غير طاعة وإن إبليس لعن على كثرة الطاعة، وقيل: هو الذي لا تناله الأيدي، من قول العرب: نخلة جبّارة، إذا طالت وفاتت الأيدي قال الشاعر: سوامق جبار أثيث فروعه ... وعالين قنوانا من البسر أحمرا «2» الْمُتَكَبِّرُ عن كل سوء، المتعظّم عمّا لا يليق به، وأصل الكبر والكبرياء: الامتناع وقلة الانقياد، قال حميد بن ثور: عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت بها كبرياء الصعب وهي ذلول «3» الْخالِقُ المقدّر المقلّب للشيء بالتدبير الى غيره كما قال: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ «4» وقال: خَلَقَكُمْ أَطْواراً «5» الْبارِئُ المنشئ للأعيان من العدم الى الوجود الْمُصَوِّرُ الممثل للمخلوقات والعلامات المميّزة والهيئات المتفرّقة حتى يتميّز بها بعضها من بعض يقال: هذه صورة الأمر أي مثاله، فأولا يكون خلقا ثم [نطفة ثمّ علقة] «6» ثم تصويرا إذا انتهى وكمل، والله أعلم. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. أخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب الفقيه بالقصر قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: حدّثنا محمد بن صالح الواسطي عن سليمان ابن محمد عن عمر بن نافع عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمر: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما على هذا المنبر- يعني منبر رسول صلّى الله عليه وسلّم- وهو يحكي عن ربّه سبحانه فقال: «إنّ الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السموات والأرضين السبع في قبضته تبارك وتعالى ثم قال هكذا وشدّ قبضته ثم بسطها ثم يقول: أنا اللَّهُ أنا الرَّحْمنُ أنا الرَّحِيمُ أنا الْمَلِكُ أنا الْقُدُّوسُ أنا السَّلامُ أنا الْمُؤْمِنُ أنا
الْمُهَيْمِنُ أنا الْعَزِيزُ أنا الْجَبَّارُ أنا الْمُتَكَبِّرُ أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا، أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبابرة» [264] «1» . أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن وهب قال: حدّثنا محمد بن يونس الكريمي قال: حدّثنا عمرو بن عاصم قال حدثنا أبو الأشهب عن يزيد بن آبان عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ آخر سورة الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر» [265] «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا ابن وهب قال: حدثنا أحمد بن أبي سريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا: حدّثنا أبو أحمد الزبيدي قال: حدّثنا خالد بن سليمان قال: حدّثني نافع عن أبي نافع عن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكّل الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي، فأن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة» [266] «3» . وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا عبد الله بن محمد قال: حدّثنا السماح قال: حدّثنا أحمد بن الفرح قال: حدّثنا أبو عثمان- يعني المؤذن- قال: حدّثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا أمامة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ خواتيم الحشر من ليل أو نهار فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة» [267] «4» . وأخبرني ابن القاسم قال حدّثنا ابن بختيار قال: حدثنا مكي بن عيدان قال: حدّثنا إبراهيم ابن عبد الله قال: حدّثنا عمرو بن عاصم قال: حدّثنا أبو الأشهب قال: حدّثنا يزيد الرقاسي عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ آخر سورة الحشر: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ الى آخرها فمات من ليلته مات شهيدا» [268] «5» . وأخبرني أبو عثمان بن أبي بكر الحبري قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الحجاجي قال: أخبرنا عبد الله بن أبان بن شداد أن إسماعيل بن محمد الحبريني حدّثهم قال: حدثنا علي بن زريق قال: حدثنا هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن اسم الله الأعظم فقال: «عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قرأتها، فأعدت عليه فعاد عليّ، فأعدت عليه فعاد عليّ» [269] «6» .
سورة الممتحنة
سورة الممتحنة مدنية، وهي ألف وخمسمائة وعشرة أحرف، وثلاثمائة وثماني وأربعون كلمة، وثلاثة عشر آية أخبرنا الجباري قال: حدّثنا ابن حيان قال: أخبرنا الفرقدي قال: حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدّثنا يوسف بن عطية قال: حدّثنا هارون بن كثير قال: حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ ابن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة» [270] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة الى المدينة بعد بدر بسنتين ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم تجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمسلمة جئت؟» قالت: لا، قال: «أمهاجرة جئت؟» قالت: لا، قال: «فما جاء بك؟» قالت: كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، فقال لها: «فأين أنت من شباب مكة؟» [271] «1» - وكانت مغنية نائحة-. قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحثّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليها بني عبد المطلب وبني المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها الى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير، هذه رواية باذان عن أبن عباس، وقال مقاتل بن حيان: أعطاها عشرة دراهم، قالوا: وكساها بردا علم أن يوصل الكتاب الى أهل مكة، وكتب في الكتاب: (من حاطب بن أبي بلتعة الى أهل مكة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريدكم فخذوا حذركم) فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما فعل، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا وعمّار وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مريد وكانوا كلهم فرسانا، وقال لهم: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن بها ظعينة معها كتاب من حاطب الى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها، وأن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها» . قال: فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتابا فهمّوا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه والله ما كذبنا ولا كذّبنا وسلّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلّا والله جرّدنّك ولأضربنّ عنقك. فلما رأت الجد أخرجت من ذؤابتها قد خبأتها في شعرها، فخلّوا سبيلها ولم يعترضوا لها ولا لمن معها ورجعوا بالكتاب الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الى حاطب فأتاه، فقال له: «هل تعرف الكتاب؟» قال: نعم، قال: «فما حملك على ما صنعت» ؟ فقال: يا رسول الله والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته، وكنت عزيزا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أنّ الله
ينزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعذره، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» [272] «1» . أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن غالب قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا ليث عن أبي الدنير عن جابر أن عبدا لحاطب جاء يشتكي حاطبا الى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كذبت، لا يدخلها أبدا لأنه شهد بدرا والحديبية» [273] «2» . وأنزل الله سبحانه في شأن حاطب ومكاتبته المشركين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي المودة، والباء صلة، كقول القائل: أريد أن أذهب، وأريد بأن أذهب، قال الله سبحانه وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ «3» أي إلحادا بِظُلْمٍ ومنه قول الشاعر: فلما رجت بالشرب هزّ لها العصا ... شحيح له عند الازاء نهيم «4» أي رجت الشرب. وَقَدْ واو الحال كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا أي لأن آمنتم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ في الكلام تقديم وتأخير، نظم الآية: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ ... إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يروكم ويظهروا عليكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ بالشتم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ فلا تناصحوهم فإنّهم لا يناصحوكم ولا يوادونكم. لن ينفعكم يقول لا تدعونّكم قرابتكم وأولادكم التي بمكة الى خيانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم ومظاهرتهم فلن ينفعكم أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ التي عصيتم الله سبحانه لأجلهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة، ويدخل أهل معصيته والكفر به النار.
واختلف القرّاء في قوله: يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ فقرأ عاصم ويعقوب وأبو حاتم بفتح الياء وكسر الصاد مخففا، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضمّ الياء وكسر الصاد مشددا، وقرأ ابن عامر والأعرج بضم الياء وفتح الصاد وتشديده، وقرأ طلحة والنخعي بالنون وكسر الصاد والتشديد، وقرأ أبو حيوة يُفْصِلُ من أفصل يفصل، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الصاد مخففا من الفصل. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدّثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّما الدين النصيحة» ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [274] «1» . قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ قدوة حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ خليل الرحمن وَالَّذِينَ مَعَهُ من أهل الإيمان إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ المشركين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ جمع بريء، وقراءة العامة على وزن فعلا غير مجز، وقرأ عيسى بن عمر بِراءٌ بكسر الباء، على وزن فعال مثل قصير وقصار وطويل وطوال وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي جحدنا بكم وأنكرنا دينكم وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ يعني قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في قوله: لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أن عصيته نهوا أن يتأسوا في هذه خاصة بإبراهيم فيستغفروا للمشركين، ثم بيّن عذره في سورة التوبة. وفي هذه الآية دلالة بيّنة على تفضيل نبيّنا وذلك أنه حين أمر بالاقتداء به أمر على الإطلاق ولم يستثن فقال: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وحين أمر بالاقتداء بإبراهيم استثنى. رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا [هذا قول] «2» إبراهيم ومن معه من المؤمنين. وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ يعني في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله وأظهروا لهم العداوة والبراءة فعلم سبحانه شدّة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله سبحانه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ أيها المؤمنون وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ من مشركي مكّة مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يفعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخوانا وخالطوهم وناكحوهم وتزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم حبيبة
بنت أبي سفيان بن حرب فلان لهم أبو سفيان وكانت أم حبيبة تحت عبد الله بن جحش بن ذياب، وكانت هي وزوجها من مهاجري الحبشة، فنظر بوجهها وحاولها أن تتابعه فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الى النجاشي فيها ليخطبها عليه، فقال النجاشي لأصحابه: من أولى بها؟ قالوا: خالد بن سعيد بن العاص، قال: فزوّجها من نبيّكم، ففعل ومهرها النجاشي أربعمائة دينار، وساق أليها مهرها، ويقال بل خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الى عثمان بن عفان فلما زوّجه أياها بعث الى النجاشي فيها، فساق عنه وبعث بها إليه فبلغ ذلك أبا سفيان وهو يومئذ مشرك فقال: ذاك الفحل لا يقرع أنفه. رخّص الله سبحانه في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من جميع الكافرين، فقال عزّ من قائل: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تعدلوا فيهم بالإحسان والبر. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ واختلف العلماء فيمن نزلت فيهم هذه الآية، فقال ابن عباس: نزلت في خزاعة منهم هلال بن عديم وخزيمة ومزلقة بن مالك بن جعشم وبنو مدلج وكانوا صالحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا ، وقال عبد الله بن الزبير: نزلت في أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها فتيلة بنت الغري بن عبد أسعد من بني مالك بن حنبل قدمت عليها المدينة بهدايا ضيابا وقرطا وسمنا وهي مشركة، فقالت أسماء: لا أقبل منك هدية ولا تدخلين عليّ في بيتي حتى أستأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت لها عائشة: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية، فأمر بها رسول الله أن تدخلها منزلها وتقبل هديّتها وتكرمها وتحسن إليها. وقال مرّة الهمداني وعطية العوفي: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ في دينكم وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ وهم مشركو مكة أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الواضعون الولاية في غير موضعها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ الآية قال ابن عباس: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتمرا حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكّة على من أتاه من أهل مكّة رده عليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو لهم ولم يردوه عليه، وكتبوا بذلك كتابا وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم- وقال مقاتلان هو صفي بن الراهب- في طلبها، وكان كافرا فقال: يا محمد أردّد علي امرأتي فأنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منّا وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ من دار الكفر الى دار الإسلام.
فَامْتَحِنُوهُنَ قال ابن عباس: امتحانهن أن يستحلفهن ما خرجت من بغض زوج وما خرجت رغبة عن أرض الى أرض وما خرجت التماس دنيا وما خرجت إلّا حبّا لله ورسوله، فاستحلفها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما خرجت بغضا لزوجها ولا عشقا لرجل منا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام، فحلفت بالله الذي لا اله الا هو على ذلك، فأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهرها وما أنفق عليها ولم يردها عليه، فتزوّجها عمر، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يردّ من جاء من الرجال ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحن ويعطي أزواجهن مهورهن ، فذلك قوله سبحانه: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ يعني أزواجهن الكفار ما أَنْفَقُوا عليهن من المهر وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن وأن كنّ لهنّ أزواج كفار في دار الكفر لأنّه فرّق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن. وَلا تُمْسِكُوا قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك، وتكون الباء صلة مجازه: ولا تمسكوا عصم الكوافر وقرأ الحسن أبو عمرو ويعقوب وأبو حاتم بالتشديد من التمسّك وقال: مسكت بالشيء وتمسّكت به، والعصم جمع العصمة وهي ما اعتصم به من العقد والمسك، والكوافر: جمع كافرة. نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات، وأمرهم بفراقهن قال ابن عباس: يقول لا تأخذوا بعقد الكوافر ممن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها فقد انقطعت عصمتها منه وليست له بامرأة، وإن جاءتكم امرأة مسلمة من أهل مكّة ولها بها زوج كافر فلا تعتدن به فقد انقطعت عصمته منها. قال الزهري: فلما نزلت هذه الآية طلّق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكّة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوّجها بعده معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمر بن حروا الخزاعية أم عبد الله بن عمر، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم- رجل من قومه- وهما على شركهما، وكانت عند طلحة بن عبيد الله بن عثمان ابن عمرو التيمي أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب ففرّق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بِعِصَمِ الْكَوافِرِ، وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة على دين قومها ثم تزوّجها في الإسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، فكانت ممن فرّ الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نساء الكفار فحبسهما وزوّجها خالدا، وأميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرّت منه- وهو يومئذ كافر- الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهل بن حنيف، فولدت عبد الله بن سهل «1» . قال الشعبي: وكانت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم امرأة أبي العاص بن الربيع فأسلمت
ولحقت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة وأقام العاص مشركا في مكة ثم أتى المدينة فأمنته زينب ثم أسلم فردّها عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وَسْئَلُوا أيّها المؤمنون الذين ذهبت أزواجكم فلحقن بالمشركين ما أَنْفَقْتُمْ عليهن من الصدقات من تزويجهن منهم وَلْيَسْئَلُوا بعد المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن فيكم من يتزوجها منكم. ما أَنْفَقُوا من المهر ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قال الأزهري: ولولا العهد والهدنة الذي كان بينه عليه السلام وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يردد إليهم صداقا، وكذلك يصنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد، فلما نزلت هذه الآية أقرّ المؤمنون بحكم الله سبحانه وأدّوا ما أمروا من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقرّوا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين فأنزل الله سبحانه وَإِنْ فاتَكُمْ أيها المؤمنون شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فلحقن بهم مرتدات فَعاقَبْتُمْ قراءة العامة بالألف وأختاره أبو عبيدة وأبو حاتم، وقرأ إبراهيم وحميد والأعرج فعقّبتم مشددا، وقرأ مجاهد فأعقبتم على وزن أفعلتم وقال: صنعتم بهم كما صنعوا بكم، وقرأ الزهري «فعقبتم» خفيفة بغير ألف، وقرأ فعقِبتم كسر القاف خفيفة وقال: غنمتم. وكلها لغات بمعنى واحد يقال: عاقب وعقّب وعقب وعقب وأعقب ويعقب واعتقب وتعاقب إذا غنم. ومعنى الآية: فغزوتم وأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة وظفرتم وكانت العاقبة لكم، وقال المؤرخ: معناه فحلقتم من بعدهم وصار الأمر إليكم، وقال الفرّاء: عقّب وعاقب مثل تصعر وتصاعر، وقيل: غزوة بعد غزوة. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ الى الكفار منكم مِثْلَ ما أَنْفَقُوا عليهم من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار وقيل: فعاقبتم المرتدة أي قتلتموها، وكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي آمنة بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدّت، ويروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن فضلة وزوجها عمر بن عبدون، وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وكلثوم بنت جدول كانت تحت عمر ابن الخطاب، وأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهور نسائهم من الغنيمة «1» . وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 إلى 13]
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 الى 13] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ الآية وذلك يوم فتح مكة لما فرغ الرسول صلّى الله عليه وسلّم من بيعة الرجال وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة مستنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعرفها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وَلا يَسْرِقْنَ» فقالت هند: إن أبي سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله هنات ولا أدري أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعرفها فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة» قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال: «لا يَزْنِينَ» [275] فقالت هند أوتزني الحرة؟ فقال: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى وتبسّم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وهو أن تقذف ولدا على زوجها وليس منه، فقالت هند: والله إنّ البهتان يقبح وما تأمرنا إلّا مكارم الأخلاق، وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقالت: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، فأقرّ النسوة بما أخد عليهن «1» . وأختلف العلماء في كيفية بيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه النساء، فأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكي قال: حدثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدثنا سفيان وأخبرنا عبد الله ابن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدثنا بشر بن مطر قال: حدثنا سفيان بن عتبة عن محمد بن المفكر وسمع أميمة بنت رفيقة تقول: بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نسوة فقال: فيما استطعتن وأطقتن فقلت: رسول الله أرحم بنا من أنفسنا، قلت: يا رسول الله صافحنا قال: «إني لا أصافح النساء إنما قولي [لامرأة واحدة] كقولي لمائة امرأة» [276] «2» . وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال: حدّثنا
محمد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً قالت: وما مسّ يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد امرأة قط إلا يد امرأة تملكها ، وقال السعري كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يبايع النساء وعلى يده ثوب مطري. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمس أيديهن فيه ، وقال الكلبي: كان رسول صلّى الله عليه وسلّم يشرط على النساء وعمر رضي الله عنه يصافحهن. وأختلف المفسرون في معنى المعروف فقال القرظي: المعروف الذي لا يعصينه فيه، ربيع: كل ما وافق طاعة الله فهو معروف، فلم يرض الله لنبيّه أن يطاع في معصية الله. بكر بن عبد الله المدني: لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن، مجاهد: لا تخلو المرأة بالرجال، سعيد ابن المسيب ومحمد بن السائب وعبد الرحمن بن زيد: لا تحلقن ولا تسلقن ولا تحرقن ثوبا ولا ينتفن شعرا ولا يخمشن وجها ولا ينشرن شعرا ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم ولا تخلوا امرأة برجل غير ذي محرم ولا تسافر امرأة ثلاثة أيام مع غير ذي محرم، ابن عباس: لا ينحن. ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال: حدثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال: حدثنا سليمان الشادكوى قال حدّثنا النعمان بن عبد السلام قال حدّثني عمرو بن فروخ قال: حدثنا مصعب بن نوح قال: أدركت عجوزا ممن بايعت النبي صلّى الله عليه وسلّم فحدّثتني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ قال: النوح وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: أخبرنا أبو بكر بن سلام قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال: حدّثنا سعدون قال: حدثنا سليمان بن داود قال حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفّين صفا عن اليمين وصفا وعن الشمال «1» وينبحن كما تنبح الكلاب» [277] «2» . وأخبرنا الحسين قال: حدثنا السني قال: أخبرني إسحاق بن مروان الخطراني قال: حدثنا الحسن بن عروة قال: حدّثنا علي بن ثابت الجزري قال: حدّثنا حسان بن حميد عن سلمة بن جعفر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة ودرع من حرب واضعة يدها على رأسها تقول: وا ويلاه، وملك يقول: آمين، ثم يكون من ذلك حظها النار» [278] «3» .
وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: أخبرنا أبو يعلي الموصلي قال: حدثنا هدية بن خالد قال حدثنا أبان بن يزيد قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدا حدّثه أنّ أبا سلمة حدّثه أن أبا مالك الأشعري حدّثه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر في الإحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة» [279] . وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها يقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ودرع من حرب» [280] . وأخبرنا الحسن قال: أخبرنا ابن حمدان قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال: حدّثنا عبد الله بن رجاء الغداني قال: حدّثنا عمران بن دوار القطان قال: حدّثنا قتادة عن أبي مرانة العجلي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة «1» [281] «2» . وأخبرنا الحسن قال: حدّثنا أحمد بن إسحاق قال: حدّثني عمر بن حفص المكاري قال: حدّثنا أبو عتبة قال: حدّثنا فقيه قال: حدّثنا أبو عامر قال: حدّثني عطاء بن أبي رياح أنّه كان عند ابن عمر وهو يقول: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لعن النائحة والمسمعة والحالقة والسالقة والواشمة والمتوشمة وقال: «ليس للنساء في إتباع الجنائز أجر» [282] «3» . وأخبرنا الحسن قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا يوسف بن عبد الله قال حدّثنا موسى ابن إسماعيل قال: حدّثنا حماد عن أبان بن أبي عياش عن الحسين أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع نائحة فأتاها فضربها حتى وقع خمارها عن رأسها، فقيل: يا أمير المؤمنين المرأة المرأة قد وقع خمارها، قال: إنها لا حرمة لها «4» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود وذلك ان ناسا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ويتواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك قَدْ يَئِسُوا يعني هؤلاء اليهود مِنَ الْآخِرَةِ أن يكون لهم فيها ثواب كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أن يرجعوا إليهم أو يبعثوا. أخبرنا الشيخ أبو علي بن أبي عمرو الخيري الحرشي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا محمد ابن خلف بن شعبة قال: حدّثنا محمد بن سائق قال: حدّثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن
ابن عباس في قوله سبحانه كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال: هم الكفار أصحاب القبور قد يئسوا من الآخرة. وأخبرنا أبو علي بن أبي عمرو قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا علي بن سعيد بن جبير النسائي قال: حدّثنا أبو النظر قال: حدّثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال: الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله. وأخبرنا أبو علي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا شبل عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ بكفرهم كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ من الموتى في الآخرة حتى يبين لهم أعمالهم. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا وكيع قال: حدّثنا عبد الله بن حبيب عن أبي ثابت قال: سمعت القاسم بن أبي بزة يقول في قول الله سبحانه قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ قال: من كان منهم من الكفار يئس من الخير.
سورة الصف
سورة الصف مكية، وهي تسعمائة حرف، ومائتان وأحدى وعشرون كلمة، وأربع عشرة آية أخبرنا أبو الحسن الحيازي قال: حدّثنا ابن حبش قال: حدّثني أبو عباس محمد بن موسى الرازي قال: حدّثنا عبد الله بن روح المدائني قال: حدّثني شبابة بن سواد الغزاري قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد وعن عطاء بن أبي ميمونة عن بن حبش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة عيسى (عليه السلام) كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له مادام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه» [283] «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ
قال مقاتلان: قال المؤمنون قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال الى الله سبحانه لعلمناه وبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلّهم الله على أحب الأعمال اليه فقال: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ فبيّن لهم فابتلوا يوم أحد بذلك، فولّوا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مدبرين فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال: الكلبي: قال: المؤمنون: يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال لفعلنا ونزل هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ثم انقطع الكلام ولم يبين لهم شيئا فمكثوا بعد ذلك ما شاء الله أن يمكثوا وهم يقولون: ليتنا نعلم ما هي أما والله إذن لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين، فدلّهم الله سبحانه فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية، فابتلوا بذلك يوم أحد ففرّوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين صرع وشج في وجهه وكسرت رباعيته، فنزلت هذه الآية يعيّرهم ترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله سبحانه وتعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة: لئن لقينا بعده قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيّرهم الله بهذه الآية ، وقال ابن عباس: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: وددنا لو أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبرهم الله تعالى أن أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد، فكره ذلك ناس منه وشق عليهم الجهاد وتباطؤوا عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وقال: قتادة والضحاك: نزلتا في شأن القتال، كان الرجل يقول: قتلت ولم يقاتل، وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت ولم يصبر. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مقلاب قال: حدّثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بدمشق قال: حدّثنا يعقوب بن محمد الزهري قال: أخبرنا حصين بن حذيف الصهري قال: حدّثني عمي عن سعيد بن المسيب عن مهيب قال: كان رجل يوم بدر قد آذى المسلمين ونهاهم فقتله صهيب في القتال، فقال رجل: يا رسول الله قتلت فلانا ففرح بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عمرو بن عبد الرحمن لصهيب: أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنك قتلته فأن فلانا ينتحله، فقال صهيب: إنما قتلته لله تعالى ولرسوله، فقال عمرو بن عبد الرحمن: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم يا رسول الله، فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ والآية الأخرى. وقال الحسن: هؤلاء المنافقون ندبهم الله سبحانه ونسبهم الى الاقرار الذي أعلنوه للمسلمين فأنزل الله فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كذبا وزورا، وقال: ابن زيد: نزلت في المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون، وقال: مجاهد: نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة قال: في مجلس لهم: لو علمنا أي الأعمال أحب الى الله لعملنا بها حتى نموت، فأنزل الله سبحانه هذه السورة فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح
حبيسا في سبيل الله حتى أموت أو أقتل فقتل بمؤته شهيدا رحمة الله عليه ورضوانه، وقال: ميمون بن مهران: نزلت في الرجل يقرض نفسه بما لم يفعله نظيره ويحبون أن يحمدوا عما لم يفعلوا. حدّثنا أبو القاسم الحسيني لفظا قال: حدّثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال: حدّثنا عمي سعيد الدارمي قال: حدّثنا محبوب بن موسى الأنطاكي قال: حدّثنا أبو إسحاق الفراري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سلام قال: خرجنا نتذاكر فقلنا: أيكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله أي الأعمال أحب الى الله، ثم تفرقنا وهبنا أن يأتيه أحدنا، فأرسل إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجمعنا فجعل يومي بعضنا الى بعض فقرأ علينا سَبَّحَ لِلَّهِ الى آخرها. قال أبو سلمة: فقرأها علينا عبد الله بن سلام الى آخرها قال يحيى بن أبي كثير: فقرأ علينا أبو سلمة الى آخرها، قال الأوزاعي: فقرأ علينا يحيى بن إسحاق الى آخرها، قال أبو إسحاق الفزاري: فقرأها علينا الأوزاعي الى آخرها، قال محبوب بن موسى: قرأها علينا الفزاري الى آخرها، قال عثمان بن سعيد: فقرأها علينا محبوب الى آخرها، قال الطرائفي: فقرأها علينا عثمان بن سعيد الى آخرها، قال القاسم: وقرأها علينا أبو الحسن الطرائفي الى آخره، وقرأها علينا الأستاذ أبو القاسم الى آخرها وسألنا أحمد الثعلبي أن يقرأ فقرأ علينا إلى آخرها. كَبُرَ مَقْتاً نصب على الحال وأن شئت على التمييز. وقال الكسائي: أَنْ تَقُولُوا في موضع رفع لان كَبُرَ بمنزلة قولك بئس رجلا أخوك، وأضمر القراء فيه اسما مرفوعا، والمقت والمقاتة مصدر واحد يقال: رجل ممقوت ومقيت إذا لم تحبّه الناس إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ولا يزولون عن أماكنهم كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ قد رصّ بعضه الى بعض أي أحكم وأيقن وأدقّ فليس فيه فرجه ولا خلل، وأصله من الرصاص، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «تراصوا بينكم في الصفوف لا يتخللنكم الشياطين كأنها بنات حذف» [284] «1» . وَإِذْ قالَ: مُوسى لِقَوْمِهِ من بني إسرائيل يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وذلك حين رموه بالادرة وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ والرسول يحترم ويعظم فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ عن الحق قُلُوبَهُمْ عن الدين وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وهو الذي لا يذم، وفي وجهه قولان:
أحدهما: أن الأنبياء كلّهم حمّادون لله سبحانه ونبينا صلّى الله عليه وسلّم أحمد، أي أكثر حمدا لله منهم. والثاني: أنّ الأنبياء كلّهم محمودون ونبيّنا أحمد أي أكثر مناقب وأجمع للفضائل. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ قراءة العامة بالتخفيف من الإنجاء وقرأ ابن عامر بالتشديد من [التنجية] مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ بيّن ما هي فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثني ابن حرجة قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن الفرح البغدادي قال: حدّثنا حجاج بن محمد بن جبير القصاب عن الحسن قال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليها فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنّة وذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون، على كلّ فراش امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من كل الطعام، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة، قال: فيعطي الله المؤمن من القوة في غذاءه وحده ما يأتي على ذلك كله» [285] «1» . فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرى قال: نحاة البصرة: هي في محل الخفض «2» مجازه: وتجارة أخرى، وقال نحاة الكوفة: محلها رفع أي ولكم أخرى في العاجل مع ثواب الآجل. تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ثم حثهم على نصرة الدين وجهاد المخالفين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أعوانا بالسيف على أعدائه، قرأ أبو عمرو وقرأ أهل الحجاز أنصارا بالتنوين وهو اختيار أيوب، وقرأ الباقون بالإضافة وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد قال: لقوله نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ولم يقل: أنصارا لله. كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ: الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ.
سورة الجمعة
سورة الجمعة مدنية، وهي سبعمائة وعشرون حرفا، ومائة وثمانون كلمة، وأحدى عشر آية أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا موسى قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا سليمان قال: حدّثنا أبو معاذ عن أبي عصمة عن زيد العمي عن أبي نصرة عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ سورة الجمعة كتب له عشر حسنات بعدد من ذهب الى الجمعة من مصر من أمصار المسلمين ومن لم يذهب» [286] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ قال أهل اللغة: كل أسم على فعّول بتشديد للعين فالفاء منه منصوبة، نحو سفّود وكلّوب وسمّور وشبّوط- وهو ضرب من السمك إلّا أحرف: سبّوح وقدّوس، ومردوح لواحد المراديح «2» ، وحكى الفراء عن الكسائي قال: سمعت أبا الدنيا وكان أعرابيا فصيحا يقرأ القدوس بفتح القاف ولعلها لغة. الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وقرأ أبو وائل الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ بالرفع على معنى هو الملك القدوس. أخبرني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله
ابن سليمان قال: حدّثنا محمد بن إسحاق الرازي قال: حدّثنا إسحاق بن سليمان قال: سمعت عمرو بن أبي قيس عن عطاء بن السائب عن ميسرة قال: هذه الآية يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ في التوراة سبعمائة آية. هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني العرب رَسُولًا مِنْهُمْ محمدا صلّى الله عليه وسلّم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ في آخَرِينَ وجهان من الأعراب: أحدهما الخفض على الرد الى الأميين، مجازه: وفي آخرين، والثاني: النصب على الردّ الى الهاء والميم من قوله يُعَلِّمُهُمُ أي ويعلم آخرين منهم أي من المؤمنين الذين يدينون بدينه. لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أي لم يدركوهم ولكنهم يكونون بعدهم. وأختلف العلماء فيهم فقال ابن عمرو سعيد بن جبير: هم العجم، وهي رواية ليث عن مجاهد يدلّ عليه كما روى ثور بن يزيد عن أبي العتب عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ كلّمه فيها الناس فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على سلمان فقال: «لو كان (الدين) «1» عند الثريا لناله رجال من هؤلاء» [287] «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي بن علي قال: حدّثني أبو حمزة الثمالي قال: حدّثني حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «رأيتني تبعني غنم سود ثم أتبعتها غنم سود ثم أتبعتها غنم عفر» أوّلها أبا بكر قال: أمّا السود فالعرب، وأما العفر فالعجم تبايعك بعد العرب، قال: «كذلك عبّرها الملك سحر» [288] «3» يعني وقت السحر. وبه عن أبي حمزة قال: حدّثني السدي قال: كان عبد الرحمن بن أبي ليلى إذا قال: رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنه يعني به عليا، وإذا قال: رجل من أهل بدر فإنما يعني به عليا، فكان أصحابه لا يسألونه عن أسمه، وقال: عكرمة ومقاتل: هم التابعون، وقال ابن زيد وابن حيان: هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الى يوم القيامة وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد. وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «وأن في أصلاب أصلاب أصلاب
[سورة الجمعة (62) : الآيات 8 إلى 9]
رجال (أمتي) «1» رجالا ونساء يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ... بِغَيْرِ حِسابٍ» [289] «2» ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي كلّفوا العمل بها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ولم يعملوا بما فيها ولم يؤدّوا حقّها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً كتبا من العلم والحكمة. قال الفراء: هي الكتب العظام واحدها سفر، ونظيرها في الكلام شبر وأشبار وجلد وأجلاد فكما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرءون التوراة ولا ينتفعون به، لأنهم خالفوا ما فيه. أنشدنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتب قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر قال: أنشدنا أبو محمد العشائي المؤدب قال: أنشدنا أبو سعيد الضرير: زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيّدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري المطي إذا غدا ... بأسفاره إذ راح ما في الغرائز «3» بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ محمد وأصحابه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فادعوا على أنفسكم بالموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه. وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. أخبرنا الحسن قال: حدّثنا السني قال: حدّثنا النسائي قال: أخبرني عمرو بن عثمان قال: حدّثنا بقية بن الوليد قال: حدّثنا الزبيدي قال: حدّثني الزهري عن أبي عبيد أنه سمع أبا هريرة يقول قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمن أحدكم الموت أما محسن فإن يعش يزدد خيرا فهو خير له وأما مسيئا فلعلّه أن يستعتب» [290] «4» . [سورة الجمعة (62) : الآيات 8 الى 9] قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي في يوم الجمعة كقوله سبحانه ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ «1» أي في الأرض وأراد بهذا النداء الآذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، يدل عليه ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا أحمد بن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: حدّثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذن واحد- بلال- لم يكن له مؤذن آخر غيره، فكان إذا جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر أذّن على باب المسجد فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر كذلك وعمر كذلك حتى إذا كان عثمان فكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذانا فأمر بالتأذين الأوّل على دار له بالسوق يقال لها الزوراء، فكان يؤذن له عليها، فإذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه الأوّل، فإذا نزل أقام للصلاة فلم يعب ذلك عليه. وقراءة العامة الْجُمُعَةِ بالضم الميم، وقرأ الأعمش مخففة بجزم الميم وهما لغتان وجمعها: جمع وجمعات. أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا أبا الحسن بن أيوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: سمعت الكسائي يخبر عن سليمان عن الزهري قال: قال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم قال الفرّاء وأبو عبيد: التخفيف حسن وهو [........] «2» في مذهب العربية مثل غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر. وقال الفراء: وفيها لغة أخرى ثالثة: جمعة بالفتح كقولك رجل ضحكة وهمزة ولمزة وهي لغة بني عقيل، وقيل: هي لغة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما سمي هذا اليوم جمعة لما أخبرنا الحسن قال: حدّثنا الكندي قال: حدّثنا محمد بن مخلد العطّار قال: حدّثنا محمد بن عيسى بن أبي موسى قال: حدّثنا عبد الله بن عمرو بن أبي أمية قال: حدّثنا قيس الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن قرثع الضبي عن سليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما سميت الجمعة لأن آدم جمع فيها خلقه» [291] «3» . وقيل: لأنّ الله سبحانه فرغ فيه من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات. وقيل: يجمع الجماعات فيها، وقيل: لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل: أوّل من سماها جمعة كعب بن لؤي. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حفصويه قال: حدّثنا الحسن بن أحمد بن حفص الحلواني قال: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدّثنا عبد العزيز عن محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة قال: أول من قال: أما بعد كعب بن لؤي، وكان
أول من سمى الجمعة الجمعة وكان يقال للجمعة: العروبة، وقيل: أوّل من سماها جمعة الأنصار. أخبرني الحسين قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا سلمة ابن شيب قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة وقبل أن ينزل الجمعة وهم الذين سمّوها الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم أيضا مثل ذلك، فهلموا فلنجعل يوما يجمع فيه فيذكر الله عزّ وجلّ ونصلّي ونشكره- أو كما قالوا-. فقالوا: يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمّون يوم الجمعة يوم العروبة واجتمعوا الى أسعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة فتغدوا وتعشوا من شاة واحده وذلك لقلتهم، فأنزل الله سبحانه في ذلك بعد إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الآية، فهذه أول جمعة جمعت في الإسلام. فأما أول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه فقال أهل السير والتواريخ: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا حتى نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين أشتد الضحى فأقام صلّى الله عليه وسلّم بقباء يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج بين أظهرهم يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجد وكانت هذه الجمعة أول جمعة. وقال: الحسن هي مستحبة وليست بفرض، وقال سعيد: جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحمد لله أحمده وأستعينه واستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور والموعظة عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وقلّة من العلم وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فقد رشد ومن يعصيهما فقد غوى وفرط وضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً، وأوصيكم بتقوى الله فأنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وان يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه وأن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربّه عون وصدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السرّ والعلانية لا ينوي بذلك إلّا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء الى ما قدم، وما كان مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ
بِالْعِبادِ ، والذي صدق قوله ونجز وعده لا خلق لذلك فأنه يقول ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السرّ والعلانية فإنه مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ كفر عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً، ومن يتق الله فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً، وان تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه، وأن تقوى الله تبيض الوجوه وترضي الرب وترفع الدرجة خذوا بحظّكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علّمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وَجاهِدُوا فِي سبيل اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ، هُوَ اجْتَباكُمْ وسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ولا حول ولا قوة إلّا بالله، وأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم، فأنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفيه الله ما بينه وبين الناس، وذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوّة إلّا بالله العظيم» [292] «1» . فلهذا صارت الخطبة شرطا في انعقاد الجمعة وهو قول جمهور العلماء، وقال الحسن: هي مستحبة وليست بفرض، وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من الظهر فإذا تركها وصلّى الجمعة فقد صلى الركعتين من الظهر، وأقلّ ما يجزي من الخطبة أن يحمد الله ويصلّي على نبيّه ويوصي بتقوى الله سبحانه ويقرأ آية من القرآن في الخطبة الأولى ويجب في الثانية أربع كالأولى إلّا إن الواجب بدل قراءة الآية الدعاء، هذا قول أكثر العلماء والفقهاء، وقال أبو حنيفة: لو أقتصر على التحميد أو التسبيح أو التكبير أجزاه، وقال أبو يوسف ومحمد: الواجب ما يتناوله أسم الخطبة. ثم القيام شرط في صحة الخطبة مع القدرة عليه في قول عامّة الفقهاء إلّا أبا حنيفة فأنه لم يشرطه فيها، والدليل على أن القيام شرط في الخطبة قوله سبحانه: وَتَرَكُوكَ قائِماً. وحديث ابن عمر: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب خطبتين إلّا وهو قائم. وللشافعي قولان في الطهارة في حال الخطبة فقال في الجديد: هي شرط في الخطبة، وقال في القديم: ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة رحمة الله. فهذا بيان القول في أول جمعه جمعت في الإسلام، وأول جمعه جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأول خطبة خطبها فيها في المدينة، فأمّا أول جمعة جمعت بعدها بالمدينة فقال ابن عباس: أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة بقرية يقال لها جواثا من قرى البحرين. قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي أمضوا إليه واعملوا له. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا
يحيى بن حنظلة قال: سمعت سالما قال: قال ابن عمر: سمعت صلّى الله عليه وسلّم يقرأ فامضوا الى ذكر الله. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ في آخرين قالوا: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا الربيع ابن سليمان قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: ما سمعت عمر قط يقرأها إلّا وأمضوا الى ذكر الله. وأخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر الكلمواني قال: حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن حفص قال: حدثنا السري بن خزيمة قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان عن حنظلة عن سالم عن عمر أنه كان يقرأها فامضوا الى ذكر الله، وروى الأعمش عن إبراهيم قال: كان عبد الله يقرأها فامضوا الى ذكر الله ويقول: لو قرأها فَاسْعَوْا لسعيت حتى يسقط ردائي، وهي قراءة أبي العالية أيضا، وقال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلّا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنيّة والخشوع. وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال: أخبرنا عبد الوهاب قال: سئل سعيد عن فضل الجمعة فأخبرنا عن قتادة أنه كان يقول في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها قال: وكان يتأوّل هذه الآية فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ «1» يقول فلما مشى معه، وقال: الكلبي فلما عمل مثله عمله. وأخبرنا محمد بن حمدويه قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: السعي في هذا الموضع هو العمل، قال الله سبحانه وتعالى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى «2» وقال سبحانه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «3» وقال تعالى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها «4» وقال زهر: سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم فلم يدركوهم ولم يلاقوا ولم يألوا الى ذكر الله يعني الصلاة. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب وليع قال: حدّثنا منصور بن دينار عن موسى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال: موعظة الإمام وَذَرُوا الْبَيْعَ يعني البيع والشراء لأنّ البيع يتناول المعنيان جميعا ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا» [293] «5» أراد البائع والمشتري، وقال الأخطل:
ذكر تلكم الآية
وباع بنيه بعضهم بخشارة ... وبعت لذبيان العلاء بمالكا «1» يريد بالأول البيع وبالآخر الابتياع، وإنّما يحرم البيع عند الأذان الثاني، وقال الزهري: عند خروج الإمام، وقال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشرى، وروى السدي عن أبي مالك قال: كان قوم يجلسون في بقيع الزبير ويشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ولا يقومون فنزلت هذه الآية. ذلِكُمْ الذي ذكرت من حضور الجمعة والاستماع الى الجمعة وأداء الفريضة خَيْرٌ لَكُمْ من المبايعة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مصالح أنفسكم ومضارها. ذكر تلكم الآية أعلم أن صلاة الجمعة واجب على كل مسلم إلّا خمسة نفر: النساء والصبيان والعبيد والمسافر والمرضى. يدل عليه ما أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق الأزهري [باسفرائين] قال: أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال: أخبرنا المزني قال: قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدّثني سلمة بن عبد الله الحطمي عن محمد ابن كعب القرطي أنه سمع رجلا من بني وائل يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تجب الجمعة على كلّ مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك» [294] «2» . وأخبرنا أن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف قال: حدّثنا ابن وهب قال: حدّثنا الربيع بن سليمان الحبري قال: حدّثنا عبد الملك بن سلمة القرشي قال: حدّثنا أبو المثنى سلمان بن يزيد الكعبي عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تحرم التجارة عند الأذان يوم الجمعة ويحرم الكلام عند الخطبة وتحل التجارة بعد صلاة الجمعة ولا تجب الجمعة على أربعة: المريض والعبد والصبي والمرأة، فمن سعى بلهو أو تجارة اسْتَغْنَى اللَّهُ عنه وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» [295] . وتجب الجمعة على أهل القرى إذا سمعوا النداء من المصر، ووقت اعتبار سماع الأذان يكون المؤذّن صيّتا والأصوات هادئة والريح ساكنة، وموقف المؤذن عند سور البلد، ويعتبر كل قرية بالسور الذي يليها، هذا مذهب الشافعي، وقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس: تجب الجمعة على من كان على عشرة أميال من المصر، وقال سعيد بن المسيب: يجب على من آواه المبيت، وقال الزهري: تجب على من كان على ستة أميال، ربيعة أربع أميال، مالك والليث: ثلاثة أميال.
وقال أبو حنيفة، لا تجب الجمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة من البلد أو بعيدة، حتى حكي أن محمد بن الحسن سأله هل تجب الجمعة على أهل دياره وبينها وبين الكوفة مجرى نهر، فقال: لا. واختلف الفقهاء في عدد من ينعقد بهم الجمعة، فقال الحسن: ينعقد باثنين، وقال الليث ابن سعد وأبو يوسف: بثلاثة، وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: بأربعة، وقال ربيعة: الرأي باثني عشر، وقال الشافعي: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين نفسا، قال: فكل قرية جمعت فيها أربعين بالغين عاقلين أحرار مقيمين لا يظعنون عنها شتاء وصيفا الا ظعن حاجة وجبت عليهم الجمعة، وقال مالك: إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير اعتبار عدد، وقال أبو حنيفة: لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى ولا يجوز لهم أقامتها فيها، وأشترط في وجوب الجمعة وانعقادها: المصر الجامع للسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري، واحتج بحديث علي كرم الله وجهه: لا جمعة ولا تسويق إلا في مصر جامع، وفي بعض الأخبار إلا على أهل مصر جامع وضعّفه بعضهم. والدليل على أبي حنيفة حديث ابن عباس قال: أول جمعة جمعت بعد جمعة النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة في قرية من قرى البحرين يقال لها جواثا، وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى أهل البحرين صلّوا الجمعة حيث ما كنتم، وتصح إقامة الجمعة بغير إذن السلطان وحضوره، وقال أبو حنيفة: من شرطها الإمام أو خليفة. والدليل على أن السلطان ليس بشرط في انعقاد الجمعة، ما روي أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوما في حضور الجمعة فتقدّم عبد الله بن مسعود وصلى الجمعة بالناس من غير إذنه، وروي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه صلى الجمعة بالناس، يوم حصر عثمان ولم ينقل أنه استأذنه ، وروى أن سعيد بن العاص والي المدينة لما أخرج من المدينة صلى أبو موسى الأشعري الجمعة بالناس من غير استئذان. ولا يجوز أن يصلي في بلد واحد إلّا جمعة واحدة فأن صليت ثانية بطلت، وقال أبو يوسف: فإن كان للبلد جانبان جاز أن يصلي كل جانب منه جمعة، وقال محمد بن الحسن يجوز أن يصلي في بلد واحد جمعتان استحسانا. فأما الوعيد الوارد لمن ترك صلاة الجمعة من غير عذر، فأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: حدّثنا أبو العباس الأحمر قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم قال: أخبرنا ابن أبي فديك قال: أخبرنا ابن أبي ذئب عن أسيد بن أسيد البرّاد عن عبد الله بن قتادة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه» [296] «1» .
فأما ثواب من شهد الجمعة
وروى عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة ثم لا يشهدونها أو ليطبعن الله على قلوبهم أو ليكونن من الغافلين أو ليكونن من أهل النار» [297] «1» . وروى أنه صلّى الله عليه وسلّم خطب فقال: «إن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، [في شهري هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة] فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر من غير عذر فلا بارك الله له ولا جمع الله شمله ألا فلا حج له ألا ولا صوم له، ومن تاب تاب الله عليه» [298] «2» . أخبرنا أبو عبد الله الفتحوي قال: حدّثنا أبو بكر القطيعي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا حسن بن علي عن الحسن بن الحر عن ميمون بن أبي المسيّب قال: أردت الجمعة زمن الحجاج، قال: فتهيأت للذهاب ثم قلت: أين أذهب أصلي خلف هذا فقلت مرة: أذهب، وقلت مرة: لا أذهب قال: فاجمع رأي على الذهاب، فناداني مناد من جانب البيت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قال: وجلست اكتب كتابا فعرض لي شيء إن أنا كتبته في كتابي زين كتابي وكنت قد كذبت، فأن أنزلته كان في كتابي بعض القبح وكنت قد صدقت، فقلت مرة: اكتب، وقلت مرة: لا أكتب، فأجمع رأي على تركه فتركته، فناداني مناد من جانب البيت يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ «3» . فأما ثواب من شهد الجمعة وأخبرنا أحمد بن أبي قال: حدّثنا الهيثم بن كليب قال: حدّثنا عيسى بن أحمد قال: حدّثنا بقية قال: حدّثني الضحاك بن حمزة عن أبي نصرة عن أبي رجاء العطار عن أبي بكر الصديق وعمر بن حصين قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من اغتسل يوم الجمعة كفّرت عنه ذنوبه وخطاياه فإذا أخذ في المشي [إلى الجمعة] كتب له بكل خطوة عمل عشرين سنة فإذا (فرغ) «4» من (الجمعة) «5» أجيز بعمل مائتي سنة» [299] . وأخبرنا أحمد بن أبي في آخرين قالوا: حدّثنا أبو العباس الأصم قال: أخبرنا الربيع قال:
فأما فضل يوم الجمعة
أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن سمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرة الملائكة يستمعون الذكر» [300] «1» . وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو القاسم عمر بن أحمد بن الحسن البصري قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن شودب قال: حدّثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: حدّثنا بن يزيد بن هارون عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليلة أسري بي الى السماء رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدّسونه ويقولون في تسبيحهم: اللهم أغفر لمن شهد الجمعة، اللهم أغفر لمن اغتسل في الجمعة» [301] «2» . فأما فضل يوم الجمعة فأخبرنا أبو عمرو الفراتي وأبو عبد الله الحافظ وأبو محمد الكناني وأبو علي الثوري قالوا: حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف قال: أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن يزيد بن عبد الله بن السهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحرث عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه [تيب] عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلّا وهي مسبحة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلّا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلّا أعطاه إياه» [302] » . قال أبو هريرة: قال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة في يوم الجمعة، فقلت له: كيف يكون آخر ساعة وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيه فقال ابن سلام ألم يقل النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من جلس مجلسا ينتظر فيه الصلاة فهو في الصلاة حتى يصلّي» فقلت بلى قال: «فهو ذلك» [303] «4» . وأخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن هند قال: حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال حدّثنا أبو
[سورة الجمعة (62) : الآيات 10 إلى 11]
بدر شجاع بن الوليد السكوني قال حدّثنا زياد بن خيثمة عن عثمان بن أبي مسلم عن أنس بن مالك قال: أبطأ علينا رسول الله (عليه السلام) ذات يوم فلمّا خرج قلنا: أحبست قال: ذلك أنّ جبرئيل (عليه السلام) أتاني بهيئة المرأة البيضاء فيها نكتة سوداء فقال إنّ هذه الجمعة فيها خير لك ولأمّتك وقد أرادها والنصارى فأخطئوها، قلت: يا جبرائيل ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه السّاعة الّتي في يوم الجمعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلّا أعطاه إيّاه أو ذخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوء مثله وإنّه خير الأيّام عند الله، وإنّ أهل الجنّة يسمّونه يوم المرند، قلت: يا رسول الله وما يوم المرند؟ قال: إنّ في الجنّة واديا، رائحة نبته مسك أبيض، يتنزل الله سبحانه وتعالى كل يوم جمعة ويضع كرسيّه فيه، ثم يجاء بمنابر من نور وتوضع خلفه فتحفّ منه الملائكة ثم يجاء بكرسي من ذهب فيوضع، ثمّ يجيئ النبيّون والصدّيقون والشهداء والمؤمنون أهل الغرف فيجلسون ثمّ يقسم الله سبحانه وتعالى فيقول: أي عبادي سلوا، فيقولون: نسألك رضوانك؟ فيقول: قد رضيت عنكم، فسلوا، فيسألون مناهم فيعطيهم الله ما شاءوا وأضعافها فيعطيهم ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، ثم يقول: ألم أنجزكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محل كرامتي، ثم ينصرفون إلى غرفهم ويعودون كلّ يوم جمعة قلت: يا جبرائيل ما غرفهم؟ قال: من لؤلؤة بيضاء أو ياقوتة حمراء أو زبر جدة خضراء مفرزة منها أبوابها فيها أزواجها، مطردة فيها أنهارها. وأخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا أبو العبّاس عبد الوهّاب بن عبد الجليل ذكر قال حدّثنا أبو محمّد أحمد بن محمّد بن إسحاق السني قال حدّثنا أحمد بن غالب البصري الزاهد بعد إذ قال حدّثنا دينار مولى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ ليلة الجمعه ويوم الجمعة أربعة وعشرون ساعة، لله سبحانه في كل ساعة ستّمائة ألف عتيق من النّار» [304] «1» . [سورة الجمعة (62) : الآيات 10 الى 11] فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي فرغ منها. فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ للتجارة والتصرف في حوائجكم. وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي الرزق وهما أمر إباحة وتخيير كقوله سبحانه وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا «2» .
وقد أخبر عقيل أنّ أبا الفرح أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال: حدّثني العبّاس بن أبي طالب قال حدّثنا علي بن المعافي بن يعقوب الموصلي قال: حدّثنا أبو علي الضائع عن أبي خلف عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قول الله سبحانه فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قال: ليس بطلب دنيا ولكن عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله «1» . قال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ هو طلب العلم. وقال جعفر بن محمّد الصّادق فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ هو يوم السبت. وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً الآية أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن جعفر قال حدّثنا علي بن حرب قال حدّثنا ابن فضيل قال حدّثنا حصين عن سالم بن الجعد عن جابر ابن عبد الله قال: أقبلت عير ونحن نصلّي مع النبيّ (عليه السلام) الجمعة فانفضّ الناس إليها فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً الآية. وقال الحسن وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام والنبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة، فلمّا رأوه قاموا إليه بالبقيع، خشوا أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا رهط منهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية فقال رسول الله (عليه السلام) : «والّذي نفس محمّد بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا» [305] «2» . قال المقاتلان: بينا رسول الله (عليه السلام) يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة بن فروة الكلبي ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة بن عامر من الشام بتجارة، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلّا أتاه وكان يقدّم إذا قدم كل ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره، فينزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله (عليه السلام) قائما على المنبر يخطب، فخرج النّاس فلم يبق في المسجد إلّا إثنا عشر رجلا وامرأة فقال النبي (عليه السلام) : «لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء» [306] «3» وأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وقال ابن عباس في رواية الكلبي لم يبق في المسجد إلّا ثمانية رهط، وقال ابن كيسان: خرجوا إلّا أحد عشر رجلا وامرأة.
قال قتادة ومقاتل: بلغنا أنّهم فعلوا ذلك ثلاث مرات، وكل مرّة بعير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة. وقال مجاهد: كانوا يقومون إلى نواضحهم وإلى السفر، يقدّمون يتبعون التجارة واللهو، فأنزل الله سبحانه وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً قال المفسّرون: يعني الطبل وذلك أنّ العير كانت إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفير. وقال جابر بن عبد الله: كان الجواري إذا نكحوا يمرّون بالمزامير والطبل فانفضّوا إليها، فنزلت هذه الآية، وقوله انْفَضُّوا إِلَيْها ردّ الكناية إلى التجارة لأنّها أهم وأفضل، وقد مضت هذه المسألة. وقرأ طلحه بن مصرف وإذا رأوا لهوا أو تجارة انفضّوا إليها. وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو عمرو بن الحسن قال حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا حصين عن مسعر وأبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن حسان عن عبيدة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنّه سئل: أكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب قائما أو قاعدا؟ قال أما تقرأ وَتَرَكُوكَ قائِماً. قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ قرأ أبو رجاء العطاردي خير من اللهو والتجارة للّذين آمنوا. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنّه موجد الأرزاق فإيّاه فاسألوا ومنه فاطلبوا.
سورة المنافقون
سورة المنافقون مدنيّة، وهي سبعمائة وستة وسبعون حرفا، ومائة وثمانون كلمة، وإحدى عشرة آية أخبرنا الهادي قال: حدّثنا طغران قال: حدّثنا ابن أبي داود قال: حدّثنا محمّد بن عاصم قال: حدّثنا شبابة قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن يزيد عن ذرّ بن حبيش عن أبي ابن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة المنافقين بري من النفاق» [307] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ فيما أظهروا لأنّهم أضمروا خلافه. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً سترة فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لاستواء خلقها، وحسن صورتها، وطول قامتها.
قال ابن عبّاس: وكان عبد الله بن أبيّ جسيما صحيحا فصيحا ذلق اللسان، فإذا قال يسمع النبي (عليه السلام) قوله. وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام. قرأ الأعمش والكسائي وأبو عمرو عن عابس وقيل عبّاس: خُشْبٌ مخفف بجزم الشين، وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد قال: [المدّ مذهبها] «1» في العربية، وذلك أنّ واحدتها خشبة ولم تجد في كلامهم اسما على مثل فعلة تجمع فعل بضم الفاء والعين، ويلزم من فعلها أن ينقل البدن أيضا فيقرأ وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ لأن واحدتها بدنة أيضا. وقرأ الآخرون بالتثقيل وهي اختيار أبي حاتم واختلف فيه عن ابن كثير وعاصم. أخبرنا أبو بكر بن أبي محمّد الحمشاذي قال: أخبرنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدّثنا محمّد بن يونس بن موسى قال: حدّثنا الأصمعي قال: حدّثنا سليم العاملاني قال: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت حالي محتضن خشبة، فقال أحسبك من أهل هذه الآية وتلا كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ. يَحْسَبُونَ من جبنهم وسوء ظنهم وقلّة يقينهم. كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ قال مقاتل: يقول إن نادى مناد في العسكر وانقلبت دابّة، ونشدت ضالة ظنّوا أنّهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب. وقال بعضهم: إنّما قال ذلك لأنّهم على وجل من أن ينزل الله فيهم، يهتك أستارهم وتبيح دماءهم وأموالهم وقال الشاعر في هذا المعنى: ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما «2» ثمّ قال هُمُ الْعَدُوُّ ابتداء وخبر. فَاحْذَرْهُمْ ولا تأمنهم. قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم الله. أَنَّى يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي أمالوها وأظهروا بوجوهم إظهارا للكراهية.
وقرأ نافع والمفضل ويعقوب برواية روح وزيد بتخفيف الواو، وهي اختيار أبي حاتم. وقرأ الباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة قال: لأنّهم فعلوها مرّة بعد مرّة. وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ يعرضون عمّا دعوا إليه، وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لا يستغفرون. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وذلك ما ذكره أهل التفسير وأصحاب السير أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلغه أنّ بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحرث بن أبي ضراب أبو جويرية زوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا سمع بهم رسول الله (عليه السلام) خرج إليهم حتّى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قدموا إلى الساحل، فتزاحف النّاس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليه، وقد أصيب رجل من المسلمين من بني كليب بن عوف بن عامر يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنّه من العدو فقتله خطأ. فبينا النّاس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني عمار يقال له: جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين، فأعان جهجاه الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيرا، وقال عبد الله بن أبي الجعال: وإنّك لهناك؟ فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك؟ فاشتدّ لسان جعال على عبد الله، فقال عبد الله: والّذي يحلف به لأذرنّك وبهمك عن هذا، وغضب عبد الله بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلاما حديث السّن، وقال ابن أبي افعلوا قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلّا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ يعني بالأعزّ نفسه وبالأذلّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثمّ أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم فيلحقوا بعشائرهم ومواليهم فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد، فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل المبغض في قومك، ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين، والله لا أحبّك بعد كلامك هذا. فقال عبد الله: اسكت فإنّما كنت ألعب، فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: دعني أضرب عنقه يا رسول الله
[سورة المنافقون (63) : الآيات 8 إلى 11]
فقال: إذا توعد أن خلّ عنه يدخل. فقال: أمّا إذا جاء أمر النبي (عليه السلام) فعمر يرحل ولم يلبث إلّا أياما ولأنك حسبتني أشتكي ومات. قالوا: فلمّا نزلت هذه الآية وبان كذب عبد الله بن أبي قيل له: يا أبا حباب إنّه قد نزلت أي شداد، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك فلوّى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد، فأنزل الله سبحانه وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ إلى قوله هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلا يعذر أحد أن يعطي هنا شيئا إلّا بأذنه، ولا أن يمنعه شيئا إلّا بمشيئته. قال رجل لحاتم الأصم: من أين يأكل؟ فقرأ وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ. وقال الجنيد: خزائن السماء: الغيوب، وخزائن الأرض: القلوب وهو علّام الغيوب ومقلّب القلوب، وكان الشبلي يقول: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فأين تذهبون؟. [سورة المنافقون (63) : الآيات 8 الى 11] يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ يعني من غزوة بني لحيان ثمّ بني المصطلق، وهم حي من هذيل لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فعزّة الله سبحانه قهر من دونه، وعزّ رسوله إظهار دينه على الأديان كلّها، وعزّ المؤمنين نصره إيّاهم على أعدائهم فهم ظاهرون. وقيل: عزّة الله: الولاية، قال الله تعالى هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ وعزّة الرسول: الكفاية قال الله سبحانه: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وعزّ المؤمنين: الرفعة والرعاية قال الله سبحانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وقال وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رؤفا رَحِيماً. وقيل: عزة الله الربوبية، وعزّة الرسول: النبوّة. وعزّة المؤمنين: العبودية. وكان جعفر الصّادق يقول: «من مثلي وربّ العرش معبودي، من مثلي وأنت لي» . وقيل: عزّة الله خمسة: عزّ الملك والبقاء، وعزّ العظمة والكبرياء، وعزة البذل والعطاء،
وعزّ الرفعة والغناء، وعزّ الجلال والبهاء، وعزّ الرسول خمسة: عزّ السبق والابتداء، وعزّ الأذان والنداء، وعزّ قدم الصدق على الأنبياء، وعزّ الاختيار والاصطفاء، وعزّ الظهور على الأعداء، وعزّ المؤمنين خمسة: عزّ التأخير بيانه: نحن السابقون الآخرون، وعزّ التيسير بيانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، وعزّ التبشير بيانه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً، وعزّ التوقير بيانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، وعزّ التكثير وبيانه: إنهم أكثر الأمم. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ «1» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ لا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قال المفسرون: يعني الصلوات الخمس، نظيره قوله سبحانه: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ الآية. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي أمهلتني يجوز أن يكون (لا) صلة، فيكون الكلام بمعنى التمنّي، ويجوز أن يكون بمعنى هلّا فيكون استفهاما. إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعني مثل ما أجلت في الدنيا، فَأَصَّدَّقَ فأتصدّق وأزكّي مالي. وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ المؤمنين نظيره قوله وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ هذا قول مقاتل وجماعة من المفسرين، وقالوا: نزلت هذه الآية في المنافقين. وقيل: الصالح هاهنا: الحج، والآية نازلة في المؤمنين. روى الضّحاك وعطية عن ابن عبّاس قال: ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤدّ زكاته وأطاق الحجّ ولم يحجّ إلّا سأل الرجعة عند الموت فقالوا: يا بن عبّاس اتّق الله فإنّما نرى هذا الكافر سأل الرجعة فقال: أنا أقرأ عليكم قرآنا، ثم قرأ هذه الآية الى قوله فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ قال: أحجّ، أخبرناه ابن منجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن سهلويه قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثنا عبد الرزّاق قال: أخبرنا الثوري عن يحيى بن أبي حيّة عن الضّحاك عن ابن عبّاس. واختلف القرّاء في قوله وَأَكُنْ فقرأ أبو عمرو وابن محيص: وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمنّي أو للاستفهام بالفاء، قال أبو عمرو: وإنما حذفت الواو من المصحف اختصارا كما حذفوها في (كلّمن) وأصلها الواو. قال الفرّاء: ورأيت في بعض مصاحف عبد الله فَقُولا- فقلا- بغير واو، وتصديق هذه
القراءة ما أخبرنا محمّد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا حجاج عن هارون قال: في حرف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود- وأكون من الصالحين، بالواو. وقرأ الآخرون: بالجزم وَأَكُنْ عطفا بها على قوله فَأَصَّدَّقَ لو لم يكن فيه الفاء وذلك أنّ قوله فَأَصَّدَّقَ لو لم يكن فيه الفاء كان جزما، واختار أبو عبيد الجزم، قال: من ثلاث جهات: أحدها: إنّي رأيتها في مصحف الإمام عثمان- (وَأَكُنْ) بحذف الواو ثم اتفقت بذلك المصاحف فلم تختلف. والثانية: اجتماع أكثر قرّاء الأمصار عليها. والثالثة: إنّا وجدنا لها مخرجا صحيحا في العربية لا يجهله أهل العلم بها وهو أن يكون نسقا على محل أصّدق قبل دخول الفاء، وقد وجدنا مثله في أشعارهم القديمة منها قول القائل: فأبلوني بليتكم لعلّي ... أصالحكم واستدرج نويا «1» فجزم واستدرج عطفا على محل أصالحكم قبل دخول لعلّي. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ بالياء مختلف عنه غيره بالتاء.
سورة التغابن
سورة التغابن مكية إلّا قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية وهي ألف وسبعون حرفا، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وثماني عشرة آية أخبرنا أبو الحسن المحاربي قال: حدّثنا أبو الشيخ الحافظ قال: حدّثنا أبو داود سليمان ابن أحمد بن الوليد قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا الوليد بن الوليد الدمشقي عن عبد الرحمن بن ثومان عن عطاء بن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود يولد إلّا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن» [308] «1» . وأخبرني نافل بن راقم قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمّد قال: حدّثنا عمرو بن محمد قال: حدّثنا أسباط بن اليسع قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال: حدّثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن ذر عن أبي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة» [309] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: إنّ الله سبحانه خلق الخلق مؤمنين وكافرين. قال ابن عبّاس: بدأ الله خلق بني «1» آدم مؤمنا وكافرا ثمّ يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. واحتجّوا بحديث الصادق المصدّق وقوله: «السعيد من سعد في بطن أمّه والشقي من شقي في بطن أمّه» [310] . وكما أخبرنا عبد الله بن كامل الأصبهاني قال: أخبرني أبو بكر أحمد بن محمد بن يحيى العبدي بنو شيخ قال: حدّثنا أحمد بن نجدة بن العريان قال: حدّثنا المحاملي قال: حدّثنا ابن المبارك عن أبي لهيعة قال: حدّثني بكر بن سوادة عن أبي تميم الحسائي عن أبي ذر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس، فعرج به إلى الرّب تبارك وتعالى، فقال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله سبحانه ما هو قاض. أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق» وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات» [311] «2» . وأخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن حبيب قال: حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل السيوطي قال: حدّثنا داود بن المفضل قال: حدّثنا نصر بن طريف قال: أخبرنا قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ناجيه بن كعب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلق الله سبحانه فرعون في بطن أمّه كافرا، وخلق يحيى بن زكريّا في بطن أمّه مؤمنا» [312] «3» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا [313] «4» . وقال الله سبحانه وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً. إنّ الله سبحانه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا وتمام الكلام عند قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثم وصفهم فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وهو مثل قوله: اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي [عَلى بَطْنِهِ] «5» الآية، قالوا: فالله خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسن ابن الفضل. قالوا: أو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفه بفعلهم في قوله: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ الكفر فعل الكافر، والإيمان فعل المؤمن. واحتجّوا بقوله سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وبقوله: «كل مولود يولد على الفطرة» [314] «6» ، وقوله حكاية عن ربّه: «إنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء» [315] «7» ونحوها من
الأخبار، ثم اختلفوا في تأويلها، فروى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال: «فمنكم مؤمن يكفر، ومنكم كافر يؤمن» . وقال أبو سعيد الخدري: «فَمِنْكُمْ كافِرٌ حياته مؤمن في العاقبة، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ حياته كافر في العاقبة» ، وقال الضحاك: فَمِنْكُمْ كافِرٌ في السّر مؤمن في العلانية كالمنافق، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ في السّر، كافر في العلانية كعمّار وذويه. فَمِنْكُمْ كافِرٌ بالله مؤمن بالكواكب، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بالله كافر بالكواكب، يعني في شأن الأنوار. قال الزجّاج: وأحسن ما قيل فيها هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ بأنّ الله خلقه، وهو مذهب أهل الدهر والطبائع. وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بأنّ الله خلقه. وجملة القول في حكم هذه الآية ومعناها والّذي عليه جمهور الأمّة والأئمة والمحقّقون من أهل السنّة هي أنّ الله خلق الكافر وكفره فعلا له وكسبا، وخلق المؤمن وإيمانه فعلا له وكسبا، فالكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله سبحانه إيّاه لأنّ الله سبحانه وتعالى قدّر عليه ذلك وعلمه منه، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان بعد خلق الله تعالى إيّاه لأنّ الله سبحانه أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجد من كلّ واحد منهم غير الذي قدّره الله عليه وعلمه منه، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز، وخلاف المعلوم جهل، وهما لا يليقان بالله تعالى، ولا يجوزان عليه، ومن سلك هذا السبيل سلم من الجبر والقدر فأصاب الحقّ كقول القائل: يا ناظرا في الدّين ما الأمر ... لا قدر صحّ ولا جبر «1» وقد أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد العمدة السرخسي قال: حدّثنا عبد الله بن مبشر الواسطي قال: حدّثنا أحمد بن منصور الزّيادي قال: سمعت سيلان يقول: قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ قال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب علينا أن نردّ ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ يعني الأمم الخالية فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ذلِكَ العذاب. بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا لأنّ البشر وإن كان لفظه واحد فإنّه في معنى الجمع وهو اسم الجنس وواحده إنسان ولا واحد له من لفظه. فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن إيمانهم وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن خلقه، حَمِيدٌ في أفعاله.
[سورة التغابن (64) : الآيات 9 إلى 18]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ يا محمّد بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وهو القرآن. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. [سورة التغابن (64) : الآيات 9 الى 18] يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ قراءة العامّة بالياء لقوله سبحانه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وقرأ [رويس عن يعقوب (يوم نجمعكم) ] بالنون اعتبارا بقوله أَنْزَلْنا. لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أخبرنا الحسن بن محمّد قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال: حدّثنا كثير بن يحيى قال: حدّثنا أبو آمنة بن معلّى الثقفي قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلّا أري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النّار إلّا أري مقعده من الجنّة لو أحسن ازداد حسرة» [316] «1» . قال المفسّرون: من غبن أهله منازله في الجنّة فيظهر يومئذ غبن كلّ كافر ببركة الإيمان، وغبن كلّ مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيّام. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قرأ أهل المدينة والشام هاهنا وفي السورة الّتي تليها: نكفّر وندخله بالنون، والباقون بالياء.
ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته وقضائه. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ قصدوا به لا يصيب مصيبة إلّا بإذن الله يَهْدِ قَلْبَهُ يوفقه لليقين حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه قاله ابن عبّاس. وأنبأني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا الحسن بن يعقوب قال: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله قال: حدّثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنّا نعرض المصاحف على علقمة بن قيس فمرّ بهذه الآية ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ فسألناه عنها فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنّها من عند الله فيرضى ويسلّم. وقال أبو بكر الورّاق: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ عند النعمة والرخاء، فيعلم أنّها من فضل الله يَهْدِ قَلْبَهُ للشكر، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ عند الشدّة والبلاء فيعلم أنّها من عند الله يَهْدِ قَلْبَهُ للرضا والصبر. وقال أبو عثمان الجيري: ومن صحّ إيمانه يَهْدِ قَلْبَهُ لاتباع السنّة. وقد اختلف القرّاء في هذه الآية، فقراءة العامّة (يَهْدِ قَلْبَهُ) بفتح الياء والباء واختاره أبو عبيده وأبو حاتم، وقرأ السلمي بضم الياء والباء وفتح الدّال على الفعل المجهول، وقرأ طلحة ابن مصرف: نهد قلبه بالنون وفتح الباء على التعظيم. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال: حدّثنا أبو عمر المقرئ قال: حدّثنا أبو عمارة قال: حدّثنا سهل بن موسى الأسواري قال: أخبرني من سمع عكرمة يقرأ: ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه، من الهدوء أي يسكن ويطمئن. وقرأ مالك بن دينار: يهدا قلبه بألف ليّنة بدلا من الهمزة. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ البيّن. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبّطهم عنها أزواجهم وأولادهم. قال ابن عبّاس: كان الرجل يسلم، فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا له: ننشدك الله أن تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير بالمدينة بلا أهل ومال، وإنّا قد صبرنا على إسلامك فلا نصبر على فراقك، ولا نخرج معك، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم لذلك فلا يهاجر، فإذا هاجر رأى النّاس قد نقموا في الدّين منهم أن يعاقبهم في تباطئهم به عن الهجرة، ومنهم من لا يطيعهم ويقولون لهم في خلافهم في الخروج: لئن جمعنا الله وإيّاكم لا تصيبون منّي خيرا، ولأفعلنّ، وأفعلنّ فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال عطاء بن يسار وعطاء الخراساني: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورفّقوه وقالوا: إلى من تكلنا وتدعنا فيرقّ ويقيم، فأنزل الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ لحملهم إيّاكم على المعصية وترك الطاعة فَاحْذَرُوهُمْ أن تقبلوا منهم. وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فلا تعاقبوهم على خلافهم إيّاكم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ بلاء واختبار يحملكم على الكسب من الحرام والمنع عن الحقّ، وقال القتيبي: إغرام يقال فتن فلان بفلانة أي أغرم بها. قالت الحكماء: أدخل من التبعيض في ذكر الأزواج والأولاد حيث أخبر عن عداوتهم، لأنّ كلّهم ليسوا بأعداء ولم يذكر- من- في قوله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لأنّها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب بها، يدلّ عليه قول عبد الله بن مسعود: «لا يقولنّ أحد: اللهم إنّي أعوذ بك من الفتنة، فإنّه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلّا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلّات الفتن» «1» . وأخبرنا ابن منجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل قال: حدّثنا أبو خثمه قال: حدّثنا زيد بن حباب قال: حدّثنا حسين بن واقد قاضي مرو قال: حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران، فنزل النّبي (عليه السلام) إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر فقال: «صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما» ثم أخذ في الخطبة. [317] «2» فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ناسخة لقوله اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وقد مرّ ذكره. وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ مجازه: يكن الإنفاق خيرا لأنفسكم. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ومنعها عن الحقّ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قال ابن عمر: «ليس الشّح أن يمنع الرجل ماله، وإنّما الشّح أن يطمع الرجل إلى ما ليس له» . إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
سورة الطلاق
سورة الطلاق مدنية، وهي ألف وستون حرفا، ومائتان وسبعة وأربعون كلمة، واثنتا عشرة آية أخبرنا ابن المقري قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدّثنا ابن شريك قال: حدّثنا ابن يونس قال: حدّثنا سلام قال: حدّثنا شاهرون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي ابن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مات على سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» [318] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) هذه السورة تسمى سورة النساء القصرى افتتحها الله سبحانه وتعالى بخطاب منه [للنبي] صلّى الله عليه وسلّم فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثم جمع الخطاب فقال عزّ من قائل إِذا طَلَّقْتُمُ ومجازها: يا أيها النبي
قل لأمّتك إذا طلقتم النِّساءَ أي أردتم تطليقهن كقوله فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ. فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وهو أن يطلقها طاهرا من غير جماع، يقول: طلّقوهن لطهرهنّ الذي يحصينّه من عدّتهن، ولا تطلقوهن لحيضهنّ الذي لا يعتددن به من قروئهنّ، وهذا للمدخول بها لأنّ من لم يدخل بها لا عدّة عليها. فإذا طلّقها في طهر لم يجامعها فيه نفذ طلاقه وأصاب السنّة، وإن طلّقها حائضا وقع الطلاق وأخطأ السنّة «1» . وقال سعيد بن المسيّب في آخرين: لا يقع لأنّه خلاف ما أمروا، وإليه ذهب الشيعة، فإن طلقها في طهرها ثلاثا فكرّهه قوم وقالوا ليس بطلاق السنّة لأنّه لم يدع للإمساك موضعا، وكان الشافعي والجمهور يبيحونه ولا يكرهونه لأنّ عبد الرحمن بن عوف طلّق امرأته ثلاثا، وإنّ العجلاني لمّا لاعن قال: كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق ثلاثا، فلم يردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم. واختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية، قال: فأخبرنا ابن منجويه، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شعبة، حدّثنا أبو القاسم عمر بن عقبة بن الزبير الأنصاري، حدّثنا أبو عبد الله محمّد ابن أيّوب بن معيد بن هناد الكوفي، حدّثنا أسباط بن محمّد، حدّثنا سعيد بن عروة عن قتادة عن أنس قال: طلّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ وقيل له: راجعها فإنّها صوّامة قوّامة، وهي من إحدى أزواجك ونسائك في الجنّة. وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر، وذلك أنّه طلّق امرأته حائضا وأمره النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يراجعها ويمسكها حتّى تطهر، ثم تحيض حيضة أخرى فإذا طهرت طلّقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها، فإنّها العدّة التي أمر الله بها. أخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا محمد بن يعقوب، حدّثنا الحسن بن علي بن عفّان، حدّثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: طلّقت امرأتي على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مره فليراجعها حتى تطهر «2» ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت فليطلقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها، فإنّها العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلّق لها النساء» [319] «3» . قال فقلت لنافع ما صنعت التطليقة قال: واحدة اعتدّت بها.
فصل في ذكر بعض الأخبار الواردة في الطلاق
وقال المقاتلان: نزلت في عبد الله بن عمرو بن العاص وعمرو بن سعيد بن العاص وطفيل بن الحرث وعتبة بن غزوان. أخبرنا عبد الله بن حامد، حدّثنا أحمد بن عبد الله المزني، حدّثنا الحضرمي، حدّثنا عثمان، حدّثنا عبد السلم بن حرب عن يزيد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن قال: بلغ أبا موسى أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وجد عليهم فأتاه فذكر ذلك له فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول أحدكم: قد زوجت، قد طلّقت، وليس كذلك عدّة المسلمين، طلّقوا المرأة في قبل عدّتها» [320] «1» . وكان ابن عبّاس وابن عمر يقرءان: فطلّقوهنّ قبل عدّتهن، وفي هذه الآية دليل واضح أنّ السنّة والبدعة اعتبارهما في وقت الطّلاق لا في عدد الطلاق لأنّ الله تعالى ذكر وقت الطّلاق فقال: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ولم يذكر عدد الطّلاق، فكذلك في حديث ابن عمر الّذي رويناه دليل أنّ الاعتبار بالوقت لا بالعدد لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم علّمه الوقت لا العدد [321] «2» . فصل في ذكر بعض الأخبار الواردة في الطلاق أخبرنا الحسن بن فنجويه بقراءتي عليه، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدّثنا أبو حامد أحمد بن جعفر المستملي، حدّثنا أبو محمد يحيى بن إسحاق بن سافرى ببغداد، حدّثنا أحمد بن حباب، حدّثنا عيسى بن يونس، حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من أبغض الحلال إلى الله تعالى الطّلاق» [322] «3» . أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا ابن حبيش المقري، حدّثنا علي بن عبد الحميد العصاري بحلب، حدّثنا أبو إبراهيم الترجماني، حدّثنا عمرو بن جميع عن جويبر عن الضّحاك عن النزال بن سمرة عن علي رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تزوّجوا ولا تطلّقوا، فإنّ الطّلاق يهتزّ منه العرش» [323] » . أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أبي، حدّثنا أبو أمامة عن حمّاد بن زيد عن أبي أيّوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء
الرحبي عن ثوبان رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنّة» [324] «1» . أخبرنا الحصين بن محمد بن الحسين أخبرنا موسى بن محمد بن علي، حدّثنا عبد الله بن ناجية، حدّثنا وهب بن منبه، حدّثنا محمد بن عبد الملك الواسطي، حدّثنا عمرو بن قيس الملائي عن عبد الله بن عيسى عن عمارة بن راشد عن عبادة بن نسي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطلّقوا النساء إلّا من ريبة فإنّ الله تعالى لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات» [325] «2» . أخبرنا ابن فنجويه أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي، حدّثنا عبد الصمد بن سعيد- قاضي حمص-، حدّثنا عبد السلم بن العباس بن الوليد الحضرمي، أخبرنا علي بن خالد بن خليّ، حدّثنا أبي، حدّثنا سويد بن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما حلف بالطّلاق «3» ولا استحلف به إلّا منافق» [326] «4» . وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي عدد أقرائها فاحفظوها. وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ حتى تنقضي عدّتهنّ. وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وهي الزنا فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ، هذا قول أكثر أهل المفسرين. وقال قتادة: معناه: له أن يطلّقها على نشوزها، فلها أن تتحول من بيت زوجها، والفاحشة: النشوز. وقال ابن عمر والسدي: أي خروجها قبل انقضاء عدّتها فاحشة. أنبأني عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن الحسن، حدّثنا الفضل بن المسيّب، حدّثنا سعيد، حدّثنا سفير عن محمد بن عمرو بن علقمة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن ابن عباس في قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال: إلّا أن تبدو على أهلها، فإذا بدت عليهم فقد حلّ إخراجها. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً أي مراجعة في الواحدة والثنتين ما دامت في العدّة.
أخبرنا عبد الله بن حامد قرأه عليه، حدّثنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا الحسن بن عرفة، حدّثنا هيثم عن مغيرة وحصين عبد الرحمن وأشعث وإسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وشبان ومجالد كلّهم عن الشعبي قال: دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: طلّقني زوجي البتّة، فخاصمته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقه، وأمرني أن أعتدّ في بيت ابن أمّ مكتوم. قال هيثم: قال مجالد في حديثه: إنّما النفقة والسكنى على من كانت له المراجعة. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين، حدّثنا أحمد بن يوسف، حدّثنا عبد الرزّاق، أخبرنا معمّر قال: أخبرنا عقيل بن محمد الفقيه أنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جهير، حدّثنا ابن عبد الأعلى، حدّثنا ابن ثور عن معمّر عن الزهري عن عبيد الله أنّ فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي وأنّه خرج مع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن حين أمّره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بعض اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها، وأمر عباس بن أبي ربيعة والحرث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا لها: والله ما لك من نفقة إلّا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت له قولهما، فلم يجعل لها نفقة إلّا أن تكون حاملا، واستأذنته في الانتقال، فأذن لها فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ قال: «عند ابن أمّ مكتوم» [327] «1» وكان أعمى، تضع ثيابها عنده ولا يراها، فلم تزل هنالك حتى مضت عدّتها، فأنكحها النبي صلّى الله عليه وسلّم أسامة ابن زيد، فأرسل إليها مروان بن الحكم قبيصة بن ذؤيب يسألها عن هذا الحديث، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلّا من امرأة، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حين بلغها قول ابن مروان: بيني وبينكم القرآن، قال الله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ إلى قوله لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً قالت: هذا لمن كانت له مراجعة، فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث؟ «2» فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي أشرفن على انقضاء عدّتهنّ وقربن منه. فَأَمْسِكُوهُنَّ برجعة تراجعونهنّ. بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهن فيكنّ منكم ويكنّ أملك لأنفسهنّ. وَلا تُضآرُّوهُنَّ فنزل الضرار هو المعروف. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ على الرجعة والفراق.
وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قال عكرمة والشعبي والضحاك: من يطلق السنة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً إلى الرجعة. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ لا يرجو ولا يتوقع. قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنّ المشركين أسروا ابنا له يسمّى: سالما، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنّ العدوّ أسر ابني وشكا إليه أيضا الفاقة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أمسى عند آل محمد إلّا مد فاتّق الله واصبر وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلّا بالله» [328] «1» ففعل الرجل ذلك، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه وكان فقيرا وقال الكلبي في رواية يوسف بن مالك: قدم ابنه ومعه خمسون بعيرا. أخبرنا عبد الله بن حامد أخبرنا محمد بن عامر البلخي، حدّثنا القاسم بن عبّاد، حدّثنا صالح بن محمد الترمذي، حدّثنا أبو علي غالب عن سلام بن سليم عن عبد الحميد عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنّ ابني أسره العدو وجزعت الأم، فما تأمرني؟ قال: « [اتّق الله واصبر] وآمرك وإيّاها أن تستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلّا بالله» [329] . فانصرف إليها وقالت: ما قال لك النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: أمرني وإياك أن نستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلّا بالله، قالت: نعم ما أمرك به، فجعلا يقولان فغفل عنه العدو فساق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة، فنزلت وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ما ساق من الغنيمة «2» . وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا ثمّ رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر وسأله الحلّ له وأن يأكل ما أتاه به ابنه، فقال النبي (عليه السلام) : «نعم» وأنزل الله تعالى هذه الآية. أخبرنا ابن فنجويه الدينوري، حدّثنا عبد الله بن محمد بن شيبة، حدّثنا بن وهب، أخبرنا عبد الله بن إسحاق، حدّثنا عمرو بن الأشعث، حدّثنا سعد بن راشد الحنفي، حدّثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال: مخرجا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة» [330] «3» .
وقال ابن مسعود ومسروق: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً هو أن «1» يعلم أنّه من قبل الله، وأنّ الله تعالى رازقه وهو معطيه ومانعه. الربيع بن خيثم: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من كلّ شيء ضاق على الناس. أبو العالية: مَخْرَجاً من كلّ شدّة. الحسن: مَخْرَجاً عمّا نهاه عنه. الحسين بن الفضل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أداء الفرائض يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من العقوبة ويرزقه الثواب مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وقال الصادق: «وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يعني «2» يبارك له فيما آتاه» [331] «3» . وقال سهل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في اتّباع السّنّة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من عقوبة أهل البدع، وَيَرْزُقْهُ الجنّة مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. عمرو بن عثمان الصدفي: ومن يقف عند حدوده، ويحتسب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضّيق إلى السعة، ومن النّار إلى الجنّة. أبو سعيد الخرّاز: ومن يتبرأ من حوله وقوّته بالرجوع إليه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ممّا كلّفه بالمعونة له. علي بن صالح: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يقنّعه برزقه، وقيل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في الرزق وغيره بقطع العلائق يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً بالكفاية وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه، أخبرنا أبو مكي بن مالك المطيعي، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي، حدّثنا معتمر عن كهمس عن أبي السليل عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأعلم آية لو أخذ بها النّاس لكفتهم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ فما يزال يقولها ويعيدها» [332] «4» . ويحكى أنّ رجلا أتى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: ولّني مما ولّاك الله! قال أتقرأ القرآن؟ قال: لا. فقال: إنّا لا نولّي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد في تعلّم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيولّيه عملا، فلمّا تعلم القرآن تخلّف عن عمر، فرآه ذات يوم فقال: يا هذا هجرتنا، فقال: يا أمير المؤمنين لست ممّن يهجر، ولكنّي تعلّمت القرآن فأغناني الله تعالى عن
عمر وعن باب عمر. فقال: أيّ آية أغنتك، فقال: قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد، أخبرنا أحمد بن محمد بن عّدوس، أخبرنا عثمان بن سعيد الرّازي، حدّثنا مهدي بن جعفر الرّملي، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن مصعب عن محمد بن علي عن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجا، ومن كل ضيق مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» [333] «1» . وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فيثق به ويسكن قلبه إليه في الموجود والمفقود. فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قرأ العامة بالِغٌ بالتنوين أَمْرَهُ النّصب: أي منفّذ أمره ممضى في حلقة قضائه، وقرأ طلحة بن مضر: بالِغُ أَمْرِهِ على الإضافة، ومثله روى حفص والمفضل عن عاصم. وقرأ داود بن أبي هند: بالغٌ بالتنوين أمرُهُ: رفعا. قال الفراء: أي أمره بالغ. قال عبد الرحمن بن نافع: لما نزلت وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: حسبنا الله إذا توكلنا عليه فنحن ننسى ما كان لنا ولا نحفظه، فأنزل الله تعالى إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ يعني منكم وعليكم. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً حدا وأجلا ينتهي إليه. قال مسروق: في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ توكل عليه أو لم يتوكل، غير أنّ المتوكل عليه يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً. قال الربيع: إنّ الله تعالى قضى على نفسه أنّ من توكل كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجّاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وإِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ومَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ فلا يرجون أن يحضن إِنِ ارْتَبْتُمْ قال قوم: إن شككتم أنّ الدم الذي يظهر منها لبكرها من الحيض أو من الاستحاضة.
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ هذا قول الزهري وابن زيد وقال آخرون: إِنِ ارْتَبْتُمْ في حلمهنّ فلم تدروا ما الحلم في عدتهن، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ. أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون، حدّثنا أبو حاتم مكي بن عيدان، حدّثنا أبو الأزهر أحمد بن الأزهر، حدّثنا أسباط محمد عن مطرف عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال: لمّا نزلت عدّة النساء في سورة البقرة في المطلقة المتوفى عنها زوجها، قال أبي بن كعب: يا رسول الله إنّ أناسا من أهل المدينة يقولون قد بقي من النساء ما لم يذكر فيهن شيء. قال: وما هو؟ قال: الصّغار والكبار وذوات الحمل، فنزلت هذه الآيات وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ... إلى آخرها. وقال مقاتل: لما نزلت وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ الآية، قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري: يا رسول الله فما عدّة من لا تحيض وعدة التي لم تحض وعدّة الحبلى؟ فأنزل الله تعالى وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يعني القواعد اللاتي قعدن عن المحيض. إِنِ ارْتَبْتُمْ شككتم في حالها وفي حكمها. وقال أبو علي الزهري: إِنِ ارْتَبْتُمْ إن تعنّتّم، قال: وهو من الأضداد، يكون شكا ويقينا كالظن، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني بهنّ الصّغار. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهنّ. قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا محمد بن محمد بن الحسن، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر بن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: أرسل مروان عبد الله بن عتبة إلى سبيعة بنت الحرث يسألها عمّا أنبأها به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته أنّها كانت عند سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع، وكان ثلاثا، فوضعت حملها قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجها وخطبها، قالت: فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكرت ما قال أبو السنابل، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قد حللت حين وضعت حملك» [334] «1» وأمرها أن تتزوج، فإن أريقت حيضة المرأة وهي شابة، فإنّها يتأنّى بها أحامل أم لا؟ وإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها، وإن لم يستبن حملها فاختلف الفقهاء فيه: فقال بعضهم: يستأنى بها، فأقصى ذلك سنة، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي
عبيد، كانوا يرون عدّة المرأة ارتفاع حيضها وهي شابة سنة، ورووا ذلك عن عمر وغيره. فأمّا أهل العراق فإنّهم يرون عدتها ثلاث حيضات بعد ما كانت قد حاضت مرّة في عمرها وإن مكثت عشرين سنة إلى أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس من الحيض، فتكون عدّتها بعد الأياس ثلاثة أشهر، وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه العلماء، ورووا ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَسْكِنُوهُنَّ يعني مطلّقات نسائكم. مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي من المواضع التي «1» سكنتم. وقال الكسائي: (من) صلة مجازة أسكنوهن حيث سكنتم، مطلقات نسائكم. مِنْ وُجْدِكُمْ سعتكم وطاقتكم، قراءة العامّة بضم الواو، وقرأ الأعرج بفتحه، وروى نوح عن يعقوب بكسر الواو، وكلّها لغات. حتى تنقضي عدتهن. وَلا تُضآرُّوهُنَّ ولا تؤذوهن لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ مساكنهن فيخرجن. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ليخرجن من عدّتهن. واختلف الفقهاء في هذه المسألة: فذهب مالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو عبيدة ومحمد بن جرير إلى أنّ المبتوتة المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، ولها سكنى، واحتجوا بأنّ الله تعالى عمّ بالسكنى المطلقات كلّهنّ، وخصّ بالنفقة أولات الأحمال خاصّة قال فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. وقال أحمد وأبو ثور: لا سكنى لها ولا نفقة، واحتجوا بحديث فاطمة بنت قيس أخت الضّحاك بن قيس حين أرسل زوجها المخزومي طلاقها فلم يجعل لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفقة وقال لها: إنّما النفقة إذا كانت له عليك الرجعة، وأمرها أن تعتدّ في بيت ابن أم مكتوم ، وقد ذكرناه، وهذا قول أبي بن كعب وزيد بن ثابت «2» . وأما [سفيان] وأهل العراق فقالوا: لها السكنى والنفقة حاملا كانت أو حائلا، وهذا قول [عائشة] رضي الله عنها.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 7 إلى 12]
ويروى أنّ عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتقي الله يا فاطمة فقد فتنت الناس إنّما أخرجك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنّك كنت امرأة لسنة فخشي لسانك على [أحمائك] . فأما نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها، فقال علي وابن عمر وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى [وسفر] «1» وأصحابه: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع. وقال ابن عباس وعبد الله بن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة: لا ينفق عليها إلّا من نصيبها «2» . فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم منهنّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على إرضاعهنّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ يقول: وليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف، وقال الفرّاء: وَأْتَمِرُوا همّوا. الكسائي: شاوروا. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ في الرّضاع فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها، وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعا غير أمه الباينة منه، فذلك قوله فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى. [سورة الطلاق (65) : الآيات 7 الى 12] لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ على قدر غناه وَمَنْ قُدِرَ ضيّق فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ من المال. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً في النفقة إِلَّا ما آتاها أعطاها من المال. سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً. وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عصت وطغت وتمردت
عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ أي وأمر رسله فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالمناقشة والاستقصاء وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً منكرا فظيعا، وهو عذاب النّار، لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال. وقيل: في الآية تقديم وتأخير مجازها: فعذّبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والنوائب والبلايا والرزايا، وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا. فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً يعني القرآن. رَسُولًا بدل من الذكر. وقيل: مع الرّسول. وقيل: وأرسل رسولا. وقيل: الذّكر هو الرّسول. وقيل: أراد شرفا ثم بيّن ما هو فقال: سُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ في العدد. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بالوحي من السماء السابعة إلى السفلى. وقال أهل المعاني: هو ما يدبر فيهنّ من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنّهار والشتاء والصّيف ويخلق الحيوان على اختلاف هيأتها وأنواعها، وينقلهم من حال إلى حال. قال ابن كيسان: وهذا على مجال اللغة واتساعها، كما يقول للموت أمر الله، وللرياح والسحاب ونحوها. وقال قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً فلا يخفى عليه شيء.
سورة التحريم
سورة التحريم مدنية، وهي اثنتا عشرة آية ومائتان وسبعة وأربعون كلمة، وألف وستون حرفا أخبرني ابن المقرئ، أخبرنا ابن مطر، حدّثنا ابن شويك، حدّثنا ابن يونس، حدّثنا سلام ابن سليم، حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه الباهلي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أعطاه الله تَوْبَةً نَصُوحاً» [335] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلّى الغداة دخل على نسائه امرأة امرأة، وكان أهديت لحفصة بنت عمر عكّة عسل، فكان إذا دخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسلّما حبسته وسقته منها، وإنّ عائشة أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها: حصن: إذا دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على حفصة فادخلي عليها وانظري ماذا يصنع، فأخبرتها الخبر وشأن العسل، فغارت عائشة وأرسلت إلى صواحبها فأخبرتهن وقالت: إذا دخل عليكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلن: إنّا نجد منّك ريح مغافير، وهو صمغ العرفط، كريه الرائحة، وكان رسول الله يكرهه. قال: فدخل رسول الله على سودة، قالت: فما أردت أن أقول ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أنّي فرقت من عائشة فقلت: يا رسول الله ما هذه الريح التي أجدها منك؟ أكلت المغافير؟ فقال: «لا، ولكن حفصة سقتني عسلا» . ثمّ دخل رسول على امرأة امرأة وهنّ يقولنّ له ذلك، ثمّ دخل على عائشة فأخذت بأنفها. فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما شأنك؟»
قالت: أجد ريح المغافير، أكلتها يا رسول الله؟ قال: «لا بل سقتني حفصة عسلا» . قالت: حرست إذا نحلها العرفط، فقال لها صلّى الله عليه وسلّم: «والله لا أطعمه أبدا» فحرّمه على نفسه [336] «1» . وقال عطاء بن أبي مسلم: إنّ التي كانت تسقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسن، حدّثنا علي بن الحسن، حدّثنا علي ابن عبد الله، حدّثنا حجّاج بن محمد الأعور عن ابن جريج قال: زعم عطاء أنّه سمع عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنها تخبر أنّ رسول الله كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، قالت: فتواطأت أنا وحفصة أيّتنا دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلنقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما، فقالت له ذلك، فقال: «لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، ولن أعود له» . فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ... الآيات [337] «2» . قالوا: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قسّم الأيام بين نسائه فلمّا كان يوم حفصة قالت: يا رسول الله، إنّ لي إلى أبي حاجة نفقة لي عنده، فأذن لي أن أزوره وآتي، فأذن لها، فلمّا خرجت أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جاريته مارية القبطية أم إبراهيم- وكان قد أهداها المقوقس- فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها، فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا فحبست عند الباب، فخرج رسول الله (عليه السلام) ووجهه يقطر عرقا وحفصة تبكي، فقال: ما يبكيك؟ قالت: إنّما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقا؟ ما كنت تصنع هذا بامرأة منهنّ؟ فقال رسول الله (عليه السلام) : «أليس هي جاريتي قد أحلّها الله لي؟ اسكتي فهي حرام عليّ ألتمس بذلك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهن هو عندك أمانة» [338] «3» . فلمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أنّ رسول الله قد حرّم عليه أمته مارية، فقد أراحنا الله منها، فأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين، متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلّى الله عليه وسلّم حتى حلف أن لا يقربها فأنزل الله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يعني العسل ومارية. وقال عكرمة: نزلت في المرأة التي وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ عليه والسلام، ويقال لها أم شريك فأبى النبي (عليه السلام) أن يصلها لأجل امرأته تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أن تكفروها إذا حنثتم، وهي قوله في سورة المائدة. وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فأمره أن يكفّر حنثه، ويراجع أمته. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً وهو تحريمه صلّى الله عليه وسلّم فتاته على نفسه، وقوله لحفصة: لا تخبري بذلك أحدا. وقال الكلبي: أسرّ إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي. أخبرنا عبد الله بن حامد قراءة عليه، أخبرنا عمر بن الحسن، حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد، حدّثنا أبي، حدّثنا حصين عن الحر المسلي عن خلف بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال: أسرّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الخلافة بعده فحدّثت به حفصة. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا نصر بن محمد بن شيرزاد، حدّثنا الحسن بن سعيد البزار، حدّثنا خالد بن العوام البزار، حدّثني فرات بن السائب عن ميمون بن مهران في قول الله تعالى وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال: أسرّ إليها أنّ أبا بكر خليفتي من بعدي. فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ خبّرت بالحديث الذي أسرّ إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صاحبتها. وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ اي وأطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم على أنّها قد نبّأت به. وقرأ طلحة بن مصرف: فلمّا أنبأت به بالألف. عَرَّفَ بَعْضَهُ قرأ علي وأبو عبد الرّحمن والحسن البصري وقتادة والكسائي: عرف بالتخفيف. أخبرنا محمد بن عبدوس، حدّثنا محمد بن يعقوب، حدّثنا محمد بن الجهم، حدّثنا الفرّاء، حدّثني شيخ من بني أسد يعني الكسائي عن نعيم بن عمرو عن عطاء عن أبي عبد الرّحمن قال: كان إذا قرأ عليه الرجل عرّف بالتشديد حصبه بالحصباء، ومعناه على هذه القراءة: عرف بعض ذلك ما فعلت الفعل الذي فعلته من إفشاء سرّه أي غضب من ذلك عليها وجازاها به، من قول القائل لمن أساء إليه: لأعرفنّ لك بمعنى لأجازينّك عليه. قالوا وجازاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإنّ طلّقها، فلمّا بلغ ذلك عمر قال: لو كان في آل عمر خير لما طلقك رسول الله شهرا، فجاءه جبرائيل (عليه السلام) وأمره بمراجعتها، واعتزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه شهرا، وقعد في مشربة أم إبراهيم مارية حتى نزلت آية التخيير، فقال مقاتل بن حيّان: لم يطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفصة وإنّما همّ بطلاقها فأتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال: لا تطلّقها فإنّها صوّامة قوّامة، وإنّها من أحدى نسائك في الجنة، فلم يطلقها. وقرأ الباقون: عرّف بالتشديد يعني: إنّه عرّف حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به،
[سورة التحريم (66) : آية 4]
واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة قال: لأنّه في التفسير أنّه أخبرها ببعض القول الذي كان منها، ومما يحقق ذلك قوله: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ يعني: إنّه لم يعرّفها إياه ولم يخبرها به. ولو كانت عَرَّفَ بَعْضَهُ مخففة لكان ضدّه وأنكر بعضا، ولم يقل أعرض عنه. قال الحسن: ما استقصى كريم قط، قال الله تعالى عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ. قال مقاتل: يعني أخبرها ببعض ما قال لعائشة، فلم يخبرها بقولها أجمع، عرّف حفصة بعضه وأعرض عن بعض الحديث بأنّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي. فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ أي أخبر حفصة بما أظهره الله عليه. قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. [سورة التحريم (66) : آية 4] إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أي زاغت ومالت واستوجبتما التوبة. وقال ابن زيد: مالت قلوبهما بأن سرّهما ان يجتنب رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) جاريته، وذلك لهما موافق فسّرهما ما كره رسول الله. أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قراءة عليه، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا عبد الرّزاق، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج رسول الله اللّتين قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما حتى حج عمر وحججت معه، فلمّا كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالأداوة فتبرّد ثم أتاني فسكبت على يديه، فتوضّأ فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم اللّتان قال الله تعالى إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما. فقال عمر: وا عجبا لك يا ابن عبّاس. قال الزّهري: كره والله ما سأله ولم يكتمه ثمّ قال: هي حفصة وعائشة، ثمّ أخذ يسوق الحديث فقال: كنّا معاشر قريش قوما نغلب النساء، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم. قال: وكان منزلي في بني أميّة بن زيد بالغوالي قال: فتعصّبت يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت: وما ينكر أن أراجعك؟ فو الله إنّ أزواج النّبي صلّى الله عليه ليراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت:
أتراجعن رسول الله صلّى الله عليه؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلّى الله عليه فإذا هي قد هلكت. لا تراجعي رسول الله صلّى الله عليه ولا تسأليه شيئا وسليني ما بدا لك ولا يغرنّك إن كانت جارتك هي أوسم وأحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منك- يريد عائشة رضي الله عنها. قال: وكان لي جار من الأنصار، قال: كنّا نتناوب النزول إلى رسول الله (عليه السلام) فينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك، قال: وكنّا نتحدّث أنّ غسّان تفعل الحيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوما ثم أتاني غشيان فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم. قلت: ماذا، أجاءت غسّان؟ قال: بل أعظم من ذلك! طلق الرسول نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظنّ هذا كائنا، حتّى إذا صليت الصبح شددت عليّ ثيابي، ثمّ نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلّقكنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قالت: لا أدري هو معتزل في هذه المشربة، فأتيت غلاما له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثمّ خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتّى أتيت المنبر فإذا حوله رهط جلوس بعضهم، فجلست قليلا ثمّ غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثمّ خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، فخرجت فجلست إلى المنبر ثمّ غلبني ما أجد فأتيت- يعني الغلام- فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثمّ خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فصمت، قال: فولّيت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني فقال: أدخل فقد أذن لك، فدخلت فسلّمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثّر في جنبه، فقلت: أطلّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليّ وقال: لا. فقلت: الله أكبر، ثم ذكر له ما قال لامرأته وما قالت له امرأته، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله قد دخلت عليّ حفصة وذكرت ما قلت لها. فتبسّم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم. فجلست فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلّا أهن ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يوسّع على أمتك فقد وسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا ثم قال: «أفي شكّ أنت يا ابن الخطاب، أولئك عجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» [339] . فقلت: استغفر لي يا رسول الله، وكان أقسم ألّا يدخل عليهنّ شهرا من شدة موجدته عليهنّ حتى عاتبه الله تعالى. قال الزهري: فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: فلمّا مضى تسع وعشرون ليلة على رسول الله بدأني، فقلت: يا رسول الله إنّك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا، وإنّك قد
دخلت عن تسع وعشرين، أعدّهن، قال: إن الشهر تسع وعشرون، ثم قال: يا عائشة إنّي ذاكر لك أمرا فلا عليك ألّا تعجلي فيه حتى تسامري أبويك، قالت: ثم قرأ عليّ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ حتى بلغ أَجْراً عَظِيماً قالت عائشة: قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني- وقيل: ليأمراني بفراقه- فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإنّي أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت عائشة: فقلت له يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال: فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّما بعثني الله مبلّغا ولم يبعثني متعنتا [340] «1» . وَإِنْ تَظاهَرا تعاونا على أذى النبي صلّى الله عليه وسلّم، قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء على الحذف واختاره أبو عبيد، وقرأ الباقون بالتشديد على الإدغام واختاره أبو حاتم. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وليّه وحافظه وناصره. وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال المسيب بن شريك: هو أبو بكر رضي الله عنه. وقال سعيد بن جبير: عمر (رض) ، عكرمة: أبو بكر وعمر، يدلّ عليه ما أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه، حدّثنا أبو الحسن علي بن الحسن بن سليمان الباقلاني، حدّثنا أبو عمار الحسين بن الحرث، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سقيق عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله عزّ وجلّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ قال: «إنّ صالح المؤمنين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما [341] «2» . أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا أبو علي المقري، حدّثنا أبو القاسم بن الفضل، حدّثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر، حدّثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب، حدّثني رجل ثقة يرفعه إلى علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله الله تعالى: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه» [342] «3» . أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا عمر بن الحسن، حدّثنا أحمد بن الحسن، حدّثنا أبي، حدّثنا حصين عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «وصالح المؤمنين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه» [343] «4» . وقال الكلبي: هم المخلصون الذين ليسوا بمنافقين. وقال قتادة والعلاء بن زياد العدوي: هم الأنبياء.
[سورة التحريم (66) : الآيات 5 إلى 12]
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ أي أعوان، فلم يقل: صالحو ولا ظهرا، لأن لفظهما وأن كان واحدا فهو في معنى الجمع كقول الرجل: لا يقرئني إلّا قارئ القرآن، فهو واحد ومعناه الجمع لأنّه قد أذن لكل قارئ القرآن ان يقرئه. [سورة التحريم (66) : الآيات 5 الى 12] عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ داعيات، وقيل: مصليات. تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ يسحن معه حيث ما ساح، وقيل: صائمات. وقال زيد بن أسلم وأبنه ويمان: مهاجرات. ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً والآية واردة في الإخبار، عن القدرة لا عن الكون في الوقت لأنه تعالى قال: إِنْ طَلَّقَكُنَّ وقد علم أنّه لا يطلقهنّ، وهذا قوله وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ فهذا إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً يعني: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر وعلّموهم وأدنوهم تقوهم بذلك ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ فظاظ شِدادٌ أقوياء لم يخلق الله فيهم الرّحمة، وهم الزبانية التسعة عشر وأعوانهم من خزنه النّار. لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قراءة العامة بفتح النون على نعت التوبة.
وروى حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بضمّه على المصدر، وهي قراءة الحسن. قال المبرّد: أراد توبة ذات نصح، واختلف المفسّرون في معنى التوبة النّصوح. وقال عمر وأبي ومعاذ: التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ورفعه معاذ. وقال الحسن: هي أن يكون العبد نادما على ما مضى، مجمعا على أن لا يعود فيه. الكلبي: أن يستغفر باللسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن. قال قتادة: هي الصادقة الناصحة. سعيد بن جبير: هي توبة مقبولة، ولا تقبل ما لم يكن فيها ثلاث: خوف أن لا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات. سعيد بن المسيّب: توبة تنصحون بها أنفسكم. القرظي: تجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإظهار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيّئ الخلّان. سفيان الثوري: علامة التوبة النّصوح أربع: القلّة، والعلة، والذلة، والغربة. فضيل بن عياض: هي أن يكون الذنب نصب عينيه، ولا يزال كأنّه ينظر إليه. أبو بكر محمد بن موسى الواسطي: هي توبة لا لعقد عوض لأن من أذنب في الدنيا لرفاهيّة نفسه، ثم تاب طلبا لرفاهيتها في الآخرة فتوبته على حظ نفسه لا لله. أبو بكر الورّاق: هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك كتوبة الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا. أبو بكر الرقاق المصري: ردّ المظالم واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. رويم الرّاعي: هو أن تكون لله وجها بلا قفا كما كنت له عند المعصية قفا بلا. رابعة: توبة لابيات منها. ذو النون: علامتها ثلاث: قلة الكلام وقلة الطعام وقلة المنام. سقيق: هي أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من النّدامة، لينجو من آفاتها بالسّلامة. سري السقطي: لا تصح التوبة النصوح إلّا بنصحة النفس من المؤمنين لأن من صحة توبته أحب أن يكون النّاس مثله.
الجنيد: هي أن بنسى الذنب فلا يذكره أبدا لأن من صحة توبته صار محبّا لله، ومن أحب الله نسي ما دون الله. سهل: هي توبة أهل السنّة والجماعة لأنّ المبتدع لا توبة له، بدليل قوله صلّى الله عليه: «حجب الله على كل صاحب بدعة أن يتوب» [344] «1» . أبو الأديان: هي أن يكون لصاحبها دمع سفوح، وقلب عن المعاصي جموع، فإذا كان ذلك فإنّ توبته نصوح، وأمارات التوبة منه تلوح. فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظماء. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ على الصراط. يَقُولُونَ إذا طفئ نور المنافقين. رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ثمّ ضرب مثلا للصالحات، والصالحات من النساء فقال عزّ من قائل: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ واسمها واغلة وامرأة لوط واسمها واهلة. وقال مقاتل: والعدو والهة. كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما في الدين، وما بغت امرأة النّبي قط. قال ابن عبّاس: ليس بخيانة الزّنا وهما [امرأتا] نوح ولوط (عليهما السلام) وإنّما خيانتهما أنّهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تخبر النّاس أنّه مجنون وتطلع على سرّه، فإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به. وأمّا امرأة لوط فكانت تدلّ قومه على أضيافه. فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مع توبتهما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ يخوّف عائشة وحفصة رضي الله عنهما. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وهي آسية بنت مزاحم. قال المفسرون: لمّا غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون فلمّا تبيّن إسلامها وثبتت عليه أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس وأمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها، فلمّا أتوها بالصخرة إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وأبصرت بيتها في الجنّة من درّة، وانتزع الله روحها، فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح، فلم تجد ألما من عذاب فرعون. وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله امرأة فرعون إلى الجنّة فهي فيها تأكل وتشرب.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون، أخبرنا علي بن عبدان، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا أسباط عن سليمان عن أبي عثمان عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس، وإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنّة. وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ أي دينه. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، حدّثنا علي بن حرث، حدّثنا أبو المنذر هشام بن محمد عن أبي صالح عن ابن عبّاس في قول الله تعالى وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الكافرين، قطع الله بهذه الآية طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر أنّ معصية الغير لا تضرّه إذا كان مطيعا. وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا أي في درعها، لذلك ذكر الكناية. وَصَدَّقَتْ قراءة العامّة بالتشديد، وقرأ لاحق بن حميد بالتخفيف. بِكَلِماتِ رَبِّها قراءة العامّة بالجمع. وقرأ الحسن وعيسى والجحدري: الكلمة على الواحد يعنون عيسى (عليه السلام) وَكُتُبِهِ قرأ أبو عمر ويعقوب: وَكُتُبِهِ، على الجمع، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم قال: لأنّها أعم. وقرأ الباقون: وكتابه، على الواحد وهي اختيار أبي عبيد. وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ المطيعين، مجازه: من القوم العابدين، ولذلك لم يقل قانتات، نظيره يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ. أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا أحمد بن محمّد بن إسحاق السني ومحمد بن المظفّر قالا: حدّثنا علي بن أحمد بن سليمان، حدّثنا موسى بن سابق، حدّثنا ابن وهب أخبرني الماضي ابن محمد عن بردة عن مكحول عن معاذ بن جبل: أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال: «أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل الله في الكره خيرا كثيرا، فإذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منّي السلام» [345] «1» . قالت: يا رسول الله من هنّ؟ قال: «مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو حليمة أخت موسى» [346] «2» . شكّ الراوي، فقالت: بالرفاه والبنين.
أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا عبد الله بن محمد بن شيبة، حدّثنا عبيد الله أحمد بن منصور الكسائي، حدّثنا محمد بن عبد الجبار المعروف بسندول الهمداني، حدّثنا أبو أسامة عن شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلّا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم أبنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النّساء كفضل الثريد على سائر الطعام» [347] «1» .
سورة الملك
سورة الملك مكية، وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثلاثون كلمة وألف وثلاثمائة حرفا حدّثنا أبو محمد المخلدي أخبرنا أبو العباس السراج، حدّثنا العباس بن عبد الله الترمذي، حدّثنا حفص بن عمر، حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وددت أنّ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في قلب كل مؤمن» [348] » . أخبرني أبو الحسن الفارسي، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد، حدّثنا أبو يحيى البزار، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا أبو داود، حدّثنا عمران عن قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية شفعت لرجل وأخرجته يوم القيامة من النّار وأدخلته الجنّة وهي سورة تبارك» [349] «2» . أخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي، وأبو الحسن بن أبي الفضل العدل قالا: حدّثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصّفار، حدّثنا سعدان بن نصر، حدّثنا معمّر بن سليمان عن الخليل بن مرّة عن عاصم بن أبي النّجود رواه عن زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل قد كان يقوم بسورة الملك، ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه: ليس لك عليّ سبيل كان يقرأ بي سورة الملك، ثم قال: هي المانعة من عذاب القبر، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد اكثر وأطيب. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
ارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ قدّم الموت على الحياة لأنّه إلى القهر أقرب، كما قدّم البنات على البنين في قوله: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. قال قتادة: أذلّ الله ابن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء. وقيل: قدّمه لأنّه أقدم، وذلك أنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموات كالنطفة والتراب ونحوها، ثم اعترصت عليها الحياة. قال ابن عباس: خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمرّ بشيء ولا يجد ريحه شيء إلّا مات، وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء، وهي التي كان جبرئيل والأنبياء (عليهم السلام) يركبونها، خطوها مد البصر، وهي فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء، ولا تطأ شيئا ولا يجد ريحها شيء إلّا حيّ، وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاها على العجل فحيي. لِيَبْلُوَكُمْ فيما بين الحياة إلى الموت، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أخبرنا الحسن بن محمد بن فنجويه، حدّثنا محمد بن عبد الله بن برزة، حدّثنا الحرث بن أسامة، حدّثنا داود بن المحر، حدّثنا عبد الواحد بن زياد العبدي عن كليب بن وائل عن ابن عمر عن النبي (صلّى الله عليه) أنّه تلا (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) حتى بلغ إلى قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) . ثم قال: أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله، وأسرعكم في طاعة الله. وبإسناده عن داود بن المحر، حدّثنا ميسر عن محمد بن زيد عن أبي سلمة عن أبي قتادة قال: قلت: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ما عني به؟ قال: «يقول أيّكم أحسن عقلا» [350] «1» . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتمّكم عقلا وأشدّكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ونهى عنه نظرا وإن كان أقلكم تطوعا» [351] «2» . أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد، حدّثنا أبو بكر بن أبي الدّنيا القرشي، حدّثنا محمد بن علي بن الحسن بن سقيق عن إبراهيم عن
الأشعث عن فضيل بن عياض لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال: أخلصه وأصوبة، قلت: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إنّ العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتّى يكون خالصا صوابا، والخالص: إذا كان لله، والصّواب: إذا كان على السنّة. وقال الحسن: يعني أيّكم أزهد في الدنيا زهدا، وأترك لها تركا. وقال سهل: أيّكم أحسن توكّلا على الله. قال الفرّاء: لم يرفع البلوى على أي لأنّ فيما بين أي والبلوى إضمارا وهو كما يقول في الكلام: بلوتكم لأنظر أيّكم أطوع، ومثله سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ «1» أي سلهم وانظر أيّهم. فأيّ رفع على الابتداء وأحسن خبره. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً طبقا على طبق، بعضها فوق بعض، يقال: أطبقت الشيء إذا وضعت بعضه فوق بعض. قال أبان بن تغلب: سمعت بعض الأعراب يذمّ رجلا فقال: شرّه طباق، وخيره غير باق. قال سيبويه: ونصب طِباقاً لأنّه مفعول ثان. ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وحمزة والكسائي: من تفوّت بغير ألف، وهي اختيار أبي عبيد وقراءة عبد الله وأصحابه. أخبرنا عبد الله بن حامد الورّاق، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا عبد الله بن هاشم، حدّثنا يحيى بن سعيد القّطان عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أنّه كان يقرأ: من تفوّت. قال الأعمش: فذكرت لأبي رزين فقال: لقد سمعتها من عبد الله فيما قبلتها وأخذتها، وقرأ تَفاوُتٍ، وهي قراءة الباقين واختيار أبي حاتم وهما لغتان مثل التّعهد والتّعاهد، والتحمّل والتحامل، والتطهر والتطاهر. ومعناه: ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض وتباين، بل هي مستوية مستقيمة، وأصله من الفوت، وهي أن يفوت بعضها بعضا لقلّة استوائها، يدلّ عليه قول ابن عبّاس: من تفرق «2» . فَارْجِعِ فردّ الْبَصَرَ قال الفراء: إنّما قال فارجع وليس قبله فعل مذكور فيكون الرجوع على ذلك الفعل لأنّ مجاز الكلام: أنظر ثمّ ارجع البصر.
هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ فتوق وشقوق وخروق. الضحّاك: اختلاف وشطور، عطية: عيب، ابن كيسان: تباعد، القرظي: قروح، أبو عبيدة: صدوع «1» قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليم فالتأم الفطور «2» وقال آخر: تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا سكر ولم يبلغ سرور «3» وقال آخر: بنى لكم بلا عمد سماء ... وزيّنها فما فيها فطور «4» ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ ردّ البصر وكرّر النظر كَرَّتَيْنِ مرتين، يَنْقَلِبْ ينصرف ويرجع إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً خاشعا، ذليلا، مبعدا وَهُوَ حَسِيرٌ يعني كليل، منقطع لم يدرك ما طلب قال الشاعر: نظرت إليها بالمحصب من منى ... فعاد إليّ الطرف وهو حسير «5» أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا موسى بن محمد، حدّثنا الحسن بن علويه، حدّثنا إسماعيل بن عيسى، حدّثنا المسيب، حدّثنا إبراهيم البكري عن صالح بن جبار عن عبد الله بن يزيد عن أبيه، قال المسيب: وحدّثنا أبو جعفر عن الرّبيع عن كعب قالا: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية مرمرة بيضاء، والثالثة حديد، والرابعة صفر- وقال نحاس- والخامسة فضة، والسادسة ذهب والسّابعة ياقوتة حمراء، وبين السّماء السّابعة إلى الحجب السبعة صحاري من نور، واسم صاحب الحجب «فنطاطروس» . وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أي الكواكب، واحدها مصباح وهو السراج. وَجَعَلْناها رُجُوماً مرمى لِلشَّياطِينِ إذا اخترقوا السّمع، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ في الآخرة عَذابَ السَّعِيرِ ما جعلنا لهم في الدنيا من الشهب، وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أيضا عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً صوتا كصوت الحمار وَهِيَ تَفُورُ تزفر وتغلي بهم كما يغلي القدر.
[سورة الملك (67) : الآيات 10 إلى 30]
وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الحبّ القليل في الماء الكثير. تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ يتفرق بعضها من بعض على أهلها غيظا وانتقاما لله تعالى كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ قوم سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ رسول في الدنيا قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا للرسل ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. [سورة الملك (67) : الآيات 10 الى 30] وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) وَقالُوا وهم في النّار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ النذر من الرسل، وما جاءونا به أَوْ نَعْقِلُ عنهم. قال ابن عباس: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الهدى أو نعقله فنعمل به. ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً بعدا، وقال سعيد بن جبير: هو واد في جهنم لِأَصْحابِ السَّعِيرِ ونقله أبو جعفر والكسائي بروايتيه الدوري وقتيبة الخلاف عنهما، وحققه الآخرون: وهما لغتان مثل الرّعب والرّعب، السّحت والسّحت، أخبرنا عبد الله ابن حامد، أخبرنا محمد بن خالد حدّثنا داود بن سليمان، حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا عبيد الله ابن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إنّ الرجل ليجرّ إلى النار فتنزوي، وتنقبض بعضها إلى بعض، فيقول لها الرحمن: ما لك؟ قالت: إنّه كان يستجير منّي فيقول: أرسلوا عبدي. وإنّ الرجل ليجرّ إلى النار، فيقول: يا ربّ ما كان هذا الظنّ بك! قال: فما كان ظنّك؟ قال: كان ظنّي أن تسعني رحمتك، فيقول: أرسلوا عبدي. وإنّ الرجل ليجرّ إلى
النار فتشهق إليه النار شهيق البغلة إلى الشعير، ثمّ تزفر زفرة لا يبقى أحد إلّا خاف. إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. قال ابن عباس: نزلت في المشركين، كانوا ينالون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيخبره جبرائيل ما قالوا فيه ونالوا منه، فيقول بعضهم لبعض: أسرّوا قولكم كي لا يسمع إله محمد. وقال أهل المعاني: إن شئت جعلت «من» في قوله: مَنْ خَلَقَ اسما للخالق؟ فقلت: ألا يعلم الخالق ما في الصدور وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، وإن شئت جعلته اسما، فقلت: ألا يعلم الله مخلوقه. أخبرنا الفنجوي حدّثنا موسى بن الحسن بن علويّة حدّثنا عيسى بن إسماعيل بن عيسى بن المسيّب، قال: بينا رجل واقف بالليل في شجر كثير وقصفت الريح فوقع في نفس الرجل فقال: أترى الله يعلم ما يسقط من هذه الورق؟ فنودي من خلفه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟! وروى محمد بن فضيل عن زرين عن ابن أبي أسماء أنّ رجلا دخل غيضة فقال: لو خلوت هاهنا للمعصية من كان يراني؟ قال: فسمع صوتا ملأ ما بين لابتي الغيضة، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟! هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا سهلا مسخّرة لا تمتنع فَامْشُوا فِي مَناكِبِها قال ابن عباس وقتادة: في جبالها، ضحاك: في آكامها، مجاهد: طرقها وفجاجها، وقال الكلبي: أطرافها، الفرّاء: في جوانبها، مقاتل: نواحيها، الحسن: سهلها حيث أردتم فقد جعلها لكم ذلولا لا تمتنع، وأصل المنكب الجانب ومنه منكب الرجل، والريح النكاب، وتنكب فلان. وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الحلال وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وقال ابن عباس: أمنتم عذاب من في السماء أن عصيتموه. وقيل: معنى أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ: قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته، وقيل: إنّما قال: مَنْ فِي السَّماءِ لأنّهم كانوا يعترفون بأنّه إله السماء، ويزعمون إنّ الأصنام آلهة الأرض، وكانوا يدعون الله من جهة السماء، وينتظرون نزول أمره بالرحمة والسطوة منها. وقال المحقّقون «1» : معنى قوله: فِي السَّماءِ أي فوق السماء كقوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ «2» ، أي فوقها لا بالمماسة والتحيز ولكن بالقهر والتدبير «3» .
وقيل: معناه على السماء كقوله: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ «1» ومعناه: إنّه مالكها ومدبّرها والقائم عليها، كما يقال: فلان على العراق والحجاز، وفلان على خراسان وسجستان يعنون أنّه واليها وأميرها. وأعلم أنّ الآيات والأخبار الصحاح في هذا الباب كثيرة وكلّها إلى العلو مشيرة، ولا يدفعها إلّا ملحد جاحد أو جاهل معاند، والمراد بها- والله أعلم- توقيره وتعظيمه وتنزيهه عن السفل والتحت، ووصفه بالعلو والعظمة دون أن يكون موصوفا بالأماكن والجهات والحدود والحالات لأنّها صفات الأجسام وأمارات الحدث والله سبحانه وتعالى كان ولا مكان فخلق الأمكنة غير محتاج إليها، وهو على ما لا يزل، ألا يرى أنّ الناس يرفعون أيديهم في حال الدعاء إلى السماء مع إحاطة علمه وقدرته ومملكته بالأرض وغيرها أحاطتها بالسماء، إلّا أنّ السماء مهبط الوحي ومنزل القطر ومحلّ القدس ومعدن المطهرين المقرّبين من ملائكته، وإليها ترفع أعمال عباده وفوقها عرشه وجنّته وبالله التوفيق. أَنْ يَخْسِفَ يغور بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ قال الحسن: تحرّك بأهلها، وقال الضحّاك: تدور بهم وهم في قعرها، وقال ابن كيسان: تهوى بهم. أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ريحا ذات حجارة كما فعل بقوم لوط وأصحاب الفيل فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري بالعذاب. وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري، وأثبت بعض القرّاء الياء في هذه الحروف وجوابها على الأصل وحذفها بعضهم على الخط. أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ أجنحتها وهي تطير، وَيَقْبِضْنَ أجنحتها بعد انبساطها، ما يُمْسِكُهُنَّ يحبسهنّ في حال القبض والبسط أن يسقطن، إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ. أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ قال ابن عباس: منعه لكم يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ فيدفع عنكم ما أراد بكم إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ في الضلال وَنُفُورٍ تباعد من الحقّ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ راكبا رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يبصر يمينا ولا شمالا، وهو الكافر. وقال قتادة: هو الكافر أكبّ على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه، أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو المؤمن، وقوله مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ فعل غريب! لأنّ أكثر اللغة في التعدّي واللزوم أن يكون أفعلت يفعّل، وهذا على ضدّه يقال:
كببت فلانا على وجهه فأكب، قال الله تعالى: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ «1» ، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» [352] «2» . ونظيره في الكلام قولهم: قشعت الريح السحاب فأقشعت، وبشرته بمولود فأبشر، وقيل مكبّا لأنه فعل غير واقع «3» ، قال الأعشى: مكبّا على روقيه يحفّز عرفه ... على ظهر عريان الطريقة أهيما «4» قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ ويعني العذاب في الآخرة عن أكثر المفسّرين، وقال مجاهد: يعني العذاب ببدر، زُلْفَةً قريبا، وهو اسم بوصف مصدر يستوي فيه المذكّر والمؤنّث والواحد والاثنان والجميع سِيئَتْ أخزيت وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا فاسودّت وعلتها الكآبة والغربة يقول العرف: سويه فسيء، ونظيره سررته فسر وشعلته فشعل وَقِيلَ قال لهم الخزنة: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي أن يعجّله لكم. وقراءة العامّة: (تَدَّعُونَ) بتشديد الدال يفتعلون من الدعاء عن أكثر العلماء أي يتمنّون ويتسلّون، وقال الحسن: معناه يدّعون أن لا جنّة ولا نار، وقرأ الضحاك وقتادة ويعقوب بتخفيف الدال، أي تدعون الله أن يأتكم به وهو قوله: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «5» الآية. قُلْ يا محمد لمشركي مكّة الذين يتمنّون هلاكك ويتربّصون بك ريب المنون أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ فأماتني وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا أبقانا وأخّر في آجالنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ فإنّه واقع بهم لا محالة، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ومحمد بن الحسن. وقال بعضهم: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ فعذّبني (وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا) غفر لنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ونحن معا إنّما خائفون من عذابه لأنّ له أن يأخذنا بذنوبنا ويعاقبنا ويهلكنا لأنّ حكمه جائز وأمره نافذ وفعله واقع في ملكه، فنحن مع إيماننا خائفون من
عذابه فمن يمنعكم من عذاب الله وأنتم كافرون؟ وهذا معنى قول ابن عباس واختيار عبد العزيز ابن يحيى وابن كيسان. قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ بالياء الكسائي ورواه عن عليّ رضي الله عنه، الباقون بالتاء، مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ نحن أم أنتم قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً يعني غائرا ذاهبا ناضبا في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء، قال الكلبي ومقاتل: يعني ماء زمزم وبئر ميمون الحضرمي وهي بئر عادية قديمة. فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ظاهر تناله الأيدي والدلاء، وقال عطاء عن ابن عباس: جار، وقال المؤرخ: عذب بلغة قريش.
محتوى الجزء التاسع من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء التاسع من كتاب تفسير الثعلبي سورة الأحقاف/ 5 سورة محمّد/ 28 سورة الفتح/ 40 سورة الحجرات/ 69 سورة ق/ 92 سورة الذاريات/ 109 سورة الطور/ 123 سورة النجم/ 134 سورة القمر/ 160 سورة الرّحمن/ 176 سورة الواقعة/ 199 سورة الحديد/ 227 سورة المجادلة/ 252 سورة الحشر/ 266 سورة الممتحنة/ 290 سورة الصف/ 301 سورة الجمعة/ 305 سورة المنافقون/ 319 سورة التغابن/ 325 سورة الطلاق/ 331 سورة التحريم/ 343 سورة الملك/ 354
الجزء العاشر
الجزء العاشر سورة القلم مكّية، وهي اثنان وخمسون آية، وثلاث مائة كلمة، وألف ومائتان وستّة وخمسون حرفا أخبرنا محمد بن القيّم أخبرنا محمد بن طه حدّثنا إبراهيم بن شريك حدّثنا أحمد بن عبد الله حدّثنا سلام بن سليم حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن ابنه عن أبي أمامة بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة ن وَالْقَلَمِ أعطاه الله تعالى ثواب الذين حسّن الله أخلاقهم» [1] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ن اختلف القراء فيه، فأظهر بعضهم نونه، وأخفاها الآخرون، وقرأ ابن عباس (نِ) بكسر النون على إضمار حرف القسم، وقرأ عيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعّل، واختلف المفسّرون في معناه، فقال مجاهد ومقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي: هو الحوت الذي يحمل الأرض، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أوّل ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثمّ رفع فخلق الماء فخلق منه السماوات، ثمّ خلق النون فبسط الأرض على ظهر النون، فتحرّكت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال فإنّ الجبال لتفخر على الأرض، ثمّ قرأ ابن عباس: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ واختلفوا في اسمه: فقال الكلبي ومقاتل: يهموت، وقال أبو اليقظان والواقدي وأبو كعب: لوسا، وقال عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه: يلهوت ، وقال الراجز. ما لي أراكم كلكم سكوتا ... والله ربي خالق اليلهوتا «2» قالت الرواة: لمّا خلق الله تعالى الأرض وفتقها بعث الله سبحانه من تحت العرش ملكا،
فهبط إلى الأرض حتّى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع، حتى ضبطها ولم يكن لقدمه موضع قرار، فأهبط الله تعالى من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم يستقر قدماه، فاحدر الله تعالى ياقوتة حمراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها مسيرة خمس مائة عام، فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر، فهو يتنفس كلّ يوم نفسا فإذا تنفس مد البحر، وإذا مدّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرّت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ الآية «1» ، فلم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله تعالى نونا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وبسائر جانبه، والحوت على البحر على متن الريح، والريح على القدرة وثقل الدنيا كلّها بما عليها حرفان من كتاب الله تعالى قال لها الجبّار: كوني، فكانت. وقال كعب الأحبار: إنّ إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلّها فوسوس إليه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوتيا من الأمم والدواب والشجر والجبال وغيرها لو نفضتهم ألقيتهم من ظهرك أجمع، قال: فهمّ لوتيا أن يفعل ذلك، فبعث الله تعالى دابّة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه فضج الحوت إلى الله تعالى منها، فأذن لها فخرجت، قال كعب: والذي نفسي بيده لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت. وقال بعضهم: هي آخر حروف الرحمن، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: الر وحم ون، حروف الرحمن تبارك وتعالى مقطعة. وقال الحسن وقتادة والضحاك: النون: الدواة، وهي رواية ثابت اليماني عن ابن عباس، وقال فيه الشاعر: إذا ما الشوق يرح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم وقال معاوية بن قرة: هو لوح من نور، ورفعه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «2» . وقال ابن زيد: هو قسم أقسم الله تعالى به، ابن كيسان: فاتحة السورة، عطاء: افتتاح اسمه نور وناصر ونصير «3» [القرظي] : أقسم الله تعالى بنصرته المؤمنين بيانه قوله:
كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ «1» ، جعفر الصادق: هو نهر في الجنّة «2» . وَالْقَلَمِ وهو الذي كتب به الذكر، وهو قلم من نور ما بين السماء والأرض ويقال: لمّا خلق الله تعالى القلم وهو أوّل ما خلقه نظر إليه فانشقّ نصفين، ثمّ قال: اجر، فقال: يا ربّ بم أجري، فقال: بما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك. قال عطا: سألت الوليد بن عبادة بن الصامت، كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: دعاني فقال: أي بني اتق الله واعلم أنّك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده والقدر خيره وشره، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ أوّل ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: يا ربّ وما أكتب؟ فقال: اكتب العلم «3» وقال: فجرى القلم في تلك الساعة وما هو كائن إلى الأبد» [2] «4» . وحكي أنّ ابن الزيّات دخل على بعض الخلفاء فوجده مغموما، وقال له: روّح عني يا ابن الزيّات، فأنشأ يقول: اللهم فضل والقضاء غالب ... وكان الخطّ في اللوح انتظر الروح وأسبابه ... أيئس ما كنت في الروح «5» وهل أراد بالقلم الخطّ والكتابة الذي امتنّ الله تعالى على عباده بتعليمه إياهم؟ ذلك كما قال: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. وقد أكثر الحكماء والبلغاء في وصف القلم ونفعه فلم أراد إخلال هذا الكتاب عن تدبر فصوصه؟ فقال ابن هيثم: من جلالة القلم أنّه لم يكتب لله تعالى كتاب إلّا به لذلك أقسم الله تعالى به. وقيل: الأقلام مطايا الفطن ورسل الكرام. وقيل: القلم الظلم الأكبر. وقيل: البيان اثنان: بيان لسان وبيان بنان، وفضل بيان البنان أنّ ما تثبته الأقلام باق على الأيام، وبيان اللسان تدرسه الأعوام. وقال بعض الحكماء: قوام أمور الدين والدنيا شيئان: القلم والسيف، والسيف تحت العلم وفيه يقول شاعرهم:
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت دون حذره الأمم فالموت والموت لا شيء يغالبه ... ما زال يتبع ما يجرى به القلم كذا قضى الله للأقلام مذ برئت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم «1» وللصنوبري: قلم من القصب الضعيف الأجوف ... أمضى من الرمح الطويل الأثيف ومن النصال إذا بدت لقيتها ... ومن المهنّد للصقال المرهف «2» وأشدّ إقداما من الليث الذي ... يكوي القلوب إذا بدا في الموقف أنشد أبو القيّم السدوني، قال: أنشدني عبد السميع الهاشمي، قال: أنشدني ابن صفون لأبي تمّام في معناه: ولضربة من كاتب في بيانه ... أمضى وأبلغ من رقيق حسام قوم إذا عزموا عداوة حاسد ... سفكوا الدماء بأسنّة الأقلام وللبحتري: قوم إذا أجدوا الأقلام عن غضب ... ثمّ استمدّوا بها ماء المنيّات نالوا بها من أعاديهم وأن كثروا ... ما لا ينالوا على المشرفيات وقال آخر: ما السيف غضبا يضيء رونقه ... أمضى على النائبات من قلمه ولأبن الرومي: في كفّه قلم ناهيك من قلم ... نبلا وناهيك من كفّ به اتّشحا يمحو ويثبت أرزاق العباد به ... فما المقادير إلّا ما وحى ومحا قال: وأنشد بعضهم في وصفه: وأخرس ينطق بالمحكمات ... وجثمانه صامت أجوف كلّه ينطق في جفنه ... وبالثام منطقه يعرف والآخر في وصفه: نحف الشوى بعد ما على أم رأسه ... ويحفى ويقوى عدوه حين يقطع
لجّ ظلاما في نهار لسانه ... ويفهم عمّن قال ما ليس يسمع اخذه وما شجرات نابتات بفقره ... إذا قطعت حارت مطايا الأصابع لهن بكاء العاشقين ولونهم ... سوى أيّها يبكن سود المدامع آخر: هذا هو البيت الأول للبيتين التاليين. يناط نحدّه الأفراد طرّا ... يمحي بعض خلق أو ممات بمشيه حيّة وبلون جان ... وجرم متيم وشيما الطيبات «1» قوله: وَما يَسْطُرُونَ يكتبون، ويجوز أن يكون معناه ويسطرهم يعني السفرة. وقيل: جمع الكتبة ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ يعني أنّك لا تكون مجنونا وقد أنعم الله عليك بالنبوّة. وقيل: بعصمة ربّك. وقيل: هو كما يقال: ما أنت بمجنون والحمد لله. وقيل: معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربّك كقولهم: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أي والحمد لك. وقال لبيد: وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي ... وفارقني جار بأربد نافع «2» أي: وهو أربد. وقال النابغة: لم يحرموا حسن الغداء وأمّهم ... طفحت عليك بناتق مذكار «3» أي: وهو ناتق. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ غير مقطوع ولا منقوص من قولهم: حبل منين إذا كان غير متين. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال ابن عباس ومجاهد: دين عظيم، وقال الحسن: كان خلقه آداب القرآن، ونقلت عائشة عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورضي عنها فقالت: كان خلقه القرآن. وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله، وقال جنيد: سمي خلقه عظيما لأنّه لم يكن له همّة سوى الله. وقال الواسطي: لأنّه جاد بالكونين عوضا عن الحقّ. وقيل: لأنّه عاشرهم بخلقه وزايلهم
بقلبه، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق، وأوصى بعض الحكماء رجلا فقال: عليك بالحقّ مع الخلق والصدق مع الحقّ. وقيل: لأنّه امتثل بالدنيا لله تعالى إياه بقوله: خُذِ الْعَفْوَ «1» الآية. وقيل: عظم له خلقه حيث صغّر الألوان في عينه ليعرف لهذه مكونها. وقيل: سمّي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه تدلّ عليه ما أخبرنا أبو القيّم الحسن ابن محمد المفسّر، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفّار، حدّثنا ابن أبي الرما حدّثنا الدراوردي، عن ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» [3] «2» . وقال: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» [4] «3» . أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفرابي جد أبو العباس الأصم، حدّثنا ابن عبد الحكم أخبرنا أبي وشعيب، وأخبرنا الليث عن عمر بن أبي عمرو عن المطّلب بن عبد الله عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار» [5] «4» . قال: وأخبرنا أحمد بن أبي الفرابي، أخبرنا منصور بن محمد السرخسي، حدّثنا محمد بن أيوب الرازي حدّثنا أبو الوليد حدّثنا شعبة عن القاسم وأبي قرة قال: سمعت عطاء الكيخاراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما شيء أثقل في الميزان من خلق حسن» [6] «5» . أخبرنا أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد ابن جعفر العماني، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي، حدثني أبي، حدّثنا عليّ بن موسى الرضا حدّثنا أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن عليّ عن أبيه عليّ بن الحسين عن أبيه الحسين بن عليّ عن أبيه عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله: «عليكم بحسن الخلق فإنّ حسن الخلق في الجنّة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة» [7] «6» . أخبرنا ابن فنجويّه حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبه، حدّثنا سمعان عن ابن الجارود
[سورة القلم (68) : الآيات 5 إلى 15]
حدّثنا صالح عن سعيد بن جبير عن أبي عثمان اليهري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحبّكم إلى الله «1» أحسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون، وأبغضكم إلى الله المشّاءون بالنميمة المفرّقون بين الأخوان «2» الملتمسون للبراء العنت» [8] «3» . [سورة القلم (68) : الآيات 5 الى 15] فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) فَسَتُبْصِرُ فسترى يا محمد وَيُبْصِرُونَ ويرون يعني الذين رموه بالجنون. بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ اختلف المفسرون في معنى الآية ووجهها، فقال قوم: معناه بأيّكم المجنون، وهو مصدر على وزن المفعول كما يقال: ما لفلان مجنون ومعقود ومعقول أي جلادة وعقد وعقل، قال الشاعر: حتّى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحما ولا لفؤاده معقولا «4» أي عقلا، وهذا معنى قول الضحاك: ورواية العوفي عن ابن عباس. وقيل: الباء بمعنى في مجازه: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ في أي الفريقين المجنون في فريقك يا محمد أو في فريقهم. والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: تأويله بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ وهو الشيطان، وهذا معنى قول مجاهد. وقال آخرون: معناه: أيّكم المفتون والباء زائدة لقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «5» ويَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «6» وهذا قول قتادة والأخفش [وأبي عبيد] «7» . وقال الراجز: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ فيما دعوك عليه من دينهم الخبيث، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ قال عطية والضحاك: لو تكفر فيكفرون. وقال ابن عباس: برواية الوالبي لو ترخص فيرخصون، قال الكلبي: لو تلن لهم فيلينون، الحسن: لو تصانعهم دينك فيصانعون في دينهم، زيد بن مسلم: لو تنافق وترائي فينافقون، أبان ابن تغلب: لو تحابهم فيحابوك، وقال العوفي: لو تكذب فيكذّبون، عوف عن الحسن: لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم، ابن كيسان: لو تقاربهم فيقاربوك. وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف بالباطل يعني: الوليد بن المغيرة وقيل: الأسود بن عبد يغوث، وقيل: الأخفش بن شديق. مَهِينٍ ضعيف حقير. وقال ابن عباس: كذّاب وهو قرين منه لأنّ الرجل إنّما يكذّب لمهانة نفسه عليه. وقال قتادة: المكثار في الشر. هَمَّازٍ مغتاب يأكل لحوم الناس. وقال الحسن: هو الذي يعيب ناحية في المجلس لقوله: همزة. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ قتادة: يسعى بالنميمة يفسد بين الناس. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ قال ابن عباس: يعني للإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام ويقول: لأن دخل واحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا. وقال الآخرون: يعني بخيل بالمال ضنين به عن الحقوق. مُعْتَدٍ غشوم ظلوم. أَثِيمٍ فاجر. عُتُلٍّ قال ابن عباس: العتل: الفاتك الشديد المنافق. وقال عبيد بن عمير: العتلّ الأكول الشروب القويّ الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعره، يدفع الملك من أولئك سبعين ألف دفعة. وقال عليّ والحسن: العتلّ: الفاحش الخلق السيّئ الخلق. وقال يمان: هو الجافي القاسي اللئيم العشرة. وقال مقاتل: الضخم. وقال الكلبي: هو الشديد في كفره، وكلّ شديد عند العرب عتل وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف. بَعْدَ ذلِكَ أي مع ذلك زَنِيمٍ وهو الدعي الملحق النسب الملصق بالقوم وليس منهم. قال الشاعر: زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع «1» وقال حسّان بن ثابت:
وأنت دعي نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد «1» وقال آخر: زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغي الام ذو حسب لئيم «2» فقال مرّة الهمداني: إنّما ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة، هذا قول أكثر المفسرين. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الزنيم: الذي لا أصل له. وقيل: هو الذي له زنمة كزنمة الشاة. روى عكرمة عن ابن عباس قال: في هذه الآية الكريمة نعت فلم يعرف حتّى قيل زَنِيمٍ فعرف، وكانت له زنمه في عنقه يعرف بها. وقال عكرمة: الزنيم: المعروف [بلؤمه] كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال الشعبي: هو الذي له علامة في [الشر] تعرف كما تعرف الشاه بزنمتها. وقال القرطبي وسعيد بن جبير و [عكرمة] : هو الكافر الهجين المعروف بالشرّ المريب «3» . وقال الوالبي عن ابن عباس: الزنيم: الظلوم. أخبرنا أبو عبد الله ابن فنجويه حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيفي حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل حدثني أبي حدّثنا وكيع حدّثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن عمر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن العتلّ الزنيم فقال: «هو الشديد الخلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشروب الظلوم للناس رحيب الجوف» [9] «4» . أخبرنا ابن فنجويه حدّثنا محمد بن الحسن بن عليّ القطيفي حدّثنا أحمد بن عبد الله بن رزين العقيلي حدّثنا صفوان بن صالح حدّثنا الوليد بن مسلم حدثني أبو شيّة إبراهيم بن عثمان عن عثمان بن عمير عن شهر بن حوشب عن سداد بن أوس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنّة جواظ ولا جعظري ولا عتل ولا زنيم» قال: قلت: فما الجواظ؟ قال: «كلّ جمّاع منّاع» . قلت: فما الجعظري؟ قال: «الفظ الغليظ» . قلت: فما العتل الزنيم؟
قال: «كلّ رحب الجوف بئر الحلق أكول شروب غشوم ظلوم» [10] «1» . أخبرنا ابن فنجويه حدّثنا ابن حبش المقري حدّثنا ابن زنجويه حدّثنا سلمة حدّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم في قوله: زَنِيمٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تبكي السماء من رجل أصحّ الله جسمه وأرحب جوفه، وأعطاه من الدنيا مقضما- في المصدر بعضا- فكان للناس ظلوما، فذلك العتل الزنيم، قال: وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقلّه» [11] «2» . وروي الثمالي عن مجاهد في الزنيم قال: كانت له ست أصابع في يده في كل إبهام له إصبع زائدة. وأكثر العلماء على أن الزنيم الدعي الشرير، وقد ورد في هذا الباب أخبار غرائب نذكر من بعضها وبالله التوفيق: أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين بن عبد الله المقري حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير حدّثنا ابن خوصا، أخبرنا ابن خنيق حدّثنا يوسف بن أسباط عن أبي إسرائيل الملائي، عن فضيل ابن عمر والفقمي عن مجاهد عن ابن عمر عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل الجنّة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده» [12] «3» . أخبرنا الحسين بن محمد حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الطواسعي، حدّثنا أبو بدر عباد بن الوليد حدّثنا حيّان بن هلاك حدّثنا حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد بن عياض عن عيسى بن حطان عن عبد الله بن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أولاد الزنى يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير» [13] «4» . أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي، حدّثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي رافع عن ميمونة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يزال أمّتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى فيوشك أن يعمّهم الله تعالى بعقاب» [14] «5» . أخبرنا الحسن بن محمد حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي حدّثنا إبراهيم بن الحسن الآدمي حدّثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي حدّثنا سعيد بن أوس حدّثنا أبو الأشهب- هو العطاردي- قال: سمعت عكرمة يقول: إذا كثر أولاد الزنى قلّ المطر.
[سورة القلم (68) : الآيات 16 إلى 41]
أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب آن بالمد واختاره أبو حاتم وقرأ حمزة وعاصم برواية أبي بكر أأن بهمزتين، وغيرهم بالجرّ. فمن قرأ بالاستفهام فله وجهان: أحدهما: الآن كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، والآخر: الآن كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ تطيعه. ومن قرأ على الخبر فمعناه: فلا تطع لأيّ كان. [سورة القلم (68) : الآيات 16 الى 41] سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ قال ابن عباس: سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه قال: فقاتل يوم بدر: فخطم بالسيف بالقتال «1» ، وقال قتادة: سنخلق به شيئا، يقول العرب للرجل يسبّ الرجل سبّة قبيحة باقية: قد وسمه ميسم سوء، يريدون الصق به عارا لا يفارقه، كما أنّ السمة لا تنمحي ولا يعفو أثرها. قال جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث «2» جدعت أنف الأخطل «3» أراد به الهجاء. وقال أبو العالية ومجاهد: سنسمه على أنفه ونسوّد وجهه فنجعل له علامة في الآخرة يعرف سواد وجهه، الضحاك والكسائي: يشكونه على وجهه. وقال حريز بن محمد بن جرير: سنبين أمره بيانا واضحا حتى يعرفوه ما يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم. قال الفرّاء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنّه في مذهب الوجه. لأنّ بعض الشيء يعبّر به عن كله، وقد مرّ هذا الباب.
قال النضر بن شميل: معناه سنحدّه على شربه الخمر، والخرطوم: الخمر وجمعه خراطيم. وقال الشاعر: تظل يومك في لهو وفي طرب ... وأنت بالليل شرّاب الخراطيم «1» قوله: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يعني اختبرنا وامتحنّا أهل مكّة بالقحط والجوع. كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ. أخبرنا أبو عمرو الفرابي أخبرنا أبو موسى أخبرنا الحريري حدّثنا فارس بن عمر حدّثنا صالح بن محمد حدّثنا محمد بن مزوان عن الكليني عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال: بستان باليمن يقال لها القيروان دون صنعاء بفرسخين، يطأه أهل الطريق، وكان غرسه قوم من أهل الصلاة، وكانت لرجل فمات فورثه بنين له، فكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل فلم تجدّه، فإذا طرح من فوق المنجل أملى البساط، فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضا للمساكين، فإذا حصدوا زروعهم فكل شيء تعدّاه المنجل فهو للمساكين، وإذا داسوا كان لهم كل شيء ينثر، فلما مات الأب ورثها هؤلاء الأخوة عن أبيهم، فقالوا: والله إنّ المال لقليل وإنّ العيال لكثير إنّما كان يفعل هذا الأمر إذا كان كثيرا والعيال قليلا، فأمّا إذا قلّ المال وكثر العيال فإنّا لا نستطيع أن نفعل هذا، فتحالفوا بينهم يوما ليعدون عدوة قيل خروج الناس فليصر من نخلهم ولم يستثنوا- لم يقولوا إن شاء الله- فغدا القوم بسدف من الليل إلى جنّتهم ليصرموها فرأوها مسودّة، وقد طاف عليها من الليل طائف من عذاب أصابها فأحرقها فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فذلك قوله تعالى: إِذْ أَقْسَمُوا حلفوا، لَيَصْرِمُنَّها لتجدّيها ولتقطيع ثمرها، مُصْبِحِينَ إذ أصبحوا قبل أن يعلم المساكين، وَلا يَسْتَثْنُونَ لا يقولون إن شاء الله، فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ عذاب مِنْ رَبِّكَ ولا يكون الطائف إلّا بالليل، وكان ذلك الطائف نارا أنزلت من السماء فأحرقتها. وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالليل المظلم الأسود، قال الشاعر: تطاول ليلك الجون البهيم ... فما ينجاب عن صبح صريم «2» وقال الحسن: صرم عنها الخير فليس فيها شيء، ابن كيسان: كالجرة السوداء، ابن زيد: كالأرض المصرومة، الأخفش: كالصبح انصرم من الليل، وقال المروّج: كالرملة انصرمت من معظم الرمل، وأصل الصريم: المصروم، وكلّ شيء قطع من شيء فهو صريم، فالليل صريم والصبح صريم، لأنّ كلّ واحد منهما ينصرم عن صاحبه. قال ابن عباس: كالرماد الأسود بلغة حذيم.
فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فَانْطَلَقُوا فمضوا إليها وَهُمْ يَتَخافَتُونَ يتشاورون يقول بعضهم لبعض: أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ. قال ابن عباس: على قدرة قادرين في أنفسهم. وقال أبو العالية والحسن: على جد وجهد. وللنخعي والقرطبي ومجاهد وعكرمة: على أمر مجتمع قد أسّسوه بينهم. وروى معمر عن الحسن قال: على فاقة، وقيل: على قوّة، وقال السدي: الحرد: اسم الجنّة. وقال سفيان: على حنق وغضب، ومنه قول الأشهب بن رملة: أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود «1» وفيه لغتان حرّد وحرد، مثل الدّرك والدرك، وقال أبو عبيدة والقتيبي: على منع والحرد، والمحاردة: المنع، تقول العرب: حاردت السنة، إذا لم يكن فيها مطر، وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن. قال الشاعر: فإذا ما حاردت أو بكأت ... فت عن حاجب أخرى طينها «2» وقيل: على قصد، قال الراجز: وجاء سيل كان من أمر الله ... يحرد حرد الجنّة المغلة «3» وقال آخر: إمّا إذا حردت حردي فمجرية ... ضبطاء تسكن غيلا غير مقروب «4» فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ لمخطئوا الطريق فليس هذه بجنتنا. فقال بعضهم: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها ونفعها لمنعنا المساكين وتركنا الاستثناء قالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم، أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ هلّا تستثنون، قال أبو صالح: استثناءهم: سبحان الله. وقيل: هلا تسبحون الله وتقولون: سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقيل: هلّا تستغفرونه من فعلكم. قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا ننزهه على أن يكون ظالما، وأقرّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ في منعنا حقّ الفقراء وتركنا الاستثناء، وقال ابن كيسان: طغينا نعم الله فلم نشكرها.
[سورة القلم (68) : الآيات 42 إلى 52]
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها، قرأ الحسن وعاصم والأخفش وابن محيص بالتخفيف، وغيرهم بالتشديد، وهما لغتان وفرق قوم بينهما، فقال: التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم، والإبدال رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه. قال عبد الله بن مسعود: بلغني أنّ القوم أخلصوا وعرف الله تعالى منهم الصدق، فأبدلهم بها جنّة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا. وقال بكر بن سهل الدمياطي: حدّثني أبو خالد اليمامي أنه رأى تلك الجنّة، وقال: رأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم. إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ كَذلِكَ الْعَذابُ أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا وخالف أمرنا. وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نزل من عند الله سبحانه وتعالى. فِيهِ تَدْرُسُونَ تقرؤون ما فيه. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ في ذلك الكتاب لَما تَخَيَّرُونَ تختارون وتشتهون أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عهود ومواثيق عَلَيْنا بالِغَةٌ كما عهدناكم علمه ووعدناكم فاستوثقتم بها منا، فلا ينقطع عهدكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ كسر (إن) لدخول اللام فيه في ذلك العهد. لَما تَحْكُمُونَ تقضون وتريدون فيكون لكم حكمكم. سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ الذي ذكرت زَعِيمٌ كفيل، والزعيم: الرسول ها هنا- قاله الحسن وابن كيسان- قائم بالحجة والدعوى أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أرباب تفعل هذا. وقيل: شهداء يشهدون لهم بصدق ما يدّعونه. فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ. [سورة القلم (68) : الآيات 42 الى 52] يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي عن أمر شديد فظيع، وهو إقبال الآخرة. قرأه العامة بياء مضمومة، وقرأ ابن عباس بتاء مفتوحة، أي يكشف القيامة عن ساقها. وقرأ الحسن بتاء مضمومة عَنْ ساقٍ أي عن أمر شديد فظيع، وهو إقبال الآخرة وذهاب الدنيا وهذا من باب الاستعارة، يقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى جد وجهد ومعاناة ومقاساة للشدة: شمّر عن ساقه، فاستعير الساق في موضع الشدة.
قال دريد بن الصّمة يرثي رجلا: كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الجلاء طلاع أنجد «1» ويقال للأمر إذا اشتدّ وتفاقم وظهر وزالت عماه: كشف عن ساقه، وهذا جائز في اللغة، وإن لم يكن للأمر ساق وهو كما يقال: أسفر وجه الأمر، واستقام صدر الرأي. قال الشاعر يصف حربا: كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح «2» وأنشد ابن عباس: اصبر عناق أنّه شرّ باق ... قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق «3» وقامت الحرب بنا على ساق. وقال آخر: قد كشفت عن ساقها فشدّوا ... وجدت الحرب بكم فجدّوا «4» والعرب تقول له: الحرب كشفت عن ساقها. قال الشاعر: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طراد الطير عن أرزاقها «5» في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها «6» ونحو ذلك قال أهل التأويل. أخبرنا أبو بكر بن عبد أوس، أخبرنا أبو الحسن محفوظ، حدّثنا عبد الله بن هاشم، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفير عن عاصم، عن سعيد بن جبير: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: عن شدّة الأمر. وقال ابن عباس: هي أشد ساعة في يوم القيامة. وقال الربيع عن العطا: أخبرنا ابن فنجويه، حدّثنا أحمد بن جعفر بن سلم الجتلي، حدّثنا محمد بن عمر وابن مسعدة البيروتي، حدّثنا محمد بن الوزير السلمي، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدّثنا روح بن جناح عن مولى عمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري، عن
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال: «نور عظيم يخرّون له سجّدا» [15] «1» . أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الرومي يقرأ أبي عليه في مسجده يوم السبت لأربع بقين من ذي الحجة سنة ست وثمانين وثلاثمائة، حدّثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، حدّثنا زهير بن محمد، حدّثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدّثنا قريش بن حيان العجلي، حدّثنا بكر بن وائل عن الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: «هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟» . قلنا: لا. قال: «فهل تضارون في القمر ليلة البدر؟» . قلنا: لا. قال: «فإنّكم ترون كذلك، إذا كان يوم القيامة جمع الأوّلون والآخرون، ونادى مناد: من كان يعبد شيئا فليلزمه، وترفع لهم آلهتهم التي كانوا يعبدون فتمضي ويتبعونها حتى يقذفهم في النار، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيقال لهم: ذهب الناس وبقيتم فيقولون: لنا ربّ لم نره بعد، قال: يقول هل تعرفونه؟ فيقولون: إن بيننا وبينه آية إذا رأيناه عرفناه، فيكشف لهم عن ساق فيخرون له سجدا، ويبقى أقوام ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فَلا يَسْتَطِيعُونَ» [16] «2» . أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم- قراءة عليه في جمادي الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، أخبرنا أبو بكر الشافعي، حدّثنا أبو قلابة الرقاشي، حدّثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد، حدّثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يأخذ الله تعالى للمظلوم من الظالم، حتى لا يبقى مظلمة عند أحد حتى أنه يكلف شائب اللبن بالماء ثمّ يتبعه أن يخلص اللبن من الماء، فإذا فرغ من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق كلهم ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله فلا يبقى أحد عبد شيئا من دون الله إلّا مثلت له آلهته بين يديه، ويجعل الله ملكا من الملائكة على صورة عزير، ويجعل الله ملكا من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم، فيتبع هذا اليهود ويتبع هذا النصارى، ثمّ يلونهم، وقيل: تلونهم آلهتهم إلى النار، وهم الذين يقول الله تعالى: لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ «3» فإذا لم يبق إلّا المؤمنون، وفيهم المنافقون قال الله لهم: ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون.
فيقولون: ما لنا إله إلّا الله وما كنا نعبد غيره، فينصرف الله تعالى فيمكث ما شاء أن يمكث، ثمّ يأتيهم فيقول: أيّها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون والله ما لنا إله إلّا الله وما كنا نعبد غيره، فيكشف لهم عن ساق ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربّهم، فيخرون سجّدا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه يجعل الله أصلابهم كصياصي البقر، ثمّ يضرب الصراط بين ظهراني جهنم» [17] «1» . أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد أن أبا الفرج البغدادي القاضي، أخبرهم عن أبي جعفر الطبري، حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدّثنا أبي وشعيب بن الليث عن الليث، حدّثنا خالد بن يزيد بن أسلم عن أبي هلال، قال أبو جعفر: وحدّثني موسى بن عبد الرحمن بن المسروقي، حدّثنا جعفر بن عون، حدّثنا هشام بن سعيد، حدّثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ألا ليلحق كل أمة بما كانوا يعبدون (فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كلّ آلهة مع آلهتهم) «2» فلا يبقى أحد كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلّا ذهبوا حتى يتساقطون في النار، ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر وغبرات من أهل الكتاب، ثمّ يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب يحطم بعضها، بعضا ثمّ يدعى اليهود فيقال: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: عزير بن الله فيقول: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تريدون؟ فيقولون: أي ربنا ظمئنا اسقنا فيقول: أفلا تردّون فيذهبون حتى يتساقطون في النار، ثمّ يدعى النصارى فيقول: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ فيقول: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، فماذا تريدون؟ فيقولون: أي ربّنا ظمئنا اسقنا، فيقول: أفلا تردّون فيذهبون فيتساقطون في النار، فيبقى من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر، ثمّ يأتي الله تعالى جل جلاله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أوّل مرة، فيقول: أيها الناس لحقت كل أمة بما تعبد، ونحن ننظر ربنا الذي كنا نعبد، فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، فيقول: هل بينكم وبين الله من آية تعرفونها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق فيخرون سجدا لله تعالى أجمعون، ولا يبقى من كان سجد في الدنيا سمعة ورياء ولا نفاقا إلّا صار ظهره طبقا واحدا، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثمّ يدفع برّنا ومسيئنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة، فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعم أنت ربّنا ثلاث مرّات» [18] «3» .
وبه قال أبو جعفر بن جرير الطبري، حدّثنا أبو لهب، حدّثنا أبو بكر، حدّثنا الأعمش، عن المنهال عن قيس بن بكر، قال: حدثني عبد الله وهو عند عمر قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الناس بين يدي رب العالمين أربعين عاما، شاخصة أبصارهم إلى السماء، حفاة عراة يلجمهم العرق، ولا يكلّمهم بشيء أربعين عاما، ثمّ ينادي مناد: يا أيها الناس أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوّركم ورزقكم ثمّ عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا؟ قالوا: نعم، قال: فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال: ألا تذهبون قد ذهب الناس؟ فيقولون: حتى يأتينا ربّنا، قال: وتعرفونه؟ قالوا: إن اعترف لنا، قال: فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخرّ من كان يعبده ساجدا ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنّ في ظهورهم السفافيد فيذهب بهم إلى النار ويدخل هؤلاء الجنّة، فذلك قوله سبحانه وتعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضا من الثلج، وتسوّد وجوه الكافرين والمنافقين. وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ في الدنيا. إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ أصحاء فلا يأتونه ويأبونه. قال إبراهيم التيمي: يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة فيأبونه. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجيئون. قال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلّا في الذين يتخلّفون عن الجماعات. ويروى أنّ ربيع بن الجثم عرض له الفالج فكان يتهادى «1» بين رجلين إلى المسجد، فقيل له: يا أبا يزيد لو جلست فإن لك رخصة، قال: من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبوا. قيل لسعيد بن المسيب: إنّ طارقا يريد قتلك فتغيّب، فقال: أحيث لا يقدره عليّ الله، فقيل له: فاجلس، فقال: أسمع حيّ على الفلاح فلا أجيب «2» . فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي فدعني والمكذبين بهذا القرآن. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنأخذهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ فيعذّبوا يوم بدر. وقيل: معناه سنزيدهم حزنا وخذلانا فيزدادوا عصيانا وطغيانا. وقال سفيان الثوري: يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر. وقال [العباد] «3» : لم نعاقبهم في وقت مخالفتهم فيستيقظوا بل أمهلناهم ومددنا لهم في النعم حتى زال عنهم خاطر التدبير، فكانوا منعّمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة.
وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ في الضجر والغضب والعجلة وهو يونس (عليه السلام) . إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ مغموم لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ أدركه، وفي مصحف عبد الله (تداركته) بالتاء. نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ حين رحمه وتاب عليه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ مليم مجرم. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا وذلك أنّ الكفار أرادوا أن يعيّنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويصيبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش، وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه. وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى أن كانت الناقة السمينة والبقرة السمينة تمرّ بأحدهم فيعاينها ثمّ يقول: يا جارية خذي المكيل والدرهم فأتينا بلحم من لحم هذه البقرة، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة، ثمّ يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه، فما تذهب إلّا قريبا حتى يسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعين ويفعل به مثل ذلك «1» ، فأجابهم وأنشد: قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وأخال أنّك سيد معيون «2» فعصم الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: ويكاد الذين كفروا. لَيُزْلِقُونَكَ دخلت اللام لمكان إن، وقرأ الأعمش وعيسى ليرهقونك، وهي قراءة ابن عباس وابن مسعود أي يهلكونك، وقرأ أهل المدينة بفتح الياء لَيُزْلِقُونَكَ، وقرأ غيرهم بضمه، وهما لغتان، يقال: زلّفه تزلقه زلقا، أزلقه تزلقه إزلاقا بمعنى واحد، واختلفت «3» عبارات المفسرون في تأويله. قال ابن عباس: يقذفونك بأبصارهم لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ. ويقال: زهق السهم وزلق إذا نفذ، وقال قتادة، بمعنى يزهقونك، معمر عن الكلبي: يصرعونك، حيان عنه: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة، عطية: يرجونك، المؤرخ:
يزيلونك، النضر بن شميل والأخفش: يعينونك، قال عبد العزيز بن يحيى: ينظرون إليك نظرا شزرا بتحديق شديد يروّعنك به ويظهرون العداوة لك. السدي: يصيبونك بعيونهم، ابن زيد: ليمسوك، جعفر: ليأكلونك، الحسن وابن كيسان: ليقتلونك، وهذا كما يقال: صرعني بطرفه وقتلني بعينه، وقال الشاعر: ترميك مزلقة العيون بطرفها ... وتكلّ عنك نصال نبل الرامي وقال آخر: يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزيل مواطئ الأقدام «1» وقال الحسن: دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: العين حق «وأن العين لتدخل الرجل القبر، والجمل القدر» [19] «2» . وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ يعني محمدا، وقيل: القرآن إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ.
سورة الحاقة
سورة الحاقة مكّية: وهي ألف وأربعة وثمانون حرفا، وست وخمسون كلمة، واثنان وخمسون آية أخبرنا كامل بن أحمد، وأخبرنا محمد بن مسلم، قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك، قال: حدّثنا أحمد بن يونس، قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حِساباً يَسِيراً» [20] «1» . وأخبرنا أبو الحسين الخبازي، قال: حدّثنا أبو الشيخ الحافظ، قال: حدّثنا الحسن بن محمد، قال: حدّثنا أبو زرعة، قال: حدّثنا عمرو بن عثمان، قال: حدّثنا محمد بن حميد عن فضالة بن شريك عن أبي الزاهرية، قال: سمعته يقول: من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أجير من فتنة الدجال، ومن قرأها كان له نورا من فوق رأسه إلى قدمه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ أي القيامة، وسمّيت حاقّة لأنها حقّت فلا كاذبة لها. ولأن فيها حواق الأمور وحقائقها. ولأنّ فيها يحق الجزاء على الأعمال أي يجب، فيقال: حق عليه الشيء
إذا وجب بحق حقوقا، قال الله سبحانه: وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ «1» وقال الكسائي والمؤرخ: الْحَاقَّةُ: يوم الحق، يقول العرب: لما عرفت الحق مني. والْحَاقَّةُ والحقّة هي ثلاث لغات بمعنى واحد، والْحَاقَّةُ الأولى رفع بالابتداء وخبره فيما بعده، وقيل: الْحَاقَّةُ الأولى مرفوعة بالثانية لأنّ الثانية بمنزلة الكتابة عنها كأنه عجب منها وقال: الحاقة ما هي؟ كما تقول: زيد ما زيد، والْحَاقَّةُ الثانية مرفوعة بما، وما بمعنى أي شيء، وهو رفع بالحاقة الثانية، ومثله الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ «2» ، وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ «3» ، ونحوهما. وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ أي بالعذاب الذي نزل بهم حين وعدهم نبيّهم حتى هجم عليهم فقرع قلوبهم. وقال ابن عباس وقتادة: بالقيامة. فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ أي بطغيانهم وعصيانهم، وهي مصدر كالحاقة، وقيل: هي نعت مجازه: بفعلتهم الطاغية، وهذا معنى قول مجاهد وابن زيد، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها «4» وقال قتادة: يعني بالصيحة الطاغية التي جاوزت مقادير الصياح فاهمدتهم. وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ عتت على خزانها فلم تطعهم وجاوزت المقدار. أخبرني الحسن قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا محمد بن حمدان بن سعد قال: حدّثنا أبو زرعة الرازي قال: حدّثنا المعافى بن سلمان البحراني قال: حدّثنا موسى بن عمر عن سعيد عن موسى بن المسيب عن شهر بن خوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أرسل الله سبحانه من ريح إلّا بمكيال، ولا قطرة من ماء إلّا بمكيال، إلّا يوم عاد ويوم نوح، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزائن فلم يكن لهم عليها سبيل، ثمّ قرأ: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ» [21] «5» . سَخَّرَها أرسلها وسلطها. عَلَيْهِمْ والتسخير استعمال الشيء بالاقتدار. سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ قال وهب: هي الأيام التي سمّاها العرب: أيام العجوز ذات برد ورياح شديدة وإنما نسبت هذه الأيام الى العجوز لأن عجوزا دخلت سربا فتبعتها الريح فقتلها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب في اليوم الثامن.
وقيل: سمّيت أيام العجوز لأنها في عجز الشتاء ولها أسامي مشهورة. أنشدني أحمد بن محمد بن يوسف، قال: أنشدنا محمد بن طاهر الوزير قال: أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمد ابن يحيى الصفار قال: أنشدنا محمد بن القيّم بن بشار قال: أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب الشاعر في وصف أيام العجوز: كسع «1» الشتاء بسبعة غبر ... أيّام شهلتنا «2» من الشهر فبآمر وأخيه مؤتمر ... ومعلّل وبمطفئ الجمر «3» ذهب الشتاء مولّيا عجلا ... وأتتك واقدة من النجر «4» واسم اليوم الثامن: مكفي الظعن. حُسُوماً قال ابن عباس: تباعا، ومجاهد وقتادة: متابعة ليس فيها فترة، وعلى هذا القول هو من جسم الكي وهو أن تتابع عليه بالمكواة، وقال مقاتل والكلبي: دائمة، والضحاك: كاملة لم تفتر عنهم حتى أفنتهم، عطيّة: شؤما كأنّها حسمت الخير عن أهلها، الخليل: قطعا لدابرهم، والحسم: القطع والمنع ومنه حسم الداء وحسم الدفاع، قال يمان والنظر بن شميل: حسمهم فقطعهم وأهلكهم وهو نصب على الحال والقطع. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها أي في تلك الليالي والأيام، صَرْعى هلكى جمع صريع كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ أصول نَخْلٍ خاوِيَةٍ ساقطة، وقيل: خالية الأجواف. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ بقاء. وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ قرأ أبو عمرو والحسن والسلمي والحجري والكسائي ويعقوب: بكسر القاف وفتح الباء أي ومن معه من جنوده وأتباعه وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم اعتبار: بقراءة عبد الله وأبيّ ومن معه، وقرأ أبو موسى الأشعري: ومن تلقاه، وقرأ الآخرون: وَمَنْ قَبْلَهُ بفتح القاف وجزم الباء، أي ومن تقدّمه من القرون الخالية. وَالْمُؤْتَفِكاتُ قراءة العامّة بالألف، وقرأ الحسن والمؤتفكة: بغير ألف بِالْخاطِئَةِ بالخطيئة والمعصية وهي الكفر فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً نامية عالية غالية. قال ابن عباس: شديدة، وقيل: زائدة على عذاب الأمم. إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ أي عتا فخرج بلا وزن ولا كيل. قال قتادة: طغى الماء فوق كل
شيء خمسة عشر ذراعا حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ السفينة لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً عبرة وموعظة وَتَعِيَها قرأ طلحة بإسكان على العين تشبها بقوله: وَأَرِنا، واختلف فيه عن عاصم وابن بكر وهي قراءة رديئة غير قويّة، الباقون: مشبع. أُذُنٌ واعِيَةٌ عقلت عن الله ما سمعت. الفاربي بن فنجويه، قال: حدّثنا ابن حيان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا علي بن عليّ قال: حدّثنا أبو حمزة الثمالي قال: حدثني عبد الله بن الحسن قال: حين نزلت هذه الآية وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ» [22] «1» قال علي: فما نسيت شيئا بعد وما كان لي أن أنساه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثني ابن حسن قال: حدّثنا أبو القيّم بن الفضل قال: حدّثنا محمد بن غالب بن الحرب قال: حدثني بشر بن آدم قال: حدثني عبد الله بن الزبير الأسدي قال: حدّثنا صالح بن ميثم قال: سمعت بريرة الأسلمي يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلّمك وأن تعي وأن حقّا على الله سبحانه أن تعي» قال: ونزلت وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ [23] «2» . فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وهي النفخة الأولى وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وما عليها وَالْجِبالُ وما فيها فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فكسّر ودقّتا دقة واحدة فصارتا هباء منبثّا، وإنّما قال: فَدُكَّتا ولم يقل: دككن لأنّه جعل الأرض كالشيء الواحد، وجعل الجبال كالشيء الواحد. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ قامت القيامة وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ضعيفة وَالْمَلَكُ يعني الملائكة عَلى أَرْجائِها نواحيها وأقطارها، بلغة هذيل واحدها رجاء وتثنيته رجوان وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ. قال ابن عباس: ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم عددهم إلّا الله، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين، فكانوا ثمانية» [24] «3» . وأخبرنا الإمام أبو منصور الحمادي قال: حدّثنا الإمام أبو الوليد قال: حدّثنا جعفر قال: حدّثنا عليّ بن حجر قال: حدّثنا شريك عن سماك عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد
[سورة الحاقة (69) : الآيات 18 إلى 52]
المطلب في قوله سبحانه: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ قال: ثمانية أملاك على صورة الأوعال. وفي الحديث: «إن لكلّ ملك منهم أربعة أوجه: وجه رجل، ووجه أسد، ووجه ثور، ووجه نسر» [25] «1» . وقيل: أنشد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قول أمية بن أبي الصلت: رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد والشمس تصبح كل آخر ليلة ... حمراء تصبح لونها يتورّد تأبى فما تطلع لنا في رسلها ... إلّا معذّبة وإلّا تجلّد «2» قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدق» [26] . وروى عن عليّ بن الحسن أنه قال: إنّ الله سبحانه خلق العرش رابعا لم يخلق قبله إلّا ثلاثة أشياء: الهواء، والقلم، والنور، ثمّ خلق من ألوان أنوار مختلفة، من ذلك نور أخضر منه اخضرت الخضرة، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة، ونور أحمر منه احمرت الحمرة، ونور أبيض فهو نور الأنوار، ومنه ضوء النهار ثمّ جعله سبعين ألف ألف ألف طبق ليس من ذلك طبق إلّا يسبّح بحمده ويقدّسه بأصوات مختلفة لو أذن للسان منها أن تسمع لهدم الجبال والقصور ولخسف البحار. [سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 52] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى بالياء كوفي غير عاصم والباقون بالتاء مِنْكُمْ خافِيَةٌ في الحديث قال: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأمّا عرضتان فجدال وخصومات «1» ومعاذير، وأمّا الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» [27] «2» . فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ أي تعالوا اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ها الوقف وأخواته مثله إِنِّي ظَنَنْتُ علمت وأيقنت أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. أخبرنا الحسن قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا أبو القيّم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال: حدّثنا عمر بن إبراهيم بن خالد عن عبد الرحمن قال: حدّثنا مرحوم بن أبي أرطبان ابن عم عبد الله بن عون قال: حدّثنا عاصم الأحول عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أوّل من يعطى كِتابَهُ بِيَمِينِهِ من هذه الأمّة عمر بن الخطّاب، وله شعاع كشعاع الشمس!» فقيل له: فأين أبو بكر؟ قال: «هيهات هيهات زفّته الملائكة إلى الجنّة!» «3» . أخبرنا الحسن، حدّثنا منصور بن جعفر بن محمد النهاوندي، قال: حدّثنا أبو صالح أحمد ابن محمد بن أسعد البروجردي، قال: حدّثنا أسد بن عاصم، قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد، قال: حدّثنا أبو عمر الضرير عن حماد عن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا عائشة كلّ الناس يحاسبون يوم القيامة إلّا أبو بكر» [28] «4» . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مرضية كقوله: ماءٍ دافِقٍ «5» وقيل: ذات رضا مثل لأبن وتأمن فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ رفيعة قُطُوفُها دانِيَةٌ ثمارها قريبة ينالها القائم والقاعد والمضطجع، يقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ قدّمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية وهي الدنيا. أخبرني الحسين قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله قال: أخبرت عن عبد الله بن أبي بكر بن عليّ المقدمي قال: حدّثنا عبد الله بن جعفر قال: سمعت يوسف بن يعقوب الخيفي يقول: بلغنا أن الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة: يا أوليائي طال ما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، وكُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ قال ابن الثابت: تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثمّ يعطى كتابه. وقيل: تنزع من صدره إلى خلف ظهره فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ يقول: يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها، فلم أبعث بعده، والقاضية موت الأحياء بعدها. وقيل: معناه يا ليتني متّ فاسترحت. قال قتادة: تمنّى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ذهبت عنّي حجّتي عن أكثر المفسّرين، وقال ابن زيد: زال عنّي ملكي وقولي فيقول الله لخزنة جهنّم: خُذُوهُ، ويروى أنّه يجتمع على شخص واحد من أهل النار مائة ألف من الزبانية، فيقطع في أيديهم قال: فلا يرى على أيديهم منه إلّا الودك، ثمّ يعاد خلقا جديدا. فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أدخلوه ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ فأدخلوه في ذراع الملك، فيدخل دبره ويخرج من منخريه. وقيل: يدخل من فيه ويخرج من دبره. روى سفيان عن بسر بن دعلوق عن نوف البكالي قال: كلّ ذراع سبعون باعا والباع أبعد ممّا بينك وبين مكّة، وكان في رحبة الكوفة «1» . وقال سفيان الثوري: كلّ ذراع من سبعين ذراعا سبعون ذراعا وقال: بأي ذراع هو؟، وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن رصاصة مثل هذه- وأشار إلى جمجمة- أرسلت من السماء إلى الأرض فهي مسيرة خمسمائة سنة بلغت الأرض قبل الليل، ولو أنّها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها» [29] «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبش قال: حدّثنا ابن زنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا الحسن بن عليّ قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: حدّثنا بكار ابن عبد الله عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن حنظلة عن كعب في قوله: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ قال: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا الحسن بن علويه قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا المسيب قال: حدّثنا سويد بن يحيى قال: بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة، ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرّها.
إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ صديق، وقيل: قريب يعينه، وقيل: هو مأخوذ من الحميم، وهو الماء الحار كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. وَلا طَعامٌ وليس له اليوم طعام. إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ وهو صديد أهل النار مأخوذ من الغسل كأنه غسالة جروحهم وقروحهم، وقال الضحاك والربيع: هو شجر يأكله أهل النار. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ المذنبون وهم الكافرون. فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ ترون وما لا ترون، وأراد جميع المكونات والموجودات، وقيل: الدنيا والآخرة. وقيل: ما في ظهر السماء والأرض وما في بطنها. وقيل: الأجسام والأرواح. وقيل: النعم الظاهرة والباطنة. وقال جعفر الصادق: بِما تُبْصِرُونَ من صنعي في ملكي وَما لا تُبْصِرُونَ من برّي بأوليائي. وقال الجنيد: ما تُبْصِرُونَ من آثار الرسالة والوحي على حسن محمد وَما لا تُبْصِرُونَ من السر معه ليلة الإسراء. وقيل: ما أظهر الله للملائكة واللوح والقلم، وما استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحدا. وقيل: ما تُبْصِرُونَ: الإنس وَما لا تُبْصِرُونَ: الجن والملائكة. وقال ابن عطا: ما تُبْصِرُونَ من آثار القدرة وَما لا تُبْصِرُونَ من أسرار القرية. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أي تلاوة محمد وتبليغه، وقيل: لقول مرسل رسول كريم فحذف كقوله وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» . وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قرأ ابن عامر ويعقوب أبو حاتم: يؤمنون ويذكرون بالياء، وغيرهم بالتاء فيهما تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ تخرّص واختلق عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قيل: من صلة مجازه: لعاقبناه وانتقمنا منه بالحق كقوله: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ «2» أي من قبل الحق. وقال ابن عباس: لأخذناه بالقوة والقدرة، كقول الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها غرابة باليمن «3» وقيل: معناه لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه، وهو مثل معناه لأذللناه وأهناه، وهذا
كقوله: ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه، واهانته لبعض أعوانه، خذ بيده فاقمه، واعتمد ابن جرير هذا التأويل. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ نياط القلب، عن ابن عباس وأكثر الناس، وقال قتادة: حبل القلب، وقال مجاهد: الحبل الذي في الظهر. وقيل: هو عرق بين العلباء والحلقوم. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ مانعين يحجزوننا عن عقوبته وما نفعله به وإنّما جمع وهو فعل واحد ردا على معناه كقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» ، وقال (عليه السلام) : «لم تحل الغنائم لأحد «2» سود الرؤوس [ممّن] قبلكم» [30] «3» لفظه واحد ومعناه الجميع. وَإِنَّهُ يعني القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ إذا رأوا ثواب متابعيه وقد خالفوه. وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الذي كلّ شيء في جنب عظمته صغير.
سورة المعارج
سورة المعارج مكية، وهي ألف ومائة وستّون حرفا، واثنتان وست عشرة كلمة، وأربعة وأربعون آية أخبرني محمد بن القيّم، قال: حدّثنا إسماعيل بن مجيد قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم بن سعد قال: حدّثنا سعد بن حفص قال: قرأت على معقل بن عبيد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة سَأَلَ سائِلٌ أعطاه الله ثواب الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» [31] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ قرأ أهل المدينة والشام سال بغير همز، وقرأ الباقون بالهمز واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، فمن قرأه بالهمز فهو من السؤال لا غير وله وجهان: أحدهما أن تكون الباء في قوله بِعَذابٍ بمعنى عن كقوله سبحانه: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «2» أي عنه، وقال علقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فانّي ... بصير بأدواء النساء طبيب «3» أي عن النساء. ومعنى الآية: سأل سائل عن عذاب واقع نازل: على من ينزل؟ ولمن هو؟ فقال الله سبحانه مجيبا له:
لِلْكافِرينَ وهذا قول الحسن وقتادة قالا: كان هذا بمكّة، لما بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم إليهم وخوّفهم بالعذاب والنكال، قال المشركون بعضهم لبعض: من أهل هذا العذاب اسألوا محمدا لمن هو وعلى من ينزل وبمن يقع، فبيّن الله سبحانه وأنزل سَأَلَ سائِلٌ عذابا واقعا لِلْكافِرينَ أي على الكافرين ، اللام بمعنى على، وهو النضر بن الحرث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب فقال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ لأنّه نزل به ما سأل يوم بدر، فقتل صبرا ولم يقتل من الأسرى يومئذ غيره وغير عقبه بن أبي معيط، وهذا قول ابن عباس ومجاهد، وسئل سفيان بن عيينة عن قول الله سبحانه: سَأَلَ سائِلٌ فيمن نزلت، فقال: لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك. حدّثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه، فقال: لما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغدير خم، نادى بالناس فاجتمعوا، فأخذ بيد عليّ رضي الله عنه فقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» «1» . فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان القهري فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ناقة له حتّى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها، ثمّ أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو في ملأ من أصحابه فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلّي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهرا فقبلنا، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله تعالى؟ فقال: «والّذي لا إله إلّا هو هذا من الله» فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهمّ إن كان ما يقوله حقا فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ، فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله سبحانه: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ [32] «2» . ومن قرأ بغير همز فله وجهان: أحدهما أنّه لغة في السؤال، تقول العرب: سال سائل وسأل سال مثل نال ينال، وخاف يخاف، والثاني: أن يكون من السيل، قال زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، سال واد من أودية جهنم يقال له سائل. مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ. قال ابن عباس: يعني ذي السماوات، وقال ابن كيسان: المعارج الفتق الذي بين سمائين وأرضين، قتادة: ذي الفواصل والنعم، سعد بن جبير: ذي الدرجات، القرطبي: ذي الفضائل العالية، مجاهد: معارج الملائكة.
تَعْرُجُ بالياء الكسائي وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد، وغيرهم بالتاء الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ هو جبريل إِلَيْهِ إلى الله عزّ وجلّ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من سنين الدنيا، لو صعد غير الملائكة وذلك أنّها تصعد من منتهى أمر الله من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماء السابعة. وروى ليث عن مجاهد فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال: من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة ويوم كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأنّ ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وقال محمد بن إسحاق بن يسار: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة قبل أن يقطعوه. وقال الحكم بن عكرمة: هو مدة عمر الدنيا من أولها إلى آخرها، خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضى وكم بقي إلّا الله. وقال قتادة: هو يوم القيامة. وقال الحسن: هو يوم القيامة وليس يعني أن مقدار طوله هو دون عمره، ولو كان ذلك لكانت له غاية نعني فيها الجنة والنار، ولكنّه يوم موقفهم للحساب، حتّى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، وذلك أنّ ليوم القيامة أولا وليس له آخر. لأنّه يوم ممدود ولو كان له آخر كان منقطعا. وقيل: معناه لو ولى محاسبة العباد في ذلك غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة، وهي رواية محمد بن الفضيل عن الكلبي قال: يقول: لقد لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطالت محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة، وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار. وقال يمان: هو يوم القيامة فيه خمسون موطنا، كل موطن ألف سنة، وفيه تقديم وتأخير، كأنه قال: لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ... فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يعرج الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ. وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة فأراد أن أهل الموقف يستطيلون ذلك اليوم. وأخبرنا ابن فنجويه، قال: حدّثنا القطيعي، قال: حدّثنا عبد الله قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا حسن قال: حدّثنا ابن لهيعة قال: حدّثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يوم كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
[سورة المعارج (70) : الآيات 11 إلى 35]
«والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمنين حتّى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة تصليها في الدنيا» [33] «1» . وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلّا كما بين الظهر والعصر. فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ يعني العذاب بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً لأنّ ما هو آت قريب يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ كعكر الزيت، وقيل: كالفلز المذاب وقد مرّ تفسيره وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المصبوغ، ولا يقال عهن إلّا للمصبوغ. وقال مقاتل: كالصوف المنفوش. قال الحسن: كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف، وأوّل ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا، ثمّ عهنا منفوشا، ثمّ تصير هباء منثورا. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قريب قريبا لشغله بشأن نفسه، وقرأ: وَلا يُسْئَلُ بضم الياء، أي لا يسأل حميم عن حميم. [سورة المعارج (70) : الآيات 11 الى 35] يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) يُبَصَّرُونَهُمْ يرونهم وليس في القيامة مخلوق إلّا وهو نصب عن صاحبه من الجن والإنس فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله، ويبصر الرجل حميمه فلا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم. قال ابن عباس: يتعارفون مدة ساعة من النهار ثمّ لا يتعارفون بعد ذلك، وقال السدي: يُبَصَّرُونَهُمْ يعرفونهم، أمّا المؤمن فلبياض وجهه، وأما الكافر فلسواد وجهه. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يتمنّى المشرك لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ زوجته وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ عشيرته التي فصل منهم، أبو عبيدة: فخذه، ثعلب: آبائه الأدنين. غيره:
أقربائه الأقربين الَّتِي تُؤْوِيهِ مجاهد قبيلته وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ذلك الفداء من عذاب الله سبحانه كَلَّا ليس كذلك لا ينجيه من عذاب الله شيء. ثمّ ابتدأ فقال: إِنَّها لَظى وقيل: معناه حقّا إنّها لظى، فيكون متّصلا ولظى اسم من أسماء جهنّم، ولذلك لم يجر، وقيل: هي الدركة الثانية سمّيت بذلك لأنّها تتلظى، قال الله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى «1» . نَزَّاعَةً قراءة العامة بالرفع على نعت اللظى، وروى حفص عن عاصم بالنصب على الحال والقطع لِلشَّوى قال الكلبي: لأمر الرأس بأكل الدماغ، ثمّ يعود الدماغ كما كان، ثمّ يعود لأكله فذلك دائها، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس، عطيّة عنه: يعني الجلود والهام، سعيد بن جبير عنه: للعصب والعقب، مجاهد: لجلود الرأس، ودليل هذا التأويل قول كثير عزّة: لأصبحت هدتك الحوادث هذه ... لها فشواة الرأس باد قتيرها «2» إبراهيم بن مهاجر: اللحم دون العظم، الهام يحرق كل شيء منه ويبقى فؤاده نصيحا، أبو صالح: للحم الساق، ثابت البناني: لمكارم وجهه، قتادة: لمكارم خلقه وأطرافه، أبو العالية: لمحاسن وجهه، يمان: خلّاعة للأطراف، مرة: للأعضاء، ابن زيد: لأذاب العظام، الضحّاك: تبري اللحم والجلد عن العظم حتّى لا تترك منه شيئا، الكسائي: للمفاصل، ابن جرير: الشوى جمع شواة وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا يقال: رمى فاشوى إذا لم يصب مقتلا، وقال بعض الأئمة: هي القوائم والجلود، قال امرؤ القيس: سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا «3» وقال الأعشى: قالت قتيلة ما له قد جلّلت شيبا شواته «4» تَدْعُوا إلى نفسها مَنْ أَدْبَرَ عن الإيمان وَتَوَلَّى عن الحق فتقول إليّ إليّ. قال ابن عباس: تدعوا الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح، ثمّ تلتقطهم كما تلتقط الطير الحب، وقال تغلب: تَدْعُوا أي تهلك يقول العرف: دعاك الله أي أهلكك الله، وقال الخليل: إنه ليس كالدعاء تعالوا ولكن دعوتها إياهم تمكّنها من تعذيبهم وفعلها بهم ما تفعل. وَجَمَعَ المال فَأَوْعى أمسك ولم يود حقّ الله منه.
أخبرني وقيل: إنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا أبو فطن قال: حدّثنا المسعودي عن الحكم قال: كان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول: سمعت الله سبحانه وتعالى يقول: وَجَمَعَ فَأَوْعى. إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. أخبرنا عبد الخالق قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن يزداد الرازي، قال: حدّثنا أبو الحسن طاهر الخثعمي، قال: حدّثنا إسماعيل بن موسى، قال: أخبرنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: هَلُوعاً قال: الحريص على ما لا يحلّ له. وروى عطية عنه قال: هو الذي قال الله سبحانه وتعالى: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً وقال سعيد بن جبير: شحيحا، عكرمة: ضجورا، الضحاك والحسن: بخيلا، حصين: حريصا، قتادة وابن زيد: حزونا، مجاهد: شرها، وعن الضحاك أيضا: الهلوع الذي لا يشبع، مقاتل: ضيق القلب، ابن كيسان: خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه ويهرب مما يكرهه «1» ويسخطه ثمّ تعبّده بإنفاق ما يحب ويلذ والصبر على ما يكره، عطا: عجولا وقيل: جهولا، سهل: متقلّبا في شهواته وهواه، وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القيّم البزاز يقول: قال ابن عطاء: الهلوع: الذي يرضى عند الموجود ويسخط عند المفقود، أبو الحسن الوراق: نسّاء عند النعمة دعّاء عند المحنة، وعن سهل أيضا: إذا افتقر جزع وإذا أيسر منع، أبو عبيدة وثعلب: هو الذي إذا مسّه الخير لم يشكر وإذا مسّه الشرّ لم يصبر، وقيل: طموعا يرضيه القليل من الدنيا ويسخطه مثلها، والهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع. قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «شرّ ما أعطى العبد شح هالع وجبن خالع» [34] «2» . وتقول العرب: ناقة هلواع إذا كانت سريعة السير خفيفة. قال الشاعر: صكاء علبة إذا استدبرتها ... حرج إذا استقبلتها هلواع «3» ثمّ استثنى سبحانه وتعالى إِلَّا الْمُصَلِّينَ قيل: هم الصحابة خاصّة وهم المؤمنون عامّة فإنّهم يغلبون فرط الهلع بحكم الشرع لثقتهم بربّهم ويقينهم بقدرته، واستثنى الجمع من الواحد. لأنّ الإنسان اسم الجنس فهو في معنى الجمع. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ.
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 إلى 44]
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا بشر بن موسى قال: حدّثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حيوة قال: حدثني يزيد بن أبي حسب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني: أن عقبة بن عامر قال لهم: الذين هم على صلواتهم دائمون. قال: قلنا: الذين لا يزالون يصلون؟ فقال: لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ يعني يقيمونها ولا يكتمونها ولا يغيرونها. وقال سهل: قائمون بحفظ ما شهدوا به من شهادة لا إله إلّا الله، فلا يشركون به في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال. وقرأ ابن عامر ويعقوب وحفص بِشَهاداتِهِمْ بالألف على الجمع، الباقون بشهادتهم. وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ. [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا فما بالهم كقوله سبحانه: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ «1» وقوله سبحانه: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ «2» . قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ مقبلين مسرعين عليك مادّي أعناقهم مديمي النظر إليك متطلّعين نحوك. وقد مرّ تفسير الإهطاع وهو نصب على الحال عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ حلقا وفرقا عصبة عصبة وجماعة جماعة متفرقين، والعزين: جماعات في تفرقة، واحدتها عزة ونظيرها في الكلام ثبته وثبتين وكره وكرين وقله وقلين، قال عنترة: وقرن قد تركت لذي ولي ... عليه الطير كالعضب العزين «3» وقال الراعي:
أخليفة الرحمن إنّ عشيرتي ... أمسى سوائمهم عزين فلولا «1» وقال آخر: كأن الجماجم من وقعها ... خناطيل «2» يهون شتى عزينا «3» وأخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا بكار قال: حدّثنا مؤمل قال: حدّثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال: «ما لي أراكم عزين» [35] «4» . قال المفسّرون: كان المشركون يجتمعون حول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويتسمعون كلامه ولا ينتفعون به، بل يكذبونه ويكذبون عليه ويستهزءون به وبأصحابه، ويقولون: دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمد، فلندخلها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم فأنزل الله سبحانه: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ قرأ الحسن وطلحة بفتح الياء وضم الخاء، ومثله روى المفضل عن عاصم، الباقون ضده كَلَّا لا يدخلونها ثمّ ابتدأ فقال: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة فلا يستوجب الجنّة أحد منهم بكونه شريفا لأنّ مادة الخلق واحدة بل يستوجبونها بالطاعة، قال قتادة في هذه: إنّما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق إلى الله. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن برزة قال: حدّثنا محمد بن سليمان ابن الحرث الباغندي قال: حدّثنا عارم أبو النعمان السدوسي، قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك، قال: كان أبو بكر الصديق إذا خطبنا ذكر مناتن ابن آدم فذكر بدء خلقه أنّه يخرج من مخرج البول مرتين، ثمّ يقع في الرحم نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ يخرج من بطن أمه فيتلوث في بوله وخراه حتّى يقذر أحدنا نفسه. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد بن عليّ، قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي، قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر بن جحاش قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبصق يوما في كفه ووضع عليها إصبعه فقال: «يقول عزّ وجلّ بني آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتّى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتّى إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ قلت: أتصدّق وأنى أوان الصدقة» [36] «5» .
وقيل: إنّا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب فحذف أجل، كقول الشاعر: أأزمعت من آل ليلى احتكارا ... وشطّت على ذي هوى أن تزارا «1» أي من أجل آل ليلى. وقيل: (ما) بمعنى من، مجازه: إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كالبهائم. فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ قرأ أبو حيوة برب المشرق والمغرب إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ نظيره في سورة الواقعة. فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا ويلهوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ نسختها آية القتال يَوْمَ يَخْرُجُونَ قراءة العامّة بفتح الياء وضم الراء، وروى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم بضم الياء وفتح الراء مِنَ الْأَجْداثِ القبور سِراعاً إلى إجابة الداعي كَأَنَّهُمْ إِلى نَصْبٍ قراءة العامّة بفتح النون وجزم الصاد يعنون إلى شيء منصوب، يقال: فلان نصب عيني. قال ابن عباس: يعني إلى غاية وذلك حين سمعوا الصيحة الأخيرة. الكلبي: إلى علم ورواية، وقال أبو العلاء: سمعت بعض العرب يقول: النصب الشبكة التي يقع فيها الصيد فيتسارع إليها صاحبها مخافة أن يفلت الصيد منها، وقرأ زيد بن ثابت وأبو رجاء وأبو العالية ومسلم البطين والحسن وأشهب العقيلي وابن عامر إِلى نُصُبٍ بضم النون والصاد، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم. قال مقاتل والكسائي: يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله. وقال الفراء والأخفش: النصب جمع النصب مثل رهن، والأنصاب جمع النصب فهي جمع الجمع. وقيل: النصب والأنصاب واحد. يُوفِضُونَ يسرعون. قال الشاعر: فوارس ذبيان تحت الحديد ... كالجن يوفضن من عبقر «2» وقال ابن عباس وقتادة: يسعون، وقال أبو العالية ومجاهد: يستبقون، ضحاك: يطلعون. الحسن يبتدرون. القرظي يشتدون خاشِعَةً ذليلة خاضعة أَبْصارُهُمْ بالعذاب، قال قتادة: سواد الوجوه تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يغشاهم هوان، ومنه غلام مراهق إذا غشى الاحتلام ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ وهو يوم القيامة.
سورة نوح
سورة نوح مكيّة وهي تسعمائة وتسعة وعشرون حرفا، ومائتان وأربع وعشرون كلمة، وثمان وعشرون آية. أخبرني محمد بن القيّم قال: حدّثنا محمد بن محمد بن شاذة قال: حدّثنا أحمد بن محمد ابن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا سليم بن فتينة عن شعبة عن عاصم بن تهّدله عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح» [37] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ (من) صلة وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو الموت فلا يهلككم بالعذاب إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً نفارا وإدبارا عنه وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ لئلّا يسمعوا دعوتي وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ غطوا بها وجوههم لئلّا يروني ولا يسمعوا صوتي وَأَصَرُّوا على الكفر وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ الدعوة وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن عليّ قال: حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان عن مطرف عن الشعبي: أن عمر خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتّى رجع، فقالوا له: ما رأيناك استسقيت، فقال عمر: لقد طلبت المطر لمحاويج السماء التي يستنزل منها المطر، ثمّ قرأ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً جارية، وذلك أن قوم نوح لما كذّبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت أموالهم ومواشيهم، فوعدهم الله إن آمنوا أن يرد عليهم. وروى الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فقال: ادع الله أن يرزقني ابنا، فقال له: استغفر الله، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله فقلنا أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيئا إنّما اعتبرت فيه قول الله سبحانه حكاية عن نبيّه نوح (عليه السلام) إنّه قال لقومه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً. ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. قال ابن عباس ومجاهد: ما لكم لا ترون لله عظمة، سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون لله حقّ عظمته. منصور عن مجاهد: لا تبالون لله عظمته. العوفي عن ابن عباس: لا تعلمون لله عظمة. قتادة: لا ترجون لله عاقبة، ابن زيد: لا ترون لله طاعة. الكلبي: لا تخافون لله عظمة. ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثبكم على توقيركم إياه خير، الحسن: لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. سعيد بن جبير أيضا: لا يرجون لله ثوابا ولا يخافون عقابا، والرجاء من الأضداد يكون أملا وخوفا.
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً تارات ومرات حالا بعد حال، نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة، إلى تمام الخلقة أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً قال الحسن: يعني في السماء الدنيا. وهذا جائز في كلام العرب، كما يقال: أتيت بني تميم وأتاني بعضهم، ويقول: فلان متوار في دور بني فلان، وإنّما هو في دار واحدة. وقال مقاتل: هو معناه وجعل القمر معهن نورا لأهل الأرض، (في) بمعنى مع. وقال عبد الله بن محمد: وإن الشمس والقمر وجوههما قبل السموات وضوء الشمس ونور القمر منها وأقفيتها قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك آية من كتاب الله سبحانه وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً مصباحا مضيئا. وقيل لعبد الله بن عمر: ما بال الشمس تصلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا، فقال: إنّها في الصيف في السماء الرابعة وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن، ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً وكان حقّه إنباتا ولكنّه مصدر مخالف للصدر، وقال الخليل: مجازه: فنبتم نباتا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أمواتا وَيُخْرِجُكُمْ منها أحياء إِخْراجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً مهادا يحملكم ويستركم أمواتا لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً طرقا مختلفة. قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً وهم القادة والأشراف وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً عظيما يقال: كبر كبار بالتخفيف وكبّار بالتشديد، كلها بمعنى واحد ونظيره في كلام العرب، أمر عجيب وعجاب وعجّاب، ورجل حسان وحسّان، وكمال وكمّال، وقرّاء للقاري ووضّاء للوضي، وأنشد ابن السكيت: بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... وبالحسن قلب المسلم القراء «1» وقال آخر: والمرء يلحقه بقيتان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء «2» وقرأ ابن محيص وعيسى: كبارا بالتخفيف، واختلفوا في معنى مكرهم. فقال ابن عباس: قالوا قولا عظيما. الحسن: مكروا في دين الله وأهله مكرا عظيما. الضحاك: افتروا على الله وكذّبوا رسله. وقيل: حرّشوا أسفلتهم على قتل نوح. وَقالُوا لهم لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا قرأ أهل المدينة بضم الواو، وغيرهم بفتحها «3» وهما لغتان وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ قراءة العامة غير مجرى فيهما، قال أبو
حاتم: لأنهما على بناء فعل مضارع وهما مع ذلك أعجميان. وقرأ الأعمش وأشهب العقيلي: ولا يغوثا ويعوقا مصروفين وَنَسْراً. أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال: حدّثنا محمد بن بكار بن المرقان، قال: حدّثنا أبو معشر عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب، قال: كان لآدم (عليه السلام) خمس بنين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا، فجاءهم الشيطان، فقال: هل لكم أن أصور لكم في قبلتكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: نكره أن يجعل في قبلتنا شيئا نصلي إليه، قال: فأجعله في مؤخّر المسجد. قالوا: نعم فصوره لهم من صفر ورصاص، ثمّ مات آخر فصوّره لهم، ثمّ مات آخر فصوّره لهم، قال: فنقصت الأشياء كما ينقصون اليوم وأقاموا على ذلك ما شاء الله، ثمّ تركوا عبادة الله سبحانه فأتاهم الشيطان فقال: ما لكم لا تعبدون شيئا، قالوا: من نعبد؟ قال: هذه آلهتكم وآلهة آبائكم لا ترونها مصوّرة في مصلّاكم، قال: فعبدوها من دون الله عزّ وجل، حتّى بعث الله عزّ وجلّ نوحا فدعاهم إلى عبادة الله سبحانه، فقالوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ إلى قوله سبحانه وتعالى: وَنَسْراً. وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس، وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح (عليهما السلام) ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس فقال: إنّما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم. قال ابن عباس: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند، يحول بين الكافرين وبين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم فيزعمون أنّهم بنو آدم دونكم وإنّما هو جسد وأنا أصور لكم مثله تطوفون «1» به، فنحت خمسة أصنام وحملهم على عبادتها وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأوثان وطمّها التراب، فلم تزل مدفونة حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، فاتخذت قضاعة ودّا فعبدوها بدومة الجندل، ثمّ توارثه بنوه الأكابر فالأكابر حتّى صارت إلى كلب فجاء الإسلام وهو عندهم، وأخذ أعلى وأنعم وهما من طيئ يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا، ثمّ إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه من أعلى وأنعم، ففروا به إلى الحصين أخي بني الحرث بن كعب، وأما يعوق فكان لكهلان، ثمّ توارثه بنوه الأكبر فالأكبر، حتّى صار إلى همدان، وأما نسر فكان لخثعم يعبدونه، وأما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه «2» .
وقال عطاء وقتادة والثمالي والمسيب: صارت أوثان قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب بدومة الجندل، وكان سواع برهاط لهذيل، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجوف، وكان يعوق لهمدان، وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير، وأما اللات فلثقيف، وأما العزى فلسليم وغطفان وخثعم ونصر وسعيد بن بكر، وأما مناة فكانت لقديد، وأما أساف ونائلة وهبل فلأهل مكّة، وكان أساف حيال الحجر الأسود، وكانت نائلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا. وقال الواقدي: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً أي ضل بعبادتها وبسببها كثيرا من الناس نظيره رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1» وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من خطاياهم «2» و (ما) صلة وقرأ أبو عمرو خطاياهم أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً وقرأ أبو حيوة والأعمش: مما خطتهم على الواحد، وروى أبو روق عن الضحاك في قوله سبحانه: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً قال: يعني في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب. أنشدنا أبو القيّم الحسن قال: أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح، قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنبازي: الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثات فنون ذات أطوار لا تعجبنّ لأضداد إن اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار وَقالَ نُوحٌ قال مقاتل: نوح بالسريانية الساكن، وإنّما سمّي نوحا لأنّ الأرض سكنت إليه رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. أحدا يدور في الأرض فيذهب ويحيى، وهو فيعال من الدوران مثل القيام أصله قيوام وديّوار. وقال القتيبي: أصله من الدار أي نازل دارا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ قال ابن عباس: كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول: احذر هذا فإنّه كذّاب وإن أبي حذّرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه. وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً يعني: من سيكفر ويفجر. قال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنّما قال نوح (عليه السلام) هذا حين أخرج الله تعالى كلّ مؤمن
أصلابهم وأرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: سبعين سنة وأخبر الله سبحانه وتعالى نوحا أنّهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا، فحينئذ دعا عليهم نوح، فأجاب الله سبحانه دعاءه فأهلكهم كلّهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب. وقال أبو العالية والحسن: لو أهلك أطفالهم معهم لكان عذابا من الله لهم، ولكن الله تعالى أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب ثم أهلكهم، والدليل عليه قوله سبحانه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ «1» وقد علمنا أن الأطفال لم يكذّبوا الرسل وإنّما وقع العذاب على المكذّبين. رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً أي داري، وقال الضحاك: مسجدي، وقيل: سفينتي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ عامة وقال الكلبي: من أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا ودمارا.
سورة الجن
سورة الجن مكيّة وهي ثمان مائة وسبعون حرفا، وخمس وثمانون كلمة، وثماني وعشرون آية أخبرنا نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار البابي، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي، قال: حدّثنا عمرو بن محمد الكرباسي، قال: حدّثنا أسباط بن اليسع البخاري، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي، قال: حدّثنا نوح بن أبي مريم عن عليّ بن زيد عن أبيّ ابن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الجنّ أعطي بعدد كلّ جنّي وشيطان صدّق بمحمد وكذّب به عتق رقبة» [38] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وكانوا تسعة من جن نصيبين استمعوا قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد مرّ خبرهم «2» .
قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أنهم من بني الشيطان وهم أكثر الجن عددا وهم عامة جنود إبليس. فَقالُوا لما رجعوا إلى قومهم إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً وَأَنَّهُ بالفتح قرأه أهل الشام والكوفة إلّا حفصا. وفتح أبو جعفر ما كان مردودا على الوحي، وكسر ما كان حكاية عن الجن، وجرها كلّها الباقون. تَعالى جَدُّ رَبِّنا حدّثنا عبيد الله بن محمد بن محمد بن مهدي العدل، قال: حدّثنا الأصم، قال: حدّثنا أحمد بن حازم، قال: حدّثنا عبد الله بن سفيان عن السدي في قوله: جَدُّ رَبِّنا قال: أمر ربنا. وبإسناده عن سفيان عن سلمان التيمي عن الحسن، قال: غنى ربنا ومنه قيل: للحظ جد ورجل مجدود. وقال ابن عباس: قدرة ربنا. مجاهد وعكرمة: جلاله. قتادة: عظمته. ابن أبي نجيح عن مجاهد: ذكره. ضحاك: فعله. القرظي: آلاؤه ونعمه على خلقه. الأخفش: علا ملك ربنا. ابن كيسان: علا ظفره على كل كافر بالحجة. والجدّ في اللغة: العظمة، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا أي عظم. وقال ابن عباس: لو علمت أن في الإنس جدّا ما قالت تعالى جدّ ربّنا، وقال أبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن أنس: ليس لله جد وإنّما وليه الجدّ بالجهالة فلم تؤخذوا به. مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وقرأ عكرمة: تَعالى جِدُّ رَبِّنا بكسر الجيم على ضد الهزل، وقرأ ابن السميع: (جدي ربّنا) وهو الجدوى والمنفعة. وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا جاهلنا، وقال مجاهد وقتادة: هو إبليس لعنه الله عَلَى اللَّهِ شَطَطاً عدوانا وقولا عظيما وَأَنَّا ظَنَنَّا حسبنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي كنّا نظنّهم صادقين في قولهم: إنّ لله صاحبة وولدا حتّى سمعنا القرآن وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك قول الرجل من العرب إذا أمسى بالأرض القفر: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار حتّى يصبح. قال مقاتل: أوّل من تعوّذ بالجن قوم من أهل اليمن، ثمّ بنو حنيفة ثمّ فشا ذلك في العرب. أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا أبو القيّم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي، قال: حدّثنا موسى بن سعيد بن النعمان بطرطوس، قال: حدّثنا فروة بن معراء الكندي، قال: حدّثنا القيّم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكّة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي، فقال: يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يقول: يا سرحان أرسله، فأتانا الحمل يشتدّ حتّى دخل الغنم، ولم يصبه كدمة، قال، وأنزل الله سبحانه على رسوله بمكة: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً يعني: [إن الإنس زادوا الجن طغيانا باستعاذتهم] «1» فزادتهم رهقا. قال ابن عباس: أثما. معمر عن قتادة: خطيئة. سعيد عنه: جرأة «2» . مجاهد: طغيانا. ربيع: فرقا. ابن زيد: خوفا. إبراهيم: عظمة، وذلك أنّهم قالوا: [سدنا] الجن والإنس. مقاتل: غيّا. الحسن: شرّا. ثعلب: خسارا. والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم، ورجل مرهق: إذا كان كذلك. وقال الأعشى: لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا «3» وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ يا معشر الكفّار من الإنس أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً بعد موته وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً من الملائكة وَشُهُباً من النجوم وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ برمي الشهب أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أهواء مختلفة وفرقا شتى، منّا المؤمن ومنّا الكافر. قال سعيد بن جبير: ألوانا شتى. الحسن: قددا مختلفين، الأخفش: ضروبا، أبو عبيدة: أصنافا، المؤرّخ: أجناسا، النضر: مللا، ابن كيسان: شيعا وفرقا لكلّ فرقة هوى كأهواء الناس، وقال الفراء: تقول العرب: هؤلاء طريقة قومهم أي ساداتهم ورؤساؤهم، المسيّب: كنّا مسلمين ويهودا ونصارى. أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا محمد بن عمرو بن الخطاب، قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن نحتويه، قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن إبراهيم الصوري بأنطاكية، قال: حدّثنا محمد بن المتوكل بن أبي السراي، قال: حدّثنا المطلب بن زياد، قال: سمعت السدي يقول في قول الله سبحانه: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً، قال: الجن مثلكم فيهم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة. واحد القدد: قدة، وهي الفرقة وأصلها من القدّ وهو القطع. قال لبيد يرثي أخاه أربد: لم تبلغ العين كل نهمتها ... ليلة تمشي الجياد كالقدد
[سورة الجن (72) : الآيات 16 إلى 28]
وقال آخر: ولقد قلت وزيد جاسر ... يوم ولّت خيل عمرو قددا وَأَنَّا ظَنَنَّا علمنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ إن أراد بنا أمرا وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً إن طلبنا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ قرأه العامّة بالألف، وقرأ الأعمش فلا يخفف بالجزم بَخْساً نقصا وَلا رَهَقاً ظلما، يقول: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزداد في سيّئاته، ولا أن يؤخذ بذنب غيره، ولا أن يعاقب بغير جرم، وقيل: رَهَقاً: مكروها يغشاه، وقيل: ذهاب كله نظيره قوله سبحانه وتعالى: فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً «1» . وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون العادلون عن الحق. يقال: أقسط الرجل فهو مقسط إذا عدل، قال الله سبحانه: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ «2» ، وقسط يقسط قسوطا إذا جاد. قال الشاعر: قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان «3» وأنشد ابن زيد: قسطنا على الأملاك في عهد تبّع ... ومن قبل ما أدرى النفوس عقابها «4» ونظيره في الكلام المترب: الفقير، والمترب: الغني. فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي قصدوا وأعدّوا وتوخّوا ومنه بتحرّى القبلة لمن عميت عليه. وقال امرؤ القيس: ديمة هطلاء فيها وطف ... طبق الأرض تحرّى وتدر «5» أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً. [سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 28] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا قراءة العامة لو: بكسر الواو. وقرأ الأعمش: لَوُ اسْتَقامُوا بضم الواو. عَلَى الطَّرِيقَةِ اختلف المفسرون في تأويلها، فقال قوم: معناها وأن لو استقاموا على طريقة الحقّ والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين. لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً، قال عمر رضي الله عنه في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة، يعني أعطيناهم مالا كثيرا وعيشا رغيدا ووسعنا عليهم في الرزق وبسطنا لهم في الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم كيف شكرهم فيما خوّلوا وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن رياح والضحاك وقتادة وعبيد بن عمير وعطية ومقاتل والحسن، قال: كان والله أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين لله مطيعين فتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر، ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان بن عفان. ودليل هذا التأويل قوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «1» وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «2» وقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «3» وقوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «4» الآيات. وقال آخرون: معناها وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى طريقة الكفر والضلالة وكانوا كفّارا كلهم لأعطيناهم مالا كثيرا ولوسّعنا عليهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ عقوبة لهم واستدراجا، حتّى يفتنوا فيعذبهم. وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وابن مجلد، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ «5» .
وقوله سبحانه وتعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ «1» . وقوله سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ «2» . وقوله سبحانه وتعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «3» . وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ قرأ أهل الكوفة ويعقوب وأيوب بالياء وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد. وقرأ مسلم بن جندب: نُسْلِكْهُ بضم النون وكسر اللام. وقرأ الآخرون بفتح النون وضم اللام وهما لغتان سلك واسلك بمعنى واحد أي يدخله. عَذاباً صَعَداً قال ابن عباس: شاقا. السدي: مشقة. قتادة: لا راحة فيه. مقاتل: لا فرج فيه. الحسن: لا يزداد إلّا شدّة. ابن زيد: متعبا. والأصل فيه أن الصعود يشقّ على الإنسان، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعد في خطبة النكاح، أي ما شقّ عليّ. وقال عكرمة: هو جبل في النار. وقال الكلبي: يكلّف الوليد بن المغيرة أن يصعد في النار جبلا من صخرة ملساء حتّى يبلغ أعلاها يجذب من أمامه بالسلاسل، ويضرب بمقامع الحديد حتّى يبلغ أعلاها ولا يبلغه في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أجر إلى أسفلها، ثمّ يكلف أيضا صعودها فذلك دأبه أبدا، وهو قوله: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «4» . وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ قال سعيد بن جبير: قالت الجن لنبي الله كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أن يخلصوا له الدعوة إذا دخلوا المساجد، وأراد بها المساجد كلّها. وقال الحسن: أراد بها البقاع كلها وذلك، أن الأرض جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مسجدا، وكان المسلمون بعد نزول هذه الآية إذا دخل أحدهم المسجد قال: أشهد أن لا إله إلّا الله والسلام على رسول الله. وقال سعيد بن جبير وطلق بن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد وهي سبعة: القدمان والركبتان واليدان والوجه. وسمعت محمد بن الحسن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبو القيّم البزاز يقول: قال ابن عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها.
وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن زكريا غير مرة، قال: أخبرنا ابن الشرقي، قال: حدّثنا حمدان السلمي، قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل ومعلّى بن أسيد ومسلم بن إبراهيم، قالوا: حدّثنا وهيب، قال: حدّثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أسجد على سبعة: أعظم الجبهة- وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين، وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا [39] «1» . وأخبرنا أبو بكر الجوزقي، قال: أخبرنا عمرو بن عبد الله البصري، قال: حدّثنا أحمد بن سلمة، قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سجد العبد سجد معه سبعة» [40] «2» فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم، وإن جعلت الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقال الحسن: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ يعني الصلوات فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً أي أفردوا له التوحيد وأخلصوا له العبادة. وقيل: معناه فردّوها لذكر الله وعبادته فلا تتخذوها متجرا ولا مجلسا ولا طرقا ولا تجعلوا فيها لغير الله نصيبا. وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُوهُ يقول: لا إله إلّا الله ويدعوا إليه ويقرأ القرآن كادُوا يعني: الجن يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي يركبون بعضهم بعضا، ويزدحمون ويسقطون حرصا منهم على استماع القرآن. قاله الضحاك ورواه عطية عن ابن عباس. سعيد بن جبير عنه: هذا من قول النفر من الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له واهتمامهم به في الركوع والسجود واقتدائهم به في الصلاة. وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني لما قام عبد الله بالدعوة تلبّدت الجن والإنس، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحقّ الذي جاءهم به، ويطفئوا نور الله فأبى الله إلّا أن يتم هذا الأمر وينصره ويظهره على من ناواه. وأصل اللبد: الجماعات بعضها فوق بعض، ومنه قيل للجراد الكبير: لبد، وتلبد الشعر إذا تراكم. ومنه سمي اللبد لبدا، كما ويقال للشعر على الأسد: لبدة وجمعها لبد، قال زهير: لدى أسد شاك السلاح خبان ... له لبد أظفاره لم تقلّم «3» وفيه أربع لغات: لبد بكسر اللام وفتح الباء و [هي] قراءة العامة واختيار أبي عبيدة وأبي
حاتم واحدتها لبدة بكسر اللام، ولبد بضم اللام وفتح الباء وهي قراءة مجاهد وابن محيص وواحدتها لبدة بضم اللام، ولبد بضم اللام والباء وهي قراءة أبي حيوة واحدتها لبيد، ولبّد بضم اللام وتشديد الباء وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وواحدها لابد مثل راكع ركع وساجد وسجد. قالَ يعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبه قرأ أكثر القرّاء، وقرأ أبو جعفر والأعمش وعاصم وحمزة قُلْ على الأمر إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ أميل إليه وقال قتادة: نصرا. الكلبي: مدخلا في الأرض مثل السرب، السدي: جرزا. قال مقاتل: قال كفار قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّك أتيت بأمر عظيم لم يسمع بمثله، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا الأمر، فنحن نجزيك، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات. وفي قراءة أبي (عنّا ولا رشدا) . إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ فإن فيه الحوار والأمن والنجاة قاله الحسن. وقال قتادة: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه، فإمّا الكفر والإيمان فلا أملكهما. وقيل: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً لكن أبلغ بلاغا من الله، إنّما أنا مرسل ومبلّغ لا أملك إلّا ما ملكت. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ يعني العذاب. فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ يعني العذاب وقيل: القيامة أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أجلا وغاية تطول مدتها عالِمُ الْغَيْبِ رفع على نعت قوله رَبِّي، وقيل: هو عالم الغيب. فَلا يُظْهِرُ يطلع عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى اصطفى مِنْ رَسُولٍ فإنه يصطفيه ويطلعه على ما يشاء من الغيب. فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها رَصَداً حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين واستماع الجن ليلا يسترقوه فيلقوه إلى كهنتهم. قال سعيد بن المسيب: رَصَداً أربعة من الملائكة حفظة. قال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة جبرائيل يخبره، فبعث الله مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشيطان، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك، قالوا: هذا شيطان فاحذر، وإذا جاءه ملك، قالوا: هذا رسول ربّك.
لِيَعْلَمَ قرأ ابن عباس ويعقوب بضم الياء، أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلّغوا، وقرأ الآخرون بفتح الياء أي لِيَعْلَمَ الرسول أن الملائكة أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ عندهم وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً فلم يخف عليه شيئا «1» ونصب عددا على الحال وإن شئت على المصدر أي عد عددا.
سورة المزمل
سورة المزمل هي مكيّة إلّا قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إلى آخر السورة، وهي ثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وعشرون آية في الكوفي أخبرني أبو الحسن الماوردي، قال: حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد، قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصفهاني، قال: حدّثنا المؤمل بن إسماعيل، قال: حدّثنا سفيان الثوري، قال: حدّثنا أسلم المعري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ابزي عن أبيه عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة المزمّل رفع عنه العسر في الدنيا والآخرة» [41] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ المتلفف بثوبه، وأصله المتزمل فأدغم التاء في الزاء، ومثله يقال: تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى به، وزمل غيره إذا غطّاه. قال امرؤ القيس: كبير أناس في بجاد مزمّل «2» قال أبو عبد الله الجدلي: سألت عائشة عن قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ما كان تزميله ذلك؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشر ذراعا نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يصلّي. قال أبو عبد الله: فسألتها ما كان؟ قالت: والله ما كان جزّا ولا قزّا ولا مرعزي ولا إبريسم ولا صوفا كان سداه شعرا ولحمته وبرا.
وقال السدي: أراد يا أيها النائم قم فصلّ. وقال عكرمة: يعني: يا أيّها الذي زمّل هذا الأمر أي حمّله، وكان يقرأ الْمُزَمَّلُ بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها. وقالت الحكماء: إنّما خاطبه بالمزمل والمدثر في أوّل الأمر لأنّه لم يكن أدّى بعد شيئا من تبليغ الرسالة. قُمِ اللَّيْلَ قراءة العامة بكسر الميم، وقرأ أبو السماك العدوي: بضمه لضمة القاف إِلَّا قَلِيلًا ثمّ بين فقال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا إلى الثلث أَوْ زِدْ عَلَيْهِ على النصف إلى الثلثين، خيّره بين هذه المنازل، فلما نزلت هذه الآية صلّى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه واشتد ذلك عليهم وكان الرجل لا يدري متى ثلث الليل ومتى النصف ومتى الثلثان فكان يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ حتى شقّ عليهم وانتفخت أقدامهم وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله سبحانه وخفف عنهم ونسخها بقوله: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى «1» الآية. وكان بين أوّل السورة وآخرها سنة. وقال سعيد بن جبير: لمّا نزل قوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ مكث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله تعالى، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله سبحانه بعد عشر سنين إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى «2» الآية. فخفف عنهم بعد عشر سنين. وقال مقاتل وابن كيسان: كان هذا قبل أن يفرض الصلوات الخمس، ثمّ نسخ ذلك بالصلوات الخمس. وقال ابن عباس: لما نزل أول المزمّل كانوا يقومون نحو من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها سنة. وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، قالت: كنت أجعل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيرا يصلّي عليه من الليل، فتسامع الناس به، فاجتمعوا فلمّا تكثر جماعتهم، كره ذلك وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فدخل البيت كالمغضب، فجعلوا يتنحنحون ويشتغلون حتّى خرج إليهم، فقال: «يا أيّها الناس اكلفوا «3» من الأعمال ما تطيقون، فإنّ الله لا يملّ من الثواب حتّى تملّوا من العمل وإنّ خير العمل أدومه وان قلّ» [42] «4» فنزلت عليه: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ فكتبت عليهم وأنزلت بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به، فمكثوا ثمانية أشهر، فلمّا رأى الله ما يكلّفون ويبتغون به وجه الله ورضاه رحمهم فوضع ذلك عنهم فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ الآية. فردّهم إلى الفريضة ووضع عنهم قيام الليل إلّا ما تطوعوا به. وقال الحسن: في هذه الآية الحمد لله تطوع بعد فريضة. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. قال الحسن: اقرأه قراءة، بيّنه تبيانا، وعنه أيضا: اقرأه على
هينتك ثلاث آيات وأربعا وخمسا. قتادة: تثبت فيه تثبيتا. ابن كيسان: تفهّمه تاليا له. وقيل: فصّله تفصيلا ولا تعجل في قراءته، وهو من قول العرب: ثغّر رتّل ورتل إذا كان مفلجا. أبو بكر ابن طاهر: دبّر في لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرك بالإقبال عليه. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك، قال: حدّثنا عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدّثنا عبد الرحمن عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرأها» [43] «1» . إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال الحسن: إنّ الرجل ليهدّ السورة ولكن العمل به ثقيل. وقال قتادة: ثقيل والله فرائضه وحدوده. ابن عباس: شديدا. أبو العالية: ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب: ثقيلا على المنافقين. الفرّاء: ثَقِيلًا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربّنا. عبد العزيز بن يحيى: مهيبا، ومنه يقال للرجل العاقل: هو رزين راجح. وسمعت الأستاذ أبا القيّم بن جندب يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول: سمعت الحسين بن الفضل وسئل عن هذه الآية، فقال: معناها إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا خفيفا على اللسان ثَقِيلًا في الميزان. وقال أبو بكر بن طاهر: يعني قولا لا يحمله إلّا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزيّنة بالتوحيد. وقال القيّم: في هذه الآية سماع العلم من العالم مرّ واستعماله ثقيل لكنه يأتي بالفرح إذا استعمله العبد على جد السنّة وتمام الأدب. وقيل: عنى بذلك أن القرآن عليه ثقيل محمله. قال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا يثقل في الموازين يوم القيامة. أخبرنا أبو الحسين ابن أبي الفضل القهندري، قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا محمد بن يحيى فقال: وفيما قرأت على عبد الله عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الحرث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ عليّ فينفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فأعرف ما يقول» [44] «2» . قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وان جبينه ليرفض عرقا.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى العبدي، قال: حدّثنا أحمد بن نجدة، قال: حدّثنا يحيى الحماني، قال: حدّثنا ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فيضرب بجرافها. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي ساعاته كلّها، وكل ساعة منه فهي ناشئة سميت بذلك لأنها تنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدت أنشأها الله وجمعها ناشيات. أنبأني عقيل، قال: أخبرنا المعافى، قال: أخبرنا ابن جرير، قال: حدثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة قال: أخبرنا حاتم بن صفيرة، قال: قلت لعبد بن أبي مليكة: ألا تحدثني أيّ الليل ناشئة؟ فقال: على الثبت سقطت سألت عنها ابن عباس فزعم أنّ الليل كلّه ناشئة. وسألت ابن الزبير عنها فأخبرني مثل ذلك. وقال سعيد بن جبير وابن زيد: أي ساعة قام من الليل فقد نشأ، وهو بلسان الحبش نشأ إذا قام. وقال عكرمة: ما قمت من أوّل الليل فهو ناشئة. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة، قال: حدّثنا ابن أيوب، قال: حدّثنا ابن أبي زياد، قال: حدّثنا سيار، قال: حدّثنا جعفر عن الجرير عن بعض أشياخه عن عليّ بن الحسين أنّه كان يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول: أما سمعتم قول الله سبحانه: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هذا ناشئة الليل. وقال أبو مجلد وقتادة: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. وقال عبيد بن عمير: قلت لعائشة: رجل قام من أوّل الليل أيقال له قام ناشئة؟ قالت: لا، إنّما الناشئة القيام بعد النوم. وقال يمان وابن كيسان: هي القيام من آخر الليل. هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرأ أبو عمرو وابن عامر وابن محيص: وِطأ بكسر الواو ممدودا، واختاره أبو عبيد على معنى المواطاة والموافقة، وهو أن يواطئ قلبه وسمعه وبصره لسانه. وقرأ الباقون بفتح الواو مقصورا، أي فراغا للقلب. قال ابن عباس: كانت صلواتهم أوّل الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً، يقول: هو أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام، وذلك أنّ الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ. وقال قتادة: أثبت في الخير أحفظ للقراءة. الفرّاء: أثبت قياما. القرطبي: أشدّ على المصلّي من صلاة النهار، دليله قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ أشدد وطأتك على مضر» [45] . ابن زيد: أفرغ له قلبا من النهار، لأنّه لا تعرض له حوائج ولا شيء. الحسن، أَشَدُّ وَطْئاً في الخير وأمنع من الشيطان. وَأَقْوَمُ قِيلًا وأصوب قراءة، وعبادة الليل أشدّ نشاطا وأتم إخلاصا وأكثر بركة.
[سورة المزمل (73) : الآيات 7 إلى 20]
[سورة المزمل (73) : الآيات 7 الى 20] إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا قراءة العامة: بالحاء غير معجمة، أي فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك، وأصل السبح سرعة الذهاب. ومنه السباحة في الماء، وفرس سابح شديد الجري. قال الشاعر: أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ... ففيها لكم يا صاح سبح من السبح وقرأ يحيى بن يعمر: سبخا بالخاء المعجمة، أراد خفة وسعة واستراحة، ومنه قول النبيّ لعائشة وقد دعت على سارق سرقها: «لا تسبخي عنه بدعائك عليه» [46] أي لا تخففي، والتسبيخ توسيع القطن والصوف وتنفيشها، يقال للمرأة: سبّخي قطنك، ويقال لقطع القطن إذا ندف: سابخ. قال الأخطل يصف القناص والكلاب: فأرسلوهن يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار «1» قال تغلب: السبح التردد والاضطراب والسبخ السكون ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحمى من قيح جهنم فسبّخوها بالماء» [47] «2» أي سكنوها. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بالتوحيد والتعظيم، وقال سهل اقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في ابتداء صلواتك توصلها بركة قرابها إلى ربّك وتقطعك عن كل ما سواه. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال ابن عباس وأكثر الناس: أخلص إليه إخلاصا. الحسن: اجتهد. ابن زيد: تفرّغ لعبادته. شفيق: توكل عليه توكلا.
وسمعت محمد بن الحسن السليمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا القيّم البزاز يقول: قال ابن عطاء: انقطع إليه انقطاعا، وهو الأصل في هذا الباب، يقال: بتلت الشيء أي وقطعته، وصدقة بتة بتلة أي بائنة مقطوعة من صاحبها لا سبيل له عليها، ودار تبتيل أي منقطعة عن الدور، قال امرؤ القيس: تضيء الظلام بالعشاء كأنّها ... منارة ممسى راهب متبتّل ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتّل ومنه قيل لمريم العذراء البتول. وقال أبو القيّم: اتصل به اتصالا ما رجع من رجع إلّا من الطريق، ما وصل إليه أحد فرجع عنه. محمد بن عليّ: ارفع اليدين في الصلاة. زيد بن أسلم: التبتل: رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله «1» . رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وأيوب وحفص برفع الباء على الابتداء. وقيل: على إضمار هو، وقرأ الباقون بالخفض على نعت الربّ في قوله سبحانه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ الآية. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا قيّما بأمورك ففوّضها إليه وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا نسختها آية القتال. أخبرني الحسن قال: حدّثنا السني، قال: حدّثنا حاتم بن شعيب، قال: حدّثنا سريح بن يونس، قال: حدّثنا سعيد بن محمد الورّاق عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن أبي الزاهرية أنّ أبا الدرداء قال: إنا لنكشّر في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وإنّ قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم. وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا نزلت في صناديد قريش المكذبين المشتهرين. وقال مقاتل بن حيان: نزلت في المطعمين ببدر وهم عشرة- ذكرناهم في الأنفال- والنعمة التنعم والنعمة المروة والمنّة أيضا، والنعمة بضم النون: الميسرة يقال: نعم ونعمة عيّن ونعمى عين. إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا عندنا في الآخرة قيودا عظاما لا تفكّ أبدا واحدها نكل، قال الشعبي: ترون أن الله يجعل الأنكال في أرجل أهل النار لأنّه خشي أن يفروا؟ ولكن إذا أراد أن يرتفعوا استفلت بهم. وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ غير سائغة تأخذ بالحلق لا هو نازل ولا هو خارج وهو الغسلين والزقوم والضريع. وَعَذاباً أَلِيماً. أخبرني عقيل: أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير، قال: حدّثنا أبو كريب، قال: حدّثنا
وكيع عن حمزة الزيّات عن حمران بن أعين أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ فصعق. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا ابن ماجة، قال: حدّثنا الحسن بن أيوب، قال: حدّثنا عبد الله بن أبي زياد، قال: حدّثنا سيار، قال: حدّثنا صالح، قال: حدّثنا خالد بن حسان، قال: أمسى عندنا الحسن وأمسى صائما، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً فقال: ارفع الطعام، فلما كانت الليلة الثانية أتيناه أيضا بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه، فلمّا كانت الليلة الثالثة أتيته فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعوا، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم بحديثه، فجاءوا معه فلم يزالوا به حتّى شرب شربة من سويق. يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي تتحرك وتضطرب بمن عليها وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً وهو الرمل المجتمع مَهِيلًا سائلا متناثرا إذا مسّته تتابع، وأصله مهيول وهو مفعول من قول القائل: هلت الرمل فأنا أهيله، وذلك إذا حرّك أسفله فانهال عليه من أعلاه، يقال: مهيل ومهيول ومكيل ومكيول ومعين ومعيون، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم يشكون الجدوبة: «أتكيلون أم تهيلون» ؟ قالوا: نهيل. قال: «كيلوا ولا تهيلوا» [48] «1» . وقال الشاعر: وإخال أنّك سيّد معيون «2» إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا شديدا صعبا ثقيلا، ومنه يقال: كلأ مستوبل وطعام مستوبل إذا لم يستمرأ، ومنه الوبال وقالت الخنساء: لقد أكلت بجيلة يوم لاقت ... فوارس مالك أكلا وبيلا «3» وتقول العرب: لقد أوبل عليه الشراء أي توبع. فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ أي فكيف لكم بالتقوى في القيامة إذا كفرتم في الدنيا، يعني: لا سبيل لكم إلى التقوى ولا تنفعكم التقوى إذا وافيتم القيامة. وقيل: معناه فكيف تتّقون عذاب يوم، وكيف تنجون منه إذا كفرتم. وقرأ ابن مسعود وعطيّة: فكيف يتّقون يوما يجعل الولدان شيبا أن كفرتم.
وقرأ أبو السماك العدوي: فكيف يتّقون بكسر النون على الإضافة. يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ الصبيان شِيباً شمطا من هوله وشدّته وذلك حين يقال لآدم: قم فابعث بعث النار من ذرّيتك. أخبرني الحسن، قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر، قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي الخطيب، قال: حدثني محمد بن غالب، قال: سمعت عثمان بن الهيثم، يقول: مررت بابن السري وهو قائم في الطريق، فسأله إنسان يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً، قال: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. السَّماءُ مُنْفَطِرٌ مثقل مشقق بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا إِنَّ هذِهِ السورة أو هذه الآيات تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالإيمان والطاعة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أقرب مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ روى هشام عن أهل الشام ثُلْثَيِ مخفف غير مشبع وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ نصبها أهل مكة والكوفة على معنى وتقوم نصفه وثلثه، وخففهما الباقون عطفا على ثُلُثَيِ ... وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أيضا يقومونه. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ تطيقوا قيام الليل فَتابَ عَلَيْكُمْ تجاوز عنكم ورجع لكم إلى التخفيف عليكم فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قال السدي: مائة آية. قال الحسن: من قرأ مائة آية في ليله لم يحاجّه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليله مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية. وروى الربيع بن صبيح عن الحسن: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ قال: يعني في صلاة المغرب والعشاء. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فسوى بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعلى العيال وللإحسان والإفضال. أخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا ابن سلم، قال: حدّثنا أبو بكر بن عبد الخالق، قال: حدّثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد الحجاج، قال: حدثني أبو الفتح، قال: قال أبو نصر بشر بن الحرث، قال: حدّثنا المعافى بن عمران وعيسى بن يونس عن فرقد السبخي عن إبراهيم عن ابن مسعود، قال: أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله سبحانه بمنزلة الشهداء، ثمّ قرأ عبد الله وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وأخبرني ابن فنجويه، قال: حدّثنا موسى بن محمد بن عليّ، قال: حدّثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة، قال: حدّثنا عبد الحميد بن صالح، قال: حدّثنا أبو عقيل عن القيّم بن عبيد الله
عن أبيه، قال: سمعت ابن عمر، يقول: ما خلق الله عزّ وجلّ موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ سمعت محمد بن الحسن السلمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا القيّم الأسكندراني، يقول: سمعت أبا جعفر الملطي، يقول: عن عليّ ابن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد في هذه الآية، قال: ما تَيَسَّرَ لكم مِنْهُ خشوع القلب وصفاء السر [49] «1» . وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً من الشح والتقصير وَأَعْظَمَ أَجْراً من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه، ونصب خَيْراً وَأَعْظَمَ على المفعول الثاني، وهو فصل في قول البصريين، وعماد في قول الكوفيين لا محل له من الإعراب. وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
سورة المدثر
سورة المدثر مكّية، وهي ألف وعشرة أحرف، ومائتان وخمسون كلمة، وست وخمسون آية أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: حدّثنا أبو عمر والخيري وعمرو بن عبد الله البصري قالا: حدّثنا محمد بن عبد الوهاب قال: حدّثنا أحمد ابن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المدثر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمد وكذبه بمكة» [50] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ: أي المدّثّر في قطيفه. أخبرنا ابو نعيم الاسفرائيني، بها قال: أخبرنا أبو عمران بن موسى بن العباس الارادواري بها، قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي ببيروت قال: أخبرني أبي قال: حدّثنا أبو عمرو الأوزاعي قال: حدّثنا، أبو نصر يحيى ابن أبي كبير العطار اليماني قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني جاورت بحراء شهرا فلما قضت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء فأخذتني وحشة، فأمرتهم فدثّروني فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، حتى بلغ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» [51] «2» . وأخبرنا أبو نعيم قال: حدّثنا أبو عمران قال: حدّثنا جعفر بن عامر البغدادي قال: حدّثنا سعد أبو محمد قال: حدّثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:
أخبرني جابر بن عبد الله إنّ أوّل شيء نزل من القرآن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وقال جابر: ألا أخبرك ما سمعت عن النبي (عليه السلام) سمعته يقول: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري أقبلت في بطن الوادي فناداني مناد فنظرت عن يميني وشمالي وخلفي وأمامي فلم أر شيئا، ثم ناداني فنظرت فوقي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض فجثثت منه فرقا فأقبلت إلى خديجة، فقلت: دثروني وصبّوا عليّ ماءا باردا فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» [52] «1» . أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال: حدّثنا عليّ بن حرب الموصلي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن يحيى المدني عن يونس عن الزهري قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: أخبرني جابر أنه سمع رسول الله (عليه السلام) يقول: «فنزعني الوحي مرّة فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي أتاني بحراء قاعد على الكرسي بين السماء والأرض فجثثت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زمّلوني فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» [53] «2» . قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال: عكرمة سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: معناه لا يلبسها على معصية ولا على غدرة ثم قال: قول غيلان بن سلمة الثقفي: إني بحمد لله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع والعرب تقول للرجل إذا وفي وصدق: إنه طاهر الثياب، وإذا غدر ونكث: إنه لدنس الثياب. وقال أبي بن كعب: لا يلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على أكم «3» البسها وأنت طاهر، وقال قتادة وإبراهيم والضحاك والشعبي والزهري ويمان: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ من الذنب والإثم والمعصية، وقال أهل المعاني: أراد طهّر نفسك عن الذنوب فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه، كقول عنترة: فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم «4» أي نفسه، وقال آخر: ثياب بني عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران «5»
أي أنفس بني عوف. وقال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا: إنّه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجرا: إنه لخبيث الثياب. قال الشاعر: لا هم إن عامر بن جهم ... أو ذم حجا في ثياب دسم «1» يعني متدنس بالخطايا. أبو زوق عن الضحاك: وعملك فأصلح، وهي رواية فضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد. سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهّر، ودليل هذا التأويل قول امرؤ القيس: وإن تك قد ساءتك منّي خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل «2» أي قلبي من قلبك. وقال الحسن والمقرظي: وخلقك فحسّن، ودليلهما قول الشاعر: ويحيى لا يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر «3» أي حسن الأخلاق. عطية عن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائل، وقال ابن زيد وابن شريك نقّ ثيابك واغسلها بالماء وطهّرها من النجاسة وذلك أنّ المشركين كانوا لا يتطهرون فأمره أن يطهّر ثيابه. قال الفراء: وسمعت بعضهم يقول: طهّرها بالأشنان. وقال طاوس: وثيابك فقصّر وشمّر، لأن تقصير الثياب طهرة لها، وقيل: وأهلك فطهّره من الخطايا بالوعظ والتأديب والعرب تسمّي الأهّل ثوبا ولباسا وإزارا، وقد مضى ذكره. يحيى ابن معاد: طهّر قلبك من مرض الخطايا وأشغال الدنيا تجد حلاوة العبادة، فإن من لم يصن الجسم لا يجد شهوة الطعام، وقيل: طهّر قلبك عما سوى الله. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وحميد وأبو جعفر وشيبة ويعقوب (وَالرُّجْزَ) بضم الراء ومثله روى الفضل وحفص عن عاصم واختاره أبو حاتم وقرأ الباقون بكسر الراء واختاره أبو عبيد قال لأنها أفشى اللغتين وأكثرهما، وهما لغتان لمعنى واحد.
[سورة المدثر (74) : الآيات 8 إلى 31]
قال ابن عباس: اترك المأثم، مجاهد وقتادة وعكرمة والزهري وابن زيد: والأوثان فاهجر ولا تقربها وهي رواية الوالبي عن ابن عباس، وقيل الزاي فيه منقلبة عن السين والعرب تعاقب بين الزاي والسين لقرب مخرجهما ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «1» . أبو العالية والربيع: الرجز بالضم الصّنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية، وقال الضحاك: يعني الشرك، ابن كيسان: يعني الشيطان، وقال الكلبي: يعني العذاب، ومجاز الآية: أهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال، وقيل: أتسقط حب الدنيا عن قلبك فإنها رأس كلّ خطيئة، وقيل: ونفسك فخالفها. وَلا تَمْنُنْ قراءة العامة بإظهاره التضعيف وقرأ أبو السماك العدوى ولا تمنّ مدغمة مفتوحة مؤكدة تَسْتَكْثِرُ قرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو ردي لأنه ليس بجواب. وقرأ الأعمش بالنصب على توهّم لام كي كأنه قال: لتستكثر، وقرأ الآخرون بالرفع واختلفوا في معنى الآية فقال أكثر المفسرين ولا تعط شيئا لتعطى أكبر منه، قال قتادة: لا تعط شيأ طمعا لمجازاة الدنيا ومقارضتها، القرظي: لا تعط مالك مصانعة، قال الضحاك ومجاهد: كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقال الضحاك: هما رياءان: حلال وحرام، فأما الحلال فالهدايا وأما الحرام فالربا. وقال الحسن: وَلا تَمْنُنْ على الله بعملك فتستكثره، الربيع: لا يكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل، ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك أنّما عملك منّة من الله سبحانه عليك، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته [فله] «2» بذلك الشكر أن هداك له، خصيف عن مجاهد: ولا تضعف أن تستكثر من الخير من قولهم: حبل متين إذا كان ضعيفا، ودليله قراءة ابن مسعود ولا تمنن أن تستكثر، وقال ابن زيد: معناه ولا تمنّ بالنبوة على الناس فنأخذ عليها منهم أجرا وعرضا من الدنيا. زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربّك واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك عليها، وقال مجاهد: واصبر لله على ما أوذيت، ابن زيد: حملت أمرا عظيما محاربة العرب ثم العجم فاصبر عليه لله، وقيل: على أوامر الله ونواهيه، وقيل: فَاصْبِرْ تحت موارد القضاء لأجل الله، وقيل: فارق الملامة والسآمة، وقيل: فَاصْبِرْ على البلوى فإنه يمتحن أحباءه وأصفياءه. [سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 31] فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ أي نفخ في الصّور. حدثنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الحفوظي قال: حدّثنا عبد الله بن هشام قال: حدّثنا أسباط بن محمد القرشي عن مطرف عن عطية عن ابن عباس في قوله سبحانه: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر فينفخ» [54] «1» وقال أصحاب رسول الله كيف نقول؟ قال: «قولوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» [55] «2» . فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أخبرنا أبو جعفر [محمد] الحلقاني «3» قال: حدّثنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه قال: حدّثنا عمران بن موسى قال: حدّثنا هدية بن خلد القيسي، قال: حدّثنا أبو حباب القصاب قال: أمّنا زرارة بن أوفى فلما بلغ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ الآية: خرّ ميتا «4» . ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ أي خلقته في بطن أمه وَحِيداً فريدا لا مال له ولا ولد. نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي. قال ابن عباس وكان يسمى: الوحيد في قومه. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً أي كثيرا وقيل: ما يمدّ بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه. فقال: مجاهد وسعيد بن جبير: ألف دينار. قتادة: أربعة آلاف دينار. سفيان الثوري: ألف ألف. النعمان بن سالم: كان ماله أرضا. ابن عباس: سبعة آلاف مثقال فضة. مقاتل: كان له بستانا بالطائف لا ينقطع ثماره شتاء ولا صيفا، دليله وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «5» .
وروى ابن جريح عن عطاء عن عمر في قوله سبحانه: وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً قال: غلّة شهر. بشهر. وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكة لا يغيبون عنه. قال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا. مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. مقاتل: كانوا سبعة كلّهم رجال، وهم: الوليد بن الوليد وخالد بن الوليد وعماره بن الوليد وهشام بن الوليد والعاص بن الوليد وقيس بن الوليد وعبد شمس بن الوليد، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة، قالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً أي بسطت له في العيش بسطا، وقال ابن عباس: يعني المال بعضه على بعض كما تمهد الفرش ثُمَّ يَطْمَعُ يرجو أَنْ أَزِيدَ مالا وولدا أو تمهيدا في الدنيا كَلَّا قطع الرجاء عمّا كان يطمع فيه ويكون متّصلا بالكلام الأوّل وقيل: قسم أي حقا وتكون ابتداء آية. إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً معنادا سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأكلّفه مشقّة من العذاب لا راحة له منها. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن سعيد قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي (عليه السلام) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً قال: «هو جبل في النار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت» [56] «1» . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ الآيات، وذلك أن الله سبحانه لما أنزل على النبي (عليه السلام) حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ «2» قرأها النبي (عليه السلام) في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي (عليه السلام) لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حذاء مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق وإنّه يعلو وما يعلى. ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: صبا والله الوليد والله ليصبأنّ قريش كلّهم وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال: لهم أبو جهل أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا، فقال: له الوليد ما لي أراك حزينا يا ابن أخي، قال: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون
لك نفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنّك [تؤمن] بكلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم، فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني أكثرهم مالا وولدا وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم: تزعمون أن محمدا مجنونا فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهّن قط؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا. قال: تزعمون أنه كذّاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ قالوا: لا، وكان رسول الله (عليه السلام) يسمّى: الأمين قبل النبوة من صدقه. فقالت: قريش: فما هو؟ فتفكّر في نفسه ثم نظر وعبس فقال: ما هو إلّا ساحرا، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر، وما يقوله سحر. فذلك قوله سبحانه إِنَّهُ فَكَّرَ في محمد والقرآن وَقَدَّرَ في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. فَقُتِلَ لعن، وقال الزهري: عذّب كَيْفَ قَدَّرَ على طريق التعجّب والإنكار والتوبيخ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ كلح ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا ما هذا الذي يقرأه محمد إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يروى ويحكى. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ يعني يسارا وجبرا فهو مأثرة عنهما. وقيل: يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة، وقيل: يرويه عن أهل بابل. سَأُصْلِيهِ سأدخله سَقَرَ لم يصرفه، لأنه اسم من أسماء جهنم. أخبرني الحسين قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا سعدان قال: حدّثنا أحمد بن صالح قال: حدّثنا ابن وهب قال: أخبرنا عمرو أن أبا السمح حدّثه عن ابن حجرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال موسى لربّه عزّ وجلّ: أي عبادك أفقر؟ قال: صاحب سقر» [57] «1» . وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ فيها شيئا إلّا أكلته وأهلكته قال مجاهد: يعني لا تميت ولا تحيي يعني أنها لا تُبْقِي من فيها حيّا وَلا تَذَرُ من فيها ميتا، ولكنها تحرقهم كلّما جدد خلقهم، وقال السدي: لا تُبْقِي لهم لحما وَلا تَذَرُ لهم عظما، وقال الضحاك: إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم، ولكل شيء فترة وملالة إلّا لجهنم. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ مغيّرة للجلود. تقول العرب: لاحته الشمس ولوّحته. قال الشاعر: تقول لشيء لوحته السمائم «2» وقال رؤبة:
لوح منه بعد بدّن وسق ... تلويحك الضامر يطوى للسبق «1» قال مجاهد: يلفح الجد فتدعه أشدّ سوادا من الليل، وقال ابن عباس وزيد ابن أسلم: محرقة للجلد، وقال الحسن وابن كيسان: يعني تلوح لهم جهنم متى يروها عيانا. نظيره وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ «2» ، ولَوَّاحَةٌ رفع على النعت، سقر في قوله وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ وقرأ عطية العوفي في لَوَّاحَةً لِلْبَشَرِ بالنصب والبشر جمع بشره وجمع البشر أبشار. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ من الخزنة ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر صنفا ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر صفا، ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر نقيبا، ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر ملكا بأعيانهم وعلى هذا أكثر المفسّرين. ولا يستنكر هذا فإن ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلق. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدّثنا إبراهيم ابن إبراهيم قال: حدّثنا حجاج بن جريح قال: حدّثنا مرفوعا إلى النبي (عليه السلام) «إنّه نعت خزنة النار فقال: كأن أعينهم البرق، وكإن أفواههم الصياصي يجرّون أشعارهم، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرميهم في النار، ويرمي بالجبل عليهم» [58] «3» . وقال عمرو بن دينار: إن واحدا منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. قال ابن عباس وقتادة والضحاك: لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل: لقريش ثكلتكم أمهاتكم اسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم ألدّهم- أي الشجعان- أفتعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فقال أبو الاشدين كلدة بن خلف بن أسد الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشرة على ظهري وسبعة على بطني واكفوني أنتم اثنين. فأنزل الله سبحانه وتعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً لا رجالا إذ من فمن ذا يغلب الملائكة وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ عددهم إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم أنا أكفيكموه. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لأنّه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر. وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق قاله أكثر المفسرين، وقال الحسين بن الفضل: السورة مكيّة ولم يكن بمكة البتة نفاق فالمرض في هذه الخلاف لا النفاق.
[سورة المدثر (74) : الآيات 32 إلى 56]
ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا إنما قاله مشركو مكّة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ جموع ربك إِلَّا هُوَ قال مقاتل: هذا جواب أبي جهل حين قال: أما لمحمد أعوان إلّا تسعة عشر. أخبرنا الحسين قال: حدّثنا عمران أحمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن أحمد الصباح قال: حدّثنا محمد بن عبيدة الوراق أبو مخدورة قال: حدّثنا حسين بن الحسن الأشقر قال: حدّثنا هاشم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسّم غنائم حنين وجبرئيل إلى جنبه، فأتاه ملك فقال: إنّ ربّك يأمرك بكذا وكذا قال: فخشي النبي عليهم أن يكون شيطان فقال: «يا جبريل أتعرفه» [59] «1» قال: هو ملك، وما كل ملائكة ربّك أعرف. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد بن مرداس قال: حدّثنا سلمة ابن شعيب قال: حدّثنا عبد القدوس قال: سمعت الأوزاعي يقول: قال موسى عليه السلام: يا ربّ من معك في السماء؟ قال: ملائكتي، قال: كم عددهم؟ قال: إثنا عشر سبطا، قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب. وَما هِيَ يعني النار إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ عضة للناس. [سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 56] كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ يعني ولّى ذاهبا، واختلفت القراءة فيه فقرأ ابن محيصن ونافع وحمزة وخلف ويعقوب وحفص إِذْ بغير ألف. أَدْبَرَ بالألف، غيرهم هم ضده، واختاره أبو عبيد قال: لأنها أشدّ موافقه للحرف الذي يليه، ألا تراه قال: وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ فكيف يكون في أحدهما إذا وفي الآخر إذ، وأبو حاتم قال: لأنه ليس في القرآن لجنبه إذ وأنما الأقسام بجنبها إذا.
قال قطرب من قرأ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ: يريد أقبل، من قول العرب دبر فلان أي جاء خلفي، فكأنّه دبر خلف النهار. قال أبو الضحى: كان ابن عباس يعيب على من يقرأ دبر ويقول: إنما يدبّر ظهر البعير، وقال الفراء: هما لغتان دبّر وأدبر. قال الشاعر: صدعت غزالة قلبه بفوارس ... تركت مسامعه كأمس الدابر «1» وقال أبو عمرو: دبّر لغة قريش. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ قرأه العامة بالألف أي أضاء وأقبل، وقرأ ابن السميع وعيسى ابن الفضل سفر بغير ألف، وهما لغتان يقال: سفر وجه فلان وأسفر، إذا أضاء، ويجوز أن يكون من قولهم: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها عن وجهها، ويحتمل أن يكون معناه نفي الظلام كما سفر البيت أي يكنس ويقال للمكنسة المسفرة. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ يعني أن سفر لإحدى الأمور العظام وواحد الكبر كبرى: نَذِيراً لِلْبَشَرِ يعني أنّ النار نذير للبشر قال الحسن: والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها، وهو نصب على القطع من قوله: لَإِحْدَى الْكُبَرِ لأنها معرفة ونَذِيراً نكرة. قال الخليل: النذير مصدر كالنكير، فلذلك وصف به المؤنث، وقيل: هو من صفة الله سبحانه مجازه: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ... ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ أي إنذارا لهم. قال أبو رزين: أنا لكم منها نذير فاتقوها، وقيل: هو صفة محمد (عليه السلام) ، ومعنى الكلام: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قم نَذِيراً لِلْبَشَرِ فأنذر، وهو معنى قول ابن زيد، وقرأ إبراهيم عن أبي غيلة نذيرٌ للبشر بالرفع على إضمار هو. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ في الخير والطاعة أَوْ يَتَأَخَّرَ عنها في الشر والمعصية نظيره ودليله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ يعني في الخير وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ عنه قاله الحسن، وهذا وعيد لهم كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «2» يعني أنّه نذير لهما جميعا. كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرتهنة بكسبها مأخوذة بعملها. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم لا يحاسبون ولا يرتهنون بذنوبهم ولكن يغفرها الله لهم ويتجاوزها عنهم كما وعدهم. قال قتادة: غلق الناس كلّهم إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ واختلفوا فيهم. فأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن [شنبه] «3» قال: حدّثنا رضوان بن أحمد قال: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار قال: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي اليقظان عن زاذان عن علي في قوله: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ قال: هم أطفال المسلمين.
تدل عليه ما أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حسن قال: حدّثنا البغوي قال: حدّثنا علي ابن الجعد قال: أخبرنا أبو عقيل عن نهيّة عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدان المؤمنين أين هم؟ قال: في الجنة وسألته عن ولدان المشركين فقال: إن شئت سمّعتك تضاغيهم في النار [60] «1» . وقال أبو ظبيان: عن ابن عباس: هم الملائكة، وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر قال: نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وقال مقاتل: هم أهل الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق حين قال لهم الله سبحانه: هؤلاء في الجنة ولا أبالي. وقال الحسن: هم المسلمون المخلصون، وعنه أيضا: هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم. ابن كيسان هم المؤمنون الصالحون ليسوا مرتهنين لأنهم أدّوا ما كان عليهم. يمان: هم الذين أمكنوا رهونهم، وقال الحكيم: هم الذين أختار الله سبحانه بخدمته فلم يدخلوا في الرهن، لأنهم خدّام الله سبحانه وصفوته وكسبهم لم يضرهم، وقال القاسم: كلّ نفس مأخوذة بكسبها من خير وشر إلّا من اعتمد الفضل والرحمة دون الكسب والخدمة فكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به ومن اعتمد على الفضل فإنّه غير مأخوذ. وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمرو البخاري يقول: في قوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ قال: فأين الفرار من القدر وكيف القرار على الخطر؟. فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ المشركين ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ في الباطل. وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني الموقن به وهو الموت. قال الله سبحانه وتعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ قال عبد الله بن مسعود: يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلّا أربعة ثم تلا قوله سبحانه: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلى قوله بِيَوْمِ الدِّينِ قال الحسن: كنا نتحدّث أن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته. وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد قال: حدّثنا ثابت عن الحسن أن رسول الله (عليه السلام) قال: «يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة أي ربي عبدك فلان سقاني شربة من الماء في الدنيا فشفّعني فيه، فيقول اذهب فأخرجه من النار فيذهب فيتجسس النار حتى يخرجه منها» [61] «2» .
وبإسناد عن حماد عن خالد الحذاء عن عبد الله ابن شفيق عن رجل من بني تميم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليشفعن رجل من أمتي لأكثر من بني تميم» [62] «1» . وأخبرنا الحسن قال: حدّثنا عمر بن نوح البجلي قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن شاهين قال: حدّثنا عبد الله بن عمر قال: حدّثنا أبو معاوية قال: حدّثنا داود بن أبي هند عن عبد الله بن قيس الأسدي عن الحرث بن أقشن قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أمتي من سيدخل الله بشفاعته الجنة أكثر من مضر» [63] «2» . فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ نصب على الحال، وقيل: صاروا معرضين. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ جمع حمار مُسْتَنْفِرَةٌ قرأ أهل المدينة والشام وأيوب بفتح الفاء أي منفرة مذعورة، ومثله روى المفضل عن عاصم وأختاره أبو عبيد، وقرأ الآخرون بالكسر أي نافرة يقال: نفرت واستنفرت بمعنى واحد، وأنشد الفراء: أمسك حمارك إنه مستنفر ... في الثر أحمرة عمدن لغرت «3» وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو حامد المستملي قال: حدّثنا محمد بن حاتم الذمي قال: حدّثنا محمد بن سلام الجمحي قال: سألت أبا سراب الغنوي وكان أعرابيا فصيحا قارئا للقرآن فقلت: حمر ماذا؟ قال: حمر مستنفرة طردها قسورة، قلت: إنّما هي فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ فقال: أفَرَّتْ، قلت: نعم قال: ف مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ اختلفوا فيه فقال مجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان: هم الرماة وهي رواية عطاء عن ابن عباس وأبي ظبيان عن أبي موسى الأشعري، وقال سعيد بن جبير: هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس. وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا وكيع عن شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: عصب الرجال. وأخبرني عقيل قال: أخبرنا المعافى قال: أخبرنا محمد بن جرير قال: حدّثنا ابن المثنى قال: حدّثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال: سمعت أبي تحدث قال: حدّثني داود قال: حدّثني عباس بن عبد الرحمن مولى بني هاشم قال: سئل ابن عباس عن القسورة فقال: هي جمع الرجال ألم تسمع ما قالت فلانة في الجاهلية:
يا بنت كوني خيرة لخيرة ... أخوالها الحي وأهل القسورة «1» وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان بن عيينة عن عمرو وعن عطاء عن ابن عباس في قوله سبحانه فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: هي ركز الناس. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبش قال: حدّثنا أبو يعلي الموصلي قال: حدّثنا يحيى بن معين قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسماعيل بن مسلم العبدي عن أبي المتوكّل في قوله سبحانه: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: هو لغط القوم، وقال أبو هريرة: هي الأسد. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سليمان بن قتة عن ابن عباس فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: هو بلسان العرب: الأسد، وبلسان الحبش: القسورة، وبلسان فارس: شير، وبلسان النبط: أريا. وقيل: هو فعولة من القسر وهو القهر، سمي بذلك لأنه يقهر السباع كلّها. وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا محمد بن صالح بن ذريح قال: حدّثنا حبارة بن مغلس قال: حدّثنا عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال: من حبال الصيادين، وقال عكرمة: من ظلمة الليل، وقيل: هي سواد أول الليل ولا يقال لسواد آخر الليل: قسورة، وقال زيد بن أسلم: أي من رجال أقوياء، وكلّ ضخم شديد عند العرب فهو قسور وقسورة. قال لبيد: إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال العائذون القساور «2» بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً وذلك أنهم قالوا: يا محمد إن سرّك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان من ربّ العالمين نؤمر فيه باتباعك، نظيره قوله: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «3» . بادان عن ابن عباس يقول: كان المشركون يقولون: لو كان محمد صادقا فليصح عند كل رأس رجل منا صيحة فيها براءته وأمنه من النار. قال مطر الوراق: كانوا يريدون أن يؤتوا براءة من غير عمل، وقال الكلبي: إن المشركين قالوا: يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل يصبح مكتوب عند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، فكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله سبحانه هذه الآية كَلَّا ليس كما تقولون وتريدون وقيل: حقا وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ يعني القرآن تَذْكِرَةٌ وليس بسحر فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وَما يَذْكُرُونَ بالتاء نافع، يعقوب وغيرهما بالياء إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ أي أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل قال: حدّثنا هدية بن خالد قال: وحدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدقاق وهارون بن محمد قالا: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا هدية قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال: حدّثنا الحسن ابن علي المعمري قال: حدّثنا هدية قال: حدّثنا سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ: قال ربكم عزّ وجلّ: أنا أهل أن اتقى ولا يشرك بي غيري وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له» [64] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عبد القدوس بن بكر قال: سمعت محمد بن النظر الجارقي يذكر في قوله سبحانه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: أنا أهل أن يتقيني عبدي فإن لم يفعل كنت أنا أهلا أن أغفر له.
سورة القيامة
سورة القيامة مكيّة، وهي ستمائة واثنان وخمسون حرفا، ومائة وتسع وتسعون كلمة، وأربعون آية أخبرني محمد بن القيم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثني أبي عن مجاهد عن عبد الواحد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الخليل وعن علي ابن زيد وعطاء بن أبي ميمونة عن زرين حبش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنه كان مؤمنا بيوم القيامة وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة» [65] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قراءة العامة مقطوعة الألف مهموزة. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ مثلها، وقرأ الحسن وعبد الرحمن الأعرج لأقسم بغير ألف موصله. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ بالألف مقطوعة على معنى أنه أقسم باليوم ولم يقسم بالنفس، ومثله روى القواس عن شبل عن ابن بكير، والصحيح أنه قسم بهما جميعا ومعنى قوله لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ اختلفوا فيه فقال: بعضهم لا صلة أي أقسم بيوم القيامة وإليه ذهب سعيد بن جبير وقال أبو بكر بن عباس: هو تأكيد للقسم كقولك لا والله، وقال الفراء في قوله لا: رد لكلام المشركين ثم ابتدأ القسم فقال أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وقال: وكل يمين قبلها رد فلا بد من تقديم (لا) قبلها ليفرّق بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف، ألا ترى أنك تقول مبتدئا: والله إن الرسول لحق، فإذا قلت: لا والله إن الرسول لحق، فكأنك أكّدت قوما أنكروه.
أخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا وكيع عن سفيان ومسعر عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال: لا يقولون القيامة القيامة وإنما قيامة أحدهم موته، وبه عن سفيان ومسعر عن أبي قيس قال: شهدت جنازة فيها علقمة فلما دفن قال: أما هذا فقد قامت قيامته. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ قال: سعيد بن جبير وعكرمة: تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء. مجاهد: تندم على ما فات وتلوم عليه وتقول لو فعلت ولو لم أفعل. قتادة: اللوامة: الفاجرة. ابن عباس: هي المذمومة، وقال الفراء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلّا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت: هلّا زدت، وإن كانت عملت سوءا قالت: يا ليتني لم أفعل. الحسن: هي نفس المؤمن، قال: إنّ المؤمن والله ما تراه إلّا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلتي ما أردت بحديث نفسي وإنّ الفاجر يمضي قدما لا يحاسب نفسه ولا [يعاتبها] «1» . مقاتل: هي نفس الكافر تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا، وقيل: لومها قوله سبحانه: يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي «2» ويا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «3» أي في أمر الله. سهل: هي الإمارة بالسوء وهي قرينة الحرص والأمل. أبو بكر الورّاق: النفس كافرة في وقت منافقه في وقت مرائية على الأحوال كلّها هي كافرة لأنها لا تألف الحق، وهي منافقة لأنها لا تفي بالعهد، وهي مرائية لأنها لا تحبّ أن تعمل عملا ولا تخطو خطوة إلّا لرؤية الخلق، فمن كانت هذه صفاته فهي حقيقة بدوام الملامة لها. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ نزلت في عدي بن ربيعة بن أبي سلمة حليف بني زهرة ختن الأخنس ابن شريف حليف بني زهرة وكان النبي (عليه السلام) يقول: «اللهم اكفني جاري السوء» يعني عديا والأخنس [66] «4» وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي (عليه السلام) فقال: يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون، وكيف يكون أمرها وحالها فأخبره النبي (عليه السلام) بذلك، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك ولم أؤمن به، أويجمع الله العظام؟ فأنزل الله سبحانه أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ يعني الكافر. أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بعد تفريقها وبلائها فنجيبه ونبعثه بعد الموت، يقال: إنّه ذكر
العظام، والمراد بها نفسه كلّها لأن العظام قالب الخلق ولن يستوي الخلق إلّا باستوائها، وقيل: هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقول الآخر: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ «1» . ثم قال سبحانه: بَلى قادِرِينَ أي نقدر استقبال صرف إلى الحال، قال الفراء: قادِرِينَ نصب على الخروج من نَجْمَعَ كأنك قلت في الكلام: أيحسب أن لن يقوى عليك، بَلى قادِرِينَ على أقوى منك، يريد بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا «2» ، وقرأ ابن أبي غيلة قادرون بالرفع، أي بلى نحن قادرون، ومجاز الآية: بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك، وهو: عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أنامله فيجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحد كخف البعير، أو كظلف الخنزير، أو كحافر الحمار، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء، ويقبض إذا شاء ويبسط إذا شاء فحسّنا خلقه. هذا قول عامة المفسرين. وقال القبيسي: ظن الكافر أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال الله سبحانه: بَلى قادِرِينَ أن نعيد السلاميات على صغرها ونؤلف بينها حتى نسوي البنان، ومن يقدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر! وهذا كرجل قلت له: أتراك تقدر على أن تؤلف من هذا الحنظل في خيط ويقول نعم وبين الخردل. بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يقول تعالى ذكره: ما يجهل ابن آدم أن ربّه قادر على جمع عظامه بعد الموت، ولكنّه يريد أن يفجر أمامه، أي يمضي قدما في معاصي الله راكبا رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب، هذا قول مجاهد والحسن وعكرمه والسدي، وقال سعيد بن جبير: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله، وقال الضحاك: هو الأمل يأمل الإنسان يقول: أعيش وأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت، وقال ابن عباس وابن زيد: يكذّب بما أمامه من البعث والحساب، وقال ابن كيسان: يريد أن تأتيه الآخرة التي هي أمامه فيراها في دار الدنيا. وأصل الفجور: الميل، ومنه قيل للكافر والفاسق والكافر: فاجر، لميلهم عن الحق، وقال السدي أيضا: يعني ليظلم على قدر طاقته، وقيل: يركب رأسه في هواه ويهتم حيث قادته نفسه. يَسْئَلُ أَيَّانَ متى يَوْمُ الْقِيامَةِ فبيّن الله له ذلك فقال عزّ من قال: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ قرأ أبو جعفر ونافع وابن أبي إسحاق: بَرَقَ بفتح الراء وغيرهم بالكسر.
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسن بن الحسين بن أيوب، أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج عن هارون قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عنها فقال: بَرِقَ بالكسر يعني جار قال: وسألت عنها عبد الله بن أبي إسحاق فقال: بَرَقَ بالفتح، وقال: إنّما برق الحنظل اليابس، وبرق البصر قال: فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: إنما برق الحنظل والنار والبرق، وأما البصر فبرق عند الموت، قال: فأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق فقال: أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال: لكني لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه كأنه يقول أخذ عن أهل الحجاز فقال: قتادة ومقاتل: شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب مما كان يكذب به في الدنيا إنّه غير كائن، وقال الفراء والخليل: بَرِقَ بالكسر فزع، وأنشدا لبعض العرب: فنفسك قانع ولا تتغي ... وداو الكلوم ولا تبرق أي لا تفزع من الجرح الذي بك. قال ذو الرمّة: ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت ... لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق «1» وبَرَقَ بفتح الراء: شقّ عينه وفتحها، وأنشد أبو عبيدة: لما أتاني ابن عمير راغبا ... أعطيته عيسا صهابا فبرق «2» أي فتح عينه، ويجوز أن يكون من البرق. وَخَسَفَ الْقَمَرُ أظلم وذهب ضوءه، قال ابن كيسان: ويحتمل أن يكون بمعنى غاب كقوله سبحانه فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «3» ، وقرأ [ابن أبي إسحاق وعيسى والأعرج] : وَخُسِفَ بالضم لقوله: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «4» أسودين مكوّرين كأنهما ثوران عقيران، وهي في قراءة عبد الله: وجمع بين الشمس والقمر، وقيل: وجمع بينهما في ذهاب الضياء، وقال عطاء بن يسار: يجمعان يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس: يجعلان في نور الحجب. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ المهرب، وقرأها العامة الْمَفَرُّ بفتح الفاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قالا: لأنه مصدر، وقرأ ابن عباس والحسن بكسر الفاء، قال الكسائي: هما
لغتان مثل مدب ومدب ومصح ومصح، وقال الآخرون: بالفتح المصدر وبالكسر موضع الفرار مثل المطلع والمطلع. كَلَّا لا وَزَرَ لا حصن ولا حرز ولا ملجأ، قال السدي: لا جبل، وكانوا إذا فزعوا نحوا إلى الجبل فتحصّنوا به فقال الله سبحانه: لا جبل يومئذ يمنعهم. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ أي مستقر الخلق وأعمالهم وكل شيء، وقال مقاتل: المنتهى فلا يجد عنه مرحلا نظيره وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وقال يمان: المصير والمرجع، وهو قول ابن مسعود نظيره إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى «1» وإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «2» وقوله سبحانه أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «3» . يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ «4» قال ابن مسعود وابن عباس: قدم قبل موته من عمل صالح أو طالح وما أخر بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. عطية عن ابن عباس: بِما قَدَّمَ من المعصية وَأَخَّرَ من الطاعة. مجاهد: بأول عمل عمله وآخره. قتادة: بِما قَدَّمَ من طاعة الله وَأَخَّرَ من حقّ الله فضيّعه. ابن زيد: بِما قَدَّمَ من عمل من خير أو شر وما أَخَّرَ من العمل بطاعة الله فلم يعمل به. عطاء: بِما قَدَّمَ في أول عمره وما أَخَّرَ في آخر عمره. زيد بن أسلم: بِما قَدَّمَ من أمواله لنفسه وما أَخَّرَ خلّف للورثة، نظيره عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ «5» . سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: خمس مصائب في الذنب أعظم من الذنب: أوّلها: خذلان الله لعبده حتى عصاه ولو عصمه ما عصاه. والثانية: أن سلبه حلية أوليائه وكساه لباس أعدائه. والثالثة: أن أغلق عليه أبواب رحمته وفتح عليه أبواب عقوبته. والرابعة: نظر إليه وهو يعصيه. والخامسة: وقوفه بين يديه يعرض عليه ما قدّم وأخّر من قبائحه. فهؤلاء المصائب الخمس في الذنب أعظم من الذنب.
[سورة القيامة (75) : الآيات 14 إلى 28]
[سورة القيامة (75) : الآيات 14 الى 28] بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ قال عكرمة ومقاتل والكلبي: معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقبا يرقبونه بعمله ويشهدون عليه به وهي: سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجميع جوارحه وهذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال القبسي: أقام جوارحه مقام نفسه لذلك رأت ويجوز أن يكون تأنيثه للإضافة إلى النفس كما تقول في الكلام: ذهبت بعض أصابعه، وبَصِيرَةٌ مرفوعة بخبر حرف الصفة وهي قوله عَلى نَفْسِهِ ، ويحتمل أن يكون معناه بل الإنسان على نفسه ببصيرة، ثم حذفت حرف الجر كقوله: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ «1» أي لأولادكم، ويصلح أن يكون نعتا لاسم مؤنث أي بل للإنسان على نفسه عين بصيرة وأنشد الفراء: كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمقعده أو منظر هو ناظره يحاذر حتّى يحسب الناس كلهم ... من الخوف ولا تخفى عليه سرائره «2» قال أبو العالية وعطاء: بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في بَصِيرَةٌ للمبالغة، وقال الأخفش: هي كقولك فلان عبرة وحجة، ودليل هذا التأويل قول الله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «3» وقال ابن تغلب: البصيرة والبينة والشاهد والدليل واحد. ر حتّى يحسب الناس كلهم ... من الخوف ولا تخفى عليه سرائره «2» قال أبو العالية وعطاء: بل الإنسان على نفسه شاهد، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، والهاء في بَصِيرَةٌ للمبالغة، وقال الأخفش: هي كقولك فلان عبرة وحجة، ودليل هذا التأويل قول الله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «3» وقال ابن تغلب: البصيرة والبينة والشاهد والدليل واحد. وَلَوْ أَلْقى عليه مَعاذِيرَهُ يعني أنه يشهد عليه الشاهد ولو أعتذر وجادل عن نفسه. نظيره قوله سبحانه: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ «4» وقوله: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «5» وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية وعطا. قال الفراء: ولو اعتذر
فعليه من نفسه من يكذّب عذره. مقاتل: ولو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. ومعنى الإلقاء: القول نظيره: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ «1» وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ «2» . الضحاك والسدي: يعني ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب، قال: وأهل اليمن يسمّون الستر المعذار، وقال بعض أهل المعاني: المعاذير إحالة بعضهم على بعض. لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ وذلك أن رسول الله (عليه السلام) كان لا يفتر من قراءة القرآن مخافة أن ينساه، وكان إذا نزل عليه جبرائيل بالقرآن لم يفرغ جبرائيل من الآية حتى يقرأ رسول الله (عليه السلام) أولها ويحرك لسانه بها في نفسه مخافة أن ينساها فأنزل الله سبحانه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «3» وأنزل سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «4» وأنزل لا تُحَرِّكْ بِهِ أي بالوحي لِسانَكَ به أي تلاوته لتحفظه ولا تنساه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك حتى تحفظه وَقُرْآنَهُ وقراءته عليك حتى تعيه وقيل أراد بقوله: وَقُرْآنَهُ وجمعه في صدرك وهو مصدر كالرجحان والنقصان. فَإِذا قَرَأْناهُ عليك فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي ما فيه من الأحكام ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ بما فيه من الحدود والحلال والحرام. كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ قرأهما أهل المدينة والكوفة بالتاء وغيرهم بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى نظيرها في سورة الإنسان إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا «5» . وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة ناضِرَةٌ. قال ابن عباس: حسنة. قال الحسن: حسّنها الله بالنظر إلى ربها. مجاهد: مسرورة. ابن زيد: ناعمة. مقاتلان: بيض يعلوها النور. السدي: مضيئة. يمان: مسفرة. الفراء: مشرقة بالنعيم. الكسائي: بهجة. قال الفراء والأخفش: يقال نضر الله وجه فلان فلا يتنضر نضيرا فنضر وجهه ننضّر نضرة ونضارة قال الله سبحانه: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «6» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها» [67] «7» ، ونظر في هذه الآية قوله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ «8» . إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وأكثر الناس تنظر إلى ربّها عيانا.
قال الحسين بن واقد: أخبرني يزيد بن عكرمة وإسماعيل بن أبي خالد وأشياخ من أهل الكوفة قالوا: تنظر إلى ربّها نظرا، وقال الحسن: تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق، وقال عطية العوفي: ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم، فذلك قوله سبحانه: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «1» ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسن بن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن مندة الأصفهاني قال: حدّثنا الحسين بن حفص قال: حدّثنا إسرائيل بن يونس عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف عام، وإن أكرمهم على الله لمن ينظر إلى وجهه تبارك وتعالى غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله (عليه السلام) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» [68] «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو النفخ محمد بن الحسن الأزدي الموصلي قال: حدّثني أحمد بن عيسى بن السكين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي قال: حدّثنا قال: أخبرنا رباح بن زيد الصنعاني قال: أخبرني ابن جريح قال: أخبرني زياد بن سعد أن أبا الزبير أخبره عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يتجلّى ربّنا عزّ وجل حتى ينظروا إلى وجهه فيخرّون له سجدا فيقول: ارفعوا رؤسكم فليس هذا بيوم عبادة» [69] «3» . وروى الحسن عن عمار بن ياسر قال: كان من دعاء النبي (عليه السلام) : «اللهم أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلّة» [70] «4» يعني أنّها تنتظر الثواب من ربّها ولا تراه من خلفه شيء. قلت: وهذا تأويل مدخول لأنّ العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا: نظرته، كما قال الله سبحانه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ «5» هل ينظرون إلّا نار الله؟ وما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً «6» وإذا أردت به التفكّر والتدبير قالوا: نظرت فيه فأمّا إذا كان النظر مقرونا بذكر إلى وذكر الوجه فلا يكون إلّا بمعنى الرؤية والعيان. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ عابسة كالحة متغيّرة مسودة تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ قال مجاهد: داهية، سعيد بن المسيب: قاصمة الظهر وأصلها الفقرة والفقار، يقال: فقره إذا كسر فقاره، كما يقال: رأسه إذا ضرب رأسه، وقال قتادة: الفاقرة: الشرّ، وقال ابن زيد: تعلم أنها
[سورة القيامة (75) : الآيات 29 إلى 40]
ستدخل النار، وقال أبو عبيدة: الفاقرة: الداهية يقال: عمل بها الفاقرة وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو بنار حتى يخلص إلى العظم، وقال الكلبي: منكرة من العذاب وهي الحجاب. كَلَّا إِذا بَلَغَتِ يعني النفس كناية عن غير مذكور التَّراقِيَ فيحشرج بها عند الموت، والتراقي: العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، وقال دريد بن الصمة: وربّ عظيمة دافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي «1» وَقِيلَ وقال من حضره مَنْ راقٍ هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه. قال قتادة: التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء شيئا. أخبرني الحسين قال: حدّثنا السني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدّثنا مسدّد بن مسرهد عن خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه كوى غلاما له فقلت أتكوى قال: نعم هوّدوا العرب. أخبرنا ابن مسعود أن رسول الله (عليه السلام) قال: «إن الله سبحانه لم ينزل داء إلّا وقد أنزل معه دواء جهله من جهله وعلمه من علمه» [71] «2» ، وقال سليمان التيمي ومقاتل بن سليمان: هذا من قول الملائكة يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه فيصعد بها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وهذه رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس. قال أبو العالية: يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيّهم يترقّى بروحه. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق. أخبرنا الربيع بن محمد الخاتمي ومحمد بن عقيل الخزاعي قالا: أخبرنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال: أخبرنا الخضر بن أبان القرشي قال: حدّثنا ابن ميثم بن هدية عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «إنّ العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإنّ مفاصله يسلّم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة» [72] «3» . [سورة القيامة (75) : الآيات 29 الى 40] وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قال الربيع بن أنس: الدنيا بالآخرة، وهي رواية أبي الجوزاء وعطية عن ابن عباس، ورواية عوف ومنصور عن الحسن، وروى الوالي وبادان عن ابن عباس قال: أمر الدنيا بأمر الآخرة، فكان في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال: إسماعيل ابن أبي خالد: عمل الدنيا بعمل الآخرة، وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه، وروى سفيان عن رجل عن الحسن عن مجاهد قالا: اجتمع فيه الحياة والموت. قتادة: الشدّة بالشدّة. بشر بن المهاجر عن الحسن قال: هما ساقاك إذا لفّتا في الكفن، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد المزني قال: حدّثنا مطين قال: حدّثنا نصر بن علي فقال: حدّثنا خالد بن قيس عن قتادة عن الحسن قال: ماتت رجلاه ولم تحملاه وكان عليهما جوّالا، وروى شعبة عن قتادة قال: أمر أتاه إذا ضرب برجله الأخرى. أبو مالك: يلبسهما عند الموت. عكرمة: خروج من الدنيا إلى الآخرة. أبو يحيى عن مجاهد: بلاء ببلاء. القرطبي: الأمر بالأمر. زيد بن أسلم: ساق الكفن بساق الميت. سعيد بن جبير: تتابعت عليه الشدائد. السدي: لا يخرج من كرب إلّا جاءه أشدّ منه، والعرب لا تذكر الساق إلّا في المحن والشدائد، ومنه مثلهم السائر: (لا يرسل الساق إلّا ممسكا ساقا) ، وقال أميّه بن أبي الصّلت: وقد أرقت لهمّ بات يطرقني ... والنفس ذات حزازات وطرّاق مستجذ بالقراة حين ... آرقني ليل التمام أقاسيه على ساق أي على تعب وشدة. وقال ابن عطاء: اجتمع عليه شدّة مفارقة الوطن من الدنيا والأهل والولد وشدّة القدوم على ربّه لا يدري بماذا يقدم عليه لذلك قال عثمان بن عفان: ما رأيت منظرا إلّا والقبر أفضع منه لأنّه آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة، وقال يحيى بن معاذ: إذا دخل الميت القبر قام على شفير قبره أربعة أملاك واحد عند رأسه والثاني عند رجليه والثالث عن يمينه والرابع عن يساره، فيقول الذي عند رأسه: يا ابن آدم انفضّت الآجال وانقطعت الآمال، ويقول الذي عن يمينه: ذهبت الأموال وبقيت الأعمال، ويقول الذي عن يساره: ذهب الأشغال وبقي الوبال، ويقول الذي عند الأموال وبقيت الأعمال، ويقول الذي عن يساره: ذهب الأشغال وبقي الوبال، ويقول الذي عند رجليه: طوبى لك من كسبك إن كان كسبك من الحلال وكنت مشتغلا بخدمة ذي الجلال. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ المنتهى والمرجع تسوق الملائكة روحه حيث أمرهم الله سبحانه وتعالى. فَلا صَدَّقَ يعني أبا جهل وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر، قال زيد بن أسلم: هي مشية بني مخزوم وأصله من المطا وهو الظهر أي يلوي مطاه تبخترا، وقيل: أصله يتمطط أي يتمدد، والمط هو المد فجعلت أحدى الطاءات يا، وقد مضت هذه المسألة وتمطى الإنسان إذا قام من منامه فتمدّد.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسين الهمداني قال: حدّثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال: حدّثنا سليمان بن داود الشاذكوني قال: حدّثنا سفيان بن عتبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع شيخا قديما يقال له بجنس مولى الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم الروم وفارس سلط بعضهم على بعض» [73] «1» قال سفيان: فأخبرت بهذا الحديث ابن أبي نجيح فقال هل تدرون ما المطيطاء؟ هو مثل قوله سبحانه: ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر. أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى هذا وعيد من الله سبحانه على وعيد أبي جهل وهي كلمة موضوعة للتهدّد والوعيد قالت الخنساء: هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها «2» وأنشدني أبو القيّم السدوسي قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن محمد البلوي الأدبي قال: أنشدنا أحمد بن يحيى بن تغلب: يا أوس لو نالتك أرماحنا ... كنت كمن تهوى به الهاوية «3» القيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه وقال بعض العلماء: معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحقّ وأولى، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه، وقيل: هو كلمة يقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها من الولي وهو القرب، قال الله سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ «4» ويقال ثمّ الذي يليه أي يقرب منه. قال الشاعر: فصالوا صولة فيمن يليهم ... وصلنا صولة فيمن يلينا «5» وقال آخر: هجرت غضوب وحب من يتجنّب ... وعدت عواد دون وليك تشعب «6» وحكى لنا الأستاذ أبو القيم الحلبي أنه سمع أبا الهيثم الجمي وكان عارفا بالمعاني يقول حاكيا عن بعض العلماء: أن قوله أَوْلى من المقلوب مجازه: أويل من الويل، كما يقال: ما أطيبه وأيطبه وعاقني وعقاني وأيم وأيامي وأصله أيايم وقوس وقسي وأصله قؤوس، ومعنى الآية
كأنه يقول لأبي جهل: الويل لك يوم تموت، والويل لك يوم تبعث، والويل لك يوم تدخل النار وتخلد فيها. وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي (عليه السلام) لمّا نزلت هذه الآية أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فقال أبو جهل: أتوعدني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئا وأني لأعزّ من مشى بين جبليها، فلمّا كان يوم بدر أشرف عليهم وقال: لا نعبد الله بعد اليوم «1» ، فصرعه الله شرّ مصرع، وقتله أسوأ قتلة، أقعصه ابنا عفراء وأجهز عليه ابن مسعود «2» ، قال: وذكر لنا أن أبا جهل كان يقول: لو علمت أن محمدا رسول الله ما أتبعت غلاما من قريش قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنّ لكل أمّة فرعونا وأن فرعون هذه الأمة أبو جهل» [74] «3» . أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً هملا لا يؤمر ولا ينهى يقال: أسديت حاجتي أي ضيّعتها، وأبل سدى ترعى حيث شاءت بلا راع. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى قرأ الحسن وابن محيص وأبو عمرو ويعقوب وسلام بالياء وهي رواية المفضل وحفص عن عاصم واختيار أبي عبيد لأجل المنى، وقرأ الباقون بالتاء لأجل النطفة وهو اختيار أبي حاتم. ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى خلقه فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ الذي فعل هذا بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا الكندي قال: حدّثنا سعيد بن بنان الصفار قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثني يونس الطويل جليس لأبي إسحاق الهمداني عن البراء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال رسول الله (عليه السلام) : «سبحانك وبلى» [75] «4» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله ابن أيوب المخزومي قال: حدّثنا صالح بن مالك قال: حدّثنا أبو نوفل علي بن سليمان قال: حدّثنا أبو إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال: من قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى «5» إماما كان أو غيره فليقل: سبحان ربي الأعلى، ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فإذا انتهى إلى آخرها فليقل: سبحانك اللهم بلى «6» ، إماما كان أو غيره.
سورة الإنسان (الدهر)
سورة الإنسان (الدهر) مكية، وهي ألف وأربع مائة وخمسون حرفا، ومائتان وأربعون كلمة، وإحدى وثلاثون آية أخبرني نافل بن راقم قال: حدّثنا محمد بن شادة قال: حدّثنا أحمد بن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زرّ عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جَنَّةً وَحَرِيراً» [76] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) هَلْ أَتى قد أتى عَلَى الْإِنْسانِ آدم (عليه السلام) ، وهو أول من سمّي به حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ الروح فيه لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به، وروى أن عمر سمع رجلا يقول هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فقال عمر: ليتها تمت، وقال عون بن عبد الله: قرأ رجل عند ابن مسعود الآية فقال: إلّا ليت ذلك. إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني ولد آدم مِنْ نُطْفَةٍ يعني من منيّ الرجل ومنيّ المرأة، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة: هل أنت إلّا نطفة، وجمعها نطاف ونطف، وأصلها من نطف إذا قطر. أَمْشاجٍ أخلاط، واحدها مشج مشيج مثل حذن وحذين قال رؤبة: يطرحن كلّ معجّل نسّاج ... لم يكس جلدا في دم أمشاج «2»
ويقال مشجت هذا بهذا أي خلطته فهو ممشوج ومشج، مثل مخلوط وخليط، قال أبو دوم: كأن الريش والفوقين منه ... خلاف النصل سبطيه مشيج قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والربيع: يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما جميعا الولد، وماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له، وقال قتادة: هي أطوار الخلق: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحما ثم عظاما ثم يكسوه لحما ثم ينشئه خلقا آخر. وقال الضحاك: أراد اختلاف ألوان النطفة نطفة، الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء فهي مختلفة الألوان، وهي رواية الوالي عن ابن عباس وابن أبي نجح عن مجاهد، وكذلك قال عطاء الخراساني والكلبي: الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة أو الصفرة. وقال عبد الله بن مسعود وأسامة بن زيد: هي العروق التي تكون في النطفة، وروى ابن جريح عن عطاء قال: الأمشاج الهن الذي كأنه عقب، وقال الحسن: نعم والله خلقت من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة فإذا حبلت أرفع الحيض، وقال يمان: كل لونين اختلطا فهما أمشاج، وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان ذا طبائع مختلفة، وقال أهل المعاني: بناء الأمشاج بناء جمع وهو في معنى الواحد لأنه نعت النطفة وهذا كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق ونحوهما «1» . وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: سئلت وأنا بمكّة عن قول الله سبحانه: أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فقلت ابتلى الله الخلق تسعة أمشاج: ثلاث مفتنات وثلاث كافرات وثلاث مؤمنات، فأما الثلاث المفتنات فسمعه وبصره ولسانه، وأما الثلاث الكافرات فنفسه وهواه وشيطانه، وأما الثلاث المؤمنات فعقله وروحه وملكه، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة فقرّ العقل على القلب فملكه واستأسرت النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلا، فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا: قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ «2» . نَبْتَلِيهِ نختبره بالأمر والنهي وقال بعض أهل العربية: هي مقدمة معناها التأخير مجازها: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً لنبتليه لأن الابتلاء لا يقع إلّا بعد تمام الخلقة. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ
أي بيّنا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة وعرّفناه طريق الخير والشرّ وهو كقوله وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» . إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أما مؤمنا سعيدا وأما كافرا شقيّا يعني خلقناه أما كذا وأما كذا، وقيل معنى الكلام: الجزاء، يعني بيّنا له الطريق إن شكر وكفر، وهو إختيار الفرّاء، ثم بين الفريقين فقال عز من قال إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ كل سلسلة سبعون ذراعا. وَأَغْلالًا وَسَعِيراً قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم عن حفص والأعمش والكسائي وأيوب كلهن: سَلاسِلَ بإثبات الألف في الوقف والتنوين في الأصل، وهو اختيار أبي عبيد، ورواية هشام عن أهل الشام، ضده حمزة وخلف [وقنبل] ويعقوب برواية [....] «2» وزيد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: قَوارِيرَا الأولى بالألف والثاني بغير ألف. قال أبو عبيد: ورأيت في مصحف الإمام عثمان قَوارِيرَا الأولى بالألف مبنية والثانية كانت بالألف فحكّت، ورأيت أثرها بيّنا هناك «3» . إِنَّ الْأَبْرارَ يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربّهم، وقال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذر ولا ينصبون الشرّ، وأحدهم بار، مثل شاهد وأشهاد وناصر وأنصار وصاحب وأصحاب ويراد بها مثل نهر وأنهار وضرب وأضراب. يَشْرَبُونَ في الآخرة مِنْ كَأْسٍ خمر كانَ مِزاجُها كافُوراً قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك، وقال عكرمة: مزاجها طعمها، وقال أهل المعاني: أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده، لأن الكافور لا يشرب، وهو كقوله حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً «4» أي كنار، وقال ابن كيسان: طيّبت بالكافور والمسك والزنجبيل، وقال الفرّاء: ويقال: إنّ الكافور اسم لعين ماء في الجنة، وفي مصحف عبد الله من كأس صفراء كان مزاجها قافورا والقاف والكاف يتعاقبان لأنّهما لهويتان، وقال الواسطي: لمّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة فكأس الكافور برّدت الدنيا في صدورهم. عَيْناً نصب لأنها تابعة للكافور كالمفسر له وقال الكسائي: على الحال والقطع، وقيل: يشربون عينا، وقيل من عين، وقيل: أعني عينا، وقيل: على المدح وهي لهذه الوجوه كلّها محتملة. يَشْرَبُ بِها أي شربها والباء صلة وقيل منها. عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم كما يفجر الرجل منكم النهر يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 7 إلى 13]
[سورة الإنسان (76) : الآيات 7 الى 13] يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ قال قتادة: بما فرض الله سبحانه عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وغيرها من الواجبات، وقال مجاهد وعكرمة: يعني إذا بدروا في طاعة الله وفوا به. وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ممتدا قاسيا يقال استطار الصدع في الزجاجة واستطال إذا امتد، ومنه قول الأعشى: وبانت وقد أسأرت في الفؤاد ... صدعا على نأيها مستطيرا «1» وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ قال ابن عباس: على قلّته وحسبهم إياه وشهوتهم له، وقال الداري: على حبّ الله، وقال الحسين بن الفضل: على حبّ إطعام الطعام. مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً وهو الحربي يؤخذ قهرا أو المسلم يحبس بحق. قال قتادة: بعد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وأنّ أسراءهم يومئذ لأهل الشرك فأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه، وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعطا: هو المسجون من أهل القبلة. أخبرني الحسن قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدّثنا عباد بن أحمد العرزمي قال: حدّثنا عمي عن أبيه عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي (عليه السلام) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً قال: «فقيرا» وَيَتِيماً قال: «لا أب له» وَأَسِيراً قال: «المملوك والمسجون» ، وقال أبو حمزة الثمالي: الأسير المرأة، ودليل هذا التأويل قول النبي (عليه السلام) : «استوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان» [77] «2» . إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً فيه وجهان: أحدهما أن يكون جمع الشكر كالفلوس بجمع الفلس، والكفور بجمع الكفر، والآخران يكون بمعنى المصدر كالفعول والدخول والخروج. قال مجاهد وسعيد بن جبير: أمّا أنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب. إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً في يوم عَبُوساً تعبس فيه الوجوه من شدّته وكثرة مكارهه
فنسب العبوس إلى اليوم كما يقال: يوم صائم وليل نائم، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وقيل: وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدّة والهول كالرجل الكالح البائس. قَمْطَرِيراً روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: العبوس: الضيق، والقمطرير: الطويل. الكلبي: العبوس: الذي لا انبساط فيه والقمطرير: الشديد. وقال قتادة ومجاهد ومقاتل: القمطرير: الذي يقلّص الوجوه ويقبض الحياة وما بين الأعين من شدته. قال الأخفش: القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء يقال: يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديدا لكربها. قال الشاعر: ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها ... ولج بها اليوم العبوس القماطر «1» وأنشد الفرّاء: بني عمّنا هل تذكرون بلانا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر «2» وقال الكسائي: اقمطرّ القوم وازمهرّ اقمطرارا وازمهرارا وهو الزمهرير والقمطرير، ويوم مقمطر إذا كان صعبا شديدا. قال الهذلي: بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرة ... فمن تلق منا ذلك اليوم يهرب «3» فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ الذي يخافون وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً في وجوههم وَسُرُوراً في قلوبهم وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا على طاعة الله وعن معصيته، وقال الضحاك: على الفقر. القرطبي: على الصوم. عطاء: على الجوع. وروي سعيد بن المسيب عن عمر قال: سئل رسول الله (عليه السلام) عن الصبر فقال: «الصبر أربعة أولها الصبر عند الصدمة الأولى والصبر على أداء الفرائض، والصبر على اجتناب محارم الله، والصبر على المصائب» [78] «4» . جَنَّةً وَحَرِيراً قال الحسن: أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير. مُتَّكِئِينَ نصب على الحال فِيها في الجنة عَلَى الْأَرائِكِ السرر في الحجال لا تكون أريكة إذا اجتمعا. قال الحسن: وهي لغة أهل اليمن كان الرجل العظيم منهم يتخذ أريكة فيقال: أريكه فلان. وقال مقاتل: الأرائك: السرر في الحجال من الدر والياقوت موضونة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر. لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً أي شتاء ولا قيضا.
قال قتادة: علم الله سبحانه أن شدّة الحر تؤذي وشدة القرّ تؤذي فوقّاهم الله أذاهما جميعا، وقال مرة الهمداني: الزمهرير البرد القاطع. مقاتل بن حيّان: هو شي مثل رءوس الابر ينزل من السماء في غاية البرد. ابن سمعود: هو لون من العذاب وهو البرد الشديد. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر أحمد بن عمران السوادي يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وسئل عن قوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً قال الزمهرير القمر بلغة طيئ. قال شاعرهم: وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر «1» أي لم يطلع القمر. واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآيات فقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا وكانت قصته. أخبرنا ابن فتجويه قال: حدّثنا محمد بن خلف بن حيّان قال: حدّثنا إسحاق بن محمد بن مروان قال: حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال: حدّثنا على بن علي بن أبي حمزة الثمالي قال: بلغنا أن مسكينا أتى رسول الله (عليه السلام) فقال: يا رسول الله أطعمني فقال: «والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى رجلا من الأنصار وهو يتعشى وامرأته فقال له: أني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: أطعمني فقال: ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب، فقال: الأنصاري لامرأته: ما ترين؟ فقالت: أطعمه وأسقه ثم أتى رسول الله (عليه السلام) يتيم فقال يا رسول الله أطعمني فقال: «ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب» فأتى اليتيم الأنصاري الذي أتاه المسكين فقال له: أطعمني فقال لامرأته: ما ترين؟ قالت: أطعمه فأطعمه، ثم أتى رسول الله (عليه السلام) أسير فقال: يا رسول الله أطعمني، فقال: «والله ما معي ما أطعمك ولكن أطلب» [79] «2» فأتى الأسير الأنصاري فقال له: أطعمني، فقال: لامرأته ما ترين فقالت: أطعمه، وكان هذا كلّه في ساعة واحدة، فأنزل الله سبحانه فيما صنع الأنصاري من إطعامه المسكين واليتيم والأسير وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. وقال غيرهما: نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضة وكانت القصة فيه. وأخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الشيباني العدل قراءة عليه في صفر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محبوب بن حميد النصري
قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الخوار ابن عم اللأحنف بن قيس سنة ثمان وخمسين ومائتين وسأله عن هذا الحديث روح بن عبادة قال: حدّثنا القيم بن مهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن سهيل بن علي بن مهران الباهلي بالبصرة قال: حدّثنا أبو مسعود عبد الرحمن بن فهد بن هلال قال: حدّثنا الغنيم بن يحيى عن أبي علي القيري عن محمد بن السائر عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أبو الحسن بن مهران وحدّثني محمد بن زكريا البصري قال: حدّثني سعيد بن واقد المزني قال: حدّثنا القاسم بن بهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله سبحانه وتعالى يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً قال: مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعادهما عامّة العرب فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء. فقال علي رضي الله عنه: إن برأ ولداي مما بهما صمت ثلاثة أيام شكرا، وقالت فاطمة رضي الله عنها: إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكرا ما لبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي رضي الله عنه إلى شمعون بن جابا الخيبري، وكان يهوديا فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له: شمعون بن جابا، فقال: هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة أصوع من الشعير قال: نعم، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا: فقامت فاطمة رضي الله عنها إلى صاع فطحنته واختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصا وصلى علي مع النبي (عليه السلام) المغرب، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة، فسمعه علي رضي الله عنه فأنشأ يقول: فاطم ذات المجد واليقين ... يا ابنة خير الناس أجمعين أما ترين البائس المسكين ... قد قام بالباب له حنين يشكوا إلى الله ويستكين ... يشكوا إلينا جائع حزين كل امرء بكسبه رهين ... وفاعل الخيرات يستبين موعدنا جنة عليين ... حرمها الله على الضنين وللبخيل موقف مهين ... تهوى به النار إلى سجين شرابه الحميم والغسلين ... من يفعل الخير يقم سمين ويدخل الجنة أي حين
فأنشأت فاطمة: أمرك عندي يا ابن عمّ طاعة ... ما بي من لؤم ولا وضاعه غذيت من خبز له صناعة ... أطعمه ولا أبالي الساعة أرجو إذا أشبعت ذا المجاعة ... أن ألحق الأخيار والجماعه وأدخل الخلد ولي شفاعه «1» قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي (عليه السلام) ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم من أولاد المهاجرين، استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه علي رضي الله عنه فأخذ يقول: فاطم بنت السيد الكريم ... بنت نبي ليس بالزنيم لقد أتى الله بذي اليتيم ... من يرحم اليوم يكن رحيم موعده في جنّة النعيم ... قد حرّم الخلد على اللئيم ألا يجوز الصراط المستقيم ... يزل في النار إلى الجحيم «2» فأنشأت فاطمة: أطعمه اليوم ولا أبالي ... وأوثر الله على عيالي أمسوا جياعا وهم أشبالي ... أصغرهم يقتل في القتال بكربلا يقتل باغتيال ... للقاتل الويل مع الوبال تهوى به النار إلى سفال ... وفي يديه الغل والأغلال كبوله زادت على الأكبال. قال: فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح، فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة رضي الله عنها إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى علي مع النبي (عليه السلام) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسرونا [وتشدوننا] ولا تطعمونا، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة، فسمعه علي فأنشأ يقول:
فاطم يا بنة النبي أحمد ... بنت نبي سيد مسوّد هذا أسير للنبي المهتد ... مكبّل في غلّه مقيّد يشكو إلينا الجوع قد تمدد ... من يطعم اليوم يجده من غد عند العلي الواحد الموحّد ... ما يزرع الزارع سوف يحصد فأنشأت فاطمة تقول: لم يبق مما جاء غير صاع ... قد ذهبت كفي مع الذراع ابناي والله من الجياع ... يا رب لا تتركهما ضياع أبوهما للخير ذو اصطناع ... يصطنع المعروف بابتداع عبل الذراعين طويل الباع ... وما على رأسي من قناع إلّا قناعا نسجه انساع «1» قال: فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ علي رضي الله عنه بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وأقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي (عليه السلام) قال: يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم، أنطلق إلى ابنتي فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها النبي (عليه السلام) قال: «وا غوثاه بالله، أهل بيت محمد يموتون جوعا» فهبط جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد خذها، هنّأك الله في أهل بيتك قال: «وما أخذنا يا جبرائيل» [80] «2» فاقرأه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ إلى قوله وَلا شُكُوراً إلى آخر السورة. قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث: فوثب النبي (عليه السلام) حتى دخل على فاطمة فلما رأى ما بهم انكب عليهم يبكي، ثم قال: أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم، فهبط جبرائيل (عليه السلام) بهذه الآيات إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً قال: هي عين في دار النبي (عليه السلام) تفجر إلى دور الأنبياء (عليهم السلام) والمؤمنين. يُوفُونَ بِالنَّذْرِ يعني عليا وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم فضة وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ يقول على شهوتهم للطعام، وإيثارهم مسكينا من مساكين المسلمين ويتيما من يتامى المسلمين، وأسيرا من أسارى المشركين، ويقولون إذا
[سورة الإنسان (76) : الآيات 14 إلى 24]
أطعموهم إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً قال: والله ما قالوا لهم هذا بألسنتهم، ولكنهم أضمروه في نفوسهم، فأخبر الله سبحانه بإضمارهم يقولون: لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً، فيتمنون علينا به ولكنا أعطيناكم لوجه الله وطلب ثوابه قال الله سبحانه: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً في الوجوه وَسُرُوراً في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً يسكنونها وَحَرِيراً يلبسونه ويفترشونه مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً. قال ابن عباس: وبينا أهل الجنة في الجنة إذا رأوا ضوءا كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان لها فيقول أهل الجنة: يا رضوان قال: ربّنا عزّ وجل لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً فيقول: لهم رضوان: ليست هذه بشمس ولا قمر ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما، وفيهما أنزل الله سبحانه: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً. وأنشدت فيه: أنا مولى لفتى ... أنزل فيه هل أتى «1» وعلى هذا القول تكون السورة مدنية، وقد اختلف العلماء في نزول هذه السورة فقال مجاهد وقتادة: هي كلّها مدنية، وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكيّة وهي قوله سبحانه: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً والباقي مدني، قال الآخرون: هي كلّه مكيّة والله أعلم. [سورة الإنسان (76) : الآيات 14 الى 24] وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها أي قريبة منهم ظلال أشجارها، وفي نصب الدانية أوجه: أحدها العطف بها على قوله مُتَّكِئِينَ، والثاني على موضع قوله: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً ويرون دانية، والثالثة على المدح، وأتت دانية لأن الظلال جمع وفي قراءة عبد الله ودانيا عليهم ليقدم الفعل، وفي حرف أبيّ ودان رفع على الاستئناف. وَذُلِّلَتْ سخّرت وقرّبت قُطُوفُها ثمارها تَذْلِيلًا يأكلون من ثمارها قياما وقعودا ومضطجعين ينالونها ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد قال: حدّثنا موسى بن إسحاق قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أرض الجنة من ورق وترابها مسك وأصول شجرها ذهب وفضّة وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والورق والثمر تحت ذلك فمن أكل قائما لم يؤذه [ومن أكل جالسا لم يؤذه] ومن أكل مضطجعا لم يؤذه فذلك قوله سبحانه: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا. وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قال المفسرون: أراد بياض الفضة في صفاء القوارير فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة «1» . أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدّثنا سفيان وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن حمدويه قال: حدّثنا محمود ابن آدم قال: حدّثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله سبحانه: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة في بياض الفضة في صفاء القارورة. وقال الكلبي والثمالي: إن الله سبحانه جعل قوارير كلّ قوم من تراب أرضهم وإن تراب الجنة من فضة فجعل من تلك الفضة قوارير يشربون فيها. قَدَّرُوها تَقْدِيراً على قدر رتبهم لا يزيد ولا ينقص، وقال الربيع والقرطبي: على قدر الكفّ، وقراءة العامّة بفتح القاف والدال قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم. وأخبرني بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو حامد المستملي قال: أخبرنا محمد بن حاتم الرقي قال: أخبرنا هشام قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال: سمعته قرأها قُدِّرُوها بضم القاف وكسر الدال أي قدرت عليهم فلا زيادة فيها ولا نقصان. قال: وسمعت غيره قدّروها في أنفسهم فأتتهم على ما قدروا لا يزيد ولا ينقص. وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا سوق ومطرب من غير لدع، والعرب تستحب الزنجبيل قال شاعرهم: كأن جنيا من الزنجبيل خالط ... فاها وأريا مشورا «2» وقيل: هو عين في الجنّة توجد منها طعم الزنجبيل. قال قتادة: شربها المقرّبون صرفا ويمزج لسائر أهل الجنة. عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا قال قتادة: سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا، وقال
مجاهد: حديدة الجرية «1» . يمان: طيبة الطعم والمذاق، تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسل وسلسبيل، أبو العالية ومقاتل بن حيان: سميت سلسبيلا لأنها يتسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن الى أهل الجنان على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك، ومعنى تُسَمَّى توصف لأن أكثر العلماء على أن سلسبيل صفة الإسم. وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً وهو أن أدناهم- يعني أهل الجنة- منزلة ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل: هو استئذان الملائكة عليهم، وقيل: وَمُلْكاً لا زوال له. قال أبو بكر الورّاق: ملكا لا يتعقبه هلك، وقال محمد بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أراد شيئا كان. عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ قرأ قتادة ومجاهد وابن سيرين وعون العقيلي وابن محيص وأبو جعفر ونافع والأعمش وحمزة وأيوب عالِيهُمْ بتسكين الياء على أنه اسم موصوف بالفعل يقول علاهم فهو عاليهم، واختاره أبو عبيد اعتبارا بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما (عاليتهم) ، وتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها، وقرأ الباقون بنصب الياء على الصفة أي فوقهم وهو نصب على الظرف، وقيل: هو كقوله: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ «2» وقد مضى، ذكرنا تقديم الصفة على الموصوف، وقيل: معناه عاليا لهم ثيابها كقوله: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «3» ونحوها. خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ اختلف القراء فيهما فقرأ ابن كثير وابو بكر والمفضل خُضْرٍ بالخفض على نعت السندس والإستبرق بالرفع على نعت الثياب، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بضده واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وأيوب وحفص كليهما بالرفع، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف كليهما بالجر. وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً طاهر من الأقذار لم تدنسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا قال أبو قلابة وإبراهيم: يعني أنه لا يصير نجسا ولكنه يصير رشحا في أيديهم كريح المسك، وأن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا وأكلهم ونهمتهم، فإذا أكل ما شاء سقي شرابا طهورا فيطهر بطنه ويصير ما أكل رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك الأذفر ويضمر بطنه وتعود شهوته، وقيل: يطهرهم من الذنوب والأدناس والأنجاس ويرشحهم للجنّة.
وقال جعفر: يطهّرهم به عن كلّ شيء سواه، إذ لا طاهر من تدنّس شيء من الأكوان. وقال أبو سليمان الداراني سقاهم ربّهم على حاشية بساط الود، فأرواهم من صحبة الخلق وأراهم رؤية الحقّ، ثمّ أقعدهم على منابر القدس وحيّاهم بتحيّة المزمّل وأمطر التأييد، فسالت عليهم أودية الشوق فكفاهم هموم الفرقة وحيّاهم بسرور القربة. وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمّد بن علي الشاشي يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول سئل أبو يزيد البسطامي عن قوله سبحانه وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً قال: طهّرهم به عن محبّة غيره ثم قال: إنّ لله شرابا ادّخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا فهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت طيّب الحمّال يقول: صلّيت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ قوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ، فلمّا فرغ من صلاته قيل له: أتشرب أم تقرأ؟ قال: والله لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته. وأخبرني الحسين قال: حدّثنا هارون قال: حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن عمار الموصلي قال: حدّثنا عفيف بن سالم عن أيّوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى النبي (عليه السلام) عليه السلام يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سل واستفهم» . فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوّة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أأني لكائن معك في الجنّة؟ قال: «نعم» ثمّ قال النبي (عليه السلام) : «والذي نفسي بيده ليرى بياض الأسود في الجنّة مسيرة ألف عام» ، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال لا إله إلّا الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» . قال رجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟ قال: «إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله، قال: فتقوم النعمة من نعم الله سبحانه فيكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلّا أن يتطوّل «1» الله تعالى برحمته» قال: ثمّ نزلت هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ إلى قوله وَمُلْكاً كَبِيراً الآيات. قال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنّة.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 25 إلى 31]
قال النبي (عليه السلام) : «نعم» فاشتكى الحبشي حتى فاضت نفسه. فقال ابن عمر: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيده [81] «1» . إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا قال ابن عبّاس: متفرّقا آية بعد آية ولم ينزله جملة فلذلك قال (نَزَّلْنا) ... فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً يعني وكفورا. الألف صلة، وقال الفرّاء: أو معنى [....] «2» كقول الشاعر: لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ... وجد عجول أضلها ربع «3» أو وجد شيخ أضلّ ناقته ... يوم توافي الحجيج فاندفعوا أراد: ولا وجد شيخ. قال قتادة: الآثم: الكفور، نهى الله سبحانه وتعالى نبيّه عن طاعة أبو جهل لما فرضت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، وهو يومئذ بمكّة نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيت محمدا يصلي لوطأت على عنقه. فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وقال مقاتل: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ يعني من مشركي مكّة أنها تعني عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت ما صنعت من أجل النساء فقد علمت قريش أن بناتي من أجملها بنات فأنا أزوّجك بنتي وأسوقها إليك بغير مهر وأرجع عن هذا الأمر «4» . أَوْ كَفُوراً يعني الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن كنت صنعت من أجل المال فقد علمت قريش أني من أكثرهم مالا فأنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر، فأنزل الله سبحانه وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ [آثِماً] أنها تعني عتبة أَوْ كَفُوراً تعني ولا كفورا وهو الوليد بن المغيرة. [سورة الإنسان (76) : الآيات 25 الى 31] وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ تعني صلاتي العشاء وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا يعني التطوّع إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أمامهم وقدّامهم كقوله: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ «1» وقوله سبحانه: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ «2» . يَوْماً ثَقِيلًا وهو يوم القيامة، نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا. قوّينا وحكمنا. أَسْرَهُمْ قال مجاهد وقتادة ومقاتل: خلقهم، وهي رواية عطية عن ابن عباس يقال: رجل حسن الاسّر أي الخلق، وفرس شديد الأسّر، وقال أبو هريرة والربيع: مفاصلهم، وقال الحسن: أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب وروى عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ قال: الشرج وأصل الأسر الشكّ يقال: ما أحسن ما أسر قتبه أي شدّه، ومنه قولهم: خذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا: هو لك كلّه كأنهم أرادوا بعكة وشدة لم تفتح ولم تنقص منه. قال لبيد: ساهم الوجه شديد اسّره ... مغبط الحارك محبوك الكفل «3» وقال الأخطل: من كلّ مجتنب شديد أسره ... سلس القياد تخاله مختالا «4» وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا إِنَّ هذِهِ السورة تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي وسيلة بالطاعة. وَما تَشاؤُنَ. بالياء ابن كثير وأبو عمرو ومثله روى هشام عن أهل الشام، غيرهم بالتاء. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لأن الأمر إليه لا إليكم وفي أمره عند الله إلّا ما شاء الله، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ، وقرأ أبان بن عثمان والظالمون أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
سورة المرسلات
سورة المرسلات مكّية، وهي ثمان مائة وستة عشر حرفا، ومائة واحدى وثمانون كلمة، وخمسون آية أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن زيد العدل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا أبي عن مخالد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والمرسلات كتب أنه ليس من المشركين» [82] «1» . وروى الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود: قرأت وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن نسير «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 32] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً يعني الرياح بعضها بعضا كعرف الفرس، وقيل كثيرا. يقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه فأكثروا، وهذا معنى قول مجاهد وقتادة، ورواية أبي العبيد عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وقال أبو صالح ومقاتل: يعني الملائكة التي أرسلت بالمعروف اسم واحد من أمر الله ونهيه، وهي رواية مسروق عن ابن مسعود.
فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً يعني الرياح الشديدات الهبوب. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً يعني الرياح اللينة وقال أبو صالح هي المطرق. قال الحسن: هي الرياح يرسلها الله نشرا بين يدي رحمته اقسم الله بالرياح ثلاث مرات، مقاتل: هم الملائكة ينشرون الكتب. فَالْفارِقاتِ فَرْقاً قال ابن عباس وأبو صالح ومجاهد والضحاك: يعني الملائكة التي تفرّق بين الحقّ والباطل، وقال قتادة والحسن وابن كيسان: يعني آي القرآن فرّقت بين الحلال والحرام، وقيل: يعني السحابات الماطرة تشبيها بالناقة الفارق، وهي الحامل التي تجزع حين تضع، ونوق فراق. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً يعني الملائكة التي تنزل بالوحي نظيره قوله سبحانه: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ «1» . عُذْراً أَوْ نُذْراً يعني الأعذار والإنذار واختلف القرّاء فيهما فخففهما الأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي واختاره أبو عبيد قال: لأنهما في موضع مصدرين أنما هو الأعذار والإنذار وليس بجمع فيثقّلا، وثقلهما الحسن، وهي رواية الأعشى والجعفي عن أبي بكر عن عاصم، والوليد عن أهل الشام، وروح عن يعقوب الياقوت بتثقيل النذر وتخفيف العذر وهما لغتان، وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة عذرا ونذرا بالواو العاطفة ولم يجعلا ألف بينهما. إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ محي نورها، وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ شقت وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ قلعت من أماكنها، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ جمعت لميقات يوم معلوم، واختلف القراء فيه فقرأ ابو عمرو وقّتت بالواو وتشديد القاف وعلى الأصل، وقرأ أبو جعفر بالواو والتخفيف، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: أُقِتَتْ بالألف وتخفيف القاف، وقرأ الآخرون بالألف والتشديد وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم وكّدت واكّرت وورّخت الكتاب وأرّخته وودّشت من القوم وأرّشت ووشاح وأشاح وأكاف ووكاف ووسادة وأسادة، وقال النخعي: رعدت. لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي وقتت من الأجل وقيل: أخّرت لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ من الأمم المكذّبين في قديم الدهر ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب، وقرأ الأعرج نُتْبِعْهُمُ بالجزم وقرأ ابن مسعود سنتبعهم. كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وهو وقت الولادة فَقَدَرْنا قرأ عليّ والحسن
والسلمي وطلحة وقتادة وأبو إسحاق وأهل المدينة وأيوب بالتشديد من التقدير وهي اختيار الكسائي، وقرأ الباقون بالتخفيف من القدرة واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ويجوز أن يكون التشديد والتخفيف بمعنى واحد كقوله سبحانه وتعالى نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ «1» فهي بالتخفيف والتشديد، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً وعاء أَحْياءً وَأَمْواتاً تجمعهم أحياء على ظهرها فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها وقال [بنان الصفّار] : خرجنا في جبانة مع الشعبي فنظر إلى الجبانة فقال: هذه الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء. وأصل الكفت: الجمع والضمّ، وكانوا يسمّون بقيع الغرقد كفتة لأنه مقبرة تضمّ الموتى، ومثله قول النبي (عليه السلام) «خمروا آنيتكم وأوّكوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب وأطفئوا المصابيح واكفتوا صبيانكم فإنّ للشيطان انتشارا وخطفة» [83] «2» يعني بالليل، ويقال للأرض: كافتة. وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً عذبا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ يعني دخان جهنم إذا ارتفع أشعب، وقيل: أنها عنق يخرج من النار فينشعب ثلاث شعب فأمّا النور فيقف على رؤوس المؤمنين والدخان يقف على رؤس المنافقين واللهب الصافي يقف على رؤس الكافرين، وقال مقاتل: هو السرادق والظل من يحموم. لا ظَلِيلٍ لا كنين وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ إِنَّها يعني جهنم تَرْمِي بِشَرَرٍ، وهي ما تطاير من النار إذا التهبت واحدتها شررة كَالْقَصْرِ وقرأ عيسى بشرار وهي لغة تميم واحدها شرارة. كَالْقَصْرِ وقرأه العامّة بسكون الصاد، وقال ابن مسعود: يعني الحصون والمدائن وهو واحد القصر وهي رواية الوالي عن ابن عباس قال: كالقصر العظيم، وقال القرظي: إنّ على جهنم سورا فما خرج من وراء السور مما يرجع إليه في عظم القصر ولون النار. وروى سعيد عن عبد الرحمن بن عابس قال: سألت ابن عباس عن قوله سبحانه: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ قال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخره للشتاء فكنّا نسمّيها القصر، وقال مجاهد: هي حزم الشجر، وقال سعيد ابن جبير والضحاك: هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل تمرة وتمر وجمر وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس: كَالْقَصَرِ بفتح الصاد أراد أعناق النخل ، والقصرة العنق وجمعها قصر وقصرات، وقرأ سعيد بن جبير كَالْقِصَرِ بكسر القاف وفتح الصاد قال أبو حاتم: ولعله لغة ونظيرها في الكلام حاجة وحوج، كأنه ردّ الكناية إلى اللفظ.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 33 إلى 50]
[سورة المرسلات (77) : الآيات 33 الى 50] كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) كأنه جمالات قرأ ابن عباس جمالات بضم الجيم كأنها جمع جماله وهي الشيء المجمّل، وقرأ حمزة والكسائي وخلف جِمالَتٌ بكسر الجيم من غير ألف على جمع الجمل مثل حجر وحجارة، وقرأ يعقوب جُمالة بضم الجيم من غير ألف أراد الأشياء العظام المجموعة، وقرأ الباقون جِمالات بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: هي جبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال، صُفْرٌ جمع الأصفر يعني لون النار، وقال بعض أهل المعاني: أراد سودا، لأنّ في الخبر أن شرر نار جهنم سود كالقير، والعرب يسمي السود من الإبل صفرا، وقال الشاعر: تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفرا أولادها كالزبيب «1» أي سودا. وإنّما سمّيت سود الإبل صفرا لأنه يشوب سوادها بشيء من صفرة، كما قيل لبيض الظباء: أدم، لأن بيضها يعلوه كدرة. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ رفع عطف على قوله يُؤْذَنُ ... وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ قال أبو عثمان: أمسكتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب، وقال الحسن: وهي عذر لمن أعرض عن منعمه وجحده وكفر بنعمه. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ جمع الظل وقرأها الأعرج في ظلل على جمع الظلة وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ويقال لهم: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا في الدنيا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ مشركون مستخفون للعذاب، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا صلّوا لا يَرْكَعُونَ لا يصلّون، قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين
أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقالوا لا نحني فإنها مسبّة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» [84] «1» ، وقال ابن عباس: إنما يقال لهم: هذا يوم القيامة حين يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به، وقال أهل المعاني: ليس قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ تكرارا غير مفيد لأنه أراد بكلّ قول منه غير ما أراد بالقول الاخر كأنه ذكر شيئا ثم قال: ويل للمكذّبين بهذا والله أعلم.
سورة النبأ
سورة النبأ مكّية، وهي سبع مائة وسبعون حرفا، ومائة وثلاث وسبعون كلمة، وأربعون آية أخبرني ابن المعزي قال: أخبرنا ابن مطرّز قال: حدثنا ابن شريك قال: حدّثنا ابن يونس قال: حدّثنا سلام قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبيّ أمامة عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ عَمَّ يَتَساءَلُونَ سقاه الله سبحانه وتعالى برد الشراب يوم القيامة» [85] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 30] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) عَمَّ يَتَساءَلُونَ يعني عن أي شيء يتساءلون هؤلاء المشركين وذلك أنهم اختلفوا واختصموا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ قال مجاهد هو القرآن. دليله قوله سبحانه قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ «2» [الآية] وقال قتادة: هو البعث، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ فمصدّق ومكذّب كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وهذا وعيد لهم، وقال الضحاك كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني الكافرين، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ يعني المؤمنين، وقراءة العامة بالياء فيهما، وقرأ الحسن ومالك بن دينار بالتاء فيهما.
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أصنافا ذكورا وإناثا. وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً راحة لأبدانكم، والنائم مسبوت لا يعلم ولا يعقل كأنّه ميّت، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غطاء وغشاء يلبس كل شيء بسواده وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً سببا لمعاشكم والتصرّف في مصالحكم فسمّاه به كقول الشاعر: وأخو الهموم إذا الهموم تحضّرت ... [جنح] الظلام وساده لا يرقد «1» فجعل الوسادة هي التي لا ترقد والمعنى لصاحب الوسادة. وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً مضيئا منيرا وقّادا حارّا وهي الشمس. وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ قال مجاهد ومقاتل وقتادة: يعني الرياح التي تعصر السحاب، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومجازه على هذا التأويل بالمعصرات مِنَ بمعنى الباء كقوله سبحانه: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ «2» وكذلك كان عكرمة يقرأها وأنزلنا بالمعصرات وروى الأعمش عن المنهال عن ابن عمرو وعن قيس بن سكن قال: قال عبد الله في قوله: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً قال: بعث الله سبحانه الريح فحمل الماء من الماء فتدرّ كما تدر اللقحة «3» ثم يبعث الماء كأمثال العزالي فتضرب به الرياح فينزل متفرّقا «4» . قال المؤرّخ: المعصرات: ذوات الأعاصير، وقال أبو العالية والربيع والضحاك: هي السحاب التي تجلب المطر ولم تمطر كالمرأة المعصر، وهي التي دنا حيضها، قال أبو النجم: قد أعصرت أو قد دنا اعصارها. وهذه رواية الوالي عن ابن عباس. قال المبرّد: المعصرات الفاطرات، وقال ابن كيسان: المغيثات من قوله يَعْصِرُونَ وقال أبي بن كعب والحسن وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان: مِنَ الْمُعْصِراتِ أي من السموات. ماءً ثَجَّاجاً أي صبابا، وقال مجاهد: مدرارا، قتادة: متتابعا يتلوا بعضه بعضا، وقال ابن زيد: كثيرا. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً مجتمعه ملتفة بعضه ببعض وواحدها ألفّ في قول [نحاة] البصرة وليس بالقوى وفي قول الآخرين واحدها لف ولفيف وقيل: هو جمع الجمع يقال: جنّة لفا [وبنت] لف وجنان لف بضم اللام ثم تجمع اللف ألفافا.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً لما وعد الله سبحانه يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [ ... ] «1» ، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الكسائي قال: حدّثنا محمد بن عبد الجبار قال: أخبرنا محمد بن زهير عن محمد بن المهتدي عن حنظلة الدّوري عن أبيه عن [البزا] بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ: يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً فقال: «معاذ سألت عن عظيم من الأمر، ثم أرسل عينيه ثم قال: تحشرون عشرة أصناف من أمتي أشتاتا قد ميّزهم الله تعالى من جماعة المسلمين وبدّل صورهم فبعضهم على صور القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكبّين أرجلهم فوق ووجوههم أسفل يسحبون عليها، وبعضهم عمي يتردّدون، وبعضهم صُمٌّ بُكْمٌ ... لا يَعْقِلُونَ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلّاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يقذّرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلّبين على جذوع من نار، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف، وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس- يعني النّمام- وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، والمنكسين على وجوههم فأكلة الربا، والعمي من يجور في الحكم، والصمّ والبكم المعجبون بأعمالهم، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران، والمصلّبين على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، والذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ومنعوا حق الله سبحانه من أموالهم، والذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» [86] «2» . وَفُتِحَتِ السَّماءُ قرأ أهل الكوفة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد. فَكانَتْ أَبْواباً أي شقت لنزول الملائكة، وقيل: شقت حتى جعلت كالأبواب قطعا، وقيل: تنحلّ وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق وقيل: إنّ لكل عبد بابين في السماء: باب لعمله وباب لرزقه، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ عن وجه الأرض فَكانَتْ سَراباً كالسراب إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً طريقا وممرا فلا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار، وقال مقاتل: محبسا لِلطَّاغِينَ للكافرين مَآباً لابِثِينَ قرأه العامة بالألف وقرأ علقمة وحمزة: لبثين بغير ألف وهما لغتان فِيها أَحْقاباً جمع حقب والحقب جمع حقبة كقول متمم: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا «3»
واختلف العلماء في معنى الحقب فقال قوم: هو اسم للزمان والدّهر وليس له حدّ، وروى أبو الضحى عن ابن مسعود قال: لا يعلم عدد الأحقاب إلّا الله عزّ وجل، وقال آخرون: هو محدود. ثم اختلفوا في مبلغ مدّته فقال طارق بن عبد الرحمن: دعاني شيخ بين الصفا والمروة فإذا عنده كتاب عبد الله بن عمرو لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً ان الحقب أربعون سنة كلّ يوم منها ألف سنة، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد وابن حسن قالا: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا ابن المقري وأبو عبيد الله قالا: حدّثنا [محمد بن يحيى] العرني عن سفيان عن عمّار الدهني قال: قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري: ما يجدون في الحقب في كتاب الله المنزل قال: يجده في كتاب الله ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا لكل شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن الفتح قال: حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا زياد بن أبي يزيد قال: حدّثنا سليمان بن مسلم عن سليمان الحتمي عن نافع عن [ابن عمر] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكونوا فيها أحقابا، والحقب بضع وثمانين سنة، والسنة ثلاثمائة وستون ويوما، كل يوم ألف سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، فلا يتّكلنّ أحد على أن يخرج من النار» [87] «1» . وقال أبي بن كعب: بلغني أن الحقب ثلاثمائة سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما كلّ يوم ألف سنة، وقال الحسن: إنّ الله سبحانه لم يذكر شيئا إلّا وجعل له مدّة ينقطع إليها ولم يجعل لأهل النار مدّة بل قال: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً فو الله ما هو إلّا أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين فليس للأحقاب عدة إلّا الخلود في النار ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة كل يوم منها ألف سنة ممّا نعده، وقال مقاتل بن حيان: الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة، وقال وهذه الآية منسوخة فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً «2» يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل، وقال بعض العلماء مجاز الآية لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً: لا يذوقون في تلك الأحقاب إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً ثم يلبثون أحقابا يذوقون حرّ الحميم، والغساق من أنواع العذاب، فهو توقيت لأنواع العذاب لا بمكثهم في النار. لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً يشفيهم من الحر إلّا الغسّاق وهو الزمهرير، وقيل صديد أهل السعير، وقال الثمالي: دموعهم، وقال شهر بن حوشب: الغسّاق واد في النار فيه ثلاثمائة وثلاثون شعبا في كل شعب ثلاثمائة وثلاثون بيتا في كل بيت أربع زوايا في كلّ زاوية شجاع كأعظم ما خلقه الله سبحانه من خلقه في رأس كل شجاع سم.
وَلا شَراباً يرويهم من العطش، إِلَّا حَمِيماً وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حماد قال: حدّثنا محمد بن علي الحسن الشقيقي قال: سألت أبا معاذ النحوي الفضل بن خالد المروزي يقول في قوله سبحانه: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً قال: البرد: النوم، ومثله قال الكسائي وأبو عبيده وانشدوا فيه: بردت مراشفها عليّ فصدّني ... عنها وعن قبلاتها البرد «1» والعرب تقول: منع البرد البرد، يعني أذهب البرد النوم، قال الفراء: إنّ النوم ليبرّد صاحبه وإنّ العطشان لينام فيبرد غليله فلذلك سمي النوم بردا، قال الشاعر: وان شئت حرّمت النساء سواكم ... وان شئت لم أطعم نقاخا «2» ولا بردا «3» وقال الحسن وعطاء: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً أي روّحا وراحة. جَزاءً نصب على المصدر، مجازه: جازيناهم جزاء. وِفاقاً وافق أعمالهم وفاقا كما نقول: قاتل قتالا عن الأخفش، وقال الفراء: هو جمع وفق والوفق واللفق واحد، قال الربيع: جزاء بحسب أعمالهم، الضحاك: على قدر أعمالهم، مقاتل: وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار، الحسن وعكرمة: كانت أعمالهم سيئة فأثابهم الله بما يسوءهم. إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ يخافون حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً تكذيبا قال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذّب كذّابا، وخرّقت القميص خرّاقا، كل فعّلت فمصدرها فعّال في لغتهم مشدّد، قال: وقال لي إعرابي منهم: علي المروّة ستفتيني الحلاق أحب إليك أم القصاب وأنشدني بعض بني كلاب: لقد طال [ما ثبطتني] عن صحابي ... وعن حوج قضاؤها من شفائنا «4» وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا السنّي قال: أخبرني ابن منجويه قال: حدّثنا أبو داود الحراني قال: حدّثنا شعيب بن حيان قال: حدّثنا مهدي بن ميمون قال: حدّثنا وسمعت الحسن بن دينار سأل الحسن عن أشد آية في القرآن على أهل النار فقال الحسن: سألت أبا برزة الأسلمي فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» .
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 إلى 40]
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 40] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً فوزا ونجاة من النار الى الجنة، وقال ابن عباس والضحاك: متنزّها. حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ نواهد قد تكعبت ثديهنّ واحدتها كاعب، قال بشر بن أبي حازم: [وكم من حصان قد حوينا كريمة] ... ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر «1» أَتْراباً مستويات في السنّ وَكَأْساً دِهاقاً قال الحسن وابن عباس وقتادة وابن زيد: مترعة مملوة، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: متتابعة لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً تكذيبا وهي قراءة العامة، وخفّفه الكسائي وهي قراءة أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه ، وهما مصدران للتكذيب. وقال قوم: الكذاب بالتخفيف مصدر الكاذبة وقيل: هو الكذب، قال الأعشى: فصدقتها وكذبتها ... والمرء تنفعه كذابه وإنّما خففها هنا لأنها ليست بمقيّدة بفعل يصيّرها مصدرا له، وشدد قوله: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً لأن كذبوا يقيد الكذاب بالمصدر «2» . جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً كثيرا كافيا وافيا يقال: أحسبت فلانا أي أعطيته ما يكفيه حتى قال: حسبي. قال الشاعر: ونقفي وليد الحيّ إن كان جائعا ... ونحسبه إن كان ليس بجائع «3» أي يعطيه حتى يقول حسبي. وقيل: جزاء بقدر أعمالهم وقرأ أبو هاشم عَطاءً حِساباً بفتح الحاء وتشديد السين على وزن فعّال أي كفافا. قال الأصمعي: تقول العرب حسّبت الرجل بالتشديد إذا أكرمته، وأنشد: إذا أتاه ضيفه يحسّبه ... من حاقن «4» أو من صريح يحلبه «5»
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا الطهراني قال: أخبرنا يحيى بن الفضل قال: حدّثنا وهب بن عمر قال: أخبرنا هارون بن موسى عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس أنه قرأ (عطاء حسنا) بالنون. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ قرأ ابن مسعود والأشهب وأبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو سلام ويعقوب برفع الباء والنون، وقرأ ابن عامر وعيسى وعاصم كلاهما خفضا واختاره أبو حاتم، وقرأ ابن كثير ومحيض ويحيى وحمزة والكسائي رَبِّ خفضا والرحمنُ رفعا، واختاره أبو عبيد، وقال: هذه أعدلها عندي أن يخفض الأوّل منهما لقربه من قوله: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ فتكون نعتا له ونرفع الرحمنُ لبعده منه. لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً كلاما وقال الكلبي: شفاعة إلّا بإذنه. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ اختلفوا فيه، فأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خرجة قال: حدّثنا عبد الله بن العباس الطيالسي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا إبراهيم ابن طهمان عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال: أتى نفر من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح ما هو؟ قال: «هو جند من جند الله ليسوا بملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام ثم قرأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا الآية، قال: هؤلاء جند وهؤلاء جند» [88] «1» . وقال ابن عباس: هو من أعظم الملائكة خلقا، وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيب قال: حدّثنا ثابت أبو حمزة عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود قال: الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال وأعظم من الملائكة، وهو في السماء الرابعة تسبح كلّ يوم اثني عشر تسبيحة يخلق من كل تسبحه ملك يجيء يوم القيامة صفا وحده، وقال الشعبي والضحاك: هو جبريل، وروى الضحاك عن ابن عباس قال: إنّ عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل جبريل (عليه السلام) فيه كل فجر فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله سبحانه من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كلّ يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور في الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة، وقال وهب: إنّ جبريل (عليه السلام) واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه يخلق الله سبحانه وتعالى من كلّ رعدة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي الله منكّسوا رؤوسهم، فإذا أذن الله سبحانه لهم في الكلام قالوا: لا إله إلّا أنت وهو قوله سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا.
لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً يعني لا إله إلّا الله، وقال مجاهد: هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون، أبو صالح: خلق يشبهون الناس وليسوا، وقال الحسن وقتادة: هم بنو آدم، قال قتادة: وهذا مما كان يكتمه ابن عباس، وروى ابن مجاهد عن ابن عباس قال: الروح خلق من الله وصورهم على صور بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلّا ومعه واحد من الروح، عطية: هي أرواح الناس يقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد الأرواح الى الأجساد، وقال ابن زيد: كان أبي يقول: هو القرآن وقرأ وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «1» . يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال الشعبي: هما سماطا ربّ العالمين يوم القيامة سماطا من الروح وسماطا من الملائكة لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً قال: لا إله إلّا الله في الدنيا. ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً مرجعا وسبيلا إلى طاعته، نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يعني القيامة وقيل القتل ببدر. ْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً قال عبد الله بن عمر: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدّ الأديم وحشرت الدواب والبهائم والوحش ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص قال لها: كوني ترابا، فعند ذلك قُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً . قال مجاهد: يقاد يوم القيامة للمنقورة وللمنطوحة من الناطحة، وقال المقاتلان: إنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الوحوش والهوام والطير كلّ شيء غير الثقلين فيقول: من ربّكم فيقولون: الرحمن الرحيم، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى بعد ما يقضي بينهم حتّى يقتص للجماء من القرناء: أنا خلقتكم وسخّرتكم لبني آدم وكنتم مطيعين أيام حياتكم فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا ترابا فيكونون ترابا، فإذا التفت الكافر إلى شيء صار ترابا يتمنى فيقول: يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير رزقي كرزقه وكنت اليوم في الآخرة ترابا. قال عكرمة: بلغني أنّ السباع والوحوش والبهائم إذا رأين يوم القيامة بني آدم وما هم فيه من الغمّ والحزن قلن: الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنّة نرجو ولا نارا نخاف، وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا الحسن بن موسى قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الله قال: حدّثنا جعفر عن عبد الله بن ذكوان أبي الزياد قال: إذا قضي بين الناس وأمر أهل الجنة إلى الجنّة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ: عودوا ترابا فيعودون ترابا، فعند ذلك يقول الكافر حيث يراهم قد عادوا ترابا: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ، وبه قال ليث بن سليم: مؤمنوا الجن يعودون ترابا،
وقال عمر بن عبد العزيز: إن مؤمنين الجن حول الجنّة في ريض ورحاب وليسوا فيها. وسمعت أبا القاسم بن جبير يقول: رأيت في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من النار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والراحة والرحمة ورأى ما هو وذويه فيه من الشدّة والعذاب تمنّى أنه بمكان آدم فيقول حينئذ: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً. وقال أبو هريرة: فيقول التراب للكافر: لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي.
سورة النازعات
سورة النازعات مكيّة: وهي ستة وأربعون آية، ومائة وتسع وسبعون كلمة، وثلاثة وسبع مائة وخمسون حرفا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قال مسروق: هي الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم، وهي رواية أبي صالح وعطية عن ابن عباس، قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه: هي الملائكة تنزع أرواح الكافر والكفرة «1» ، وقال ابن مسعود: يريد أنفس الكفّار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كلّ شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين ثم يفرّقها ويردّدها في جسده بعد ما تنزع حتى إذا كادت تخرج ردّها في جسده فهذا عمله بالكفار، وقال مقاتل: هم [ملك الموت] وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السّفود الكثير الشعب من الصوف المبتل فتخرج نفسه كالغريق في الماء. سعيد بن جبير: نزعت أرواحهم ثم غرّقت ثم حرّقت ثم قذف بها في النار، وقال مجاهد هو الموت ينزع النفوس، السندي: هي النفس حين تغرق في الصدر، وقيل: يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنه يغرق، الحسن وقتادة وابن كيسان وأبو عبيدة والأخفش: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب، عطاء وعكرمة: هي القسيّ، وقيل: الغزاة، الرماة، ومجاز الآية: والنازعات إغراقا كما يغرق النازع في القوس إذا بلغ بها غاية المد [ ... ] «2» الذي عند النصل الملفوف عليه، ويقال لقشرة البيضة الداخلة غرقي، وأراد بالإغراق المبالغة في النزع وهو سابغ في جميع وجوه تأويلها.
وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً قال ابن عباس: يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلّ عنها وحكى الفرّاء هذا القول ثم قال: والذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت، وكأنما أنشط من عقال، وربطها نشطا، والرابط: الناشط، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته وأنت ناشط، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط. وعن ابن عباس أيضا: هي أنفس المؤمنين عند الموت، ينشط للخروج وذلك أنه ليس من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت فيرى فيها أشباها من أهله وأزواجه من الحور العين فهم يدعونه إليها، فنفسه إليهم نشيطة ان تخرج فتأتيهم، وقال علي ابن أبي طالب: هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافها بالكرب والغمّ ، وقال مجاهد: هو الموت ينشط نفس الإنسان، وقال السندي: حين ينشط من القدمين، عكرمة وعطا: هي الأدهان، قتادة والأخفش: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي تذهب، يقال: حمارنا ناشط ينشط من بلد إلى بلد أي يذهب، ويقال لبقر الوحش نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال الطرماح: وهل بحليف الخيل ممّن عهدته ... به غير أحدان النواشط روّع «1» والهموم تنشط بصاحبها، قال هميان بن قحافة: أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا «2» وقال الخليل: النشط والإنشاط «3» مدّك شيئا إلى نفسك حتى تنحل. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً قال علي: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين ، وقال الكلبي: هم الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء فأحيانا ينغمس وأحيانا يرتفع يسلونه سلا رفيقا ثم يدعونها حتى يستريح، وقال مجاهد وأبو صالح: هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كما يقال للفرس الجواد، سابح إذا أسرع في جريه، وقيل: هي خيل الغزاة. قال امرؤ القيس: مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار بالكديد المركل «4» وقال قتادة: هي النجوم والشمس والقمر. قال الله سبحانه: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «5» وقال عطا: هي السفن.
فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً قال مجاهد وأبو روق: سقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح، مقاتل: هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، ابن مسعود: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله ورحمته وكرامته، عطا: هي الخيل، قتادة: النجوم تسبق بعضها بعضا في المسير. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً يعني الملائكة. أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص قال: حدّثنا محمد بن خلف قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا الأعمش عن عمرو ابن مرّة عن عبد الرحمن بن سابط قال: يدبّر أمر الدنيا أربعة: جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل (عليهم السلام) ، فأما جبريل فوكّل بالرياح، وأما ميكائيل فوكّل بالقطر والنبات وأمّا ملك الموت فوكّل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني النفخة الأولى التي يتزلزل ويتحرّك لها كلّ شيء تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وهي النفخة الأخيرة وبينهما أربعون سنة، قال قتادة: هما صيحتان: أما الأولى فتميت كلّ شيء بإذن الله، وأمّا الأخرى فتحيي كلّ شيء بإذن الله، وقال مجاهد: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ يعني تزلزل الأرض والجبال تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ حين تنشق السماء ويحمل الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، عطا: الرَّاجِفَةُ: القيامة، والرَّادِفَةُ البعث، ابن زيد: الرَّاجِفَةُ: الموت، والرَّادِفَةُ: الساعة، وأصل: الراجفة: الصوت والحركة ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها، وكلّ شيء ولى شيئا وتبعه فقد ردفه. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال: حدّثنا محمد بن هارون الحضرمي قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: حدّثنا قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن عبد الله ابن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيّ بن كعب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: «يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله جاءت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه» [89] «1» . واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعض نحاة الكوفة: جوابه مضمر مجازه: لتبعثن ولتحاسبن، وقال بعض نحاة البصرة: هو قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ... وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ خائفة، مجاهد: وجلة، السدي: زائلة عن أماكنها، نظيره إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ «2» ، المؤرّخ: قلقة، قطرب: مستوفرة، يمان: غير هادئة ولا ساكنة، أبو
عمرو بن العلا: مرتكضة، المبرد: مضطربة من وجيف الحركات يقال: وجف القلب ووجب فهو يجف ويجب وجوفا ووجيفا ووجوبا ووجيبا. أَبْصارُها خاشِعَةٌ يَقُولُونَ يعني هؤلاء المكذّبين للبعث من مشركي مكّة إذا قيل لهم: إنكم مبعوثون بعد الموت. إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أي إلى أوّل الحال وابتداء الأمر فراجعون أحياء كما كنّا قبل حياتنا وهو من قول العرب: رجع فلان على حافرته إذا أرجع من حيث جاء، وقال الشاعر: أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار «1» ويقال: البعد عند الحافر وعند الحافرة أي في العاجل عند ابتداء الأمر وأول سومه، والتقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة أي عند أول كلمة. أخبرنا أبو بكر الجمشادي قال: أخبرنا أبو بكر القطيعي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدّثنا عمر بن مرزوق قال: أخبرنا عمران القطان قال: سمعت الحسن يقول: إنّا لمردودون إلى الدنيا فنصير أحياء كما كنا، قال الشاعر: آليت لا أنساكم فاعلموا ... حتى يرد الناس في الحافرة «2» وقال بعضهم: الحافرة الأرض التي فيها تحفر قبورهم فسمّيت حافرة وهي بمعنى المحفورة كقوله سبحانه: ماءٍ دافِقٍ «3» وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «4» ومعنى الآية إنّا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقا جديدا ثم مردودون في قبورنا أمواتا، وهذا قول مجاهد والخليل بن أحمد، وقيل: سمّيت الأرض حافرة، لأنها مستقر الحوافر كما سمي القدم أرضا، لأنها على الأرض ومجاز الآية: نرد فنمشي على أقدامنا، وهذا معنى قول قتادة، وقال ابن زيد: الحافرة النار، وقرأ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ قال: هي اسم من أسماء النار وما أكثر أسمائها. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قرأ أهل الكوفة وأيوب ناخرة بالألف، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وابن الزبير وابن مسعود وأصحابه، واختاره الفراء وابن جرير لوفاق رؤوس الآي، وقرأ الباقون بجرة بغير الألف، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال أبو عبيد إنما اخترناه لحجتين: إحداهما: أن الجمهور الأعظم من الناس عليها، منهم أهل تهامة والحجاز والشام والبصرة، والثانية: إنّا قد نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 إلى 46]
فوجدناها كلّها العظام النخرة، ولم أسمع في شيء منها الناخرة، وكان أبو عمرو يحتج بحجة ثالثة قال: إنّما يكون تناخره إلى تنخرها، ولم يفعل، وهما لغتان في قول أكثر أهل اللسان مثل: الطمع والطامع والبخل والباخل والفره والفاره والجذر والجاذر، وفرّق بينهما فقالوا: النخرة: البالية، والناخرة: المجوّفة التي تمرّ فيها الريح فتخرّ أي تصوّت. قالُوا يعني المنكرين تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ رجعة غابنة قال الله سبحانه: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ صيحة ونفخة واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ يعني وجه الأرض صاروا على ظهر الأرض بعد ما كانوا في جوفها، والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، قال أئمة أهل اللغة تراهم سمّوا ذلك بها [لأنّ فيها نوم الحيوان] سهّرهم فوصف بصفة ما فيه، واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية بن أبي الصلت: وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به لهم مقيم «1» أي لهم البر والبحر، وقال امرؤ القيس: ولاقيتم بعده غبّها ... فضاقت عليكم به الساهرة وقال ابو ذؤيب: يرتدن ساهرة كأن حميمها ... وعميمها أسداف ليل مظلم «2» وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن لمهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا جهاد عن أبي سنان عن أبي المنية فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ جبل عند البيت المقدّس، وروى الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ قال الصقع الذي بين جبل حسان وجبل أريحا يمدّه الله كيف يشاء، وقال سفيان: هي أرض الشام، وقال قتادة: هي جهنم. [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 46] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى قرأ أهل الحجاز وأيوب ويعقوب بتشديد الزاي أي تتزكّى ومثله روى العباس عن أبي عمرو، غيرهم بتخفيفه ومعناه تسلّم وتصلح وتطهّر. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: أخبرنا ابن زنجويه قال: حدّثنا مسلمة قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي عن عبيد الله بن أبي بكر قال: حدّثني صخر بن جويرية قال: لما بعث الله تعالى موسى (عليه السلام) إلى فرعون فقال له: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى إلى فَتَخْشى ولن يفعل. قال موسى (عليه السلام) : يا رب وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لن يفعل؟ فأوحى الله تعالى إليه أن أمض إلى من أمرت به فإن في السماء اثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر فلم يبلغوه ولم يدركوه. فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى وهي العصا واليد البيضاء. فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ تولى وأعرض عن الإيمان. يَسْعى يعمل بالفساد فَحَشَرَ فجمع السحرة وقومه فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى يقول ليس ربّ فوقي، وقيل: أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربّها وربكم، وقيل: أراد القادة والسادة فَأَخَذَهُ اللَّهُ فعاقبه الله نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى يعني في الدنيا والآخرة، الأولى بالغرق وفي الآخرة بالنار، وقيل: نكال كلمته الأولى وهي قوله سبحانه ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي وكلمته الآخرة هي قوله أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وكان بينهما أربعون سنة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى أَأَنْتُمْ أيها المنكرون للبعث أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ إن الذي قدر على خلق السماء قادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «1» . بَناها رَفَعَ سَمْكَها سقفها، قال الفراء: كل شيء حمل شيئا من البناء وغيره فهو سمك وبناء وسموك فَسَوَّاها بلا شطور ولا فطور وَأَغْطَشَ أظلم لَيْلَها والغطش أشد الظلمة ورجل أغطش أي أعمى وَأَخْرَجَ ضُحاها أبرز وأظهر نهارها ونوره. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها اختلفوا في معنى الآية، فقال ابن عباس: خلق الله سبحانه
الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، ثم دحا الأرض بعد ذلك أي بسطها، قال ابن عباس وعبد الله بن عمرو: خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام فدحيت الأرض من تحت البيت، وقيل معناه: والأرض مع ذلك دحاها كما يقال للرجل: أنت أحمق وأنت بعد هذا لئيم الحسب، أي مع هذا، قال الله عزّ وجل: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «1» أي مع ذلك، وقال الشاعر: فقلت لها عني إليك فإنني ... حرام وإني بعد ذاك لبيب «2» يعني مع ذلك. ودليل هذا التأويل قراءة مجاهد والأرض عند ذلك دحاها وقيل بعد بمعنى قبل كقوله سبحانه: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «3» أي من قبل الذكر وهو القرآن، وقال الهذلي: حملت الهي بعد عروة إذا نجا خراش وبعض الشراهون من بعض زعموا أن خراشا نجا قبل عروة. وقراءة العامة وَالْأَرْضَ بالنصب، وقرأ الحسن والأرض رفعها بالابتداء الرجوع الهاء وكلا الوجهين سائغان في عائد الذكر، والدّحو البسط والمدّ، ومنه أدحي النعامة لأنها تدحوه بصّدرها، يقال: دحا يدحوا دحوا ودحا يدحا دحيا لغتان مثل قولهم طغى يطغو أو يطغي وصغا يصغو ويصغي، ومحا يمحو ويمحي ولحي العود يلحوا أو يلحي، فمن قال: يدحو قال دحوت، ومن قال يدحا قال: دحيت. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها قال القتيبي: أنظر كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنعام من العشب والشجر والحبّ والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح، لأنّ النار من العيدان والملح من الماء. وَالْجِبالَ أَرْساها قراءة العامة بالنصب وقرأ عمرو بن عبيد بالرفع. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى وهي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كلّ هائلة من الأمور فتغمر ما سواها بعظم هولها أي يغلب، والطامة عند العرب الناهية التي لا تستطاع، وإنّما أخرت من قولهم طمّ الفرس طميمها إذا استفرغ جهده الجري. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا هناد ابن السهى قال: حدّثنا أبو أسامة عن ملك بن مغول عن القاسم الهمداني فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى قال الحسن: يسوق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى عمل في الدنيا من خير أو شر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها متى ظهورها وثبوتها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها علمها عند الله ولست من علمها في شيء قالت عائشة: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآيات. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها قراءة العامة بالإضافة وقرأ أبو جعفر وابن محيض منذر بالتنوين، ومثله روى العباس عن أبي عمرو. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا قيل: في قبورهم، إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها قال الفراء: ليس للغاشية ضحى إنّما الضحى لصدر النهار ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن تقولوا أتتك العشية أو عداتها إنما معناه آخر يوم أو أوّله قال وأنشد بعض بني عقيل: نحن صبّحنا عامرا في دارها ... جردا تعاطى طرفي نهارها «1» عشية الهلال أو سرارها. بمعني عشية الهلال أو عشية سرار العشية.
سورة عبس
سورة عبس مكيّة وهي إحدى وأربعون آية، ومائة وثلاثون كلمة، وخمس مائة وثلاثة وثلاثون حرفا أخبرنا ابن المقري قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدّثنا ابن شريك قال: حدّثنا ابن يونس قال: حدّثنا سلام قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة عَبَسَ وَتَوَلَّى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» [90] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 32] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) عَبَسَ كلح. وَتَوَلَّى وأعرض عنه بوجهه أَنْ لأن جاءَهُ الْأَعْمى وهو ابن مكتوم واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبيا وأمية ابني خلف ويدعوهم إلى الله سبحانه ويرجوا إسلامهم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرئني وعلّمني مما علّمك الله، فجعل يناديه ويكرّر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه وأقبل على القوم يكلّمهم، فأنزل الله
سبحانه هذه الآيات، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه وإذا رآه قال: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة» [91] «1» واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما قال أنس بن مالك: فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء ، قال ابن زيد كان يقال: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الوحي لكتم هذا. وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي يتطهّر من ذنوبه ويتّعظ ويصلح، وقال ابن زيد: يسلم. أَوْ يَذَّكَّرُ يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى الموعظة، وقراءة العامة فَتَنْفَعُهُ بالرفع نسقا على قوله يَزَّكَّى ويَذَّكَّرُ، وقرأ عاصم في أكثر الروايات بالنصب على جواب لعل بالفاء. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى اثرى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى تتعرّض وتصغي إلى كلامه قال الراعي: تَصَدَّى لوضّاح كان جبينه سراج الدجى تجبى إليه الأساور، وقرأ أهل الحجاز وأيوب تصّدى بتشديد الصاد على معنى يتصدى، وقرأ الباقون بالتخفيف على الحذف. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى أن لا يسلم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يمشي يعني الأعمى وَهُوَ يَخْشى الله سبحانه فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى تعرض وتتغافل وتتشاغل بغيره كَلَّا ردع وزجر أي لا تفعل مثلها بعدها فليس الأمر كما فعلت من إقبالك على الغني الكافر وإعراضك [عن] «2» الفقير المؤمن. إِنَّها يعني هذه الموعظة، وقيل: هذه السورة، وقال مقاتل: آيات القرآن تَذْكِرَةٌ موعظة وتبصرة فَمَنْ شاءَ من عباد الله ذَكَرَهُ اتّعظ به، وقال مقاتل: فمن شاء الله ذكّره، أي فهّمه واتعظ به إذا شاء الله منه ذلك وذكّره وفهمه، والهاء في قوله: ذَكَرَهُ راجعة إلى القرآن والتنزيل والوحي أو الوعظ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ يعني اللوح المحفوظ، وقيل: كتب الأنبياء (عليهم السلام) ، دليله قوله سبحانه: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى «3» . مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر عند الله مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال ابن عباس ومجاهد: كتبة وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر، ويقال: سفرت أي كتبت ومنه قيل للكتاب سفر، وجمعه أسفار، ويقال للورّاق سفّرا بلغة العبرانية وقال قتادة: هم القرّاء، وقال الباقون: هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم للصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم، قال الشاعر:
فما ادع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغير أب نسيب «1» وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا الصلت بن مسعود قال: حدّثنا جعفر بن سلمان قال: حدّثنا عبد الصمد بن معقل قال: سمعت عمّي وهب بن منبّه بِأَيْدِي سَفَرَةٍ قال: هم أصحاب محمد. كِرامٍ بَرَرَةٍ جمع بار وبرّ مثل كافر وكفرة وساحر وسحرة. قُتِلَ الْإِنْسانُ لعن الكافر سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز يقول: قال ابن عطا: منع الإنسان عن طريق الخيرات بجهله بطلب رشده وسكونه إلى ما وعد الله له، قال مقاتل: نزلت في عتبة بن أبي لهب ما أَكْفَرَهُ بالله وأنعمه مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده على طريق التعجّب، وقال الكلبي ومقاتل: هو (ما) الاستفهام تعني أي شيء يحمله على الكفر. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي طريق خروجه من بطن أمّه، وقال الحسن ومجاهد: يعني طريق الحق والباطل بيّن له ذلك وسهل له العمل به، دليله قوله سبحانه: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «2» وقال أبو بكر بن طاهر: يسّر على كل أحد ما خلقه له وقدّر عليه، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له» [92] «3» . ثُمَّ أَماتَهُ قبض روحه فَأَقْبَرَهُ صيّره بحيث يقبر ويدفن يقال: قبرت الميت، إذا دفنته، وأقبره الله أي صيّره بحيث يقبر وجعله ذا قبر ويقول العرب: بترت ذنب البعير والله أبتره، وعضبت قرن الثور والله أعضبه، وطردت فلانا والله أطرده أي صيّره طريدا، وقال الفراء: معناه جعله مقبورا، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير ولا ممن يلقى في النواويس، فالقبر مما أكرم به المسلم، وقال أبو عبيدة فَأَقْبَرَهُ أي أمر بأن يقبر، قال: وقالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحا فقال: دونكموه. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أحياه بعد موته. كَلَّا ردّ عليه أي ليس الأمر كما تقول ونظر هذا الكافر، وقال الحسن: حتما. لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ أي لم يفعل ما أمره به ربّه ولم يؤدّ ما فرض عليه فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ كيف قدر ربّه ودبّره وليكون له آية وعبرة، وقال مجاهد: إلى مدخله ومخرجه. أخبرنا ابن فتحويه قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا عبد الله قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا
أحمد بن عبد الملك قال: حدّثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان عن الضحاك بن سفيان الكلابي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ضحاك ما طعامك؟» قال: يا رسول الله اللحم واللبن، قال: «ثم يصير إلى ماذا؟» قال: إلى ما قد علمت. قال: «قال الله سبحانه وتعالى: ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا» [93] «1» . أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا سفيان عن يونس عن عبيد عن الحسن عن عتيّ عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مطعم ابن آدم جعل مثلا للدنيا وان قزحه «2» وملحه فانظر إلى ما يصير» [94] . وأخبرني ابن فنحويه قال: حدّثنا ابن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا سهل بن عامر قال: حدّثنا عمر بن سليمان عن ابن الوليد قال: سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر إلى ما يخرج منه، قال: يأتيه الملك فيقول انظر إلى ما بخلت به إلى ما صار؟ «3» أَنَّا قرأ الكوفيون بفتح الألف على نية تكرير الخافض، مجازه: ولينظر إلى أنّا، غيرهم بالكسر على الاستئناف «4» . صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني الغيث ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا بالنبات فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً قال ابن عباس والضحاك: يعني الرطبة، وأهل مكة يسمون القتّ القضيب، قال ثعلب: سمي بذلك لأنه يقضب في كل أيام أي يقطع، وقال الحسن: القضب العلف. وَزَيْتُوناً وهو الذي منه الزيت وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً غلاظ الأشجار واحدها أغلب ومنه قيل لغليظ الرقبة أغلب، وقال مجاهد: ملتفة، ابن عباس: طوالا، قتادة: الغلب النخل الكرام، عكرمة: عظام الأوساط، ابن زيد: عظام الجذوع والرقاب. وَفاكِهَةً وَأَبًّا يعني الكلاء والمرعى، وقال الحسن: هو الحشيش وما تأكله الدواب ولا تأكله الناس، قتادة: أما الفاكهة فلكم وأما الأب فلأنعامكم، أبو رزين: النبات، يدل عليه ما روى ابن جبير عن ابن عباس قال: ما أنبتت الأرض مما تأكل النَّاسُ وَالْأَنْعامُ. علي بن أبي طلحة عنه: الأبّ: الثمار الرطبة. الضحّاك: هو التبن. عكرمة: الفاكهة: ما يأكل الناس، والأب: ما يأكل الدواب.
[سورة عبس (80) : الآيات 33 إلى 42]
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا محمد بن عبيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي إن أبا بكر سئل عن قوله وَفاكِهَةً وَأَبًّا فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وأخبرنا ابن حمدون قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال: أخبرنا أبي عن صالح عن ابن شاب عن أنس بن مالك أخبره أنه سمع هذه الآية ثم قال: كلّ هذا قد عرّفنا فما الأب ثم رفض عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكليف وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال: اتبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه. مَتاعاً لَكُمْ يعني الفاكهة وَلِأَنْعامِكُمْ يعني العشب. [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يعني صيحة القيامة، سمّيت بذلك لأنها تصخّ الأسماع أي تبالغ في إسماعها حتى كاد تصمّها. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه وقيل: حذرا من مطالبتهم إيّاه لما بينه وبينهم من التبعات والمظالم، وقيل: لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه من الله شيئا. سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت عبد الله بن طاهر الأبهري يقول في هذه الآية: يفر منهم إذا ظهر له عجزهم وقلّة حيلتهم إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد سوى ربّه الذي لا يعجزه شيء، ويمكن من فسحة التوكّل واستراح في ظل التفويض. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلّد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرني شيخ لنا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم وأول من يفر من أمه إبراهيم وأول من يفر من ابنه نوح، وأول من يفر من أخيه هابيل بن آدم، وأول من يفر من صاحبته نوح ثم لوط، ثم تلا هذه الآية يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وقال يروون أن هذه الآية نزلت فيهم. وأخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال: أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن
خالد قال: حدّثنا أبو حنيفة محمد بن عمرو قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله سبحانه يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ قال: يفرّ هابيل من قابيل وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، قال: يفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه وإبراهيم من أبيه وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، قال: لوط من صاحبته ونوح من ابنه. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يشغله عن شأن غيره قال خفاف. ستغنيك حرب بني مالك ... عن الفحش والجهل في المحفل قال الفراء: وقرأ بعض القراء وهو ابن محيض (بعينه) وهو شاذ. أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن قال: حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا ابن أبي أوس قال: حدّثنا أبي عن محمد بن عياش عن عطاء بن بشار عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يبعث الناس حفاة عراة عزلا قد ألجمهم العرق، وبلغ شحوم الآذان» . فقلت يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال: «قد شغل الناس لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» [95] «1» . وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مشرقة مضيئة، يقال: أسفر الصبح إذا أضاء ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ فرحة. أخبرنا الحسين قال: حدّثنا أبو علي الحسين بن أحمد الفامي قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال: حدّثنا يحيى بن معين قال: أخبرنا إسحاق بن الأشعث عن شمر بن عطية عن عطاء في قول الله سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ قال: من طول ما اغبرت في سبيل الله. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار، ذكر أن البهائم التي يصيّرها الله سبحانه ترابا بعد القضاء بينها حوّل ذلك التراب في وجوه الكفرة تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ظلمة وكآبة وكسوف وسواد، قال ابن عباس: يغشاها ذلّة، قال ابن زيد: الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض أُولئِكَ الذين يصنع بهم هذا هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.
سورة التكوير
سورة التكوير مكيّة وهي تسع وعشرون آية، ومائة وأربع كلمات، وخمس مائة وثلاثون حرفا حدّثنا الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخي إملاء قال: أخبرنا أبو الوفاء المؤمّل بن عيسى الماسرخي قال: حدّثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدّثنا إبراهيم بن خالد قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله بن القاص قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد الصناعي يقول: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» [96] «1» . وأخبرني سعيد بن محمد قال: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد عن مسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أعاذه الله سبحانه وتعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته» [97] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أظلمت، عطية عنه: ذهبت، مجاهد: اضمحلت، قتادة: ذهب ضوؤها، سعيد بن جبير: عوّرت وهي بالفارسية كوريكرد. أبو صالح: نكست، وعنه أيضا: ألقيت، يقال: طعنه فكوّره، أي: ألقاه، ربيع بن هيثم: رمي بها. واصل التكوّر في كلام العرب جمع بعض الشيء إلى بعض كتكوير العمامة، وهو لفّها على الرأس، وتكوير الكارة من النبات، وهو جمع بعضها إلى بعض ولفّها، فمعنى
قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ: جمع بعضها إلى بعض، ثم لف فرمي بها وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوئها، دليله ونظيره قوله سبحانه وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ «1» . وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي تناثرت من السماء فتساقطت على الأرض ويقال: انكدر الطائر أي سقط عن عشّه. قال العجاج: أبصر ضربان فضاء فانكدر «2» . وانكدر القوم إذا جاءوا أرسالا حتى انصبوا عليهم «3» ، قال ذو الرمّة: فانصاع جانبه الوحشي وانكدرت ... يلجبن لا يأتلي المطلوب والطّلب «4» ابن عباس: تغيّرت. وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا وَإِذَا الْعِشارُ وهي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر واحدتها عشراء، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزّها عليهم. عُطِّلَتْ سيّبت وأهملت تركها أربابها وكانوا [....] «5» لأذنابها فلم تركب ولم تحلب، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها «6» . لإتيان ما يشغلهم عنها. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. أخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن حبيب قال: حدّثنا أبو العباس البرتي قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قال: حشرها موتها، وقال ابن عباس: حشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة، وقال أبيّ بن كعب وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي اختلطت. قتادة: جمعت، وقيل: بعثت ليقضي الله [بينها] «7» . وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قرأ أهل مكّة والبصرة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد، واختلفوا في معناه فقال ابن زيد وشمر بن عطيّة وسفيان ووهب: أوقدت فصارت نارا.
قال ابن عباس: يكوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر فيبعث عليها ريحا دبورا فينفخه حتى يصير نارا. وقال مجاهد ومقاتل والضحّاك: يعني فجر بعضها في بعض العذب والملح فصارت البحور كلّها بحرا واحدا. قال الحلبي: ملئت، ربيع بن حيثم: فاضبّت، الحسن: يبست، قتادة: ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة، وقتل: صارت مياهها بحرا واحد له من الحميم لأهل النار. وأخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا الحسن بن الحريث قال: حدّثنا الفضل موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: حدّثني أبيّ بن كعب قال: ستّ آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فجردت واضطربت واحترقت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش وماج بعضهم في بعض فذلك قوله سبحانه وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ قال: اختلطت وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قال: أهملها أهعلها وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال: قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر فإذا هي نار تأجج. قال: فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة العليا، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم «1» . وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أخبرنا الحسن قال: أخبرنا السني قال: أخبرنا أبو يعلي قال: حدّثنا محمد بن بكار قال: حدّثنا الوليد بن أبي نور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: [الضرباء] كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله» [98] «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن خالد قال: حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: حدّثنا إسماعيل عن سماك بن حرب إنّه سمع النعمان بن بشير يقول: قال عمر بن الخطاب: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال: الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح، قال ابن عباس: ذلك حتى يكون الناس أَزْواجاً ثَلاثَةً، وقال الحسن وقتادة: ألحق كلّ امرئ بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى، الربيع بن خيثم يحشر المرء مع صاحب عمله: مقاتل: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين نظيرها احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ «3» ، وقيل: زوجت النفوس بأعمالها.
وأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا حمد بن الأزهر قال: حدّثنا أسباط عن أبيه عن عكرمه في قوله سبحانه: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال زوّجت الأرواح في الأجساد. وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ وهي الجارية المقتولة المدفونة حيّة سمّيت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها أي يثقلها حتى تموت، قالوا: وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى الإبل والغنم في البادية وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال أبوها لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذا البئر فيدفعها من خلفها في البئر لم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض، فذلك قوله سبحانه وتعالى أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ «1» وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاما حبسته، وكانت طوائف من العرب يفعلون ذلك وفيه يقول قائلهم: سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن رميت «2» وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاب الله تعالى ذلك عليهم وأوعدهم. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان أن قال: حدّثنا الفراتي قال: حدّثنا محمد بن مهدي الأبلي ويحيى بن موسى قالا: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس عن سماك ابن حرب عن النعمان بن بشير قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في قول الله سبحانه: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وأدت ثمان بنات في الجاهلية، قال: «فأعتق عن كلّ واحدة منهم رقبة» . قال: يا رسول الله إني صاحب إبل. قال: «فانحر عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت» [99] «3» . سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ قراءة العامة على الفعل المجهول فيهما، ولها وجهان: أحدهما: سُئِلَتْ هي فقيل لها: بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وبأي فجور قتلت؟ كما يقال: قال عبد الله إنه ذاهب وإني ذاهب، وقال عبد الله بأي ذنب ضربت وبأي ذنب ضرب، كلاهما سائغ جائز، والآخر: سئل عنها الذين وأدوها كأنّك قلت: طلبت منهم فقيل: أين أولادكم وبأي ذنب قتلتموهم.
[سورة التكوير (81) : الآيات 11 إلى 29]
وأخبرنا الحسن بن محمد بن عبد الله المقرئ قال: أخبرنا البغوي ببغداد قال: حدّثنا ابن أبي شيبة قال: حدّثنا زياد بن أيوب دلويه قال: حدّثنا هشام عن رجل ذكروا أنه هارون، قال زياد: ولم اسمعه أنا من هاشم عن جابر بن زيد أنه كان يقرأ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ومثله قرأ أبو الضحى ومسلم بن صبح. وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قرأ أهل المدينة والشام والبصرة إلّا أبا عمرو بالتخفيف غيرهم بالتشديد لقوله سبحانه صُحُفاً مُنَشَّرَةً «1» . أخبرني الحسين قال: حدّثنا هارون قال: حدّثنا اليسيري قال: حدّثنا سعيد بن سليمان عن عبد الحمد بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن أبي موسى عن عطاء بن بشار عن أم سلمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة» قالت يا رسول الله كيف بالنساء؟ قال: «شغل الناس يا أم سلمة» قالت: وما شغلهم قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل» [100] «2» . [سورة التكوير (81) : الآيات 11 الى 29] وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ أي فعلت ونزعت وجذبت عن أماكنها ثم طويت، وفي قراءة عبد الله: قشطت بالقاف وهما لغتان، والقاف والكاف في كلام العرب يتعاقبان مخرجيهما كما يقال: الكافور والقافور والقف والكف. وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ قرأ أهل المدينة بالتشديد غيرهم بالتخفيف واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنها واحدة واختلف فيه بن عاصم وبن عامر، ومعناه: أوقدت، قال قتادة: سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قرّبت لأهلها نظيرها قوله: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ «3» عَلِمَتْ عند ذلك نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ من خير أو شرّ وهو جواب لقوله: إِذَا الشَّمْسُ وما بعدها كما
يقال: إذا قام زيد قعد عمر، وقال ابن عباس في قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله: عَلِمَتْ: اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة. فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ قال قوم: هي النجوم الخمسة الذراري السيارة تخنس في مجارتها فترجع ورائها ويكنس في وقت اختفائها غروبها كما يكنس الظباء في مغارها، وقال قتادة: هي النجوم تبدوا بالليل وتخفى بالنهار فلا ترى ودليل هذا التأويل ما روى شعبة عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا من مراد قال لعلي: ما الخنس الْجَوارِ الْكُنَّسِ؟ قال: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها، وهي بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري ، قال ابن زيد: معنى الخنس: أنها تخنس أي تتأخر عن مطالعها كل سنة لها في كل عام تأخر يتأخره عن تعجيل ذلك الطلوع يخنس عنه والكنس يكنسن بالنهار فلا ترى. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن النواب قال: حدّثنا رضوان بن أحمد بن عبد الجبار قال: حدّثنا أبو معونة عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله في قوله سبحانه: الْجَوارِ الْكُنَّسِ قال: هي بقر الوحش، وإليه ذهب إبراهيم وجابر بن زيد وقال سعيد بن جبير: هي الظباء وهي رواية العوفي عن ابن عباس. وأصل الخنس الرجوع إلى وراء، والكنوس أن يأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي يأوي إليها الوحش قال الأعشى: فلما لحقنا الحي أتلع أنس ... كما أتلعت تحت المكانس ربرب «1» ويقال لها الكنائس أيضا، قال طرفه بن العبد: كأن كناسي ضالة يكنفانها ... وأطرقسي تحت صلب مؤيد «2» وقال أوس بن حجر: ألم تر أن الله أنزل مزنه ... وعفر الظباء في الكناس تقمع «3» وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ قال الحسن: أقبل بظلامه، وقال الآخرون: أدبر، يقول العرب: عسعس الليل وسعسع إذا أدبر ولم يبق منه إلّا اليسير، قال علقمة بن فرط: حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا «4» وقال رؤبة:
يا هند ما أسرع ما تسعسعا ... من بعد أن كان فتى سرعرعا «1» من بعد إن كان فتى سرعرعا. وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أقبل وأضاء وبدأ أوله وقيل: أمتد وارتفع. إِنَّهُ يعني القرآن لَقَوْلُ لتنزيل رَسُولٍ كَرِيمٍ وهو جبريل (عليه السلام) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ في السماء يطيعه الملائكة أَمِينٍ على الوحي وَما صاحِبُكُمْ محمد بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ يعني جبريل على صورته بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق الذي يجيء منه النهار، قاله مجاهد وقتادة. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد قال: حدّثنا ابن علويه قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشر قال: حدّثنا ابن جريح عن عكرمة، ومقاتل عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «إني أحبّ أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء» قال: لن تقوى على ذلك، قال: «بلى» قال: فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال: «بالأبطح» قال: لا يسعني قال: «فبمنى» قال: لا يسعني قال: «فبعرفات» [101] «2» قال: ذاك بالحرى أن يسعني، فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو بجبريل (عليه السلام) قد أقبل من جبال عرفات بخشخشه وكلكله قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجله في الأرض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خرّ مغشيا عليه فتحوّل جبريل في صورته فضمّه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في النجوم السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وإنّه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله عزّ وجل حتى يصير مثل الوضع- يعني العصفور- حتى ما يحمل عرش ربك إلّا عظمته. وَما هُوَ يعني محمد صلى الله عليه وسلم. عَلَى الْغَيْبِ أي الوحي وخبر السماء وما اطّلع عليه من علم الغيب بظنين قرأ زيد بن ثابت والحسن وابن عمرو والأشهب وعاصم والأعمش وحمزة وأهل المدينة والشام بالضاد، وكذلك في حرف أبيّ بن كعب ومصحفه، وهي قراءة ابن عباس برواية مجاهد واختيار أبي حاتم ومعناه: يبخل يقول: [يأتيه] علم الغيب وهو منقوش فيه فلا يبخل به عليكم بل يعلّمكم ويخبركم به، يقول العرب: ضننت بالشيء بكسر النون أضن به ضنا وضنانة فأنا ضنين، أي بخيل، قال الشاعر: أجود بمضنون التلاد وانني ... بسرك عمن سالني لضنين «3» وقرأ الباقون بالظاء وكذلك هو في حرف ابن مسعود ومصحفه وهي قراءة عبد الله وعروة
ابني الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي عبد السلمي ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعناه يتهمهم يقال: فلان يظن بمال ويزن بمال أي يتّهم به، والظنّة: التهمة، قال الشاعر: أما وكتاب الله لا عن شناءة ... هجرت ولكن الظنين ظنين «1» واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال: أنهم لم يبخّلوه فيحتاج أن ينفى عنه ذلك البخل، وإنما كذّبوه واتهموه، ولأنّ الأكثر من كلام العرب ما هو بظنين بكذا ولا يقولون على كذا إنّما يقولون: ما أنت على كذا بمتهم، وقيل بظنين. بضعيف حكاه الفراء والمبرّد يقال: رجل ظنين أي ضعيف، وبئر ضنون إذا كانت ضعيفة الماء، قال الأعشى: ما جعل الجد الظنون الذي ... جنّب صوب اللجب الماطر مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر «2» وَما هُوَ يعني القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ يعني قال: أين تعدلون عن هذا القرآن، وفيه الشفاء والبيان، قال الكسائي: سمعت العرب تقول: انطلق به الغور، وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق، أي [ ... ] «3» قال سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة وأنشدني بعض بني عقيل: تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا ... وأي الأرض تذهب بالصياح «4» يريد إلى أي الأرض تذهب. وقال الواسطي: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ من ضعف إلى ضعف ارجعوا إلى فسحة الربوبيّة ليستقر بكم القرار، وقال الجنيد: معنى هذه الآية مقرون بآية اخرى وهو قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ «5» فأين يذهبون. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ أي يتبع الحق ويعمل به ويقيم عليه ثم قال: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكى قال: أخبرنا أبو حامد بن بلال البزاز قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدّثنا أبو مسهر قال: حدّثني سعيد عن سليمان بن موسى قال: لما أنزل الله سبحانه وتعالى لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ
قال أبو جهل بن هشام: ذاك إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا [الفرمي] «1» قال: حدّثني مالك بن سليمان قال: حدّثنا بقية عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: لمّا أنزل الله سبحانه على رسوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قالوا: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله سبحانه وتعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عمر بن مهران قال: حدّثنا أبو مسلم الكنجي قال: حدّثنا جعفر بن جبير بن فرقد قال: سمعت رجلا سأل الحسن عن قول الله سبحانه وتعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها. وأخبرني الحسن قال: حدّثنا أحمد بن علي بن الحسين قال: حدّثنا علي بن أحمد بن بسطام قال: حدّثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال: حدّثنا أبو سنان عن وهب بن منبّه قال: الكتب التي أنزلها الله سبحانه على الأنبياء بضع وتسعون كتابا قرأت منها بضعا وثمانين كتابا فوجدت فيها (من جعل لنفسه شيئا من المشيئة فقد كفر) . قال الواسطي: أعجزك في جميع أوصافك فلا تشاء إلّا مشيئته ولا تعمل إلّا بقوته ولا تطيع إلّا بفضله ولا تعصي. إلّا بخذلانه فماذا يبقى لك وماذا تفتخر من أفعالك وليس من فعلك شيء؟.
سورة الإنفطار
سورة الإنفطار مكيّة، وهي تسع عشر آية، وثمانون كلمة، وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفا أخبرني محمد بن القاسم قال: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أعطاه الله سبحانه من الأجر بعدد كل قبر حسنة وبعدد كل قطرة ماء حسنة وأصلح الله له شأنه يوم القيامة» [102] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انشقت وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ تساقطت وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ أي فجر بعضها في بعض عدنها في ملحها وملحها في عدنها فصارت بحرا واحدا، وقال الحسن: ذهب ماؤها، وقال الكلبي: مليت. وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ بحثت ونثرت وأثيرت فاستخرج ما في الأرض من الكنوز ومن فيها من الموتى أحياء، يقال: بعثرت الحوض وبحثرته إذا هدمته فجعلت أسفله أعلاه، وهذا من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضّتها وأموالها عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ من عمل صالح أو طالح. وَأَخَّرَتْ من سنّة حسنة أو سيئة، وقال عكرمة: ما قَدَّمَتْ من الفرائض التي أدّتها وَأَخَّرَتْ من الفرائض التي ضيّعتها، وقيل: ما قَدَّمَتْ من الأعمال وَأَخَّرَتْ من المظالم، وقيل:
ما قَدَّمَتْ من الصدقات وَأَخَّرَتْ من التركات، وقيل ما قَدَّمَتْ من الاسقاط والإفراط وما أَخَّرَتْ من الأولاد وهذا جواب إذا. يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. أخبرنا عبد الله الفتحوي قال: حدّثنا أبو علي المقرئ قال: حدّثنا أبو القاسم ابن الفضل المقرئ قال: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا المقدّمي وعلي بن هاشم قالا: حدّثنا كثير بن هشام قال: حدّثنا جعفر بن برقان قال: حدّثني صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قال: جهله، وقال قتادة: غرّة شيطانه عدوه المسّلط عليه. وحدّثني الحسن بن محمد بن الحسن قال: حدّثني أبي عن جدّي عن علي بن الحسن الهلالي عن إبراهيم بن الأشعث قال: قيل للفضيل بن عياض: لو أقامك الله سبحانه وتعالى يوم القيامة بين يديه فقال: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ماذا كنت تقول؟ قال: أقول غرني ستورك المرخاة، نظمه محمد ابن السماك فقال: يا كاتم الذنب أما تستحي ... الله في الخلوة ثانيكا غرك من ربّك إمهاله ... وستره طول مساويكا «1» وقال: مقاتل: غرّه عفو الله حين لم يعجّل عليه بالعقوبة، وتلا [نصر] بن مغلس هذه الآية فقال: غرّه رفق الله به. وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن محمد الورّاق يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: لو أقامني الله سبحانه بين يديه فقال: ما غرّك بي؟ قلت: غرّني بك برّك بي سابقا وآنفا. وسمعته يقول: أخبرنا عبد الله بن محمد بن صالح المغافري يقول: سمعت حماد بن بكر يحكي عن بعضهم أنه قال: لو سألني عن هذا ربي لقلت: غرّني حلمك، وسمعته يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن يزيد النسقي يقول: سمعت أبا عبد الله حسن أبي بكر الورّاق يقول: سمعت أبا بكر الورّاق يقول: لو قال لي ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ لقلت: غرّني كرم الكريم. قال أهل الإشارة: إنّما قال: بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ دون سائر أسمائه وصفاته لأنه كان لفتة الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم، قال منصور بن عمار لو قيل: ما غرّك بي؟ قلت: يا رب ما غرّني إلّا ما علمته من فضلك على عبادك وصفحك عنهم، وروى أبو وائل عن ابن مسعود
[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 إلى 19]
قال: ما منكم من أحد إلّا سيخلو الله سبحانه وتعالى به يوم القيامة فيقول: يا ابن آدم ما غرّك بي يا ابن آدم ماذا عملت فيما علمت يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟. وسمعت أبا القاسم النيسابوري يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الشامي وأبا الحسن محمد بن الحسين القاضي الجرجاني يقولان: سمعنا إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر. وأنشدني الحسن بن جعفر البابي يقول: أنشدني منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول: أنشدنا أبو بكر بن طاهر الأبهري في هذا المعنى: يا من غلا في الغنى والتيه ... وغرّه طول تماديه أملى لك الله فبارزته ... ولم تخف غبّ معاصيه «1» الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ قرأ أهل الكوفة بتخفيف الدال أي صرفك وأمالك إلى أي صورة شاء قبيحا أو جميلا وقصيرا أو طويلا، وقرأ الباقون بالتشديد أي قوّمك وجعلك معتدل الخلق، وهو اختيار الفراء وأبي عبيد لقوله سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «2» . فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ قال مجاهد: في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم. وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن عبد الرحمن العسكري قال: حدّثنا عبد الرحمن بن محمّد بن منصور قال: حدّثنا مطهر بن الهيثم قال: حدّثنا موسى بن علي عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. [ ... ] «3» : «وما ولد لك» قال: يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إمّا غلام وإما جارية. قال صلى الله عليه وسلم: «من شبه» قال: فمن شبه أمه وأباه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقل هكذا إنّ النطفة إذا استقرت في الرحم أحضر الله كلّ نسب بينهم وبين آدم، أما قرأت هذه الآية فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» قال صلى الله عليه وسلم: «إن شاء في صورة إنسان وإن شاء في صورة حمار وإن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة كلب وإن شاء في صورة خنزير» [103] «4» . [سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 19] كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ قراءة العامة بالتاء لقوله سبحانه وَإِنَّ عَلَيْكُمْ وقراءة أبو جعفر بالياء وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ رقباء يحفظون عليكم أعمالكم. كِراماً على الله كاتِبِينَ يكتبون أقوالكم وأفعالكم. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ إِنَّ الْأَبْرارَ يعني الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله واجتناب معاصيه، وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى العدل قال: حدّثنا علي المؤمل قال: حدّثنا أحمد بن عثمان قال: حدّثنا هشام بن عامر قال: حدّثنا سعد بن يحيى بن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن [دثار] عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سماهم الله الأبرار لأنّهم برّوا الآباء والأبناء، كما أن لوالدك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق» [104] «1» . لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يدخلونها يَوْمَ الدِّينِ يوم القيامة وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً قراءة أهل مكّة والبصرة برفع الميم ردّا على اليوم الأول، وقراءة غيرهم بالنصب أي في يوم، واختاره أبو عبيد قال: لأنها اضافة غير محضة وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ.
سورة المطففين
سورة المطففين مدنية، وهي ست وثلاثون آية، ومائة وتسع وستون كلمة، وسبع مائة وثلاثون حرفا أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال: أخبرنا محمد بن مطر العدل قال: حدّثنا ابن إبراهيم بن شريك الأسدي قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المطفّفين سقاه الله سبحانه من الرحيق المختوم يوم القيامة» [105] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ يعني الذين ينقصون الناس ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن، وأصله من الشيء الطفيف وهو النزر القليل، وإناء طفاف إذا لم يكن ملآن، ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم كطف الصاع، يعني ذلك: كقرب الملء منه ناقص عن الملء «2» . الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا أخذوا عَلَى النَّاسِ أي منهم، وعلى ومن تتعاقبان في هذا الموضع يَسْتَوْفُونَ حقوقهم منه وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، يقال: وزنتك حقّك، وكلتك طعامك بمعنى وزنت لك وكلت لك، قال الفراء: وهي لغة أهل الحجاز ومن جاوزهم من [......] «3» قال: وسمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل.
قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين حرفين ويقف على: كالوا ووزنوا، ثمّ يبتدئ فيقول: هم يخسرون، قال: وأحسب قراءة حمزة أيضا كذلك، قال أبو عبيد: والاختيار أن يكون كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط، وذلك أنهم كتبوها بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا ووزنوا بالألف على ما كتبوا الأفعال كلّها مثل: فاؤُ وجاؤُ [ ... ] «1» المصاحف إلّا على إسقاطها. والجهة الأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ووزنت لك، وهو كلام عربي كما يقال: صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك ومثله كثير. يُخْسِرُونَ ينقصون. حدّثنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدّثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني يزيد النحوي أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله سبحانه وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل. وقال القرطبي: كان بالمدينة تجار يطفّفون وكانت بياعتهم كشبه القمار والمنابذة والملامسة والمخاطرة فأنزل الله سبحانه هذه الآية. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق وقرأها عليهم ، وقال السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن يوسف قال: حدّثنا ابن عمران قال: حدّثنا أبو الدرداء، عبد العزيز [بن منيب] قال: حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان عن أبيه عن الضحاك ومجاهد وطاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس لخمس» قالوا: يا رسول الله وما خمس لخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلّا سلّط عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر» [106] «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا ابن أيوب قال: حدّثنا القصواني قال: حدّثنا سنان بن حاتم قال: حدّثنا حفص قال: حدّثنا مالك بن دينار قال: دخلت على جار لي وقد نزل به الموت فجعل يقول: جبلين من نار جبلين من نار، قال: قلت: ما تقول أتهجر؟ قال: يا أبا يحيى كان لي مكيالان، كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر، قال: فقمت فجعلت
أضرب أحدهما بالآخر فقال: يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر إزداد عظما فمات في وجعه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن صقلان قال: حدّثنا محمد بن النفاخ الباهلي قال: حدّثنا بركة بن محمد الحلبي عن عثمان بن عبد الرحمن عن النضر بن عدي قال: سمعت عكرمة يقول: أشهد على كلّ كيّال أو وزّان أنّه في النار، قيل له: إنّ ابنك كيال أو وزان، قال: أنا أشهد أنه في النار. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل بن الفضل قال: حدّثني عبد الله بن زكريا القاضي قال: حدّثنا العباس بن عبد الله بن أحمد قال: حدّثنا المبرد قال: حدّثنا الرياسي عن الأصمعي قال: قال لي إعرابي: لا تلتمس الحوائج ممن مروءته في رؤس المكاييل والسن الموازين، وروى عبد خير أن عليّا مرّ على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فكفا الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت، وقال نافع كان ابن عمر يمرّ بالبائع فيقول: اتّق الله وأوف الكيل والوزن، فإن المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم. أَلا يَظُنُّ يستيقن أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا وكيع عن هشام صاحب [الدستواني] عن القمر بن أبي [ابزى] قال: حدّثني من سمع ابن عمر قرأ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فلما بلغ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بكى حتى خرّوا وامتنع من قراءة ما بعده. كَلَّا قال الحسن: حقا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ الذي كتب فيه أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ قال عبد الله بن عمر ومغيث بن سمي وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد: هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفّار وأعمالهم، يدلّ عليه ما أخبرنا الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب قال: حدّثنا الأعمش عن المنهال عن زادان عن البرك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سجين أسفل سبع أرضين» [107] «1» : وأخبرني أبو عبد الله الفنجوي قال: حدّثنا أبو علي المقرئ قال: حدّثنا أبو [القاسم بن] الفضل قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري قال: حدّثنا حفص ابن حميد عن سمر بن عطية قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ فقال: إنّ روح الفاجر يصعد بها إلى السماء
فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فيهبط تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجّين، وهي حدّ إبليس، فيخرج لها من سجين من تحت حدّ إبليس رق فيرقم ويختم ويوضع تحت حدّ إبليس بمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة، وإليه ذهب سعيد بن جبير قال: سجّين تحت حدّ إبليس، وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السفلى وفيها إبليس وذريته. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: قراءتي على يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: وحدّثني عمارة بن عيسى عن يونس بن يزيد عمّن حدّثه عن ابن عباس أنه قال لكعب الأحبار: أخبرني عن سجّين وعليّين، فقال كعب: والذي نفسي بيده لأخبرنّك عنها إلّا بما أجد في كتاب الله المنزل، أما سجّين فإنّها شجرة سوداء تحت الأرضين السبع مكتوب فيها كلّ اسم شيطان، فإذا قبضت نفس الكافر عرج بها إلى السماء فغلقت أبواب السماء دونها، ثم رمى بها إلى سجين فذلك سجين، وأما عليّيون فإنّه إذا قبضت نفس المسلم عرج بها إلى السماء وفتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى العرش، قال: فيخرج كفّ من العرش فيكتب له نزله وكرامته فذلك عليّون. وقال الكلبي: هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السموات منها، يجعل كتاب الفجار تحتها، وقال وهب: هي آخر سلطان إبليس. وأخبرني عقيل: إن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني إسحاق بن وهب الواسطي قال: حدّثنا مسعود بن موسى بن مشكان قال: حدّثنا نصر بن خزيمة عن شعيب بن صفوان عن القرطي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. «الفلق جبّ في جهنم مغطّى وأما سجين جبّ في جهنم مفتوح» [108] «1» . وأخبرنا أبو القمر الصفار قال: أخبرنا حاجب بن أحمد قال: حدّثنا محمد بن حماد قال: حدّثنا يحيى بن سليم الطائفي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله سبحانه: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ قال: سجّين صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجّار تحتها، وقال عكرمة: أي لفي خسار وضلال، والمعنى أنه أراد بطلان أعمالهم وذهابها بلا محمدة ولا ثواب وهذا سائغ مستفيض في كلام الناس، يقولون لمن خمل ذكره وسقط قدره قد لزق بالحضيض، وقال الأخفش: لفي حبس ضيق شديد، وهو فعّيل من السجن كما يقال فسّيق وشرّيب قال ابن مقبل: ورفقه يضربون البيض ضاحيّة ... ضربا تواصت به الأبطال سجّينا «2»
وَما أَدْراكَ يا محمد ما سِجِّينٌ أي ذلك الكتاب الذي في السجّين ثم منّ فقال: كِتابٌ أي هو كتاب مَرْقُومٌ مكتوب مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به وقال قتادة: رقم لهم بشرّ وقيل: مختوم بلغة حمير. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قراءة العامة تُتْلى، وقرأ أبو حيان بالياء لتقديم الفعل. قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أخبرنا الحسين قال: حدّثنا الفضل قال: حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مكرم التربي ببغداد قال: حدّثنا علي المكرمي قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت محمد بن عجلان يقول: حدّثني القعقاع بن حكم أن أبا صالح السمّان قال أن أبا هريرة حدّثه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ العبد إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب صقل قلبه وإن عاد زادت حتى يسوّد قلبه» [109] «1» قال: فذلك قوله سبحانه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسوّد القلب، وقال حذيفة بن اليمّان: القلب مثل الكفّ فإذا أذنب العبد انقبض وقبض إصبعا من أصابعه ثم إذا أذنب انقبض وقبض إصبعا أخرى، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصابعه ثم يطبع عليه فكانوا يرون أنّ ذلك هو الرين، ثمّ قرأ هذه الآية. وقال بكر بن عبد الله: إنّ العبد إذا أصاب الذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة ثمّ إذا أذنب ثانيا صار كذلك فإذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل أو كالغربال، وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى لعله يصدئ القلب، وقال ابن عباس: طبع عليها، عطا: غشيت على قلوبهم فهوت بها فلا يفزعون ولا يتحاشون «2» ، وقيل: قلبها فجعل أسفلها أعلاها، نظيره قوله سبحانه وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ «3» وأصل الرين الغلبة، يقال: رانت الخمر على عقله إذا غلبت عليه فسكر، وقال أبو زبيد الطائي: ثم إذا رآه رانت به الخمر ... وأن لا يرينه باتّقاء وقال الراجز: لم نرو حتى هجّرت ورين بي ... ورين بالسّاقي الذي أمسى معي «4» معنى الآية غلب على قلوبهم وأحاطت بها حتى غمرتها وغشيتها.
[سورة المطففين (83) : الآيات 15 إلى 36]
[سورة المطففين (83) : الآيات 15 الى 36] كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال بعضهم: من كرامته ورحمته ممنوعون، وقال قتادة: هو أن لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ... وَلا يُزَكِّيهِمْ، وقال أكثر المفسرين: عن رؤيته، قال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. أخبرنا الحسن بن محمد بن جعفر قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني قال: حدّثنا الحسين بن الفضل قال: حدّثنا عفان بن مسلم الصفار عن الربيع بن صبيح وعبد الواحد بن زيد قالا: قال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربّهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا، وقال يحيى بن سليمان: بن نضلة: يسئل مالك بن أنس عن هذه الآية قال: لها حجب أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه، وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا علي الحسن بن أحمد [الشبوي] «1» بها يقول: سمعت أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: كنت ذات يوم عند الشافعي رضي الله عنه وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قول الله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فكتب فيه: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، فقلت له: أوتدين بهذا يا سيدي؟ فقال: والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أن يرى ربّه في المعاد لما عبده في الدنيا. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ لداخلو النار ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ أخبرني الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب عن الأعمش عن النهال عن زادان عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليين في السماء السابعة تحت العرش» [110] «2» وقال ابن عباس هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها، وقال كعب وقتادة: هو قائمة العرش
اليمنى، مقاتل: ساق العرش، علي ابن أبي طلحة وعطاء عن ابن عباس: هو الجنة، عطية عنه: أعمالهم في كتاب الله في السماء، الضحاك: سدرة المنتهى، وقال أهل المعاني: علو بعد علو وشرف بعد شرف، ولذلك جمعت بالياء والنون لجمع الرجال إذا لم يكن له نبأ من واحد ولا ثانية، قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه كقولك عشرين وثلاثين، وقال يونس النحوي: واحدها عليّ وعليّه. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن حمدان قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق الملحمي قال: حدّثنا محمد بن يونس قال: حدّثنا عفان قال: حدّثنا عفان قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عصام ابن يهدله عن خيثمة عن عبد الله بن عمرو في قوله سبحانه: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ قال: إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا فإذا أشرف رجل أشرقت الجنة وقالوا: قد طلع علينا رجل من أهل عليين. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ رقم له بخير وفي الآية تقديم وتأخير، مجازها: إنّ كتاب الأبرار مرقوم في عليين وهي محل الملائكة، ومثله إن كتاب الفجّار كتاب مرقوم وهي سجين، وهي محل إبليس وجنوده. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ الملائكة إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي ما أعطاهم الله تعالى من الكرامة والنعمة، الأرائك: كلّ ما يتكئ عليه، وقيل: السرير في الحجلة، وقال مقاتل: ينظرون إلى [أعدائهم] «1» كيف يعذّبون، وقال ابن عطاء: على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف وعلى أرائك القربة ينظرون إلى الرؤوف. تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي عصارته وبريقه ونوره يقال أنضر النبات إذا أزهر ونوّر، وقراءة العامة تَعْرِفُ بفتح التاء وكسر الراء نَضْرَةَ نصب، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بضم التاء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل. يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خمر صافية طيبة وقيل: هي الخمر العتيقة، مقاتل: الخمر البيضاء. قال حسان: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردا يصفّق بالرحيق السلسل «2» وقال آخر: أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أشهى إليّ من الرحيق السلسل «3»
مَخْتُومٍ ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس أو تنالها يد إلى أن يفكّ ختمها الأبرار يوم القيامة، وقال مجاهد: مطيّن. خِتامُهُ طينة مِسْكٌ قال ابن زيد: خِتامُهُ عند الله سبحانه: مِسْكٌ وختامها اليوم في الدنيا طين، وقال ابن مسعود: مختوم ممزوج، ختامه خلط ومسك، وقال علقمة: طعمه وريحه مسك، وقال الآخرون: عاقبته وآخر طعمه مسك، قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك، وروى عبد الرحمن بن سابط عن أبي الدرداء في قوله سبحانه خِتامُهُ مِسْكٌ قال: شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلّا وجد طيبها. وختم كلّ شيء الفراغ منه، ومنه ختم القرآن، والأعمال بخواتيمها، وقراءة العامة (خِتامُهُ) بتقديم التاء وقرأ الكسائي (خاتمه) وهي قراءة علي وعلقمة. أخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن الجهم قال: أخبرنا يحيى بن زرارة الفراء قال: حدّثني محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه قرأ خاتمه مسك. وباسناده عن الفراء قال: حدّثني أبو الأحوص عن أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي قال: قرأ علقمة بن قيس (خاتمه مسك) وقال: أما رأيت المرأة تقول للعطار: اجعل لي خاتمه مسكا، تريد آخره، والخاتم والختام واحد كما يقال للرجل الكريم: الطابع والطباع، وقال الفرزدق: فبتن بجانبي مصرّعات ... وبتّ أفض أغلاق الختام «1» وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله، وقال مجاهد فليعمل العاملون، نظيره قوله سبحانه: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ «2» ، مقاتل بن سليمان: فليتنازع المتنازعون، ابن حيان: فليتسارع المتسارعون، عطا: فليستبق المتسابقون، زيد بن أسلم: فليتشاح المتشاحون، ابن جرير: فليجدوا في طلبه وليحرصوا عليه، وأصله من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس، ويطلبه ويتمناه ويريده كل واحد منهم لنفسه وينفس به على غيره أي يضن. وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ شراب ينصب عليه من علو، ومنه سنام البعير وتسنيم القبور قال الضحاك: هو شراب اسمه تسنيم وهو أشرف الشراب، مقاتل: يسمى تسنيما لأنه يتسنّم فيصب عليه انصبابا من فوقهم في غرفهم ومنازلهم تجري من جنّة عدن إلى أهل الجنان، قال ابن مسعود وابن عباس: هو خالص للمقربين يشربونها صرفا ويمزج لساير أهل الجنة.
وأخبرنا عبد الله بن حامد في آخرين قالوا: أخبرنا مكيّ قال: حدّثنا عمار بن رجاء قال: حدّثنا سويد بن عمرو الكلبي قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يونس بن مهران عن ابن عباس وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال: هذا مما قال الله سبحانه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1» ، وعن بعضهم: أنها عين تجري في الهواء متسنما فتصب في أواني أهل الجنّة على مقدار ملئها، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض فلا يحتاجون إلى الاستقاء وهو معنى قول قتادة، وأصل الكلمة مأخوذ من علوّ المكان والمكانة، فيقال للشيء المرتفع: سنام، وللرجل الشريف: سنام وهو اسم معرفة مثل التنعيم وهو اسم جبل. عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا أي منها، وقيل يشربها الْمُقَرَّبُونَ قال الحريري والواسطي: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صرفا على بساط القرب في مجلس الأنس ورياض القدس بكأس الرضا على مشاهدة الحقّ سبحانه وتعالى. إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أشركوا أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي مكّة كانُوا مِنَ الَّذِينَ عمّار وخبّاب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين. يَضْحَكُونَ وبهم يستهزءون ومن إسلامهم يتعجبون. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك أنه جاء في نفر من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات قبل أن يصل عليّ وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [111] «2» . وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ يغمز بعضا ويشيرون بالأعين وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ حين يأتون محمد يرون أنهم على شيء وَما أُرْسِلُوا يعني المشركين عَلَيْهِمْ يعني على المؤمنين حافِظِينَ لأعمالهم موكلين بأحوالهم. فَالْيَوْمَ يعني يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ كما ضحك الكفار منهم في الدنيا وذلك أنّه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم أخرجوا إليها فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم يفعل بهم ذلك مرارا ويضحك المؤمنون منهم وهم عَلَى الْأَرائِكِ من الدر والياقوت يَنْظُرُونَ إليهم كيف يعذبون، قال كعب: بين الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له كان في الدنيا اطّلع من بعض تلك الكوى، دليله قوله سبحانه فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «3» هَلْ ثُوِّبَ جوزي الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثوّب وأثاب بمعنى واحد.
سورة الإنشقاق
سورة الإنشقاق مكيّة. وهي خمس وعشرون آية، ومائة وسبع كلمات، وأربع مائة وأربع وثلاثون حرفا أخبرني سعيد بن محمد وكامل بن أحمد ومحمد بن القاسم قالوا: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة انشقت أعاذه الله سبحانه أن يعطيه كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» [112] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي سمعت أمر ربها بالانشقاق وطاعته وَحُقَّتْ أي وحق لها أن تطيع ربّها وحق الله ذلك عليه. وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ مدّ الأديم العكاظي وزيد في سعتها. وَأَلْقَتْ أخرجت ما فِيها من الموتى والكنوز وَتَخَلَّتْ وخلت فليس في باطنها شيء. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ، واختلفوا في جواب قوله إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فقيل جوابه متروك لأنّ المعنى مفهوم، وقيل جوابه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ومجازه: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ لقي كل كادح ما عمله، قال المبرّد: فيه تقديم وتأخير تقديره يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ، وقيل: جوابه وَأَذِنَتْ، وحينئذ يكون الواو زائدة. ومعنى قوله كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي عامل واصل به إلى ربّك عملا فملاقيه ومجازى به خيرا كان أو شرا، وقال القتيبي ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك، والكدح: السعي والجهد في الأمر حتى يكدح ذلك فيه، أي يؤثّر ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسئلته يوم القيامة خدوشا أو خموشا أو كدوحا في وجه» [113] «1» أي أثر الخدش، قال ابن مقبل: وما الدهر إلّا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح «2» وأخبرني الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشر عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النادم ينتظر الرحمة والمعجب ينتظر المقت وكل عامل سيقدم على ما سلف» [114] «3» . فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ ديوان أعماله بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مندة قال: حدّثنا محمد بن غالب قال: حدّثني سعيد بن سليمان قال: حدّثنا مبارك بن فضالة عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يحاسب يعذّب» قالوا: يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً قال: «ذاكم العرض ولكن من نوقش الحساب عذّب» [115] «4» . وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فتغلّ يده اليمنى إلى عنقه وتجعل يده الشمال وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره، وقال مجاهد: يخلع يده وراء ظهره. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً ينادى بالويل والهلاك وَيَصْلى سَعِيراً قرأ أبو جعفر وأيوب وكوفي غير الكسائي بفتح الياء والتخفيف واختاره أبو عبيد لقوله سبحانه: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ «5» ، وقوله يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى «6» وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد اللام، واختاره أبو حاتم لقوله سبحانه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ «7» وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ «8» إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً
سمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم المصري يقول: قال ابن عطاء لنفسه متابعا ساعيا. إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ يرجع إلينا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك من الحور بعد الكور» [116] «1» وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما معنى يحور حتى سمعت إعرابية تدعوا بنية لها فتقول: حوري حوري أي أرجعي، وقال الشاعر: وما المرء إلّا كالشهاب وضوءه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع «2» ثم قال: بَلى، أي ليس كما ظن بلى يحور إلينا ويبعث. إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ قال مجاهد وغيره: هو النهار كلّه، عكرمة: ما بقي من النهار، وقال ابن عباس وأكثر الناس: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس وبغيبوبته يتعلّق أول وقت العشاء الآخرة وإليه ذهب من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير وعمر وابنه وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأنس بن مالك وأبو قتادة الأنصاري وأبو هريرة وجابر بن عبد الله ومن التابعين سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير وطاوس وعبد الله بن دينار ومكحول، ومن الفقهاء مالك والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وابن عبيد وأحمد وإسحاق، وقال قوم: هو البياض، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة، والاختيار القول الأول لإجماع العبادلة عليه، ولأن الشواهد في كلام العرب وأشعارهم تشهد له، قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الثور أحمر كأنه الشقق، وقال الشاعر: أحمر اللون كمحمر الشفق وقال آخر: قم يا غلام أعني غير محتشم ... على الزمان بكأس حشوها شفق «3» ويقال للحفرة الشفق، وزعم الحكماء أنّ البياض لا يغيب أصلا قال الخليل: صعدت منارة اسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردّد من أفق الى أفق ولم أره يغيب، والله أعلم بالصواب. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي جمع وجمل، ويقال: وسقته أسقه وسقا، ومنه قيل للطعام المجتمع الكبير: وسق وهو ستون صاعا، وطعام موسّق أي مجموع في غرارة ووعاء، وقال مجاهد: برواية ابن أبي بحج: وما آوي فيه من دابة، منصور عنه: وما لفّ وأظلم عليه ودخل
فيه، عكرمة: وما جمع فيه منّ دوابه وعقاربه وحيّاته وظلمته، ضحاك ومقاتل: وما ساق من ظلمه فإذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه، وقال الأستاذ أبو القاسم بن حبيب: شيبه أن يكون على هذا القول من المقلوب، لأن أصل ساق يسوق، عثمان: حمل من الظلمة، أبو حيان: أقبل من ظلمة أو كوكب، سعيد بن جبير: وما عمل فيه، وروى ابن أبي مليكة وابن جبير عن ابن عباس: وما جمع قال: ألم تسمع قول الشاعر: أن لنا قلائصا «1» حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا «2» الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي أجتمع واستوى وتمّ نوره، قتادة: إذا استدار وقيل: سار، مرّة الهمداني: أرتفع وهو في الأيام البيض، ويقال: اتسق الشيء إذا تتابع، واستوسق من الإبل إذا اجتمعت وانضمت وهو أفتعل من الوسق. لَتَرْكَبُنَّ قرأ أهل مكة والكوفة إلّا عاصما بفتح التاء، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه وابن عباس وأبي العالية، وقالوا: يعني لتركبن يا محمد سماء بعد سماء ودرجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة، وقيل: أراد به السماء تتغير لون بعد لون فتصير تارة كَالدِّهانِ وتارة كَالْمُهْلِ وتشقق بِالْغَمامِ مرّة ويطوي «3» أخرى «4» ، وقرأ الآخرون بضمّة وأختاره أبو عبيد قال: لأنّ المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه وسلم إنّما ذكر قبل الآية من يؤتى منهم كتابة بيمينه وشماله ثم قال: بعدّها فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وذكر ركوبهم طبقا بعد طبق بينهما. واختلف المفسرون في معنى الآية فقال أكثرهم: حالا بعد حال وأمرا بعد أمر في مواقف القيامة عن محمد بن مروان عن الكلبي، حيان عنه: مرّة يعرفون ومرة يجهلون، مقاتل: يعني الموت ثم الحياة ثم الموت ثم الحياة، عطا: مرّة فقرأ ومرة غنى، عمرو بن دينار عن ابن عباس: الشدائد والأهوال الموت ثم البعث ثم العرض، والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد: وقع في بنات طبق وفي أخرى بنات طبق، أبو عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالكم، عكرمة: حالا بعد حال، رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ، قالت الحكماء: يشتمل الإنسان من كونه نطفة الى أن يهرم ويموت على سبعة وثلاثين حالا من سبعة وثلاثين اسما: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر ثم جنينا ثم وليدا ثم رضيعا ثم فطيما ثم يافعا ثم ناشئا ثم مترعرعا ثم حزورا «5» ثم مراهقا ثم محتلما ثم بالغا ثم أمرد ثم طاردا ثم طارا ثم باقلا ثم مسيطرا ثم مطرخما ثم مختطا ثم صملا ثم ملتحيا ثم مستويا ثم مصعدا ثم مجتمعا- والشاب
يجمع ذلك كلّه ثم ملهوزا ثم كهلا ثم أشمط ثم شيخا ثم أشيب ثم حوقلا ثم صفتانا ثم هرما ثم ميتا، فهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: لَتَرْكَبُنَّ. طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ والطبق في اللغة الحال، قال الأقرع بن حابس: إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه الى طبق «1» فلست أصبو الى خل يفارقني ... ولا تقبض أحشائي من الفرق وأنشدني أبو القاسم عبد الله بن محمد البابي قال: أنشدني أبو سعيد عثمان بن جعفر بن نصره الموصلي قال: أنشدنا أبو يعلي أحمد بن علي المثنى: الصبر أجمل «2» والدنيا مفجعة ... من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقا إذا صفا لك من مسرورها طبق ... أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا «3» وقال مكحول في هذه الآية: في كل عشرين عاما يحدثون أمرا لم يكونوا عليه، وهذا أدلّ دليل على حدث العالم وإثبات الصانع، قالت الحكماء: من كان اليوم على حالة وغدا أخرى فليعلم أن يدبيره الى سواه، وقيل لأبي بكر الوراق: ما الدليل على أنّ لهذا العالم صانع فقال: تحويل الحالات وعجز القوة وضعف الأركان وقهر المنّة وفسخ العزيمة. سمعت أبا القاسم المفسّر يقول: سمعت أبا الفضل أحمد بن محمد بن حمدون النّسوي يقول: سمعت أبا عبد الرحمن الأرزياني يقول: دخل أبو الفم علي بن محمد بن زيد العلوي بطبرستان عائدا فأنشأ يقول: إني اعتللت ولا كانت بك العلل ... وهكذا الدّهر فيه الصاب «4» والعسل إنّ الذي لا تحل الحادثات به ... ولا يغير فيه الله لا الرجل فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ لا يخضعون ولا يستكينون له، وقال الكلبي ومقاتل: لا يصلّون. أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بقراءتي عليه قال: أخبرنا مكّي قراءة عليه سنة تسع عشر وثلاثمائة قال: حدّثني محمد بن يحيى قال: وفيها قرأ علي بن عبد الله بن نافع المدنيّ وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك بن أنس عن عبد الله بن زيد مولى الأسود بن سفيان عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن بن أحمد أنّ أبا هريرة قرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «1» فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. وأخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن نوح قرأه عليه سنة ست وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدثنا قتيبة عن الليث عن بكر عن نعيم بن عبد الله بن محمد قال: صليت مع أبي هريرة فوق هذا المسجد فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ قال مجاهد: يكتمون، قتادة: يُوعُونَ في صدورهم، ابن زيد يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة. فَبَشِّرْهُمْ أخبرهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ. غير منقوص ولا مقطوع.
سورة البروج
سورة البروج مكية، هي اثنان وعشرون آية، كلمها مائة وتسع كلمه، وحروفها أربع مائة وثمانية وخمسون حرفا أخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا إسماعيل بن بخير قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال: حدّثنا سعيد بن حفص قال: قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أعطاه الله عز وجل من الأجر بعدد كل يوم جمعة وكلّ يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات» [117] «1» . وعن ابن الأنباري أنه قال: روي أن من قرأها أعطاه الله سبحانه وتعالى بعدد كل جمعة وعرفة ما سأل في الدنيا ويكونان مائة مائة حسنة ومائة درجة ويشفع يوم القيامة في عدد أهل منى حتّى يدخلهم الجنّة وله بعدد فرعون وعاد وثمود الذين كفروا منهم واللوح المحفوظ بعدد كل واحد منهم عتق رقبة مع ماله من المزيد. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الطيّب قال: أخبرنا أبو سعيد عمرو بن منصور قال: أخبرنا أبو بكر محمّد بن سليمان بن الحسن قال: حدّثنا عبد الله بن موسى. وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن بهلويه قال: حدّثنا محمّد بن الصباح قال: أخبرنا مروان بن معاوية قال «2» : أخبرنا موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد الأنصاري عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم الموعود
يوم القيامة، والمشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة، ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها بخير إلّا استجاب له ولا يستعيذه من سوء إلا أعاذه منه» [118] «1» . وأخبرنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد قال: حدّثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم قال: أخبرنا أبو الموحة قال: أخبرنا عيدان قال: حدّثنا عبد الوارث عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة، ثم تلا هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «2» ثم قال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن القطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثني سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شاهد يوم الجمعة ومشهود يوم عرفة» [119] «3» . وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا الكندي قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن النعمان قال: حدثنا أبو طاهر سهل بن عبد الله قال: حدّثنا عمرو بن سواد بن الأسود قال: حدّثنا ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن سعيد بن أبي الهلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإنّ أحدا لا يصلّي عليّ إلّا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها» . قال: قلت: وبعد الموت قال: «إنّ الله سبحانه حرّم على الأرض أن يأكل أجساد الأنبياء فنبيّ الله حيّ يرزق» [120] «4» . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم النورقي قال: حدّثنا أبو غسان مالك بن ضيغم الراسبي قال: حدّثنا أبو سهل المنذراني عن خبّاب عن رجل قال: دخلت مسجد المدينة فإذا أنا برجل يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس حوله فقلت: أخبرني عن شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: نعم أمّا الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم عرفة، فجزته الى آخر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني عن شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ. قال: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر، فجزتهما الى غلام كأنّ وجهه الدينار
وهو يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني عن شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: نعم أما الشاهد فمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمّا المشهود فيوم القيامة أما سمعته يقول: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً «1» وقال عز وجل: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «2» فسألت عن الأول فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني فقالوا: ابن عمر، وسألت الثالث فقالوا: الحسن بن علي «3» . وأخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن علي الدورقي بقراءتي عليه فأقرّ به قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسن الشرقي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر العبدي قال: حدّثنا يزيد ابن هارون قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي نجح عن مجاهد في قوله سبحانه وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: الشاهد آدم والمشهود يوم القيامة. ليث عنه: الشاهد ابن آدم والمشهود يوم القيامة. وقال الوالي عن ابن عباس: الشاهد الله والمشهود يوم القيامة، عكرمة: الشاهد الإنسان والمشهود يوم القيامة وعنه أيضا: الشاهد الملك يشهد على آدم والمشهود يوم القيامة وتلا هاتين الآيتين وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «4» ، جابر بن عبد الله: الشاهد يوم القيامة والمشهود الناس. محمد بن كعب: الشاهد أنت والمشهود هو الله، عطاء بن يسار: الشاهد آدم وذريته والمشهود يوم القيامة، الحسن: الشاهد الجمعة والمشهود يوم القيامة يشهده الأولون والآخرون، أبو ملك: الشاهد عيسى والمشهود أمّته، بيانه قوله سبحانه: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ «5» عبد العزيز بن يحيى: الشاهد محمّد والمشهود أمّته، بيانه قوله سبحانه: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «6» . الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم، بيانه قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «7» . سعيد بن المسيب: الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة، وقال سالم بن عبد الله: سألت سعيد بن حسن عن قوله سبحانه وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، فقال: الشاهد هو الله والمشهود محمد بيانه قوله سبحانه: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «8» ، وقوله سبحانه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
«1» ، وقيل: الشاهد أعضاء ابن آدم والمشهود ابن آدم بيانه قوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ «2» الآية، وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن نحيد القطان البلخي يقول: الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحجاج، وقيل: الشاهد الليالي والأيام والمشهود بنو آدم، دليله الخبر المروي: «ما من يوم إلّا وينادي إني يوم جديد وإنّي على ما تفعل منّي شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة» [121] . وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق يقول: سمعت أبا وائلة عبد الرحمن الحسيني المزني يقول: سمعت مطرفا يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: خبّرت عن الحسن بن علي إنّه قال: مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا ... وأصبحت في يوم عليك شهيد فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة ... فثنّ بإحسان وأنت حميد ولا ترج فعل الخير يوما إلى غد ... لعل غدا يأتي وأنت فقيد فيومك إن أعتبته عاد نفعه ... عليك وماضي الأمس ليس يعود «3» محمد بن علي الترمذي: الشاهد الحفظة والمشهود بني آدم، أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبي، قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري ببغداد في كتاب الزاهر: إنّ من يركب الفواحش سرا ... حين يخلو بذنبه غير خالي كيف يخلوا وعنده كاتباه ... حافظاه وربه ذو المحال وقيل: الشاهد الأنبياء والمشهود محمد صلى الله عليه وسلم بيانه قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ «4» إلى قوله: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «5» ، وقيل: الشاهد الله عزّ وجل وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ والمشهود لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ «6» بيان قوله سبحانه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «7» ، وقيل: الشاهد الخلق والمشهود الحق وفيه يقول الشاعر: أيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد
[سورة البروج (85) : الآيات 4 إلى 22]
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنّه واحد «1» وقيل: الشاهد يوم الإثنين والمشهود يوم الجمعة، وقيل: الشاهد الحق والمشهود الخلق، وقيل: الشاهد أفعال العبد والمشهود العبد. [سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 22] قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) قُتِلَ لعن، قال ابن عباس: كل شيء في القرآن قتل فهو لعن. أَصْحابُ الْأُخْدُودِ: الشق واختلفوا فيهم فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر قال: حدّثنا الحاكم أبو محمد يحيى بن منصور وأبو القاسم منصور بن العباس بنو شنج وأبو الحسن محمد بن محمود بن عبيد الله بمرو وأبو بكر أحمد بن محمد بن عبيد الله الطاهري [....] «2» واللفظ له قالوا: حدّثنا الحسن بن شيبان بن عامر الشيباني أن هدية بن خالد القيسي حدثهم قال: حدّثنا حماد بن سلمة، وحدثت عن محمد بن جرير قال: حدّثني محمد بن معمر قال: حدّثني حرمي بن عمارة قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال: حدّثنا ثابت بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه راهب فقعد إليه الغلام وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتي الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب فسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال: إذا احتبست على الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا احتبست على أهلك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر خير أم الراهب، فأخذ حجرا ثم قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذا الدابة حتى يمضي الناس، فرمى بها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما قد أرى وإنك ستبتلى فإذا ابتليت
فلا تدل علي، وكان الغلام يبري الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك قد كان عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: لك هذا إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله عز وجل فشفاك، فآمن بالله تعالى فشفاه الله فأتى الملك يمشي فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: وسأله بما شفيت قال: بدعاء الغلام، فأرسل إلى الغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به فإذا بلغ ذروته فإن رجع عن دينه وإلّا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: اللهم اكفنيهم كيف شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له: ما فعل أصحابك؟ فقال: أكفانيهم الله عز وجل فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال احملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فلجوا به فإن رجع عن دينه وإلّا فاقذفوه فيه. فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا به، فجاء يمشي الى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: أكفانيهم الله عز وجل، فقال للملك: إنّك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قل: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم تضع السهم في كبد القوس ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في صدغه فوضع الغلام يده في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام ثلاثا ثلاثا، فأتي الملك فقيل له: أريت ما كنت تحذره قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس كلهم. فأمر [بحفر] الأخدود بأفواه السكك وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فاقذفوه فيها، أو قيل له اقتحم، ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام: يا أمّه اصبري فإنك على حق» [122] «1» . محمد بن يحيى قال: حدّثنا مسلم بن قتيبة قال: حدّثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة في قول الله سبحانه: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قال: كانوا من قومك من النبط، وقال الكلبي: هم نصارى أهل نجران وذلك ان ملك نجران أخذ بها قوما مؤمنين فخدّ لهم في الأرض سبعة أخاديد طول كل واحد أربعون ذراعا وعرضه اثنتا عشرة ذراعا ثم طرح فيها [النفط] «2» والحطب ثم عرضهم عليها فمن أبى قذفوه في النار، فبدأ برجل يقال له عمرو بن زيد فسأله
ملكهم، فقال: من علمك هذا- يعني التوحيد- فأبى أن يخبره فأتى الملك الذي علمه التوحيد فقال: أيّها الملك أنا علمته، واسمه عبد الله بن شمر فقذفه في النار، ثم عرض على النار واحدا واحدا حتى إذا أراد أن يتبع بقيّة المؤمنين فصنع ملكهم صنما من ذهب ثم أمر على كل عشرة من المؤمنين رجلا يقول لهم إذا سمعتم صوت المزامير فاسجدوا للصنم فمن لم يسجد ألقوه في النار، فلما سمعت النصارى بذلك سجدوا للصنم، وأما المؤمنون فأبوا فخدّ لهم وألقاهم فيها [فارتفعت] «1» النار فوقهم اثني عشرة ذراعا. قال مقاتل: كانت [الأخاديد] «2» ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، والاخرى بالشام، والاخرى بفارس، حرّقوا بالنار أمّا التي بالشام فهو أنطياخوس بن ميسر الرومي، أمّا التي بفارس فهو بخت نصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس، فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله سبحانه فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت بنجران، وذلك أن رجلين مسلمين ممّن يقرءون الإنجيل أحدهما بأرض تهامة والآخر بنجران اليمن فأجّر أحدهما نفسه في عمل يعمله وجعل يقرأ الإنجيل، فرأت بنت المستأجر النور يضيء في قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه، فسأله فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنسانا بين رجل وامرأة وهذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء، فسمع ذلك يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبع بن اليسوح الحميري فخدّ لهم في الأرض فأوقد فيها فعرضهم على الكفر فمن أبى منهم أن يكفر قذفه في النار ومن رجع عن دين عيسى لم يقذف في النار، وإن امرأة جاءت ومعها ولد لها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها: يا أماه إني أرى أمامك نارا لا تطفأ فلما سمعت ابنها يقول ذلك قذفا جميعا أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة فقذف في النار في يوم واحد سبع وسبعون إنسانا. قال ابن عباس: من أبى أن يقع في النار ضرب بالسياط، فأدخلت أرواحهم في الجنة قبل أن تصل أجسامهم إلى النار، وذكر محمد بن إسحاق بن يسار، عن وهب بن منبّه: إنّ رجلا كان بقي على دين عيسى فوقع إلى نجران فدعاهم فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير وخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفا، وقال الكلبي: كان أَصْحابُ الْأُخْدُودِ سبعين ألفا، قال وهب: لما علت أرباط على اليمن خرج ذو نواس هاربا فاقتحم البحر بفرسه فغرق وفيه يقول عمرو بن معدي كرب:
أتوعدني كأنك ذو رعين ... بأنعم عيشه أو ذو نواس «1» وكائن كان قبلك من نعيم ... وملك ثابت في الناس راس قديم عهده من عهده عاد ... عظيم قاهر الجبروت قاس أزال الدّهر ملكهم فأضحى ... ينقّل في أناس من أناس قال الكلبي: وذو نواس هو الذي قتل عبد الله بن التامر وقد مضت القصّة في الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما يزيده وضوحا ما روى عطاء عن ابن عباس إنّه قال: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شراحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بتسعين سنة. عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا عمر بن محمد بن بحير قال: حدّثنا عبد الحميد بن حميد الكشي، عن الحسن بن موسى قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الله القمي قال: حدّثنا جعفر بن أبي المغيرة عن ابن [ابزي] قال: لما هزم المسلمون أهل أسفندهان انصرفوا فجاءهم- يعني عمر- فاجتمعوا، فقالوا: أي شيء تجري على المجوس من الأحكام فأنهم ليسوا بأهل كتاب وليسوا من مشركي العرب، فقال: علي بن أبي طالب: بل هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها: ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه؟. قالت: المخرج منه أن تخطب الناس، فتقول: يا أيّها الناس إنّ الله أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب [هذا] «2» في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته، فقام خطيبا، فقال: يا أيّها الناس إنّ الله أحلّ نكاح الأخوات فقال الناس جماعتهم: معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقرّ به ما جاءنا به نبي ولا أنزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته فقال: ويحك إنّ الناس قد أبوا عليّ قالت: إذا أبّوا عليك فأبسط فيهم السوط قال: فبسط فيهم السوط، فأبى الناس أن يقرّوا فرجع إليها فقال: قد بسطت فيهم السوط فأبوا أن يقرّوا قالت: فجرّد فيهم السيف، قال: فجرّد فيهم السيف فأبوا أن يقرّوا، وقال لها: ويحك إنّ الناس قد أبوا أن يقرّوا، قالت: خدّ لهم أخدودا ثم أوقد فيها النيران ثم اعرض عليها أهل مملكتك فمن تابعك فخلّ عنه ومن أبى فأقذفه في النار، فخدّ لهم أخدودا فأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذف في النار ومن أجاب خلّى سبيله، فأنزل سبحانه فيهم: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إلى قوله: عَذابُ الْحَرِيقِ «3» .
وقال الضحاك: أَصْحابُ الْأُخْدُودِ من بني إسرائيل أخذوا رجالا ونساء فخدّ لهم أخدودا ثم أوقد فيها النيران فأقاموا المؤمنين عليها، فقال تكفرون أو نقذفكم في النار، ويزعمون أنه دانيال وأصحابه، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا عمر بن محمد بن بحير، قال: حدّثنا عبد بن حميد، عن يونس، عن شيبان عن قتادة في قوله سبحانه: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قال: حدّثنا أنّ علي بن أبي طالب كان يقول: هم أناس كانوا بمدراع اليمن اقتتل مؤمنوهم وكفارهم فظهر مؤمنوهم على كفارهم ثم اقتتلوا الثانية فظهر مؤمنوهم على كفارهم ثم أخذ بعضهم على بعض عهودا ومواثيق لا يغدر بعضهم ببعض، فغدر بهم كفارهم فأخذوهم ثمّ أنّ رجلا من المؤمنين قال لهم: هل لكم إلى [خير] توقدون نارا ثم تعرضوننا عليه، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون ومن لا اقتحم النار فاسترحتم منه قال: فأججوا نارا وعرضوهم عليها فجعلوا يقتحمونها حتى بقيت عجوز فكأنها تلكأت، فقال لها طفل في حجرها: أمضي ولا تنافقي «1» فقص الله عليهم نبأهم وحديثهم «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد المزني قال: حدّثنا مطين قال: حدّثنا عثمان قال: حدّثنا معاوية بن هشام، عن شريك عن جابر عن أبي طفيل، عن علي قال: كان أَصْحابُ الْأُخْدُودِ نبيهم حبشي، قال علي: بعث نبي من الحبشة إلى قومه، ثم قرأ عليّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «3» ، فدعاهم النبي فتابعه أناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فأفلت منهم، فخدّ أخدودا فملأها نارا فمن تبع النبي رمي فيها ومن تابعهم تركوه فجاءوا بامرأة معها صبي رضيع فجزعت فقال: يا أماه مرّي ولا تنافقي «4» . وبه عن مطين قال: حدّثنا أبو موسى وقال: وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر وكان أبوه سلّمه إلى معلم يعلّمه السحر فكره الغلام ذلك ولم يجد بدّا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك وكان يأتي المعلم آخر الغلمان ويضربه المعلم ويقول: من الذي حبسك وإذا انقلب إلى أبيه دخل على الراهب فضربه أبوه ويقول: لما أبطأت، فشكى الغلام ذلك إلى الراهب فقال له الراهب: إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي وإذا أتيت أباك فقل: حبسني المعلم، وكان في تلك البلاد حيّة
عظيمة قطعت الطريق على الناس فمر بها الغلام فرماها فقتلها فأحس الراهب بذلك فازداد به عجبا وقال أنت قتلتها قال: نعم قال: إنّ لك لشأنا، وكان للملك ابن مكفوف البصر، فسمع بالغلام وقتله الحية فجاءه مع قائد فقال: أنت قتلت الحيّة؟ قال: لا، قال: ومن قتلها؟ قال: الله، قال: من الله؟ قال: ربّ السموات والأرض وما بينهما وربّ الشمس والقمر والليل والنهار والدنيا والآخرة، قال: فان كنت صادقا فادع ربّك حتى يرد عليّ بصري، قال: الغلام أرأيت إن ردّ الله سبحانه عليك بصرك أتؤمن به؟ قال: نعم، قال: اللهم إن كان صادقا فاردد عليه بصره، فردّ الله تعالى عليه بصره فرجع إلى منزله بلا قائد، ثم دخل على الملك فلما رآه تعجب منه فقال: من صنع هذا، قال: الله، قال: ومن الله؟ قال: ربّ السموات والأرض وما بينهما وربّ المشرق والمغرب وربّ الشمس والقمر والليل والنهار والدنيا والآخرة، فقال له الملك: أخبرني من علّمك هذا، ودلّه على الغلام فدعاه فكلّمه فإذا غلام عاقل، فسأله عن دينه فأخبره بالإسلام ومن آمن معه، فهمّ الملك بقتلهم مخافة أن يبدل دينه فأرسل بهم إلى ذروة جبل وقال: ألقوهم من رأس الجبل، فذهبوا بالغلام إلى أطول جبل فدعا الغلام ربّه فأهلكهم الله سبحانه، فغاظ الملك ذلك، ثم أرسل معهم رجالا إلى البحر فقال: غرّقوهم فدعا الغلام ربّه فأغرقهم ونجا هو وأصحابه، فدخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك الذين أرسلتهم معك؟ فقال: أهلكهم الله ونجّاني فقال: اقتلوه بالسيف فنبا السيف عنه، وفشا خبره بأرض اليمن وعرفه الناس فعظّموه وعلموا إنه وأصحابه على الحق فقال الغلام للملك: إنّك لا تقدر على قتلي إلّا أن تفعل ما أقول، قال: فكيف أقتلك، قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم باسم إلهي، ففعل الملك ذلك ثم رماه باسم إله الغلام فأصابه فقتله، فقال الناس: لا إله إلّا إله عبد الله بن ثامر ولا دين إلّا دينه، فغضب الملك وأغلق الباب وأخذ أفواه السكك وخدّ أخدودا وملأه نارا ثم عرضهم رجلا رجلا فمن رجع عن الإسلام تركه ومن قال ديني دين عبد الله ألقاه في الأخدود فأحرقه، وكان في مملكته امرأة أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع، فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلّا ألقيك في النار وأولادك معك، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها: ارجعي إلى دينك فأبت فألقى الثاني في النار ثم قال لها: ارجعي عن دينك فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمّت المرأة بالرجوع فقال الصبي: يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فأنك على الحق ولا بأس عليك فألقي الصبي في النار وألقيت أمه على أثره فذلك قوله سبحانه قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ «1» .
وقال الضحاك: أحرق بخت نصر قوما من المسلمين. والأخدود: الحفرة والشق المستطيل في الأرض كالنهر وجمعه أخاديد وهو أفعول من الخد يقال خددت في الأرض خدّا أي شققت وحفرت. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ قراءة العامة بفتح الواو وهو الخطب، وقرأ أبو رجاء العطاردي بضم الواو على المصدر وقراءة العامة النَّارِ ذاتِ بالكسر فهما على نعت الْأُخْدُودِ، وقرأ أشهب العقيلي بالرفع فيهما على معنى أحرقتهم النَّارُ ذاتُ الْوَقُودِ. قال الربيع بن أنس: كان أَصْحابُ الْأُخْدُودِ قوما مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، وأن جبّارا من عبدة الأوثان أرسل إليهم فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا فخدّ أخدودا وأوقد فيه نارا ثم خيّرهم بين الدخول في دينه وبين إلقائهم في النار فاختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم فألقوا في النار، فنجّى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بأن قبض أرواحهم قبل أن تمسّهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ: حضور، وقال مقاتل: يعني يشهدون إنّ المؤمنين حين تركوا عبادة الصنم وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ: أي وما علموا فيهم عيبا ولا وجدوا لهم جرما ولا رأوا منهم سوءا. إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا: يعني إلّا لأن ومن أجل أن آمنوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا: عذّبوا وأحرقوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ نظيره قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «1» ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ في الآخرة وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ في الدنيا وذلك إنّ الله سبحانه أحرقهم بتلك النار التي أحرقوا بها المؤمنين، هذا قول ربيع وأصحابه، وقال الآخرون: هما واحد. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ الوراق قال: حدّثنا أبو عبيد محمد ابن أحمد بن المؤمل الصيرفي قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن جعفر الأحول المعروف باللقوق قال: حدّثنا منصور بن عمّار قال: حدّثنا سعيد بن أبي توبة عن عبد الرحمن بن الجهم يبلغ به حذيفة بن اليمان قال: أسرّ إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا في النار فقال: «يا حذيفة إن في جهنم لسباعا من نار وكلابا من نار وكلاليب من نار وسيوفا من نار وأنه يبعث ملائكة يعلّقون أهل النار بتلك الكلاليب بإحناكهم ويقطعونهم بتلك السيوف عضوا عضوا ويلقونها إلى تلك الكلاب والسباع كلما قطعوا عضوا عاد مكانه عضوا جديد» [123] «2» .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعضهم: جوابه قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وفيه إضمار يعني لقد قتل، وقيل: فيه تقديم وتأخير تقديره: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ. وقال قتادة: جوابه قوله: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ أي أخذه بالعذاب والانتقام. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ: يعني الخلق عن أكثر العلماء، وروى عطية العوفي عن ابن عباس: يُبْدِئُ العذاب في الدنيا للكفار ثم يُعِيدُ عليهم العذاب في الآخرة. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ: قال ابن عباس: التودد إلى أوليائه بالمغفرة. علي عنه: الحبيب، مجاهد: الواد، ابن زيد: الرحيم، وقيل: بمعنى المودود كالحلوب والركوب، وقيل: معناه يغفر ويودّ أن يغفر. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ: السرير العظيم وقال: ابن عباس وقتادة: الكريم، واختلف القرّاء فيه فقرأ يحيى وحمزة والكسائي وخلف بجر الدال على نعت العرش. غيرهم بالرفع على صفة الغفور. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، خبر الجموع الهالكة ثم بين من هم فقال: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا، من قومك يا محمد. فِي تَكْذِيبٍ: [واستجاب للتعذيب] «1» كدأب من قبلهم، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ عالم بهم لا يخفى عليه شيء من أحوالهم بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ كريم شريف كثير الخير وليس كما زعم المشركون، وقال عبد العزيز بن يحيى: مجيد يعني غير مخلوق، وقرأ ابن السميقع: بَلْ هُوَ قُرْآنُ مَجِيدٍ بالإضافة، أي قرآن ربّ مجيد. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. قرأ يحيى بن يعمر: فِي لُوحٍ بضم اللام، أي إنّه بلوح وهو ذو نور وعلو وشرف. وقرأ الآخرون: بفتح اللام لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. قرأ نافع وابن مخيضر: بضم الظاء على نعت القرآن، وقرأ الباقون: بالكسر على نعت اللوح. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد قال: حدّثنا ابن خلويه قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشر، قال: أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن في صدر اللوح لا إله إلّا الله وحده، ودينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عزّ وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة. قال: فاللوح لوح من درة بيضاء طويلة طوله ما بين
السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور، وكلامه بر معقود بالعرش، وأصله في حجر ملك يقال له ماطريون محفوظ من الشياطين، فذلك قوله بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ لله عزّ وجل فيه في كلّ يوم ثلاث مائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعزّ ويذل ويَفْعَلُ ما يَشاءُ. أخبرني عقيل إنّ المعافي أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثنا عمرو بن علي قال: سمعت قرّة بن سليمان قال: حدّثنا حرب بن سريح قال: حدّثنا عبد العزيز بن صهّيب عن أنس بن مالك: في قوله هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ. قال: إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في جبهة إسرافيل. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش.
سورة الطارق
سورة الطارق مكيّة، وهي سبع عشرة آية، واحدي وستون كلمة، ومائتان وتسع وثلاثون حرفا. أخبرني أبو عثمان بن أبي بكر المقرئ قال: أخبرنا أبو عمرو بن أبي الفضل الشروطي قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك الأسدي قال: حدّثنا أبو عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله من الأجر بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات» [124] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن نصرويه قال: حدّثنا أبو العباس إسحاق بن الفضل الزيات قال: حدّثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدّثنا الضحّاك بن مخلد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلي بن كعب عن عبد الرحمن بن خالد بن جبلة أو ابن أبي جبلة- شك أبو عاصم «2» - عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس في مشرقة ثقيف فقرأ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها، فحفظتها في الجاهلية، قال: فمررت في مجلس ثقيف وفيهم قوم من قريش فمنهم عتبة وشيبة وأبناء ربيعة فاستقرءوني فقرأتها عليهم فقال الثقفيون: ما نرى هذا إلّا حقا، فقال القرشيون: نحن أعلم بصاحبنا لو علمنا أنه حق لتبعناه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ. نزلت في أبي طالب وذلك لأنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا بخط نجم فامتلأ ماء ثمّ نارا ففزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا، فقال رسول الله (عليه السلام) «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله تعالى» [125] «3» .
فعجب أبو طالب، فأنزل الله سبحانه وتعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ ، والمعنى: يعني النجم يظهر ليلا ويخفى نهارا، أو كل ما جاء ليلا فقد طرق. ومنه حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله وقال: «تستعد المغيبة وتمتشط الشعثة» [126] «1» ، وقالت هند بنت عتبة يوم أحد: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق تريد أن أبانا نجم في شرفه وعلوه. وأنشدنا أبو القاسم المفسّر قال: أنشدني أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن الرومي قال: يا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا لا تفرحن بليل طاب أوّله ... فرب آخر ليل أجج النارا «2» وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ثم فسره فقال عزّ من قائل: النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي المضيء المنير، يقول العرب: أثقب نارك أي أضئها. مجاهد: المتوهج، عطا: الثاقب الذي يرمي به الشياطين فيثقبهم: قال ابن زيد: كانت العرب تسمّي الثريا النجم، وقيل: هو زحل سمي بذلك لارتفاعه، وتقول العرب للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعا: قد ثقب. وروى أبو الحوراء عن ابن عباس قال: الطارق: نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد. إِنْ كُلُّ نَفْسٍ جواب القسم لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ قرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة لَمَّا بتشديد الميم، يعنون ما كل نفس إلّا عليها حافظ، وهي لغة هذيل يقولون: يسديك الله لما قمت، يعنون: إلّا قمت، وقرأ الآخرون: بالتخفيف جعلوا (ما) صلة مجازه: إنّ كل نفس لعليها حافظ. أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسن بن أيوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا أبو عبيد قال: حدّثنا معاذ عن ابن عون قال: قرأت عند ابن سيرين: (إنّ كلّ نفس لما) فأنكره وقال: سبحان الله سبحان الله فتأويل الآية كلّ نفس عليها حافظ من ربّها يحفظ عملها ويحصي عليها ما يكتسب من خير وشر.
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 إلى 17]
قال ابن عباس: هم الحفظة من الملائكة، وقال قتادة: هم حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا ابن آدم قبضت إلى ربّك، وقال الكلبي [وحصين] : حافظ من الله يحفظ قولها وفعلها ويحفظ حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير ثم تخلى عنها «1» . أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الحطاب قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا يحيى بن صالح قال: حدّثنا عمر بن معدان عن سلم بن عامر عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وكّل بالمؤمن ستون ومائة ملك يذبّون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبّون عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب [في اليوم الصائف وما لو بدا لكم لرأيتمونه على جبل وسهل كلهم باسط يديه فاغرفاه وما] «2» لو وكلّ العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» [127] «3» . [سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 17] فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ أي من أي شيء خلقه ربّه، ثم بيّن جل ثناؤه فقال سبحانه وتعالى: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي مدفوق مصبوب في الرحم وهو المني، فاعل بمعنى مفعول كقولهم سرّ كاتم، وليل نائم، وهمّ ناصب، وعِيشَةٍ راضِيَةٍ، قال الفراء: أعان على ذلك أنها رؤوس الآيات التي معهنّ. والدفق: الصب، تقول العرب للموج إذا علا وانحط: تدفق واندفق وأراد من مائين: ماء الرجل وماء المرأة لأن الولد مخلوق منهما، ولكنه جعله ماء واحدا لامتزاجهما. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ يعني صلب الرجل وترائب المرأة، واختلفوا في الترائب، فقال ابن عباس: موضع القلادة، الوالي عنه: بين ثدي المرأة، وعن العوفي عنه: يعني بالترائب اليدين والرجلين والعينين، وبه الضحاك، وعن ابن عليّة عن أبي رجاء قال: سئل عكرمة عن التَّرائِبِ فقال: هذه- ووضع يده على صدره بين ثدييه-. سعيد بن جبير: الجيد. ابن زيد: الصدر. مجاهد: ما بين المنكبين والصدر. سفيان: فوق الثديين. يمان: أسفل من التراقي. قتادة: النحر. جعفر بن سعيد: الأضلاع التي أسفل الصلب. ليث عن معمر بن أبي حبيبة المدني قال: عصارة القلب، ومنه يكون الولد، والمشهور من كلام العرب أنهما عظام النحر والصدر، وواحدتها تربية. قال الشاعر:
وبدت كان ترائبا نحرها ... جمر الغضا في ساعة يتوقّد وقال آخر: والزعفران على ترائبها ... شرق به اللّبات والصدر «1» وقال المثقب العبدي: ومن ذهب يسن على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون «2» إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال قتادة: إنّ الله سبحانه على بعث الإنسان وإعادته بعد الموت قادر، وقال عكرمة: إن الله سبحانه على ردّ الماء إلى الصلب الذي خرج منه لقادر، وعن مجاهد: على ردّ النطفة في الإحليل، وعن الضحاك: إنه على ردّ الإنسان ماء كما كان قبل لقادر، مقاتل بن حيان عنه: يقول: إنّ شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبى، ومن الصبى إلى النطفة، وعن ابن زيد: أنه على حبس ذلك الماء لقادر حتى لا يخرج. وأولى الأقاويل: بالصواب تأويل قتادة لقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي تظهر الخفايا، وقال قتادة ومقاتل وسعيد بن جبير عن عطاء بن أبي رياح: السرائر: فرائض الأعمال كالصّوم والصلاة والوضوء وغسل الجنابة، ولو شاء العبد أن يقول قد صمت وليس بصائم وقد صلّيت ولم يصلّ وقد اغتسلت ولم يغتسل لفعل. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طلحة وابن البواب قال: حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدّثنا إسماعيل عن عبد الله بن إسماعيل عن ابن زيد يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ قال: السرائر: الصلاة والصيام وغسل الجنابة، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: أخبرني عروبة قال: حدّثنا هاشم بن القاسم الحراني قال: حدّثنا عبد الله بن وهب عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الجبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من حافظ عليها فهو وليّ الله حقا، ومن اختانهن فهو عدو الله حقا، الصلاة والصوم والغسل من الجنابة» [128] «3» . فَما لَهُ: يعني الإنسان الكافر مِنْ قُوَّةٍ تمنعه وَلا ناصِرٍ: ينصره وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي ترجع بالغيث وأرزاق العباد كلّ عام، لولا ذلك لهلكوا وهلكت معايشهم، وقال ابن عباس: هو السحاب فيه المطر. وأخبرنا ابن عبدوس قال: أخبرنا ابن محفوظ قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا
عبد الرحمن بن مهدي عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ قال: ذات المطر. وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ قال: النبات، وقال أبو عبيدة: الرجع الماء، وأنشد المنحل الهذلي في صفة السيف: أبيض كالرجع رسوب إذا ... ما ثاج في محتفل يختلي «1» وقال ابن زيد: يعني بالرجع ان شمسها وقمرها يغيب ويطلع وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ، أي ينصدع عن النبات والأشجار والثمار والأنهار، نظيره قوله سبحانه شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً إلى آخرها «2» ، وقال مجاهد: هما السدّان بينهما طريق نافذ مثل [ماري] عرفة. إِنَّهُ: يعني القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ: حق وجد وجزل يفصل بين الحق والباطل. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ: باللعب والباطل. إِنَّهُمْ: يعني مشركي مكّة. يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً: وأريد بهم أمرا. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً: قليلا فأخذوا يوم بدر.
سورة الأعلى
سورة الأعلى مكيّة، وهي: تسع عشرة آية، واثنان وسبعون كلمة، ومائتان واحدي وتسعون حرفا. أخبرني كامل بن أحمد وسعيد بن محمد بن القاسم قالوا: حدّثنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كبير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كل حرف أنزل الله سبحانه على إبراهيم وموسى ومحمد» [129] «1» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبان قال: حدّثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «سبحان ربي الأعلى» [130] «2» ، وكذلك روى عن علي وأبي وموسى وابن عمر وابن عباس وابن الزبير إنهم كانوا يفعلون ذلك ، وروي جويبر عن الضحاك أنه كان يقول ذلك، وكان يقول من قرأها فليقرأها كذلك، وروي عن علي بن أبي طالب إنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وأول من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل أخبرني عن ثواب من قالها في صلاته أو في غير صلاته» [131] «3» فقال: يا محمد ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده إلّا كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا، ويقول الله سبحانه وتعالى: صدق عبدي أنا أعلى فوق كل شيء وليس فوقي شيء أشهدوا ملائكتي إنّي غفرت لعبدي وأدخلته جنتي، فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه فيوقفه بين يدي الله سبحانه فيقول: يا ربّ شفّعني فيه فيقول: شفّعتك فيه اذهب به إلى الجنة.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 إلى 13]
وقال عقبة بن عامر: لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» [132] «1» فلما نزل سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في سجودكم» [133] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى يعني قل: سبحان ربّي الأعلى، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وقال قوم معناه: نزّه ربّك الأعلى عما يقول فيه الملحدون ويصفه به المبطلون، وجعلوا الاسم صلة، ويجوز أن يكون معناه، نزّه ذات ربّك عما لا يليق به، لأن الاسم والذات والنفس عبارة عن الوجود والإثبات. وقال آخرون: نزّه تسمية ربّك وذكرك إياه إن تذكره إلّا وأنت خاشع معظّم ولذكره محترم، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية، وقال الفراء: سواء قلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أو سبح باسم ربّك إذا أردت ذكره وتسبيحه، وقال ابن عباس: صلّ بأمر ربّك الأعلى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى فعدل الخلق وَالَّذِي قَدَّرَ خفّف عليّ والسلمي والكسائي داله ، وشدّدها الآخرون. فَهَدى: قال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها، وقال مقاتل والكلبي: عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، وعن عطاء قال: جعل لكل دابة ما يصلحها وهذا حاله، وقيل: هدى لاكتساب الأرزاق والمعاش، وقيل: خلق المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لوجه استخراجها منه، وقيل: هدى لدينه من يشاء من خلقه. قال السدي: قدر الولد في الرحم تسعة أشهر، أقل، أو أكثر، وهدى للخروج من الرحم. وقال الواسطي: قدّر السعادة والشقاوة عليهم ثم يسّر لكل واحد من الطالعين سلوك ما قدّر عليه، وقيل: قدّر الأرزاق فهداهم لطلبها، وقيل: قدّر الذنوب على عباده ثم هداهم الى التوبة. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى النبات من بين أخضر وأصفر وأحمر وأبيض.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 إلى 19]
فَجَعَلَهُ غُثاءً هشيما باليا، أَحْوى أسود إذا هاج وعتق. سَنُقْرِئُكَ: سنعلمك ويقرأ عليك جبريل، فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنساه وهو ما ننسخه من القرآن، وهذا معنى قول قتادة، وقال مجاهد والكلبي: كان النبي (عليه السلام) إذا نزل جبريل بالقرآن لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوله مخافة أن ينساها فأنزل الله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فلم ينس بعد ذلك شيئا ، ووجه الاستثناء على هذا التأويل ما قاله الفراء: لم يشأ أن ينسى شيئا، وهو كقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «1» ، وأنت تقول في الكلام لأعطينّك كل ما سألت إلّا ما شاء أن أمنعك والنية أن لا تمنعه، وعلى هذا مجاري الأيمان يستثنى فيها ونية الحالف النمّام. وسمعت محمد بن الحسن السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول: كان يغشي الجنيد في مجلسه أهل النسك من أهل العلوم وكان أحد من يغشاه ابن كيسان النحوي، وكان في وقته رجلا جليلا فقال له يوما: يا أبا القاسم ما تقول في قوله سبحانه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى فأجابه مسرعا كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات: لا تنسى العمل به، فأعجب ابن كيسان به إعجابا شديدا وقال: لا يفضض الله فاك مثلك من يصدر عن رأيه «2» . إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ من القول والفعل وَما يَخْفى: قال محمد بن حامد: يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى لعمل الجنّة، وقيل: هو متصل بالكلام الأول معناه: نعلم الْجَهْرَ مما تقرأه يا محمد على جبريل إذا فرغ من التلاوة عليك، وَما يَخْفى ما تقرأه في نفسك مخافة ان تنساه. ثم وعده فقال: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي يهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به، وقيل: ويوفقك للشريعة اليسرى، وهي الحنفية السمحة. فَذَكِّرْ عظ بالقرآن إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى التذكر سَيَذَّكَّرُ سيتّعظ مَنْ يَخْشى الله سبحانه يَتَجَنَّبُهَا يعني ويتجنب التذكرة ويتباعد عنها. َْشْقَى الشقي في علم الله سبحانه. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى أي حياة تنفعه. وسمعت السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز يقول: قال ابن عطا: لا يَحْيى! فيستريح عن القطيعة وَلا يَحْيى فيصل إلى روح الوصلة. [سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19] قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى: أي تطهّر من الشرك وقال: لا إله إلّا الله، هذا قول عطاء وعكرمة ورواية الوالي عن ابن عباس وسعيد بن جبير عنه أيضا، وقال الحسن: من كان عمله زاكيا، وعن قتادة: عمل صالحا وورعا، وعن أبو الأحوص: رضح من ماله وأدّى زكاة ماله، وكان ابن مسعود يقول: رحم الله امرءا تصدّق ثم صلّى ثم يقرأ هذه الآية، وقال آخرون: هو صدقة الفطر، وروى أبو هارون عن أبي سعيد الخدري، في قوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: أعطى صدقة الفطر. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: خرج إلى العيد فصلى. وروى عبيد الله بن عمر عن نافع قال: كان ابن عمر إذا صلّى الغداة- يعني من يوم العيد- قال: يا نافع أخرجت الصدقة فإن قلت نعم مضى إلى المصلّى وإن قلت لا قال: فالآن فأخرج، فإنما نزلت هذه الآية في هذا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى: وروى مروان بن معاوية عن أبي خالد قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غدا إلى العيد فمرّ بي، قال: فمررت به فقال: هل طمعت شيئا؟ قلت: نعم، قال: أفضت على نفسك من الماء، قلت: نعم، قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك؟ قلت: قد وجهتها قال: إنما أردتك لهذا ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى وقال: إنّ أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء، ودليل هذا التأويل ما أخبرني الحسين قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن إسحاق الأصبهاني قال: حدّثنا حاتم بن يونس الجرجاني قال: حدّثنا دحيم قال: حدّثنا عبد الله بن نافع عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: «أخرج زكاة الفطر، وخرج إلى المصلى فصلّى» [134] «1» . قلت: ولا أدري ما وجه هذا التأويل، لأن هذه السورة مكيّة بالإجماع ولم يكن بمكّة عيد، ولا زكاة فطر والله أعلم. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ: أي وذكر ربّه، وقيل: وذكر تسمية ربّه، وقيل: هو تكبير العيد، فصلّى صلاة العيد، وقيل: الصلوات الخمس. يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد ابن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا عباد بن أحمد العمري قال: حدّثنا عمّي محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب عن ابن سابط عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى قال: «من شهد أن لا إله إلّا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول
الله» وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى قال: «هي الصلوات الخمس، والمحافظة عليها حين ينادى بها، والاهتمام بمواقيتها [135] «1» ، وقيل: الصلاة هاهنا الدعاء. بَلْ تُؤْثِرُونَ، قراءة العامة: بالتاء وتصديقهم قراءة أبيّ بن كعب، بل وأنتم تؤثرون، وقرأ أبو عمرو بالياء، يعني الاشقين. قال عرفجة الأشجعي: كنا عند ابن مسعود، فقرأ هذه الآية، فقال لنا: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة. قلنا: لا، قال: لأن الدنيا أحضرت لنا، وعجّل لنا طعامها وشرابها نساؤها [ولذتها وبهجتها، وإن الآخرة غيبت لنا وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل] «2» . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى إِنَّ هذا الذي ذكرت في هذه السورة، وقال الكلبي: يعني من قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلى آخر السورة، وقال ابن زيد يعني قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى قال قتادة: تتابعت كتب الله كما تسمعون إنّ الآخرة خَيْرٌ وَأَبْقى. الضحّاك: إِنَّ هذا القرآن، لَفِي الصُّحُفِ الكتب الْأُولى واحدتها صحيفة، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى يقال: إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شأنه، وقال أبو ذر: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء» قلت: أكان آدم نبيا؟ قال: نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب: هود وصالح وشعيب ونبيك. قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال: «مائة وأربع كتب، منها على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ، وهو إدريس ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خطّ بالقلم، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» [136] «3» .
سورة الغاشية
سورة الغاشية مكّية، وهي ست وعشرون آية، واثنتان وتسعون كلمة، وثلاثمائة وأحد وثمانون حرفا أخبرني محمّد بن القاسم قال: حدّثنا إسماعيل بن مجيد قال: حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن سعيد قال: حدّثنا سعيد بن حفص قال: قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حِساباً يَسِيراً» [137] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ يعني القيامة يغشي كلّ شيء إلّا هو، هذا قول أكثر المفسّرين. وقال سعيد بن جبير ومحمّد بن كعب: الغاشية النار. دليله قوله سبحانه: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ... وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة، وقيل: في النار خاشِعَةٌ ذليلة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال بعضهم: يعني عامِلَةٌ في النار ناصِبَةٌ فيها، قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله سبحانه وتعالى في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار لمعالجة السلاسل والأغلال، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال قتادة: نكرت في الدنيا من طاعة فأعملها وأنصبها في النار. وقال الكلبي: يجرّون على وجوههم في النار. الضحّاك: يكلّفون ارتقاء جبل من حديد في النار، والنّصب الدؤوب في العمل.
وقال عكرمة والسدّي: عامِلَةٌ في الدنيا بالمعاصي، ناصِبَةٌ في النار يوم القيامة، وقال سعيد ابن جبير وزيد بن أسلم: هم الرهبان وأصحاب الصوامع، وهي رواية أبي الضحى عن ابن عبّاس. تَصْلى ناراً حامِيَةً قال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. قراءة العامّة بفتح التاء، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمّها اعتبارا بقوله: تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ حارّة. قال قتادة: قد أتى طبخها منذ خلق الله السماوات والأرض. لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ قال محمد وعكرمة وقتادة: وهو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسمّيه فرش الشرق، فإذا هاج سمّوه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، الوالي عنه: هو شجر من نار، وقال ابن زيد: أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، تدعوه العرب الضريع، وهو في الآخرة شوك من نار. وقال الكلبي: لا تقربه دابّة إذا يبس، ولا يرعاه شيء، وقال سعيد بن جبير هو الحجارة، عطاء عن ابن عبّاس: هو شيء يطرحه البحر المالح، يسمّيه أهل اليمن الضريع، وقد روي عن ابن عبّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الضريع شيء يكون في النار شبه الشوك، أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرّا من النار» [138] «1» سمّاه النبيّ ضريعا، وقال عمرو بن عبيد: لم يقل الحسن في الضريع شيئا، إلّا أنّه قال: هو بعض ما أخفى الله من العذاب، وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون منه ويذلّون ويتضرّعون إلى الله سبحانه، وعلى هذا التأويل يكون المعنى المضرّع. وقال أبو الدرداء والحسن: يقبّح الله سبحانه وجوه أهل النار يوم القيامة يشبهها بعملهم «2» القبيح في الدنيا، ويحسن وجوه أهل الجنّة يشبّهها بأعمالهم الحسنة في الدنيا، وأنّ الله سبحانه يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ويستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يخبزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون بعطشهم ألف سنة، ثمّ يسقون من عين آنية لا هنيّة ولا مريّة، فكلّما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطّعها، فذلك قوله سبحانه: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ. قال المفسّرون: فلمّا نزلت هذه الآية قال المشركون: إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله سبحانه: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ويقول: فإنّ الإبل ترعاه ما دام رطبا، فإذا يبس فلا يأكله شيء ورطبه يسمّى شبرقا لا ضريعا.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها في الدنيا راضِيَةٌ في الآخرة حين أعطيت الجنّة بعملها ومجازات لثواب سعيها في الآخرة راضية فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً لغو وباطل، وقيل: حلف كاذب. فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ ووسائد ومرافق مَصْفُوفَةٌ بعضها بجنب بعض، واحدتها نمرقة. قال الشاعر: كهول وشبّان حسان وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق «1» وَزَرابِيُّ يعني البسط العريضة. قال ابن عبّاس: هي الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدتها زريبة. مَبْثُوثَةٌ مبسوطة وقيل: متفرّقة في المجالس. أَفَلا يَنْظُرُونَ الآية، قال المفسّرون لمّا نعت الله ما في الجنّة في هذه السورة عجب من ذلك أهل الكفر والضلالة وكذبوا بها، فذكرهم الله سبحانه صنعه فقال عزّ من قائل: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وكانت الإبل من عيش العرب ومن حولهم، وتكلّمت الحكماء في وجه تخصيص الله سبحانه الإبل من بين سائر الحيوانات، فقال مقاتل: لأنّهم لم يروا قط بهيمة أعظم منها، ولم يشاهدوا الفيل إلّا الشاذّ منهم، وقال الكلبي: لأنّها تنهض بحملها وهي باركة لأنّه وليس شيء من الحيوانات سابقها ولا سائقها غيرها، وقال قتادة: ذكر الله سبحانه ارتفاع سرر الجنّة وفرشها فقالوا: كيف نصعد؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية. وسئل الحسن عن هذه الآية وقيل له: الفيل أعظم في الأعجوبة؟ فقال: أمّا الفيل فالعرب بعيدو «2» العهد بها، ثمّ هو خنزير لا يركب ظهرها ولا يأكل لحمها ولا يحلب درها، والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه. وقال الحسن: إنّما يأكلون النوى والقت ويخرج «3» اللبن، وقيل: لأنّها في عظمة تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف حتّى أنّ الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث يشاء. وحكى الأستاذ أبو القاسم بن حبيب أنّه رأى في بعض التفاسير أنّ فأرة أخذت بزمام ناقة، فجعلت تجرّ بها والناقة تتبعها، حتّى دخلت الجحر فجرّت الزمام فتحرّكت فجرّته فقربت فمها من جحر الفأر. فسبحان الذي قدّرها وسخّرها. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن العلاء قال: حدّثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن شريح أنّه كان يقول: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتّى ننظر إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 إلى 26]
وقيل: الإبل هاهنا السحاب، ولم أجد لذلك أصلا في كتب الأئمّة وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ بسطت، وقال أنس بن مالك: صلّيت خلف علي بن أبي طالب فقرأ افلا تنظرون إلى الإبل كيف خلقتُ وكذلك رفعتُ ونصبتُ وسطحتُ برفع التاء ، وقرأ الحسن سطّحت بالتشديد. [سورة الغاشية (88) : الآيات 21 الى 26] فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ بمسلّط جبّار يكرههم على الإيمان، ثمّ نسخ ذلك بآية القتال وقرأها هارون بِمُسِيْطَرٍ (بفتح الطاء) وهي لغة تميم. إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ اختلفوا في وجه هذا الاستثناء، فقال بعضهم: هو راجع إلى قوله: فَذَكِّرْ ومجاز الآية: فَذَكِّرْ قومك إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ منهم، فإنّه لا ينفعه التذكير، وقيل معناه لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إلّا على مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فانّك تقاتله حتّى يسلم، وقيل: هو راجع إلى ما بعده، وتقديره: لكن مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو النار، وانّما قال: الْأَكْبَرَ لأنّهم عذّبوا في الدنيا بالجوع، والقحط، والقتل، والأسر، ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فإنّه يعذّبه الله العذاب الأكبر) . إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ رجوعهم ومعادهم، وقرأ أبو جعفر بتشديد الياء، قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك ولو جاز فيه لجاز في الصيام والقيام. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ.
سورة الفجر
سورة الفجر مكّية، وهي خمسمائة وسبعة وتسعون حرفا ومائة وتسع وثلاثون كلمة، وثلاثون آية. أخبرني نافل بن راقم بن أحمد البابي قال: حدّثنا محمد بن محمد بن سادة قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا سلمة بن قتيبة عن شعبة عن عاصم بن هدله عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة وَالْفَجْرِ في الليالي العشر غفر له ومن قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة» [139] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) وَالْفَجْرِ قال ابن عبّاس: يعني النهار كلّه، عطية عنه، صلاة الفجر، عثمان بن محصن عنه: فجر المحرّم ومثله قال قتادة: هو أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. ضحاك: فجر ذي الحجّة لأنّ الله سبحانه قرن الأيّام بها. عكرمة وزيد بن أسلم: الصبح. مقاتل: عداه جميع كلّ سنة. القرظي: انفجار الصبح من كلّ يوم إلى انقضاء الدّنيا. في بعض التفاسير: أنّ الفجر الصخور والعيون تتفجّر بالمياه. وَلَيالٍ عَشْرٍ قال مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي والحلبي: هي عشر ذي الحجّة، عكرمة: ليالي الحجّ، وقال مسروق: هي أفضل أيّام السنة. أبو روق عن الضحّاك: هي العشر الأول من شهر رمضان، أبو ظبيان عن ابن عبّاس قال: هي العشر الأواخر من شهر رمضان، يمان بن رباب: العشر الأولى من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء. أخبرني الحسن قال: حدّثنا بن حمدان قال: حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال: حدّثنا منجاب بن الحرث قال: أخبرنا بشر بن عمارة قال: حدّثنا عمر بن حسّان عن عطية العوفي في قوله سبحانه: وَالْفَجْرِ قال: هو الفجر الذي تعرفون، قلت: وَلَيالٍ عَشْرٍ قال:
عشر الأضحى، قلت: وَالشَّفْعِ قال: خلقه، يقول الله سبحانه: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، قلت: وَالْوَتْرِ قال: الله وتر، قلت له: هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: عمّن؟ قال: عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم [140] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن نصرويه قال: حدّثنا ابن وهب قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن سعيد القطان وعبدة بن عبد الله بن النعمان قالا: حدّثنا أبو الحسين زيد بن الحبّاب العكلي قال: حدّثنا عبّاس بن عقبة قال: حدّثني حسين بن نعيم الحضرمي عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله سبحانه: وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ قال: «عشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر» [141] «2» . وبه عن ابن وهب قال: حدّثنا يوسف بن عبد الرحمن قال: حدّثنا سعيد بن مسلمة الأموي قال: حدّثنا واصل بن السائب الرقاشي قال: حدّثني أبو سودة قال: حدّثني أبو أيّوب الأنصاري قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه وتعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قال: «الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر ليلة النحر» [142] «3» . وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهندري قال: حدّثنا أبو الطاهر المحمدآبادي قال: حدّثنا عثمان بن سعيد قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا خالد بن قيس وهمام بن يحيى قالا: حدّثنا قتادة عن عمران بن عاصم عن عمران بن حصين أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فقال: «هي الصلاة منها الشفع ومنها الوتر» [143] «4» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن لؤلؤ قال: حدّثنا الهيثم قال: حدّثنا الدّورقي قال: حدّثنا حجّاج عن ابن جريح قال: أخبرني محمد بن المرتفع أنّه سمع ابن الزبير يقول: وَالشَّفْعِ النفر الأوّل وَالْوَتْرِ [يوم] النفر الآخر. وأخبرني الحسن قال: حدّثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدّثنا أحمد بن كثير القيسي قال: حدّثنا محمد بن عبد الله المقرئ قال: حدّثنا مروان بن معاوية الفزاري عن أبي سعيد بن عوف قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: يا معشر الحاجّ إنّكم جئتم من القريب والبعيد على الضعيف والشديد، فأسهرتم الأعين وأنصبتم الأنفس وأتعبتم الأبدان، فلا يبطلنّ أحدكم حجّه وهو لا يشعر، ينظر نظرة بعينه أو يبطش بطشة بيده، أو يمشي مشية برجله.
يا أهل مكّة وسّعوا عليهم ما وسّع الله عليكم وأعينوهم ما استعانوكم عليه، فإنّهم وفد الله وحاجّ بيت الله ولهم عليكم حقّ، فاسألوني فعلينا كان التنزيل، ونحن حصرنا التأويل، فقام إليه رجل من ناحية زمزم فقال: دخلت فأرة جرابي وأنا محرم؟ فقال: اقتلوا الفويسقة، فقام آخر فقال: أخبرنا ب الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ والليالي العشر فقال: أمّا الشفع والوتر فقول الله سبحانه: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فهما الشفع والوتر، وأمّا الليالي العشرة فالثمان وعرفة والنحر، فقام آخر فقال: أخبرنا عن يوم الْحَجِّ الْأَكْبَرِ؟ فقال: هو يوم النحر ثلاث تتلوها. وقال مجاهد ومسروق وأبو صالح: الشَّفْعِ الخلق كلّه، قال الله سبحانه: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «1» الكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والبرّ والبحر والشمس والقمر والجنّ والإنس، وَالْوَتْرِ الله سبحانه، قال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. الحسن وابن زيد: أراد ب الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ الخلق كلّه، منه شفع ووتر. عطية عن ابن عبّاس: الشَّفْعِ صلاة الغداة وَالْوَتْرِ صلاة المغرب. قتادة عن الحسن: هو العدد منه شفع ومنه وتر. مقاتل: الشَّفْعِ هو آدم وحواء، وَالْوَتْرِ هو الربّ تبارك وتعالى، وقيل: الْوَتْرِ آدم شفّعه الله بزوجته حواء. إبراهيم والقرظي: الزوج والفرد. الربيع عن أبي العالية: الشَّفْعِ ركعتان من صلاة المغرب وَالْوَتْرِ الركعة الثالثة، وقيل: الشَّفْعِ الصفا والمروة وَالْوَتْرِ البيت، الحسين بن الفضل: الشَّفْعِ درجات الجنان لأنّها ثمان وَالْوَتْرِ دركات النار لأنّها سبع، كأنّه الله- سبحانه وتعالى- أقسم بالجنّة والنار. مقاتل بن حيان: الشَّفْعِ الأيّام والليالي، وَالْوَتْرِ اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا عبد الله محمد بن نافع الشجري يقول: سمعت أبا زيد حاتم بن محبوب السامي يقول: سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: الوتر هو الله عزّ وجلّ وهو الشفع أيضا لقوله: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «2» وسمعت أبا القاسم يقول: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد ابن يزيد يقول: سمعت أبا عبد الله بن أبي بكر الورّاق يقول: سئل أبو بكر عن الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ فقال: الشَّفْعِ تضاد أوصاف المخلوقين العزّ والذلّ والقدرة والعجز والقوّة والضعف والعلم
والجهل والبصر والعمى، وَالْوَتْرِ انفراد صفات الله سبحانه عزّ بلا ذلّ، وقدرة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وبصر بلا عمى وحياة بلا موت وما إزاءها. وقيل: الشَّفْعِ مسجد مكّة والمدينة، وَالْوَتْرِ مسجد بيت المقدس، وقيل: الشَّفْعِ القرآن في الحجّ والتمتّع فيه، وَالْوَتْرِ الإفراد فيه، وقال ابن عطاء وَالْفَجْرِ محمّد صلّى الله عليه لأنّ به تفجّرت أنوار الإيمان وغابت ظلم الكفر. وَلَيالٍ عَشْرٍ ليالي موسى التي أكمل بها ميعاده بقوله تعالى: وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ «1» ، وَالشَّفْعِ: الخلق وَالْوَتْرِ: الحقّ، وقيل: الشَّفْعِ الفرائض وَالْوَتْرِ السنن، وقيل: الشَّفْعِ الأفعال وَالْوَتْرِ النيّة، وهو الإخلاص، وقيل: الشَّفْعِ العبادة التي تتكرّر، كالصلاة والصوم والزكاة، وَالْوَتْرِ: العبادة التي لا تتكرّر كالحجّ، وقيل: الشَّفْعِ النفس والروح إذا كانتا معا، وَالْوَتْرِ الروح بلا نفس والنفس بلا روح، فكأنّ الله سبحانه أقسم بها في حالتي الاجتماع والافتراق «2» . واختلف القرّاء في الْوَتْرِ، فقرأ يحيى «3» بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: بكسر الواو، وهو اختيار أبي عبيد، قال: لأنّها أكثر في العامّة وأفشى، ومع هذا إنّا تدبّرنا الآثار التي جاء فيها ذكر وتر الصلاة فوجدنا كلّها بهذه اللغة ولم نسمع في شيء منه الوتر بالفتح، ووجدنا المعنى في الوتر جميعا الذي في الصلاة والذي في السورة، وإن تفرّقا في الفرع فإنّهما في الأصل واحد إنّما تأويله الفرد الذي هو ضدّ الشفع، وقرأ الباقون بفتح الواو، وهي لغة أهل الحجاز واختيار أبي حاتم وهما لغتان مستفيضتان. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قال أكثر المفسّرين: يعني إذا سار فذهب، وقال قتادة: إذا جاء وأقبل. قال مجاهد وعكرمة والكلبي: هي ليلة المزدلفة. واختلف القرّاء في قوله: يَسْرِ فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعيسى بالياء في الوصل، وهي اختيار أبي حاتم ورواية قتيبة ونصير والشرياني عن الكسائي قال أبو عبيد: كان الكسائي فترة يقول: أثبت الياء بالوصل واحذفها في الوقف لمكان الكتاب، ثمّ رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعا لأنّها رأس آية، وهي قراءة ابن عامر وعاصم واختيار أبي عبيد اتباعا للخط، وقرأ ابن كثير ويعقوب الياء في الحالين على الأصل، قال الخليل بن أحمد: أسقط الياء منه وفاقا لرؤوس الآي. وقال أكثر أهل المعاني: يعني يسري فيه كقولهم: ليل نائم ونهار صائم وسر كاتم. قال الفراء: يحذف العرب الياء ويكتفي بكسر ما قبلها. أنشدني بعضهم:
[سورة الفجر (89) : الآيات 6 إلى 14]
كفّاك كفّ ما تلقي درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما «1» وقال آخر: ليس يخفى سادتي قدر قوم ... ولعل يخف سئمتي إعساري وقال المؤرّخ: سألت الأخفش عن العلّة في سقوط الياء من يسر، فقال: لا أجيبك ما لم تبت على باب داري سنة. فبتّ سنة على باب داره ثمّ سألته فقال: الليل لا يسري، وانّما يسرى فيه وهو مصروف فلمّا صرفه بخسه حظّه من الإعراب، ألا ترى إلى قوله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا «2» ؟ ولم يقل بغية لأنّه صرّفه من باغية. هَلْ فِي ذلِكَ الذي ذكرت قَسَمٌ أي مقنع ومكتف «3» في القسم لِذِي حِجْرٍ عقل سمّي بذلك لأنّه يحجر صاحبه ممّا لا يحلّ ولا يجمل كما سمّي عقلا لأنّه يعقله عن القبائح والفضائح، ونهي لأنّه نهى عمّا لا ينبغي، وأصل الحجر المنع، يقال للرجل إذا كان مالكا قاهرا ضابطا له: إنّه لذو حجر، ومنه قولهم: حجر الحاكم على فلان. [سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 14] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ قرأته العامّة بالتنوين وقرأ الحسن (بعادِ إرم) على الإضافة وقرأت العامّة: (إِرَمَ) بكسر الألف، وقرأ مجاهد بفتحه، قال المؤرّخ: من قرأ بفتح الألف شبههم بالآرام، وهي الأعلام واحدها ارم. واختلف العلماء في معنى قوله إِرَمَ فأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى الباقرحي قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشير عن محمد بن إسحاق عمّن يخبره أنّ سعيد بن المسيّب كان يقول: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ دمشق. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن مروان، قال: حدّثنا علي بن حرب الطائي قال: حدّثنا أبو الأشهب هود عن عوف الإعرابي عن خالد الربعي إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ قال: دمشق، وبه قال عكرمة وأبو سعيد المقبري.
وقال القرظي: هي الإسكندرية، وقال مجاهد: هي ارمة ومعناها القديمة. قتادة: هم قبيلة من عاد، وقال أبو إسحاق: هو جدّ عاد، وهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح. وقال مقاتل: ارم قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك وكانوا موضع مهرة، وكان عاد أباهم فنسبهم إليه، وهو ارم بن عاد بن شمر بن سام بن نوح. وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبو الطيّب المروزي قال: حدّثنا محمّد بن علي قال: أخبرنا فضل بن خالد قال: حدّثنا عبيد بن سليمان عن الضحّاك بن مزاحم أنّه كان يقرأ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بفتح الألف والراء، والإرم الهلاك فقال: ارم بنو فلان أي هلكوا، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس. وروي عن الضحّاك أنّه قرأ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ أي أهلكهم وجعلهم رميما، والصواب أنّها اسم قبيلة أو بلدة فلذلك لم يجرّ «1» . قوله: ذاتِ الْعِمادِ قال قوم: يعني ذات الطول والقوّة والشدّة. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أبو حاتم قال: حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال: حدّثني معاوية بن صالح عمّن حدّثه عن المقدام عن النبيّ صلّى الله عليه أنّه ذكر «إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ» فقال: «كان الرجل منهم يأتي بالصخرة فيحملها على [كاهله فيلقيها على أي حي أراد] فيهلكهم» [144] «2» . وقال الكلبي: كان طول الرجل منهم أربع مائة ذراع، وقال ابن عبّاس: يعني طولهم مثل العماد، ويقول العرب للرجل الطويل: معمّدا، وقال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعا، وقال آخرون: إنّما قيل لهم: ذات العماد لأنّهم كانوا أهل عمد سيارة ينتجعون الغيث وينتقلون إلى الكلأ، حيث كان ثمّ يرجعون إلى منازلهم ولا يقيمون في موضع. قال الكلبي: ارم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل السواد وأهل الجزيرة، كان يقال: عاد ارم وثمود ارم، فأهلك الله سبحانه عادا، ثمّ ثمود وبقي أهل السواد وأهل الجزيرة، وكان أهل عمد وخيام وماشية في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم فكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم كانت بوادي القرى، وهي التي يقول الله سبحانه: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وقيل: سمّوا ذات العماد لبناء بناه بعضهم، فشيّد عمده ورفع بناءه، والعماد والعمد والعمد جمع عمود، وهو: ما أخبرنا أبو القاسم المفسّر قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفّار
الأصبهاني قال: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن مهدي بن رستم الأصبهاني قال: حدّثنا عبد الله بن صالح المصري قال: حدّثني ابن لهيعة وأخبرنا أبو القاسم قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال: أخبرنا عثمان بن سعيد الدارجي قال: أخبرنا عبد الله بن صالح قال: حدّثني ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنّه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحاري عدن إذا هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كبيرة وأعلام طوال، فلمّا دنى منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله فلم ير خارجا ولا داخلا فنزل عن دابته وعقلها وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن، فلمّا دخل في الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما، والبابان مرصّعان بالياقوت الأبيض والأحمر فلمّا رأى ذلك دهش وأعجبه ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور كل قصر معلّق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت وفوق كلّ قصر منها غرف: [اعتبر يا أيها المغرور بالعمر المديد ... أنا شداد بن عاد صاحب الحصن المشيد ] وأخو القوّة والبأساء والملك الحشيد ... دار أهل الأرض لي من خوف وعيدي ووعيد وملكت الشرق والغرب بسلطان شديد ... وبفضل الملك والعدّة فيه والعديد فأتى هود وكنّا في ضلال قبل هود ... فدعانا لو قبلناه إلى الأمر الرشيد وعصيناه ونادى هل من محيد ... فأتتنا صيحة تهوي من الأفق البعيد فتوافينا كزرع وسط بيداء حصيد وَثَمُودَ أي وثمود الَّذِينَ جابُوا قطّعوا وخرقوا الصَّخْرَ الحجر واحدتها صخرة بِالْوادِ يعني بوادي القرى، فنحتوا منها بيوتا كما قال الله سبحانه: وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ «1» . قال أهل السير: أوّل من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، فبنوا من الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف كلّها من الحجارة، وأثبت أبو جعفر وأبو حاتم وورش الياء في الوادي وصلا، وأثبتها في الوصل والوقف ابن كثير برواية البزي والعواش ويعقوب على الأصل، وحذفها الآخرون في الحالتين لأنّها رأس آية. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ اختلفوا فيه فقال بعضهم: أراد ذا الجنود والجموع الذين يقوّون أمره «2» ويسدّدون مملكته، وسمّي الأجناد أوتادا لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتّدونها في أسفارهم، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس.
وقال قتادة: سمّي ذا الأوتاد لأنّه كانت له مظال وملاعب وأوتاد يضرب له فتلعب له تحتها، وقال محمد بن كعب: يعني ذا البناء المحكم، وقال سعيد بن جبير: كان له منارات يعذّب الناس عليها، وقال مجاهد وغيره: كان يعذّب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مدّه على الأرض وأوتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشير عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عبّاس أنّ فرعون لمّا قيل له: ذو الأوتاد أنّه كان امرأة- وهي امرأة خازنه خربيل «1» بن نوحابيل وكان مؤمنا كتم إيمانه مائة سنة «2» ، وكان لقي من لقى من أصحاب يوسف، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون- فبينما هي ذات يوم تمشّط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت: تعس من كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لك من إله غير أبي؟ فقالت: إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له. فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي قال: ما يبكيك؟ قالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها ويحك: اكفري بإلهك وأقري أني إلهك، قالت: لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب فقال لها: اكفري بالله وإلّا عذبتك بهذا العذاب شهرين، قالت: والله لو عذّبتني سبعين شهرا ما كفرت بالله تعالى. قال: وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، وقال لها: اكفري بالله وإلّا ذبحت ابنتك الصغرى على فيك، وكانت طفلة رضيعة تجد بها وجدا شديدا فقالت: لو ذبحت من على الأرض على فيّ ما كفرت بالله تعالى. قال: فأتى بابنتها فلمّا أن قدّمت منها وأضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمت وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالا، فقالت: يا أمّاه لا تجزعي فإنّ الله سبحانه قد بنى لك بيتا في الجنّة، اصبري فإنّك تمضين إلى رحمة الله سبحانه وكرامته، قال: فذبحت فلم تلبث أن ماتت وأسكنها الله سبحانه الجنّة. قال: وبعث في طلب زوجها خربيل فلم يقدروا عليه، فقيل لفرعون: إنّه قد رئي في موضع كذا وكذا في جبال كذا وكذا، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلّي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلّون، فلمّا رأيا ذلك انصرفا، وقال خربيل: اللهم إنّك تعلم أنّي كتمت إيماني مائة سنة، ولم يظهر عليّ أحد فأيّما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤله، وأيّما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجّل عقوبته في الدّنيا، واجعل مصيره في العاقبة إلى
النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأمّا أحدهما فاعتبر وآمن، وأمّا الآخر فأخبر فرعون بالقصّة على رؤوس الملأ، فقال له فرعون: وهل كان معك غيرك؟ قال: نعم. قال: ومن كان معك؟ قال: فلان. فدعى به. فقال: حقّ ما يقول هذا؟ قال: لا، ما رأيت ممّا قال شيئا. فأعطاه فرعون وأجزل، وأمّا الآخر فقتله ثمّ صلبه. قال: وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسيا بنت مزاحم، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما أتى فرعون وأنا مسلمة وهو كافر، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريبا منها فقالت: يا فرعون أنت شرّ الخلق وأخبثه عمدت إلى الماشطة فقتلتها، فقال: فلعلّ بك الجنون الذي كان بها. قالت: ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزّق عليها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما فقال لهما الأمر، بأنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها فقالت: أعوذ بالله من ذلك، إنّي أشهد أنّ ربّي وربّك وربّ السماوات والأرض واحد لا شريك له، فقال أبوها: يا آسية ألست خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق؟ قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما تقول حقّا، فقولا له: يتوّجني تاجا يكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهم فرعون: أخرجا عنّي فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها، وفتح الله سبحانه لها بابا إلى الجنّة ليهوّن عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ يعني من جماع فرعون وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني من فرعون وشيعته، فقبض الله سبحانه روحها وأسكنها الجنّة «1» . وقيل: الأوتاد عبارة عن ثبات مملكته وطول مدّته وشدّة هيبته، كثبوت الأوتاد في الأرض كقول الأسود: في ظل ملك ثابت الأوتاد «2» الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ قال قتادة: يعني لونا من العذاب صبّه عليهم، وقال السّدي: كلّ يوم لون آخر من العذاب، وقيل: وجع العذاب، وقال أهل المعاني: هذا على الاستعارة لأنّ السوط عندهم غاية العذاب، فجرى ذلك لكلّ عذاب. قال الشاعر:
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 إلى 30]
ألم تر أنّ الله أظهر دينه ... وصبّ على الكفّار سوط عذاب «1» إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ قال ابن عبّاس: سبحانه يرى ويسمع، وقال مقاتل: ترصد الناس على الصراط، فجعل رصدا من الملائكة معهم الكلاليب والمحاجن والحسك، وقال الضحّاك: بمرصد لأهل الظلم والمعصية، وقيل: معناه مرجع الخلق ومصيرهم إلى حكمه وأمره، وقال الحسن وعكرمة: ترصد أعمال بني آدم، وعن مقاتل أيضا: ممرّ الناس عليه. عطاء ابن أبي رياح: لا يفوته أحد. يمان: لا محيص عنه. السدي: أرصد النار على طرقهم حتّى تهلكهم، والمرصاد والمرصد الطريق وجمع المرصاد مراصيد وجمع المرصد مراصد. وروى مقسم عن ابن عبّاس قال: إنّ على جهنّم سبع مجاسر يسأل العبيد عند أوّلهنّ عن شهادة أن لا إله إلّا الله، فإن جاء بها تامّة جاز بها إلى الثاني، فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث، فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع، فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تامّا جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحجّ فإن جاء به تامّا جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلّا يقال انظروا، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله، فإذا فرغ به انطلق به إلى الجنّة. [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ امتحنه رَبُّهُ بالنعمة والوسعة. فَأَكْرَمَهُ بالمال وَنَعَّمَهُ بما وسّع عليه من الأفضال فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فيفرح بذلك ويسر ويحمد عليه ويشكر، وإِذا مَا ابْتَلاهُ بالفقر فَقَدَرَ وضيّق وقتّر عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أذلّني بالفقر، ولم يشكر الله على ما أعطاه من سلامة الجوارح ورزقه من العافية والصحّة. قال قتادة: ما أسرع كفر ابن آدم. وقراءة العامّة فَقَدَرَ بتخفيف الدال، وقرأ أبو جعفر وابن عامر بالتشديد، وهما لغتان وكان أبو عمرو يقول: قدر بمعنى قتّر وقدر هو أن يعطيه ما يكفيه ولو فعل ذاك ما قال: رَبِّي أَهانَنِ، ثمّ ردّ عليه فقال: كَلَّا لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولم ابتله بالفقر لهوانه عليّ
وأنّ الفقر والغنى من تقديري وقضائي. فلا أكرم من أكرمته بالغنى وكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنته بالفقر وقلّة الدنيا، ولكني إنّما أكرم من أكرمته بطاعتي، وأهين من أهنته بمعصيتي، وقال الفراء: معنى كلا لم ينبغ «1» له أن يكون هذا ولكن ينبغي أن يحمده على الأمرين على الغنى والفقر. ثم قال: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ يعني أهنت من أهنت من أجل أنّه لا يكرم اليتيم. واختلف القرّاء في هذه الآية فقرأ أهل البصرة يكرمون وما بعده كلّه بالياء، وقرأها الآخرون بالتاء وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة تَحَاضُّونَ بالألف وفتح التاء، وروى الشذري عن الكسائي (تُحَاضُّونَ) بضم التاء، غيرهم (تحضّون) بغير الألف. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ الميراث أَكْلًا لَمًّا شديدا، قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. بكر بن عبد الله: اللّمّ الاعتداء في الميراث يأكل ميراثه وميراث غيره. ابن زيد: الأكل اللمّ الذي يأكل كلّ شيء يجده ولا يسأل عنه أحلال أم حرام، ويأكل الذي له والذي لغيره، وذلك أنّهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان، وقرأ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ الآية قال أبو عبيدة يقال: لممت ما على الخوان إذا أتيت على ما عليه وأكلته كلّه أجمع. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيرا يقال جمّ الماء في الحوض إذا كثر واجتمع. كَلَّا ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ثمّ أخبر ممن تلهّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عزّ من قائل: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا مرّة بعد مرّة فيكسر كلّ شيء على ظهرها. وَجاءَ رَبُّكَ قال الحسن: أمره وقضاؤه، وقال أهل الإشارة: ظهر قدرة ربّك وقد استوت الأمور وأنّ الحقّ لا يوصف يتحوّل من مكان إلى مكان وأنّى له التجوّل والتنقّل ولا مكان له ولا أوان ولا تجري عليه وقت وزمان لأنّ في حرمان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز، والحقّ ينزّه أن تحوي صفاته الطبائع أو تحيط به الصدور. وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا يعقوب بن يوسف القروي قال: حدّثنا القاسم بن الحكم قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد قال: حدّثنا عطية عن أبي سعيد قال: لمّا نزلت هذه الآية وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ تغيّر لون رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله فانطلق بعضهم إلى عليّ رضي الله عنه فقالوا: يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وسلم. فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبّل بين عاتقيه ثمّ قال: يا نبي الله بأبي أنت وأمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك؟ قال: «جاء جبريل (عليه السلام) فأقرأني هذه الآية: كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قلت: فكيف يجاء بها؟
قال: «يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول: ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ، فلا يبقى أحد إلّا قال: نفسي نفسي وأنّ محمّدا يقول: أمّتي أمّتي، فيقول الله سبحانه إلى الملائكة: ألا ترون الناس يقولون: ربّ نفسي نفسي وأنّ محمّد يقول: أمّتي أمّتي؟» [145] «1» . وقال عبد الله بن مسعود ومقاتل في هذه الآية: تقاد جهنّم بسبعين ألف زمان كلّ زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيّظ وزفير حتّى تنصب على يسار العرش. يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ في حياتي لِحَياتِي في الآخرة فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ قرأ العامّة بكسر الذال والثاء على معنى لا يعذّب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ. قال الفراء وقيل: إنّه رجل مسمّى بعينه وهو أميّة بن خلف الجمحي: يعني لا يعذّب كعذاب هذا الكافر أحد ولا يوثق كوثاقه أحد، واختار أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة لما أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا هيثم وعناد بن عباد عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن أقرأه النبيّ- صلّى الله عليه- فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذَّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثَقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ يعني بنصب الذال والثاء. ويروى أنّ أبا عمرو رجع في آخر عمره إلى قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم. معنى الآية لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق، وهو الإشارة في السلاسل والأغلال. أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا شعبة عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن سمع النبيّ- صلّى الله عليه- يقرأ فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ يعني يفعل به. يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى ما وعد الله المصدّقة بما قال. مجاهد: المنيبة المخبتة التي قد أيقنت أنّ الله سبحانه ربّنا، وضربت لأمره جأشا. المسيّيب: سمعت الكلبي وأبا روق يقولان: هي التي يبيّض الله وجهها ويعطيها كتابها بيمينها فعند ذلك تطمئن. الحسن: المؤمنة الموقنة. عطية: الراضية بقضاء الله. حيّان عن
الكلبي: الآمنة من عذاب الله تعالى «1» . أخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا خلّاد بن أسلم قال: أخبرنا النضر عن هارون القارئ قال: حدّثني هلال عن أبي شيخ الهنائي قال: في قراءة أبي يا أيّتها النفس الآمنة المطمئنة. وأخبرني أبو محمّد الحسين بن أحمد الشعبي قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا محمد بن إسحاق السراج قال: حدّثنا سوار بن عبد الله قال: حدّثنا المعمر بن سليمان عن إبراهيم بن إسماعيل عن ابن أبي نجاح عن مجاهد يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال: الراضية بقضاء الله التي قد علمت أنّ ما أصابها لم يكن ليخطئها وأنّ ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وقال ابن كيسان: المخلصة. ابن عطاء: هي العارفة بالله سبحانه التي لا تصبر عنه طرفة عين، وقيل: المطمئنة بذكر الله. بيانه: وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، وقيل: هي المتوكّلة على الله تعالى الواثقة بما ضمن لها من الرزق «2» . ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، ووقت هذه المقالة فقال قوم: يقال ذلك لها عند الموت: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وهو الله عزّ وجلّ. أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدّثنا محمّد ابن سهل العسكري قال: حدّثنا العطاردي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله سبحانه: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً قال: هذا عند خروجها من الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفراتي قال: حدّثنا أحمد بن خالد قال: حدّثنا روح بن عبادة قال: حدّثنا زهير بن محمد قال: حدّثنا زيد ابن أسلم عن عبد الرحمن بن السليماني عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إذا توفّي العبد المؤمن أرسل الله سبحانه ملكين وأرسل إليه تحفة من الجنّة فيقال لها: اخرجي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخرجي إلى روح وريحان وربّ عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في نفسه قط، والملائكة على أرجاء السماء. فيقولون: قد جاء من الأرض روح طيّبة ونسمة طيّبة، فلا يمرّ بباب إلّا فتح له ولا ملك إلّا صلّى عليه، حتّى يؤتي به الرحمن، ثمّ تسجد الملائكة ثمّ يقولون: ربّنا هذا عبدك فلأن توفيته كان يعبدك لا يشرك بك شيئا فيقول: مروه فليسجد، وتسجد النسمة، ثمّ يدعى ميكائيل فيقول: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتّى أسألك عنها يوم القيامة، ثمّ يؤمر فيوسع عليه قبره
سبعون ذراعا عرضه وسبعون ذراعا طوله وينبت له فيه الريحان. إن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن معه جعل له مثل الشمس في قبره، ويكون مثله كمثل العروس، ينام فلا يوقظه إلّا أحبّ أهله إليه، فيقوم من نومته كأنّه لم يشبع منها، وإذا توفّي الكافر أرسل الله سبحانه وتعالى ملكين وأرسل قطعة من سجّاد أنتن وأخشن من كلّ خشن، فيقال: أيّها النفس الخبيثة اخرجي إلى حميم وعذاب أليم وربّ عليك غضبان. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا المسوحي قال: حدّثنا عمرو بن العلاء الحنفي قال: حدّثنا ابن يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد قال: قرأ رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال أبو بكر: ما أحسن هذا! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أمّا أنّ الملك سيقولها لك [عند الموت] » [146] «1» . حدّثنا أحمد بن محمد بن يعقوب القصري بها قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: أخبرني مروان بن شجاع الجزري، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا محمد بن علي بن سالم قال: حدّثنا أحمد بن منبع قال: حدّثنا مروان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عبّاس بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه، فدخل نعشه ثمّ لم ير خارجا منه فلمّا دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يرى من تلاها: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي وقال آخرون: انّما يقال ذلك لها عند البعث: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ، أي صاحبك وجسدك فيأمر الله سبحانه الأرواح أن ترجع إلى الأجساد، وإلى هذا القول ذهب عكرمة وعطاء والضحّاك وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس. ودليل هذا التأويل ما أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا حجّاج عن هارون عن أبان بن أبي عيّاش عن سليمان بن قته عن ابن عبّاس أنّه قراها فادخلي في عبدي على التوحيد. وقال الحسن: معناه ارْجِعِي إِلى ثواب رَبِّكِ وكرامته. ابن كيسان: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ أي أمثالك من عباد ربّك الصالحين. وقال بعض أهل الإشارة يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى الدنيا ارْجِعِي إلى الله بتركها والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة. راضِيَةً عن الله بما أعدّ لها مَرْضِيَّةً رضي عنها ربّها. فَادْخُلِي فِي عِبادِي قال بعضهم: يعني مع عبادي جنّتي في معنى الآية تقديم وتأخير، وإليه ذهب مقاتل والقرظي وأبو عبيدة. وَادْخُلِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ يعني مع أنبيائنا في الجنّة، وقال الأخفش: أي في حزبي، وقال أمر الأرواح بعودها إلى أجسادها والله
أعلم. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب قال: حدّثنا إبراهيم عن صالح بن حيان عن ابن بريدة في هذه الآية يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ قال: نفس حمزة بن عبد المطّلب نزلت فيه يوم استشهد يوم أحد، بل نزلت نفسه عند ربّ العالمين، مكرمة مشرفة على من عنده حتّى يردها الله سبحانه إلى حمزة في دعة، وسكون وكرامة. وقد نزلت في حبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكّة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك. فحوّل الله سبحانه وجهه نحو القبلة من غير أن يحوّله أحد، فلم يستطيع أحد أن يحوّله وحكمها عام لجميع المؤمنين المطمئنين.
سورة البلد
سورة البلد مكية، وهي ثلاثمائة وعشرون حرفا، واثنتان وثمانون كلمة، وعشرون آية. أخبرنا نافل بن ارضم بن عبد الجبّار قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن محمد الصفّار قال: حدّثنا عمرو بن محمد قال: حدّثنا سباط بن اليسع قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي قال: حدّثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن عليّ بن زيد عن زرّ عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة» [147] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) لا أُقْسِمُ يعني أقسم بِهذَا الْبَلَدِ يعني مكّة وَأَنْتَ يا محمّد حِلٌّ حلال بِهذَا الْبَلَدِ تصنع ما تريد من القتل والأسر، وذلك أنّ الله سبحانه أحلّ لنبيّه صلى الله عليه وسلم مكّة يوم الفتح حتّى قاتل وقتل، وأحلّ ما شاء وحرم ما شاء، وقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة، ومقيّس بن صبابة وغيرهما ثمّ قال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» «2» فأحلّ دم ابن خطل وأصحابه وحرّم دار أبي سفيان، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله حرّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد بعدي ولم يحلّ لي إلّا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا نختلي خلالها ولا نفر صيدها ولا يحلّ لقطتها إلّا المنشد» . فقال العبّاس: يا رسول الله إلّا الإذخر فإنّه لقيوننا وقتورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إلّا الإذخر» [148] «3» .
وقال شرحبيل بن سعد: معنى قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ قال: يحرّمون أن تقتلوا بها صيدا أو يعضدوا بها شجرة، ويستحلّون إخراجك وقتلك. وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قال عكرمة وسعيد ابن جبير: (الوالد) الذي يولد له (وَما وَلَدَ) العاقر الذي لا يولد له، وروياه عن ابن عبّاس وعلي، هذا القول تكون ما بقيا، وهو يعبد «1» ولا تصحّ إلّا بإضمار. عطية عنه: الوالد وولده. مجاهد وقتادة والضحّاك وأبو صالح: وَوالِدٍ آدم وَما وَلَدَ ولده. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا برهان بن علي قال: حدّثنا عبد الله بن الوليد العكبري قال: حدّثنا محمد بن موسى الحرشي قال: حدّثنا جعفر بن سلميان قال: سمعت أبا عمران الخولي قرأ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قال إبراهيم وما ولد. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي نصّب. عن الوالبي عن ابن عبّاس الحسن: يكابد مصايب الدنيا وشدائد الآخرة. قتادة: في مشقّة فلا يلقاه إلّا يكابد أمر الدنيا والآخرة. سعيد بن جبير: في شدّة، وعن الحسن أيضا: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضرّاء فلا يخلو منهما. عطية عن ابن عبّاس: في شدّة خلق حمله وولادته ورضاعه وفصاله ومعاشه وحياته وموته. عمرو بن دينار عنه: نبات أسنانه. يمان: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق، وعن سعيد بن جبير أيضا في ضيق معيشته. ابن كيسان: المكابدة مقاساة الأمر وركوب معظمه، وأصله الشدّة وهو من الكبد. قال لبيد: عين هلا بكيت اربد ... إذ قمنا وقام الخصوم في كبد «2» وقال مجاهد وإبراهيم وعكرمة وعبد الله بن شدّاد وعطية والضحّاك: يعني منتصبا قائما معتدل القامة، وهي رواية مقسم عن ابن عبّاس قال: خلق كلّ شيء يمشي على الأرض على أربعة إلّا الإنسان، فإنّه خلق منتصبا قائما على رجلين. مقاتل: في قوّة نزلت في ابن الاسدين واسمه أسيد بن كلده بن أسيد بن خلف، وكان شديدا قويّا يضع الأدم العكاظي تحت قدميه، فيقول: من أزالني عنه فله كذا وكذا، فلا يطاق أن تنزع من تحت قدميه إلّا قطعا ويبقى موضع قدمه، ويقال: هو شدّة الأمر والنهي والثواب والعقاب، وقال ابن زيد: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعني آدم في كبد أي وسط السماء وذلك حين رفع إلى الجنّة. أبو بكر الوراق: يعني لا يدرك هواه ولا يبلغ مناه. خصيف في معناه ومقاساة وانتقال أحوال نطفة ثمّ علقة إلى آخر تمام الخلق. ابن كيسان: منتصبا رأسه فإذا أذن الله سبحانه في إخراجه انقلب رأسه إلى رجلي أمّه، وقيل: جريء القلب غليظ الكبد مع ضعف خلقته ومهانة مادّته. جعفر: أي في بلاء ومحنة. ابن عطاء: في ظلمة وجهل.
محمد بن علي الترمذي: مضيّعا لما يعنيه مشتغلا بما لا يعنيه. أَيَحْسَبُ يعني بالأشدين من قوّته. أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يعني الله سبحانه وتعالى، وقيل: هو الوليد بن المغيرة. أخبرني أبو الضحى عن ابن عبّاس. يَقُولُ أَهْلَكْتُ أنفقت مالًا لُبَداً بعضه على بعض، وهو من التلبّد في عداوة محمّد. وقال مقاتل: نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يكفّر وقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات منذ دخلت في دين محمّد. واختلف القرّاء في قوله لُبَداً فقرأ أبو جعفر بتشديد الباء على جمع لابد وراكع، وقرأ مجاهد بضمّ اللام والباء مخفّفا كقولك: أمر بكر ورجل جنب، وقرأ الباقون بضمّ اللام وفتح الباء مخفّفين، ولها وجهان: أحدهما جمع لبدة، والثاني على الواحد، مثل قثم وحطم وليس بمعدول. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني الله سبحانه وقيل: محمّد (عليه السلام) فيعلم مقدار نفقته، وكان كاذبا لم ينفق جميع ما قال، وقال سعيد بن جبير وقتادة: أيظنّ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ فيسأله عن هذا المال من أين اكتسبه وأين أنفقه؟ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثني الهيثم بن خلف الدوري قال: حدّثني محمد بن يزيد بن سليمان مولى بني هاشم قال: حدّثنا حسين بن الحسين يعني الأشقر قال: حدّثنا هشام بن شبر عن أبي هاشم عن مخالد عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يسئل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه وعن حبّنا أهل البيت» [149] «1» . قال ابن خرجة: ما سمعت هذا الحديث إلّا من الهيثم. وأخبرنا الحسين قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن هارون بن محمد قال: حدّثنا موسى بن هارون بن عبد الله قال: حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال: حدّثنا نعيم بن ميسرة، قال: أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: أخبرني رجل من بني عامر عن أبيه قال: صلّيت خلف النبيّ صلّى الله عليه فسمعته يقول: أَيَحْسِبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَيَحْسِبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني بكسر السين. أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ قال قتادة: نعم والله متظاهرة لقهرك بها كتما لشكر.
[سورة البلد (90) : الآيات 11 إلى 20]
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا جيغويه قال: حدّثنا صالح بن محمد قال: حدّثنا عبد الحميد المدني عن أبي حازم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق» [150] «1» . وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال أكثر المفسّرين: يعني بيّنا له طريق الخير والشرّ والحقّ والباطل والهدى والضلالة كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً «2» . ودليل هذا التأويل ما أخبرني عبد الله بن حامد- إجازة- قال: أخبرني أحمد بن يحيى قال: حدّثنا محمّد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن قرّة بن خالد عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه: «إنّما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ، فما يجعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير» [151] «3» . وأخبرنا محمّد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: حدّثنا أبي عن عمرو بن أبي بكر القرشي عن محمّد بن كعب عن ابن عبّاس في قوله سبحانه: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ قال: الثديين، وإليه ذهب سعيد بن المسيب والضحّاك، والنجد الطريق في ارتفاع. قال الشاعر: غداة غدوا فسألك بطن نخلة ... وآخر منهم جازع نجد كبكب «4» [سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20] فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ يعني فلم يجاوز بهذا الإنسان العقبة فيأمر. قال الفراء أفرد قوله: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ بذكر لا مرّة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي، وفي مثل هذا الموضع حتّى يعيدوها عليه في كلام آخر، كما قال: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى «5»
وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «1» ، وانّما فعل ذلك كذلك في هذا الموضع استغناء بدلالة آخر الكلام على معناه من إعادتها مرّة واحدة، وذلك أنّه فسّر اقتحام العقبة بأشياء فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ الآية، فكأنه قال في أوّل الكلام فلا فعل ذا ولا ذا ولا ذا. وقال بعضهم: معنى الكلام الاستفهام، تقديره أفلا اقتحم العقبة، وإليه ذهب ابن زيد وجماعة من المفسّرين، يقول: فهلّا أنفق ماله في فك الرقاب وإطعام السغبان ليتجاوز بها العقبة ويكون خيرا له من إنفاقه على عداوة محمّد، ويقال: إنّه شبّه عظم الذنب وثقلها على مرتكبها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحا كان مثله مثل من اقتحم تلك العقبة، وهي الذنوب حتّى تذهب وتذوب، كمن يقتحم عقبة فيستوي عليها ونحوها. وذكر عن ابن عمران: أنّ هذه العقبة جبل في جهنّم، وقال كعب: هي سبعون دركة في جهنّم، وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله سبحانه، وقال مجاهد والضحّاك والكلبي: هي الصراط يضرب على جهنّم كحدّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلا وصعودا وهبوطا، وأنّ لجنبتيه كلاليب وخطاطيف كأنّها شوك السعدان، فناج مسلم وناج مخدوس ومكردس في النار منكوس، فمن الناس من يمرّ عليه كالبرق الخاطف، ومنهم من يمرّ عليه كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ عليه كالفارس، ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفا، ومنهم الزالّون والزالّات، ومنهم من يكردس في النار، واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله سبحانه يقول: إنّ المعتق والمطعم تقاحم نفسه وشيطانه مثل من يتكلّف صعود العقبة، وقال ابن زيد يقول: فهلّا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثمّ بيّن ما هي فقال: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ قال سفيان بن عينية: كلّ شيء قال: وَما أَدْراكَ فإنّه أخبره به، وما قال: (وما يدريك) فإنّه لم يخبر به. فَكُّ رَقَبَةٍ فمن أعتق رقبة كان فداه من النار، قرأ أبو رجاء والحسن وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بنصب الكاف والميم على الفعل كقوله: ثُمَّ كانَ، وقرأ غيرهم بالإضافة على الاسم واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لأنّه تفسير لقوله (وَما أَدْراكَ) ، ثم أخبر ما هي فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ مجاعة. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبيد الله بن أبي سمرة قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله المستعيني قال: حدّثنا علي بن الحسين البصري قال: حدّثنا حجّاج قال: حدّثنا جرير بن حازم
قال: سمعت الحسن وأبا رجاء يقرآن: فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ قد لصق بالتراب من الفقر فليس له مأوى إلّا التراب. وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول: سمعت أبا حامد الخازرجي يقول: المتربة هاهنا من التربة وهي شدّة الحال، وأنشد الهذلي: وكنّا إذا ما الضيف حلّ بأرضنا ... سفكنا دماء البدن في تربة المال «1» أخبرني الحسن قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال: حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال: حدّثنا عبد الحميد بن صالح قال: حدّثنا عيسى بن عبد الرحمن عن طلحة بن مصرف عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علّمني عملا يدخلني الجنّة فقال: «لئن أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة وفكّ الرقبة» ، قال: أوليسا واحدا!؟ قال: «لا، عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفكّ الرقبة أن تعين في ثمنها، والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذاك فاطعم الجائع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذاك فكفّ لسانك إلّا من خير» [152] «2» . ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا قيل: ثمّ بمعنى الواو وَتَواصَوْا أوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ برحمة الناس. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ قرأ أبو عمرو وعيسى وحمزة ويعقوب بالهمزة هاهنا، وفي سورة الهمزة وغيرهم بلا همزة، وهما لغتان. المطبقة، قال الفراء وأبو عبيدة يقال: أصدت وأوصدت إذا أطبقت وقيل: معنى الهمزة المطبقة وغير الهمزة المغلقة، ومنه قيل للباب: وصيد.
سورة الشمس
سورة الشمس مكية، وهي مائتان وسبعة وأربعون حرفا وأربع وخمسون كلمة وخمس عشرة آية أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الفارسي قال: أخبرنا أبو محمد بن أبي حامد قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصبهاني قال: حدّثنا المؤمل بن إسماعيل قال: حدّثنا سفيان الثوري قال: حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ايزي عن أبيه عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة وَالشَّمْسِ فكأنّما تصدّق بكلّ شيء طلعت عليه الشمس والقمر» [153] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) وَالشَّمْسِ وَضُحاها قال مجاهد: ضوؤها. قتادة: هو النهار كلّه. مقاتل: حرّها كقوله سبحانه في طه: وَلا تَضْحى «2» يعني ولا يؤذيك الحرّ. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها تبعها فأخذ من ضوئها وسار خلفها، وذلك في النصف الأوّل من الشهر إذا أغربت الشمس تلاها القمر طالعا. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها جلّى الشمس وكشفها بإضاءتها، وقال الفراء وجماعة من العلماء: يعني والنهار إذا جلى الظلمة، فجازت الكناية عن الظلمة ولم [تذكر في أوله] لأنّ معناها معروف وهو ألا ترى أنّك تقول: أصبحت باردة وأمست عرية وهبّت شمالا فكنّي عن مؤنثات لم يجر لهن ذكر لأنّ معناهنّ معروف.
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي يخشى الشمس حتّى تغيب فتظلم الآفاق «1» . وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن خلقها، وهو الله سبحانه وتعالى، كقوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ «2» ، وقيل: هو ما المصدر أي وبنائها كقوله: بِما غَفَرَ لِي رَبِّي «3» . وَالْأَرْضِ وَما طَحاها خلق ما فيها، عن عطية عن ابن عبّاس والوالبي عنه: قسمها. غيره بسطها. وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها عدل خلقها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قال ابن عبّاس برواية الوالبي: يبيّن لها الخير والشرّ. وقال العوفي عنه: علّمها الطاعة والمعصية. الكلبي: أعلمها ما يأتي وما ينبغي، وقال ابن زيد وابن الفضل: جعل فيها ذلك يعني بتوفيقه إيّاها للتقوى وخذلانه إيّاها للفجور. أخبرني الحسن قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا عزرة بن ثابت الأنصاري قال: حدّثنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال ب قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل فيه الناس ويتكادحون فيه؟ أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون ممّا آتاهم به نبيّهم- صلّى الله عليه- وأكّدت عليهم الحجّة؟ قلت: كلّ شيء قد قضى عليهم. قال: فهل يكون ذلك ظلما؟ قال: ففزعت منه فزعا شديدا وقلت: إنّه ليس شيء إلّا وهو خلقه وملك يده لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «4» . فقال لي: سدّدك الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه؟ أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون ممّا آتاهم به نبيّهم صلى الله عليه وسلم وأكّدت به عليهم الحجّة؟ فقال: في شيء قد قضى عليهم. قال: فقلت فيتمّ العمل إذا قال من كان الله سبحانه خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ سعد وفاز، وهاهنا موضع القسم. مَنْ زَكَّاها أي أفلحت نفس زكّاها الله أي أصلحها وطهّرها من الذنوب ووفّقها للتقوى، وَقَدْ خابَ خسرت نفس مَنْ دَسَّاها دسسها الله فأهملها وخذلها ووضع منها وأخفى محلّها حين عمل بالفجور وركب المعاصي، والعرب تفعل هذا كثير فيبدّل في الحرف المشدّد بعض حروفه ياء أو واو كالتقضي والتظنّي وبابهما.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 إلى 15]
أخبرنا أبو بكر بن عيلوس قال: أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قال: أحدها أصلحها، وقال الآخر: طهّرها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قال أحدهما: أغواها، وقال الآخر: أضلّها، وقال قتادة: دسّها آثمها وأفجرها، وقال ابن عبّاس: أبطلها وأهلكها، وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أبو محمد المزني قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا عثمان قال: حدّثنا أبو الأحوص عن محمد بن السائب عن أبي صالح: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قد أفلحت نفس زكّاها الله، وخابت نفس أفسدها الله عزّ وجلّ. وقال الحسن: معناه قد أفلح من زكّى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عزّ وجلّ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها قال: من أهلكها وأضلّها وحملها على معصية الله عزّ وجلّ، فجعل الفعل للنفس. أخبرني الحسين قال: حدّثنا اليقطيني قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال: حدّثنا صفوان بن صالح قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وقف ثمّ قال: «اللهمّ آت نفسي تقواها أنت وليّها ومولاها وزكّها أنت خير من زكّاها» [154] «1» . [سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15] كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها بطغيانها وعداوتها. وروى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال: اسم العذاب الذي جاءهم الطغوى، فقال: كذّبت ثمود بعذابها «2» . وقرأه العامّة بفتح الطاء، وقرأ الحسن وحمّاد بن سلمة بِطُغْواها بضمّ الطاء، وهي لغة كالفتوى والفتوى والفتيا إِذِ انْبَعَثَ قام أَشْقاها وهو قدار بن سالف عاقر الناقة وكان رجلا أشقر أزرق قصيرا ملتزق الخلق واسم أمّه قديرة. أخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن قال: حدّثنا سفيان قال: حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقر الناقة
وقال: «انتدب لها رجل ذو عزّ ومنعة في قومه كأبي زمعة» وذكر الحديث [155] «1» . فَقالَ [لَهُمْ] رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ إغراء وتحذير، أي احذروا عقر ناقة الله، كقولك: الأسد الأسد. وَسُقْياها شربها وسقيها من الماء، فلا تزاحموها فيه، كما قال الله سبحانه: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. فَكَذَّبُوهُ يعني صالحا (عليه السلام) ، فَعَقَرُوها يعني الناقة فَدَمْدَمَ دمّر عَلَيْهِمْ وأهلكهم رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ بتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته. فَسَوَّاها فسوّى الدمدمة عليهم جميعا، عمّهم بها، فلم يفلت منهم أحد. وقال المروج: الدمدمة: إهلاك باستئصال، وقال بعض أهل اللغة: الدمدمة: الإدامة. تقول العرب: ناقة مدمومة أي سمينة مملوءة، وقرأ عبد الله بن الزبير (فدهدم عليهم) بالهاء، وهما لغتان، كقولك امتقع لونه واهتقع إذا تغير. وَلا يَخافُ قرأ أهل الحجاز والشام فلا بالفاء وكذلك هو في مصاحفهم، الباقون بالواو، وهكذا في مصاحفهم عُقْباها عاقبتها. واختلف العلماء في معنى ذلك، فقال الحسن: يعني ولا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وقال الضحّاك والسدي والكلبي: هو راجع إلى العاقر، وفي الكلام تقديم وتأخير معناه: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها ولا يَخافُ عُقْباها.
سورة والليل
سورة والليل مكية، وهي ثلاثمائة وعشرة أحرف، وإحدى وسبعون كلمة، وإحدى وعشرون آية أخبرني [محمد بن القاسم] بن أحمد قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو عمرو وأبو عثمان البصري قال: حدّثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامه، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة وَاللَّيْلِ أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه الله سبحانه من العسر ويسّر له اليسر» «1» [156] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى النهار فيذهب بضوءه وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى يعني ومن خلق. أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيوب قال: حدّثنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيل، عن الحسن: أنه كان يقرأ: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، فيقول: والذي خلق، قال هارون قال أبو عمر وأهل مكة: يقول للرعد: سبحان ما سبّحت له. وقيل: وخلق الذكر والأنثى، وذكر أنّها في قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء: والذكر والأنثى. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا أبو معونة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: أمنكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ قال: فأشاروا إليّ، فقلت: نعم أنا، فقال: فكيف سمعت
عبد الله يقرأ هذه الآية، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى؟ قال: قلت: سمعته يقرأها (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى والذكر والأنثى) . قال لنا: والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها وهؤلاء يريدونني أن أقرأ وَما خَلَقَ فلا أتابعهم «1» . إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إنّ عملكم لمختلف [وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل] ، فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها» [157] «2» . فَأَمَّا مَنْ أَعْطى ماله في سبيل الله وَاتَّقى ربّه واجتنب محارمه وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى اي بالخلف أيقن بأن الله سبحانه سيخلف هذه، وهذه رواية عكرمة وشهر بن حوشب، عن ابن عباس، يدلّ عليه ما أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم، عن محمد بن جرير قال: حدّثني الحسن بن أبي سلمة بن أبي كبشة قال: حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدّثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال: حدّثنا خليل العصري، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت شمسه إلّا وبعث بجنبتها ملكان يناديان، يسمعهما خلق الله تعالى كلهم إلّا الثقلين، اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا، فأنزل في ذلك القرآن، فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى - الى قوله- لِلْعُسْرى» [158] «3» . وقال أبو عبد الرحمن السلمي والضحّاك: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، ب (لا إله إلّا الله) . وهي رواية عطية، عن ابن عباس. وقال مجاهد: بالجنة، ودليله قوله سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «4» ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه. فَسَنُيَسِّرُهُ فسنهيّئه في الدنيا، تقول العرب: يسّرت غنم فلان إذا ولدت أو تهيّأت للولادة، قال الشاعر: هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا إن يسّرت غنماهما «5» لِلْيُسْرى للخلّة اليسرى، وهي العمل بما يرضاه الله سبحانه، وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
[سورة الليل (92) : الآيات 14 إلى 21]
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بالنفقة في الخير وَاسْتَغْنى عن ربّه فلم يرغب في ثوابه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي للعمل بما لا يرضى الله حتى يستوجب به النار، فكأنه قال: نخذله ونؤذيه إلى الأمرّ العسير، وهو العذاب. وقيل: سندخله جهنم، والعسرى اسم لها. فإن قيل: فأي تيسير في العسرى؟ قيل: إذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشر جاز ذلك، كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان محمد بن صي قال: حدّثنا شعبة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فأخذ عودا فجعل ينكث في الأرض، فقال: «ما منكم من أحد إلّا قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» ، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتّكل؟ فقال «اعملوا فكلّ ميسّر» ، ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآيات «1» . وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى قال مجاهد: مات، وقال قتادة وأبو صالح: هو لحد في جهنم، قال الكلبي: نزلت في أبي سفيان بن حرب. إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى أي بيان الحق من الباطل، وقال الفرّاء: يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله، كقوله سبحانه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ، يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد. وقيل: معناه: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى والإضلال، كقوله: بِيَدِكَ الْخَيْرُ وسَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى فمن طلبها من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق. [سورة الليل (92) : الآيات 14 الى 21] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى تتوقد وتتوهج، وقرأ عبيد بن عمير (تتلظى) على الأصل، وغيره على الحذف لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى قرأ أبو هريرة: ليدخلنّ الجنة إلّا من يأبى، قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ قوله سبحانه: الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال: حدّثنا أبو خليفة قال: حدّثنا القعنبي قال: حدّثنا مالك قال: صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ فيها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى
، فلمّا أتى على هذه الآية فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى وقع عليه البكاء فلم يقدر أن [يتعدّاها] من البكاء، وقرأ سورة أخرى «1» . وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى قال أهل المعاني: أراد الشقي والتقي، كقول طرفة: تمنى رجال أن أموت، فإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد «2» أي بواحد. أخبرني الحسين قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الله المقري قال: حدّثنا جدّي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن سالم. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف قال: حدّثنا ابن عمران قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنّ أبا بكر رضي الله عنه أعتق من كان يعذّب في الله: بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وبنتها وزنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمّل. فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبد الدار، فلمّا أسلمت عميت، فقالوا: أعمتها اللات والعزى. فقالت: هي تكفر باللات والعزى، فردّ الله إليها بصرها، ومرّ أبو بكر بها وهي تطحن وسيّدتها تقول: والله لا أعتقك حتى يعتقك صباتك، فقال أبو بكر فحلى إذا يا أم فلان فبكم هي إذا؟ قالت: بكذا وكذا أوقية، قال: قد أخذتها، قومي، قالت: حتى أفرغ من طحني. وأما بلال فاشتراه، وهو مدفون بالحجارة، فقالوا: لو أبيت إلّا أوقية واحدة لبعناك، فقال أبو بكر: لو أبيتم إلّا مائة أوقية لأخذته، وفيه نزلت يعني أبا بكر، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إلى آخرها، وأسلم وله أربعون ألفا فأنفقها كلّها، يعني أبا بكر. وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو سعيد الحسن بن أحمد بن جعفر اليزدي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي عبد الرحمن المقري قال: حدّثنا سفيان، عن عتبة قال: حدّثني من سمع ابن الزبير على المنبر وهو يقول: كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال: [إنما أريد ما أريد] «3» فنزلت فيه وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى إلى آخر السورة «4» ، وكان اسمه عبد الله بن عثمان.
عن عطاء، عن ابن عباس، في هذه الآية أن بلالا لما أسلم ذهب إلى الأصنام فسلح عليها، وكان المشركون وكلوا امراة تحفظ الأصنام، فأخبرتهم المرأة، وكان بلال عبدا لعبد الله ابن جدعان، فشكوا إليه، فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحدا أحد، فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ينجيك أحد أحد، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن بلالا يعذّب في الله، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب فابتاعه به «1» . وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبدا لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي، وكان مشركا [وحمله] أبو بكر على الإسلام على أن يكون [له] ماله، فأبى فأبغضه أبو بكر، فلمّا قال له أمية: أتبيعه بغلامك نسطاس؟ اغتنمه أبو بكر وباعه به، فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك لبلال إلّا ليد كانت لبلال عنده، فأنزل الله سبحانه وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ من أولئك الذين أعتقهم مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يد نكافئه عليها إِلَّا لكن ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى بثواب الله في العقبى عوضا مما فعل في الدنيا. وأخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله العماني الحفيد قال: حدّثنا أحمد بن نصر بن خفيف القلانسي الرقّاء قال: حدّثنا محمد بن جعفر بن سوّار بن سنان في سنة خمس وثمانين ومائتين قال: حدّثنا علي ابن حجر، عن إسحاق بن نجح، عن عطاء قال: كان لرجل من الأنصار نخلة، وكان له جار، فكان يسقط من بلحها في دار جاره، فكان صبيانه يتناولون، فشكا ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي (عليه السلام) «بعنيها بنخلة في الجنة» [159] ، فأبى قال: فخرج، فلقيه أبو الدحداح، فقال: هل لك أن تبيعها بجبس «2» ؟ يعني حائطا له، فقال: هي لك، قال: فأتى النبي (عليه السلام) ، فقال: يا رسول الله اشترها منّي بنخلة في الجنة، قال: نعم، قال: هي لك، فدعا النبي (عليه السلام) جار الأنصاري، فأخذها، فأنزل الله سبحانه وتعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة. فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى أبو الدحداح وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى يعني الثواب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى يعني الجنة. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى يعني الأنصاري وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى يعني الثواب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى يعني النار، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى يعني به إذا مات كما في قوله:
فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى صاحب النخلة وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى يعني أبا الدحداح الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى يعني أبا الدحداح وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يكافئه بها، يعني أبا الدحداح إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى إذا أدخله الجنة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بذلك بجبس وعذوقه دانية، فيقول: «عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة» «1» .
سورة والضحى
سورة والضحى مكية، وهي مائة واثنان وسبعون حرفا، وأربعون كلمة، وإحدى عشرة آية أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثنا أبي، عن مخالد بن عبد الواحد، عن الحجاج بن عبد الله، عن أبي الخليل، عن علي ابن زيد، وعطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة وَالضُّحى، كان فيمن يرضاه الله عزّ وجلّ لمحمد أن يشفع له، وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم» [160] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) وَالضُّحى قال المفسّرون: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح، فقال: سأخبركم غدا ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي «1» . وقال زيد بن أسلم: كان سبب احتباس جبرائيل (عليه السلام) كون جرو في بيته، فلمّا نزل عليه جبرائيل عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه، فقال: يا محمد أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة «2» ؟ واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه، فقال ابن حريج: اثني عشر يوما، وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما، وقيل: خمسة وعشرين يوما، وقال مقاتل: أربعين يوما. قالوا: فقال
المشركون: إنّ محمدا ودّعه ربّه وقلاه، ولو كان أمره من الله لتتابع عليه كما كان يفعل بمن قبله من الأنبياء. وقال المسلمون: يا رسول الله أما ينزل عليك الوحي؟ فقال: «وكيف ينزل عليّ الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم ولا تقلّمون أظفاركم «1» » ، فأنزل الله سبحانه جبرائيل (عليه السلام) بهذه السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا جبرائيل ما جئت حتى اشتقت إليك» [161] ، فقال جبرائيل (عليه السلام) : وأنا كنت إليك أشدّ شوقا ولكني عبد مأمور وما ننزل إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا الحسن بن علي بن عفان قال: حدّثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، أنه سمع جندب بن سفيان يقول: رمي النبي صلى الله عليه وسلم بحجر في إصبعه، فقال: «هل أنت إلّا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت» [162] فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم [الليل] ، فقالت له امرأة: يا محمد ما أرى شيطانك إلّا قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ليال. وقيل: إنّ المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب، فأنزل الله سبحانه وَالضُّحى. يعني النهار كلّه ، دليله قوله وَاللَّيْلِ إِذا سَجى فقابله بالليل، نظيره قوله أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي نهارا، وقال قتادة ومقاتل: يعني وقت الضحى، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس، واعتدال النهار من الحر والبرد في الشتاء والصيف، وقيل: هي الساعة التي كلّم الله فيها موسى، وقيل: هي الساعة التي ألقي السحرة فيها سجّدا، بيانه قوله سبحانه: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله: بإضمار الربّ مجازه: وربّ الضحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى قال الحسن: أقبل بظلامه، وهي رواية العوفي عن ابن عباس، الوالبي عنه: إذا ذهب الضحّاك: غطّى كلّ شيء، مجاهد وقتادة وابن زيد: سكن بالخلق واستقر ظلامه، يقال: ليل ساج، وبحر ساج إذا كان ساكنا، قال الراجز: يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النسّاج «2» وقال أعشى بني ثعلبة: فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم ... وبحرك ساج ما يواري الدّعا مصا «3»
ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى أي ما تركك منذ اختارك، ولا أبغضك منذ أحبّك، وهذا جواب القسم. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ من الثواب، وقيل: من النصر والتمكن وكثرة المؤمنين فَتَرْضى. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابو عبد الله محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن بحر قال: حدّثنا عبد بن حميد، عن قتيبة، عن سفيان، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبد الله، عن علي بن عبد الله بن عباس [عن أبيه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كفرا كفرا» [163] فسرّني ذلك، فنزلت وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال: أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي له «1» . وأخبرني عقيل أن أبا الفرج، أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني عبّاد بن يعقوب قال: حدّثنا الحكم بن ظهر، عن السدي، عن ابن عباس: في قوله وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قال: رضا محمد ان لا يدخل أحد من أهل بيته النار، وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين. أخبرنيه أبو عبد الله القنجوي قال: حدّثنا أبو علي المقري قال: حدّثنا محمد بن عمران بن أسد الموصلي قال: حدّثنا محمد بن أحمد المدادي قال: حدّثنا عمرو بن عاصم قال: حدّثنا حرب بن سريح البزاز قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن علي قال: حدّثني عمي محمد بن علي بن الحنفية، عن أبيه علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أشفع لأمتي حتى ينادي ربي عزّ وجلّ: رضيت يا محمد، فأقول: ربّ رضيت» ثم قال لي: إنّكم معشر أهل العراق تقولون: إن أرجى آية في القرآن يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ قلت: انا لنقول ذلك، قال: ولكنّا أهل البيت نقول: إنّ أرجى آية في كتاب الله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وهي الشفاعة [164] «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا أبو عامر بن سعدان قال: حدّثنا أحمد بن صالح المصري، قال: حدّثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدّثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقول عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فرفع يديه ثم قال: «اللهمّ أمّتي أمّتي» وبكى.
فقال الله سبحانه: يا جبرائيل اذهب إلى محمد- وربّك أعلم- فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبرائيل، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله سبحانه: يا جبرائيل اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك «1» . ويروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمّا نزلت هذه الآية: «إذا لا أرضى وواحد من أمتي في النار» [165] «2» . وقال جعفر بن محمد: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله عنها وعليها كساء من جلد الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أبصرها، فقال: «يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله عليّ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [166] «3» . ثم أخبر الله سبحانه، عن حاله (عليه السلام) التي كان عليها قبل الوحي، وذكّره نعمه، فقال عزّ من قائل: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. أنبأني عبد الله بن حامد الأصبهاني قال: أخبرنا محمد بن عبد الله النيسابوري قال: حدّثنا محمد بن عيسى، قال: حدّثنا أبو عمر الحوصي، وأبو الربيع الزهراني، عن حمّاد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، قلت: يا ربّ إنك آتيت سليمان بن داود ملكا عظيما، وآتيت فلانا كذا، وآتيت فلانا كذا، قال: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت: بلى أي رب، قال: ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت: بلى أي رب» [167] «4» . ومعنى الآية: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً صغيرا فقيرا ضعيفا حين مات أبواك، ولم يخلفا لك مالا، ولا مأوى، فجعل لك مأوى تأوي إليه، ومنزلا تنزله، وضمّك إلى عمّك أبي طالب حتى أحسن تربيتك، وكفاك المؤونة. سمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الأصفهاني يقول: سمعت أبا القاسم الاسكندراني يقول: سمعت أبا جعفر الملطي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن موسى الرضا يقول: سمعت أبي يقول: سئل جعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صلى الله عليه وسلم عن أبويه؟ فقال: لئلّا يكون عليه حق لمخلوق «5» .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري يحكي بإسناد له لا أحفظه، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه أنه قال في قوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى: هو من أقوال العرب: درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل وقد جاء في الشعر: لا ولا درّة يتيمة بحر ... تتلالأ في جونة البياع فمجاز الآية: أَلَمْ يَجِدْكَ واحدا في شرفك، وفضلك، لا نظير لك، فآواك إليه. وقرأ أشهب العقيلي فأوى بالقصر: أي رحمك. تقول العرب: آويت لفلان أية ومأواة أي رحمته. وَوَجَدَكَ ضَالًّا عما أنت عليه اليوم، فهداك إلى الذي أنت عليه اليوم. قال السدي: كان على أمر قومه أربعين عاما، وقال الكلبي: وجدك في قوم ضلال فهداك إلى التوحيد، والنبوة، وقيل: فهداهم بك، وقال الحسن والضحّاك وشهر بن حوشب وابن كيسان: وَوَجَدَكَ ضَالًّا عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة غافلا عنها، فهداك إليها، نظيره ودليله قوله سبحانه وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ وقوله تعالى: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وقيل: ضَالًّا في شعاب مكّة، فهداك الى جدّك عبد المطلب، وردّك إليه. روى أبو الضحى، عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل، وهو صبي صغير في شعاب مكّة، فرآه أبو جهل، منصرفا من أغنامه، فردّه إلى جدّه عبد المطلب، فمنّ الله سبحانه عليه بذلك، حين ردّه إلى جدّه على يدي عدوّه. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدوس قال: حدّثنا عثمان بن سعيد قال: حدّثنا عمرو بن عوف قال: أخبرنا خالد، عن داود بن أبي هند، عن العباس بن عبد الرحمن، عن بشر بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت، وهو يرتجز، ويقول: يا ربّ ردّ راكبي محمدا ... ردّ إليّ واصطنع عندي يدا فقلت: من هذا؟ قيل: عبد المطلب بن هاشم، ذهبت أبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها، ولم يرسله في حاجة قط إلّا جاء بها، وقد احتبس عليه، قال: فما برحت أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل، فقال: يا بنيّ لقد حزنت عليك حزنا لا يفارقني أبدا «1» . وفي حديث كعب الأحبار، في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدء أمره أن حليمة لمّا قضت حق الرضاع، جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردّه إلى عبد المطلب، قالت حليمة: فأقبلت أسير حتى أتيت
الباب الأعظم من أبواب مكّة، فسمعت مناديا ينادي: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والجمال، قالت: ثم وضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقضي حاجة وأصلح ثيابي، فسمعت هدّة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معاشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: أي الصبيان؟ قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي نضّر الله به وجهي، وأغنى عيلتي، ربّيته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي أتيت به لأردّه، وأخرج هذا من أمانتي، اختلس من بين يدي قبل أن يمس قدمه الأرض، واللات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق الجبل، فلأقطعنّ إربا إربا. قالوا: ما رأينا شيئا، فلمّا آيسوني وضعت يدي على أم رأسي، وقلت: وا محمداه وا ولداه، فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقة لي، فإذا أنا بشيخ كالفاني يتوكأ على عصا، قال: ما لك أيتها السعدية؟ قلت: فقدت ابني محمدا، فقال: لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه، وإن شاء أن يردّه فعل، قلت: فدتك نفسي، ومن هو؟ قال: الصنم الأعظم هبل. قالت: فدخل وأنا أنظر، فطاف بهبل وقبّل رأسه وناداه: يا سيداه، لم تزل منتك على قريش قديمة، وهذه السعدية تزعم أن ابنا لها قد ضلّ، فردّه إن شئت، وأخرج هذه الوحشة عن بطحاء مكة، فإنها تزعم أن ابنها محمدا قد ضلّ، قال: فانكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام، وقالت: إليك عنّا أيها الشيخ. إنما هلاكنا على يدي محمد. قالت: فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكا، ولركبته ارتعادا، وقد ألقى عكازته من يده وهو يقول: يا حليمة إن لابنك ربا لا يضيّعه فاطلبيه على مهل، قالت: فخفت أن يبلغ الخبر عبد المطلب قبلي، فقصدته فلمّا نظر إليّ، قال: أسعد نزل بك أم نحوس؟، قلت: بل النحس الأكبر، ففهمها منّي، وقال: لعلّ ابنك ضلّ منك، قالت: قلت: نعم فظنّ أن بعض قريش قد اغتاله، فسلّ عبد المطلب سيفه لا يثبت له أحد من شدة غضبه، ونادى بأعلى صوته: يا آل غالب، يا آل غالب، وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعها، وقالوا: ما قصتك؟، قال: فقد ابني محمد، قالت قريش: اركب نركب معك، فإن تسنّمت جبلا تسنماه معك، وان خضت بحرا خضناه معك، فركب وركبت قريش معه فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها، فلمّا أن لم ير شيئا ترك الناس واتشح وارتدى بآخر، وأقبل الى البيت الحرام، فطاف اسبوعا ثم أنشأ يقول: يا ربّ ردّ راكبي محمدا ... ردّه ربي واتخذ عندي يدا يا ربّ إن محمد لم يوجدا ... مجمع قومي كلّهم مبدّدا فسمعنا مناديا ينادي من الهواء: معاشر الناس لا تضجوا، فان لمحمد ربّا لا يخذله ولا
يضيّعه، قال عبد المطلب: يا أيها الهاتف ومن لنا به وأين هو؟، قال بوادي تهامة عند شجرة اليمن. فأقبل عبد المطلب راكبا متسلحا، فلمّا صار في بعض الطرق تلقّاه ورقة بن نوفل فصارا جميعا يسيران، فبينما هم كذلك إذ النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق، قال له عبد المطلب: من أنت يا غلام؟ قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال عبد المطلب: فدتك نفسي وأنا جدّك، ثم حمله على قربوس سرجه وردّه إلى مكة واطمأنت قريش بعد ذلك «1» . وقال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء على ناقة إذ جاء إبليس، وأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق، فجاء جبرائيل فنفخ إبليس نفخة وقع منها الى الحبشة وردّه الى القافلة، فمنّ الله عليه بذلك. وقيل: وَجَدَكَ ضَالًّا ليلة المعراج حين انصرف عنك جبرائيل لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثني ابن حبيش قال: قال بعض أهل الكلام في قوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى: إن العرب إذا وجدت شجرة في فلاة من الأرض وحيدة ليس معها ثانية يسمونها: ضالة، فيهتدون بها إلى الطريق. قال: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي وحيدا ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق إليّ، وقال عبد العزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي: ووجدك خاملا لا تذكر ولا تعرف من أنت، فهداهم إليك حتى عرفوك، وأعلمهم بما منّ به عليك. قال بسام بن عبد الله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا نفسك لا تدري من أنت فعرّفك نفسك وحالك، وقال أبو بكر الورّاق وغيره: وَوَجَدَكَ ضَالًّا بحب أبي طالب فهداك إلى حبّه، وغيره: وجدك محبّا فهداك إلى محبوبك، دليله قوله سبحانه، إخبارا عن إخوة يوسف إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» وقوله سبحانه: تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «3» اي فرط الحب ليوسف. وقيل: وجدناك ناسيا شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، دليله قوله أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «4» أي تنسى، وقال سهل: وجد نفسك نفس الشهوة
[سورة الضحى (93) : الآيات 9 إلى 11]
والطبع، فغيّره إلى سبيل المعرفة والشرع، قال جنيد: وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه، لقوله وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ «1» وقوله لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ «2» . قال بندار بن الحسين: ليس قائما مقام الاستدلال فتعرفت إليك، وأغنيتك بالمعرفة عن الشواهد والأدلة، وقيل: وجدك طالبا لقبلتك ضالا عنها فهداك إليها. وَوَجَدَكَ عائِلًا فقيرا عديما فأغناك بمال خديجة، ثم بالغنائم، وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق، وقرأ ابن السميقع: وجدك عيّلا بتشديد الياء من غير ألف على وزن فيعل، كقولك: طاب يطيب فهو طيّب. وعن ابن عطاء: وجدك فقير النفس، وقيل: فقيرا إليه فأغناك به، وقيل: غنيا بالمعرفة فقيرا عن أحكامها، فأغناك بأحكام المعرفة حتى تم لك الغنى. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حبيش، عن بعضهم أنه قال: وَجَدَكَ عائِلًا تعول الخلق بالعلم فأغناك بالقرآن والعلم والحكمة، وقال الأخفش: وجدك ذا عيال. دليله قوله صلى الله عليه وسلم: وابدأ بمن تعول. عن ابن عطاء: لم يكن معك كتاب ولا شريعة فأغناك بهما، وقيل: وَجَدَكَ عائِلًا عن الصحابة محتاجا إليهم، فأكثرنا لك الاخوان والأعوان، وحذف الكاف من قوله فَآوى وأختيها لمشاكلة رؤوس الآي، ولأن المعنى معروف. [سورة الضحى (93) : الآيات 9 الى 11] فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ واذكر يتمك، وقرأ النخعي والشعبي: فلا تكهر، بالكاف، وكذلك هو في مصحف عبد الله، والعرب تعاقب بين القاف والكاف، يدل عليه حديث معاوية بن الحكم الذي تكلّم في الصلاة قال: ما كهرني، ولا ضربني. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا إسحاق بن عيسى قال: حدّثنا مالك، عن ثور بن زيد الدبلي قال: سمعت أبا الغيث يحدّث، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كافل اليتيم- له أو لغيره- أنا وهو كهاتين في الجنّة إذا اتقى الله سبحانه» [168] «3» وأشار مالك بالسبابة والوسطى. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن [يوسف] «4» قال: حدّثنا الحسن بن علي بن نصر
الطوسي قال: حدّثنا جعفر بن محمد بن الفضل برأس العين قال: حدّثنا إبراهيم بن زكريا قال: حدّثنا الحسين بن أبي جعفر، عن علي، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله سبحانه لملائكته: يا ملائكتي! من أبكى هذا اليتيم الذي غيّب أباه في التراب؟ فيقول الملائكة: ربنا أنت أعلم، فيقول الله: يا ملائكتي! فإني أشهدكم أنّ لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة» فكان عمر إذا رأى يتيما مسح رأسه، وأعطاه شيئا [169] «1» . وأخبرني عبد الله بن حامد الأصفهاني، حدّثنا صالح بن محمد قال: حدّثنا سليمان بن عمرو، عن أبي حزم، عن أنس بن مالك قال: من ضمّ يتيما فكان في نفقته وكفاه مؤونته كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ فلا تزجر لكن بدّل يسيرا وردّ جميلا، واذكر فقرك. وأخبرنا عبد الله بن حامد فيما أجاز لي روايته عنه قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الحلواني قال: حدّثنا العباس بن عبد الله قال: حدّثنا سعيد أبو عمرو البصري قال: حدّثنا سهل ابن أسلم العنبري، عن الحسن في قوله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ قال: أما انه ليس بالسائل الذي يأتيك لكن طالب العلم. وأخبرني عبد الله بن حامد الأصفهاني قال: حدّثني العباس بن محمد بن قوهيال «2» قال: حدّثنا حاتم بن يونس قال: حدّثني عبيد بن نعيش قال: سمعت يحيى بن آدم يقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، قال: إذا جاءك الطالب للعلم فلا تنهره. وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو حذيفة قال: حدّثنا أبو عروبة قال: حدّثنا يحيى بن حكيم والحسين بن سلمة بن أبي كبشة قالا: حدّثنا أبو قتيبة قال: حدّثنا الحسن بن علي الهاشمي، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يمنعن أحدكم السائل أن يعطيه إذا سأل وأن رأى في يده قلبين من ذهب» [170] «3» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد الكسائي قال: حدّثنا أحمد بن ثابت بن غياث قال: حدّثنا إبراهيم بن الشماس قال: حدّثنا أحمد بن أيوب الضبي، عن إبراهيم بن أدهم قال: نعم القوم السّؤّال، يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل توجهون إلى أهليكم بشيء.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا القرشي قال: حدّثنا هدية بن خالد قال: حدّثنا صبان بن علي قال: حدّثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» [171] «1» . وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ يعني النبوّة، عن مجاهد ابن أبي نجيح عنه قال: القرآن، وإليه ذهب الكلبي. وحكم الآية [عام] في جميع الإنعام. أخبرني الغنجوي قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني ابو عمرو الأزدي قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا نوح بن قيس قال: حدّثني نصر بن علي قال: كان عبد الله بن غالب إذا أصبح يقول: لقد رزقني الله البارحة خيرا، قرأت كذا وصلّيت كذا، وذكرت الله كذا وفعلت كذا، فيقال له: يا أبا فراس إن مثلك لا يقول مثل هذا فيقول: الله سبحانه يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ وتقولان أنتم: لا تحدّث بنعمة ربك. وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا شبر بن موسى قال: حدّثنا عبد الله ابن يزيد المقري قال: حدّثنا أبو معمر، عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعطي خيرا فلم ير عليه سمّي بغيض الله معاديا لنعمه» [172] «2» . وأخبرنا الحسن قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال: حدّثنا أبو القاسم بن منيع قال: حدّثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدّثنا وكيع، عن أبي عبد الرحمن يعني القاسم بن وليد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «من لم يشكر القليل، ومن لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» [173] «3» .
سورة الشرح
سورة الشرح مكية، وهي مائة وثلاثة أحرف وسبع وعشرون كلمة، وثماني آيات أخبرنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن علي الجرجاني قال: حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إبراهيم قال: حدّثني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن إبراهيم البصري قال: حدّثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عوانة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ ابن حبيش، عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرّج عنّي» [174] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ألم نفتح ونوسّع ونليّن لك قلبك بالإيمان والنبوّة والعلم والحكمة. وَوَضَعْنا وحططنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أثقل ظهرك فأوهنه، ومنه قيل للبعير إذا كان رجيع سفر قد أوهنه وأنضاه: نقض. وقال الفرّاء: كسر ظهرك حين سمع نقيضه: أي صوته، قال الحسن وقتادة والضحّاك: يعني ما سلف منه في الجاهلية، وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو، وقيل: ذنوب أمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها واهتمامه لها، وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة: يعني خفّفنا عليك أعباء النبوة والقيام بأمرها، وقيل: وعصمناك عن احتمال الوزر. وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أخبرنا عبد الخالق بقراءتي عليه قال: حدّثنا ابن جنب قال: حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل قال: حدّثنا صفوان يعني ابن صالح الثقفي أبو عبد الملك قال: حدّثنا الوليد يعني ابن مسلم قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي
سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، قال: «قال الله سبحانه: إذا ذكرت، ذكرت معي» [175] «1» . وحدّثنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الواعظ قال: حدّثنا إسماعيل بن أحمد الجرجاني قال: أخبرنا عمران بن موسى قال: حدّثنا أبو معمر قال: حدّثنا عباد، عن عوف، عن الحسن في قوله وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، قال: إذا ذكرت ذكرت معي، وقال قتادة: يرفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلّا ينادي بها: أشهد ان لا إله إلّا الله، وأن محمدا رسول الله، وقال مجاهد: يعني بالتأذين، وفيه يقول حسان بن ثابت يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أغرّ عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهور يلوح ويشهد وضمّ الإله اسم النبي الى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد «2» وقال ابن عطاء: يعني جعلت تمام الإيمان بي بذكرك، وقيل: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ عند الملائكة في السماء، وقيل: بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله، وقال ذو النون: همم الأنبياء تجول حول العرش وهمّة محمد صلى الله عليه وسلم فوق العرش، لذلك قال: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ، فذكره ذكره، ومفزع الخلق يوم القيامة إلى محمد صلى الله عليه وسلم كمفزعهم إلى الله، لعلمهم بجاهه عنده. فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً أي مع الشدّة التي أنت فيها من جهاد المشركين، ومزاولة ما أنت بسبيله يسرا ورخاء بأن يظهرك عليهم، حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعا وكرها. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كرّره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء، وقيل: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً: في الدنيا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً: في الآخرة. أخبرنا عبد الله بن حامد قال أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا عثمان قال: حدّثنا ابن عليّة، عن يونس، عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» [176] «3» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا علي بن مرداراد الخياط قال: حدّثنا قطن بن بشير قال: حدّثنا جعفر بن سليمان، عن رجل، عن إبراهيم النخعي قال: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنّه لن يغلب عسر يسرين، إنّه لن يغلب عسر يسرين.
قال العلماء في معنى هذا الحديث: لأنه عرّف العسر ونكّر اليسر، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسما معرفة ثم أعادته فهو هو، وإذا نكرّته ثم كررته فهما اثنان، وقال الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب كتاب (النظم) وهو يكلم الناس في قوله (عليه السلام) : «لن يغلب عسر يسرين» [177] : فلم يحصل غير قولهم: إن العسر معرفة واليسر نكرة مكررة، فوجب أن يكون [عسر] واحد ويسران، وهذا قول مدخول [إذ] لا يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل: إنّ مع الفارس سيفا إنّ مع الفارس سيفا أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنين، ولا يصح هذا في نظم العربية. فمجاز قوله: «لن يغلب عسر يسرين» إن الله بعث نبيّه (عليه السلام) مقلّا مخففا فعيّره المشركون لفقره، حتى قالوا أنجمع لك مالا؟ فاغتمّ، فظنّ أنهم كذّبوه لفقره، فعزّاه الله سبحانه وتعالى وعدد عليه نعماءه ووعده الغنى فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ إلى قوله ذِكْرَكَ، فهذا ذكر امتنانه عليه، ثم ابتدأ ما وعده من الغنى ليسلّبه مما خامر قلبه، فقال فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، والدليل عليه دخول الفاء في قوله (فَإِنَّ) ولا يدخل الفاء أبدا إلّا في عطف أو جواب. ومجازه: لا يحزنك ما يقولون فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً في الدنيا عاجلا، ثم أنجزه ما وعده وفتح عليه القرى العربية، ووسّع ذات يده، حتى يهب المائتين من الإبل، ثم ابتدأ فضلا آخر من الآخرة فقال تأسية له: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، والدليل على ابتدائه تعرّيه من الفاء والواو وحروف النسق فهذا عام لجميع المؤمنين، ومجازه: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ في الدنيا للمؤمنين يُسْراً في الآخرة لا محالة، فقوله: «لن يغلب عسر يسرين» ! أي لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين في الدنيا، واليسر الذي وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا، فأمّا يسر الآخرة فدائم غير زايل اي لا يجمعهما في الغلبة، كقوله (عليه السلام) «شهرا عيد لا ينقصان» اي لا يجتمعان في النقصان. وقال أبو بكر الوراق: مع [أختها] بالدنيا جزاء الجنة، قال القاسم: [بردا هذه السعادة من أسحار] «1» الدنيا إلى رضوان العقبى، وقراءة العامة بتخفيف السينين، وقرأ أبو جعفر وعيسى، بضمهما، وفي حرف عبد الله: إنّ مع العسر يسرا، مرة واحدة غير مكررة. أخبرني أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن محمد الرمجاري وأبو الحسن علي بن محمد ابن محمد البغدادي قالا: حدّثنا محمد بن يعقوب الأصم قال: حدّثنا أحمد بن شيبان الرملي قال: حدّثنا عبد الله بن ميمون القداح قال: حدّثنا شهاب بن خراش، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني
خلفه، ثم سار بي مليّا، ثم التفت اليّ فقال لي: «يا غلام» ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف الى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك، لما قدروا عليه، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتبه الله عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإنّ لم تستطع فاصبر، فإنّ في الصبر على ما يكره خيرا كثيرا، واعلم أنّ مع الصبر النصر، وأنّ مع الكرب الفرج وإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [178] «1» . وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري يقول: سمعت أبا علي محمد ابن عامر البغدادي يقول: سمعت عبد العزيز بن يحيى يقول: سمعت عمي يقول: سمعت العتبي يقول: كنت ذات يوم في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت شعر فقلت: أرى الموت لن أصبح ولاح ... مغموما له أروح فلمّا جنّ الليل سمعت هاتفا يهتف، من الهواء: ألا يا أيّها المرء ... الذي الهمّ به برّح وقد أنشد بيتا لم ... يزل في فكره يسنح إذا اشتدّ بك العسر ... ففكّر في ألم نشرح فعسر بين يسرين ... إذا فكّرتها فافرح قال: فحفظت الأبيات، وفرّج الله غمّي «2» . وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو محمد أحمد بن محمد بن إسحاق الجيزنجي قال: أنشدنا إسحاق بن بهلول القاضي: فلا تيأس وإن أعسرت يوما ... فقد أيسرت في دهر طويل ولا تظننّ بربك ظنّ سوء ... فإنّ الله أولى بالجميل فإنّ العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كلّ قيل «3» وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني محمد بن سليمان بن معاد الكرخي قال: أنشدنا أبو بكر الأنباري: إذا بلغ العسر مجهوده ... فثق عند ذاك بيسر سريع
ألم تر بخس الشتاء القطيع ... يتلوه سعد الربيع البديع ولزيد بن محمد العلوي: إن يكن نالك الزمان ببلوى ... عظمت شدّة عليك وجلّت وتلتها قوارع باكيات ... سئمت دونها الحياة وملّت فاصطبر وانتظر بلوغ مداها ... فالرزايا إذا توالت تولّت وإذا أوهنت قواك وحلّت ... كشفت عنك جملة فتخلّت وقال آخر: إذا الحادثات بلغن المدى ... وكادت تذوب لهنّ المهج وحلّ البلاء وقلّ الرجاء ... فعند التناهي يكون الفرج «1» وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد السلوسي قال: أنشدني أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي النسابة قال: أنشدني سليمان بن أحمد الرقي: توقع إذا ما عرتك الخطوب ... سرورا [يسيّرها] عنك قسرا ترى الله يخلف ميعاده ... وقد قال: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ قال ابن عباس: إذا فرغت من صلاتك فَانْصَبْ إلى ربّك في الدعاء، واسأله حاجتك وارغب اليه. ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إذا قمت إلى الصلاة فَانْصَبْ في حاجتك إلى ربّك. الضحّاك: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فَانْصَبْ إلى ربّك في الدعاء، وأنت جالس قبل أن تسلم. قتادة: أمره أن يبالغ في دعائه إذا فرغ من صلاته. عن الحسن: إذا فرغت من جهاد عدوك، فَانْصَبْ في عبادة ربّك. عن زيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد العرب وانقطع جهادهم، فَانْصَبْ لعبادة الله وإليه فَارْغَبْ. عن منصور، عن مجاهد: إذا فرغت من أمر الدنيا فَانْصَبْ في عبادة ربّك وصلّ. وأخبرنا محمد بن عبوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الحميم قال: حدّثني الفراء قال: حدّثني قيس بن الربيع، عن أبي حصين قال: مرّ شريح برجلين يصطرعان فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، إنما قال الله عزّ وجلّ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ. قال الفراء: فكأنّه في قول شريح: إذا فرغ الفارغ من الصلاة أو غيرها. وقوله فَانْصَبْ من النصب، وهو التعب والدأب في العمل، وقيل: أمره بالقعود للتشهد إذا فرغ من الصلاة والانتصاب للدعاء. عن حيان، عن الكلبي: إذا فرغت من تبليغ الرسالة،
فَانْصَبْ: أي اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. عن جنيد: فإذا فرغت من أمر الخلق، فاجتهد في عبادة الحق. عن أبو العباس بن عطاء: فَإِذا فَرَغْتَ من تبليغ الوحي، فَانْصَبْ في طلب الشفاعة. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ في جميع أحوالك [لا] إلى سواه، وقيل: إذا فرغت من أشغال الدنيا، ففرّغ قلبك لهموم العقبى. عن جعفر: اذكر ربّك على فراغ منك عن كل ما دونه ، وقيل: إذا فرغت من العبادة، فَانْصَبْ إلى الإعراض عنها مخافة ردّها عليك، وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ، والاستغفار لعملك كالخجل المستحيي. أخبرنا الشيخ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي المقري قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله ابن محمد المزني قال: حدّثنا الوليد بن بيان ويحيى بن محمد بن صاعد ومحمد بن أحمد السطوي قال: حدّثنا ابن أبي برة قال: حدّثنا عكرمة بن سليمان قال: قرأت على إسماعيل بن عبد الله، فلمّا بلغت إلى وَالضُّحى قال: كبّر حتى نختم مع خاتمة كل سورة، فإني قرأت على شبل بن عباد وعلي بن عبد الله بن كثير، فأمراني بذلك. قال: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، فأمره بذلك وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب، فأمره بذلك، وأخبره أبيّ بن كعب أنه قرأ على النبي (صلى الله عليه وآله) ، فأمره بذلك.
سورة التين
سورة التين مكية، وهي ثمانمائة وخمسون حرفا، وأربع وثلاثون كلمة، وثماني آيات أخبرني أبو الحسين الخبازي غير مرّة قال: حدّثنا أبو بكر أحمد بن أبي ميثم الجرجاني وأبو الشيخ قال: حدّثنا أبو إسحاق بن ميثم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبيّ ابن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة وَالتِّينِ أعطاه الله سبحانه خصلتين: العافية واليقين ما دام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه الله سبحانه من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم» [179] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم هذا الذي تأكلون، وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت. أخبرني الحسين قال: حدّثنا السني قال: وجدت في كتاب أبي: حدّثنا القاسم بن أبي الحسين الزبيدي قال: حدّثنا سهل بن إبراهيم الواسطي، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: حدّثني الثقة عن أبي ذر قال: أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا، ثم قال: لو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت: هذه، لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس» [180] «2» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا يوسف بن أحمد أبو يعقوب قال: حدّثنا العباس بن أحمد بن علي قال: حدّثنا معلل بن نقيل الحداني قال: حدّثنا محمد بن محصن، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن عبد الله بن الديلمي، عن عبد الرحمن بن غنم قال: سافرت مع معاذ بن جبل، [فكان يمرّ] بشجرة الزيتون فيأخذ منها القضيب فيستاك به ويقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة، يطيّب الفم، ويذهب بالجفر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هي مسواكي ومسواك الأنبياء قبلي» [181] . وقال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وعبد الرحمن بن غنيم: التِّينِ: مسجد دمشق، وَالزَّيْتُونِ: بيت المقدس. عن الضحّاك: هما مسجدان بالشام. عن محمد بن كعب: التِّينِ: مسجد أصحاب الكهف، وَالزَّيْتُونِ: مسجد إيليا، ومجازه على هذا التأويل: منابت التين والزيتون. أبو مكين، عن عكرمة: جبلان. عن عطية، عن ابن عباس: التِّينِ: مسجد نوح الذي [بناه] على الجودي، وَالزَّيْتُونِ: بيت المقدس. عن نهشل، عن الضحّاك: التِّينِ: المسجد الحرام. وَالزَّيْتُونِ: المسجد الأقصى. وسمعت محمد بن عبدوس يقول: سمعت محمد بن الحميم يقول: سمعت الفرّاء يقول: سمعت رجلا من أهل الشام وكان صاحب تفسير قال: التِّينِ: جبال ما بين حلوان إلى همدان، وَالزَّيْتُونِ: جبال الشام. وَطُورِ سِينِينَ يعني جبل موسى، قال عكرمة: السينين: الجسر بلغة الحبشة. الحكم والنضر عنه: كلّ جبل ينبت فهو طور سينين، كما ينبت في السهل كذلك ينبت في الجبل، وعن مجاهد: الطور الجبل، وسينين: المبارك. وعن قتادة: المبارك الحسن. عن مقاتل: كل جبل فيه شجرة مثمرة فهو سينين وسينا وهو بلغة النبط. عن الكلبي: يعني الجبل المشجر. عن شهر بن حوشب: التِّينِ: الكوفة، وَالزَّيْتُونِ: الشام، وَطُورِ سِينِينَ: جبل فيه ألوان الأشجار. قال عبد الله بن عمر: أربعة أجبال مقدّسة بين يدي الله سبحانه، طور تينا وطور زيتا وطور سينا وطور يتمانا، فأما طور تينا فدمشق، وأما طور زيتا فبيت المقدس، وأما طور سينا فهو الذي كان عليه موسى، وأما طور يتمانا فمكة. أخبرنا أبو سفيان الحسين بن محمد بن عبد الله المقري قال: حدّثنا البغوي ببغداد قال: حدّثنا ابن أبي شيبة قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدّثنا وكيع عن أبيه وسفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو قال: سمعت عمر بن الخطاب يقرأ بمكة في المغرب: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وطور سيناء، قال: فظننت أنه إنما يقرؤها ليعلم حرمة البلد.
وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ الآمن، يعني مكة، وأنشد الفرّاء: ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني ... حلفت يمينا لا أخون أميني يريد آمني. لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أعدل قامة وأحسن صورة، وذلك أنه خلق كل شيء منكبّا على وجهه إلّا الإنسان. وقال أبو بكر بن ظاهر: مزينا بالعقل، مؤدّبا بالأمر، مهذّبا بالتمييز، مديد القامة، يتناول مأكوله بيده. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ يعني إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، ينقص عمره ويضعف بدنه ويذهب عقله. قال ابن عباس: [إنّ] نفرا ردوا إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عذرهم وأخبر أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم. قال عكرمة: لم يضرّ هذا الشيخ الهرم كبره إذا ختم الله تعالى له بأحسن ما كان يعمل. قال أهل المعاني: السافلون: الضعفى والهرمى والزمنى، فقوله (أَسْفَلَ سافِلِينَ) نكرة تعمّ الجنس، كما تقول: فلان أكرم قائم، فإذا عرّفت قلت: القائمين. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن مهران قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفراي قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد قال: حدّثنا خالد الزيات قال: حدّثنا داود ابو سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمّر بن حزم الأنصاري، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالديه، فإن عمل سيئة لم تكتب عليه، ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم، أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسدّدانه، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله سبحانه من البلايا الثلاث: من الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه فيما يحب، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفّعه في أهل بيته، وكان اسمه أسير الله في الأرض، فإذا بلغ أرذل الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، كتب الله سبحانه له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير، وإن عمل سيئة لم تكتب عليه» [182] «1» . وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يعني ثُمَّ رَدَدْناهُ الى النار. وقال أبو العالية: يعني إلى النار في شر صورة، في صورة خنزير.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا أحمد بن حواس قال: حدّثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن هبيرة، عن علي قال: أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض، فيبدأ بالأسفل فيملأ، فهي أسفل السافلين ، وفي مصحف عبد الله، (أسفل السافلين) بالألف. ثم استثنى فقال إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، فزالت عقولهم وانقطعت أعمالهم، فلا تثبت لهم حسنة إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم، فأنه يكتب لهم في حال هرمهم وخرفهم مثل الذي كانوا يعملونه في حال شبابهم وصحتهم وقوّتهم، فذلك قوله سبحانه فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ قال الضحّاك: أجر بغير عمل، ثم قال: إلزاما للحجة وتوبيخا للكافر. فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسان بَعْدُ هذه الحجة والبرهان بِالدِّينِ بالحساب والجزاء. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ قال قتادة: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين» [183] .
سورة العلق
سورة العلق مكية، وهي مائتان وثمانون حرفا، واثنتان وسبعون كلمة، وتسع عشرة آية أخبرنا الجباري قال: حدّثنا ابن حيّان قال: أخبرنا الفرقدي قال: حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال: حدّثنا يوسف بن عطية قال: حدّثنا هارون بن كثير قال: حدّثنا زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فكأنّما قرأ المفصّل كله» [184] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ أي الدم، واحدتها علقة، وإنما جمع ولفظ الإنسان واحد، لأنه في معنى الجمع، وهذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن، وأول ما نزل منها خمس آيات من أولها إلى قوله ما لَمْ يَعْلَمْ، وعلى هذا أكثر العلماء. أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون وعبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت: أوّل ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب [الله] إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه، وهو التعبد [في] الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها، حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء. قال: فجاءه الملك وقال: اقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فقلت له: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني
الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقاري، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، حتى بلغ، ما لَمْ يَعْلَمْ» . فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: زمّلوني زمّلوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: «يا خديجة ما لي؟» [185] وأخبرها الخبر وقال: قد خشيت عليّ؟ قالت له: كلّا ابشر، فو الله لا يحزنك الله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وهو ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة بن نوفل: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو مخرجي هم؟» [186] ، فقال ورقة: نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلّا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا، ثم لم ينشب ورقة ان توفي وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلّما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منها تبدّى له جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا بمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرائيل فقال له مثل ذلك [187] «1» . قال الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثيت منه رعبا، فرجعت فقلت: زمّلوني، زمّلوني، فدثّروني» [188] «2» وأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلى قوله سبحانه وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. قبل: أن تفرض للصلاة، وهي الأوثان، ثم كان ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن بعد اقرأ والمدثر، ن وَالْقَلَمِ إلى قوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، ثم وَالضُّحى.
أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم، عن ابن جرير قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال: حدّثنا عبد الواحد قال: حدّثنا سليمان الشيباني قال: حدّثنا عبد الله بن شداد قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثم أبطأ عليه جبرائيل، فقالت له خديجة: ما أرى إلّا قد قلاك، فأنزل الله سبحانه وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشير قال: حدّثنا سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: إن أول سورة نزلت اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا أبو عامر العقدي، عن قرّة بن خالد، عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى يقرئنا القرآن في هذا المسجد فنقعد له حلقا حلقا، كأني أنظر إليه الآن في ثوبين أبيضين، فعنه أخذت هذه السورة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «1» . وقال: كانت أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب. أخبرنا محمد بن حمدويه وعبد الله بن حامد قالا: حدّثنا محمد قال: حدّثنا أحمد بن عبد الجبار قال: حدّثنا يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا» . فقالت: معاذ الله، ما كان الله عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك، فو الله إنّك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدّق الحديث. فلمّا دخل أبو بكر رضي الله عنه وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم [في الدار] ثم ذكرت خديجة له وقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أبو بكر بيده وقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: «من أخبرك؟» فقال: خديجة. فانطلقا إليه فقصّ عليه فقال: «إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض» . فقال له: لا تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني، فلمّا خلا ناداه يا محمد قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «2» حتّى بلغ وَلَا الضَّالِّينَ «3» قل: لا إله إلّا الله، فأتى ورقة فذكر ذلك له، فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا
[سورة العلق (96) : الآيات 5 إلى 19]
أشهد أنّك الذي بشّر به ابن مريم، وأنّك على مثل ناموس موسى، وأنّك نبي مرسل، وأنّك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك، فلمّا توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت القس في الجنة، عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني» [189] «1» يعني ورقة، قالوا: وقال ورقة: فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيّانا فأحمد مرسل وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل «2» يفوز به من فاز عزّ لدينه ... ويشقى به الغاوي الشقيّ المضلل فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخرى بأغلال الجحيم تغلغل «3» اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ قال الكلبي: يعني الحليم عن جهل العبادة ولا يعجل عليهم بالعقوبة الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ يعني الخط والكتاب. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا ابن ماهان قال: حدّثنا محمد بن أيوب بن هشام المزني قال: حدّثنا أبو الحسن عاصم بن علي بن عاصم وعبد الله بن عاصم الجماني قالا: حدّثنا محمد بن راشد عن مسلم بن موسى قال: أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن عبد الله بن عمر بن العاص قال: قلت: يا نبي الله أكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: «نعم، فاكتب فإنّ الله عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» [190] «4» . [سورة العلق (96) : الآيات 5 الى 19] عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من البيان والعمل، قال قتادة: العلم نعمة من الله، لولا العلم لم يقم دين ولم يصلح عيش عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من أنواع الهدى والبيان. وقيل: عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، وقيل: الإنسان هاهنا محمد صلى الله عليه وسلم، بيانه وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ «5» .
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى «1» ليتجاوز حدّه ويستكبر على ربّه أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى قال الكلبي: يرتفع من منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بك من فقر ينسي ومن غنى يطغي» [191] «2» . إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى المرجع في الآخرة أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى نزلت في أبي جهل- لعنه الله- نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حتى فرضت عليه. أخبرنا عبد الله بن حامد فقال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله ابن يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال: حدّثنا معمر بن سليمان عن أبيه قال: حدّثنا نعيم بن أبي مهند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم، قال: فو الذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته. قال فما [فجأهم] منه إلّا يتقي بيديه وينكص على عقبيه، قال: فقالوا له: ما ذاك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة، [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا] [192] «3» فأنزل الله سبحانه أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ أبو جهل لعنه الله وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذن بمقدم رأسه فلنذلّنّه، ثم قال على البدل: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ. قال ابن عباس: لمّا نهى أبو جهل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة انتهره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو جهل: أتهدّدني؟ فو الله لأملأن عليك إن شئت هذا خيلا جردا أو رجالا مردا، فأنزل الله سبحانه فَلْيَدْعُ نادِيَهُ «4» أي قومه سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأخذته الزبانية عيانا» [193] «5» . كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ وصلّ واقترب من الله سبحانه وتعالى.
سورة القدر
سورة القدر مدنيّة في قول أكثر المفسرين، قال علي بن الحسين بن واقد: هي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وروى شيبان عن قتادة أنها مكيّة، وهي رواية نوفل ابن أبي عقرب عن ابن عباس وهي مائة واثنا عشر حرفا وثلاثون كلمة وخمس آيات أخبرنا الجنازي قال: حدّثنا ابن خنيس قال: حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدقّاق الرازي قال: حدّثنا عبد الله بن روح المدائني [عن بكر] بن سواد قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان، وأعطي إحياء ليلة القدر» [194] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يعني القرآن كناية عن غير مذكور، جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فوضعناه في بيت العزّة وأملاه جبرئيل على السّفرة ثم كان ينزله جبرئيل على محمد (عليهما السلام) بنحو ما كان، من أوّله إلى آخره بثلاث وعشرين سنة، ثم عجّب نبيّه (عليه السلام) فقال: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. والكلام في ليلة القدر على خمسة أبواب: الباب الأوّل: في مأخذ هذا الاسم ومعناه ، واختلف العلماء، فقال أكثرهم: هي ليلة الحكم والفصل يقضي الله فيها قضاء السنة، وهو مصدر من قولهم: قدر الله الشيء قدرا وقدرا لغتان كالنّهر والنّهر والشّعر والشّعر، وقدّره تقديرا له بمعنى واحد، قالوا: وهي الليلة التي قال الله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «2» وإنّما سمّيت ليلة القدر مباركة لأن الله سبحانه ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة.
الباب الثاني: اختلاف العلماء في وقتها، وأي ليلة هي، وذكر اختلاف الصحابة فيها.
وروى أبو الضحى عن ابن عباس أن الله عزّ وجلّ يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. روي أنه تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلّا الكاهن أو الساحر أو مدمن خمر أو عاق لوالديه أو مصرّ على الزنا أو [مشاحن] أو قاطع رحم [195] «1» . وقيل للحسين بن الفضل: أليس قد قدّر الله سبحانه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: فما معنى لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قال: سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدّر. أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جبير قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير قال: يؤذن للحجاج فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد ولا ينقص منهم. وقال الزهري: هي ليلة العظمة والشرف، من قول الناس لفلان عند الأمير قدر أي جاه ومنزلة، يقال: قدرت فلانا أي عظّمته قال الله سبحانه: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» أي ما عظّموا الله حق عظمته وقال أبو بكر الورّاق: سمّيت بذلك لأنّ من لم يكن ذا قدر وخطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أدركها وأحياها. وقيل: إنّ كلّ عمل صالح يؤخذ فيها من المؤمن فيكون ذا قدر وقيمة عند الله لكونه مقبولا فيها. وقيل: لأنّه أنزل كتاب ذو قدر على رسول ذي قدر لأجل أمّة ذات قدر، وقال سهل بن عبد الله: لأنّ الله سبحانه يقدّر الرحمة فيها على عباده المؤمنين. وقيل: لأنه ينزّل فيها إلى الأرض ملائكة أولو قدر وذوو خطر. وقال الخليل بن أحمد: سمّيت بذلك لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة من قوله: وَيَقْدِرُ ومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «3» . الباب الثاني: اختلاف العلماء في وقتها، وأي ليلة هي، وذكر اختلاف الصحابة فيها. فقال بعضهم: إنّما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفعت. أخبرني عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن قال: حدّثنا
أحمد بن يوسف قال: حدّثنا عبد الله قال: أخبرنا سفيان عن الأوزاعي عن مرشد أو عن أبي مرشد قال: كنت جالسا مع أبي ذرّ عند خمرة الوسطى فسئل عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ فقال: كنت أسأل الناس عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: يا رسول الله لَيْلَةُ الْقَدْرِ هل هي تكون على عهد الأنبياء (عليهم السلام) ، فإذا مضوا رفعت؟ قال: «لا، بل هي إلى يوم القيامة» [196] «1» . وأخبرنا عبد الله بن حاطب قال: أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال: أخبرنا عمر بن الحسين قال: حدّثنا عبد بن حميد عن روح بن عبادة قال: حدّثنا ابن جريج قال: أخبرني داود ابن أبي عاصم عن عبد الله بن عيسى مولى معاوية قال: قلت لأبي هريرة زعموا أنّ ليلة القدر قد رفعت قال: كذب من قال ذلك، قال: قلت هي في كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم. وقال بعضهم: هي في ليالي السنة كلّها، وإنّ من علّق طلاق امرأته أو عتق عبده ليلة القدر لم يقع الطلاق ولم ينفذ العتاق إلى مضي سنة من يوم حلف، وهي إحدى الروايات عن ابن مسعود قال: من يقم الحول كلّه يصبها. قال: فبلغ ذلك عبد الله بن عمر، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن أما إنه علم أنها في شهر رمضان؟ ولكن أراد أن لا يتّكل الناس، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة، وحكي عنه أيضا أنّه قال: رفعت ليلة القدر، وروي عن ابن مسعود أيضا أنه قال: إذا كانت السنة في ليلة كانت العام المقبل في ليلة أخرى، والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان في كل عام. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن عامر قال: أخبرنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا عبد بن حميد عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن أبي عمير أنه سئل عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ: أفي كل رمضان هي؟ قال: نعم. وأخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثني يعقوب قال: حدّثنا ابن عليّة قال: حدّثنا ابن ربيعة بن كلثوم قال: قال رجل للحسين «2» وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ قال: «نعم والله الذي لا إله إلّا هو إنها لفي كلّ رمضان، وإنّها ليلة يفرق فيها كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، فيها يقضى كلّ أجل وعمل، ورزق وخلق إلى مثلها» [197] «3» . واختلفوا في أول ليلة هي منها، فقال أنور بن العقيلي: هي أول ليلة من شهر رمضان، وقال الحسن: هي ليلة سبع عشرة، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر.
والصحيح أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، يدلّ عليه ما أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد الشيباني قال: أخبرنا عبد الله بن مسلم، قال: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، وقال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن ابن مسلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر» [198] «1» . وأخبرنا أبو بكر العباسي قال: أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال: حدّثنا عبد الله بن قاسم قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان وشعبة وإسرائيل عن ابن إسحاق عن هبيرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشرة الأواخر من رمضان. وأخبرنا أبو محمد المخلّدي وعبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا عمار بن رجاء قال: حدّثنا أحمد بن أبي طيبة عن عنبسة بن الأزهر عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال: سمعت عليّا رضي الله عنه يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان دأب وأدأب أهله» [199] «2» فدلّت هذه الأخبار على أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان. ثم اختلفوا في أي ليلة فيها فقال أبو سعيد الخدري: هي الليلة الحادية والعشرون، واحتجّ في ذلك بما أخبرنا أبو نعيم الأزهري قال: حدّثنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة، قال: أخبرنا المزني قال: قال الشافعي: وأخبرنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد المطوعي، وأبو علي السيوري، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله المصيبي قالوا: حدّثنا أبو العباس الأصمّ قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من شهر رمضان، فلمّا كانت [ليلة] أحدى وعشرين وهي التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال صلى الله عليه وسلم: «من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فإني رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها- وقال- وأريتني أسجد في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر» [200] «3» فأمطرت السماء في تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد. قال أبو سعيد [فأبصرت عيناي] رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين.
وقال بعضهم هي الليلة الثالثة والعشرون منها «1» . أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الهمداني قال: أخبرنا الحسين بن عبد الأعلى قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رأيت في النوم كأن ليلة القدر سابعة تبقى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين» [201] «2» . قال معمر: كان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمسّ طيبا. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا أحمد بن حفص قال: حدّثني أبي قال: حدّثني إبراهيم عن عبّاد وهو ابن إسحاق عن الزهري عن ضمرة بن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: كنت في مجلس من بني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، قال: فخرجت فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ثم نمت بباب بيته فمرّ بي فقال: «ادخل» فدخلت فأتي بعشائه فرأيتني أكفّ عنه من قلته، فلمّا فرغ قال: «ناولني نعلي» فقام وقمت معه فقال: كان لك حاجة؟ فقلت: أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر فقال: «كم الليلة؟» فقلت: اثنان وعشرون، فقال: «هي الليلة» ثم رجع فقال: «أو الثالثة» «3» يريد ليلة ثلاث وعشرين [202] «4» . قال أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طفران قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل المحاملي قال: حدّثنا يعقوب الدورقي قال: حدّثنا عبد الله بن إدريس قال: سمعت عاصم بن كليب يروي عن أبيه عن خاله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها ورأيت مسيح الضلالة [فخرجت إليكم لأبيّنها] فرأيت رجلين يتلاحيان فحجزت بينهما فأنسيتهما وسأشدو لكم منها شدوا، فأمّا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فاطلبوها في العشر الأواخر وترا، وأمّا مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة، ممسوح العين اليسرى، عريض النحر، فيه دمامة «5» كأنّه فلان بن عبد العزى أو عبد العزى بن فلان» [203] «6» . قال: فذكرت هذا الحديث لابن عباس قال: وما عجبك؟ سأل عمر بن الخطاب أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسألني معهم مع الأكابر منهم ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلّموا، فقال: علمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ اطلبوها في العشر الأواخر وترا» [204] «1» ففي أي الوتر ترون؟ قال: فأكثر القوم في الوتر، فقال: ما لك لا تكلّم ابن عباس؟ قال: قلت: إن شئت تكلّمت، قال: عن رأيك أسألك؟ قال: قلت: رأيت الله سبحانه أكثر ذكر السبع، وذكر السماوات سبعا، والأرضين والطواف سبعة، والجمار سبعة، وما شاء الله من ذلك، خلق الإنسان من سبعة، وجعل رزقه من سبعة. قال: قلت: خلق الإنسان، فقال: فكلّما ذكرت عرقت، فما قولك خلق الإنسان من سبعة وجعل رزقه من سبعة؟ قال: قلت: خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ «2» إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ «3» . ثم قرأت أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «4» إلى قوله سبحانه: وَأَبًّا «5» والأبّ ما أنبتت الأرض ممّا لا تأكله الناس، فما أراها إلّا ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين، فقال عمر: غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه. وأخبرنا عبد الله بن حامد عن صالح بن محمد قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: أخبرني برأيك في لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قال: فقلت: إن الله سبحانه وتر يحب الوتر، السماوات سبع، والأرضون سبع، وترزق من سبع، وتخرج من سبع، ولا أراها إلّا في سبع بقين من رمضان، فقال عمر: وافق رأيي رأيك، ثم ضرب منكبي وقال: ما أنت بأقل القوم علما. وقال زيد بن ثابت وبلال: هي ليلة أربع وعشرين، ودليلهما ما أخبرناه عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا محمد بن معاوية قال: حدّثنا بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن يزيد بن عبد الله عن الضابحي عن بلال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ ليلة أربع وعشرين» [205] «6» . وقيل: هي الليلة الخامسة والعشرون، يدلّ عليها ما أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ في
آخرين قالوا: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا بحر بن نصر قال: فرأى علي ابن وهب أخبرك خبر أحد منهم مالك بن أنس عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» [206] «1» . وقال قوم: هي الليلة السابعة والعشرون، وإليه ذهب علي وأبي وعائشة ومعاوية ، يدل عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال: أخبرنا أبو أحمد حمزة بن العباس ببغداد قال: حدّثنا أحمد بن الوليد الفحام قال: حدّثنا مسوّد بن عامر شاذان قال: أخبرنا شعبة قال: عبد الله بن دينار أخبرني قال: سمعت ابن عمر يحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةِ الْقَدْرِ قال: «من كان متحرّيا فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين» [207] «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قراءة عليه قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا الحسن بن علي بن عفّان قال: حدّثنا عمرو العنقري قال: حدّثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال: أتينا بن مسعود فسألناه عن لَيْلَةِ الْقَدْرِ فقال: من يقم الحول يصبها، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن قد علم أنها في شهر رمضان وأنها في ليلة تسع وعشرين قال: فقال لنا أبا المنذر: إني قد علمت ذلك فقال: بالآية التي أنبأنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحفظنا وعددنا، قال: فو الله فإنها لفي ما تستثني، قال: فقلنا: أبا المنذر ما الآية؟ قال: تطلع الشمس عندئذ كأنها طست ليس لها شعاع. وروي عن أبيّ بن كعب أيضا أنّه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بأذنيّ وإلّا فصمتا أنّه قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ ليلة سبع وعشرين» [208] «3» . وقال بعض الصحابة: قام بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الثالث والعشرين ثلث الليل، فلمّا كانت ليلة الخامس والعشرين قام بنا نصف الليل، فلمّا كانت الليلة السابعة والعشرون قام بنا الليل كلّه. وقال أبو بكر الورّاق: إنّ الله سبحانه وتعالى قسّم كلمات هذه السورة على ليالي شهر رمضان، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هِيَ. وقال بعضهم: هي ليلة التاسع والعشرين، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ ليلة السابع والعشرين أو التاسع والعشرين وإن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى» [209] «4» .
الباب الثالث: في علامتها واماراتها
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا محمد بن سعيد القطان قال: حدّثنا عيينة بن عبد الرحمن قال: حدّثني أبي قال: ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال: ما أنا بطالبها بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا في العشر الأواخر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «التمسوها في العشر الأواخر في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة» [210] «1» وكان أبو بكرة إذا دخل شهر رمضان ظلّ يصلي في سائر السنة، فإذا دخل العشر اجتهد. وفي الجملة، أخفى الله علم هذه الليلة على الأمّة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعا في إدراكها كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات، واسمه الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، وغضبه في المعاصي، ورضاه في الطاعات، وقيام الساعة في الأوقات، رحمة منه وحكمة، والله أعلم. الباب الثالث: في علامتها واماراتها أخبرنا أبو عمر الفراتي قال: أخبرنا أبو نصر السرخسي قال: حدّثنا محمد بن الفضل قال: حدّثنا إبراهيم بن يوسف قال: حدّثنا النضر عن أشعث عن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في لَيْلَةِ الْقَدْرِ: «من أماراتها أنها ليلة بلجة سمحة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع» [211] «2» . وقال حميد بن عمر: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائه فوجدته سلسا. الباب الرابع: في فضائلها وخصائصها. حدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد الجهني بها قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن ببغداد قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدّثنا محمد بن كثير عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي (عليه السلام) قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» [212] «3» . وفي الحديث: «إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضيء فجرها، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر» [213] «4» .
الباب الخامس: في آدابها وفيما يستحب فيها.
وروي عن ابن عباس أن النبي (عليه السلام) قال: «إذا كانت لَيْلَةُ الْقَدْرِ ينزل الملائكة الذين هم سكّان سدرة المنتهى، ومنهم جبريل، فينزل جبريل ومعه ألوية ينصب لواء منها على قبري، ولواء منها على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا يدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلّم عليه إلّا مدمن الخمر وآكل الخنزير والمتضمخ بالزعفران» [214] «1» . الباب الخامس: في آدابها وفيما يستحب فيها. حدّثنا أبو بكر بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا الحسين بن مكرم قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا كهمس عن عبد الله بن بريدة أنّ عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن وافت لَيْلَةُ الْقَدْرِ فما أقول؟ قال: «قولي: اللهمّ إنّك عفوّ تحب العفو فاعف عنّي» [215] «2» . وروى شريح بن هانئ عن عائشة قالت: لو عرفت أيّ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ما سألت الله فيها إلّا العافية. وأخبرنا أبو عمر الفراتي قال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن سهل قال: حدّثنا سعيد بن عيسى قال: حدّثنا فارس بن عمر قال: حدّثنا صالح قال: حدّثنا العمري عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلّى المغرب والعشاء الآخرة من لَيْلَةِ الْقَدْرِ [في جماعة] فقد أخذ حظه من لَيْلَةِ الْقَدْرِ» [216] «3» . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ «4» أخبرنا أبو عمر الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: أخبرنا موسى بن عبد الله: قال: حدّثنا أبو مصعب عن ملك أنه سمع من يثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس تقاصر أعمار أمّته ألّا يبلغوا من الأعمال مثل الذي يبلغ غيره في طول العمر، فأعطاه الله سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. واختلفوا في الحكمة الموجبة لهذا العدد، فأخبرني الحسين قال: حدّثنا الكندي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن حاتم قال: قرئ على [يونس] بن عبد الأعلى: أخبرنا ابن وهبة قال: حدّثنا مسلمة عن علي بن لهيعة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما، لم يعصوه طرفة عين فذكر: أيّوب، وزكريّا، وحزقيل ابن العجوز، ويوشع بن نون قال: فعجب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وأتاه جبريل فقال: «يا محمد عجبت أمّتك من عبادة
هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين» ، فقال: «أنزل الله تعالى عليك خيرا من ذلك» ، ثم قرأ عليه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ لأن هذا أفضل مما عجبت أنت وأمّتك» قال: فسرّ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والناس معه [217] «1» . وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: حدّثنا سعيد بن عيسى قال: حدّثنا فارس بن عمرو قال: حدّثنا صالح قال: حدّثنا مسلم بن خالد بن أبي نجح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال: فعجب المسلمون من ذلك فأنزل الله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ الذي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله. ويقال: إنّ ذلك الرجل كان شمشون (عليه السلام) ، وكانت قصته على ما ذكر وهب بن منبه أنّه كان رجلا مسلما وكانت أمّه قد جعلته نذيرا، وكان من أهل قرية من قرى الروم كانوا يعبدون الأصنام، وكان منزله منها على أميال غير كثيرة، فكان يغزوهم وحده، ويجاهدهم في الله فيصيب منهم وفيهم حاجته، ويقتل ويسبي ويصيب الأموال، وكان إذا لقيهم لقيهم بلحي بعير لا يلقاهم بغيره، فإذا قاتلوه وقاتلهم وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذي في اللحي ماء عذب فيشرب منه حتى يروى. وكان قد أعطي قوّة في البطش، وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، فكان كذلك، فجاهدهم في الله، يصيب منهم حاجته لا يقدرون منه على شيء حتى قالوا: لن تأتوه إلّا من قبل امرأته، فدخلوا على امرأته فجعلوا لها جعلا فقالت: نعم، أنا أوثقه لكم فأعطوها حبلا وثيقا، وقالوا لها: إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتيه فنأخذه، فلمّا نام أوثقت يده إلى عنقه بذلك الحبل، فلما هبّ جذبه بيده فوقع من عنقه. فقال لها: لم فعلت ذلك؟ فقالت: أجرّب بها قوتك، ما رأيت مثلك، فأرسلت إليهم: إني قد ربطته بالحبل فلم أغن شيئا، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، وقالوا: إذا نام فاجعليها في عنقه، فلمّا نام جعلتها في عنقه، فلمّا هبّ جذبها فوقعت من يده وعنقه، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت: أجرّب بها قوتك، ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمشون، أما في الأرض شيء يغلبك؟ قال: إلّا شيء واحد، قالت: وما هو؟ قال لها: ها أنا لمخبرك به، فلم تزل تسأله عن ذلك وكان ذا شعر كثير، فقال لها: ويحك إنّ أمّي كانت جعلتني نذيرا فلا يغلبني شيء أبدا، ولا يضبطني إلّا شعري، فلمّا نام أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه، فأوثقه ذلك وبعثت إلى القوم.
فجاؤا فأخذوه فجدعوا أنفه وانفذوا أذنيه وفقأوا عينيه، ووقفوا بين ظهراني المدينة، وكانت مدينة ذات أساطين، وكان ملكهم قد أشرف عليها بالناس لينظروا إلى شمشون وما يصنع به، فدعا شمشون ربّه حين مثلوا ووقفوه أن يسلّطه عليهم، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المدينة التي عليها الملك والناس الذين معه فاجتذبهما جميعا فجذبهما، فردّ الله تعالى إليه بصره وما أصابوا من جسده، ووقعت المئذنة بالملك ومن عليها من الناس، فهلكوا فيها هدما «1» . وقيل: هو أن الرجل فيما مضى كان لا يستحق أن يقال له: عابد، حتى يعبد الله ألف شهر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فجعل الله سبحانه لأمّة محمد (عليه السلام) ليلة خيرا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ كانوا يعبدون فيها. وقال أبو بكر الورّاق: كان ملك سليمان خمسمائة شهر وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فيحتمل أن يكون معنى الآية: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ لمن أدركها مما ملكه سليمان وذو القرنين (عليهما السلام) . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن الأشقر قال: حدّثنا زيد بن أخرم قال: حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا علقمة بن الفضل عن يوسف بن مازن الراسبي قال: قام رجل إلى الحسن بن علي فقال: سوّدت وجوه المؤمنين، عمدت إلى هذا الرجل فبايعته يعني معاوية فقال: «لا تؤنّبني [رحمك الله فإن] رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أري بني أميّة يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ونزلت إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تملكه بنو أميّة. قال القاسم: اللهمّ فحسبنا ملك بني أميّة فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص» [218] «2» . وقال المفسّرون: عمل صالح في ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ عمل أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة القدر، وروى الربيع عن أبي العالية قال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ عمر أَلْفِ شَهْرٍ، وقال مجاهد: سلام الملائكة والروح عليك تلك الليلة خير من سلام الخلق عليك ألف شهر فذلك [قوله] سبحانه تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ. قرأ طلحة بن مصرف تنزل خفيفة، من النزول، وَالرُّوحُ يعني جبرئيل في قول أكثر المفسّرين يدلّ عليه ما روى قتادة عن أنس أن رسول الله (عليه السلام) قال: «إذا كان لَيْلَةُ الْقَدْرِ نزل جبرئيل في كبكبة من الملائكة يصلّون ويسلّمون على كلّ عبد قائم أو قاعد يذكر الله سبحانه» [219] «3» .
وقال كعب ومقاتل بن حيان: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة، ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقال الواقدي: هو ملك عظيم [من أعظم الملائكة خلقا] «1» يخلق من الملائكة. فِيها أي في ليلة القدر بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قدّره الله سبحانه وقضاه في تلك السنة إلى قابل، لقوله سبحانه في الرعد: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «2» أي بأمر الله. وقد أخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا يحيى بن زياد الفرّاء قال: حدّثني أبو بكر بن عباس عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنّه كان يقرأ من كل امرئ سلام، ورويت هذه القراءة أيضا عن علي بن أبي طالب وعكرمة ، ولها وجهان: أحدهما: إنّه وجّه معناه إلى الملك أي من كلّ ملك سلام. والثاني: أن يكون من بمعنى على تقديره: على كل امرئ من المسلمين سلام من الملائكة كقوله سبحانه: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ «3» أي على القوم، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة لإجماع الحجّة من القراءة عليها ولموافقتها خطّ المصاحف لأنه ليس فيها ياء. وقوله: سَلامٌ هِيَ تمام الكلام عند قوله: مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ثم ابتدأ فقال سبحانه: سَلامٌ هِيَ أي ليلة القدر سلام وخير كلّها ليس فيها شر. قال الضّحاك: لا يقدر الله سبحانه في تلك الليلة إلّا السلامة، فأمّا في الليالي الأخر فيقضي الله تعالى فيهنّ البلاء والسلامة، قال مجاهد: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أن يحدث فيها أذى. وقال الشعبي ومنصور بن زاذان: هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كلّ مؤمن ويقولون: السلام عليك يا مؤمن. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ حتى حرف غاية، مجازها إلى مطلع الفجر. قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر اللام، غيرهم بفتحه وهو الاختيار لأن المطلع بفتح اللام بمعنى الطلوع يقال: طلعت الشمس طلوعا ومطلعا، فأمّا المطلع بكسر اللام فإنّه موضع الطلوع، ولا معنى للاسم في هذا الموضع، إنّما هو لمعنى المصدر، والله أعلم.
سورة البينة (المنفكين)
سورة البيّنة (المنفكّين) مدنيّة، وهي ثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا وأربع وتسعون كلمة وثماني آيات أخبرنا السلمي والخبازي قالا: أخبرنا محمد بن محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن موسى بن النعمان قال: حدّثنا فهد بن سليمان قال: حدّثنا إسحاق بن بشير قال: حدّثنا مالك بن أنس عن محمد بن سعيد عن سعيد بن المسيّب عن أبي الهاد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لعطّلوا الأهل والمال وتعلّموها» فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول الله؟ قال رسول الله (عليه السلام) : «لا يقرأها منافق أبدا ولا رجل في قلبه شكّ في الله عزّ وجلّ، والله إن الملائكة المقرّبين ليقرأونها منذ خلق الله السماوات والأرض لا يفترون من قراءتها، وما من عبد يقرأها بليل إلّا بعث الله سبحانه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون الله له بالمغفرة والرحمة، فإن قرأها نهارا أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل» . فقال رجل من قيس عيلان: زدنا من هذا الحديث فداك أبي وأمّي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا عَمَّ يَتَساءَلُونَ «1» وتعلّموا ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ «2» وتعلّموا وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ «3» وتعلّموا وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ «4» وإنّكم لو تعلمون ما فيهن لعطّلتم ما أنتم فيه وتعلّمتموهنّ وتقرّبتم إلى الله سبحانه بهنّ فإن الله يغفر بهنّ كل ذنب إلّا الشرك بالله. واعلموا أنّ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ «5» [تجادل عن صاحبها] وتستغفر له من الذنوب» [220] «6» . وأخبرني الخبازي قال: حدّثنا ظفران قال: حدّثنا بن أبي داود قال: حدّثنا محمد بن
[سورة البينة (98) : الآيات 1 إلى 8]
عاصم قال: حدّثنا شبابة بن سوار قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن زر عن أبيّ قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «من قرأ سورة لَمْ يَكُنِ كان يوم القيامة مع خير البرية مسافرا أو مقيما» [221] «1» . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن علي قال: حدّثنا أبو يعلى الموصلي قال: حدّثنا محمد بن المثنى قال: حدّثنا عبد ربّه قال: حدّثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال: قال رسول الله (عليه السلام) لأبيّ بن كعب: «إن الله عزّ وجلّ أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» قال: وسمّاني؟ قال: «نعم» فبكى [222] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم اليهود والنصارى، والمشركون وهم عبدة الأوثان، مُنْفَكِّينَ منتهين عن كفرهم وشركهم، وقال أهل اللغة: زائلين، يقول: العرب: ما انفكّ فلان يفعل كذا، أي ما زال، وأصل الفكّ الفتح، ومنه فكّ الكتاب، وفكّ الخلخال، وفكّ البيالم وهي خورنق العطر، قال طرفة: وآليت لا ينفك كشحي بطانة ... لعضب رقيق الشفرتين منهد «3» حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ الحجّة الواضحة وهي محمد (عليه السلام) أتاهم بالقرآن فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، وهداهم إلى الإيمان، وقال ابن كيسان معناه لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد (عليه السلام) حتى بعث، فلمّا بعث تفرّقوا فيه. ثم فسّر البيّنة فقال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ. فأبدل النكرة من المعرفة كقوله: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «4» .
يَتْلُوا يقرأ صُحُفاً كتبا مُطَهَّرَةً من الباطل فِيها كُتُبٌ من الله قَيِّمَةٌ مستقيمة عادلة وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في أمر محمد (عليه السلام) فكذّبوه إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ البيان في كتبهم أنه نبيّ مرسل. قال العلماء: من أول السورة إلى قوله: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ حكمها في من آمن من أهل الكتاب والمشركين، وَما تَفَرَّقَ حكمه في من لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج عليها. قال بعض أئمّة أهل اللغة قوله: مُنْفَكِّينَ أي هالكين من قوله انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن تنفصل ولا يلتئم فهلك، ومعنى الآية: لم يكونوا هالكين أي معذّبين إلّا بعد قيام الحجّة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتب. وقرأ الأعمش (والمشركون) رفعا، وفي مصحف عبد الله (لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكّين) وفي حرف أبيّ (ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة رسولا من الله) بالنصب على القطع والحال. وَما أُمِرُوا يعني هؤلاء الكفار إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ يعني إلّا أن يعبدوا الله مخلصين لَهُ الدِّينَ التوحيد والطاعة حُنَفاءَ مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. وقال ابن عباس: حجاجا، وقال قتادة: الحنيفية هي الختان وتحريم الأمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات، وإقامة المناسك. وقال سعيد بن حمزة: لا تسمي العرب حنيفا إلّا من حجّ واختتن وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ الذي ذكرت دِينُ الْقَيِّمَةِ المستقيمة فأضاف الدين إلى القيّمة وهو أمر فيه اختلاف اللفظين وأنّث القيّمة لأنّه رجع بها إلى الملّة والشريعة، وقيل: الهاء فيه للمبالغة. سمعت أبا القاسم الحنبلي يقول: سمعت أبا سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني يقول: إن القيّمة هاهنا الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها على معنى: وَذلِكَ دِينُ الكتب الْقَيِّمَةِ فيما يدعو إليه ويأمر به، نظيرها قوله سبحانه: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ «1» . وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله سبحانه: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ فقال: القيّمة جمع القيّم، والقيّم [والقائم] واحد ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لك بالتوحيد «2» .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ الخليقة، قرأ نافع البرئة بالهمزة في الحرفين ومثله روى ابن ذكوان عن أهل الشام على الأصل لأنه من قولهم: برأ الله الخلق يبرؤهم برءا، قال الله سبحانه: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها، وقرأ الآخرون بالتشديد من غير همزة، ولها وجهان: أحدهما أنه ترك الهمزة وأدخل الشبه به عوضا منه. والآخر أن يكون (فعيلة) من البراء وهو التراب، تقول العرب: بفيك البراء فمجازه: المخلوقون من التراب. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ. قال الصادق رضي الله عنه: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق، ورضوا عنه بما منّ عليهم بمتابعتهم لرسوله، وقبولهم ما جاءهم به، أي أن بيان رضا الخلق عن الله رضاهم بما يرد عليهم من أحكامه ورضاه عنهم أن يوفّقهم للرضا عنه» [223] . محمد بن الفضيل: الرّوح والراحة في الرضا واليقين، والرضا باب الله الأعظم ومستراح العابدين. محمد بن حقيق: الرضا ينقسم قسمين: رضا به ورضا عنه، فالرضا به ربّا ومدبّرا، والرضا عنه فيما يقضي ويقدّر. وقيل: الرضا رفع الاختيار. ذي النون: الرضا: سرور القلب لمرّ القضاء. حارث: الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم. أبو عمرو الدمشقي: الرضا نهاية الصبر. أبو بكر بن طاهر: الرضا خروج الكراهية من القلب حتى لا يكون إلّا فرح وسرور. الواسطي: هو النظر إلى الأشياء يعني الرضا حتى لا يسخطك شيء إلّا ما يسخط مولاك. ابن عطاء: هو النظر إلى قديم إحسان الله للعبد فيترك السخط عليه. سمعت محمد بن الحسين بن محمد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت علي بن عبد الحميد يقول: سمعت السهمي يقول: إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك؟.
سورة الزلزلة
سورة الزلزلة مكّيّة، وهي مائة وتسعة وأربعون حرفا، وخمس وثلاثون كلمة، وثماني آيات أخبرنا يعقوب بن أحمد بن السهمي العروضي في درب الحاجب قال: أخبرنا محمد بن عبد الله العثماني قال: حدّثنا أبا القاسم الطائي قال: حدّثني أبي قال: حدّثني علي بن موسى الرضا قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدّثني أبي محمد بن علي قال: حدّثني أبي علي بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ إِذا زُلْزِلَتِ أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كلّه» [224] «1» . وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثني أبو بكر محمد بن عبد الله قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال: حدّثنا علي بن حجر قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: حدّثنا اليمان بن المغيرة عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «إِذا زُلْزِلَتِ تعدل نصف القرآن، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» تعدل ثلث القرآن وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «3» تعدل ربع القرآن» [225] «4» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) إِذا زُلْزِلَتِ حرّكت الْأَرْضُ حركة شديدة لقيام الساعة زِلْزالَها تحركها وقراءة العامّة بكسر الزاي.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا [الباقرجي] قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن ياسين البغدادي قال: حدّثنا جميل بن الحسن قال: حدّثنا أحمد بن موسى صاحب اللؤلؤ قال: سمعت عاصم الجحدري يقرأ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزالَها الزاي مفتوحة وهو مصدر أيضا كالوسواس والقلقال والجرجار، وقيل: الكسر المصدر والفتح الاسم. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها موتاها وكنوزها فيقلبها على ظهرها وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فيقول الْإِنْسانُ: ما لَها. قال المفسّرون: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ فتقول للمؤمن يوم القيامة: جدّ عليّ وصام وصلّى واجتهد وأطاع ربّه، فيفرح المؤمن بذلك، وتقول للكافر: شرك عليّ وزنى [وسرق] وشرب الخمر فيوبّخ بالمشهد، وتشهد عليه الجوارح والملائكة مع علم الله سبحانه به حتى يودّ أنه سيق إلى النار مما يرى من الفضوح. حدّثنا أبو بكر محمد بن عبدوس المزكى إملاء قال: أخبرنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل المروزي قال: حدّثنا عبد الله بن حمّاد الآملي قال: حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدّثنا رشد بن سعد قال: حدّثنا يحيى بن أبي سلمى عن أبي حازم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل على ظهرها» قال: وتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» حتى بلغ «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» قال: «أتدرون ما أخبارها؟ إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها» [226] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن الحسن بن مطرف الجراحي قال: حدّثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن عبد الله الأنباري قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدّثنا خالد بن يزيد العمري قال: حدّثنا شعبة عن يحيى بن سليم أبي بلج عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أن النبي (عليه السلام) ذكر هذه الآية: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» فقال: «تدري ما أخبارها؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها من شيء، تقول: عمل على ظهري كذا وكذا، أو حملت على ظهري كذا وكذا يوم كذا لكذا وكذا، فهذه أخبارها» [227] «2» . وفي حرف ابن مسعود يومئذ تبني أخبارها. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا المطرفي قال: حدّثنا بشر بن مطر قال: حدّثنا سفيان
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 إلى 8]
عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه- وكان أبوه يتيما في حجر أبي سعيد الخدري- قال: قال لي يعني أبا سعيد: يا بنيّ إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلّا يشهد له» [228] «1» . أخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا ابن الحسين قال: حدّثنا علي بن حميد عن إبراهيم عن أبيه قال: رأيت أبا أميّة صلّى في المسجد الحرام المكتوبة، ثم تقدم فجعل يصلي هاهنا وهاهنا، فلمّا فرغ قلت: يا أبا أميّة ما هذا الذي رأيتك تصنع؟ قال قرأت هذه الآية: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها فأردت أن تشهد لي يوم القيامة. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي أمرها بالكلام واذن لها فيه، قال [العجاج يصف الأرض] : أوحى لها القرار فاستقرّت ... وشدّها بالراسيات الثبّت أي أمرها بالقرار. وقال ابن عباس والقرظي وابن زيد: أوحى إليها. ومجاز الآية: يوحي الله إليها. يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً عن موقف الحساب، أشتاتا: متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير تقديرها يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً! وقراءة العامّة لِيُرَوْا بضم الياء، وقرأ الحسن والأعرج بفتح الياء وروي ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الزلزلة (99) : الآيات 7 الى 8] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أي يرى ثوابه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا ولا شرا في الدنيا إلّا أراه الله إياه، أما المؤمن فيرى حسناته وسيّئاته، فيغفر له سيئاته ويثيبه لحسناته، وأما الكافر فترد حسناته ويعذبه بسيّئاته. وقال محمد بن كعب في هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً من كافر يرى ثوابه في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله شر. ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني أبو
الخطاب الجنائي قال: حدّثنا الهيثم بن الربيع قال: حدّثنا سماك بن عطية عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: كان أبو بكر يأكل مع النبي (عليه السلام) فنزلت هذه الآية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فرفع أبو بكر- رضي الله عنه- يده وقال: يا رسول الله أنّى أخبر بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال: «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ، ويدّخر الله لك مثاقيل ذر «1» الخير حتى توفّاه يوم القيامة» [229] «2» . له عن محمد بن جرير قال: حدّثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا بن وهب قال: حدّثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: نزلت إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وأبو بكر الصديق- رضي الله عنه- قاعد فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله (عليه السلام) : «ما يبكيك يا أبا بكر؟» قال: أبكتني هذه السورة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «والله لو أنكم لا تخطئون ولا تذنبون ويغفر الله لكم لخلق الله أمّة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم» [230] «3» . وقراءة العامّة يَرَهُ بفتح الياء في الحرفين، وقرأ خالد بن نشيط وعاصم الجحدري بضم الياءين لقوله: لِيُرَوْا. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ «4» كان أحدهما يأتيه السائل فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول: ما هذا بشيء إنّما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه يقول الله سبحانه: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ فما أحب لنا هذا فرده غفران، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، الكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول: ليس عليّ من هذا شيء إنّما وعد الله سبحانه النار على الكبائر، وليس في هذا إثم، فأنزل الله سبحانه يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنّه يوشك أن يكثر، ويحذّرهم اليسير من الذنب فإنّه يوشك أن يكبر، فالإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعلى من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. سئل ثعلبة عن الذرّة قال: إن مائة مثل وزن حبّة والذرّة واحد منها. وقال يزيد بن [مروان] : زعموا أن الذرّة ليس لها وزن، ومعنى المثقال الوزن، وهو مفعال من الثقل، وقال
ابن مسعود: أحكم آية في القرآن فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسمّيها «الجامعة الفاذة» [231] «1» ، وتصدق سعد بن أبي وقّاص بتمرتين وقبض السائل يده فقال سعد: ويحك تقبل الله منّا مثقال الذرّة والخردلة وكأين في هذه من مثاقيل. وتصدّق عمر بن الخطّاب وعائشة بحبة من عنب وقالا فيها مثاقيل ذرّ كثر. وروى المطّلب بن [عبد الله عن عائشة] أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس فقال رسول الله (عليه السلام) : «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» فقال الأعرابي: يا رسول الله مثقال ذرّة؟ قال له: «نعم» ، فقال الأعرابي: يا رسول الله مثقال ذرّة؟ قال له «نعم» ، فقال الأعرابي: وا سوأتاه منّا إذا، ثم قام وهو يقولها فقال رسول الله (عليه السلام) : «لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان» [232] «2» . وأخبرنا عبد الله بن حاطب قال: أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا عبد بن حميد عن وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت الحسن يقول: «قدم صعصعة عمّ الفرزدق على النبي (عليه السلام) فلمّا سمع فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ قال: حسبي ما أبالي ولا أسمع من القرآن غير هذا» [233] «3» . وقال الربيع بن صبيح: مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة، فلمّا بلغ آخرها قال: «حسبي قد أتممت الموعظة» فقال الحسن: «لقد فقه الرجل» [234] . أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر قال: أنشدني أبو الفضل أحمد بن محمد بن حمدون الفقيه قال: أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الحواربي بواسط: إنّ من يعتدي ويكسب إثما ... وزن مثقال ذرّة سيراه ويجازى بفعله الشر شرّا ... وبفعل الجميل أيضا جزاه هكذا قوله تبارك ربّي ... في إذا زلزلت جلّ ثناه «4»
سورة العاديات
سورة العاديات مكّيّة، وهي مائة وثلاثة وستون حرفا، وأربعون كلمة، وإحدى عشرة آية أخبرنا الجنازي قال: حدّثنا ابن حبيش قال: أخبرنا أبو العباس الدقّاق قال: حدّثنا عبد الله بن روح قال: حدّثنا شبابة قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن يزيد عن زر عن أبي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة العاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا» [235] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن والكلبي وأبو العالية والربيع وعطية وقتادة ومقاتل وابن كيسان: هي الخيل التي تعدو في سبيل الله وتضبح وهو صوت أنفاسها إذا أجهدت في الجري فيكثر الربو في أجوافها من شدة العدو، قال ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضج غير الفرس والكلب والثعلب. قال أهل اللغة: أصل الضبح والضباح للثعالب فاستعير في الخيل، وهو من قول العرب: ضبحته النار إذا غيّرت لونه، وإنّما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيّرت حالها من تعب أو فزع أو طمع، ونصب قوله: ضَبْحاً على المصدر ومجازه: والعاديات تضبح ضبحا قال الشاعر: لست بالتبّع اليماني إن لم ... تضبح الخيل في سواد العراق «1» وقال آخر: والعاديات أسابي الدماء بها ... كأن أعناقها أنصاب ترجيب «2» «3»
يعني الخيل. قال مقاتل: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى حي من كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمر الأنصاري أحد النقباء فتأخر خبرهم، وقال المنافقون: قتلوا جميعا فأخبره الله سبحانه عنها فقال: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً يعني تلك الخيول غدت حتى ضبحت ، وهو صوت ليس بصهيل ولا حمحمة، وقال الحكماء: هو تقلقل الجرذان في القنب. وقيل: هو صوت إرخاء مشافرها إذا عدت، قال أبو الضحى: وكان ابن عباس يقول: ضباحها أج أج. وقال قوم: هي الإبل. أنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال: حدّثنا مروان بن معاوية قال: حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله سبحانه: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً قال: ما رأى فيه عكرمة؟ فقال عكرمة: قال ابن عباس: هي الخيل في القتال، فقلت أنا: (قال علي: هي الإبل في الحجّ) ، وقلت: مولاي أعلم من مولاك. وقال الشعبي تمارى علي ابن عباس في قوله: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فقال ابن عباس: هي الخيل، ألا تراه يقول: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فهل تثير إلّا بحوافرها، وهل تضبح الإبل؟ وإنما تضبح الخيل، فقال علي: ليس كما قلت لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلّا فرس أبلق للمقداد بن الأسود. وفي رواية أخرى وفرس لمرثد بن أبي مرثد الغنوي. وأخبرني عقيل بن أبي الفرج، أخبرهم عن أبي جرير قال: حدّثني يونس قال: أخبرنا بن وهب قال: حدّثنا أبو صخر عن أبي لهيعة البجلي عن سعيد بن حسين عن ابن عباس حدّثه قال: بينما أنا في الحجر جالس أتاني رجل فسأل عن الْعادِياتِ ضَبْحاً، فقال له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم، فانفتل عني وذهب إلى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم وسأله عن العاديات ضبحا فقال: «سألت عنها أحدا قبلي» . قال: نعم، سألت عنها ابن عباس وقال: هي الخيل تغير في سبيل الله قال: «اذهب فادعه لي» ، فلمّا وقف على رأسه قال: «تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلّا فرسان: فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل، بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى» [236] «1» . قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي ، وإلى قول علي ذهب ابن مسعود ومحمد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي.
وقال بعضهم: من قال: هي الإبل قال ضبحا يعني ضبعا بمدّ أعناقها في السير وضبحت وضبعت بمعنى واحد، قالت صفية بنت عبد المطّلب: فلا والعاديات غداة جمع ... بأيديها إذا سطع الغبار فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قال عكرمة وعطاء والضّحاك: هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة والأرض المحصبة. وقال مقاتل والكلبي: والعرب تسمي تلك النار نار أبي حباحب. وكان أبي حباحب شيخا من مضر في الجاهلية وكان من أبخل الناس، وكان لا يوقد نارا لخبز ولا غيره حتى تنام كل ذي عين، فإذا نام أصحابه وقد نويرة تقد مرّة وتخمد مرّة، فإذا استيقظ بها أحد أطفأها كراهية أن ينتفع بها أحد، فشبّهت العرب هذه النار بناره، أي لا ينتفع به كما لا ينتفع بنار أبي حباحب. ومجاز الآية: والقادحات قدحا فخالف بين الصدر والمصدر. وقال قتادة: هي الخيل تهيج للحرب ونار العداوة بين أصحابها وفرسانها. وروى سعيد بن حسن عن ابن عباس قال: هي الخيل تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم. مجاهد وزيد بن أسلم: هي مكر الرجل والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر لصاحبه قال: أما والله لأقدحنّ لك ثم لأورينّ لك. سعيد بن جبير: يعني رجال الحرب. عكرمة: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به. ابن جريج عن بعضهم: فالمنجّحات عملا كنجاح الوتد إذا أوريّ. محمد بن كعب: هي النيران بجمع. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً يعني الخيل، تغير بفرسانها على العدو وقت الصبح، هذا قول أكثر المفسّرين. قال القرظي: هي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسنّة أن لا يدفع حتى يصبح، والإغارة سرعة السير، ومنه قولهم: أشرق ثبير كما نغير. فَأَثَرْنَ فيهيّجن. وقرأ أبو حيوة فأثرن بالتشديد من التأثير بِهِ أي بذلك المكان الذي انتهين إليه كناية عن غير مذكور لأن المعنى مفهوم مشهور. نَقْعاً أي غبارا فَوَسَطْنَ بِهِ أي دخلن به وسطهم يقال: وسطت القوم، بالتخفيف،
[سورة العاديات (100) : الآيات 6 إلى 11]
ووسّطتهم بالتشديد، وتوسطتهم كلّها بمعنى واحد، وقرأ قتادة فوسّطن، بالتشديد جَمْعاً أي جمع العدو وهم الكتيبة، وقال القرظي: يعني جمع منى. [سورة العاديات (100) : الآيات 6 الى 11] إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع: لكفور جحود لنعم الله تعالى. قال الكلبي: هو بلسان كندة وحضرموت، وبلسان معد كلهم: العاصي، وبلسان مضر وربيعة وقضاعة: الكفور، وبلسان بني مالك البخيل. وروى شعبة عن سماك أنه قال: إنما سميت كندة لأنها قطعت أباها. وقال ابن سيرين: هو اللوّام لربه. وقال الحسن: هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم، أخذه الشاعر فقال: يا أيها الظالم في فعله ... والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت وحتى متى ... تشكو المصيبات وتنسى النّعم «1» وأخبرنا أبو القمر بن حبيب في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعد الرازي قال: حدّثنا العباس بن حمزة قال: حدّثنا أحمد بن محمد قال: حدّثنا صالح بن محمد قال: حدّثنا سلمة عن جعفر بن الزبير عن القميّ عن أبي أمامة عن رسول الله (عليه السلام) في هذه الآية: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ قال رسول الله (عليه السلام) : «أتدرون ما الكنود؟» ، فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «الكنود [قال: هو الكفور الذي] يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده» [237] «2» . وقال عطاء: الكنود الذي لا يعطي في النائبة مع قومه. وقال أبو عبيدة: هو قليل الخير، والأرض الكنود التي لا تنبت شيئا «3» ! قال أبو ذبيان: إن نفسي ولم أطب عنك نفسا ... غير أنّي أمنى بدهر كنود «4» وقال الفضيل بن عياض: الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة.
وقال أبو بكر الورّاق: الكنود الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه. محمد بن علي الترمذي: هو الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم، وقال أبو بكر الواسطي: هو الذي ينفق نعم الله سبحانه في معاصي الله، وقال بسّام بن عبد الله: هو الذي يجادل ربّه على عقد العوض. ذو النّون: تفسير الهلوع والكنود قوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً «1» . وقيل: هو الذي يكفر باليسير ولا يشكر الكثير، وقيل: الحقود، وقيل: الحسود. وقيل: جهول القدر. وفي الحكمة من جهل قدره هتك ستره. وقال بعضهم والحسن: رأسه على وسادة النعمة وقلبه في ميدان الغفلة. وقيل: يرى ما منه ولا يرى ما إليه، وجمع الكنود كند. قال الأعشى: أحدث لها [تحدث] لوصلك أنّها ... كند لوصل الزائر المعتاد «2» وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ قال أكثر المفسّرين: وإن الله على كنود هذا الإنسان وصنيعه لشاهد، وقال ابن كيسان: ال (هاء) راجعة إلى الإنسان، يعني أنّه شاهد على نفسه بما يصنع، وإِنَّهُ يعني الإنسان لِحُبِّ الْخَيْرِ أي المال. وقال ابن زيد: سمّى الله المال خيرا وعسى أن يكون خبيثا وحراما ولكن الناس يعدّونه خيرا فسمّاه الله خيرا لأن الناس يسمّونه خيرا وسمي الجهاد سوءا فقال: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «3» أي قتال. وليس هو عند الله بسوء ولكن سمّاه الله سوءا لأنّ الناس يسمّونه سوءا. ومعنى الآية وإنه من أجل حبّ المال لَشَدِيدٌ بخيل، ويقال للبخيل: شديد ومتشدّد، قال طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد «4» والفاحش: البخيل أيضا قال الله سبحانه: وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ «5» أي البخل، وقيل: معناه: وإنّه لحب الخير لقويّ، وقال الفرّاء: كان موضع الحب أن يكون بعد شديد وأن يضاف شديد إليه فيقال: وإنّه لشديد الحبّ للخير، فلمّا يقدم الحبّ قبل شديد وحذف من آخره لمّا جرى ذكره في أوله، ولرؤوس الآيات كقوله سبحانه: فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «6» والعصوف لا يكون
للأيّام إنّما يكون للريح، فلمّا جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره كأنه قيل: في يوم عاصف الريح. أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ يحث وأثير، قال الفرّاء: وسمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ: بحثر بالحاء وقال: هما لغتان. ما فِي الْقُبُورِ فأخرجوا منها وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي ميّز وأبرز ما فيها من خير أو شرّ، وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جبير حَصَلَ بفتح الحاء وتخفيف الصاد أي ظهر. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ جمع الكناية لأنّ الإنسان اسم الجنس. يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ عالم، والقراءة بكسر الألف لأجل اللام، ولولاها لكانت مفتوحة بوقوع العلم عليها. وبلغني أن الحجاج بن يوسف قرأ على المنبر هذه السورة يحضّ الناس على الغزو فجرى على لسانه: أنّ ربهم بفتح الألف ثم استدركها من جهة العربية فقال: خبير، وأسقط اللام.
سورة القارعة
سورة القارعة مكّيّة، وهي مائة واثنان وخمسون حرفا، وست وثلاثون كلمة، واحدى عشرة آية أخبرني ابن المقري قال: أخبرنا ابن مطر قال: حدّثنا ابن شريك قال: حدّثنا ابن يونس قال: حدّثنا ابن سليم قال: حدّثنا ابن شبر عن ابن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ القارعة ثقّل الله سبحانه بها ميزانه يوم القيامة» [238] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وهي الطير التي تتساقط في النار، المبثوث: المتفرّق. قال الفرّاء: الغوغاء: الجراد يركب بعضه بعضا من الهول. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ كالصوف المصبوغ المبلل. فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ مرضيّة في الجنة. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ مسكنه ومأواه النار. قال قتادة: هي كلمة عربية، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قال: هوت أمّه، وقال بعضهم: أراد أمّ رأسه، يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ أي من؟ فقال: نارٌ حامِيَةٌ.
وأخبرنا ابن حامد قال [حدّثنا] صالح بن محمد قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد عن جعفر ابن زيد عن أنس بن مالك قال: إن ملكا من ملائكة الله عزّ وجلّ موكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم، فيجاء به حتى يوقف بين كفتي الميزان، فيوزن عمله فإن ثقل ميزانه نادى الملائكة بصوت يسمع جميع الخلق باسم الرجل: ألا سعد فلان سعادة لا شقاوة بعدها، وإن خفّت موازينه ينادي الملائكة: ألا شقي فلان شقاوة لا سعادة بعدها.
سورة التكاثر
سورة التكاثر مكّيّة، وهي مائة وعشرون حرفا، وثمان وعشرون كلمة، وثماني آيات أخبرني محمد بن القثم قال: حدّثنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من قرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ لم يحاسبه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» [239] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يقول: شغلتكم المباهاة والمفاخرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربّكم وما ينجيكم من سخطه عليكم حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي متّم فدفنتم فيها. قال قتادة: نزلت في اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالا. وقال ابن بريدة: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا. مقاتل والكلبي: نزلت في حيّين من قريش: بني عبد مناف وبني قصي، وبني سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب، كان بينهم لحاء فتعادّوا السادة والأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيّدا وأعزّ عزيزا وأعظم نفرا وأكثر عددا. وقال بنو سهم مثل ذلك فكثرهم بنو عبد مناف ثم قالوا: نعدّ موتانا حتى زاروا القبور فعدّوهم، وقالوا: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر، وأبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحبريان قالا: أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد بن [سفيان] قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مسيّب قال: حدّثنا النضر بن شميل قال: أخبرنا شعبة عن قتادة عن مطرف بن عبد الله عن النخير عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله (عليه السلام) وهو يقرأ هذه الآية: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال: يقول ابن آدم: ما لي ما لي، وهل لك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأمضيت. وروى زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب قال: ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ إلى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني في القبر. كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد لهم ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ والتكرير على التأكيد، وقال الضحّاك: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يعني الكفّار ثمّ كلّا سوف يعلمون يعني المؤمنين، وكذلك كان يقرأها: الأولى بالتاء والثانية بالياء ثم كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي علما يقينا فأضاف العلم إلى اليقين لقوله سبحانه: إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «1» قال قتادة: كنّا نحدّث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ يصلح أن يكون في معنى المضي جوابا ل (لو) ، تقديره: لو تعلمون العلم اليقين لرأيتم الجحيم بقلوبكم، ثم رأيتموها بالعين اليقين. وقيل: معناه لو تعلمون علم اليقين لشغلكم عن التكاثر والتفاخر، ثم استأنف لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ على نيّة القسم، وإلى هذا ذهب مقاتل، وقيل: معناه: لو علمتم يقينا أنكم ترون النار لشغلكم ذلك عما أنتم فيه. وقيل: ذكر (كلّا) ثلاث مرّات أراد: تعلمون عند النزوع، وتعلمون في القبر، وتعلمون في القيامة، ثم ذكر في الثالثة علم اليقين لأنّه صار عيانا ما كان مغيّبا. وقراءة العامّة لَتُرَوُنَّ بضم التاء في الحرفين، وضمّ الكسائي التاء في الأولى منهما وفتح الأخرى، ورواه عن علي رضي الله عنه. أخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفرّاء قال: أخبرني محمد بن الفضل عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قرأ لَتُرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها بضم التاء الأولى وفتح الثانية ، وقال الفرّاء: الأول أشبه بكلام العرب لأنّه تغليظ فلا ينبغي أن يختلف لفظه.
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «1» اختلفوا فيه وأكثروا، فأخبرنا أبو علي الحسين بن محمد ابن علي بن إبراهيم السراج بقراءتي عليه في الجامع يوم الجمعة في المحرم سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن علي بن مهران الخشّاب، قال حدّثنا علي بن سعيد العسكري قال: حدّثنا الحسين بن معاذ الأخفش مستملي أبي حفص الفلاس قال: حدّثنا إبراهيم ابن أبي سويد الذارع قال: حدّثنا سويد أبو حاتم عن قتادة عن عبد الله بن سفيان عن أبي هريرة عن النبي (عليه السلام) لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «عن الماء البارد» [240] «2» . وحدّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين بن القيّم الحسني السّني قال: حدّثنا أحمد ابن علي بن مهدي بن صدقة بالرملة قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا علي بن موسى الرضا قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدّثني أبي محمد بن علي، قال حدّثني أبي علي بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (عليه السلام) في قول سبحانه: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «الرطب والماء البارد» «3» . وقال عبد الله بن عمر: هو الماء البارد في الصيف، ودليل هذا التأويل الخبر المأثور: «أن أول ما يسأل الله سبحانه العبد يوم القيامة أن يقول له: ألم أصحّ جسمك وأروك من الماء البارد» [241] «4» . وقال أنس بن مالك: ضاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المقداد بن الأسود فقدم إليه طعاما فأكله ثم سقاه ماء باردا فاستطابه وقال: «يا بردها على الكبد» ، ثم قال: «إذا شرب أحدكم الماء فليشرب أبرد ما يقدر عليه» قيل ولم؟ قال «أطيب للمعدة، وأنفع للعلّة، وأبعث على الشكر» [242] «5» . وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا زكريّا العنبري يقول: سمعت أبا العباس الأزهري يقول: سمعت أبا حاتم يقول: الماء البارد العذب يستخرج الحمد من جوف القلب. وقال مالك بن دينار: قال رجل للحسن: إنّ لنا جارا لا يأكل الفالود ويقول: لا أقوم بشكره، فقال: ما أجهل جاركم بنعمة الله عليه بالماء البارد أكثر من نعمة بجميع الحلاوي! وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد [بن محمد الرومي] قال: حدّثنا أبو حفص محمد بن حفص البصري قال: حدّثنا
عبد الله بن سلمة بن عياش قال: حدّثنا الأشعث بن نزار عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن النبي (عليه السلام) في قول الله جلّ ثناؤه ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «من أكل خبز البرّ، وشرب الماء المبرّد، وكان له ظل، فذلك النعيم الذي يسأل عنه» [243] «1» «2» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني الوليد بن شجاع قال: حدّثنا محمد بن سعيد الأصبهاني عن ابن أبي ليلى عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «الأمن والصحة» «3» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن برزة قال: حدّثنا محمد بن غالب بن حرب قال: حدّثني زكريّا بن يحيى الرقاشي المنقري قال: حدّثنا عبد الله بن عيسى بن خلف قال: حدّثنا يونس بن عبد عن عكرمة عن ابن عباس أنّه سمع عمر بن الخطاب يقول: خرج علينا رسول الله (عليه السلام) عند الظهيرة فوجد أبا بكر في المسجد فقال: «يا أبا بكر ما أخرجك في هذه الساعة؟» قال: يا رسول الله أخرجني الذي أخرجك. قال: وجاء عمر فقال له رسول الله: «يا أبا الخطّاب ما أخرجك؟» قال: يا رسول الله الذي أخرجكما. وقعد معهما عمر قال: فأقبل رسول الله (عليه السلام) يحدّثهما ثم قال: «هل لكما من قوّة فتنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعاما وشرابا وظلّا؟» قلنا: نعم، قال: «مرّوا بنا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري» فتقدّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أيدينا فاستأذن وسلّم عليهم ثلاث مرّات، وأمّ الهيثم تسمع الكلام من وراء الباب، وتريد أن يزيدهم رسول الله (عليه السلام) ، فلمّا أراد رسول الله (عليه السلام) أن ينصرف خرجت أمّ الهيثم تسعى خلفهم فقالت: يا رسول الله لقد سمعت تسليمك ولكنّي أردت أن تزيدنا من سلامك. فقال لها رسول الله (عليه السلام) : «أين أبو الهيثم؟» قالت: يا رسول الله هو قريب، ذهب يستعذب لنا من الماء، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله. وبسطت لهم بساطا تحت شجرة حتى جاء أبو الهيثم، ففرح بهم أبو الهيثم وقرّت عينه، وصعد أبو الهيثم على نخلة يصرم لهم عذقا، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حسبك يا أبا الهيثم» قال: يا رسول الله تأكلون من بسره ومن رطبه وتذنوبه «4» ثم أتاهم فشربوا عليه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه» .
ثم قام أبو الهيثم إلى شاة لهم ليذبحها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إياك واللبون» وقامت أمّ الهيثم تعجن لهم وتخبز فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر رؤوسهم للقائلة، فانتبهوا وقد أدرك طعامهم فوضع بين أيديهم الطعام فأكلوا وشبعوا وحمدوا الله عزّ وجلّ، ثمّ ردّ عليهم أبو الهيثم بقية الأعذاق فأكلوا من رطبه [ومن تذنوبه] فسلّم عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا لهم بخير [244] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا منصور بن أبي مزاحم قال: حدّثنا أبو سعيد المؤذّن وهو محمد بن مسلم بن أبي للوضّاح عن محمد بن عمر عن صفوان بن سليم عن محمود بن لبيد قال: لمّا نزلت هذه الآية: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قالوا: يا رسول الله عن أيّ نعيم نسأل وإنّما هما هذان الأسودان التمر والماء، وسيوفنا على عواتقنا؟ قال: «إنّ ذاك لكائن» [245] «2» . وأخبرنا الفنجوي قال: حدّثنا القطيعي قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا عنّان قال: حدّثنا يزيد بن إبراهيم قال: أخبرنا يوسف ابن أخت ابن سيرين عن أبي قلابة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قول الله سبحانه: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «ناس من أمّتي يعقدون السمن والعسل بالنقي فيأكلونه» [246] «3» . وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله قال: أخبرنا هيثم قال: أخبرنا منصور بن زاذان عن ابن سيرين عن ابن عمر قال: لا يدخل الحمّام فإنّه ممّا أحدثوا من النعيم، قال: وكان منصور لا يدخل الحمّام. وأخبرني الحسين قال: حدّثنا [أحمد بن جعفر بن حمدان] قال: حدّثنا محمود «4» بن الفرج قال: حدّثنا ابن أبي الشوارب قال: حدّثنا أبو عوانة عن ابراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال: «إن الله سبحانه ليعدد نعمه على العبد في المصدر: [يوم القيامة حتى يعد عليه] : سألتني فلانة أن أزوجكها، يسمّيها باسمها فزوجتكها» [247] «5» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب قال: حدّثني محمد بن عيسى قال: حدّثنا فضل بن سهل قال: حدّثنا حفص بن عمر قال: حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: لمّا نزلت ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قالت الصحابة: يا رسول الله
وأي نعيم نحن فيه. وإنما نأكل في أنصاف بطوننا الشبع؟ فأوحى الله سبحانه إلى نبيّه: قل لهم: «أليس تحتذون النعال، وتشربون الماء البارد؟ فهذا من النعيم» [248] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال حدّثنا أبو زرعة الرازي قال: حدّثنا أبو الحسن الأشناني القاضي قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد الخراز قال: حدّثني أبي قال: حدّثني محمد بن مروان عن أبان بن تغلب عن أنس بن مالك قال: لما نزلت لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ جاء رجل محتاج فقال: يا رسول الله هل عليّ من النعمة شيء؟ قال: «نعم، النعلان، والظل، والماء البارد» [249] «2» . وأخبرنا محمد بن محمد بن هانئ قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن محمد الرواساني قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ قال: حدّثنا ابن نمير عن ابن جريج عن مجاهد لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: عن كل لذّة من لذات الدنيا. وأنبأني عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا محمد بن الحسن قال: حدّثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال: حدّثنا يحيى بن يحيى قال: حدّثنا أبو عامر بن أساف اليمامي عن يحيى وهو عبد لابن أبي كثير قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ على أصحابه فلمّا بلغ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال: «هل تدرون ما ذاك النعيم؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «بيت يقلّك، وخرقة تواري عورتك، وكسرة تشد بها صلبك ما سوى ذلك نعيم» [250] «3» . وأخبرنا عبد الله بن حامد إجازة قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى المكّي قال: حدّثني أبو بكر محمد بن جعفر المقري بشمشاط قال: حدّثنا أحمد بن سفيان بن علقمة بن عبد الله المقدمي قال: حدّثنا عمرو بن خالد قال: حدّثنا النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال: «تكاثر الأموال: جمعها من غير حقّها، ومنعها عن حقّها، وشدّها في الأوعية، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ حتى دخلتم قبوركم كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ لو قد دخلتم قبوركم ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لو قد تطايرت الصحف فشقيّ وسعيد لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ- قال: - وذلك حين يؤتى بالصراط فينصب بين حفرتي جهنم «4» ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال عن خمس: عن شبع البطون، وبارد الشراب، ولذّة النوم، وظلال المساكن، واعتدال الخلق» [251] .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله قال: حدّثنا محمد بن عبد الله قال: حدّثنا الحسن بن زياد قال: حدّثنا أبو خلد الأحمر عن مفضل عن مغيرة عن إبراهيم قال: من أكل فسمّى الله وفرغ فحمد الله لم يسئل عن نعيم ذلك الطعام. وقال ابن عباس: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار، قال: يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله سبحانه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «1» ، أبو جعفر: العافية. وأنبأني عقيل قال: أخبرنا المعافى قال: أخبرنا ابن جرير قال: أخبرنا بن حميد قال: حدّثنا مهران عن إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن الحرث التميمي عن ثابت البناني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «النعيم المسؤول عنه يوم القيامة: كسرة تقوّيه، وماء يرويه، وثوب يواريه» [252] «2» . وبه عن مهران عن سفيان عن بكر بن [عتيق] العامري قال: أتي سعيد بن جبير بشربة عسل فقال: أما إنّ هذا من النعيم الذي يسئل عنه «3» . وقال محمد بن كعب: يعني عمّا أنعم عليكم بمحمد (عليه السلام) ، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها، عكرمة: عن الصحة والفراغ. سعيد بن جبير: عن الصحة والفراغ والمال، ودليله ما روى ابن عباس عن النبي (عليه السلام) أنّه قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» [253] «4» . وقال عروة بن محمد: كنّا مع وهب بن منبه فرأينا رجلا أصمّ أعمى مقعدا مجذوما مصابا فقلنا: هل بقي على هذا شيء من النعيم؟ قال: نعم، أعظمه بشبعه ما يأكل ويشرب ويسهل عليه إذا خرج لذلك. قال بكر عن عبد الله المزني: يا لها من نعمة يأكل لذّة ويخرج سرجا!. أبو العالية: عن الإسلام والستر. الحسين بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن. أبو بكر الورّاق: عن الآلاء والنعماء.
سورة العصر
سورة العصر مكّيّة، وهي ثمانية وستون حرفا، وأربع عشرة كلمة، وثلاث آيات أخبرنا كامل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن مسلم، عن أمّه، عن أبي أمامة، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة وَالْعَصْرِ ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحق يوم القيامة» [254] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) وَالْعَصْرِ قال ابن عباس: والدهر. ابن كيسان: الليل والنهار ويقال لهما: العصران وللغداة والعشي أيضا: عصران. قال حميد بن ثور: ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما «2» الحسن: بعد زوال الشمس إلى غروبها. قتادة: آخر ساعة من ساعات النهار. مقاتل: صلاة العصر وهي الوسطى. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فانّهم ليسوا في خسر. وَتَواصَوْا وتحاثّوا وأوصى بعضهم بعضا. بِالْحَقِّ بالقرآن عن الحسن وقتادة. مقاتل: بالإيمان والتوحيد. وقيل: على العمل بالحق. وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ على أداء الفرائض وإقامة أمر الله، وروى ابن عون عن إبراهيم قال: أراد أن الإنسان إذا عمّر في الدنيا وهرم لفي نقص وضعف وتراجع إلّا المؤمنين فإنّهم يكتب لهم أجورهم والمحاسن التي كانوا يعملونها في حال شبابهم وقوّتهم وصحّتهم، وهي مثل قوله
سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «1» الآية قال: [كان علي رضي الله عنه يقرأ ذلك] : إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ وإنه فيه إلى آخر الدهر ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود، وكان علي يقرأها: وَالْعَصْرِ، ونوائب الدهر، إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، وإنّه فيه إلى آخر الدهر «2» . والقراءة الصحيحة ما عليه العامّة والمصاحف. أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن حمدان الخطيب قراءة عليه في رجب سنة ست وثمانين وثلاثمائة قال: حدّثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن دلان قال: أخبرنا القاضي منصور بن محمد قال: حدّثنا محمد بن أحمد البزاز قال: حدّثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن داود بن سليمان الدينوري قال: حدّثنا علي بن إسماعيل قال: حدّثنا الحسن بن علقمة قال: حدّثنا سباط بن محمد عن القاسم بن رفيعة عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قرأت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وَالْعَصْرِ فقلت: بأبي وأمّي يا رسول الله وما تفسيرها؟ فقال: «وَالْعَصْرِ قسم من الله أقسم لكم بآخر النهار» إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ قال: «أبو جهل بن هشام» إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا «أبو بكر الصديق» وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «عمر بن الخطّاب» وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ «عثمان بن عفّان» وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ «علي بن أبي طالب» [255] «3» . وأخبرنا عبد الخالق [بن علي] قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف بن حاتم بن نضر قال: حدّثنا الحسن بن عثمان قال: حدّثنا أبو هشام محمد بن يزيد بن رفاعة قال: حدّثنا عمّي علي بن رفاعة عن أبيه رفاعة قال: حججت فوافيت علي بن عبد الله بن عباس يخطب على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أبو جهل ابن هشام إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا أبو بكر الصديق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عمر بن الخطّاب وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ عثمان بن عفّان وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ علي بن أبي طالب [256] «4» .
سورة الهمزة
سورة الهمزة مكّيّة، وهي مائة وثلاثون حرفا، وثلاث وثلاثون كلمة، وتسع آيات أخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا إسماعيل بن نحيل قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي قال سعيد بن حفص قال: قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة ابن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) : «من قرأ سورة وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه» [257] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قال ابن عباس: هم المشّاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون، البراء: العنت. سعيد بن جبير وقتادة: الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، واللمزة: الطعّان عليهم. مجاهد: الهمزة: الطعّان في الناس، واللمزة: الطعّان في أنساب الناس «1» . وقال أبو العالية والحسن وعطاء بن أبي رباح: الهمزة الذي يغيب ويطعن في وجه الرجل إذا أقبل، واللمزة الذي يغتابه من خلفه إذا أدبر وغاب. ضده مقاتل. مرّة: يعني كل طعّان عيّاب مغتاب للمرء إذا غاب، دليله قول زياد بن الأعجم: إذا لقيتك عن شحط تكاشرني ... وإن تغيّبت كنت الهامز اللمزة «2» ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويغيبهم.
سفيان الثوري: يهمز بلسانه ويلمز بعينه. ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه، ويشير برأسه، ويومض بعينه، ويرمز بحاجبه، وهما لغتان للفاعل نحو سخرة وضحكة للذي يسخر ويضحك من الناس. وروي عن أبي جعفر والأعرج بسكون الميم فيهما، فإن صحّت القراءة فهي في معنى المفعول، وهو الذي يتعرّض للناس حين يهمزوه ويضحكون منه، ويحملهم على الاغتياب. وقرأ عبد الله والأعمش ويل للهمزة اللمزة، وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بالعنف، ومنه همز الحرف، ويحكى أنّ أعرابيّا قيل له: أتهمز الفارة؟ فقال: الهرّة تهمزها، وقال الحجاج: ومن همزنا رأسه تهشما «1» واختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية، فقال قوم: نزلت في جميل بن عامر الجمحي، وإليه ذهب ابن أبي الجمح، وقال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق ووهب بن عمرو الثقفي وكان يقع في الناس ويغتابهم مقبلين ومدبرين. وقال محمد بن إسحاق بن مسار: ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أميّة بن خلف الجمحي. وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يغتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ويطعن في وجهه. وقال مجاهد وغيره: ليست بخاصّة لأحد، بل كل من كانت هذه صفته «2» . الَّذِي جَمَعَ مالًا قرأ شيبة ونافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو وأيّوب بتخفيف الميم، واختاره أبو حاتم، غيرهم بالتشديد واختاره أبو عبيد، واختلف فيه عن يعقوب. وَعَدَّدَهُ أحصاه وقال مقاتل: استعدّه وذخره وجعله عتادا له، وقرأ الحسن وَعَدَدَهُ بالتخفيف وهو بعيد، وقد جاء مثل ذلك في الشعر لمّا أبرزوا التضعيف خفّفوه، قال الشاعر: مهلا أعاذل قد جربت من خلقي ... إني أجود الأقوام وإن ضننوا «3» يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ في الدنيا كَلَّا رد عليه. أخبرني بن فتحويه قال: حدّثنا خنيس قال: حدّثنا أبو الهيثم بن الفضل قال: حدّثنا أبو زرعة قال: حدّثنا ابن السرح قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدّثني حرملة بن عمر أنه سمع عمر
ابن عبد الله مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله سبحانه يقول: كَلَّا فإنما يقول: كذبت. لَيُنْبَذَنَّ ليقذفنّ ويطرحنّ، وقرأ الحسن لينبذان بالألف على التثنية يريد هو وماله فِي الْحُطَمَةِ وهي النار سمّيت بذلك لأنّها تحطم أي تكسر وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ يعني يبلغ ألمها ووجعها القلوب، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى، وحكي عن بعض العرب سماعا: متى طلعت أرضنا بمعنى بلغت، ومعنى الآية أنها تأكل شيئا منه حتى تنتهي إلى فؤاده. قال القرظي والكلبي: إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة فِي عَمَدٍ، قرأ أهل الكوفة بضمّتين، غيرهم بالنصب، واختاره أبو حاتم لقوله: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها «1» وهما جمعان للعمود مثل أديم وأدم، وأفيق وأفق، وقضيم وقضم، قال الفرّاء: وقال أبو عبيد: هو جمع عماد مثل أهاب وأهب وأهب. مُمَدَّدَةٍ قراءة العامّة بالخفض على نعت العمد، وقرأ عاصم الجحدري مُمَدَّدَةٌ بالرفع جعلها نعتا للموصدة. واختلفوا في معنى الآية، فقال ابن عباس: أدخلهم في عمد، فمدّت عليهم بعماد وفي أعناقهم السلاسل، فسدّت عليهم بها الأبواب. وقال قتادة: بلغنا أنّها عمد يعذّبون بها في النار، وقيل: هي عمد موتّدة على أبوابها [ليتأكد أياسهم] منها، وقيل: معناه إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ بعمد، وكذلك هي في قراءة عبد الله: بعمد، بالباء «2» . عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن كيّس فطن حذر وقاف ثبت، لا يعجل، عالم ورع، والمنافق همزة لمزة حطمة، [لا يقف عند شبهة ولا عند محرم] «3» كحاطب الليل لا يبالي من أين كسب ولا فيما أنفق» [258] «4» .
سورة الفيل
سورة الفيل مكّيّة، وهي ستة وتسعون حرفا، وعشرون كلمة، وخمس آيات أخبرنا ناقل بن راقم قال: حدّثنا محمد بن شادة قال: حدّثنا أحمد بن الحسن قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال حدّثنا سالم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زر عن أبيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة الفيل عافاه الله عزّ وجلّ أيام حياته في الدنيا من القذف والمسخ» [259] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ. القصة وبالله التوفيق. قال محمد بن إسحاق: كان من قصة أصحاب الفيل فيما ذكر بعض أهل العلم عن سعيد ابن جبير وعكرمة عن ابن عباس، وعمّن لقي من علماء أهل اليمن وغيرهم أن ملكا من ملوك حمير يقال له زرعة ذو نواس كان قد تهوّد واستجمعت معه حمير على ذلك، إلّا ما كان من أهل نجران، فإنّهم كانوا على النصرانيّة على أصل حكم الإنجيل، ولهم رأس يقال له عبد الله بن التامر، فدعاهم إلى اليهوديّة فأبوا فخيّرهم فاختاروا القتل فخدّ له أخدودا وصنّف لهم أصناف القتل. فمنهم من قتل صبرا، ومنهم من خدّ لهم فألقاه في النار إلّا رجلا من أهل سبأ يقال له دوس بن ثعلبان، فذهب على فرس له فركض حتى أعجزهم في الرمل، فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم واستنصره فقال: بعدت بلادك عنّا ولكنّي سأكتب لك إلى ملك الحبشة، فإنّه على ديننا فينصرك، فكتب إلى النجاشي يأمره بنصره. فلمّا قدم على النجاشي بعث معه رجلا من أهل الحبشة يقال له: ارياط، فلمّا بعثه قال:
إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، واضرب ثلث بلادها وابعث إليّ بثلث سباياها، فلمّا دخلها ناوش شيئا من قتال فتفرّقوا عن ذي نواس وخرج به فرسه، فاستعرض به البحر فضربه فهلكا جميعا فكان آخر العهد، ودخلها أرياط فعمل بما أمر به النجاشي، فقال ذو حدر الحميري فيما أصاب أهل اليمن وترابهم: وعيني لا أبا لك لم تطيقي ... نجاك الله قد أنزفت ريقي لدى عزف القيان إذ انتشينا ... وإذ نسقى من الخمر الرحيق وشرب الخمر ليس عليّ [عارا] ... إذا لم يشكني فيها رفيقي وغمدان الذي حدثت عنه ... بنوه ممسكا في رأس نيق مصابيح السليط تلوح فيه ... إذا يمسي كتوماض البروق فأصبح بعد جدّته رمادا ... وغيّر حسنه لهب الحريق واسلم ذو نواس مستميتا ... وحذّر قومه ضنك المضيق «1» قال: فأقام أرياط باليمن، وكتب إليه النجاشي: أن اثبت بجندك ومن معك، فأقام حينا ثم إنّ أبرهة بن الصباح ساخطة في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين فكانت معه طائفة ومع أبرهة طائفة، ثم تراجفا، فلمّا دنا بعضهم من بعض أرسل أبرهة إلى أرياط: لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها بعضا شيئا حتى تلقاني، ولكن اخرج إليّ فأيّنا قتل صاحبه انضمّ إليه الجند، فأرسل إليه: إنّك قد أنصفت. وكان أرياط جسيما عظيما وسيما، في يده حربته، وكان أبرهة رجلا قصيرا حاذرا لحيما، وكان ذا دين في النصرانيّة وخلّف إبراهة [فيها غلام] يقال له: عتودة، فلمّا دنوا رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس أبرهة فوقعت على جبينه فشرمت عينه وجبينه وأنفه وشفته فبذلك سمّي الأشرم. وحمل عتودة على أرياط فقتله، فاجتمعت الحبشة لأبرهة وقال عتودة: أنا عتودة من خلفه أرده لا أب ولا أم بحده، وقال أبرهة: ما كان لك قبله يا عتودة ولا ديته قال: فبلغ النجاشي ما صنع أبرهة فغضب وحلف لا يدع أبرهة حتى يجرّ ناصيته ويطأ بلاده، وكتب إلى أبرهة: إنّك عدوت على أميري فقتلته بغير أمري. وكان أبرهة رجلا ماردا، فلمّا بلغه ما كان من قول النجاشي حلق رأسه وملأ جرابا من تراب أرضه وكتب إلى النجاشي: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك وكنت أعلم بالحبشة وأسوس لها، وقد كنت أردته أن يعتزل وأكون أنا أسوسه فأبى فقتلته، وقد بلغني الذي حلف عليه الملك، وقد حلقت رأسي فبعثت به إليه، وبعثت إليه بجراب من تراب
أرضه ليضعه تحت قدمه [ومن يهينه] ، فلمّا انتهى إليه ذلك رضي عنه فأقرّه على عمله، وكتب إليه أن يثبت بمن معه من الجند. ثم إن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء يقال لها: الفليس، وكتب إلى النجاشي: قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها قط، ولست منتهيا حتى أصرف إليها حجيج العرب. فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إلى القليس فدخلها ليلا وقعد فيها، فبلغ أبرهة ذلك، ويقال: إنه أتاها ناظرا إليها فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة، فقال: من اجترأ عليّ؟ فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت، سمع بالذي قلت فصنع هذا، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرنّ إلى الكعبة حتى يهدمها. فخرج سائرا في الحبشة وخرج معه بالفيل، فسمعت بذلك العرب فأعظموه [وفظعوا به] ورأوا جهاده حقّا عليهم، فخرج ملك من ملوك حمير يقال له: ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقابله فهزمه وأخذ ذو نفر فأتى به، فقال: أيها الملك لا تقتلني فإنّ استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه وأوثقه. وكان أبرهة رجلا حليما، ثم خرج سائرا حتى دنا من بلاد خثعم فخرج نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم شهدان وأهش ومن اجتمع إليه من قبايل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل، فقال نفيل: أيّها الملك إني دليل بأرض العرب فلا تقتلني وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه، وخرج معه يدلّه حتى [إذا] مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال: أيّها الملك إنّما نحن عبيدك ليس لك عندنا من خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد- يعنون اللّات- إنما تريد البيت الذي بمكّة، نحن نبعث من يدلّك عليه، فبعثوا أبا رغال مولى لهم فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره. وبعث أبرهة من المغمس رجلا من الحبس يقال له: الأسود بن مقصود على مقدّمة خيله فجمع إليه أموال الحرم وأصاب لعبد المطّلب مائتي بعير، فقال عبد الله بن عمر بن مخزوم: اللهم اخز الأسود بن مقصود ... الآخذ الهجمة فيها التقليد بين حراء وبثير فالبيد ... يحبسها وهي أولات التطريد فضمها إلى طماطم سود ... قد أجمعوا أو يكون معبود ويهدموا البيت الحرام المعمود ... والمروتين والمشاعر السود أضفره يا رب وأنت محمود «1»
ثم إن أبرهة بعث حائلة الحميري إلى أهل مكّة فقال: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه، أخبره أني لم آت لقتال وإنّما لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكّة فلقي عبد المطّلب بن هاشم فقال: إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلّا أن تقاتلوه، وإنّما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم. فقال عبد المطّلب: ما له عندنا وما لنا به نزال، سنخلّي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم (عليه السلام) ، فإن يمسّه فهو بيته وحرمه وإن يخلّ بينه وبين ذلك فو الله ما لنا به قوّة، قال: فانطلق معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة له كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر. وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة وعشية، ولكنّي سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فإنّه لي صديق فاسأله أن يصنع لك مثل الملك ما استطاع من خير، ويعظّم خطرك ومنزلتك عنده. قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له: إن هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة، يطعم الناس في السهل والوحوش وفي رؤوس الجبل، وقد أصاب له الملك مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه، فإنه صديق لي أحبّ ما يوصل إليه من الخير، فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيّها الملك هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له فيكلّمك، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك فأذن له. وكان عبد المطّلب جسيما وسيما عظيما، فلمّا رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه، ثم قال لترجمانه قل له: حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك. فقال عبد المطّلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ علي مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه: أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك. قال: لم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم لأهدمه لم تكلّمني فيه، وتكلّمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطّلب: أنا ربّ هذه الإبل ولهذا البيت ربّ سيمنعه. قال: ما كان ليمنعه منّي، قال: فأنت وذاك. فأمر بإبله فردّت عليه. قال ابن إسحاق: وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب إلى أبرهة بعمر بن ناثة «1» بن
عدي بن الويل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني كنانة، وخويلد بن وائلة الهذلي وهو يومئذ سيد بني هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى عليه، فلمّا ردت الإبل على عبد المطّلب خرج فأخبر قريش الخبر، وأخبرهم أن يتفرّقوا في الشعاب، وتحرزوا في رؤوس الجبال تخوّفا عليهم من معرّة الجيش إذا دخل، ففعلوا وأتى عبد المطّلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول: يا ربّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربّ فامنع منهم حكاكا لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك إن كنت تاركهم وكعبتنا ... فأمر ما بدا لك «1» ثم ترك عبد المطّلب الحلقة وتوجّه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيّأ للدخول وعبّأ جيشه وهيّأ فيله وكان اسم الفيل محمود، وكان فيل النجاشي بعثه إلى أبرهة، وكان فيلا لم ير مثله في الأرض عظما وجسما وقوّة. ويقال: كانت معه اثنا عشر فيلا، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال: ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول على رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى، فوجّهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم، وخرج الفيل يشتد حتى أصعد في الجبل. وأرسل الله طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طاير منها ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحمّص والعدس، فلمّا أغشين أرسلها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلّا هلك. وليس كلّ القوم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلّهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته: أين المفر والإله الطالب ... والأشرم «2» المغلوب غير الغالب؟ «3»
وقال نفيل أيضا في ذلك: ألا حييت عنا يا ردّينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا رديّنة لو رأيت ولم تريه ... لدى جنب المحصّب ما رأينا إذا لعذرتني وحمدت رأيي ... ولم تأسي على ما فات بينا حمدت الله إذ عاينت طيرا ... وخفت حجارة تلقى علينا فكلّ القوم يسأل عن نفيل ... كأن عليّ للحبشان دينا «1» ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وقد صرخ القوم وهاج بعضهم في بعض، وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون على كل منهل، وبعث على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله، كلّما سقطت أنملة أتبعتها مدة من قيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك. وزعم مقاتل بن سليمان أنّ السبب الذي جرّ حديث أصحاب الفيل هو أنّ قبيلة من قريش خرجوا تجّارا إلى أرض النجاشي، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر وفي حقف من أحقافها بيعة النصارى يسمّيها قريش: الهيكل، ويسمّى النجاشي وأهل أرضة: اطاسر حنان، فبرك القوم في سدّها فجمعوا حطبا ثم أجّجوا نارا فاشتووا، فلمّا ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فعجّت الرياح فاضطرم الهيكل نارا، فانطلق الصريخ إلى النجاشي فأخبره فأسف عند ذلك غضبا للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة [وما لقيه] . وكان بمكّة يومئذ أبو مسعود الثقفي، وكان مكفوف البصر يصيّف بالطائف ويشتو بمكّة، وكان رجلا نبيها نبيلا يستسقم الأمور برأيه، وهو أول راتق وأول فاتق، وكان خليلا لعبد المطّلب، فقال عبد المطلب: يا أبا مسعود ماذا عندك؟ هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك. فقال أبو مسعود لعبد المطّلب: اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها حرما لله، وقلّدها نعلا ثم أثبتها في الحرم لعلّ بعض هذه السودان تعقر منها فيغضب ربّ هذا البيت فيأخذهم، ففعل ذلك عبد المطّلب، فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها فجعل عبد المطلب يدعو. فقال أبو مسعود: [قال عبد المطلب] : إنّ لهذا البيت لربّا يمنعه، فقد نزل تبع ملك اليمن بصخر هذا البيت وأراد هدمه، فمنعه الله وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلمّا رأى ذلك تبّع كساه القباطي البيض وعظّمه ونحر له جزرا، فانظر نحو البيت.
فنظر عبد المطّلب فقال: أرى طيرا بيضا نشأت من شاطئ البحر قال: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال: أراها قد أزرّت على رؤوسنا. قال: هل تعرفها؟ قال: والله ما أعرفها ما هي نجديّة ولا تهاميّة ولا عربية ولا شامية وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة. قال: ما قدّها؟ قال: أشباه اليعاسيب في منقارها حصى كأنها حصى الحذق قد أقبلت كاليلل تكسع بعضها بعضا، أمام كل طير، يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، فجاءت حتى إذا حاذت بعسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم. فلمّا توافت الرعال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب في كلّ حجر اسم صاحبه، ثم إنها انصاعت من حيث جاءت، فلمّا أصبحا انحطّا من ذروة الجبل، فمشيا رتوة فلم يؤنسا أحدا ثم دنيا رتوة فلم يسمعا حسّا فقالا: بات القوم سامدين فأصبحوا نياما، فلمّا دنيا من عسكر القوم فإذا هم خامدون. وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطّلب فأخذ فأسا من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيّد، وحفر لصاحبه فملأه ثم قال لأبي مسعود: هات خاتمك فاختر، إن شئت أخذت حفرتي وإن شئت أخذت حفرتك وإن شئت فهما لك معا. فقال ابن مسعود: اخترتني على نفسك، فقال عبد المطّلب: إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك، وجلس كل واحد منهم على حفرته ونادى عبد المطّلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعا، وساد عبد المطّلب بذلك قريش، وأعطته المقادة فلم يزل عبد المطّلب وأبو مسعود في أهلهما في غنى من ذلك المال، ودفع الله عن كعبته وقبلته، فسلّط جنودا لا قبل لهم بها. وقال الواقدي بأسانيده: وجّه أبرهة أرياط أبا ضخمة في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها فأكرم الملوك واستذلّ الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له: أبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه، فقتل أرياط وغلب على اليمن، فرأى الناس يتجهّزون للحج فقال: أين يذهب الناس؟ قال: يحجّون بيت الله بمكّة. قال مما هو؟ قال: من حجارة. قال فما كسوته؟ قال مما يأتي من هنا وهناك. قال: والمسيح لأبنينّ لكم خيرا منه فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلّاه بالذهب والفضة، وحفّه بالجواهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل له حجّابا، وكان يوقد بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسودها حتى تغيب الجواهر، وأمر الناس بحجّه، فحجّه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبّدون ويتألّهون ونسكوا له.
وكان نفيل الخثعمي يورّض له ما يكره فأمهل، فلمّا كان ليلة من الليالي لم ير أحدا يتحرّك، فقام فجاء بعذرة فلطّخ بها جبهته، وجمع جيفا وألقاها فيه، فأخبر أبرهة بذلك فغضب غضبا شديد وقال: إنما فعلت العرب غضبا لبيتهم، لأنقضنّه حجرا حجرا، وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود، وكان فيلا لم ير مثله في الأرض عظما وجسما وقوة، فبعث به إليه. فلمّا قدم عليه الفيل سار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير ونفيل بن حبيب الخثعمي، فلمّا دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس، فأصابوا إبلا لعبد المطّلب، وكان نفيل صديقا لعبد المطّلب فكلّمه في إبله، فكلّم نفيل أبرهة فقال: أيّها الملك قد أتاك سيّد العرب وأفضلهم قدرا وأقدمهم شرفا، يحمل على الجياد، ويعطي الأموال، ويطعم الناس، فأدخله على أبرهة، فقال: حاجتك؟ قال: تردّ عليّ إبلي. فقال ما أرى ما بلغني عنك إلّا الغرور، وقد ظننت أن تكلّمني في بيتكم الذي هو شرفكم. فقال عبد المطّلب: اردد عليّ إبلي ودونك البيت فإن له ربّا سيمنعه. فأمر بردّ إبله عليه، فلمّا قبضها قلّدها النعال وأشعرها وجعلها هديا وثبتها في الحرم لكي يصاب منها شيء، فيغضب ربّ الحرم، وأوفى عبد المطّلب على خيل ومعه عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم بن مطعم بن عدي، وأبو مسعود الثقفي، فقال عبد المطّلب: اللهم إن المرء يمنع رحله وحلاله فامنع حلالك. قال: فأقبلت الطير من البحر أبابيل، مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، وقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئا إلّا هشمته إلّا فقط ذلك الموضع، فكان ذلك أوّل ما رؤي من الجدري والحصبة والأشجار المرّة فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلا عاتيا فذهب بهم إلى البحر فألقاهم فيه، وولّى أبرهة ومن بقي معه هرابا، فجعل أبرهة يسقط عضوا عضوا. وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأمّا الفيل الآخر فشجع فحصب، ويقال: كانت اثني عشر فيلا. قال ابن إسحاق: ولمّا ردّ الله الحبشة عن مكّة عظمت العرب قريشا وقالوا: أهل الله، قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم، وقال عبد الله بن عمر بن مخزوم في قصة أصحاب الفيل: أنت الجليل ربنا لم تدنس ... أنت حبست الفيل بالمغمّس من بعد ما هم بشر مبلس ... حبسته في هيئة المكركس وما لهم من فرج ومنفس
والمكركس: المنكوس المطروح «1» . وقال أبو الصلت بن أميّة بن مسعود في ذلك أيضا: إن آيات ربنا باقيات ... ما يماري فيهنّ إلّا الكفور حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظلّ يحبو كأنه معقور حوله من ملوك كندة [أبطال] ... ملاويث في الحروب صقور غادروه ثم انذعروا سراعا ... كلّهم عظم ساقه مكسور «2» وقال الكلبي ومقاتل: كان صاحب الجيش أبرهة، وكان أبو يكسوم من وزرائه وندمائه، فلمّا أهلكهم الله سبحانه بالحجارة لم يفلت منهم إلّا أبو يكسوم، فسار وطاير يطير فوقه ولم يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم، فلمّا استتمّ كلامه رماه الطائر فسقط فمات، فأرى الله النجاشي كيف كان هلاك أصحابه «3» . وقال الآخرون: أبو يكسوم هو أبرهة بن الصباح. وقال الواقدي: كان أبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقال مقاتل: كان أمر الفيل قبل مولد رسول الله (عليه السلام) بأربعين سنة، وقال الكلبي وعبيد بن عمير: كان قبل مولد النبي (عليه السلام) بثلاث وعشرين سنة. وروي أنّه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله (عليه السلام) ، وعليه أكثر العلماء، يدل عليه ما أخبرنا أبو بكر الخورقي قال: أخبرنا أبو العباس الدعولي قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة، قال: حدّثنا إبراهيم بن المنذر الجراحي قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت قال: حدّثنا الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني الليثي: يا قباث، أنت أكبر أم رسول الله؟ قال: رسول الله أكبر منّي، وأنا أسنّ منه، ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمّي على روث الفيل. وقالت عائشة: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة عميين مقعدين يستطعمان. التفسير: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ قال مقاتل: كان معهم فيل واحد، وقال الضّحاك: كانت ثمانية، وإنّما وجد على هذا التأويل لوفاق رؤوس الآي، أو يقال: نسبهم إلى الفيل الأعظم واسمه محمود.
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ عما أرادوا من تخريب الكعبة: وقيل: في بطلان وأباطيل، وقال مقاتل: في خسار. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ من البحر طَيْراً أَبابِيلَ كثيرة متفرقة، يتبع بعضها بعضا. قال عبد الرحمن بن ايزي: أقاطيع كالإبل المقبلة. قال الأعشى: طريق وجبار رواء أصوله ... عليه أبابيل من الطير تنعب «1» وقال امرؤ القيس: تراهم إلى الداعي سراعا كأنهم ... أبابيل طير تحت دجن مسخن «2» وقال آخر: كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... أن سالت الأرض بالجرد الأبابيل «3» واختلفوا في واحدها، فقال الفرّاء: لا واحد لها مثل الشماطيط والعباديد والشعارير، كل هذا لا يفرد له واجد، قال: وزعم أبو الرواسي وكان ثقة مأمونا أنه سمع واحدها إبالة ولقد سمعت من العرب من يقول: ضغث على إبالة يريدون خصب على خصب. قال: ولو قال قائل: واحدها إبالة كان صوابا مثل دينار ودنانير، ويقال: للفضلة التي تكون على حمل الحمار أو علف البعير إبالة، وقال الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون: واحدها إبّول مثل عجّول وعجاجيل. وحكى محمد بن جرير عن بعض النحويين أن واحدها أبيل، يقال: جاءت الخيل أبابيل من هاهنا وهاهنا. قال ابن عباس: لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكفّ الكلاب. عكرمة: لها رؤوس كرءوس السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده. ربيع: لها أنياب كأنياب السباع، وقالت عائشة: أشبه شيء بالخطاطيف. سعيد بن جبير: طير خضر لها مناقير صفر، قال أبو الجوزاء: أنشأها الله سبحانه في الهواء في ذلك الوقت. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ قراءة العامة بالتاء للطير، وقرأ طلحة وأشهب العقيلي يرميهم بالياء، وهو اختيار أبي حنيفة، يعنون الله سبحانه، كقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى «4» ويجوز أن يكون راجعا إلى الطير لخلوّها من علامات التأنيث.
مِنْ سِجِّيلٍ قال ابن مسعود: صاحب الطير وترميهم بالحجارة، وبعث الله سبحانه ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فما وقع منها حجر على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره. فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كزرع أكلته الدواب فراثته فيبس وتفرّقت أجزاؤه، شبّه تقطّع أوصالهم يفرق أجزاء الروث. قال مجاهد: العصف: ورق الحنطة. قتادة: هو التبن، قال الحسن: كنا ونحن غلمان بالمدينة نأكل الشعير إذا قصّب وكان يسمّى العصف. سعيد بن جبير: هو الشعير النابت الذي يؤكل ورقه. الفرّاء: أطراف الزرع قبل أن يسنبل ويبتك. عكرمة: كالجبل إذا أكل فصار أجوف. ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة كهيئة الغلاف له. المؤرّخ: هو ما يقصف من الزرع فسقطت أطرافه، وقال ابن السكّيت: هو العصف والعصيفة والجل، وقيل: كزرع قد أكل حبّه وبقي تبنه، وقال الضحّاك: كطعام مطعوم.
سورة قريش
سورة قريش مكّيّة، وهي ثلاثة وسبعون حرفا، وسبع عشرة كلمة، وأربع آيات أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار البابي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي قال: حدّثنا عمر بن محمد بن محمد الكرمي قال: حدّثنا أسباط بن اليسع قال: حدّثنا يحيى بن عبيد الله السلمي قال: حدّثنا نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة لِإِيلافِ قُرَيْشٍ أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» [260] «1» . وأخبرني الحسين قال: حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال: أخبرنا أبو مصعب عن إبراهيم بن يحيى بن ثابت قال: أخبرني عبد الله بن أبي عتيق عن سعيد بن عمر بن جعدة عن أبيه عن جدته أمّ هانئ بنت أبي طالب قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضّل الله قريشا بسبع خصال لم يعطها أحدا قبلهم، ولا يعطاها أحدا بعدهم: فضلّ الله قريشا أني منهم، وأنّ النبوة فيهم وأنّ الحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصرهم على الفيل، وعبدوا الله سبحانه عشرين سنة لا يعبده غيرهم، وأنزل الله سبحانه فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم [261] «2» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ. اختلفت القرّاء فيها فقرأ عبد الله بن عامر (لألاف) مهموزا مختلسا بلا ياء، وقرأ أبو جعفر (ايلاف) بغير همز وإنما ذهب إلى طلب الخفّة (لإيلاف) بالياء مهموزة مشبعة، وأما قولهم: (إيلاف) فروى العمري عن أبي جعفر والبلخي عن ابن كثير (إلفهم) ساكنة اللام يغير ياء وتصديق
هذه القراءة ما أخبرنا الحسين بن فنجويه قال: حدّثنا ابن خنيس قال: حدّثنا أبو خديجة أحمد ابن داود قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان بن ليث عن شمر بن حوشب عن أسماء قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [يقرأ] : «إلفهم رحلة الشتاء والصيف» [262] «1» . وروى الفضل بن شاذان بإسناده عن أبي جعفر، والوليد عن أهل الشام (إلافهم) مهموزة مختلسة بلا ياء ، وروى محمد بن حبيب الحموي عن أبي يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم (إِأْلافهم) بهمزتين الأولى مكسورة والثانية ساكنة الباقون (إِيلافِهِمْ) . وأخبرني سعيد بن المعافى، أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثنا أبو كرنب قال: حدّثنا وكيع عن أبي مكّي عن عكرمة أنه كان يقرأ (إليالف قريش الفهم) . وعدّ بعضهم السورتين واحدة منهم أبيّ بن كعب ولا فصل بينهما في مصحفه. وقال سفيان بن عيينة: كان لنا امام لا يفصل بينهما ويقرأهما معا، وقال عمرو بن ميمون الأودي صلّيت المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ في الأولى وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وفي الثانية أَلَمْ تَرَ ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ. واختلفوا في العلّة الجالبة لهذه اللام فقال الفرّاء: هي متّصلة بالسورة الأولى وذلك أنه [تعالى] ذكّر أهل مكّة عظيم نعمته عليهم في ما صنع بالحبشة، ثم قال: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منّا على قريش أي نعمتنا عليهم في رحلتهم الشتاء والصيف، فكأنّه قال: نعمة إلى نعمة فتكون اللام بمعنى (إلى) . وقال الرازي والأخفش: هي لام التعجب يقول: عجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت، ثم أمرهم بعبادته. وهذا كما يقول في الكلام: لزيد وإكرامنا إيّاه، على وجه التعجب أي: أعجب لذلك، والعرب إذا جاءت بهذه اللام اكتفوا بها دليلا على التعجّب لإظهار الفعل فيه كقول الشاعر: أغرّك أن قالوا لقرة شاعرا ... فيا أباه من عريف وشاعر أي أعجبوا لقرة شاعرا «2» . وقيل هي لام (كي) مجازها فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ليؤلف قريشا، فكان هلاك أصحاب الفيل سببا لبقاء إيلاف قريش، ونظام حالهم وأقوام مالهم، وقال الزجّاج: هي مردودة إلى ما بعدها، تقديره: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ لإيلاف رحلة الشتاء والصيف.
وقريش هم ولد النضر بن كنانة، فمن ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا، ولا ننتفي من أبينا» [263] «1» . وأخبرنا أبو بكر الجوزي قال: أخبرنا الرعولي قال: حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدّثنا أبو المغيرة قال: حدّثنا الأوزاعي قال: حدّثنا أبو عمار شداد عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله (عليه السلام) : «إن الله عزّ وجلّ اصطفى بني كنانة من بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» [264] «2» . وسمّوا قريشا من التقرش، وهو التكسّب والتقلّب والجمع والطلب، وكانوا قوما على المال والإفضال حراصا. وسأل معاوية عبد الله بن عباس: لم سمّيت قريش قريشا؟ فقال: لدابّة في البحر يقال لها: القرش، تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلا. قال: وهل يعرف العرب ذلك في أشعارهم؟ قال: نعم: وقريش هي التي تسكن البحر بها ... سميت قريش قريشا سلطت بالعلو في لجّة البحر ... على ساير البحور جيوشا تأكل الغثّ والسمين ولا تترك فيه ... لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا ولهم آخر الزمان نبيّ ... يكثر القتل فيهم والخموشا يملأ الأرض خيله ورجالا ... يحسرون المطيّ حسرا كشيشا «3» وقوله: إِيلافِهِمْ بدل من الإيلاف الأوّل ويرخمه له، ومن أسقط الياء من الإيلاف احتج بقول ابي طالب يوصي أبا لهب برسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تتركنه ما حييت لمعظم ... وكن رجلا ذا نجدة وعفاف تذود العدا عن عصبة «4» هاشمية ... إلا فهم في الناس خير إلاف «5»
رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ اختلفوا في وجه انتصاب الرحلة فقيل: نصبت على المصدر أي ارتحالهم رحلة، وإن شئت نصبته بوقوع إيلافهم عليه، وإن شئت على الظرف بمعنى: على رحلة، وإن شئت جعلتهما في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء والصيف، والأول أعجب وأحبّ إليّ لأنّها مكتوبة في المصاحف بغير ياء. وأمّا التفسير: فروى عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يشتون بمكّة ويصيفون بالطائف، فأمرهم الله سبحانه أن يشتوا بالحرم ويعبدوا ربّ البيت. وقال أبو صالح: كانت الشام فيها أرض باردة وفيها أرض حارة، وكانوا يرتحلون في الشتاء إلى الحارة، وفي الصيف إلى الباردة وكانت لهم رحلتان كلّ عام للتجارة: أحدهما في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، والأخرى في الصيف إلى الشام، وكان الحرم واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع، ولا ماء ولا شجر، وإنّما كانت قريش تعيش بها بتجارتهم ورحلتهم، وكانوا لا يتعرض لهم بسوء. وكانوا يقولون: قريش سكان حرم الله وولاة بيته، فلولا الرحلتان لم يكن لأحد بمكّة مقام، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرّف، فشقّ عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام، وأخصبت تبالة وجرش والجند من بلاد اليمن، فحملوا الطعام إلى مكّة، أهل الساحل في البحر على السفن، وأهل البر على الإبل والحمر، فألقى أهل الساحل بجدّة وأهل البرّ بالمحصّب، وأخصبت الشام فحملوا الطعام إلى مكّة، فحمل أهل الشام إلى الأبطح، وحمل أهل اليمن إلى الجدّة، فامتاروا من قريب وكفاهم الله مؤونة الرحلتين وأمرهم بعبادة ربّ البيت. أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال: أخبرنا أبو الوليد حسان بن محمد قال: حدّثنا القاسم بن زكريّا المطرّز قال: حدّثنا محمد بن سليمان قال: حدّثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: مرّ رسول الله (عليه السلام) ومعه أبو بكر بملئهم ينشدون: يا ذا الذي طلب السماحة والندى ... هلّا مررت بآل عبد الدار «1» هلّا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من جهد ومن إقتار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أهكذا قال الشاعر يا أبا بكر؟» [265] قال: لا، والذي بعثك بالحق، بل قال: يا ذا الذي طلب السماحة والندى ... هلّا مررت بآل عبد مناف لو أن مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من جهد ومن إيجاف الرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلمّ للأضياف
والخالطين غنيّهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي والقائلين بكل وعد صادق ... ورجال مكّة مسنتين عجاف سفرين سنّهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف قال الكلبي: وكان أوّل من حمل السمراء من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف. ْيَعْبُدُوا لام الأمر رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ. أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد قال: حدّثنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد قال: حدّثنا جعفر قال: سمعت ابن ملك بن دينار يقول: ما سقطت أمة من عين الله سبحانه إلّا ضرب أكبادها بالجوع. وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن قطّان حرم الله سبحانه، فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية، وإن كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فقال: حرمي حرمي فيخلّى عنه وعن ماله تعظيما للحرم، وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أغير عليه. وقال الضحّاك والربيع وشريك وسفيان: وآمنهم من الجذام، فلا يصيبهم ببلدهم الجذام. وأخبرنا أيضا أبو الحسن المقري قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عيسى المقري البروجردي ببغداد قال: حدّثنا أبو سعيد عمر بن مرداس قال: حدّثنا محمد بن بكير الحضرمي قال: حدّثنا القاسم بن عبد الله عن [أبي] بكر بن محمد عن سالم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غبار المدينة يبرئ من الجذام» [266] «1» . وقال علي كرم الله وجهه: وَآمَنَهُمْ مِنْ [خوف] أن تكون الخلافة إلّا فيهم [267] «2» .
سورة الماعون
سورة الماعون مكية، وهي مائة وخمسة وعشرون حرفا، وخمس وعشرون كلمة، وسبع آيات أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصفهاني قال: حدّثنا مؤمل بن إسماعيل قال: حدّثنا سفيان الثوري، قال: حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن أبي بن كعب قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة أَرَأَيْتَ غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا» [268] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ قال مقاتل والكلبي: نزلت في العاص بن وائل السهمي، السدي ومقاتل بن حيان وابن كيسان: يعني الوليد بن المغيرة، الضحاك: في عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم، وقيل: هيبرة بن أبي وهب المخزومي، ابن جريح: كان أبو سفيان بن حرب ينحر كل أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصاه، فأنزل الله سبحانه فيه أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ أي يقهره ويزجره ويدفعه عن حقّه، الدع: الدفع في جفوة. قرأ أبو رجاء يَدَعُ الْيَتِيمَ أي يتركه ويقصر في حقه وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ حدّثنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا محمد ابن إسحاق الصعالي ببغداد قال: حدّثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال: حدّثنا عكرمة بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعيد عن سعيد قال: سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قال ابن عباس: هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ إذا غاب الناس ويصلونها في العلانية إذا حضروا. بيانه قوله سبحانه: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ «1» الآية، مجاهد: لاهون غافلون عنها متهاونون بها، وقال قتادة: ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصل. وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا معاوية بن هشام عن شيبان النحوي عن جابر الجعفي قال: حدّثني رجل عن أبي بردة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ: «الله أكبر هذه خير لكم من أن لو أعطى كل رجل منكم مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلواته وأن تركها لم يخف ربه» [269] «2» وبه عن ابن جرير قال: حدّثني أحمد بن عبد عبد الرحيم البرقي قال: حدّثنا عمرو بن أبي مسلمة قال سمعت عمر بن سليمان يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ ولم يقل في صلاتهم، الحسن: هو الذي إن صلّاها صلاها رياء وأن فاتته لم يندم، أبو العالية: لا يصلونها لمواقيتها ولا يتمّون ركوعها ولا سجودها، وعنه أيضا: هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتا، الضحاك: هم الذين يتركون الصلاة. وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أخبرنا أبو بكر الجمشادي حدّثنا أبو بكر القطيعي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدّثنا أبو عمر الضرير قال: حدّثنا أبو عوانة عن إسماعيل السهمي عن أبي صالح عن علي رضي الله عنه وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قال: هي الزكاة ، وإليه ذهب ابن عمر والحسن وقتادة وابن الحنفية والضحاك. وأخبرنا الجمشادي قال: أخبرنا العطيفي قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال: حدّثنا أبو عمر الضرير قال: حدّثنا حماد عن عاصم عن زر عن عبد الله في الماعون قال: الفاس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، مجاهد عنه: هو العارية ومتاع البيت، عطية عنه: هو الطاعة، محمد بن كعب والكلبي: الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم، سعيد بن المسيب والزهري ومقاتل: الماعون: المال بلغة قريش، قال الأعشى: بأجود منه بماعونه ... إذا ما سماؤهم لم تغم «3» وأخبرنا محمد بن عبدوس في آخرين قالوا: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء، وأنشدني فيه:
يمج صبيرة الماعون صبا «1» والصبير: المنجاب. وقال أبو عبيد والمبرد: الماعون في الجاهلية: كلّ منفعة وعطية وعارية، وهو في الإسلام: الطاعة والزكاة، قال حسان بن قحافة: لا يحرم الماعون منه خابطا، ويقول العرب: [ولقد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعا] «2» تعطيك الماعون، أي الطاعة والانقياد، قال الشاعر: متى يجاهدهن بالبرين ... يخضعن أو يعطين بالماعون «3» وحكى الفراء أيضا عن بعضهم أنه قال: ماعون من الماء المعين، وقال قطرب: أصل الماعون من القلّة، يقول العرب: ماله سعنة ولا معنة أي شيء قليل، فسمّى الزكاة والصدقة والمعروف ماعونا، لأنه قليل من كثير، وقيل: الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار، يدلّ عليه ما أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عمرو بن مرداس قال: حدّثنا محمد بن بكر قال: حدّثنا عثمان بن مطر عن الحسن بن أبي جعفر عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيّب عن عائشة أنّها قالت: يا رسول الله ما الذي لا يحلّ منعه قال: «الماء والملح والنار» . فقالت: يا رسول الله هذا الماء فما بال النار والملح؟ فقال لها: يا حميراء «من أعطى نارا فكأنما تصدّق بجميع ما طبخ بذلك «4» النار، ومن أعطى ملحا فكأنما تصدق بجميع ما طيّب بذلك الملح، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق (ستين نسمة) «5» ، ومن سقى «6» شربه ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما أحيا نفسا» [270] «7» قال الراعي: قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ... ماعونهم ويمنعوا التهليلا «8»
سورة الكوثر
سورة الكوثر مكية وهي اثنان وأربعون حرفا، وعشر كلمات، وثلاث آيات أخبرني الأستاذ أبو الحسين الفارسي الماوردي قال: حدّثنا أبو محمد الشيباني قال: حدّثنا أبو عمرو الحبري وأبو عثمان البصري قالا: حدّثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ سقاه الله من أنهار الجنة وأعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبة العباد في يوم عيد ويقربون من أهل الكتاب والمشركين» [271] «1» . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو علي حمزة بن محمد الكاتب قال: حدّثنا نعيم بن حماد قال: حدّثنا نوح بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من قرأ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ كان له ما بين المشرق والمغرب أبعرة على كل بعير كراريس، كل كراسة مثل الدنيا وما فيها كتب له بدقة الشعر ليس فيها إلّا صفة قصوره ومنازله في الجنة [272] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ قال ابن عباس: نزلت هذه السورة في العاص بن وائل ابن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس، فلما دخل العاص قالوا له: من الذي كنت تحدث؟ قال: ذاك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من خديجة، وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر، فسمّته قريش عند موت ابنه أبتر وصنبورا فأنزل الله سبحانه إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
قراءة العامة بالعين، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف (أنطيناك) بالنون، وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخبرناه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن علي المطوعي بقراءتي عليه قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الأصفهاني قال: أخبرنا أبو المثنى معادين المثنى بن معاد ابن نصر العبيدي قال: حدّثنا عمرو بن المحرّم أبو قتادة البصري قال: حدّثنا عبد الوارث بن عمرو عن الحسن عن أمّه عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: إنّا أنطيناك الكوثر. والكوثر فوعل من الكثرة كنوفل من النفل وحوقر من الحقر، والعرب يسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير في المقدار الخطر: كوثرا. قال سفيان بن عيينة: قيل لعجوز رجع ابنها من السفر بم آب ابنك؟ قالت آب بكوثر، يعني بمال كثير «1» . واختلفوا في المراد به هاهنا فحدّثنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو العباس الثقفي قال: حدّثنا أبو همام الوليد بن شجاع السكوني وعبد الله بن عمر بن أبان قالا: حدّثنا عبد الرحمن بن سلمان عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا إذ أغفى إغفاءة أو أغمى عليه، فرفع رأسه مبتسما فقال: «هل تدرون ممن ضحكت» فقالوا الله ورسوله أعلم، قال: «إنه نزل عليّ سورة» فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فقرأ حتى ختم السورة فلما قرأها قال: «أتدرون ما الكوثر؟ أنه نهر في الجنة وعدنيه ربّي عز وجلّ فيه خير كثير، لذلك النهر حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب [فيختلج] منهم فأقول: ربّ إنّه من أمتي فيقال: أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» [273] «2» . وأخبرنا أبو سعيد بن حمدون قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال: حدّثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي قال: حدّثنا أيوب بن سويد قال: حدّثنا محمد بن إبراهيم عن عمّه العباس بن عبد الله بن معيد عن ابن عباس قال: لما نزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها على الناس، فلما نزل قالوا: يا رسول الله ما هذا الذي قد أعطاكه الله سبحانه؟ قال: «نهر في الجنة أشدّ بياضا من اللبن، وأشد استقامة من القدح حافتاه قباب الدر الدر والياقوت ترده طير خضر لها أعناق كأعناق البخت» قالوا: يا رسول الله ما أنعم هذا لطائر؟ قال «أفلا أخبركم بأنعم منه؟» قالوا بلى: قال: «من أكل الطائر وشرب الماء فاز «3» برضوان الله سبحانه» [274] «4» .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا ابن فضيل قال: حدّثنا عطاء عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماءه أحلى من العسل وأشد بياضا من الثلج» [275] «1» وقالت عائشة رضى الله عنها: الكوثر نهر في الجنّة يخرخر «2» في الحوض فمن أحب أن يسمع خريره فليجعل إصبعيه في أذنيه. وقال بعضهم: هو الحوض بعينه، وصفته على ما جاء في الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصف حوض الكوثر فقال: «حصباؤه الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والدر والمرجان وحمأته المسك الأذفر وترابه الكافور، وماءه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج، يخرج: من أصل السدرة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، حافتاه الزعفران وقباب الدر والمرجان، من دخله أمن من الغرق، ولا يشرب منه أحد فيظمأ، ولا يتوضأ منه أحد فيشعث، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر» فقال أبو بكر وعمر: إنها لناعمة فقال: «أكلها أنعم منها» [276] . وفي خبر آخر: «لتزدحمنّ هذه الأمة على الحوض ازدحام واردات الحمر» [277] «3» . وأخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثلاثمائة: قال: حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفار الأصفهاني قال: أخبرنا أبو عبد الله العمري الكوفي بالكوفة قال: حدّثنا بشر بن داود القرشي قال: حدّثنا مسعود بن سابور عن علي بن عاصم عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ لحوضي أربعة أركان: فأول ركن منها في يد أبي بكر والثاني في يد عمر والثالث في يد عثمان والرابع في يد علي، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر لم يسقه أبو بكر ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عمر ومن أحب عثمان وأبغض عليا لم يسقه عثمان ومن أحب عليا وأبغض عثمان لم يسقه علي، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحسن القول في عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحسن القول في علي فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، من أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن ومن أساء القول في أصحابي فهو منافق» [278] . وقال قطر بن خليفة: سألت عطاء عن الكوثر ونحن نطوف في البيت فقال: حوض أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم في الجنة، وروى حميد عن أنس قال: دخلنا على عبيد الله بن زياد وهم يتذاكرون الحوض فقلت: ما كنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض،
لقد تركت خلفي عجائز ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض محمد وفيه يقول الشاعر: يا صاحب الحوض من يدانيكا ... وأنت حقا حبيب باريكا «1» وقال سعيد بن جبير ومجاهد: هو الخير الكثير، وقال الحسن: هو القرآن العظيم، عكرمة: النبوة والكتاب، محمد بن إسحاق هو العظيم من الأمر وذكر بيت لبيد صاحب ملحوب فجعنا بفقده ... وعند الرداع بيت آخر كوثر «2» يقول: أي عظيم. وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن ذياب: هو كثرة الأصحاب والأشياع، ابن كيسان: هو كلمة من الكتب الأولى ومعناها الإيثار، الحسين بن الفضل: الكوثر شيئان تيسير القرآن وتخفيف الشرائع، جعفر الصادق: الكوثر نور في قبلك دلّك عليّ، وقطعك عما سواي ، وعنه أيضا: الشفاعة ، وقيل: معجزات أكثرت بها أهل الإجابة لدعوتك، هلال بن يساق: هو قول لا اله الله محمد رسول الله، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: الصلوات الخمس. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال محمد بن كعب: يقول: إن ناسا يصلّون لغير الله وينحرون لغير الله ف إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فلا تكن صلاتك ونحرك إلّا لي، وقال عكرمة وعطاء وقتادة: فَصَلِّ لِرَبِّكَ صلاة العيد يوم النحر، قال سعيد بن جبير ومجاهد: فَصَلِّ لِرَبِّكَ صلاة الغداة المفروضة بجمع وَانْحَرْ البدن بمنى. وقال بعضهم: نزلت هذه الآية يوم الحديبية حين حضر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصدّوا عن البيت فأمره الله سبحانه أن يصلي وينحر البدن وينصرف، وفعل ذلك ، وهو رواية أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن يوسف قال: حدّثنا حجاج قال: حدّثنا حماد عن عاصم الجحدري عن أبيه عن عقبة بن ظبيان عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: وضع اليد اليمنى على ساعده اليسرى ثم وضعها على صدره. وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا علي ابن إبراهيم بن أحمد العطار قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا هاشم بن الحرث المروزي قال: حدّثنا محمد بن ربيعة قال: حدّثنا يزيد بن ذياب بن أبي السعد عن عاصم الجحدري عن عقبة بن ظهير عن علي بن أبي
طالب في قوله فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة. وأخبرنا عبد الخالق قال: حدّثنا ابن جنب قال: حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: حدّثنا روح بن المسيّب قال: أخبرني عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله سبحانه فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر. يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدثنا المعافى بن داود قال: حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب بإحدى يديه على الأخرى في الصلاة. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا عبد الرحمن قال: أخبرنا سفيان عن سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة، هلب لقب وأسمه يزيد بن قتادة. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا ابراهيم بن الحرث قال: حدّثنا يحيى بن أبي بكر قال: حدّثنا زهير بن معاوية قال: حدّثنا أبو إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن وائل بن حجر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة قريبا من الرفع، ويرفع يديه حتى يبلغا أذنيه. وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا محمد بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن يوسف قال: حدّثنا حجاج قال: حدّثنا هشيم عن الحجاج بن أبي زينب السلمي قال: حدّثنا أبو عثمان النهدي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وهو يصلي واضعا يده اليسرى على اليمنى فنزع اليسرى عن اليمنى ووضع اليمنى على اليسرى. وأخبرنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن عاصم البخاري الفقيه قال: حدّثنا الحسين بن الفضل النصراني قال: حدّثنا وهب بن إبراهيم الرازي قال: حدّثنا أبو عبد الله إسرائيل بن حاتم المروزي وكان ثقة مأمونا قال: أخبرنا مقاتل بن حيان عن أصبغ ابن نباتة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبرائيل: «ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟» [279] «1» قال: ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يدك إذا كبرت، وإذا ركعت، وإذا رفعت رأسك من الركوع، وإذا سجدت، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وأن زينة الصلاة رفع الأيدي عند التكبيرة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع الأيدي في الصلاة من الاستكانة» قلت: فما الاستكانة؟ قال: «ألا تقرأ هذه الآية: فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ «1» » قال: هو الخضوع [280] «2» . يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال قال: حدّثنا أبو زرعة الرازي قال: حدّثنا عبد الجبار بن سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق العامري قال: حدّثنا ابن أبي الزياد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا قام الى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويضعه إذا رفع من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد. وأخبرنا الشيخ الصالح أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن علوية بن سلوس العبدوي في رجب سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الأزهر الأزهري وعبد الله بن يحيى بن أحمد بن مهران المذكر قالا: سمعنا أبا إسماعيل الترمذي وحدّثنا أبو محمّد المخلدي إملاء قال: أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن يحيى بن أحمد المذكر قال: حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي قال: صلّيت خلف أبي عارم- أي النعمان- فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت ما هذا؟ فقال: صليت خلف حماد بن زيد فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت له: ما هذا؟ فقال: صليت خلف أيوب السجستاني فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت له: ما هذا؟ قال: صلّيت الى جنب عطاء بن أبي رياح فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت له: ما هذا؟ قال: صليت خلف أبي بكر الصديق فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع، فقلت له: ما هذا؟ قال: صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع. وأنبأني عقيل قال: أخبرنا المعافى قال: أخبرنا ابن جرير قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا وكيع عن إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ قال: يرفع يديه أول ما يكبّر في الافتتاح الى النحر. وأخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن الجهم قال: حدّثنا الفراء قال: يقال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أي أستقبل القبلة بنحرك، سمعت بعض العرب يقول: منازلنا تتناحر، أي هذا ينحر هذا، أي قبالته، وأنشدني بعض أسد:
أبا حكم هل أنت عم مجالد ... وسيّد أهل الأبطح المتناحر «1» أي ينحر بعضه بعضا، وإليه ذهب الضحاك والكلبي، وقال واصل بن السائب: سألت عطاء عن قوله سبحانه وَانْحَرْ قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدوا نحره ، سليمان التيمي: يعني وأرفع يديك بالدعاء الى نحرك، ذو النون: أي أذبح هواك في قلبك. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ يعني أن عدوك ومبغضك هو الأقل الأذلّ المنقطع دابره، نزلت في العاص بن وائل، وقال شمر بن عطية: هو عقبة بن أبي معيط، وقال عكرمة عن ابن عباس: نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من قريش، وذلك أنه لما قدم كعب مكّة قالت له قريش: نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيّد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه؟ فقال: بل أنتم خير منه. فنزلت في كعب أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «2» الآية ونزلت في الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أبتر. إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ يعني المنقطع من كل خير، قال الجنيد: المنقطع عن بلوغ أمله فيك.
سورة الكافرون
سورة الكافرون مكية. وهي أربعة وتسعون حرفا، وست وعشرون كلمة، وست آيات أخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو عمر الحرشي قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثنا يعقوب بن حميد قال: حدّثنا إسماعيل بن داود عن سليمان بن بلال عن أبي جبير عن الحكم بن عبد الله بن سعد أن محمد ابن سعيد بن جبير بن مطعم حدّثهم أنه سمع جبير بن مطعم يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتحب يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زادا» ؟ قال: قلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: «فأقرأ بهذه السور: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وإِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وأفتح قراءتك ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» [281] «1» قال: فقال جبير: وكنت غنيا كثير المال وكنت أخرج مع من شاء الله أن أخرج معه في السفر فأكون أبذّهم هيئة وأقلّهم زادا فما زالت منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتهن أكون من أحسنهم هيئة وأكثرهم زادا حتى أرجع من سفري ذلك «2» . وأخبرنا أبو العباس السليطي قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدثنا أحمد بن يوسف قال: حدثنا عبد الرزاق ومحمد بن يوسف قالا: حدّثنا سفيان عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل الأشجعي يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل: «اقرأ عند منامك قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فإنها براءة من الشرك» [282] «3» . وأخبرنا أحمد بن أبي قال: أخبرنا منصور بن محمد قال: حدّثنا محمد بن أيوب قال: حدّثنا القصيني قال: حدّثنا سلمة بن وردان قال سمعت أنسا يقول: قال صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ربع القرآن» [283] «4» .
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 إلى 6]
وأخبرنا محمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن زيد المعدل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا محمد بن منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدّثني أبي عن مخالد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الجليل عن زر عن أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر» [284] «1» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا صبيانكم فليقرءوها عند المنام فلا يعرض لهم شيء» [285] . وقال ابن عباس: ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة لأنها توحيد وبراءة من الشرك. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ الى آخر السورة نزلت في رهط من قريش منهم الحرث بن قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب بن أسد وأميّة بن خلف قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه تعبد آلهتنا سنة ونعبد الهك سنة فأن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وأن كان الذي بأيدينا خيرا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال: «معاذ الله أن أشرك به غيره» [286] «2» . فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك فقال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فانزل الله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ الى آخر السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة، فيئسوا عنه عند ذلك وآذوه وآذوا أصحابه. وأما وجه تكرار الكلام فأن معنى الآية لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ في الحال وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في الحال وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ في الاستقبال وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في الاستقبال وهذا خطاب لمن سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، وقال أكثر أهل المعاني: نزل القرآن بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والإفهام،
كما أن مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز لإن إتيان المتكلّم والخطيب وخروجه من شيء الى شيء آخر أفضل من اقتصاره في المقام على شيء واحد، قال الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «1» وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «2» في غير موضع من سورة واحدة وقال سبحانه: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ «3» وقال: تعالى وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ «4» وقال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «5» كل هذا أراد به التأكيد، ويقول القائل: ارم ارم، عجّل عجل، ومنه الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر ذات يوم فقال: «إن بني مخزوم استأذنوا أن ينكحوا فتاتهم عليا فلا آذن ثم لا آذن، لأنّ فاطمة بضعة مني يسرّها ما يسرّني ويسوءها ما يسوءني» [287] . ومنه قول الشاعر: هلا سألت جموع كندة ... يوم ولوا أين أينا «6» وقال آخر: يا علقمه يا علقمه يا علقمه ... خير تميم كلّها وأكرمه «7» وقال آخر: قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيان «8» ثم قال في عدة أبيات من هذه القصيدة: لقحت حرب وائل عن حيان وأنشدني أبو القاسم بن حبيب قال: أنشدني أبو القاسم عبد الرحمن بن المظفر الأنباري قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن أحمد بن القاسم الأنباري لبعض نساء الإعراب. يقول رجال زوجها لعلها ... تقر وترضى بعده بحليل فأخفت في النفس التي ليس دونها ... رجاء وان الصدق أفضل قيل أبعد ابن عمي سيد القوم مالك ... أزفّ الى بعل ألدّ كليل
وحدّثني أصحابه أن مالكا ... أقام ونادى صحبه برحيل وحدّثني أصحابه أن مالكا ... صروم كماضي الشفرتين صقيل وحدّثني أصحابه أن مالكا ... جواد بما في الرحل غير بخيل وقال القتيبي: وفيه وجه آخر وهو أنّ قريشا قالوا: إن سرّك أن ندخل في دينك عاما فأدخل في ديننا عاما فنزلت هذه السورة، فتكرار الكلام لتكرار الوقت، وقال: فيه وجه آخر وهو أن القرآن نزل شيء بعد شيء وآية بعد آية فكأنهم قالوا اعبد آلهتنا سنة فقال الله سبحانه: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ثم قالوا بعد ذلك: استلم بعض آلهتنا فانزل الله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ الشرك وَلِيَ دِينِ الإسلام. وهذه الآية منسوخة بآية السيف، وقرأ أهل المدينة وعيسى بن عمر وَلِيَ دِينِ بفتح الياء ومثله روى حفص عن عاصم وهشام عن أهل الشام، غيرهم بجزمه وأبو حاتم بجر.
سورة النصر
سورة النصر مدنيّة وهي سبعة وتسعون حرفا، وست عشر كلمة، وثلاث آيات أخبرني أبو الحسين الحياري عن مرة قال: أخبرنا الإمام أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني وأبو الشيخ الحافظ الأصبهاني قالا: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أبي شريك قال: حدّثنا أبو عبد الله اليربوعي قال: حدّثنا سلام قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد مع محمد فتح مكّة» [288] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ على من عاداك وناوأك وَالْفَتْحُ قال يمان: فتح المدائن والقصور، وقال عامة المفسرين: فتح مكة، وكانت قصته على ما ذكره محمد بن إسحاق بن بشار والعلماء من أصحاب الأخبار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريش عام الحديبية كان فيما اشترطوا أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت بنو بكر في عقد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بينهما شرّ قديم، وكان السبب الذي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلا من الحضرمي يقال له مالك بن عماد خرج تاجرا، فلما توسّط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزين الديلي وهم من أشراف بكر فقتلوه بعرفة عند أنصاب الحرم، فبينا بكر وخزاعة على ذلك من الشر حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبيّة ووقعت تلك الهدنة اغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم بأولئك النفر الذين أصابوا منهم بني الأسود بن رزين، فخرج نوفل بن معونة الديلي في بني الديل، وهو يومئذ قائدهم حتى بيّت خزاعة وهم على الوتير- ماء لهم بأسفل مكة-، فأصابوا
منهم رجلا وتحاوروا واقتتلوا، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا حتى جاوزوا خزاعة الى الحرم، وكان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتين بأنفسهم مشتركين صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ومع عبيدهم قالوا: فلما انتهوا الى الحرم قالت بنو بكر: يا نوفل إنا دخلنا الحرم، إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة: أنه لا إله اليوم [يا بني بكر] أصيبوا ثأركم فيه فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه «1» . فلما دخلت خزاعة مكة لجئوا الى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع، فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد لما استحلّوا من خزاعة، وكانوا في عقدة، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك مما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال لهم: إني بايعت محمدا وذكر الأبيات كما ذكرها في سورة التوبة الى قوله: هم بيتونا بالوتير هجّدا ... فقتلونا ركعا وسجدا «2» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نصرت يا عمرو بن سالم، ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال: «إن هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب» [وأمر رسول الله الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه] » . وقد قال حسن: بلغه إسلام أم هاني بنت أبي طالب وأسمها هند: أشاقتك هند أم ناك سؤالها ... كذاك النوى أسبابها وانفتالها «3» القصيدة. قال ابن إسحاق، وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني غفار أربعمائة ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف ومن بني سلم سبعمائة ومن جهينة ألف وأربعمائة رجل وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس واسد. قالوا: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشر ليلة يقصر الصلاة، ثم خرج الى هوازن وثقيف وقد نزلوا حنين. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً زمرا وأرسالا «4» القبيلة بأسرها، والقوم بأجمعهم من غير قتال.
قال الحسن: لمّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب بعضها لبعض: أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم وقد كان الله سبحانه أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان، فكانوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ، وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن، قال ابن عباس وأبو هريرة: لما نزلت هذه السورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» [289] «1» وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا محمد بن مصفر قال: حدّثنا بقيّة بن الوليد قال: حدّثنا الأوزاعي قال: حدّثنا شدّاد أبو عمار قال: حدّثني جار لجابر قال: غدا جابر ليسلم عليّ فجعل يسألني عن حال الناس فجعلت أخبره نحوا مما رأيت من اختلافهم وفرقتهم فجعلت أخبره وهو يبكي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أن الناس دخلوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً وسيخرجون من دين الله أفواجا» [290] «2» . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً فأنك حينئذ لاحق به وذائق الموت كما ذاق من قبلك من الرسل، وعند الكمال يرتقب الزوال كما قيل. إذا تم أمر «3» نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم «4» وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فقال عبد الرحمن بن عوف: أتأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله، فقال: إنه ممن قد علمتم، قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله سبحانه: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الآية ولا أراه سألهم إلّا من أجلي، فقال بعضهم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه، فسألني فقلت: ليس كذلك ولكن أخبر نبي الله صلى الله عليه وسلم بحضور أجله ونعيت إليه نفسه، فذلك علامة موته. فقال عمر: ما أعلم منها إلّا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلومونني عليه بعد ما ترون «5» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال: حدّثنا ابن فضل قال: حدّثنا عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعيت إليّ نفسي» بأنّه مقبوض في تلك السنة [291] «6» ، وقال مقاتل وقتادة: عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا أبو عامر العقدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عبدة عن عبد الله قال: لما نزلت فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول «سبحانك اللهم وبحمدك «1» أغفر لي إنك أنت التواب» [292] «2» . وأخبرنا عبد الله قال: أخبرني مكي قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت: «سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك» فقلت: يا رسول الله ما هؤلاء الكلمات التي أراك قد أحدثتها بقولها؟ قال: «جعلتها علامة في أمتي «3» أذا رأيتها قلتها إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» [293] «4» الى آخر السورة. وبه عن ابن هاشم قال: حدّثنا عبد الله بن نمير قال: أخبرنا الأعمش عن مسلم وهو ابن صبيح عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الى آخرها ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة ألا قال: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم أغفر لي» [294] «5» . وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال: حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال: حدّثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن الشعبي عن أم سلمة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم بآخره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» فقلنا: يا رسول الله لا تقوم ولا تقعد ولا تجيء ولا تذهب إلا قلت: سبحان الله أستغفر الله وأتوب إليه قال: «فإني أمرت بها» [295] «6» ثم قرأ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حتى ختمها. وقال: مقاتل: لما نزلت هذه الآية قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وفيهم أبو بكر وعمر وسعيد بن أبي العاص ففرحوا واستبشروا، وسمعها العباس فبكى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يبكيك يا عم» قال: نعيت إليك نفسك قال: «إنه لكما تقول» [296] «7» فعاش بعدها سنتين ما رئي فيهما ضاحكا مستبشرا ، وهذه السورة تسمّى سورة التوديع.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب قال: حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان قال: حدّثني أبي عن عكرمة عن ابن عباس قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين فنزل عليه إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ السورة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي ويا فاطمة بنت محمد قد جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ورأيت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً سبحان ربي وبحمده وأستغفره إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ويا علي بن أبي طالب إنه يكون من بعدي في المؤمنين الجهاد» ، فقال على ما نجاهد المؤمنين الذين يقولون آمنا؟ قال: «على الإحداث في الدين إذا عملوا بالرأي، ولا رأي في الدين إنّما الدين من الرب أمره ونهيه» . فقال علي: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إن عرض لنا أمر لم يبيّن الله فيه قرآنا ولم ينصّ فيه سنّة منك؟ قال: «تجعلونه شورى بين العابدين «1» ولا تقضون برأي خاصة ولو كنت مستخلفا أحدا لم يكن أحد أحق منك لقدمك في الإسلام وقرابتك من رسول الله وصهرك وعندك فاطمة سيدة نساء المؤمنين، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب إياي حين نزل القرآن فأنا حريص على أن أرعى ذلك في ولده» [297] «2» . وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا أحمد بن منصور المروزي أبو صالح قال: حدّثني أحمد بن المصعب المروزي قال: حدّثنا عمر بن إبراهيم قال: حدّثنا عيسى ابن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ جاء العباس الى علي رضي الله عنه فقال: أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان هذا الأمر من بعده لنا لم تشاحنا عليه قريش، وإن كان للغير سألته الوصاة بنا، قال: سأفعل، قال: فدخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرّا فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عباس يا عم رسول الله إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله سبحانه ووحيه فاسمعوا له تفلحوا وأطيعوه ترشدوا» [298] «3» . قال ابن عباس: فقعدوا والله فرشدوا.
سورة تبت (المسد)
سورة تبت (المسد) مكية، وهي سبعة وسبعون حرفا، وعشرون كلمة، وخمس آيات أخبرنا الحراثي قال: حدّثنا أبو الشيخ الحافظ قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة تبّت رجوت أن لا يجمع الله سبحانه بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» [299] «1» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا عبد الله بن نمير قال: حدّثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله سبحانه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع إليه الناس بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني عدي أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذ الجبل يريد أن تغير عليكم صدّقتموني؟» قالوا: نعم، قال: «فإني نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» [300] «3» فقال أبو لهب: تبا لكم سائر هذا اليوم، وما دعوتموني إلا لهذا؟ فأنزل تَبَّتْ أي خابت وخسرت، يَدا أَبِي لَهَبٍ أي تب هو أخبر عن يديه والمراد به نفسه على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كلّه كقوله سبحانه: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «4» و
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ «1» ونحوها، وقيل: اليد صلة يقول العرب: يد الدّهر ويد الرزايا والمنايا، قال الشاعر: لما أكبّت يد الرزايا ... عليه نادى ألا مجير «2» وقيل: المراد به ماله وملكه يقال: فلان قليل ذات اليد، يعنون به المال. والتباب الخسار والهلاك، سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت محمد بن مسعود السوري قال: سمعت نفطويه قال: سمعت المنقري عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: لما قتل عثمان رضي الله عنه سمعوا صوت هاتف من الجن يبكي. لقد خلّوك وانصرفوا ... فما عطفوا «3» ولا رجعوا ولم يوفوا بنذرهم ... فتبّا للذي «4» صنعوا «5» وأبو لهب هو ابن عبد المطلب واسمه عبد العزي فلذلك لم يسمّه، وقيل اسمه كتيبة، قال: مقاتل كنّي أبا لهب لحسنه وإشراق وجهه، وكانت وجنتاه كأنهما تلتهبان. وَتَبَّ أبو لهب الواو فيه واو العطف، وقرأ عبد الله وأبي (وقد تب) فالأول دعاء والثاني كما يقال غفر الله لك، وقد فعل وأهلكه الله وقد فعل، والواو فيه واو الحال. وقراءة العامة أَبِي لَهَبٍ بفتح الهاء، وقرأ أهل مكة بجزمها، ولم يختلفوا في قوله: ذاتَ لَهَبٍ أنه مفتوح الهاء لأنهم راعو فيه رءوس الآي. أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا السني قال: حدّثنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي قال: حدّثنا شريح بن يونس قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا منصور عن الحكم عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: لما خلق الله القلم قال: أكتب ما هو كائن فكتب فمما كتب: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ. وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو الطيب محمد بن عبد الله ابن المبارك الثعيري قال: حدّثنا محمد بن أشرس السلمي قال: حدّثنا عبد الصمد بن حسان المروّالروذيّ عن سفيان عن منصور قال: سئل الحسن عن قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ هل كان في أم الكتاب وهل كان يستطيع أبو لهب أن لا يصلى النار؟ فقال الحسن: والله ما كان يستطيع أن لا يصليها وإنها لفي كتاب الله قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه «6» .
ويؤيد هذا ما أخبرنا أبو طاهر بن خزيمة في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا جدّي أمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدّثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا معاوية بن عمرو قال: حدثنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت الذي خلقك الله سبحانه بيده ونفخ فيك من روحه أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه تلومني على عمل أعمله كتبه الله عليّ قبل أن يخلق السموات والأرض، قال: فحج آدم موسى» [301] «1» . وأخبرنا محمد بن الفضل قال: أخبرنا جدي قال: حضر مجلس إسحاق بن إبراهيم وأنا على نمير الركاب فقرأ علينا قال: أخبرنا النظر بن شميل قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عمار ابن أبي عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لقي موسى آدم فقال: أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته فأخرجت ولدك من الجنة، قال له: يا موسى أنت الذي اصطفاك برسالته وكلّمك، فأنا أقدّم أم الذكر؟ قال: الذكر، فحجّ آدم موسى فحج آدم موسى» [302] «2» . وأخبرنا محمد بن الفضل قال: أخبرنا جدّي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد الزهري قال: حدّثنا سفيان قال: حدّثنا أبو الزياد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة قال: آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدّره الله تعالى قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى فحج آدم موسى» [303] «3» . ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ قال: ابن مسعود: لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرباءه الى الله سبحانه قال أبو لهب لأصحابه: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأني أفتدي نفسي وملكي وولدي، فأنزل الله سبحانه ما أَغْنى أي ما يغني، وقيل: أي شيء أغنى عَنْهُ مالُهُ من عذاب الله. قال: أبو العالية: يعني أغنامه، وكان صاحب سائمة ومواش، وَما كَسَبَ: يعني ولده. قرأ الأعمش (وما أكتسب) ، ورواه عن ابن مسعود. أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن حنبل قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
[سورة المسد (111) : الآيات 4 إلى 5]
معمر عن ابن خيثم عن أبي الطفيل قال: كنت عند ابن عباس يوما فجاء بنو أبي لهب يختصمون في شيء بينهم فاقتتلوا عنده في البيت فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع على الفراش فغضب ابن عباس فقال: أخرجوا عني الكسب الخبيث، يعني ولده أنهم كسبة «1» . دليل هذا التأويل ما أخبرني ابن فنجويه [ ... ] «2» . أبو حمزة قال: حدّثني عمارة بن عمير التميمي عن عمته سودة قال: قالت لعائشة آكل من مال ولدي فقالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أطيب ما أكل أحدكم «3» من كسبه وأن ولده من كسبه» [304] «4» . سَيَصْلى هو سين سوف وقيل سين الوعد. وقراءة العامة بفتح الياء الاولى وقرأ أبو رجاء بضم الياء، وقرأ شهب العقيلي بضم الياء وتشديد اللام. ناراً ذاتَ لَهَبٍ. [سورة المسد (111) : الآيات 4 الى 5] وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) وَامْرَأَتُهُ أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، وكانت عوراء. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ يقال: الحديث والكذب قال: ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: كانت تمشي بالنميمة، يقول العرب: فلان يحطب على فلان إذا ورشى «5» وأغزى، قال: شاعرهم: من البيض لم يصطد «6» على ظهر لامة ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب «7» يعني لم يمش بالنمائم، وقال آخر: فلسنا كمن يرجى المقالة شطره ... يفرق العصاة الرطب والغيل اليبس «8» وروى معمر عن قتادة قال: كانت تعيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر وكانت تحتطب فعيّرت
بذلك، وهذا قول غير قوي، لأن الله سبحانه وصفهم بالمال والولد وحمل الحطب ليس بعيب، وقال: الضحاك وابن زيد: كانت تأتي بالشوك والعصاة فتطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعقرهم، وهي رواية عطية عن ابن عباس، قال الربيع بن أنس: كانت تنشر السعدان على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطؤه كما يطأ الحرير والفرند. مرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحه على طريق المسلمين فبينما هي ذات يوم حاملة حزمة أعيت فقعدت على حجر تستريح فأتاها ملك فحدّثها من خلفها فأهلكها. وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا. دليله قوله سبحانه: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ «1» ، وقول العرب: فلان يحطب على ظهره إذا أساء، فلان حاطب قريته إذا كان الجاني فيهم، وفلان محطوب عليه إذا كان مجنيا عليه. وقراءة العامة بالرفع فيهما وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم ولها وجهان: أحدهما: سَيَصْلى ناراً هو وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، والثاني: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ في النار أيضا. وحجّة الرافعين ما أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيوب قال: أخبرنا علي ابن عبد العزيز قال: أخبرنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج بن هارون قال: في قراءة عبد الله وامرأته حمالةُ للحطب، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محتضر والأعرج وعاصم حَمَّالَةَ بالنصب ولها وجهان: أحدهما الحال والقطع لأن أصله وامرأته الحمالة الحطب فلما ألقيت الألف واللام نصب الكلام، والثاني على الذم والشتم كقوله سبحانه: مَلْعُونِينَ «2» . وروى ابن أبي الزياد عن أبيه قال: كان عامة العرب يقرءون حَمَّالَةَ الْحَطَبِ وقرأ أبو قلابة وامرأته حمالةُ الحطب على فاعله، والحطب جمع واحدتها حطبة. وقال: بعض أهل اللغة: الحطب ها هنا جمع الحاطب وهو الجانب المذنب يعني أنّها كانت تحملهم بالنميمة على معاداته، ونظيره من الكلام راصد ورصد وحارس وحرس وطالب وطلب وغائب وغيب، والعلة في تشبيههم النميمة بالحطب هي أن الحطب يوقد ويضرم كذلك النميمة، قال: أكثم بن صيفي لبنيه: أياكم والنميمة فإنّها نار محرقة وأن النمام ليعمل في ساعة ما لا يعمل الساحر في شهر، فأخذه الشاعر فقال: أن النميمة نار ويك محرقة ... فعد «3» عنها وحارب «4» من تعاطاها «5»
ولذلك قيل: نار الحقد لا تخبوا. والعلة الثانية: أن الحطب يصير نارا والنار سبب التفريق فكذلك النميمة، وأنشدني وأبو القاسم [الحبيبي] قال: أنشدني أبو محمد الهاراني الجويني قال: إنّ بني الأدرم حمالو الحطب ... هم الوشاة في الرضا وفي الغضب «1» عليهم اللعنة تترى والحرب «2» . فِي جِيدِها عنقها، قال ذو الرمة: فعينك عينها ولونك لونها ... وجيدك الا أنها غير عاطل «3» وجمعها أجياد، قال: الأعمش: وبيداء تحسب آرامها ... رجال إياد بأجيادها «4» حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ اختلفوا فيه فقال ابن عباس وعروة بن الزبير: سلسلة من حديد ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً يدخل من فيها فيخرج من دبرها ويلوى سائرها في عنقها، وقال السدي: خلق الحديد وهي السلسلة تختلف في جهنم كما يختلف الحبل والدلو في البئر، وروى الأعمش عن مجاهد: من حديد، منصور عنه: المسد: الحديدة التي تكون في البكرة، ويقال له المحور، وإليه ذهب عطاء وعكرمة، الشعبي ومقاتل: من ليف، ضحاك وغيره: في الدنيا من ليف وهو الحبل الذي كانت تحطب به فخنقها الله تعالى به فأهلكها، وفي الآخرة من نار، قتادة: قلادة من ردع، الحسن: إنما كانت خرزات في عنقها، سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة في عنقها فاخرة فقالت لأنفقها في عداوة محمد، ابن زيد: حبال من شجر ينبت في اليمن يقال لها: المسد وكانت تفتل، المروج من شهر الحرم والسلم والمسد في كلام العرب كل حبل غيروا أمر ليفا كان أو غيره، وأصله من المسد وهو الفتل، ودابة ممسودة الخلق إذا كانت شديدة الأسر، قال: الشاعر: مسد أمر من أيانق ... ليس بأنياب ولا حقائق «5» وجمعها أمساد قال: الأعشى: تمسي فيصرف بابها من دوننا ... غلقا صريف محالة الأمساد «6»
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد ابن ملجان البصري يقول: سمعت بشر بن موسى الأسدي يقول: سمعت الأصمعي يقول: صلّى أربعة من الشعراء خلف إمام اسمه يحيى فقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فيتعتع فيها فقال أحدهم: أكثر يحيى غلطا ... في قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال الثاني: قام طويلا ساكتا ... حتى إذا أعيا سجد فقال الثالث: يزجر في محرابه ... زجير حبلى لولد فقال الرابع: كأنّما لسانه ... شدّ بحبل من مسد وفي هذه السورة دلالة واضحة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن الله سبحانه أخبر عن مصير أبي لهب وامرأته الى النار وكانا من أحرص الناس على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يحملهما ذلك على اظهار الإيمان حتى يكذبا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل داما على كفرهما حتى علم أن وعيد الله سبحانه إياهما وإخباره عن مصيرهما إلى النار حق وصدق.
سورة الإخلاص
سورة الإخلاص مكية، وهي سبعة وأربعون حرفا، وخمس عشر كلمة، وأربع آيات أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسن الأصبهاني بقرائتي عليه قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال: حدّثنا يونس بن حبيب قال: حدّثنا أبو داود الطيالسي قال: حدّثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معد ابن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» قلت: يا رسول الله ومن يطيق ذاك؟ قال: «اقرءوا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» [305] «1» . وأخبرني أبو عبد الله الحسين محمد بن الفرج قال: حدّثنا محمد بن الزيرقان قال: حدّثنا مروان بن سالم عن أبي عمر مولى جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حين يدخل منزله نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل والجيران» [306] «2» وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا سعيد بن المغيرة قال: حدّثنا محمد بن مروان عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرة بورك عليه، ومن قرأها مرّتين بورك عليه وعلى أهله، فإن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى أهله وعلى جميع جيرانه، فإن قرأها اثنتي عشر مرة بني له اثنتي عشر قصرا في الجنة ويقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر الى قصر أخينا، فإن قرأها مائة كفّر عنه ذنوب خمس وعشرون سنة ما خلا الدماء والأموال، فإن قرأها أربع مائة مرة كفّرت عنه ذنوب أربعمائة سنة ما خلاء الدماء والأموال، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له» [307] «3» . وأخبرنا أبو عمر وأحمد بن أبي الفراتي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب قال: حدّثنا عبد الله بن جامع الحلواني قال: حدّثنا محمد بن العباس قال: حدّثنا عمر بن سعد العطار الفلزمي قال: حدّثنا ابن أبي ذئب قال: حدّثنا محمد بن غيلان عن أبي حازم عن سهل
ابن سعد قال: جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الفقر وضيق المعاش فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وان لم يكن فيه أحد فسلّم (عليّ) «1» وأقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرة واحدة» [308] «2» ففعل الرجل فأدرّ الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه. وأخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم بن يحيى قال: حدّثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: حدّثنا العلاء أبو محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت فيما مضى فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى فقال: ذاك أن معاوية بن معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم فبعث الله سبحانه إليه سبعين ألف ملك يصلّون عليه قال: وفيم ذاك؟ قال: كان يكثر قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بالليل والنهار وفي ممشاه وقيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه قال: «نعم» [309] «3» فصلى عليه ثم رجع. وأخبرنا أحمد بن أبي قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن عيسى بن يزيد قال: حدّثنا سليمان بن داود المنقري قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد الله بن عمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رجلا كان يصلي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يقرأ في الصلاة إلا قرأ في أثرها قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على لزومها» ؟ فقال: يا رسول الله، إني أحبها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حبك إياها يدخلك الجنة» [310] «4» . وأخبرنا ناقل بن راقم بن أحمد البابي قال: حدّثنا علي بن الحسن بن بختيار قال: حدّثنا أبو إبراهيم القطان قال: حدّثنا عثمان بن عبد الله القرشي قال: حدّثنا سلمة بن سنان عن محمد ابن المنكدر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نزل ملك من السماء السابعة وخرج من الأرض السابعة ملك فالتقيا على هذه الأرض فقال الذي نزل من السماء: قد رفعت اليوم عملا لم أرفع مثله، قال: الذي خرج من تحت الأرض: ما ذاك؟ قال: قرأ رجل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مائة مرة قال: ما صنع به؟ قال: غفر الله له» [311] . وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا محمد بن يزيد قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال:
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 إلى 4]
حدّثنا محمد بن الأزهر قال: حدّثنا أبو عامر العقدي عن مالك بن أنس عن عبد الله بن عبد الرحمن عن ابن جبير عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال: «وجبت» قيل: يا رسول الله وما وجبت؟ قال: «وجبت له الجنة» [312] «1» . وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن الدشت قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسن بن قريش قال: حدّثنا معاذ بن يوسف التاجر قال: حدّثنا مسدد ابن مسرهد قال: حدّثنا حمدان بن رزام قال: حدّثنا محمد بن عبد الله عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مرة واحدة أعطاه الله من الثواب ما يحمل ثوابه سبعين قنطارا من ياقوت فيفوح منه الروح يحملون كتبه كتبا واحدا أشد تقرطا من شعر الزنجي وأرق من الشعر» [313] . وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر قال: أخبرنا أبو حسان العثماني قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال: حدثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ابن كعب قال: سئل النبي (عليه السلام) عن ثواب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال: «من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تناثر الخير على مفرق رأسه من عنان السماء، ونزلت عليه السكينة وتغشّاه الرحمن وازدوي حول العرش، ونظر الله سبحانه إلى قارئها فلا يسأله شيء إلا أعطاه إياه ويجعله في كلائه وحرزه» [314] . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أخبرنا الشيخ أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى قال: أخبرنا الإمام أبو بدر محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا أحمد بن منيع ومحمود بن خداش قالا: حدثنا أبو سعد الصغاني قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله (عليه السلام) : انسب لنا ربك، فأنزل الله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الى آخر السورة. وروى أبو ضبيان وأبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر: الى ما تدعونا يا محمد؟ قال: «الى الله سبحانه» فقالا: صفه لنا، أذهب
هو أم فضة أم حديد أم من خشب؟ فنزلت هذه السورة، فأرسل الله سبحانه الصاعقة إلى أربد فأحرقته وطعن عامر في خنصره فمات، وقد ذكرت قصتهما في سورة الرعد. وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد صف لنا ربّك لعلنا نؤمن بك فإن الله أنزل نعته في التوراة فأخبرنا به من أي شيء هو من أي جنس أمن ذهب هو أو نحاس أم صفر أم حديد أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممّن ورث الدنيا؟ ومن يورثها؟ فأنزل الله سبحانه هذه السورة وهي نسبة الله خاصة. وأخبرني عقيل أن أبا فرج البغدادي أخبرهم عن أبي جعفر الطرفي قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا سلمة قال: حدّثني ابن إسحاق عن محمد بن سعيد قال: أتى رهط من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه؟ فغضب النبي حتى امتقع لونه ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبرائيل فسكّنه وقال: أخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله سبحانه بجواب ما سألوه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ السورة، فلما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: صف لنا ربك كيف خلق وكيف عضده وذراعه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأوّل وساورهم، فأتاه جبرائيل فقال: له مثل مقالته وأتاه بجواب ما سألوه ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» . وقال الضحاك عن ابن عباس: إنّ وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أساقفة من بني الحرث بن كعب فيهم السيد والعاقب، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: صف لنا ربك من أي شيء هو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربي ليس من شيء وهو بائن من «2» الأشياء» [315] فأنزل الله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ أي واحد. ولا فرق بين الواحد والأحد عند أكثر أصحابنا يدل عليه قراءة عبد الله قُلْ هُوَ اللَّهُ [ ... ] «3» . وفرق قوم بينهما فقال بعضهم: الواحد للفصل والأحد للغاية، وقيل: واحد بصفاته أحد بذاته، وقيل: إنّ الواحد يدلّ على أزليته وأوّليته، لأنّ الواحد في الأعداد ركنها وأصلها وميدانها، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع الصفات، ونفي أبواب الشرك عنه، فالأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، والواحد أسم لمفتتح العدد، فأحد صلح في الكلام في موضع الجحود، والواحد في موضع الإثبات تقول: لم يأتني منهم أحد وجاءني منهم واحد،
فالمعنى أنه لم يأتني اثنان، وقال ابن الأنباري: أجد في الأصل واحد كما قالوا للمرأة أناة والأصل وناة من الوني وهو الفتور قال الشاعر: رمته أناة من ربيعة عامر ... نؤوم الضحى في مأتم أي مأتم «1» وقال النابغة في الواحد: كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد «2» سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز يقول: سمعت ابن عطاء يقول في قوله سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ: هو المنفرد بإيجاد المفقودات والمتّحد بإظهار الخفيّات. وقراءة العامة أَحَدٌ بالتنوين، وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وابن إسحاق وأبان بن عثمان وهارون بن عيسى أحدُ الله بلا تنوين طلبا للخفة وفرارا من التقاء الساكنين كقراءة من قرأ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ «3» بغير تنوين. وأما قوله: اللَّهُ الصَّمَدُ فأختلفوا فيه فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير: الذي لا جوف له، وأما سعيد بن المسيب: الذي لا حشو له، الشعبي: الذي لا يأكل ولا يشرب، وإليه ذهب الفرضي، وقيل: يفتره ما بعده. أخبرنا محمد بن الفضل قال: أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا أحمد بن منبع ومحمود بن خراش قال: حدّثنا أبو سعد الصعالي قال: حدّثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب قال: الصَّمَدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس يرث إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث. وقال أبو وائل شفيق بن سلمة: وهو السيّد الذي قد انتهى سؤدده، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع الشرف والسؤدد. غيره: هو السيد المقصود في الحوائج، يقول العرب: صمّدت فلانا أصمده وأصمده صمدا بسكون الميم إذا قصدته، والمصمود صمد كالقبض والنفض، ويقال: بيت مصمود ومصمّد إذا قصده الناس في حوائجهم قال طرفة: وأن يلتقي الحي الجميع تلاقني ... الى ذروة البيت الرفيع المصمد «4»
وأنشد الأئمة في الصمد: ألا بكر الناعي بخيري بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد «1» وقال قتادة: الصَّمَدُ: الباقي بعد خلقه، عاصم ومعمر: هو الدائم، علي بن موسى الرضا: هو الذي أيست العقول عن الإطلاع على كيفيته ، محمد بن علي الترمذي: هو الأزلي بلا عدد، والباقي بلا أمد، والقائم بلا عمد، الحسين بن الفضل: هو الأزلي بلا أبتداء، وقيل: هو الذي جلّ عن شبه المصورين وقيل: هو بمعنى نفي التجزؤ والتأليف عن ذاته، ميسرة: المصمت، ابن مسعود: الذي ليست له أحشاء، أبو إسحاق الكوفي عن عكرمة: الصَّمَدُ الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي عليه السّلام. السدي: هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب، يمان: الذي لا ينام، كعب الأحبار: الذي لا يكافئه من خلقه أحد. ابن كيسان: الذي لا يوصف بصفته أحد، مقاتل ابن حيان: الذي لا عيب فيه، ربيع: الذي لا تعتريه الآفات، سعيد بن جبير أيضا: الكامل في جميع صفاته وأفعاله، الصادق: وهو الغالب الذي لا يغلب، أبو هريرة: المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد، مرّة الهمداني: الذي لا يبلى ولا يغنى، الحسين بن الفضل أيضا: هو الذي يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ويَفْعَلُ ما يَشاءُ ... لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ولا راد لقضائه. محمد بن علي: الصَّمَدُ: الذي لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ولا تحويه الأفكار ولا تبلغه الأقطار وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. ابن عطاء: الصَّمَدُ: الذي لم يتبيّن عليه أثر فيما أظهر، جعفر: الذي لم يعط لخلقه من معرفته الا الاسم والصفة ، جنيد: الذي لم يجعل لأعدائه سبيلا الى معرفته، وقيل: هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته فلا يتسع له اللسان ولا يشير إليه البيان، ابن عطاء: هو المتعالي عن الكون والفساد، وقال الواسطي: الذي لا يسحر ولا يستغرق ولا تعترض عليه القواطع والغلل. وقال جعفر أيضا: الصَّمَدُ خمس حروف: فالألف دليل على أحديّته، واللام دليل على إلهيته وهما مدغمان لا يظهران على اللسان ويظهران في الكتابة، فدلّ على أحديته وإلهيّته خفية لا يدرك بالحواس، وأنّه لا يقاس بالناس فخفاءه في اللفظ دليل على أن العقول لا تدركه ولا تحيط به علما، وإظهاره في الكتابة دليل على أنه يظهر على قلوب العارفين، ويبدو لأعين المحبين في دار السلام، والصاد دليل على صدقه، فوعده صدق وقوله صدق وفعله صدق ودعا عباده الى الصدق، والميم دليل على ملكه فهو الملك على الحقيقة، والدال علامة دوامه في أبديته وأزليته.
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أختلف القراء فيه، فقرأ حمزة ويعقوب ساكنة الفاء مهموزة ومثله روى العباس عن أبي عمرو وإسماعيل عن نافع، وقرأ شيبة مشبعة غير مهموزة ومثله روى حفص عن عاصم، وقرأ الآخرون مثقلا مهموزا وكلّها لغات صحيحة فصيحة ومعناه المثل. أَحَدٌ أي هو واحد، وقيل: على التقديم والتأخير مجازه: ولم يكن له أحد كفوا. وقال عبد خير: سأل رجل علي بن أبي طالب عليه السّلام عن تفسير هذه السورة قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ بلا تأويل عدد، اللَّهُ الصَّمَدُ لا يتبعض بدد، لَمْ يَلِدْ فيكون هالكا، وَلَمْ يُولَدْ فيكون إلها مشاركا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ من خلقه كُفُواً أَحَدٌ [316] «1» . وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي بقراءتي قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: وجدنا أنواع الشرك ثمانية: النقص والتقلّب والكثرة والعدد وكونه علّة أو معلولا، والأشكال والأضداد، فنفى الله تعالى عن صفته نوع الكثرة والعدد بقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ونفى التنقّص والتقلّب بقوله: اللَّهُ الصَّمَدُ ونفى العلل والمعلول بقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ونفى الأشكال والأضداد بقول: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ فحصلت الوحدانية البحت لذلك سمّيت سورة الإخلاص.
سورة الفلق
( سورة الفلق والناس [المعوذتين] ) سورة الفلق مدنية، وهي أربع وسبعون حرفا، وثلاث وعشرون كلمة، وخمس آيات أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال: أخبرنا أبو موسى قال: أخبرنا مكي بن عيدان قال: حدّثنا سليمان بن داود قال: حدّثنا أحمد بن نصر قال: حدّثنا أبو معاذ عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم عن زيد العمي عن أبي نصرة عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلّها» [317] «1» . وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد العدل قال: حدّثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب قال: أخبرنا العباس بن الوليد بن مريد قال: أخبرني أبي قال: حدّثنا الأوزاعي قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير قال: حدّثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذت» «2» قلت: بلى، قال: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» [318] «3» . وأخبرنا الحباري قال: حدّثنا ابن عدي قال: حدّثنا إبراهيم بن رحيم قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا هشام بن الغانم عن يزيد بن يزيد بن جابر عن القاسم أبي عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عقبة ألا أعلمك سورتين هما أفضل القرآن أو من أفضل القرآن» قلت: بلى يا رسول الله، فعلّمني المعوذتين ثم قرأهما في صلاة الغداة، وقال: لي «اقرأهما كلما قمت ونمت» [319] «4» . وأخبرنا أبو العباس أحمد بن عمرو العصفري قال: حدّثنا عمر بن عبد المجيد قال: حدّثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرّة عن عبد العزيز بن مروان قال: سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك لن تقرأ سورة أحب الى الله
عزّ وجلّ ولا أقرب عنده «1» من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فأن استطعت أن لا تدعها في صلاة فأفعل» [320] «2» . وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب المزكى قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال: حدّثنا معاذ بن نجدة بن العريان قال: حدّثنا خلاد- يعني ابن يحيى- قال: حدّثنا سفيان عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنزل علي الله سورتان لم أسمع لمثلهن ولم أرى مثلهن: المعوذتين» [321] «3» . القصة: قال ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما- دخل حديث بعضهما في بعض: كان غلام اليهود يخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدبّت إليه اليهود فلم يزلوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلّى الله عليه وسلم وعدّة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له لبيد بن أعصم ثم دسّها في بئر لبني زريق يقال له ذروان، فمرض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه، ولبث ست أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فقعد أحدهم عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طب قال: وما طب؟ قال: سحر، قال: ومن سحره؟ قال: لبيد ابن أعصم اليهودي، قال: وبم طبّه؟ قال: بمشط ومشاطة قال: وأين هو؟ قال في [جفّ «4» طلعة ذكر] تحت راعوفة في بئر ذروان «5» . والجف: قشر الطلع، والراعوفة: حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح، فانتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلم مذعورا وقال: «يا عائشة أما شعرت أن الله سبحانه أخبرني بدائي» [322] «6» ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحنّاء، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطة وإذا فيه وتر معقود فيه إثنا عشر عقدة مغروزة بالإبر فأنزل الله سبحانه هاتين السورتين فجعل كلّما يقرأ آية أنحلت عقدة، ووجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم خفّة حين أنحلت العقدة الأخيرة فقام كأنما أنشط من عقال، وجعل جبرائيل (عليه السلام) يقول: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من حاسد وعين والله يشفيك، قال: فقالوا: يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث فنقلته، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا» [323] «7» .
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 إلى 5]
قالت عائشة: ما غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلم غضبا ينتقم من أحد لنفسه قط إلّا أن يكون شيئا هو لله سبحانه، فيغضب لله سبحانه وتعالى وينتقم. (التفسير:) [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قال ابن عباس: هو سجن في جهنم، وحدّثنا يعقوب عن هشيم قال: أخبرنا العوام عن عبد الجبار الجولاني قال: قدم رجل من أصحاب النبي عليه السلام الشام فنظر الى دور أهل الذمة وما فيها من العيش والنضارة، وما وسع عليهم في دنياهم فقال: لا أبالي، أليس من ورائهم الفلق؟ قال: قيل: وما الفلق؟ قال: بيت إذا انفتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه «1» . وقال أبو عبد الرحمن الحبلي: الفلق هي جهنم، وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد ابن جبير ومجاهد وقتادة والقرظي وابن زيد: الفلق: الصبح، وإليه ذهب ابن عباس، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ. الضحّاك والوالبي عن ابن عباس: معنى الْفَلَقِ: الخلق. وهب: هو باب في جهنم «2» . الكلبي: هو واد في جهنم، وقال عبد الله بن عمرو: شجرة في النار، وقيل: الفلق الجبال والصخور تنفلق بالمياه أي تتشقق «3» ، وقيل، هو الرحم تنفلق عن الحيوان، وقيل: الحبّ والنوى تنفلق عن التراب، دليله قوله سبحانه وتعالى: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى والأصل فيه الشق. وقال محمد بن علي الترمذي في هذه: كشف الله تعالى على قلوب خواص عباده فقذف النور فيها، فانفلق الحجاب وانكشف الغطاء. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو برزة أو أحد بني شريك البزار قال: حدّثنا آدم بن أبي أياس قال: حدّثنا ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن عائشة قالت: أخذ رسول الله عليه السلام بيدي فأشار الى القمر فقال: «يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا فإنّ هذا الغاسق إِذا وَقَبَ» [324] «4» .
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا عبد الرحمن بن خرزاد البصري بمكة قال: حدّثنا نصر بن علي قال: حدّثنا بكار بن عبد الله قال: حدّثنا ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ قال: النجم إذا طلع. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والقرظي والفرّاء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجّاج «1» : الليل. قال ابن زيد: يعني والثريا إذ سقطت، قال: وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها «2» ، وأصل الغسق الظلمة والوقوف [ ... ] «3» إذا دخل وقال: أمان سكن نظلامه «4» . وقيل: سمّي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار، والغاسق: البارد، والغسق: البرد «5» . وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها، والنفث: وشبه النفخ كما يعمل من يرقي. قال عنترة: فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإنّ يفقد محقّ له العقود «6» وقرأ عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن سابط: من شرّ النافثات في وزن: فاعلات «7» . مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ قال الحسين بن الفضل: إنّ الله جمع الشرور في هذه الآية وختمها بالحسد ليعلم أنه أخسّ الطبائع.
سورة الناس
سورة الناس مدنية، وهي سبعة وسبعون حرفا، وعشرون كلمة، وست آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ يعني الشيطان، ويكون مصدرا واسما «1» . بحمد الله تعالى ومننه تمّ كتاب «الكشف والبيان» للمفسّر المشهور الثعلبي
محتوى الجزء العاشر من كتاب تفسير الثعلبي
محتوى الجزء العاشر من كتاب تفسير الثعلبي سورة القلم 5 سورة الحاقة 25 سورة المعارج 34 سورة نوح 43 سورة الجن 49 سورة المزمل 58 سورة المدثر 67 سورة القيامة 81 سورة الإنسان (الدهر) 93 سورة المرسلات 108 سورة النبأ 113 سورة النازعات 122 سورة عبس 130 سورة التكوير 136 سورة الإنفطار 145 سورة المطففين 149 سورة الإنشقاق 158 سورة البروج 164 سورة الطارق 177 سورة الأعلى 182 سورة الغاشية 187 سورة الفجر 191 سورة البلد 206 سورة الشمس 212 سورة والليل 216 سورة والضحى 222
سورة الشرح 232 سورة التين 238 سورة العلق 242 سورة القدر 247 سورة البيّنة (المنفكّين) 259 سورة الزلزلة 263 سورة العاديات 268 سورة القارعة 274 سورة التكاثر 276 سورة العصر 283 سورة الهمزة 285 سورة الفيل 288 سورة قريش 299 سورة الماعون 304 سورة الكوثر 307 سورة الكافرون 314 سورة النصر 318 سورة تبت (المسد) 323 سورة الإخلاص 330 سورة الفلق والناس [المعوذتين] 337 سورة الناس 341